{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يومَ نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به، ليستبدلوا ذلك بضده.
وأول فريق من الناس دخولاً في خطاب {ياأيها الناس} هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم. وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يُتَّقَى لعظمته بالخالقية، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد.
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأننٍ لها مناسببٍ للمقام. وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.
وجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاببٍ لا تردد للسامع فيه.
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثراً في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله: {ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 2].
والزلزلة حقيقتها: تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض. وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.
والساعة: عَلَم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي، قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها إلى قوله: يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم} [الزلزلة: 16].
وإضافة {زلزلة} إلى {الساعة} على معنى (في)، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر. والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1] الآية.
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازاً عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة، قال تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله: {مستهم البأساء والضراء} [البقرة: 214]. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب: " اللهم اهزمهم وزلزلهم ". والإتيان بلفظ {شيء} للتهويل بتوغله في التنكير، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلاّ بأنها شيء عظيم، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة {شيء} وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} في [سورة البقرة: 229].
والعظيم: الضخم، وهو هنا استعارة للقوي الشديد، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
جملة {يوم ترونها تذهل} الخ... بيان لجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.
ويتعلق {يوم ترونها} بفعل {تذهل.} وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة. فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان.
وضمير النصب في {ترونها} يجوز أن يعود على {زلزلة} [الحج: 1] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.
ورؤيتُها: رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله {تذهل كل مرضعة} الخ.
والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل. قاله شيخنا الجدّ الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية.
والتحقت هاء التأنيث بوصف {مرضعة} للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع، كما يقال: هي ترضع.. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كلّ مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته «الكافية» بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص *** عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نص
وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد *** كذي غدت مُرضعة طِفلاً وُلِد
والمراد: أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية.
وزيادة كلمة (كلّ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة.
وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى، فهو لزوم بدرجة ثانية، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.
و (مَا) في {عما أرضعت} موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذفُ مثله كثير.
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.
وقوله {وتضع كل ذات حمل حملها} هو كناية أيضاً كقوله {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}. ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين.
والحمل: مصدر بمعنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل {تضعُ} أي تضع جنينها.
والتعبير ب {ذات حمل} دون التعبير: بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال: امرأة حامل، بل يقال: ذات حمل قال تعالى: {وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}.
والخطاب في {ترى الناس} لغير معيّن، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله {يوم ترونها}، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله {وترى لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله فتثير سحاباً} [الروم: 48] وقوله {ويصنع الفلك} [هود: 38].
وقرأ الجمهور {سُكارى} بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده {وما هم بسكارى} قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده {ولكن عذاب الله شديد}.
وقرأه حمزة والكسائي {سَكرى} بوزن عَطشى في الموضعين. وسُكارى وسَكرى جمع سكران. وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى. وأما سَكرَى فهو محمول على نَوْكى لما في السكر من اضطراب العقل. وله نظير وهو جمع كسلان على كُسالى وكَسلى.
وجملة {وما هم بسكارى} في موضع الحال من الناس.
و {عذاب الله} صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب.
وجملة {وما هم بسكارى} في موضع الحال من النّاس.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}
عطف على جملة {ياأيها الناس اتقوا ربكم} [الحج: 1]، أي الناس فريقان: فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطِل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته. وهذا الفريق هم أيمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه.
والاقتصارُ على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومَهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة.
وقيل: أريد ب {من يجادل في الله} النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي، فتكون (مَن) الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل مَن تصدق عليه الصلة.
والمجادلة: المخاصمة والمحاجّة. والظرفية مجازية، أي يجادل جدلاً واقعاً في شأن الله. ووصف الجدل بأنه بغير علم، أي جدلاً ملتبساً بمغايرة العلم، وغير العلم هو الجهل، أي جدلاً ناشئاً عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.
واتباع الشيطان: الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عَرض على نظر واستدلال.
وكلمة (كل) في قوله {كل شيطان} مستعملة في معنى الكثرة. كما سيأتي قريباً عند قوله تعالى: {وعلى كل ضامر} [الحج: 27] في هذه السورة. وتقدم في تفسير قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في [سورة البقرة: 145].
والمَرِيد: صفة مُشبهة مِن مَرُد بضم الراء على عمل، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل، وكأنه مُحول مِن مَرَد بفتح الراء بمعنى مَرَن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية، فالمريد صفة مشبهة، أي العاتي في الشيطنة.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
جملة {كتب عليه أنه من تولاه} إلى آخرها صفة ثانية ل {شيطان مريد} [الحج: 3]، فالضمير المجرور عائد إلى {شيطان. وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه}.
وأما الضميران البارزان في قوله {يضله ويهديه إلى عذاب السعير} فعائدان إلى (مَن) الموصولة، أي يضل الشيطان مُتَوَليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.
واتفقت القراءات العشر على قراءة {كُتب} بضم الكاف على أنه مبني للنائب. واتفقت أيضاً على فتح الهمزتين من قوله تعالى: أنه من تولاه فأنه يضله}.
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير، فأطلق على لزوم ذلك فعل {كتب عليه} أي وجب عليه، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة. قال الحارث بن حِلّزة:
وهل يَنْقُضُ ما في المهارق الأهْوَاءُ *** والضمير في {أنه} عائد إلى {شيطان} [الحج: 3] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل {كُتب،} إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة، والمصدران المنسبكان من قوله {أنه من تولاه} وقوله {فأنه يضله} نائب فعل {كتب} ومفرع عليه بفاء الجَزاء، أي كتب عليه إضلال من تولاه. والتولي: اتّخاذ ولي، أي نصير، أي من استنصر به.
و (مَن) موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابِت لا على التعليق بالشرط. وهي مبتدأ ثان، والضمير المستتر في قوله {تولاه} عائد إلى (مَن) الموصولة. والضمير المنصوب البارز عائد إلى {شيطان} [الحج: 3]، أي أن الذي يتخذ الشيطان ولياً فذلك الشيطان يضله.
والفاء في قوله {فأنه يضله} داخلة على الجملة الواقعة خبراً عن (من) الموصولة تشبيهاً لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشَبَه الموصول بالشرط قصداً لتقوية الإخبار. والمصدر المنسبك من قوله {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبراً عن (مَن) الموصولة. والتقدير: فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير. وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلَي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ. والتقدير: ثابتان.
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله {فأنه يضله} فاء تفريع ويجعلَ ما بعدها معطوفاً على {من تولاه} ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع. والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليَه إلى عذاب السعير.
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في [سورة براءة: 63] {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها} لأن مقتضى فعل العلم غيرُ مَقتضى فعل (كُتب). فلذلك كانت (مَن) في قوله من يحادِدِ} شرطية لا محالة وكان الكلام جارياً على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله {أنه} ضمير شأن.
ولما كان الضلال مشتهراً في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل {يضله} لظهور المعنى.
وذُكِر متعلق فعل {يهديه} وهو {إلى عذاب السعير} لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهَدْي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.
وفي الجمع بين {يضله ويهديه} محسن الطِباق بالمضادة. وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} النضر بن الحارث. وقيل نزلت فيه؛ كان كثير الجدل يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت تراباً. وعُد منهم أيضاً أبو جهل، وأبيُّ بن خَلف. ومن قال: إن المقصود بقوله {من يجادل} معيناً خص الآية به، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
{ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه. وهو الخلق الأول. قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15]. فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب، ثم كونه من ماء. ثم خلقه أطواراً عجيبة، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه.
ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم.
وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب (إن) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين} [الزخرف: 5].
والظرفية المفادة ب (في) مجازية. شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.
وجملة {فإنا خلقناكم من تراب} واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب، والتقدير: فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت، أو التقدير: فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب.
والذي خُلق من تراب هو أصل النوع، وهو آدم عليه السلام وحواء، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب (ثم).
والنطفة: اسم لمنّي الرجل، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول، أي منطوف، والنَطْف: القطر والصب. والعلقة: القطعة من الدم الجامد اللين.
والمضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل: مقدار ممضوغة. و(ثم) التي عطف بها {ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة} عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي.
و (مِن) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد.
وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي (المَبِيض) بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها (الحُويصلة) بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى (بوق فلوبيوس) لشبهه بالبُوق، وأضيف إلى (فلوبيوس) اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي.
وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة (مُضغة) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة.
فقوله تعالى: {مخلقة وغير مخلقة} صفة {مضغة}. وذلك تطور من تطورات المضغة. أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة، ثم تكون مخلّقة، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة. وإذْ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت.
والتخليق: صيغة تدل على تكرير الفعل، أي خلقاً بعد خلق، أي شكلاً بعد شكل.
وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم. فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام.
ولذلك عقب بقوله تعالى {لنبين لكم}، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت.
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة {فإنا خلقناكم من تراب} الخ، وهو فعل: فاعلموا، أو فنُعلمكم، أو فانظروا.
وحذف مفعول {لِنُبيّن} لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا.
وجملة {ونقرّ} عطف على جملة {فإنا خلقناكم من تراب}. وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم، مع تفاوت القرار. فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر، ومنها ما يزيد على ذلك، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى: {إلى أجل مسمى}. والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد.
والأجل: الأمد المجعول لإتمام عمل ما، والمراد هنا مدة الحمل.
والمسمّى: اسم مفعول من سَماه، إذا جعل له اسماً، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه. ومنه قول الفقهاء: المهر المسمّى، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف، وقول الموثقين: وسمّى لها من الصداق كذا وكذا.
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه. والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض، وكلٌّ معين في علم الله تعالى. وتقدم في قوله تعالى: {إلى أجل مسمى فاكتبوه} في [سورة البقرة: 282].
وعطف جملة {ثم نخرجكم طفلاً} بحرف (ثم) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود. وقوله {طفلاً} حال من ضمير {نخرجكم،} أي حال كونكم أطفالاً. وإنما أفرد {طفلاً} لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع.
وجملة {ثم لتبلغوا أشدكم} مرتبطة بجملة {ثم نخرجكم طفلاً} ارتباط العلّة بالمعلول، واللام للتعليل. والمعلّل فعل {نخرجكم طفلاً}.
وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل. وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر}.
وحرف (ثم) في قوله: {ثم لتبلغوا أشدكم} تأكيد لمثله في قوله {ثم نخرجكم طفلاً}. هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي.
وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} فجعل «الأشد» كأنه الغاية المقصودة من تطويره.
والأشُدّ: سن الفتوة واستجماع القوى. وقد تقدم في [سورة يوسف: 22] {ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً} ووقع في [سورة المؤمن: 67] {ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً} فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر، وهو طور الشيخوخة بقوله: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر}.
وجيء بقوله {ومنكم من يتوفى} على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى: ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن (67): {ومنكم من يتوفى من قبل} وقوله {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} هو عديل قوله تعالى: {ومنكم من يتوفى}. وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب.
وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية. قال تعالى: {ومن نعمره ننكسه في الخلق} [يس: 68] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.
وقوله {من بعد علم} أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.
و (مِن) الداخلة على (بعد) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة (مِن) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب (من) في قوله تعالى: {لكي لا يعلم بعد علم شيئاً} في [سورة النحل: 70].
والآيتان بمعنى واحد فذكر (مِن) هنا تفنّن في سياق العبرتين.
و {شيئاً} واقع في سياق النفي يعم كل معلوم، أي لا يستفيد معلوماً جديداً. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.
{وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
عطف على جملة {فإنا خلقناكم من تراب}، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام.
وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه {فإنا خلقناكم من تراب} الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت}، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول {فإنا خلقناكم من تراب}، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت.
والهمود: قريب من الخمود، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها، وهمود النار خمودها.
والاهتزاز: التحرك إلى أعلى، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى.
وربت: حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال: رَبَا يربو رُبوا، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر. وقرأ أبو جعفر {وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة، أي ارتفعت. ومنه قولهم: رَبَأ بنفسه عن كذا، أي ارتفع مجازاً، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم.
والزوج: الصنف من الأشياء. أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى، فأطلق هنا على أنواع النبات.
والبهيج: الحسن المنظر السَارّ للناظر، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال، فهو امتنان محض كقوله تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6] وقوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
فذلكة لما تقدم، فالجملة تذييل.
والإشارة ب {ذلك} إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.
وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معيّن على نسق قوله {وترى الأرض هامدة} [الحج: 5] على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.
والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق الخ... والباء للسببية فالمعنى: تَكوّن ذلك الخلق من تراب وتطَور، وتكوّن إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابساً لحقيّة إلهيّة الله. وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله، وهذا أرشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجوه الاستدلال.
والحق: الثابت الذي لا مراء فيه، أي هو الموجود. والقصر إضافي، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها، قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [الحج: 23] وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقضٌ للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37].
وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله {ذلك بأن الله هو الحق}، فهي لبيان إمكان البعث.
ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة: إما بدلالة المسبب على السبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء، وإما بدلالة التمثيل على الممثَّل والواقععِ على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى، ومجيء الساعة، والبعثثِ. وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحْرَى، بطريقة.
والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياةٌ يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقيّة آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى. وإذا كان كذلك علم أن ساعة فناء هذا العالم واقعة قياساً على انعدام المخلوقات بعد تكوينها، وعُلم أن الله يعيدها قياساً على إيجاد النسل وانعدام أصله الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزّل منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.
وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد، لأن (لاَ) النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة (إنّ) في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}
عطف على جملة {ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} [الحج: 5] كما عطفت جملة {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} على جملة {ياأيها الناس اتقوا ربكم} [الحج: 1]. والمعنى: إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناسُ بعد ذلك فريقان: فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أيّمة الشرك وزعماء الباطل.
وجملة {لا ريب فيها} [الحج: 7] معترضة بين المتعاطفات، أي ليس الشأن أن يُرتاب فيها، فلذلك نفي جنس الريب فيها، أي فالريب.
المعنيُّ بهذه الآية هو المعنيُّ بقوله فيما مضى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3]، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.
ودافِعُهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدمُ علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.
ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه، وانتفاء الهُدى، وانتفاء تلقي شريعة من قبل، والتكبر عن الاعتراف بالحجة، ومحبةُ إضلال الناس عن سبيل الله. فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة. ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثلُ: النضْر بن الحارث، وأبي جهل، وأُبيّ بن خلف.
وقيل: المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله: النضر بن الحارث. كُرر الحديث عنه تبييناً لحالتي جداله، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل، كما قيل: إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل. وروي ذلك عن ابن عباس. وقيل: هو الأخنَس بن شَريق. وتقدم معنى قوله {بغير علم} في نظير هذه الآية. وقيل المراد ب {من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3] المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر، والمراد ب {من يجادل في الله بغير علم ولا هدى} المقلّدون بفتح اللام أئمة الكفر.
والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله، أي ولا هُدى هو مَهدِي به. وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلداً هادياً للحق مثل أتباع الرسل، فهذا دون مرتبَة من يجادل في الله بعلم، ولذلك لم يستغن بذكر السابِق عن ذكر هذا.
والكتاب المُنير: كُتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل، وهذا كما يجادلُ أهلُ الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.
والمنير: المبين للحق. شبه بالمصباح المضيء في الليل.
ويجيء في وصف {كتاب} بصفة {مُنير} تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رُستم، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة.
والثّنْيُ: لَيُّ الشيء. يقال: ثنى عنان فرسه، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها. ويطلق أيضاً الثّني على الإمالة.
والعِطف: المنكب والجانب. و{ثاني عطفه} تمثيل للتكبر والخيلاء. ويقال: لوى جيدَه، إذا أعرض تكبراً. وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.
واللام في قوله {ليُضل} لتعليل المجادلة، فهو متعلّق ب {يجادل} أي غرضه من المجادلة الإضلال.
وسبيل الله: الدّين الحق.
وقوله {ليُضل} بضم الياء أي ليُضلل الناسَ بجداله. فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.
وإفراد الضمير في قوله {عطفه} وما ذكر بعده مراعاةٌ للفظ (مَن) وإنْ كان معنى تلك الضمائر الجمع.
وخزي الدنيا: الإهانة، وهو ما أصابهم من القتل يوم بَدر ومن القتل والأسر بعد ذلك. وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعدُ. وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء. وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.
وينطبق الخزيُ أيضاً على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبراً في موضع يقال له: الأثَيْل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة:
صبْراً يقاد إلى المنية متعَبا *** صبرَ المقيّد وهو عَاننٍ مُوثق
وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى: {له في الدنيا خزي} من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن.
وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة.
وجملة {ذلك بما قدمت يداك} مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى {ونذيقه}.
و {قدّمتْ} بمعنى: أسلفت. جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء قبل أن يصِل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضراً ينتظره قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً} [الكهف: 49].
والإشارة إلى العذاب والباءُ سببية. و(ما) موصولة. وعطف على (ما) الموصولة قوله تعالى: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} لأنه في تأويل مصدر، أي وبانتفاءِ ظلم الله العبيد، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه جزاء فساده ولأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.
وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد، والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فيصغت له زنة المبالغة، وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن، وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)}
هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المُعرض عنها إعراضاً تاماً ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخيَر عقب ذلك عَلموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضباً من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عَاد إذ قالوا لرسولهم {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54].
فالعبادة في قوله تعالى {من يعبد الله على حرف} مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} [الحج: 12].
والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة، ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس في قوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلاماً ونُتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دينُ سُوءٍ.
وفي رواية الحسن: أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل: عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله {فإن أصابه خير اطمأن به}. وممن يصلح مثالاً لهذا الفريق العرنيُّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفَروا، فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلبَ في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.
وفي حديث «الموطأ»: أن أعرابياً أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعكٌ بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها " فجعله خبثاً لأنه لم يكن مؤمناً ثابتاً. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفراً من أسد وغَطفان قالوا: نخاف أن لا ينصر الله محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله} [الحج: 15] الآيات.
وعن الضحاك: أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم: عيينة بن حِصن والأقرع بن حَابِس والعبّاس بن مِرداس قالوا: ندخل في دين محمد فإن أصبْنا خيراً عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل.
وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى {خسر الدنيا والآخرة} إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.
وحَرف الشيء طَرفه وجَانبه سواء كان مرتفعاً كحرف الجبل والوادي أم كان مستوياً كحرف الطريق. ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طِرَف بوزن عِنب قال في «القاموس»: ولا نظير له سوى طَللٍ وطِلَل.
وقوله تعالى: {يعبد الله على حرف} تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جَبَل أو حرف وادٍ فهو متهيّئ لأن يزِل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكَب.
ومعنى اطمأن: استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطُمَأنينة. وتقدم في قوله تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} في [سورة البقرة: 260].
والمعنى: استمر على التوحيد فرحاً بالخير الذي أصابه، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمناً إذا زال عنه التردد. وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم.
والانقلاب: مطاوع قلبه إذا كبّه، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يُقلب القالب بفتح اللام. فالانقلاب مستعمل في حقيقته، والكلام تمثيل. وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله {على وجهه} أي سقط وانكب عليه، كقول امرئ القيس:
يكب على الأذقان دوح الكنهبل *** وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّهُ الله على وجهه ". وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضاً الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.
ويطلق الانقلاب كثيراً على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون. ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه: انقلب على عقبيه لا على وجهه، كما قال تعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.
والفتنة: اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له، وهي مقابل الخير.
وجملة {خسر الدنيا والآخرة} بدل اشتمال من جملة {انقلب على وجهه}.
وجملة {ذلك هو الخسران المبين} معترضة بين جملة {انقلب على وجهه} وجملة {يدعو من دون الله} [الحج: 12] التي هي في موضع الحال من ضمير {انقلب} أي أسقط في الشرك.
والخسران: تلف جزء من أصل مال التجارة، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.
وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير الآخرة.
فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له.
والمبين: الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.
وضمير {هو} ضمير فصل، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي. ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه. وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)}
جملة {يدعو من دون الله} الخ حال من ضمير {انقلب} [الحج: 11].
وقدم الضر على النفع في قوله {ما لا يضره} إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنباً للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسباً أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى: {وما لا ينفعه} أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها. والمعنى: أنها لا تفعل ما يجلب ضرّاً ولا ما يجلب نفعاً.
والإشارة في قوله {ذلك هو الضلال} إلى الدعاء المستفاد من {يدعو}.
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله {ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
والبعيد: المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
جملة في موضع حال ثانية، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام. فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر. فموضع الارتقاء هو مضمون جملة {ما لا يضره} [الحج: 12] كأنه قيل: ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ. وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضراً ناشئاً عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى: {لمن ضره أقرب من نفعه} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله {ما لا يضره} [الحج: 12] وقوله {لمن ضره أقرب من نفعه}.
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلاّ الضر.
واللام في قوله {لمَن} لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد (إنّ) من التأكيد.
وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة (من الموصولة. والأصل: يدعو من لضَره أقرب من نفعه).
ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على (من) الموصولة ويكون فعل {يدعو معلقاً عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.
وجملة لبئس المولى ولبئس العشير} إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادراً كان مذمة وغضاضة، فأما أن يكون ذلك منه مطرداً فذلك شر الموالي.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)}
هذا مقابل قوله {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الحج: 9] وقوله: {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. فالجملة معترضة، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين.
وجملة {إن الله يفعل ما يريد} تذييل للكلام المتقدم من قوله {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [الحج: 8] إلى هنا، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض. وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة.
وفعْلُ الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سُنة نظام هذا العالم، وتبيينه الخير والشرّ، وترتيبه الثواب والعقاب، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}
موقع هذه الآية غامض، ومُفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالاً.
فيحتمل أن يكون موقعها استئنافاً ابتدائياً أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [الحج: 8] الآية، وقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11]. وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصْر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجُّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.
ويحتمل أن يكون موقعها تذييلاً لقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] الآية بعد أن اعتُرض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد: أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله: {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إنْ بقُوا على الإسلام.
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاءً، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل {لن ينصره} بالمجرور بقوله {في الدنيا والآخرة} إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم، وهؤلاء مشركون مترددون.
ويترجح هذا الاحتمالُ بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله {ومن الناس من يعبد الله} [الحج: 11] ولم تورد فيه جملة {ومن الناس} كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله {من كان يظن} الخ إظهاراً في مقام الإضمار؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتَى بضمير ذلك الفريق فيقالَ بعد قوله: {إن الله يفعل ما يريد} [الحج: 14]، {فليمدد بسبب إلى السماء} الخ... عائداً الضميرُ المستتر في قوله {فليمدد} على {مَن يعبد الله على حرف} [الحج: 11].
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين، أحدهما: بُعد معاد الضمير، وثانيهما: التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.
وضمير النصب في {ينصره} عائد إلى {من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] على كلا الاحتمالين.
واسم {السماء} مرادٌ به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضاً أخذاً بما رواه القرطبي عن ابن زيد (يعني عبد الرحمان بن زيد بن أسلم) أنه قال في قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء} قال: هي السماء المعروفة، يعني المُظِلة. فالمعنى: فليَنُط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه.
ومفعول {يقطع} محذوف لدلالة المقام عليه.
والتقدير: ثم ليقطعه، أي ليقطع السبب.
والأمر في قوله {فليمدد بسبب إلى السماء} للتعجيز، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرطٍ لا يقع كقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33].
وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نُسجت على إيجاز بديع، شُبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارِهم الإسلام على حنَق، أو حالةُ تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم: عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سُبل الانفراج، فامدُدوا حبلاً بأقصى ما يُمَدّ إليه حبلٌ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض، وذلك تهكم بهم في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومُرتابين في نَيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدينَ وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم، ولعلّ هؤلاء من المنافقين.
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف، والمناسبة ظاهرة.
ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير {ينصره الله} عائداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج.
ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضاً بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين} [الأحزاب: 2324] الآية.
والسبب: الحبل. وتقدم في قوله {وتقطعت بهم الأسباب} في [سورة البقرة: 166].
والقطع: قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.
و (مَا) مصدرية، أي غيظَهُ.
والاستفهام ب {هل} إنكاري، وهو معلق فعلَ {فلينظر} عن العمل، والنظر قلبي، وسمي الفعلُ كيداً لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.
وقرأ الجمهور {ثم لْيَقطع} بسكون لام ليقطع وهو لام الأمر. فإذا كان في أول الكلمة كان مكسوراً، وإذا وقع بعد عاطف غير (ثُمّ) كان ساكناً مثل {ولْتَكُنْ منكم أمّة} [آل عمران: 104]. فإذا وقع بعد (ثُم) جاز فيه الوجهان. وقرأه ابن عامر، وأبو عمرو وورش عن نافع، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بكسر اللام.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}
لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها، بأن شُبه ذلك التبيينُ بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه، أي مثلَ هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بيّنات.
فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف غرض على غرض. والمناسبة ظاهرة، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بأن الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن. فلام التعليل محذوفة، وحذف حرف الجر مع (أن) مطّرد.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}
فذلكة لما تقدم، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثاراً لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدَّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.
فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا.
وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} [الشورى: 15] وذلك من قبيل الكناية التعريضية.
وذِكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.
وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.
فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين: إلهاً للخير، وإلهاً للشرّ، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعباً تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النِحَل المجوسية أسسها (كيومرث) الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه السلام، ولذلك يلقب أيضاً بلقب (جل شاه) تفسيره: ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطاً بوجه علمي وكان عصرُ (كيومرث) يلقب (زروان) أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة: الزروانية وهي تثبت إلهين هما (يَزدَان) و(أهْرُمُن). قالوا: كان يَزذان منفرداً بالوجود الأزلي، وأنه كان نُورانياً، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه: أنه لو حَدَث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أهْرُمُن) وهو إله الظلمة مطبوعاً على الشرّ والضرّ. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعرّي بقوله في لزومياته:
قال أناسٌ باطل زعمهُم *** فراقِبُوا الله ولاَ تَزعُمُنْ
فكّرَ يَزدانُ على غِرّة *** فصيغ من تفكيره أهْرُمُن
فحدث بين (أهْرُمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خُصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زَرَادَشْت) الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير (أهُورَا مَزْدَا) أو (أرمزد) أو (هرمز)، وسمي إله الشرّ (أهْرُمن)، وجعل إله الخير نوراً، وإله الشر ظلمة.
ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور.
ووسّع شريعة المجوسية، ووضع لها كتاباً سمّاه «زَندافستا». ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل.
ثم ظهرت في المجوس نِحلة «المَانوية»، وهي المنسوبة إلى (مَاني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م.
وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية)، وهي منسوبة إلى (مَزدك) الذي ظهر في زمن قُباذ بين سنة 487 وسنة 523م. وهي نحلة قريبة من (المانوية)، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.
وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتاباً، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب " أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يُكره المشركون على الدخول في الإسلام.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} في [سورة النحل: 51].
وأعيدت (إنّ) في صدر الجملة الواقعة خبراً عن اسم (إنّ) الأولى توكيداً لفظياً للخبر لطول الفصل بين اسم (إن) وخبرها. وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل. وتقدم منه قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} في [سورة الكهف: 30]. وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة (إن) أقل حُسناً كقول جرير:
إنّ الخليفة أنّ الله سربلَه *** سِربال مُلك به تُزْجَى الخواتيم
ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبراً ضميرَ اسم (إنّ) الأولى كما تقول: إن زيداً إنه قائم، بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكّد الأول كافياً.
والفصل: الحكم، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.
وجملة {إن الله على كل شيء شهيد} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية. وهي مرتبطة بمعنى قوله {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه إلى قوله: لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج: 12، 13] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه.
وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ.
والرؤية: علمية. والخطاب لغير معين.
والاستفهام إنكاريّ. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل. وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين.
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه، وهو حسن وإن أباه الزمخشري، وقد حققناه في المقدمة التاسعة، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم.
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع. وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى.
وجملة {وكثير حق عليه العذاب} معترضة بالواو.
وجملة {حق عليه العذاب} مكنّى بها عن ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار. فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به.
وجملة {ومن يهن الله فما له من مكرم} اعتراض ثان بالواو.
والمعنى: أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة.
وجملة {إن الله يفعل ما يشاء} في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل، فتغني (أنّ) غناء حرف التعليل أو السببية.
وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة {هذان خصمان} موقع الاستئناف البياني. لأن قوله {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال: خاصمه واختصما، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً. وتقدم قوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً} في [سورة النساء: 105]. واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار}.
فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.
ووقع في «الصحيحين» عن أبي ذرّ: أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليدَ بن عتبة.
وفي «صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عُبادة: وفيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البُلغاء، ومنه قول الأحنف بن قيس: «خرجتُ لأنصر هذا الرجل» يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين.
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية.
ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب} [ص: 21] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى: {اختصموا في ربهم}.
ومعنى {في ربهم} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر. وقرأ الجمهور {هاذان} بتخفيف النون. وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان.
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد: قطع شُقّة الثوب. وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والإصهار: الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس، يقال: أصْهره وصهّره.
وما في بطونهم: أمعاؤهم، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.
والمقامع: جمع مِقمعة بكسر الميم بصِيغة اسم آلة القَمع. والقمع: الكف عن شيء بعنف. والمقمعة: السوط، أي يُضربون بسياط من حديد.
ومعنى {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} أنهم لشدة ما يغمهم، أي يمنعهم من التنفس، يحاولون الخروج فيُعَادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
والحريق: النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفاً بالواو على جملة {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] بأن يقال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات يُدخلهم الله جنات... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلاً مفتتحاً بحرف التأكيد ومتوّجاً باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.
فقوله: {يدخل الذين آمنوا} الخ مقابل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} [الحج: 22]. وقوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب} يقابل قوله {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} [الحج: 19]. وقوله: {ولباسهم فيها حرير} مقابل قوله: {قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19]. وقوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} مقابل قوله: {وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 22] فإنه من القول النكِد.
والتحليّة وضع الحَلْي على أعضاء الجسم. حَلاّه: ألبسه الحَلي مثل جلبب.
والأساور: جمع أسورة الذي هو جمع سِوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً} في [سورة الكهف: 31].
و (مِن) في قوله {من أساور} زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضاً للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي، ولذلك ف {أساور} في موضع المفعول الثاني ل {يُحلَّون}.
{ولؤلؤاً} قرأه ناقع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفاً على محل {أساور} أي يحلون لؤلؤاً أي عقوداً ونحوها. وقرأه الباقون بالجرّ عطفاً على اللفظ والمعنى: أساور من ذهب وأساور من لُؤلؤ.
وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر {لؤلؤ} مخالفة لمكتوب المصحف. والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجباً على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف، والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضاً خط المصحف واعتمدوا روايتهم.
وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.
واللؤلؤ: الدرّ. ويقال له الجمان والجوهر. وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تُستخرج من أجواف حيوان مائي حَلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غِلافه صَدفاً، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه. وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار: كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين، وبحر الجابون، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات، ويستخرجه غَوّاصون مدَرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص، يغوص الغائص مُشدوداً بحبل بيد مَن يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط.
وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علَس أو الأعشى:
لَجمانة البحريّ جاء بها *** غَوّاصها من لُجّة البحر
نَصفَ النّهارَ الماء غامره *** ورفيقه بالغيب لا يدري
وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة:
فجَاءَ بِها ما شئتَ من لَطَمِيّة *** على وجهها ماء الفرات يموج
وقد أشارت إليه آية [سورة النحل: 14] {وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد يُحَلّون} بصيغة الاسم دون (يلبسون) لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة {يُحَلّون} على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل: يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.
والحرير: يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا. وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لَفّاً بعضها إلى بعض مثل كُبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه. وإنما تحصّلُ الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيُطلقونها خيطاً واحداً طويلاً. ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان. وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديماً وحديثاً، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريباً حيث يكثر شجر التوت، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان عَلَفُه ورقَ التُّوت، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التُّوت. وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلاّ من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية. وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب، ثم نقل بَزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور (بوستنيانوس) بين سنة 527 وسنة 565م. ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف. وعُرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.
ومعنى {وهدوا إلى الطيب من القول} أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يُلهمهم أقوالاً حسنة يقولونها بينهم، وقد ذُكر بعضها في قوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] وفي قوله: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}
[الزمر: 74].
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالاً طيبة. وهو معنى قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24]. وهذا أشد مناسبة بمقابلة مما يسمعه أهل النار في قوله: {وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 22].
وجملة {وهدوا إلى صراط الحميد} معترضة في آخر الكلام، والواو للاعتراض، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول}، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين وسيجيء ذكر مقابلها في قوله: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} إلى قوله: {نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] وذلك من أفانين المقابلة. والمعنى: وقد هُدُوا إلى صراط الحميد في الدنيا، وهو دين الإسلام، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.
والحميد من أسماء الله تعالى، أي المحمود كثيراً فهو فعيل بمعنى مفعول، فإضافة {صراط} إلى اسم «الله» لتعريف أيّ صراط هو. ويجوز أن يكون {الحميد} صفة ل {صراط،} أي المحمود لسالكه. فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، والصراط المحمود هو صراط دين الله. وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}
هذا مقابل قوله {وهدوا إلى صراط الحميد} [الحج: 24] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] كما تقدم. فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني. والمعنى: كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله.
وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمر الإلحاد فيه، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به.
وجاء {يصدّون} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم.
أما صيغة الماضي في قوله: {إن الذين كفروا} فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله: {إن الله يدخل الذين آمنوا} [الحج: 24].
وسبيل الله: الإسلام، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة.
والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذكر بنائه، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم. والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ. ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت. والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف: انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة؟ (يعني المسلمين). ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل: إنّ الآية نزلت في ذلك. وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة.
ووصف المسجد بقوله: {الذي جعلناه للناس} الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه، أي المستقرّ في المسجد، والبادي، أي البعيد عنه إذا دخله.
والمراد بالعاكف: الملازم له في أحوال كثيرة، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام، بدليل مقابلته بالبادِي، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي. وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.
وقرأ الجمهور {سواءٌ} بالرفع على أنه مبتدأ {والعاكف فيه} فاعل سدّ مسدّ الخبر، والجملة مفعول ثان ل {جعلناه.
} وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل {جعلناه.
والعكوف: الملازمة. والبادي: ساكن البادية.
وقوله سواء} لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي: الطواف، والسّعي، ووقوف عرفة.
وكتب {والباد} في المصحف بدون ياء في آخره، وقرأ ابن كثير {والبادِي} بإثبات الياء على القياس لأنه معرف، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها. وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل. ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف.
وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف. والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير.
وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره. ويلحق به ما هو من تمام مناسكه: كالمسعَى، والموقف، والمشعر الحرام، والجمار. وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد. ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة.
وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال: فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون: إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه. وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مالك والشافعي: دور مكة مِلك لأهلها، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم، ولهم إكراؤها للناس، وإنما تجب المواساة عند الضرورة، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة. وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً. وقال أبو حنيفة: دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها. وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً. والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها. ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي. ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم.
وخبر {إن الذين كفروا} محذوف تقديره: نذقهم من عذاب أليم، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}.
وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} تذييل للجملة السابقة لما في (مَن) الشرطية من العموم.
والإلحاد: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور. والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس.
والباء في {بإلحاد} زائدة للتوكيد مثلها في {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته.
والباء في {بظلم} للملابسة. فالظلم: الإشراك، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام.
و (من) في قوله: {من عذاب أليم} مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة (مِن) وقوعها بعد نفي أو نهي. ولك أن تجعلها للتبعيض، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}
عطف على جملة {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} [الحج: 25] عطف قصة على قصة. ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن المُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حتى أمر ببنائه، والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحجّ.
و (إذ) اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدّر على ما هو متعارف في أمثاله. والتقدير: واذكر إذْ بوّأنا، أي اذكر زمان بوّأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]، أي اذكر ذلك الوقت العظيم، وعُرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدلّ عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر.
والتبوِئَة: الإسكان. وتقدم في قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها} [يوسف: 56].
والمكان: الساحة من الأرض وموضع للكون فيه، فهو فعل مشتق من الكون، فتبوئته المكان: إذنُه بأن يتخذه مَباءة، أي مقراً يبني فيه بيتاً، فوقع بذكر {مكان} إيجاز في الكلام كأنه قيل: وإذْ أعطيناه مكاناً ليتخذ فيه بيتاً، فقال: مكان البيت، لأنّ هذا حكاية عن قصة معروفة لهم. وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن.
واللام في {لإبراهيم} لام العلة لأنّ {إبراهيم} مفعول أول ل {بوّأنا} الذي هو من باب أعطى، فاللام مثلها في قولهم: شكرت لك، أي شكرتك لأجلك. وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة.
و {البيت} معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر {مكان} حشواً. والمقصود أن يكون مأوى للدين، أي معهداً لإقامة شعائر الدين.
فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعليماً بالدين فلذلك أعقب بحرف (أنْ) التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل مَعْلَماً للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركاً، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} في [سورة آل عمران: 96].
وقوله تعالى: {وطهر بيتي} مؤذن بكلام مقدّر دلّ عليه {بوأنا لإبراهيم مكان البيت}. والمعنى: وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان، وبعد أن بناه قلنا لا تُشرك بي شيئاً وطهّر بيتي.
وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت. والتطهير: تنزيهه عن كل خبيث معنىً كالشرك والفواحش وظلم الناس وبثّ الخصال الذميمة، وحسّاً من الأقذار ونحوها، أي أعدده طاهراً للطائفين والقائمين فيه.
والطواف: المشي حول الكعبة، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.
والمراد بالقائمين: الداعون تجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعاً للدعاء. قال زيد بن عَمرو بن نُفيل:
عُذتُ مما عاذ به إبراهيمُ *** مستقبلَ الكعبة وهو قائم
والركّع: جمع راكع، ووزن فُعّل يكثر جمعاً لفاعل وصفاً إذا كان صحيح اللام نحو: عُذّل وسُجّد.
والسجود: جمع سَاجد مثل: الرقود، والقعود، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مَصادر أفعالها.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)}
{وأذّن} عطف على {وطهر بيتي} [الحج: 26]. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.
والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء.
والناس يعمّ كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.
والمراد بالحجّ: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع.
وفي تعليق فعل {يأتوك} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى: «إن الله كتب عليكم الحجّ فْحُجُّوا». وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه.
وجملة {يأتوك} جواب للأمر، جعل التأذين سبباً للإتيان تحقيقاً لتيسير الله الحج على الناس. فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه.
وقوله {رجالاً} حال من ضمير الجمع في قوله {يأتوك}.
وعطف عليه و{على كل ضامر} بواو التقسيم التي بمعنى (أو) كقوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} [التحريم: 5] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب، إذ الراكب لا يكون راجلاً ولا العكس. والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقاً للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جواباً للأمر، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم.
ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله {رجالاً} ثم ذكر بعده {وعلى كل ضامر} تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين.
و {رجالاً}: جمع راجل وهو ضد الراكب.
والضامر: قليل لحم البطن. يقال: ضمر ضمُوراً فهو ضامر، وناقة ضامر أيضاً. والضمور من محاسن الرواحل والخيللِ لأنه يعينها على السير والحركة.
فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال: وعلى كلّ راحلة.
وكلمة (كُلّ) من قوله {وعلى كل ضامر} مستعملة في الكثرة، أي وعلى رواحل كثيرة. وكلمة (كلّ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك، وقول النابغة:
بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
أي: بها وحش كثير في رمال كثيرة.
وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة:
جادت عليه كلّ بِكْرٍ حُرة *** فتركْنَ كلّ قرارة كالدرهم
سَحاً وتسكاباً فكلّ عشيةٍ *** يجري عليها الماء لم يتصرم
وتقدم عند قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في [سورة البقرة: 145]. ويأتي إن شاء الله في سورة النمل.
و {يأتين} يجوز أن يكون صفة ل {كل ضامر} لأن لفظ (كل) صيره في معنى الجمع. وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل: يأتون، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه.
ويجوز أن تُجعل جملة {يأتين} حالاً ثانية من ضمير الجمع في {يأتوك} لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف، فصار المعنى: يأتوك جماعات، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث.
وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة. وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.
والفجّ: الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال.
والعميق: البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر، فأطلق على البعيد مطلقاً بطريقة المجاز المرسل، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه. وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.
وقوله {ليشهدوا} يتعلق بقوله {يأتوك} فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبب على التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ.
ومعنى {لِيَشهدوا} ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب. فكُني بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.
وتنكير {منافع} للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحاً في الدنيا بالتعارف والتعامل.
وخُص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بيّنْته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء.
وحرف {على} متعلّق ب {يذكروا،} وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها.
و (ما) موصولة، و{من بهيمة الأنعام} بيان لمدلول (ما). والمعنى: ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنّ الله رزقهم تلك الأنعام، وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم، ولذلك فرع عليه {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}.
فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه السلام فيكون الخطاب في قوله {فكلوا} لإبراهيم ومن معه.
وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}، إلى الخطاب بذلك في قوله: {فكلوا منها وأطعموا البائس} الخ. على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمورٍ به إبراهيم عليه السلام.
وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.
ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج: 29].
ويحتمل أن تكون جملة {فكلوا منها} الخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريعَ الخبر على الخبر تحذيراً من أن يُمنع الأكل من بعضها.
والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203].
والبائس: الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، وهو الفقير، هذا قول جمع من المفسرين. وفي «الموطأ»: في باب ما يكره من أكل الدواب، قال مالك: سمعت أن البائس هو الفقير اه. وقلت: من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غيرَ مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير: الذي تكُون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني.
فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه السلام.
وقرأ ورش عن نافع، وقنبلٌ عن ابن كثير، وابن عامر، وأبو عَمرو بكسر لام {لِيَقْضوا}. وقرأه الباقون بسكون اللام. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد (ثم)، كما تقدم آنفاً في قوله تعالى: {ثم ليقطع} [الحج: 15].
و (ثم) هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهرٌ إذ هما نسكان أهم من نحرِ الهدايا، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه.
والتفث: كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها. واضطرب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلاّ من التفسير، أي من أقوال المفسرين. فعَن ابن عُمر وابن عبّاس: التفث: مناسك الحجّ وأفعالُه كلها. قال ابن العربي: لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة. قلت: رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصّاص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب: التفث: هو الوسخ والدرَن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت:
حفّوا رؤوسهم لم يَحلقوا تفثاً *** ولم يسلّموا لهم قَمْلاً وصِئْبانا
ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أيمة اللّغة قالوا: لم يَجئ في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه: سألت أعرابياً: ما معنى قوله {ثم ليقضوا تفثهم}، فقال: ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرَنَك.
وعن أبي عبيدة: التّفَث: قصّ الأظفار والأخذُ من الشارب وكل ما يحرم على المُحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك: رمي الجمار.
وعن صاحب «العين» والفراء والزجاج: التفث الرمي، والذبح، والحلق، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضاً.
وعندي: أن فعل {ليقضوا} ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسَخاً ولا ظفراً ولا شعراً. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً. وأن موقع (ثمّ) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف ب (ثمّ) أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية: «فلمّا قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيبَ والرفث، صادف موسم الخَيف، معمعان الصيف».
وقوله: {وليوفوا نذورهم} أي إن كانوا نذوراً أعمالاً زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكاً أو إطعام فقير أو نحو ذلك.
والنذر: التزام قُربة لله تعالى لم تكن واجبة على ملتزِمها بتعليققٍ على حصول مرغوب أو بدون تعليق، وبالنذر تصير القربة الملتزَمة واجبة على الناذر. وأشهر صِيَغِه: لله عليّ... وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعاً في شريعة إبراهيم، وقد نذر عُمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به بعد إسلامه كما في الحديث.
وقرأ الجمهور {ولِيُوفوا} بضم التحتية وسكون الواو بعدها مضارع أوفى، وقرأ أبو بكر عن عاصم {وليوَفُّوا} بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفي المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف.
وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذاناً بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة.
والعتيق: المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعاً بدون درج لئلا يدخله إلاّ من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح. وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال: «إنما سمّى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قطّ». واعلم أنّ هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحجّ والهدايا في الإسلام.
وقرأ الجمهور {ثمّ لْيَقْضوا ولْيُوفُوا ولْيَطَوّفُوا} بإسكان لام الأمر في جميعها. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: {وليوفوا ولِيطوّفوا} بكسر اللام فيهما. وقرأ ابن هشام عن ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، وقنبلٌ عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب: {ثمّ لِيقضوا} بكسر اللاّم. وتقدّم توجيه الوجهين آنفاً عند قوله تعالى: {ثم ليقطع} [الحج: 15].
وقرأ أبو بكر عن عاصم {ولْيُوفّوا} بفتح الواو وتشديد الفاء من وفّى المضاعف.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور * حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ}
اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده. فالإشارة مرادٌ بها التنبيه، وذلك حيث يكون ما بعده غيرَ صالح لوقوعه خبراً عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى: ذلك بيانٌ، أو ذكرٌ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال. والمشهور في هذا الاستعمال لفظ (هذا) كما في قوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب} [ص: 55] وقولِ زهير:
هَذا وليس كمن يَعْيَا بخطبته *** وسْط النّدي إذا ما قائل نَطقا
وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.
فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره، أي ذلك بيان ونحوه. وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر، قال: هذا وقد كان كذا وكذا.
وجملة {ومن يعظم} الخ... معترضة عطفاً على جملة {وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج: 26] عطف الغرض على الغرض. وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بُنِي على أساسها.
وضمير {فهو} عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل {ومن يعظم حرمات الله}. والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيهاً لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتَها، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر. فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم، أي قبل فتح مكة.
والحُرمات: جمع حُرُمة بضمتين: وهي ما يجب احترامه.
والاحترام: اعتبار الشيء ذَا حَرَم، كناية عن عدم الدخول فيه. أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه، والحُرمات يشمل كل ما أوصَى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحرم ما دام محرماً، فقصَرَه على الذوات دون الأعمال. والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ، كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}
لما ذكر آنفاً بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل: البَحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحَامي وبعضضِ ما في بطونها. وقد ذكر في سورة الأنعام.
واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [سورة الأنعام: 145] في قوله: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.
وجيء بالمضارع في قوله: إلا ما يتلى عليكم} ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزولَ سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى، ويشمل ما عسى أن يَنزل من بعد مثل قوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} الآية في} [سورة العقود: 103].
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: {يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136]. وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله، وهو الأوثان.
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات {هذا حلال} مثل الدم وما أهلّ لغير الله به، وقولهم لبعض: هذا حرام مثل البَحيرة، والسائبة. قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116].
والرّجس: حقيقته الخبث والقذارة، وتقدم في قوله تعالى: {فإنه رجس} في [سورة الأنعام: 145].
ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.
و (مِن) في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس، فهي تدخل على بعض أسماء التمييز بياناً للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى (من) البيانية.
و {حنفاء لله} حال من ضمير {اجتنبوا} أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقاً، ولذلك زاد معنى {حنفاء} بياناً بقوله {غير مشركين به}. وهذا كقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين} [النحل: 120].
والباء في قوله {مشركين به} للمصاحبة والمعية، أي غير مشركين معه غيره.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ}
أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركاً تمثيلاً بديعاً إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.
قال في «الكشاف»: «يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صُور حال المشرك بصورة حال مَن خرّ من السماء فاختطفَتْه الطيرُ فتفرّق مِزعاً في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقاً فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة» أ. ه.
يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.
والسحيق: البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.
وقوله: {أو تهوي به الريح} تخيير في نتيجة التشبيه، كقوله: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19]. أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان: قسم شِركه ذبذبة وشكّ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلاّ انتهبها منه آخر، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه. وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.
والخُرور: السقوط. وتقدم في قوله: {فخر عليهم السقف من فوقهم} في [سورة النحل: 26].
و {تخطّفُه} مضاعف خطف للمبالغة، الخطف والخطف: أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة. والهُوِيّ: نزول شيء من علو إلى الأرض. والباء في {تهوي به} للتعدية مثلها في: ذهب به.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {فتَخَطّفه} بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطّف المضاعف. وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرّد.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
{ذلك} تكرير لنظيره السابق.
الشعائر: جمع شعيرة: المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور. وشعائر الله: لقب لمناسك الحجّ، جمع شعيرة بمعنى: مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله.
فمضمون جملة {ومن يعظم شعائر الله} الخ... أخص من مضمون جملة {ومن يعظم حرمات الله} [الحج: 30] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي. وتقدم ذكرها في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} في [سورة البقرة: 158]. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره. وهي معالم الحجّ: الكعبة، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحجّ.
وتطلق الشعيرة أيضاً على بدنة الهدى. قال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج: 36] لأنهم يجعلون فيها شِعاراً، والشِعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذرت للهدي، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.
فعلى التفسير الأول تكون جملة {ومن يعظم شعائر الله} إلى آخرها عطفاً على جملة {ومن يعظم حرمات الله} [الحج: 30] الخ. وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.
وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة {ومن يعظم شعائر الله} عطفاً على جملة {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28] تخصيصاً لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.
وضمير {فإنها} عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
وقوله {فإنها من تقوى القلوب} جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله: {القلوب} فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله. فالتقدير: فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب.
وإضافة {تقوى} إلى {القلوب} لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}
جملة {لكم فيها منافع} حال من الأنعام في قوله: {وأحلت لكم الأنعام} [الحج: 30] وما بينهما اعتراضات أو حال من {شعائر الله} [الحج: 32] على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا: هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق}
وضمير الخطاب موجّه للمؤمنين.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحفّ. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هدياً.
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعاً لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك.
وفي «الموطّأ»: " عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها؟ فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو الثالثة ". والأجل المسمّى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام مِنى. وهي الأيام المعدودات.
والمَحِلّ: بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال: بلغ الغاية، ونهاية أمرها النحر أو الذبح.
و {إلى} حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر: مِنى، والمروة، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا، وتبيينه في السنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى: {وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج: 26].
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الانعام فإلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُواْ}
عطف على جملة {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
والأمة: أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد: أنّ المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغَبْغَب مَنحر العُزّى، فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمّة إلاّ منسكاً واحداً للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يُجعل لغير الله منسك لأنّ ما لا يخلق الأنعام المقرّب بها ولا يرزقها الناسَ لا يسْتحق أن يُجعل له منسكٌ لِقربانها فلا تتعدد المناسك.
فالتنكير في قوله {منسكاً} للإفراد، أي واحداً لا متعدداً، ومحلّ الفائدة هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.
وقد دل على ذلك قوله: {ليذكروا اسم الله} وأدلّ عليه التفريع بقوله {فإلهكم إله واحد}. والكلام يفيد الاقتداء ببقيّة الأمم أهل الأديان الحق.
و {على} يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة ب {يذكروا اسم الله} مع تقدير مضاف بعدَ {على} تقديره: إهداء ما رزقهم، أي عند إهداء ما رزقهم، يعني ونحرها أو ذبحها.
ويجوز أن تكون {على} بمعنى: لام التعليل. والمعنى: ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وقد فرع على هذا الانفرادُ بالإلهية بقوله: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا} أي إذ كان قد جعل لكم منسكاً واحداً فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم: فلله أسلموا، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في {فله أسلموا} للحصر، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام: الانقياد التام، وهو الإخلاص في الطاعة، أي لا تخلصوا إلا لله، أي فاتركوا جميع المناسك التي أُقيمت لغيرِ الله فلا تنسكوا إلاّ في المنسك الذي جعله لكم، تعريضاً بالرد على المشركين.
وقرأ الجمهور {مَنسَكاً} بفتح السين وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بكسر السين، وهو على القراءتين اسم مكان للنَّسْك، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جارٍ على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك بضمّ العين في المضارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مَسجد من سجد يسجد، قال أبو عليّ الفارسي: ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.
{وَبَشِّرِ المخبتين الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمى الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}
اعتراض بين سوق المنن، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.
والمُخْبِت: المتواضع الذي لا تكبُّر عنده. وأصل المخبت مَن سلك الخَبْت. وهو المكان المنخفض ضد المُصعد، ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض، والمراد بهم هنا المؤمنون، لأنّ التواضع من شيمهم كما كان التكبّر من سمات المشركين قال تعالى: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35].
والوَجل: الخوف الشديد. وتقدّم في قوله تعالى: {قال إنا منكم وجلون} في [سورة الحجر: 52].
وقد أتبع صفة {المخبتين} بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود مَن جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود مَن لم يُخِل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدّم عند قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180]. وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر، كما قال النّابغة:
أني أتمم أيساري وأمنحهم *** مثنَى الأيادي وأكسوا الجفنة الأُدما
والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تتشرك فيه النفوس الجلْدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقاً بأدب الإسلام قال تعالى: {وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 155156] الآية.
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
عطف على جملة {ولكل أمة جعلنا منسكاً} [الحج: 34] أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله.
والمعنى: أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة {لكم}.
والبدن: جمع بَدنَة بالتحريك، وهي البعير العظيم البَدن. وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهي عِظم الجثّة والسمن، وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف، وجمعه بُدْن. وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة، وثُمرُ جمع ثَمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي.
وفي «الموطأ»: " عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركَبْها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركَبْها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة " فقول الرجل: إنها بدنة، متعين لإرادة هديه للحجّ.
وتقديم {البُدن} على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها.
والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي.
ومعنى كونها من شعائر الله: أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً.
قال مالك في «الموطأ»: «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر...» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود (2).
وتقديم {لكم} على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم، وتقديم {فيها} على متعلّقه وهو {خير} للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.
والخير: النّفع، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها. وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، وخير الآخرة من ثواب المُهدين، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها.
وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.
وصوافّ: جمع صافّة. يقال: صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به. ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر.
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه: «ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.
وانتصب {صوافّ} على الحال من الضمير المجرور في قوله {عليها}. وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً. وقريب منه قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4].
ومعنى {وجبت} سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.
والأمر في قوله {فكلوا منها} مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.
فقال مالك: يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين، والحُجّة لمالك صريح الآية. فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.
وقال أبو حنيفة: يأكل من هدي التمتّع والقِران، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه.
وقال الشافعي: لا يأكل من لحوم الهدايا بحاللٍ مستنداً إلى القياس، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه. كذا قال ابن العربي. وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.
وقال أحمد: يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر.
وأما الأمر في قوله: {وأطعموا القانع والمعتر} فقال الشافعي: للوجوب، وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك. وقلت: المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً.
والقانع: المتصف بالقنوع، وهو التذلل. يقال: قنَع من باب سَأل. قُنوعاً بضم القاف إذا سأل بتذلّل.
وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب. ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي:
العَبْد حرّ إن قَنِع *** والحر عبد إن قنَع
فاقنَع ولا تقنَع فما *** شيء يشين سوى الطمَع
وللزمخشري في «مقاماته»: «يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع».
وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك: «والقانع هو الفقير».
والمعتَرّ: اسم فاعل من اعترّ، إذا تعرّض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال: اعترّ، إذا تعرّض. وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك: «وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار» والمراد زيارة التعرض للعطاء.
وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف {المعترّ} على {القانع،} فدل العطف على المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله {وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28].
وجملة {وكذلك سخرناها لكم} استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له.
وقوله {كذلك} هو مثل نظائره، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.
ومعنى {لعلكم تشكرون} خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر.
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ}
جملة في موضع التعليل لجملة {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} [الحج: 36]، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقُوه.
والنَيْل: الإصابة. يقال ناله، أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضاً بمعنى أحرز، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وقوله: {وهموا بما لم ينالوا} [التوبة: 74].
والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمَرْوَةِ. قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قرباناً لله تعالى، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.
وفي قوله: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المُهدين وغيرهم.
فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النّحر: «يوم تأكلون فيه من نُسككم» فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.
وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدْيٌ من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجِلالها وقلائدها.
كما أومأ إليه قوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد} [المائدة: 97].
وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعاً أو ظناً قريباً من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ، فما يبقى منها حيّاً يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدَى من نحره أو ذَبحه حين لا يَرغب فيه أحد، ولو كانت اللحوم التي فاتَ أن قُطعّت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفُّن فيُنتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.
وقد ترددتْ في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهَديها.
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج، لينتفع بها المحتاجون في عامهم، أوفقُ بمقصد الشارع تجنباً لإضاعَة ما فَضِل منها رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى:
{فاذكروا اسم الله عليها صواف} [الحج: 36] وقوله: {وكذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم}، جمعاً بين المقاصد الشرعية.
وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يُتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلباً لفضيلة المبادرة، فإن التقوى التي تصِل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفَرس الحُبُس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وهي المعاوضة لِرَبْع الحبس إذا خرب.
وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلّته انتفاع المسلمين، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36].
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدَعون أحداً يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين، وكان المصريُّون يُلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة.
وقرأ الجمهور {يَنال، ويَناله} بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل. وربما كانوا يقذفون بمِزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد.
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين.
و {يناله} مشاكلة ل {ينال} الأول، استعير النيل لتعلّق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيهاً وجهّه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة.
و (مِن) في قوله {مِنكم} ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة، ولذلك عبّر بلفظ {التقوى منكم} دون: تقواكم أو التقوى. مجرداً مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.
{كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين}.
تكرير لجملة: {كذلك سخرناها لكم} [الحج: 36]، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة، فصار مدلول الجملتين مترادفاً. فوقع التأكيد. فالقول في جملة {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله} كالقول في أشباهها.
وقوله {على ما هداكم} {على} فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها. و(ما) موصولة، والعائد محذوف مع جارّه. والتقديرُ: على ما هداكم إليه من الأنعام.
والهداية إليها: هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان، والخطاب للمسلمين.
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا.
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
استئناف بياني جواباً لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} الآية، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم، وبشّر المؤمنين المخبِتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة. وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا، وهل يُنتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة. فكان المقام خليقاً بأن يُطَمئنَ الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضاً مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم، وحُذف مفعول {يدافع} لدلالة المقام.
فالكلام موجه إلى المؤمنين، ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر، وإما لتنزيل غير المتردد منزلة المتردّد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه.
والتعبير بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم.
وقرأ الجمهور لفظ {يدافع} بألف بعد الدال فيفيد قوّة الدفع. وقرأه أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب {يدفع} بدون ألف بعد الدال.
وجملة {إن الله لا يحب كل خوان كفور} تعليل لتقييد الدفاع بكونه عن الذين آمنوا، بأن الله لا يحب الكافرين الخائنين، فلذلك يَدفع عن المؤمنين لردّ أذَى الكافرين: ففي هذا إيذان بمفعول {يدافع} المحذوف، أي يدافع الكافرين الخائنين.
والخوّان: الشديد الخَوْن، والخون كالخيانة، الغدْر بالأمانة، والمراد بالخوّان الكافر، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناسَ على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم.
والكفُور: الشديد الكفر: وأفادت (كلّ) في سياق النفي عمومَ نفي مَحبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك. ولا يتوهم من قوله {لا يحب كل خوان} أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة (كلّ) اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة {كل} وليس هو مثل قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] الموهم أن نفي قوّة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
جملة وقعت بدل اشتمال من جملة: {إن الله يدافع} [الحج: 38] لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلاً لهم بالنصر.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم {أُذِن} بالبناء للنائب. وقرأه الباقون بالبناء إلى الفاعل.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر {يقاتَلون} بفتح التاء الفوقية مبنياً إلى المجهول. وقرأه البقية بكسر التاء مبنياً للفاعل.
والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتَلوا. والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته، وإما بصيغة المضي.
فعلى قراءة فتح التاء فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي، وهو الأذى. وأما على قراءة {يقاتِلون} بكسر التاء فصيغة المضي مستعملة مجازاً في التهيُّؤِ والاستعداد، أي أذن للذين تَهَيّئوا للقتال وانتظروا إذن الله.
وذلك أنّ المشركين كانوا يُؤذون المؤمنين بمكة أذى شديداً فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومَر بالقتال، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذناً لهم بالتهيُّؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} [الحج: 40].
والباء في {بأنهم ظلموا} أراها متعلقة ب {أذن} لتضمينه معنى الإخبار، أي أخبرناهم بأنهم مظلومون. وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد: إنك مظلوم، فكأنك استعديته على ظالمه، وذكرته بوجوب الدفاع، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير}، ويكون قوله: {بأنهم ظلموا} نائب فاعل {أذن} على قراءة ضم الهمزة أو مفعولاً على قراءة فتح الهمزة. وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله {يقاتلون،} أي أُذن لهم في القتال. وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله {يقاتلون} والتفسير الذي رأيتُه أنسبُ وأرشق.
وجملة {وإن الله على نصرهم لقدير} عطف على جملة {أذن للذين يقاتلون} أي أذن لهم بذلك وذُكروا بقدرة الله على أن ينصرهم. وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه، كقولهم: عسى أن يكون كذا، أو أن عندنا خيراً، أو نحو ذلك، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه.
وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطأوا النصر.
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}
{الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله}
بدل من {الذين يقاتلون} [الحج: 39]، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191].
و {بغير حق} حال من ضمير {أخرجوا،} أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم الموجِب إخراجهم، فإن للمرء حقاً في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولَّد بين قوم هو مساوٍ لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه، كما قال عمر بن الخطاب: «إنها لِبلاَدُهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام». ولا يزول ذلك الحق إلاّ بموجب قرره الشرّع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زُهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمينٌ أو نِفار أو جَلاء
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخَلع، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكاً من الردع غير ذلك.
ولذلك قال تعالى: {بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بَواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.
والاستثناء في قوله: {إلا أن يقولوا ربنا الله} استثناء من عموم الحق، ولما كان المقصود من الحق حقاً يوجب الإخراج، أي الحقَّ عليهم، كان هذا الاستثناء مستعملاً على طريقة الاستعارة التهكمية، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يُتخيّل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، وشاهده قول النابغة:
ولا عَيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بِهِنّ فُلول من قِراع الكتائب
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}
اعتراض بين جملة {أُذِن للذين يقاتلون} [الحج: 39] الخ وبين قوله {الذين إن مكناهم في الأرض} [الحج: 41] الخ. فلما تضمنت جملة {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أُتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع، مع التنويه بهذا الدفاع، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعاً لنفع المسلمين خاصة.
والواو في قوله {ولولا دفاع الله الناس} إلى آخره، اعتراضية وتسمى واو الاستئناف ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] الخ.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه، أي انتفائه لأجل وجود شرطه، أي عند تحقق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين. والمعنى: لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملّة الشرك ولهَدَموا مَعَابدهم من صوامع، وبِيَععٍ، وصلوات، ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيراً، قصداً منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقاً للأديان المخالفة للشرك. فذكر الصوامع، والبِيَع، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتّعريف في {النّاس} تعريف العهد، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة.
ويجوز أن يكون المراد: لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك (كما قاتل داوود جالوت، وكما تغلّب سليمان على مَلِكَة سبأ). لمَحق المشركون معالم التوحيد (كما محق بختنصر هيكل سليمان) فتكون هذه الجملة تذييلاً لجملة {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39]، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلَهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال، فالتعريف في {الناس} تعريف الجنس.
وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه أذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع. وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {دفاع.} وقرأ الباقون {دَفْع} بفتح الدال وبدون ألف. و{بعضهم} بدل من {الناسَ} بدل بعض. و{ببعض} متعلق ب {دفاع} والباء للآلة.
والهدم: تقويض البناء وتسقيطه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر {لهُدِمت} بتخفيف الدال. وقرأه الباقون بتشديد الدال للمبالغة في الهدم، أي لهدّمت هدْماً ناشئاً عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثراً.
والصوامع: جمع صومعة بوزن فَوْعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعُد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتّخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين. من أجل ذلك سُمّيت الصومعة المنارة. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** مَنارة مُمْسَى رَاهب مُتَبتّل
والبِيَع: جمع بيعة بكسر الباء وسكون التحتية مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها، ولعلها معرّبة عن لغة أخرى.
والصلوات: جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معرّبة عن كلمة (صلوثا) (بالمثلثة في آخره بعدها ألف). فلمّا عُربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك. وعن مجاهد، والجحدري، وأبي العالية، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا {وصلواث} بمثلثة في آخره. وقال ابن عطية: قرأ عكرمة، ومجاهد {صِلْويثا بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء (أي المثلثة كما قال القرطبي) وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة.
والمساجد: اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنَوا مسجدَ قباء ومسجد المدينة.
وجملة {يذكر فيها اسم الله كثيراً} صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة. فلذلك قيل برجوع صفة {يذكر فيها اسم الله} إلى {صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد} للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير {فيها.
وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيراً، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله، لِمَحْو ذكرِ اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيراً، أي دون ذكر الأصنام. فالكثرة مستعملة في الدوام لاستغراق الأزمنة، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله.
قال ابن خويز منداد من أيمة المالكية (من أهل أواخر القرن الرابع) تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبِيَعهم وبيوت نارهم اه.
قلت: أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما مَنع هدمَها عقدُ الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين، وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة.
وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأنّ صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها، وكانت أشهر عندهم، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها، وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع. وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها، وتأخير المساجد لأنها أعم، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالاً للفائدة.
وقوله ولينصرن الله من ينصره} عطف على جملة {ولولا دفاع الله الناس}، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم. وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله، ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد. وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون.
وجملة {إن الله لقوي عزيز} تعليل لجملة {ولينصرن الله من ينصره}، أي كان نصرهم مضموناً لأنّ ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة. والقوة مستعملة في القدرة: والعزّة هنا حقيقة لأنّ العزّة هي المنعة، أي عدم تسلّط غير صاحبها على صاحبها.
بدل من {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} وما بينهما اعتراض. فالمراد من {الذين إن مكناهم في الأرض} [الحج: 41] المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم. وعن عثمان: «هذا والله ثناء قبلَ بَلاء»، أي قبل اختبار، أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم. ومعنى {إن مكناهم في الأرض} [الحج: 41] أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله: {إن الله على نصرهم لقدير} [الحج: 39].
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
{الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر}
ويجوز أن يكون بدلاً من {مَن} الموصولة في قوله: {من ينصره} [الحج: 40] فيكون المراد: كل من نصر الدين من أجيال المسلمين، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله: وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوامَ نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم، والسلامة من اختلال أمرهم، فإن حَادُوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرُهم إلى الله.
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.
والتمكين: التوثيق، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم. وقد تقدم قوله تعالى: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش} في [سورة الأعراف: 10]، وقوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} في [سورة يوسف: 56].
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين: إما بكونه معروفاً للأمة كلها، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة. وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه.
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال، ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.
{وَلِلَّهِ عاقبة الامور}
عطف على جملة {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]، أو على جملة {إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40]، والمآل واحد، وهو تحقيق وقوع النصر، لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسماً. وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة». وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
لما نعى على المشركين مساويَهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدّهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه، عُطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فقُصد من ذلك تسليّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتمثيلُهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم، ونظير هذه الآية إجمالاً وتفصيلاً تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله: {فقد كذبت قبلهم} الخ إذ التقدير: فلا عجب في تكذيبهم، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.
وقوم إبراهيم هم الكلدان، وأصحاب مَدْين هم قوم شُعيب، وإنما لم يعبّر عنهم بقوم شُعيب لئلا يتكرر لفظ قَوم أكثر من ثلاث مرات.
وقال: {وكذب موسى} لأن مُكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.
وقوله: {فأمليتُ للكافرين} معناه فأمليت لهم، فوُضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذِهم هو الكفر بالرسُل تعريضاً بالنذارة لمشركي قُريش.
والأخذ حقيقته: التناول لِما لم يكن في اليد، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاءُ ذلك الإملاء بالتناول، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [سورة الأنبياء: 70] {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} مشير إلى سُوءِ عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك.
ومناسبة عَدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذُكر فيها من أُخذوا من الأقوام، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبهاً بمشركي قُريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه. وألجأوه إلى الخروج من موطنه {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99]. فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} [الحج: 40] مناسبةٌ لذكر قوم إبراهيم.
والإملاءُ: ترك المتلبّس بالعِصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نَجا ثم يؤخذ بالعقوبة.
والفاء في {فأمليت للكافرين} للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أُخر لهم، وهو تعقيب موزع، فلكل قوم من هؤلاء تعقيبُ إملائه، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة، فلذلك عطف فعلُه بحرف المهلة.
وعطفت جملة {فكيف كان نكير} بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ، وهو استفهام تعجيبي، أي فأعْجَب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة مِحنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً فهو عبرة لغيرهم.
والنكير: الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي يُنكَر عليه:
و {نكيرِ} بكسرة في آخره دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً.
وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم، فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله، وقد قال الحكماء: إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
تفرع ذكر جملة {كأين من قرية} على جملة {فكيف كان نكير} [الحج: 44] فعطفت عليها بفاء التفريع، والتعقيب في الذكر لا في الوجود، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولاً للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله: {فقد كذبت قبلهم قوم نوح} [الحج: 42] إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل.
و {كأيّن} اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير: كثير من القرى أهلكناها، وجملة {أهلكناها} الخبر.
ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره {أهلكناها} والتقدير: أهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها (كأيّن) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية، وعلى الوجه الأول فجملة {أهلكناها} في محل جر صفة ل {قرية}. وجملة {فهي خاوية} معطوفة على جملة {أهلكناها،} وقد تقدم نظيره في قوله {وكأين من نبي} في [سورة آل عمران: 146].
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود. ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة.
ومعنى {خاوية على عروشها} أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة {على عروشها} خبر ثان عن ضمير {فهي} والمعنى: ساقطة على عروشها، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها.
والعروش: جمع عَرش، وهو السَقْف، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} في [سورة البقرة: 259].
والمعطلة: التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا. وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئاراً في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئراً واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام.
والقصر: المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقاً.
والمَشِيد: المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ: وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به.
والقصور المُشيّدة: وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل: قصر غُمدان في اليمن، وقصور ثمود في الحِجْر، وقصور الفراعنة في صعيد مصر، وفي «تفسير القرطبي» يقال: «إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان. ويقال: إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء. وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه السلام. وكان صالح معهم، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حَنظلة بن صفوان رسولاً فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشاً». يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة (كأيّنْ) تنافي إرادة قرية معيّنة.
وقرأ الجمهور {أهلكناها} بنون العظمة: وقرأه أبو عَمرو ويعقوب {أهلكتُها} بتاء المتكلم.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
تفريع على جملة {فكأين من قرية أهلكناها} [الحج: 45] وما بعدها.
والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئاً من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه قوله تعالى: {أو آذان يسمعون بها}. فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض، ولكن جعل الاستفهام داخلاً على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جُعل كالعدم فكانَ التعجيب من انتفائه، فالكلام جارٍ على خلاف مقتضى الظاهر.
والفاء في {فتكون} سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير، أي لم يسيروا سيراً تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتاً وفي هذا المعنى قال المعرّي:
وقيل أفادَ بالأسفار مالاً *** فقلنا هل أفادَ بها فُؤادا
وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائدَ تزيد هِمتَه نفاذاً فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال: {يعقلون بها} وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال: {يعقلون بها} فأشار إلى أن القلوب هي العقل.
ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم.
وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ماعلمه المسافرون علماً سبيلُه سماع الأخبار.
وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور}.
فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون}
[البقرة: 171].
والفاء في جملة {فإنها لا تعمى الأبصار} تفريع على جواب النفي في قوله: {فتكون لهم قلوب يعقلون بها}، وفذلكة للكلام السابق، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.
والضمير في قوله {فإنها} ضمير القصة والشأن، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعدَ الضمير، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات، والمدرِك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.
واستعير العَمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.
والتعريف في {الأبصار}، و{القلوب}، و{الصدور} تعريفُ الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم، والجمْع فيها باعتبار أصحابها.
وحرف التوكيد في قوله: {فإنها لا تعمى الأبصار} لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.
وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانُها بحرف التوكيد.
والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمىً، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه، فالقصر ترشيح للاستعارة.
ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبَداعة النظم.
و {التي في الصدور} صفة ل {القلوب} تفيد توكيداً للفظ {القلوب.} فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]. ووزان القيد في قوله: {يقولون بأفواههم} [آل عمران: 167] فهو لزيادة التقرير والتشخيص.
ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضاً بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم «فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيَّ» فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}
عطف على جملة {وإن يكذبوك} [الحج: 42] عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا: لو كان محمد صادقاً في وعيده لعُجّل لنا وعيده، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32]، وقال: {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} [السجدة: 28] فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله {فأمليت للكافرين} [الحج: 44] الآية.
وحُكي {ويستعجلونك} بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديداً منهم للاستهزاء وتوركاً على المسلمين.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود إبلاغه إياهم.
والباء من قوله {بالعذاب} زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدّته كأنه قيل يحرصون على تعجيله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} في أول [سورة الرعد: 6].
ولما كان استعجالهم إياه تعريضاً منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله: {ولن يخلف الله وعده}، أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعدٌ من الله والله لا يخلف وعده. وفيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه.
وقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} عطف على جملة {ولن يخلف الله وعده}، فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكماً وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد، وإيماء إلى عدم وقوع عذاب الآخرة بِلازمين، فَردّ الله عليهم رداً عاماً بقوله: {ولن يخلف الله وعده}، وكان ذلك تثبيتاً للمؤمنين، ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضاً وهو أشدّ العذاب.
فقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} خبر مستعمل في التعريض بالوعيد، وهذا اليوم هو يوم القيامة.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {يستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} [العنكبوت: 5354].
وليس المراد بقوله: {وإن يوماً عند ربك} إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها} [الحج: 48].
والخطاب في {تعدون} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقرأ الجمهور {تعدون} بالفوقية، وقرأه ابن كثير، وحمزة، والكسائي {مما يعدون} بياء الغائبين. أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
عطف على جملة {ويستعجلونك بالعذاب} [الحج: 47] أو على جملة {ولن يخلف الله وعده} [الحج: 47] باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخّر وقوعه، فذُكّروا بأن أمماً كثيرة أمهلت ثمّ حلّ بها العذاب. فوزان هذه الآية وِزان قوله آنفاً: {فكأين من قرية أهلكناها وفي ظالمة} [الحج: 45] الخ؛ إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهّم من ذكر قوم نوح ومَن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. وهذه الآية القصد منها التذكير بأنّ تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذِ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القْبضَة بعد بعده عنها.
وأما عطف جملة {فكأين من قرية أهلكناها} [الحج: 45] بالفاء وعطف جملة {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} بالواو فلأن الجملة الأولى وقعت بدَلاً من جملة {فكيف كان نكير} [الحج: 44] فقرنت بالفاء التي دخلت نظيرتُها على الجملة المبدَل منها، وأما هذه الجملة الثانية فخليّة عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف.
وجملة {وإليَّ المصير} تذييل، أي مصير الناس كلهم إليّ. والمصير مِصدر ميمي ل (صار) بمعنى: رجع، وهو رُجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة.
وتقديم المجرور للحصر الحقيقي، أي لا يصير الناس إلا إلى الله، وهو يقتضي أنّ المصير إليه كائن لا محالة، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي حصول الفعل بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات، وافتتاحه ب {قُل} للاهتمام به، وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام. والمخاطَبون هم المشركون.
والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يَغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدّه عن أداء رسالته، ففي ذلك قمع لهم إذ كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يُملّونه فيترك دعوتهم، وفيه تثبيت للنبيء وتسلية له فيما يلقاه منهم.
وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي، أي لستُ طالباً نكايتكم ولا تزلفاً إليكم فمن آمن فلنفسه ومن عمى فعليها.
والنذير: المحذّر من شرّ يتوقع.
وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شرّ عظيم فهم أحرياء بالنذارة.
والمبين: المفصِح الموضح، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة.
وفُرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسولُ بتبليغه إلى مصدق ومكذّب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيباً في الحالة الحسنى وتحذيراً من الحالة السُّوأى فقال تعالى: {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم} إلى آخره... فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله {في آياتنا}.
والجملة معترضة بالفاء.
والمغفرة: غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده. وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة، فالمعنى: أنهم فازوا في الدار الآخرة.
والرّزق: العطاء. ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفاءَه من المكدرات كقوله تعالى: {لهم أجر غير ممنون} [فصلت: 8] ذلك هو الجنة.
والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة.
والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا، فمعناه: والذين استمروا على الكفر، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم.
والسّعي: المشي الشديد. ويطلق على شدّة الحرص في العمل تشبيهاً للعامل الحريص بالماشي الشديد المشي في كونه يكدّ للوصول إلى غاية كما قال تعالى: {ثم أدبر يسعى فحشر فنادى} [النازعات: 2223] فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وإنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى. وقال تعالى: {ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 64].
والكلام تمثيل، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم: هو سحر، هو شعر، هو أساطير الأولين، هو قول مجنون، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبيء صلى الله عليه وسلم بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول.
والمُعاجز: المسابق الطالب عجز مُسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به، فصيغ له المفاعلة لأنّ كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه. والمعنى: أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مُرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة.
وقرأ الجمهور {معاجزين} بألف بعد العين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو {مُعَجّزين} بفتح العين وتضعيف الجيم، أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون.
والتصدير باسم الإشارة في قوله {أولئك أصحاب الجحيم} للتنبيه على أن المخبَر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحُكم لأجل ما ذكر قبلَه من الأوصاف، أي هم أصحاب الجحيم لأنّهم سعوا في آياتِنا معاجزين. ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثَلي ومثَل ما بعثني الله به كمثَل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيْني وأنا النذير العُريان فالنّجَاءَ النّجاءَ، فأطاعته طائفة من قومه فأدْلَجُوا وانطلقوا على مهلهم، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانَهم فصبّحهم الجيش فأهلكهمُ واجتاحهم. فذلك مَثَليَ ومثَلُ من أطاعني واتّبع ما جئتُ به، ومثَل مَن عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ».
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}
عطف على جملة {قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} [الحج: 49] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} [الحج: 48] الخ.. وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام.
فقوله: {من رسول ولا نبيء} نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل.
وعطف {نبي} على {رسول} دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول:
فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي: مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول، وهو التحقيق.
والتمنّي: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصولُه. والأمنية: الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو {من رسول ولا نبيء}، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: {فكذلك ألقى السامري} [طه: 87] وقوله: {فألقوا إليهم القول} [النحل: 86] وكقوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} [طه: 96] على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {ألقى} محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى:
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وقوله: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6]. فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.
وقد فسر كثيرٌ من المفسرين {تمنَى} بمعنى قَرَأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:
تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} [الأنعام: 35].
و {ثُمّ} في قوله: {ثم يحكم الله آياته} للترتيب الرتبي، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً.
وجملة {والله عليم حكيم} معترضة.
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها}
[الفرقان: 41- 42] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: {لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 42] وقوله: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم} [ص: 6]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آثارَ آياته.
واللامان في قوله {ليجعل} وفي قوله {وليعْلَمَ} متعلقان بفعل {ينسخ الله} فإن النسخ يقتضي منسوخاً، وفي {يجعل} ضميرٌ عائد إلى الله في قوله: {فينسخ الله}.
والجعل هنا: جَعل نظام ترتب المسببات على أسبابها، وتكويننِ تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى: أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسُله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 39-40].
ولام {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً} [القصص: 8]. وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنةُ من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى.
وأما لام {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك} فهي على أصل معنى التّعليل، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.
و {الذين في قلوبهم مرض} هم المتردّدون في قبول الإيمان. و{القاسية قلوبهم} هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد ب {الظالمين} في قوله: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}. فذكر {الظالمين} إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم، أي كفرهم.
والشقاق: الخلاف والعداوة.
والبعيد هنا مستعمل في معنى: البالغ حدّاً قوياً في حقيقته. تشبيهاً لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى {فذو دعاء عريض} [فصلت: 51] أي دعاء كثير مُلح.
وجملة {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} معترضة بين المتعاطفات.
و {الذين أوتوا العلم} هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب {الذين في قلوبهم مرض} وبقوله {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}. فالمراد بالعلم الوحي والكُتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.
وإطلاق {الذين أوتوا العلم} على المؤمنين تكرر في القرآن.
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نور النُّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جِلفاً فإذا آمن انقلب حكيماً، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم». وضمير {أنه الحق} عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقيناً بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير {أنه} عائداً إلى ما تقدم من قوله {فينسخ الله} إلى قوله {ثم يحكم الله آياته}، أي أن المذكور هو الحق، كقول رُؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجِلد توليع البَهق
أي كان كالمذكور.
وقوله {فيؤمنوا به} معناه: فيزدادوا إيماناً أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكَم كما آمنوا بالأصل.
والإخباتُ: الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {وبشر المخبتين} [الحج: 34]، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].
وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنَهله عن عُلالته، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السُّنّة، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربُها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قُريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19- 20] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: {تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى} ففرح المشركون بأن ذكَر آلهتهم بخير، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قُريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة، فرجع من مهاجرة الحبشة نفرٌ منهم عثمان بن عفان إلى المدينة، وأن النبي لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم، فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضِغثاً على إبَالة، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه. وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون. على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيباً لها قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3] وفي معرفة الملكَ. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلاممٍ واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19] إلى قوله: {ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها «الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى». وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضاً. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيساً لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان.
وفي «شرح الطيبي على الكشاف» نقلاً عن بعض المؤرّخين: أن كلمات «الغرانيق...» (أي هذه الجمل) من مفتريات ابن الزِّبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصةُ آلهة العرب (أي قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19] الخ) فجعَل يتلو: اللاّتَ والعُزّى (أي الآية المشتملة على هذا) فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقَى الشيطان تلك الغرانيق العُلَى مِنها الشفاعة ترتجَى» فإن قوله: «دنوا يستمعون فألقى الشيطان» الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوتُ المُحاكَى.
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فذلك من تخليط المؤلفين.
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.
فالوجه: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلباً لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن {تمنّى} بمعنى: قرأ، والأمنية: القراءة، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يُوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتاً لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه:
تمنّى كتاب الله أول لَيْله *** وآخره لاقى حِمام المَقادر
وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنياً لأنه أحبَ ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظُنّ أنه شاهد آخر، وربما توهَموا الرواية الثانية بيتاً آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس}. وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} في سورة [البقرة: 78].
وجملة {إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} معترضة. والواو للاعتراض، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} في سورة [الروم: 56]. وكما في سورة [سبأ: 6] {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} فإظهار لفظ {الذين آمنوا} في مقام ضمير {الذين أوتوا العلم} لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [الزمر: 3]. فالمراد بالهُدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.
وكتب في المصحف {لهاد} بدون ياء بعد الدال واعتباراً بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}
لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة. خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يُحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة، فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل {لا يزال} وفعل {حتى تأتيهم} الدّالين على استمرار ذلك في المستقبل.
ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين: إن ضمير {في مرية منه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام، والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير {أنه الحق من ربك فيؤمنوا به} [الحج: 54].
و {الساعة} علَم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن، واليوم: يوم الحرب، وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب. ومنه دُعيت حروب العرب المشهورة «أيام العرب».
والعقيم: المرأة التي لا تلد؛ استعير العقيم للمشؤوم لأنهم يُعدّون المرأة التي لا تلد مشؤومة.
فالمعنى: يأتيهم يوم يُستأصلون فيه قتلاً: وهذا إنذار بيوم بدر.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}
آذنت الغاية التي في قوله: {حتى تأتيهم الساعة بغتة} [الحج: 55] أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية: وعن ماذا يلقونه عند زوالها، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} إلى آخر ما فيها من التفصيل، فهي استئناف بياني.
فقوله {يومئذ} تقدير مضافه الذي عُوّض عنه التنوين: يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
وجملة {يحكم بينهم} اشتمال من جملة {الملك يومئذ لله}.
والحكم بينهم: الحكمُ فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل، الدال عليه قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك} [الحج: 54] وقوله: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} [الحج: 55] فقد يكون الحكم بالقول، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق، وقد فُصل الحكم بقوله: {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات} الخ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.
وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه. وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويهاً بشأن الهجرة، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.
والتعريف في {الملك} تعريف الجنس، فدلّت جملة {الملك يومئذ لله} على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون مِلكاً لله، كما تقدم في قوله تعالى {الحمد لله} [الفاتحة: 2] أي لا ملك لغيره يومئذ.
والمقصود بالكلام هو جملة {يحكم بينهم} إذ هم البدل. وإنما قدمت جملة {الملك يومئذ لله} تمهيداً لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.
وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله {فأولئك لهم عذاب مهين} للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المُهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.
والمُهين: المذل، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.
وقرن {فأولئك لهم عذاب مهين} بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو (أما)، كأنه قيل: وأما الذين كفروا، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيراً لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.
والرزق: العطاء، وهو كل ما يتفضّل به من أعيان ومنافع، ووصفه بالحسن لإفادة أنه يُرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه. وجملة {ليدخلنهم مدخلاً يرضونه} بدل من جملة {ليرزقنهم الله رزقاً حسناً}، وهي بدل اشتمال، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم، ولذلك وصف المدخل ب {يرضونه}.
ووقعت جملة {وإن الله لهو خير الرازقين} معترضة بين البدل والمبدل منه، وصريحها الثناء على الله. وكنايتُها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.
وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويراً لعظمة رزق الله تعالى. وجملة: {وإن الله لعليم حليم} تذييل، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم، وهو حليم بهم فيما لاقَوه فهو يجازيهم بما لقُوه من أجله. وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام.
وقرأ نافع {مَدخلاً} بفتح الميم على أنه اسم مكان من دَخل المجردِ لأن الإدخال يقتضي الدخول. وقرأ الباقون بضم الميم جرياً على فعل {ليُدخلنّهم} المزيد وهو أيضاً اسم مكان للإدخال.
{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}
اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتاً لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبراً عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قوله: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج: 30].
وجملة {ومن عاقب} الخ، معطوفة على جملة {والذين هاجروا في سبيل الله} [الحج: 58] الآية.
والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقاً بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} إلى قوله: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 3940]، فإنه قد جاء معترضاً في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرِهم النعمَ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلاً يرضونه.
وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.
وما صْدَقُ (مَن) الموصولة العموم لقوله فيما سلف {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39]، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جَزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضاً قوله {بأنهم ظلموا} [الحج: 39].
وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] إلى أسلوب الإفراد في قوله {ومن عاقب} للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم.
ولما أتي في الصلة هنا بفعل {عاقَب} مع قصد شمول عموم الصلة للذين أُذِن لهم بأنهم ظُلموا عَلم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.
وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلاً للعدوان المجزى عليه، أي أن لا يكون أشدّ منه.
وسُميّ اعتداء المشركين على المؤمنين عقاباً في قوله {بمثل ما عوقب به} لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 40].
ومعنى {بمثل ما عوقب به} المماثلةُ في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرْغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن. ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر.
و {ثمّ} من قوله: {ثم بغي عليه} عطف على جملة {ومن عاقب بمثل ما عوقب به}، ف (ثم) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءاً بالظلم كما يقال «البادئ أظلم». فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين.
ومعنى الآية في معني قوله: {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة} [التوبة: 13].
وكان هذا شرعاً لأصول الدفاع عن البيضة، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عُوقبوا به، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حَيرة في تلئيم معانيها.
وجملة {إن الله لعفو غفور} تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قَضَيَا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له: بم دام ملككم؟ فقال: لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغَضب، فليس ذكر وصفي {عفو غفور} إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.
ويجوز أن يكون تعليلاً للوعد بجزاء المهاجرين اتباعاً للتعليل في قوله: {إن الله لعليم حليم} [الحج: 59] لأن الكلام مستمر في شأنهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}
ليس اسم الإشارة مستعملاً في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة، فضرب له مثلاً بتغليب مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها، لما تقرر من اشتهار التضادّ بين الليل والنهار، أي الظلمة والنور، وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرّار السُّلَمي:
وكتيبَةٍ لبّسْتُها بكتيبة حتى *** إذا التَبست نفضتُ لها يدي
فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله: {بأن الله يولج الليل} الخ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريراً لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة {بأن الله يولج الليل في النهار} الخ، مرتبطة بجملة {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} الخ، ولذلك يصح جعل {بأن الله يولج الليل في النهار} الخ متعلقاً بقوله {لينصرنه الله} [الحج: 60].
والإيلاج: الإدخال. مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيهاً لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر، فإيلاج الليل في النهار: غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل، وإيلاج النهار في الليل: غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمُولج هو المُختفي، فإيلاج الليل انقضاؤه. واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجاً، وكذلك تقلّص ضوء النهار يحصل تدريجاً، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلاً فيه شيئاً فشيئاً.
والباء للسببية، أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلّة المسلمين، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حيناً بعد أن كان أمرهما على العكس حيناً آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي، فصار حاصل المعنى: ذلك بأن الله قادر على نصرهم.
والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلّب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالباً، ويصير ذلك الغالب مغلوباً. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادّة ولا تلزم طريقَة واحدة كقدرة الصناع من البشر. وفيه إدماج التنبيه بأنّ العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.
وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقادٍ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة، ولأنّ الإيمان نور يتجلّى به الحق والاعتقاد الصحيح، فصاحبه كالذي يمشي في النهار، ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل، أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك، ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.
وقوله: {ويولج النهار في الليل} تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية. وتقدم في سورة [آل عمران: 27] {تولج الليل في النهار} وعُطف {وأن الله سميع بصير} على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من عَلم أنه ناصره لا محالة، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}
اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف. ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعَل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نَصْرَهم ولا أنفسَهم يَنصُرون. وهذا على حمل الباء في قوله: {بأن الله هو الحق} على معنى السببية، وهو محمل المفسرين. وسيأتي في سورة لُقمان في نظيرها: أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل}.
والحق: المطابق للواقع، أي الصدق، مأخوذ من حَقّ الشيءُ إذا ثبَت: والمعنى: أنه الحق في الإلهيّة، فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.
وأما القصر في قوله {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل} المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائيّ لعدم الاعتداد بباطللِ غيرها حتى كأنه ليس من الباطل. وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأنّ المقام مقام مناضلة وتوعد، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضاً.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر {تَدْعُون} بالتاء الفوقيّة على الالتفات إلى خطاب المشركين لأنّ الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم. وقرأ البقية بالتحتية على طريقة الكلام السابق.
وعلوّ الله: مستعار للجلال والكمال التام.
والكِبر: مستعار لتمام القدرة، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله {بأن الله يولج الليل في النهار} [الحج: 62] الآية. والمقصود: التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دلّ عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله {إن الإنسان لكفور} [الحج: 66]، أي الإنسان المشرك. وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة. والمناسبة هي ما جرى من أن الله هو الحق وأن ما يدْعُونه الباطل، فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
والخطاب لكلّ من تصلح منه الرؤية لأنّ المرئِيّ مشهور.
والاستفهام: إنكاري، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتدادِ بها منزلة عدم العلم بها، فأُنكر ذلك العدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار.
وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترناً بحرف (لم) الذي يخلّصه إلى المضي، وحكي متعلقه بصيغة الماضي في قوله: {أنزل من السماء ماء} وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدّد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمراً متقرراً ماضياً لا يدّعى جهله.
و {تصبح} بمعنى تصير فإن خَمساً من أخوات (كان) تستعمل بمعنى: صار.
واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأنّ ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضاً مُوجب شكرٍ على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6].
وإنما عبّر عن مصير الأرض خضراء بصيغة {تصبح مخضرة} مع أن ذلك مفرّع على فعل {أنزل من السماء ماء} الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زماناً بعد زماننٍ كما تقول: أنعم فلان عليّ فأروح وأغدو شاكراً له.
وفعل {تصبح} مفرّع على فعل {أنزل} فهو مثبَت في المعنى. وليس مفرّعاً على النفي ولا على الاستفهام، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جوابٌ للنفي إذ ليس المعنى: ألم تر فتصبحَ الأرض. قال سيبويه: «وسألته (يعني الخليل) عن {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فقال: هذا واجب (أي الرفع واجب) وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع: أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اه.
قال في «الكشاف»: «لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه (أي الكلام) إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يَرغبَ له من اتسم بالعلم في علم الإعراب» اه.
والمخضرّة: التي صار لونها الخضرة. يقال: اخضرّ الشيء، كما يقال: اصفرّ الثَمر واحمرّ، واسودّ الأفق: وصيغة افعلَّ مما يصاغ للاتصاف بالألوان.
وجملة {إن الله لطيف خبير} في موقع التعليل للإنزال، أي أنزل الماء المتفرّع عليه الاخضرار لأنه لطيف، أي رفيق بمخلوقاته، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}
الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله: {إن الله لطيف خبير} [الحج: 63] للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض.
وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزّل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها، ولأن هذه لا تتضمن تذكيراً بنعمة.
وجملة {إن الله لهو الغني الحميد} عطف على جملة {له ما في السماوات وما في الأرض}. وتقديم المجرور للدلالة على القصر. أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم، إن جعلتَ القصر إضافياً، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائياً.
ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره، وهو معنى الغِنَى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيهاً على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها.
وأما وصف {الحميد} بِمعنى المحمود كثيراً، فذكره لمزاوجة وصف الغِنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه.
وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصرُ بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقاً لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب: «إني أنا الموت». وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجِب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}
هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقه قوله {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]، فهو من عداد الامتنان والاستدلال، فكان كالتكرير للغرض، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير: فهو الرب الحق.
وجملة {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض} مستأنفة كجملة {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} [الحج: 63].
والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.
والتسخير: تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل، والبقر، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يُعذّر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعَجل، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحْصَى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.
وقد تقدم القول في التسخير آنفاً في هذه السورة. وتقدّم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما، وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير.
وجملة {تجري في البحر بأمره} في موضع الحال من {الفلك} وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغَرق.
وقوله {بأمره} هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحاً لحملها، وأوحى إلى نوح عليه السلام معرفة صنعها، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة اتقانها.
والإمساك: الشدّ، وهو ضد الإلقاء. وقد ضُمّن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى: {إن الله يُمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41] فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر (عن) أو (من).
ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرْضية وحطْمِها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سُنن ونُظم تمنع من تسلط بعضها على بعض، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}
[يس: 40]. فكما سخّر الله للناس ما ظهر عل وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان، وكما سخّر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذرّ الضبط، كذلك سخّر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله {إلا بإذنه} أي تقديره.
ولفظ {السماء} في قوله: {ويمسك السماء} يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كُلاً شاملاً للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علماً كالكواكب السيّارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان.
ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى: أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاماً يمنعها من الخرور على الأرض، فيكون قوله {ويمسك السماء} امتناناً على الناس بالسلامة مما يُفسد حياتهم، ويكون قوله {إلا بإذنه} احتراساً جمعاً بين الامتنان والتخويف، ليكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربّهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض. وقد أشكل الاستثناء بقوله {إلا بإذنه} فقيل في دفع الإشكال: إن معناه إلا يوم القيامة يأذن الله لها في الوقوع على الأرض. ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سُقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها. وفيما جعلنا ذلك احتراساً دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى.
ويجوز أن يكون لفظ {السّماء} بمعنى المطر، كقول معاوية بن مالك:
إذا نزَل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
وقول زيد بن خالد الجهني في حديث «الموطأ»: «صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على إثْر سَماء كانت من اللّيل»، فيكون معنى الآية: أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قَدّر أسبابها، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرّر الناس فكان في إمساك نزوله باطّراد منة على الناس، وكان في تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضاً. فيكون هذا مشتملاً على ذكر نعمتين: نعمة الغيث، ونعمة السلامة من طغيان المياه.
ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ {السماء} الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الرعد: 41]. فالله يُمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء، ويمسك ما فيها من القُوى كالمطر والبرَد والثلج والصواعق من الوقوع على الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب.
فيكون موقع {ويمسك السماء} بعد قوله تعالى: {والفلك تجري في البحر بأمره} كموقع قوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} في [سورة الجاثية: 12- 13].
ويكون في قوله {إلا بإذنه} إدماجاً بين الامتنان والتخويف: فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس، ومنه ما هو مكروه، وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الأخرين وأوجز، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.
والاستثناء في قوله: {إلا بإذنه} استثناء من عموم متعلقات فعل {يمسك} وملابسات مفعوله وهو كلمة {السماء} على اختلاف محامله، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعاً ملابساً لإذن من الله: هذا ما ظهر لي في معنى الآية.
وقال ابن عطيّة: «يحتمل أن يعود قوله {إلا بإذنه} على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عَمَد (أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذاً من قوله تعالى: {بغير عمد ترونها} [الرعد: 2] ونحوه فكأنه أراد: إلا بإذنه فيمسكها» اه. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.
والإذن حقيقته: قول يُطلب به فعل شيء، واستعير هنا للمشيئة والتكوين، وهما متعلّق الإرادة والقدرة.
وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة: البرّ، والبحر، والجوّ.
وموقع جملة {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} موقع التعليل للتسخير والإمساككِ باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.
والرؤوف: صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة، وهي صفة تقتضي صرف الضر.
والرّحيم: وصف من الرحمة، وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}
{
بعد أن أُدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أُعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس، فذُكّر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها، وبأن بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة. وهذا محل الاستدلال، فجملة {وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ} [الحج: 65] لأن صدر هذه من جملة النِعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتناناً واستدلالاً كذلك.
{إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ}
تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المُنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية.
وتوكيد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيلهم منزلة المنكر أنهم كفراء.
والتعريف في {الإنسان} تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم: جمع الأمير الصاغة، أي صاغة بلده، وقوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} [الشعراء: 38]. وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66].
والكفور: مبالغة في الكافر، لأنّ كفرهم كان عن تعنّت ومكابرة.
ويجوز كون الكفور مأخوذاً من كُفر النعمة وتكون المبالغةُ باعتبار آثار الغفلة عن الشكر، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقياً.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}
هذا متصل في المعنى بقوله: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم} [الحج: 34] الآية. وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: {وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 3738] إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله} [الحج: 34] الآية ليبنى عليه قوله: {فلا ينازعنك في الأمر}. فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى، قال النّابغة:
وما هُريق على الأنصاب من جَسَد
............
(أي دم). وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا} [الحج: 34] كما تقدم آنفاً.
فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.
والمنسَك بفتح الميم وفتح السين: اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم. وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في {ناسكوه} منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.
وفي «الموطأ»: «أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه} الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه.
قال الباجي في «المنتقى»: «وهو قول ربيعة». وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.
وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كاففٍ في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل: فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب: لا أعْرِفَنّك تفعل كذا، أي لا تَفْعل فأعرِفك، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه، والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية.
وقال الزجاج: هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج.
واسم {الأمر} هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم، فكان قوله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه} كشفاً لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا. وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله {وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} [الحج: 72]، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.
وقوله {وادع إلى ربك} عطف على جملة {فلا ينازعنك في الأمر}. عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين، وفي حذف مفعول {ادع} إيذان بالتعميم.
وجملة {إنك لعلى هدى مستقيم} تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك. و{على} مستعارة للتمكن من الهدى.
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}
عطف على جملة {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67]. والمعنى: إن تبيّن عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيباً واستهزاء فقل: الله أعلم بما تعملون.
وفي قوله: {الله أعلم بما تعملون} تفويض أمرهم إلى الله تعالى، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجّه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجّة: ولما في نفوسهم من إبطان العناد كقوله تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30].
والمراد ب {ما تعملون} ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل ليُدحضوا به الحق وغير ذلك.
وجملة {الله يحكم بينكم يوم القيامة} كلام مستأنف ليس من المقول، فهو خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وليس خطاباً للمشركين بقرينة قوله {بينكم.} والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.
وما كانوا فيه يختلفون: هو ما عبر عنه بالأمر في قوله {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67].
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله {الله يحكم بينكم يوم القيامة} [الحج: 69]، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلاً على حساب عمله، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.
و {ما في السماء والأرض} يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.
والاستفهام إنكاري أو تقريري، أي أنك تعلم ذلك، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدراً مما تلاقيه منهم.
وجملة {إن ذلك في كتاب} بيان للجملة قبلها، أي يعلم ما في السماء والأرض علماً مفصلاً لا يختلف، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان.
واسم الإشارة إلى العمل في قوله {الله أعلم بما تعملون} أو إلى (مَا) في قوله: {ما كنتم فيه تختلفون} [الحج: 69].
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال: إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة، وإما على الحقيقة، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتاباً لائقاً بالمغيبات.
وجملة {إن ذلك على الله يسير} بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء.
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور. ولك أن تجعلها بياناً لجملة {يعلم ما في السماء والأرض} واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل {يعلم،} أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.
وتقديم المجرور على متعلّقه وهو {يسير} للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}
يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرّع عليها عطف غرض على غرض.
ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالاً من الضمير المرفوع في قوله {جادلوك} [الحج: 68]، والمعنى: جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعدما رأوا من الدلائل، وتتضمن الحال تعجيباً من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.
والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدّد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحفّ بهم والتي ذُكّروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.
و {من دون} يفيد أنهم يُعرضون عن عبادة الله، لأن كلمة {دون} وإن كانت اسماً للمباعَدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره. فكلمة (دون) إذا دخلت عليها (مِن) صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه (دون). فاقتضى أن المضاف إليه غيرُ مشارك في الفعل. فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شؤون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناماً بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلاً.
والسلطان: الحجة. والحجة المنزّلة: هي الأمر الإلهي الوارد على ألْسنة رسله وفي شرائعه، أي يعبدون ما لا يجدون عذراً لعبادته من الشرائع السالفة: وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم، ولم يدّعوا أن نبيئاً أمر قومه بعبادة صنم ولا أن ديناً إلهياً رخص في عبادة الأصنام.
و {ما ليس لهم به علم}، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلاّ عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه. وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأنّ الدليل الشرعي أهمّ.
و {ما} التي في قوله {وما للظالمين من نصير} نافية. والجملة عطف على جملة {ويعبدون من دون الله} أي يَعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام. فالمراد بالظالمين المشركون المتحدّث عنهم، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم، أي كفرهم. وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلاً لأنهم عبدوها رجاء النصر. ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل: وما لا ينصرهم، كقوله تعالى: {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم} [الأعراف: 197].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا}.
عطف على جملة {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} [الحج: 71] لبيان جُرم آخر من أجرامهم مع جُرم عبادة الأصنام، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.
والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله {وإذا تتلى عليهم}.
والمنكر: إما الشيء الذي تُنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسماً، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمُكْرم بمعنى الإكرام. والمَحْملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغَيْظ والغضب عندما يُتلى عليهم القرآن ويُدعون إلى الإيمان. وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثرُه بواطنهم فظهر على وجوههم. كما في قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به. ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو: اشتدّ غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظاً، ونحو قوله: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [النحل: 22].
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.
والخطاب في قوله {تعرف} لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله {بالذين يتلون عليهم آياتنا}.
والتعبير ب {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يكون {تعرف في وجوه الذين كفروا}، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم يُنزّل به سلطاناً، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.
والسُّطُوّ: البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القرآن.
{والذين يتلون} يجوز أن يكون مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37]، أي كذّبوا الرسول.
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.
وجملة {يكادون يسطون} في موضع بدل الاشتمال لجملة {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير}
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمرَ الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.
والتفريع بالفاء ناشئ من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ. ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظاً.
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا}، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار.
والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.
وشرّ: اسم تفضيل، أصله أشرّ: كثر حذف الهمزة تخفيفاً، كما حذفت في خير بمعنى أخير.
والإشارة ب {ذلكم} إلى ما أثار مُنكَرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرّاً عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تُلي عليكم من الآيات فازدادوا غضباً بهذا الذي أنَبّئكم به.
وقوله {النّار} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله {بشر من ذلكم}. والتقدير: شرّ من ذلكم النّارُ.
فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شراً فاعلموا أنه النار.
وجملة {وعدها الله} حال من النّار، أو هي استئناف.
والتعبير عنهم بقوله: {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم.
{وبئس المصير} أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول. ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها، فتكون الجملة تذييلاً لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)}
أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يُعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثَل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها.
والخطاب ب {يا أيها الناس} للمشركين لأنهم المقصود بالردّ والزجر وبقرينة قوله: {إن الذين تدعون} على قراءة الجمهور {تدعون} بتاء الخطاب.
فالمراد ب {الناس} هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن. ويجوز أن يكون المراد ب {الناس} جميعَ الناس من مسلمين ومشركين.
وفي افتتاح السورة ب {يا أيها الناس} وتنهيتها بمثل ذلك شبه بردّ العجز على الصدر. ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بَعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصةِ للخطبة والحَوصلة للدرس.
وضرب المثل: ذِكرهُ وبيانُه؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيهاً بوضع الشيء بشدّة، أي ألقي إليكم مثَل. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {أن يضرب مثلاً ما} في [سورة البقرة: 26].
وبني فعل {ضُرب} بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صُرّح فيها بفاعل ضَرْب المثل نحو قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما} في [سورة البقرة: 26] و{ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً} في [سورة النحل: 75] و{ضرب الله مثلاً رجلاً} في [سورة الزمر: 29] و{ضرب الله مثلاً رجلين} في [سورة النحل: 76]. إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضَرب المثل إلى الله، ونحو قوله: {فلا تضربوا لله الأمثال} في [سورة النحل: 74]. و{ضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} في [سورة يس: 78]، إذ أسند الضرب إلى المشركين، لأنّ المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين:
أحدهما: أن يقدّر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثَل تشبيهاً تمثيلياً، أي أوضح الله تمثيلاً يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكلّ أحد.
والثاني: أن يقدّر الفاعل المشركين ويكون المثَل بمعنى المُماثل، أي جعلوا أصنامهم مُماثلة لله تعالى في الإلهية.
وصيغة الماضي في قوله {ضُرب} مستعملة في تقريب زَمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول، نحو قوله تعالى: {لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً} [النساء: 9]، أي لو شارفوا أن يَتركوا، أي بعد الموت.
وجملة {إن الذين تدعون من دون الله} إلى آخرها يجوز أن تكون بياناً لفعل {ضُرب} على الاحتمال الأول في التقدير، أي بين تمثيل عجيب.
ويجوز أن تكون بياناً للفظ {مثَل} لما فيها من قوله: {تدعون من دون الله} على الاحتمال الثاني.
وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله: {فاستمعوا له} لاسترعاء الأسماع إلى مُفاد هذا المثَل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية، أي استمعوا استماع تَدبّر.
فصيغة الأمر في {استمعوا له} مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني. وضمير {له} عائد على المثَل على الاحتمال الأول لأنّ المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة، وعائدٌ على الضّرب المأخوذ من فعل {ضُرب} على الاحتمال الثاني على طريقة
{اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، أي استمعوا للضرب، أي لما يدلّ على الضرب من الألفاظ، فيقدر مُضاف بقرينة {استمعوا} لأن المسموع لا يكون إلاّ ألفاظاً، أي استمعوا لما يدلّ على ضرب المثل المتعجّب منه في حماقة ضاربيه.
واستعملت صيغة الماضي في {ضُرب} مع أنه لمَّا يُقَلْ لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله: {لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً} [النساء: 9]، أي لو قاربوا أن يتركوا، وذلك تنبيه للسامعين بأن يتهيأوا لتلقي هذا المثل، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها.
والمَثل: شاع في تشبيه حالة بحالة، كما تقدّم في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في [سورة البقرة: 17]، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفيّ ينبئ عنه قوله: {ولو اجتمعوا له} وقوله {لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}. فشُبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكّة بالخصوص بعظماء، أي عند عابديها. وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذّر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب، بلْهَ المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض. وقد دلّ إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأنّ نفي الخلق يقتضي محاولة إيجاده، وذلك كقوله تعالى: {أموات غير أحياء} كما تقدم في [سورة النحل: 21]. ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئاً لم يستطيعوا أخذه منه، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف تُوسم بالإلهية، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بذكر لوازم أركان التشبيه من قوله {لن يخلقوا} وقوله {وإن يسلبهم الذباب شيئاً} إلى آخره، لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية.
وفسر صاحب «الكشاف» المثل هنا بالصفة الغريبة تشبيهاً لما ببعض الأمثال السائرة. وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصاداً منه في الغوص عن المعنى لا ضُعفاً عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جُذَيعُها المحكّك وعُذيقها المرجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلاً بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير.
وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيّاً للتفطّن لما يتلى بعد.
وجملة {إن الذين تدعون} الخ بيان ل {مثل} على كلا الاحتمالين السابقين في معنى {ضرِب مَثل}، فإن المثَل في معنى القول فصحّ بيانه بهذا الكلام.
وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو (إن)، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي (لَن) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر، لأنّ جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأنّ نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئاً يكون فعله من بعد أيسر عليه.
وقرأ الجمهور {تَدْعُون} بتاء الخطاب على أن المراد بالنّاس في قوله: {يا أيها الناس} خصوصَ المشركين. وقرأه يعقوب بياء الغيبة على أن يقصد ب {يا أيها الناس} جميع الناس وأنّهم عُلِموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك. والتقدير: إن الذين يدعون هم فريق منكم.
والذّباب: اسم جمععِ ذبابة، وهي حشرة طائرة معروفة، وتجمع على ذِبّان بكسر الذال وتشديد النون ولا يُقال في العربية للواحدة ذِبّانة.
وذكر الذّباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة. وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى: «فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة» فهو في سياق التعجيز لأنّ الحبّة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة.
وموقع {لو اجتمعوا له} موقع الحال، والواو واو الحال، و(لو) فيه وصلية. وقد تقدّم بيان حقيقتها عند قوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في [سورة آل عمران: 91]. أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه.
والاستنقاذ: مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة.
وجملة {ضعف الطالب والمطلوب} تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل، أي ضعف الداعي والمدعو، إشارة إلى قوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} الخ، أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله.
وهذه الجملة كلام أرسل مثلاً، وذلك من بلاغة الكلام.
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
تذييل للمثل بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله.
والقَدر: العظمة، وفعل قَدر يفيد أنه عامل بقَدره. فالمعنى: ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي. وقد تقدّم تفسيره في قوله {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} في [سورة الأنعام: 91].
وجملة {إن الله لقوي عزيز} تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل. والعدول عن أن يقال: ما قَدرتم الله حقّ قدره، إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضاً بهم بأنّهم ليسوا أهلاً للمخاطبة توبيخاً لهم، وبذلك يندمج في قوله: {إن الله لقوي عزيز} تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم.
وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه لتنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يَجروا على موجَب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة.
والقويّ: من أسمائه تعالى. وهو مستعمل في القدرة على كلّ مراد له. والعزيز: من أسمائه، وهو بمعنى: الغالب لكلّ معاند.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}
لما نفَت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله: {وما للظالمين من نصير} [الحج: 71]، وقوله: {ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73] ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} [الحج: 72]، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] أي يصاحبه، {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاءه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس، أي لا ليكونوا شركاء، فلا جرح أبطلَ قولُه {الله يصطفي من الملائكة رسلاً من الناس} جميعَ مزاعمهم في أصنامهم.
فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمت.
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله {الله يصطفي} دون أن يقول: نصطفي، لإفادة الاختصاص، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه.
والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل: هو يصطفي من الملائكة رسلاً، لأن اسم الجلالة أصله الإله، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريراً للقوّة الكاملة والعزّة القاهرة.
وجملة {إن الله سميع بصير} تعليل لمضمون جملة {الله يصطفي} لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء. وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفَى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصمّاء.
والسميع البصير: كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}
جملة مقرِّرة لمضمون جملة {إن الله سميع بصير} [الحج: 75] وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربَّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.
و {ما بين أيديهم} مستعار لما يظهرونه، {وما خلفهم} هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يُخفيه يجعله وراءه.
ويجوز أن يكون {ما بين أيديهم} مستعاراً لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه، {وما خلفهم} مستعاراً لما مضى وعبَر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.
وضمير {أيديهم} و{خلفهم} عائدان: إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67]، وإما إلى الملائكة والناس. وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.
وبني فعل {تُرجع} إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلاّ بالله تعالى، فهو يُمهل الناس في الدنيا وهو يُرجع الأمور إليه يوم القيامة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين. والتعريف في {الأمور} للاستغراق، أي كل أمر. وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعاً لما قبله من قوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
لما كان خطاب المشركين فاتحاً لهذه السورة وشاغلاً لمعظمها عدَا ما وقع اعتراضاً في خلال ذلك، فقد خوطب المشركون ب {يا أيها الناس} أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم، خُتمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يُصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم.
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال.
والمراد بالركوع والسجود الصلوات. وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله {واعبدوا ربكم} تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين.
والمراد بالعبادة: ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج.
وقوله {وافعلوا الخير} أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة، وحسن المعاملة كصلة الرّحِم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر مكارم الأخلاق، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى.
والرجاء المستفاد من {لعلكم تفلحون} مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى، فهذه حقيقة الرجاء. وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تُحِيل الشكّ على الله تعالى.
واعلم أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} إلى {لعلكم تفلحون} اختلف الأيمّة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن. والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في «الموطأ» و«المدوّنة»، وأبي حنيفة، والثوري.
وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة، وروى الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وفقهاء المدينة، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه. وقال ابن عبد البر في «الكافي»: «ومن أهل المدينة قديماً وحديثاً من يرى السجود في الثانية من الحجّ قال: وقد رواه ابن وهب عن مالك». وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصّل منها شيء»، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب، وكذلك ابن رشد في «المقدمات»: فما نسبه ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب.
وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مِشْرَح
عن عقبة بن عامر قال: " قلت يا رسول الله فُضلت سورة الحجّ لأنّ فيها سجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " اه. قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ليس بالقويّ اه، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعّفه يحيى بن مَعين، وقال مسلم: تركه وكيع، والقطّان، وابن مهدي. وقال أحمد: احترقت كتبه فمن روى عنه قديماً (أي قبل احتراق كتِبه) قُبل.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
{وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}
الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.
ومعنى (في) التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم «دخلت امرأة النارَ في هِرّة» أي لأجل هِرة، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله: «حَبَسَتْها لا هِيَ أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً». وانتصب {حق جهاده} على المفعول المطلق المبيّن للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله: جهادَه الحقّ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدّم حرف (في) كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102].
والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.
والآية أمر بالجهاد، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفاً قوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله} [الحج: 60]، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة.
{هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}
جملة {هو اجتباكم} إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقاً بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.
والاجتباء: الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه. فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع.
وإن حمل قوله {هو اجتباكم} على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظاً فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.
وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110].
وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله ديناً لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. ووصفهِ الدين بالحنيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «بُعِثت بالحنيفيّة السّمحة». والحرج: الضيق، أطلق على عسر الأفعال تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عُرفية كما هنا.
والمِلّة: الدين والشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} في [سورة النحل: 123]. وقوله: {واتبعت ملة آباءي} في [سورة يوسف: 38].
وقوله {ملة أبيكم إبراهيم} زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحْضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا دعوة أبي إبراهيم» أي بقوله: {ربّنا وابْعَث فيهم رسولاً منهم} [البقرة: 129]، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومعلوم أن للإسلام أحكاماً كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب {ملة أبيكم إبراهيم} على الحال من {الدّين} باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم.
ثم إن كان الخطاب موجّهاً إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المُضَرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قِبل الأمهات.
وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحُرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] بزيادة وهو أبوهم.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال: ملّة أبيك إبراهيم.
والضمير في {هو سماكم المسلمين} عائد إلى الجلالة كضمير {هو اجتباكم} فتكون الجملة استئنافاً ثانياً، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم.
و {قبْلُ} إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه.
والاسم الذي أضيف إليه {قبلُ} محذوف، وبني {قبلُ} على الضم إشعاراً بالمضاف إليه. والتقدير: من قبل القرآن. والقرينة قوله {وفي هذا}، أي وفي هذا القرآن.
والإشارة في قوله {وفي هذا} إلى القرآن كما في قوله تعالى: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف: 4]، أي وسماكم المسلمين في القرآن. وذلك في نحو قوله: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] وقوله: {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} [الزمر: 12].
واللاّم في قوله {ليكون الرسول شهيداً عليكم} يتعلّق بقوله {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] أو بقوله {اجتباكم} أي ليكون الرسول، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيداً على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون. ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا، وقدمت شهادة الأمة في آية [البقرة: 143] {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول. فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم، وآية البقرة صُدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ. {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}
تفريع على جملة {هو اجتباكم} وما بعدها، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.
والاعتصام: افتعال من العَصْم، وهو المنع من الضُرّ والنجاةُ، قال تعالى: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله} [هود: 43]، وقال النابغة:
يظل من خوفه الملاحُ مُعتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجد
والمعنى: اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم.
وجملة {هو مولاكم} مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته.
والمولى: السيد الذي يراعي صلاح عبده.
وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير. أي نِعم المدبر لشؤونكم، ونِعم الناصر لكم. ونصير: صيغة مبالغة في النصر، أي نِعم المولى لكم ونِعم النصير لكم. وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم.
وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولايَة الله تعالى وحسن نصره. وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به.
وهذا من براعة الختام، كما هو بَيّن لذوي الأفهام.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}
افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلِّق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل: قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه.
ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمَللِ الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاماً بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خيْر الدنيا، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعداً بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير.
وأكد هذا الخبر بحرف (قد) الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد، فحرف (قد) في الجملة الفعلية يفيد مفاد (إنّ واللام) في الجملة الاسميَّة، أي يفيد توكيداً قويّاً.
ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم كالذي في قوله: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77]، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم، بلْهَ أن يعرفوا اقتراب ذلك؛ فلما أخبروا بأن ما ترجَّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق. فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله، ولعل منه: قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أرِحْنَا بها يا بلال» وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان.
وحُذِف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحاً كاملاً.
والفلاح: الظفَر بالمطلوب من عمل العامل، وقد تقدم في أول البقرة. ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه.
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}
إجراء الصفات على {المؤمنون} [المؤمنون: 1] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم. وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ} [المدثر: 42 46] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور.
والخشوع تقدم في قوله تعالى: {وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} في سورة البقرة (45) وفي قوله: {وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} في سورة الأنبياء (90). وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولا شك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح.
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته. وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له. وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها.
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين.
وتقديمُ في صلاتهم} على {خاشعون} للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقاً شديداً بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص. فلو قيل: الذين إذا صلوا خشعوا، فات هذا المعنى، وأيضاً لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو: كانوا خاشعين. وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ، أي كون الخشوع خُلقاً لهم بخلاف نحو: الذين خشعوا، فحصل الإيجاز، ولم يفت الإعجاز.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}
العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو:
إلى المَلِككِ القرْم وابننِ الهُمام
وليث الكتيبة في المزدحم
وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم.
والقول في تركيب جملة {هم عن اللغو معرضون} كالقول في {هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2]، وكذلك تقديم {عن اللغو} على متعلقه.
وإعَادَةُ اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع.
واللغو: الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} في البقرة (225)، وقوله: {لا يسمعون فيها لغواً} في سورة مريم (62).
والإعراض: الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العُرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو، وتقدم عند قوله: {فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء (63)، وقوله: {وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام (68)، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وقال تعالى: {وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِراماً} [الفرقان: 72]. ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يَلْغُوا في كلامهم.
وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصْل الدعاء، وهو من الأقوال الصالحة، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية، فكان الإعراض عن اللغو بمعنَيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور، وفي الحديث «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم».
والإعراض عن جنس اللغو من خُلق الجِدِّ ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلاّ الأعمال النافعة، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العَدل شيئاً فاستراح العواذل
والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله.
واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير، فالإعراض عن لغوهم رَبْءٌ عن التسفل معهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}
أصل الزكاة أنها اسم مصدر (زكَّى) المشدّد، إذا طهَّرَ النفس من المذمات. ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازاً لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي. فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب. وأصله قوله تعالى: {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب {فاعلون} المقتضي أن الزكاة مفعول. وأما المصدر فلا يكون مفعولاً به لفعل من مادة (ف. ع. ل) لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبْهم ونصببِ مصدره على المفعوليَّة به. فلو قال أحد: فعلت مشياً، إذا أراد أن يقول: مَشَيْتُ، كان خارجاً عن تركيب العربية ولو كان مفيداً، ولو قال أحد: فعلت ممَّا تريده، لصح التركيب قال تعالى: {مَن فعلَ هذا بآلهتنا} [الأنبياء: 59]، أي هذا المشاهَد من الكَسْر والحطم، أي هذا الحاصل بالمصدر. وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غَيْبَةِ فاعله.
والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله {ويؤتون الزكاة} [المائدة: 55] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة.
وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو {فاعلون} لأن مادة (ف ع ل) مشتهرة في إسداء المعروف، واشتق منها الفَعال بفتح الفاء، قال محمد بن بشير الخارجي:
إن تنفق المال أو تكلَفْ مساعيَه *** يَشْقُقْ عليك وتفعل دون ما فعلا
وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السَّنَة الأز *** مة والفاعلون للزكوات
أنشده في «الكشاف». وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلاّ من مصطلحات القرآن، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء. قال ابن قتيبة في كتاب «الشعر والشعراء» «وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب».
واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيَّة وبالتأخير عن معموله.
وقال أبو مسلم والراغب: اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس. ومعنى {فاعلون} فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول {فاعلون} بدلالة علته عليه.
وفي «الكشاف» أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي، أي إعطاء الزكاة وهو الذي يحسن أن يتعلق ب {فاعلون} لأنه ما من مصدر إلاّ ويعبر عن معناه بمادة فَعَلَ فيقال للضارب: فَاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل. وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلَّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف، وكلا الاعتبارين غير ملتزَم.
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعتَ آنفاً.
وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال. والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفاً.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}
الحفظ: الصيانة والإمساك. وحفظ الفرج معلوم، أي عن الوطء، والاستثناء في قوله: {إلاّ على أزواجهم} الخ استثناء من عموم متعلَّقات الحفظ التي دلّ عليها حرف {على}، أي حافظونها على كل ما يُحفظ عليه إلاّ المتعلَّق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فضمن {حافظون} معنى عدم البذل، يقال: احفظ علي عنان فرسي كما يقال: أمسكْ عليّ كما في آية {أمسِكْ عَلَيْكَ زَوجك} [الأحزاب: 37]. والمراد حِل الصنفين من بين بقية أصناف النساء. وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بَيْنَهُ. وتفاصيل الأحوال من حال حِل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين، وكذلك في الإماء.
والتعبير عن الإماء باسم {ما} الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لا يحتَاج معه إلى تأويل.
وقوله: {فإنهم غير ملومين} تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضاً لا يوجب اللوم الشرعي، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون.
والفاء في قوله: {فإنهم غيرُ ملومين} تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرئ بالفاء تحقيقاً للاشتراط.
وزيد ذلك التحذير تقريراً بأن فرع عليه {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعيَّة يُخشى أن تتغلَّب على حافظها، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله: {إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} أي وراء الأزواج والمملوكات، أي غير ذينك الصّنفين.
وذُكرَ حفظ الفرج هنا عطفاً على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو تركَ اللغو بالأحرى كما تقدم آنفاً؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أُودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة. وفي الحديث: «من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أضمن له الجنَّة».
واللوم: الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف.
و {وراء} منصوب على المفعول به. وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيهاً للمتجاوز الشيءَ بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بَيْنَ يَديْه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال: هو وراء الحد، ولو كان مستقبله. ثم توسع فيه فصار بمعنى (غير) أو (مَا عدا) كما هنا، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئاً غير الأزواج وما ملكت أيمانهم.
وأتي لهم باسم الإشارة في قوله: {فأولئك هم العادون} لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهوراً مقرراً كقوله تعالى: {وأولئك هم المتقون} في سورة البقرة (177)، والعادي هو المعتدي، أي الظالم لأنه عدا على الأمر.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مرّ.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}
هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلىَ فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد.
فالأمانة تكون غالباً من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمِننِ والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عَرِيّاً عن الإشهاد تبعث محبتها الأمينَ على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان.
وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليَمَان قال «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فَيَظَلّ أثَرُها مثل أثر الوكْت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دَحرجتَه على رِجلك فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» اه.
الوكت: سواد يكون في قِشر التمر. والمَجْل: انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قِشر العِنبة ينشأ من مس النار الجلدَ ومن كثْرة العمل باليد وقوله: «مثقال حبة خردل من إيمان» هو مصدر آمنَه، أي ومَا في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيَّاه فلا يأتمنه إلاّ مغرور.
وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تُؤَدوا الأماناتتِ إلى أهلها} في سورة النساء (58). وجمع {الأمانات باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصاً على العموم.
وقرأ الجمهور: لأماناتهم} بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير {لأمانتهم} بالإفراد باعتبار المصدر مثل {الذين هم في صَلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2].
والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به. وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} في سورة البقرة (27).
والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرأيْننِ قد يلتزم كل منهما للآخر عملاً عظيماً فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الإلتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملاً لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الخَتْر بالعهد شحّاً أو خوراً في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى:
{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34].
والرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رَعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على مَا يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة. والقائم بالرعي رَاع.
فرعي الأمانة: حفظها، ولما كان الحفظ مقصوداً لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها. ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة.
والقول في تقديم {لأماناتهم وعهدهم} على {راعون} كالقول في نظايره السابقة، وكذلك إعادة اسم الموصول.
والجمع بين رعْي الأمانات ورعْي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد.
وذِكْرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال، ولذلك سُميت: حقّ الله، وحق المال، وحق المسكين.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}
ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيَّة كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238] وتقدّم معنى الحفظ قريباً.
وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصاً على العموم.
وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2] لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعاً للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمالُ الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.
وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويهاً بها، ورداً للعجز على الصدر تحسيناً للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولاً لسماعها ووعيها فتتأسى بها.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.
وقرأ الجمهور {على صلواتهم} بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {على صلاتهم} بالإفراد.
وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تُراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.
فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} [النور: 39].
ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.
وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غيرَ مستحضر خشوعاً لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبتُه ربَّه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.
وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عَننِ اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك. وفي الإعراض عن اللغو خُلُق للسمع أيضاً كما علمتَ.
وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح {ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16].
وذكرت حفظ الفرج، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخُلقاً.
وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.
وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.
وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقاً راسخاً.
وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.
فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعللِ والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.
روى النسائي: أن عائشة قيل لها: كيف كان خُلق رسول الله؟ قالت: كان خُلقه القُرآن. وقرأت: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] حتى انتهت إلى قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون}. وقد كان خُلق أهل الجاهليَّة على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالباً، قال تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مُكاءً وتصديةً} [الأنفال: 35]، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55]، وقال: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6، 7]، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليَّة.
{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد اسمُ الإشارة أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلتْ من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] بعد قوله: {هدًى للمتقين} إلى آخره في سورة البقرة (2). والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك، وحذف معمول {الوارثون} ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله: {الذين يرثون الفردوس} قصداً لتفخيم هذه الوراثة، والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوماً للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف {الوارثون} تعريف العهد كأنه قيل: هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به.
واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لأن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال، قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72].
والفردوس: اسم من أسماء الجنَّة في مصطلح القرآن، أو من أسماء أشرف جهات الجنات، وأصل الفردوس: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سُراقة لمّا أصابه سهم غرب يوم بدر فقتله، وقالت أمّه: إن كان في الجنَّة أصبِرْ وأحتسِبْ فقال لها: " ويْحَككِ أهَبِلْتِ أوَ جَنَّةٌ واحدَةٌ هي، إنَّها لجِنان كثيرة وإنه لفي الفردوس ".
وقد ورد في فضل هذه الآيات حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أُنْزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] حتى ختم عشر آيات " قال ابن العربي في «العارضة»: قوله: {الذين يرثون الفردوس} هي العاشرة، رواه الترمذي وصححه.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}
الواو عاطفة غرضاً على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية، ويتضمن ذلك امتناناً على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليَظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جَروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقاً غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرككِ.
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعًى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم.
والخَلق: الإنشاء والصنع، وقد تقدم في قوله: {قال كذلك الله يخلق ما يشاء} في آل عمران (47). والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوعَ الإنساني، وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس. وضمير {جعلناه} عائد إلى الإنسان.
والسّلالة: الشيء المسلول، أي المنتَزع من شيء آخر، يقال: سَللت السيف، إذا أخرجته من غمده، فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة.
و {من} ابتدائية، أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما.
وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل (الأنثيين) تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طيننٍ.
وقوله {ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين} طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم. سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين.
ف {نطفةً} مَنصُوبٌ على الحال وقوله: {في قرار مكين} هو المفعول الثاني ل {جعلناه}. و{ثم} للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير {جعلناه} عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى: جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظاً لها، ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي ب (في) بمعنى الوضع.
والقرار في الأصل: مصدر قَرّ إذا ثبت في مكانه، وقد سمي به هنا المكان نفسُه. والمكين: الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيءُ الحالّ في المكان الثابت فيه. وقد وقع هنا وصفاً لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة، وحقيقتُه مكين حالُّه، وقد تقدم قوله تعالى: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة} في سورة الكهف (37) وقوله: {فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة} في سورة الحج (5).
ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله: ولقد خلقنا الإنسان} آدم. وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينَةَ الخاصةَ التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة، فتلك الطينة مسْلولة سلاّ خاصّاً من الطين ليتكوّن منها حيٌّ، وعليه فضمير {جعلناه نطفة} على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلاً لآدم فيكون في الضمير استخدام، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى: {وبدَأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} [السجدة: 7، 8].
وحرف (ثم) في قوله: {ثم خلقنا النطفة علقة} للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم.
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم، والعلقة: قطعة من دم عاقد.
والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ. وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين.
وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة.
وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم، وقد دل عليه قوله: {فكسونا العظام لحماً} بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف {فخلقنا المضغة} بالفاء.
فمعنى {فَكَسَوْنا} أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ» الحديث، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء.
وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب (ثم) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب (ثم).
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً، وفي «شرح الموطأ»: «تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر: ما هذه المناجاة؟ فقال أحدهما: إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال علي: لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية، فقال عُمرُ لعليّ: صدقت أطال الله بقاءك». فقيل: إن عمر أول من دعا بكلمة «أطال الله بقاءك».
وقرأ الجمهور {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام} بصيغة جمع {العظام} فيهما. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {عظماً.. والعَظْمَ} بصيغة الإفراد.
وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه {أحسن الخالقين} أي أحسن المنشئين إنشاءً، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة.
وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال: كسرته فتكسر، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في «شرح الشافية»، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو: تثنَّى. وتكبَّرَ، وتشامخ، وتقاعس. فمعنى {تبارك الله} أنه موصوف بالعظمة في الخير، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم.
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن {تبارك} لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره. وكذلك حذف متعلق {الخالقين} يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}
إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك. و{ثم} للترتيب الرتبي لأن أهميَّة التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهميَّة ذكر الخَلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} وهو المقصود. فهو كقوله: {الذي خلق الموت والحياة ليبلُوكم أيكم أحسن عملاً} [الملك: 2]. وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17]. ولكون {ثم} لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك. والإشارة إلى الخلق المبين آنفاً، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المُحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيرهُ إلى الفساد والاضمحلال. وأكد هذا الخبر ب (إن) واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون.
وتوكيد خبر {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} لأنهم ينكرون البعث. ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلاً على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خَلق جديد} [ق: 15]، فلم يحتج إلى تقوية التأكيد بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قوياً.
ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}
انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب، فالجملة عطف على جملة {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون: 12] وإنما ذكر هذا عقب قوله: {ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون} [المؤمنون: 16] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان: 38 40].
والطرائق: جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى: {والسماء والطارق} [الطارق: 1] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له: طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى: خلقنا سيَّارات وطرائقها.
وذِكر {فوقكم} للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها.
ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة {وما كنا عن الخلق غافلين} المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان، فالواو في جملة {وما كنا عن الخلق غافلين} للحال، والجملة في موضع الحال، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22].
والخلق مفعول سمي بالمصدر، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لِمَا خلقت له لطفاً بالناس أيضاً إذ كان نظام خلقها صالحاً لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال: {وهو الذي جعل لكمُ النجوم لِتَهْتَدُوا بها في ظُلُمَاتتِ البر والبحر} [الأنعام: 97]. وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد، فصار المعنى: خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعْيَ مصالحكم أيضاً.
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {وما كنا عن الخلق غافلين} دون أن يقال: وما كنا عنكم غافلين، لما يفيده المشتق من معنى التعليل، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيَّة، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)}
مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرايق} [المؤمنون: 17] أن ماء المطر ينزل من صوب السماء، أي من جهة السماء.
وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة، وفي ذلك أيضاً منة على الخلق فالكلام اعتبارٌ وامتنان من قوله: {فأنشأنا لكم به جنات} إلى آخره. ومعنى هذه الآية تقدّم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل.
وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماءً وثَلجاً وبَرَداً على السهول والجبال.
والقدَر هنا: التقدير والتعيين للمقدار في الكَمّ وفي النَّوبة، فيصح أن يحمل على صريحه، أي بمقدار معيَّن مُناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب، وكذلكَ ذَوَبان الثلوج النازلة. ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان. وليس المراد بالقَدَر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " وتؤمن بالقَدر خيرِه وشره ".
والإسكان: جعل الشيء في مسكن، والمسكن: محل القرار، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون.
وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة. وهذا الإقرار على نوعين: إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدةُ الحرارة أو شدةُ البرد، وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض.
ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تُفَجَّر بالحفر آباراً.
وجملة {وإنا على ذهاب به لقادرون} معتَرضة بين الجملة وما تفرع عليها. وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام
وتنكير {ذهاب} للتفخيممِ والتعظيم. ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه، ومن تجفيفه بشدة الحرارة، ومن إمساك إنزاله زمناً طويلاً.
وفي معناه قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمَن يأتيكم بماء معين} [الملك: 30]، وفي «الكشاف»: «وهو (أي ما في هاته الآية) أبلغ في الإيعاد من قوله: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غَوراً فمن يأتيكم بماء معين} [الملك: 30] اه. فبيَّن صاحب «التقريب» للأبلغيَّة ثمانية عشر وجهاً:
الأول: أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع.
الثاني: التوكيد ب (إنّ).
الثَّالث: اللام في الخبر.
الرابع: أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم.
الخامس: أن الغائر قد يكون باقياً بخلاف الذاهب.
السادس: ما في تنكير {ذهاب} من المبالغة.
السابع: إسناده ههنا إلى مُذهِب بخلافه ثَمَّت حيث قيل {غَوراً} [الملك: 30].
الثامن: ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة.
التاسع: ما في {قادرون} من الدلالة على القدرة عليه والفعلُ الواقع من القادر أبلغ.
العاشر: ما في جمعه.
الحادي عشر: ما في لفظ {به} من الدلالة على أن ما يُمسكه فلا مُرسل له.
الثاني عشر: إخلاؤه من التعقيب بإطماععٍ وهنالك ذكر الإتيان المطمع.
الثالث عشر: تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلّق له أو متعلقُهُ على المذهبين البصري والكوفي.
الرابع عشر: ما بين الجملتين الاسميَّة والفعليَّة من التفاوت ثباتاً وغيره.
الخامس عشر: ما في لفظ {أصبح} [الملك: 30] من الدلالة على الانتقال والصيرورة.
السادس عشر: أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام.
السابع عشر: أن هنالك نفي ماء خاص أعني المَعين بخلافه ههنا.
الثامن عشر: اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكداً.
وزاد الألوسي في «تفسيره» فقال:
التاسع عشر: إخباره تعالى نفسُه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك.
العشرون: عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك.
الحادي والعشرون: التشبيه المستفادُ من جعل الجملة حالاً فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمتَ.
الثاني والعشرون: إسناد القدرة إليه تعالى مرتين.
ونقل الألوسي عن عصريِّه المولى محمد الزهاوي وجوهاً وهي:
الثالث والعشرون: تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن (ذهب به) يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك.
الرابع والعشرون: أنه ليس الوقت للذهاب معيّناً هنا بخلافه في {إن أصبح} [الملك: 30] فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي (أصبح) ناقصاً.
الخامس والعشرون: أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل (أي ما دل عليه لفظ غوراً).
السادس والعشرون: أن الإيعاد هنا بما لم يبتَلوا به قط بخلافه بما هنالك.
السابع والعشرون: أن الموعدَ به هنا إن وقع فهم هالكون البتة.
الثامن والعشرون: أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفاً في تأميل امتناع الموعَد به وهناك حيث أسند الإصباح غوراً إلى الماء، ومعلوم أن الماء لا يصبح غوراً بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم، أيضاً احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنِعة المقدّم فيأمنوا وقوعه.
التاسع والعشرون: أن الموعَد به هنا يحتمل في بادئ النظر وقوعه حالاً بخلافه هناك فإن المستقبل متعيِّن لوقوعه لمكان (إنْ). وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون.
الثلاثون: أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بُعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه: إن أصبح ماؤكم غوراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى.
وأنا أقول: عُنِي هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرّض أحدهم للكشف عن وجه توفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها، وليس ذلك لِخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجزِ الناظرين عن استخراج أمثالها، ولكن ما يبيّن من الخصائص البلاغيَّة في القرآن ليس يُريد من يبينه أن ما لاح له ووُفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكنه مبلغ ما صادف لَوحُه للناظر المتدبر، والعلماءُ متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغيَّة في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها. وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجاً لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات أخرى كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءَك} [هود: 44] الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من «المفتاح»، وأنه قال في منتهى كلامه «ولا تظنَّنَّ الآية مقصورة على ما ذكرتُ فلعل ما تركتُ أكثرُ مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلاّ الإرشادَ لكيفيَّة اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان».
وقد نقول: إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة، وأما آية سُورة المُلك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيَات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نَصل إليها.
على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتُفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسَلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها.
وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضاً من صنع الله بمَا أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بُعد فكل هذا الإنشاء من الله تعالى.
والجنَّة: المكان ذو الشجر، وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكَرْم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كمثَل جنة بربوة} الآية في سورة البقرة (265).
وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمراً وهو النخيل والأعناب والزيتون، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة الأنعام (99) وفي سورة النحل (11).
والفواكه: جمع فاكهة، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت، فإن قُصد به القوت قيل له طَعام.
فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمْر والعِنب لأنه يؤكل رطباً ويابساً، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منَّة بالحاجيِّ والتحسيني.
ووصف الفواكه ب {كثيرة} باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر، وكالزيت والعنب الرّطْب، وأيضاً باعتبار كثرة إثمار هذين الشجَريْن.
{وشَجَرَةً} عطف على {جنَّات} أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، وجملة {تخرج} صفة ل {شجرة} وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاماً وإصلاحاً ومداواة، ومن أعوادها وَقود وغيره، وفي الحديث «كلوا الزيت وادَّهِنوا به فإنَّه من شجرة مباركة».
وطور سيناء: جبل في صحراء سيناء الواقعَةِ بينَ عقبة أيلة وبين مصر، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف (143) عند قوله: {ولكن انظر إلى الجبل} وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة، وطورُ سيناء أو طور سينين. ومعنى الطور الجبل. وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك. وقيل اسم حجارة. وقيل هو اسم لذلك المكان، قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح. وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحَسَن في اللغة الحبشيَّة وهو كلمة سَناه، ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطاً.
وسُكنت ياء سيناء} سكوناً ميِّتا وبه قرأ الجمهور. ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكوناً حياً، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهو في القراءتين ممدود، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلميَّة والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فِعْلاء إذا كان عينه أصلاً لا تكون ألفه للتأنيث بل للإلحاق وألف الإلحاق لا تمنع الصرف، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فَعْلاء من أوزان ألف التأنيث.
وقوله: {تخرج من طور سيناء} يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطُور سيناء. وقد غمض وجه ذاك. والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى: {فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه: 53] وقوله: {يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه} [الزمر: 21]، وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازماً لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوماً بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوباً فيه. وهي استعارة شائعة في القرآن.
فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لا بد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال، وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون.
ثم إن البشر إذا نقلوا حيواناً أو نباتاً من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غيرِ فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة بَرد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يَتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلاً في بعض المناطق غير الملايمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة، فلعل جَوّ طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرّاً وبَرداً ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى: {زيتونة لاَ شرقية ولا غربيَّة} [النور: 35]، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال: {خلقَ الإنسانَ من صلصال} [الرحمن: 14] ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض.
وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعدَه. ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين: أن نوحاً أرسل حمامة تبحث عن مكان غِيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض. ومعلوم أن ابتداء غَيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء.
وأيّاً مَّا كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة من قبل الطوفان. ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلاّ في عهد موسى عليه السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى، وسَكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهناً لبني إسرائيل.
ويجوز أن يكون معنى {تخرج} تظهر وتُعرف، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء. وهذا كما نسمّي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمَشْرَفِيَّةِ لأنَّها عرفت من مَشارف الشام، وبعض الرماح الخَطيةَ لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له: الخَط، وبعض السيوف بالمهنَّد لأنَّه يجلب من الهند، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين.
وأيّاً مَّا كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلاّ التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلاّ فإن الامتنان بها لم يكن موجهاً يومئذٍ لسكان طور سيناء، وما كان هذا التنبيه إلاّ للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس. ورأيت في «لسان العرب» عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح: أن كل زيتونة بفلسطين فهي من غرس أمم يقال لهم اليونانيون اه. والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجاراً قديمة بادتْ.
وفي أساطير اليونان (ميثولوجيا) أن منيرفا ونَبْتُون (الربين في اعتقاد اليونان) تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسماً لمدينة بناها (ككرابيس) فحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلاّ من يصنع أنفع الأشياء. فأما (نبتون) فأوجد فرساً بحرياً عظيم القوة، وأما (مينيرفا) فصنَعت شجرة الزيتون بثمرتها، فحكم الأربابُ لها بأنها أحق، فلذلك وضعُوا للمدينة اسم (أثينا) الذي هو اسم منيرفا. وزعموا أن (هيركول) لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل (أولمبُوس) وهو مسكن آلهتهم في زعمهم.
فقد كان زيت الزيتون مستعملاً عند اليونان من عهد (هوميروس) إذ ذكر في الإلياذة أن (أخيل) سكب زيتاً على شلو (فطر قليوس) وشلو (هكتور).
وكان الزيت نادراً في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام.
وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلاً لنوره في قوله: {مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يُوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تَمْسَسْهُ نارٌ نورٌ على نور} [النور: 35].
والتعبير بالمضارع في قوله: {تخرج من طور سيناء} لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة بالنبات في طور سيناء، وذلك كقوله: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} [المائدة: 110]، وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى {تخرج من طور سيناء}.
ومعنى {تنبت بالدهن} أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة.
وهذه الآية مثال لباء الملابسة، والملابسة معنى واسع، فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبْغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ، فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهناً وصبغاً للآكلين، فأما كونه دهناً، فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجِّلون به شعورهم ويجعلون فيه عطوراً فيرجلون به الشعور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدَّهن بالزيت في رأسه.
والدّهن بضم الدال: اسم لما يدهن به، أي يطلَى به شيء، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يُطلَى به الجسد للتداوي والشَّعَر للترجيل.
والصِّبغ، بكسر الصَّاد: ما يصبغ به أي يُغير به اللَّون. ثم تُوسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم مَّا، ومنه قوله تعالى: {صبْغةَ الله} [البقرة: 138]. وسمي الزيت صبغاً لأنه يصبغ به الخبز. وعَطفُ {صِبغ} على {الدهن} باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادّة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن به والصبغ أخص؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام، وكانوا يأدِمون به الطعام وذلك صبغ للطعام، أخرج الترمذي في «سننه» عن عمر بن الخطاب وعن أبي أُسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُلُوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة ". وقرأ الجمهور {تَنبُت} بفتح التاء وضَم الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورُويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول: أنبت بمعنى نبت أو على حذف المفعول، أي تُنبت هي ثَمرها، أي تخرجه.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}
هذا العطف مثل عطف جملة {وأنزلنا من السماء} [المؤمنون: 18] ففيه كذلك استدلال ومنة.
والعبْرة: الدليل لأنه يُعبر من مَعرفته إلى معرفة أخرى. والمعنى: إن في الأنعام دليلاً على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم. والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.
وجملة {نسقيكم مما في بطونها} بيان لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.
والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه {نسقيكم}. وأما {نسقيكم} بمجردة فهو منة. وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلاً في سورة النحل (66).
وجملة {ولكم فيها منافع كثيرة} وما بعدها معطوفة على جملة {نسقيكم مما في بطونها} فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجُمل بعده. وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنَّتاج.
وأما الأكل منها فهو عبرة أيضاً إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شَيِّهَا وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.
وكذلك القول في معنى {وعليها.. تحملون} فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة، والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون، وقرأه الباقون عدا أبا جعْفر بضم النون يقال: سقاه وأسقاه بمعنى، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام.
وعَطف {وعلى الفلك} إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}
لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدماً موجهيْن إلى المشركين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثْلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب أن يضرب لهم بقوم نوح مثلٌ تحذيراً مما أصاب قوم نوح من العذاب، وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص، فيعتبر ذكر قصص الرسل إما استطراداً في خلال الاستدلال على الوحدانيَّة، وإمَّا انتقالاً كما سيأتي عند قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار} [المؤمنون: 78].
وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عُقِّب به ذلك.
وعطف مقالة نوح على جملة إرساله بفاء التعقيب لإفادة أدائه رسالة ربه بالفور من أمْره وهو شأن الامتثال.
وأمْرُهُ قومَه بأن يعبدوا الله يقتضي أنهم كانوا معرضين عن عبادة الله بأن أقبلوا على عبادة أصنامهم (وُدّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر) حتى أهملوا عبادة الله ونسوها. وكذلك حكيت دعوة نوح قومه في أكثر الآيات بصيغة أمر بأصل عبادة الله دون الأمر بقصر عبادتهم على الله مع الدلالة على أنهم ما كانوا ينكرون وجود الله ولذلك عقب كلامه بقوله: {ما لكم من إله غيره}.
ويدل على هذا قولهم: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} فهم مثبتون لوجود الله، فجملة {ما لكم من إله غيره} في موقع التعليل للأمر بعبادته وهو تعليل أخص من المعلَّل، وهو أوقع لما فيه من الإيجاز لاقتضائه معنى: اعبدوا الله وحده. فالمعنى: اعبدوا الله الذي تركتم عبادته وهو إلهكم دون غيره فلا يستحق غيرُه العبادة فلا تعبدوا أصنامكم معه.
و {غيرهُ} نعت ل {إله}. قرأه الجمهور بالرفع على اعتبار محل المنعوت ب (غير) لأن المنعوت مجرور بحرف جر زائد، وقرأه الكسائي بالجر على اعتبار اللفظ المجرور بالحرف الزائد.
وفرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهامُ إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى. وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30). فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين:
أحدهما: أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح.
والثاني: ليُفاد أنهم أسرعوا بتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر. ووصفُ الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نُهوض له ولكنهم روّجُوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم.
وقوله: {من قومه} صفة ثانية.
وقول الملأ من قومه: {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} خاطب به بعْضُهُم بعضاً إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشَّارة، أي فقال عظماء القوم لعامتهم.
وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليللٍ من ذاته، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة. واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله، وقد تقدم نظير هذا في سورة هود.
وزادت هذه القصة بحكاية قولهم: {يُريد أن يتفضل عليكم} فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلاّ حباً في أن يَسُود على قومهم فَخَشُوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم.
فلما كانت مطامح أنفسهم حبّ الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم.
والتفضل: تكلف الفَضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال.
وقولهم: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} عطف على جملة {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولاً لله، وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب (لو)، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رُسُلاً، وحَذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة، وذلك من الإيجاز، ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب «المفتاح»: ألا ترى قول المعري:
وإن شئت فازعُم أنّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستشهِدْ إلهك يَشْهَدِ
وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكرَ مفعول المشيئة. فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط.
وجملة {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين} مستأنفة قَصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيهاً على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لها قبلها، بخلاف أسلوب عطف جملة: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} إذ كان مضمونُها من تمام غرض ما قبلها.
فالإشارة ب {هذا} إلى الكلام الذي قاله نوح، أي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه، وهو استعمال شائع. ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمناً تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية.
والآباء الأولون هم الأجداد.
ولما كان السماع المنفي ليس سماعاً بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عُدّي فعل {سمعنا} بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء، وهو مجادلة سفسطائيَّة إذ قد يكون انتفاءُ العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحاً فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.
وجملة {إنْ هو إلاّ رجلٌ به جِنَّة} استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يَتَساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فماذا دعاه إلى القول بها؟ فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثلُه من التفضل على الناس كلهم بنِسْبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون.
والتنوين في {جِنَّة} للنوعية، أي هو متلبس بشيء من الجنون، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنوناً خفيفاً لا يبدو آثاره واضحةً.
وقصروه على صفة المجنون وهو قصر إضافيّ، أي ليس برسول من الله.
وفرعوا على ذلك الحكم أمراً لقومهم بانتظار ما ينكشف عنه أمره بعد زمانٍ: إمَّا شِفاء من الجِنَّة فيرجع إلى الرشد، أو ازدياد الجنون به فيتضح أمره فتعلموا أن لا اعتداد بكلامه.
والحين: اسم للزمان غير المحدود.
والتربص: التوقف عن عمل يُراد عمله والتريثُ فيه انتظاراً لما قد يغني عن العمل أو انتظاراً لفرصة تُمكِّن من إيقاعه على أتقن كيفية لنجَاحه، وهو فعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بالباء التي هي للتعدية ومعناها السببية، أي كان تربص المتربص بسبب مدخول الباء. والمراد: بسبب ما يطرأ عليه من أحوال، فهو على نية مضاف حذف لكثرة الاستعمال، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويتربَّصُ بِكُمُ الدوائرَ} في سورة براءة (98) فانظره مع ما هنا.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال مَن يسأل عمَّاذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال: {رب انصرني} الخ.
ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عَدّ فعلَهم معه اعتداءً عليه بوصفِه رسولاً من عند ربه.
والنصر: تغليب المعتدَى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصراً مجملاً كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلاّ مَن آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتِّباع ملته، فسأل نوح حينذاك نصراً خاصاً وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح (26، 27) {وقال نوح ربّ لا تَذَرْ على الأرض من الكافرين دَيَّاراً إنك إن تَذَرهمُ يُضِلّوا عبادك. فالتعقيب الذي في قوله تعالى هنا: فأوحينا إليه} تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت، وهو إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى: {أن أضربْ بعصاكَ البَحْرَ فانفلق} الخ في سورة الشّعراء (63).
والباء في بما كَذّبون} سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء، أي نصراً كائناً بسبب تكذيبهم، فجعل حظ نفسهِ فيما اعتدوا عليه مُلغىً واهتم بحظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله.
وجملة {أن اصنع} جملة مفسره لِجملة {أوحينا} لأن فعل {أوحينا} فيه معنى القول دون حروفه، وتقدم نظير جملة {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} في سورة هود (37).
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوُقِّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان.
وتقدم الكلام على معنى {فار التنور} ومعنى {زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} في سورة هود (40).
والزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شَفعا في حالة مَّا. وتقدم في سورة هود.
وإنما عبر هنالِك بقوله: {قلنا احمل فيها} [هود: 40] وهنَا بقوله: {فاسلُك فيها} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.
ومعنى {اسلك} أدخِل، وفعل (سلك) يكون قاصراً بمعنى دخل ومتعدياً بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَر} [المدثر: 42]. وقول الأعشى:
كما سلَك السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ ***
وتقدم الكلام على مثل قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} في سورة هود (37).
وقرأ الجمهور {من كل زوجين} بإضافة {كل} إلى {زوجين}. وقرأه حفص بالتنوين {كلَ} على أن يكون {زوجين} مفعولَ {فاسلك}، وتنوين {كل} تنوين عوض يُشعرُ بمحذوف أضيف إليه {كل}. وتقديره: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}
الاستواء: الاعتلاء. وتقدم عند قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} في سورة الأعراف (54).
وإطلاق الاستواء على الاستقرار في داخل السفينة مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق وإلا فحقيقة الاستقرار في الفلك أنه دخول. وأُتي بحرف الاستعلاء دون حرف الظرفية لأنه الذي يتعدى به معنى الاعتلاء إيذاناً بالتمكن من الفلك فهو ترشيح للمجاز.
والتنجية من القوم الظالمين: الإنجاء من أذاهم والكوننِ فيهم لأن في الكون بينهم مشاهدة كفرهم ومناكرهم وذلك مما يؤذي المؤمن.
والظلم: يجوز أن يراد به الشرك كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ويجوز أن يراد به الاعتداء على الحق لأن الكافرين كانوا يؤذون نوحاً والمؤمنين بشتَّى الأذى باطلاً وعدواناً وإنما كان ذلك إنجاء لأنهم قد استقلوا بجماعتهم فسلموا من الاختلاط بأعدائهم.
وقد ألهمه الله بالوحي أن يحمَد ربه على ما سَهَّل له من سبيل النجاة وأن يسأله نزولاً في منزل مبارك عقب ذلك الترحل، والدعاءُ بذلك يتضمن سؤال سلامة من غرق السفينة. وهذا كالمحامد التي يُعلمها الله محمداً صلى الله عليه وسلم يوم الشفاعة. فيكون في ذلك التعليم إشارة إلى أنه سيتقبَّل ذلك منه.
وجملة {وأنت خير المنزلين} في موضع الحال. وفيها معنى تعليل سؤاله ذلك.
وقرأ الجمهور {مُنَزلاً} بضم الميم وفتح الزاي وهو اسم مفعول من (أنزله) على حذف المجرور، أي مُنزَلا فيه. ويجوز أن يكون مصدراً، أي إنزالاً مباركاً. والمعنيان متلازمان. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاي، وهو اسم لمكان النزول.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}
لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك.
والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها. والآيات: الدلالات، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلاً مباركاً، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدّر لتطهير الأرض من الشرك مثلَ هذا الاستيصال العام لأهله. وإذ قدَر لإبقاء الأنواع مثلَ هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل.
وعُطف على جملة {إن في ذلك لآيات} جملة {وإن كنا لمبتلين} لأن مضمون {وإن كنا لمبتلين} يفيد معنى: إن في ذلك لَبَلْوى، فكأنه قيل: إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا. فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهيَّة لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانيَّة فتحمد عواقب البلوى، ولتتخبَّط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زماناً.
والمعنى: أن ما تقدم قبلَ الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وأذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميّز الله للنَّاس الخبيثَ من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومُه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنَّة إلهيَّة. وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له «وكذلك الأنبياء تُبْتَلَى ثم تكون لهم العاقبة»، وفي القرآن {والعاقبة للمتقين} [القصص: 83].
والابتلاء تقدم في قوله تعالى: {وإذِ ابْتَلَى إبراهيمَ ربُّه} [البقرة: 124] وقوله: {وفي ذلكُم بلاءٌ من ربكم عظيم} في سورة البقرة (49).
وفي قوله: وإن كنا لمبتلين} تسلية للنبيء محمد صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من المشركين، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجِهون به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بَقَاءَ له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكلَ حظٌّ يناسبه.
ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نُزّل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد ب {إنْ} المخفَّفة وبفعل {كنا}.
واللام هي الفارقة بين (إنْ) المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين (إنْ) النافية.
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)}
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر، أي أخرى، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعيَّن القرن ولا القرون بأسمائهم.
والقرن: الأمة. والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة {فأخذتهم الصيحة بالحق} [المؤمنون: 41]، لأن ثمود أُهلكوا بالصاعقة ولقوله {قال عمَّا قليللٍ لَيُصْبِحُنّ نادمين} [المؤمنون: 40] مع قوله في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحَةُ مصبحين} فكان هلاكهم في الصباح. ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافاً لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحِجر كما قال تعالى: {وإنكم لَتَمُرّونَ عليهم مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْللِ أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
وقوله {فأرسلنا فيهم رسولاً} أي جعل الرسول بينهم وهو منهم، أي من قبيلتهم. وضمير الجمع عائد إلى {قرناً} لأنه في تأويل (الناس) كقوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9].
وعُدِّي فعل {أرسلنَا} ب (في) دون (إلى) لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو وارداً إليهم مثل لوط لأهل (سدوم)، ويونس لأهل (نينوَى)، وموسى للقبط. وكان التنبيه على أن رسولهم منهم مقصوداً إتماماً للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وكلام رسولهم مثل كلام نوح.
و (أنْ) تفسير لما تضمنه {أرسلنا} من معنى القول.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)}
عُطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات ب (قال) ونحوها دون عطف. وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضاً في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولَهم بدون عطف.
ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيَّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجَّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: {ما هذا إلا بشر مثلُكم يأكل مما تأكلون منه} إلى آخره خشيةً منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفاً في قصة نوح.
وبهذا يظهر وَجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب «الكشاف» سؤالاً ولم يكن في جوابه شافياً وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف.
وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفاً لأن قولهم هذا كان متأخراً عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطفت جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.
وأيضاً لأن كلام رسولهم لم يُحك بصيغة القول بل حكي ب (أنْ) التفسيرية لِمَا تضمنه معنى الإرسال في قوله: {فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله} [المؤمنون: 32].
وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود {قالوا يا هود ما جئتنا بِبَيِّنَة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 53، 54]، وقول قوم صالح {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62].
وقولُه {وقال الملأ من قومه الذين كفروا} {الذين كفروا} نعت ثان ل {الملأ} فيكون على وزان قوله في قصة نوح {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} [المؤمنون: 24]. وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله: {وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم}.
واللقاء: حضور أحد عند آخر. والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى: {واعلموا أنكم ملاقوه} في سورة البقرة (223) وعند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم فِئَةً فاثبتوا} في سورة الأنفال (45).
وإضافة {لقاء} إلى {الآخرة} على معنى (في) أي اللقاء في الآخرة.
والإتراف: جعلهم أصحاب ترف. والترف: النعمة الواسعة. وقد تقدم عند قوله:
{وارْجِعُوا إلى ما أترِفْتم فيه} في سورة الأنبياء (13).
وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولَهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألِفوا أن يكونوا سادة لا تبعاً، قال تعالى: {وذَرْني والمكذّبين أولي النعمة} [المزمل: 11]، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض {ولئن أطَعْتُم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون أيَعِدُكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مُخْرَجون}.
و {ما هذا إلا بشر مثلكم} كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولاً من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.
وجملة {يأكل مما تأكلون منه} في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه.
وحذف متعلق {تشربون} وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها.
واللام في {ولئن أطعتم} موطّئة للقسم، فجملة {إنكم إذاً لخاسرون} جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. وأقحم حرف الجزاء في جواب القسم لما في جواب القسم من مشابهة الجزاء لا سيما متى اقترن القسم بحرف شرط.
والاستفهام في قوله {أيعدكم} للتعجب، وهو انتقال من تكذيبه في دعوى الرسالة إلى تكذيبه في المرسل به.
وقوله {أنكم إذا متم} إلى آخره مفعول {يَعِدكم} أي يعدكم إخراجَ مُخرج إياكم. والمعنى: يعدكم إخراجكم من القبور بعد موتكم وفناء أجسامكم.
وأما قوله: {أنكم مخرجون} فيجوز أن يكون إعادة لكلمة (أنكم) الأولى اقتضى إعادتها بُعْد ما بينها وبين خبرها. وتفيد إعادتها تأكيداً للمستفهم عنه استفهام استبعاد تأكيداً لاستبعاده. وهذا تأويل الجرمي والمبرد.
ويجوز أن يكون {أنكم مخرجون} مبتدأ. ويكون قوله: {إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً} خبراً عنه مقدماً عليه وتكون جملة {إذا متم} إلى قوله {مخرجون} خبراً عن (أنّ) من قوله {أنكم} الأولى.
وجعلوا موجب الاستبعاد هو حصول أحوال تنافي أنهم مبعوثون بحسب قصور عقولهم، وهي حال الموت المنافي للحياة، وحال الكون تراباً وعظاماً المنافي لإقامة الهيكل الإنساني بعد ذلك.
وأريد بالإخراج إخراجهم أحياء بهيكل إنساني كامل، أي مخرجون للقيامة بقرينة السياق.
وجملة {هيهات} بيان لجملة {يَعِدُكم} فلذلك فُصلت ولم تعطف.
و {هيهات} كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً. وقرأها الجمهور بالفتح. وقرأها أبو جعفر بالكسر. وتدل على البعد. وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان.
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن (هيهات) اسم فعل للماضي من البُعد، فمعنى هيهات كذا: بعُد. فيكون ما يلي (هيهات) فاعلاً. وقيل هي اسم للبُعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في «تفسيره».
قال الراغب: وقال البعض: غلط الزجاج في «تفسيره» واستهواه اللام في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}.
وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد. ونسبه في «لسان العرب» إلى أبي علي الفارسي. قال: قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال.
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء، وأنها لا تنون تنوين تنكير.
وقد ورد ما بعد (هيهات) مجروراً باللام كما في هذه الآية. وورد مرفوعاً كما في قول جرير:
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ *** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله
وورد مجروراً ب (مِن) في قول حميد الأرقط:
هيهاتتِ من مُصبَحها هيهاتِ *** ههياتتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ
فالذي يتضح في استعمال (هيهات) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل (هيهات) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق (هيهات) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل. وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب (مِن) ف (مِن) بمعنى (عن) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه.
على أنه يجوز أن تؤوّل (هيهات) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق. ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.
وجاء هنا فعل {توعدون} من (أوعد) وجاء قبله فعل {أيَعِدكم} وهو من (وَعَدَ) مع أن الموعود به شيء واحد. قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول: راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه.
وأقول: أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً.
وقوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} يَجوز أن يكون بياناً للاستبعاد الذي في قوله: {هيهات لما توعدون} واستدلالاً وتعليلاً له، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.
وضمير {هي} عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصداً للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع. وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بياناً له، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان.
ومنه قول الشاعر أنشده في «الكشاف» المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملاً:
هي النفس ما حملتها تتحمل *** وللدهر أيام تجور وتعدل
وقول أبي العلاء المعري:
هو الهجر حتى ما يُلم خيال *** وبعضُ صدود الزائرين وصال
ومبيّن الضمير هنا قوله {إلا حياتنا} فيكون الاسم الذي بعد (إلا) عطف بيان من الضمير. والتقدير: إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا. ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبيَّن.
وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له. ولأنه في الآية مفسَّر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.
ولأن دخول (لا) النافية عليه يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال: لا قصة إلا حياتنا، فدخلت عليه (لا) النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو {حياتنا}. فالمعنى ليست الحياة إلا حياتنا هذه، أي لا حياة بعدها.
والدنيا: مؤنث الأدنى، أي القريبة بمعنى الحاضرة.
وضمير {حياتنا} مراد به جميع القوم الذين دعاهم رسولهم. فقولهم: {نموت ونحيا} معناه: يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم. ومعنى {نَحْيَا}: نولد، أي يموت من يموت ويولد من يولد، أو المراد: يموت من يموت فلا يَرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت. والواو لا تفيد ترتيباً بين معطوفها والمعطوف عليه. وعقبوه بالعطف في قوله: {وما نحن بمبعوثين} أي لا نحيا حياة بعد الموت.
وهو عطف على جملة {نموت ونحيا} باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا}. وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسميَّة تقوية مدلوله وتحقيقه.
ثم جاءت جملة {إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً} نتيجة عقب الاستدلال، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفاً في قوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم} وما بعده من تكذيب دعوته، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال. وضمير {إن هو} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم}.
فجملة {افترى على الله كذباً} صفة ل {رجل} وهي منصَبّ الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافياً، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.
وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم: {ما هذا إلا بشر مثلكم} تقريراً لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم، أي زيادة على كونه رجلاً مثلهم فهو رجل كاذب.
والافتراء: الاختلاق. وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبِر. وتقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).
وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلاناً بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه، وهو مقتضى حال خطاب العامة.
والقول في إفادة الجملة الاسميَّة التقوية كالقول في {وما نحن بمبعوثين}.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}
استئناف بياني لأن ما حكي من صد الملإ الناس عند اتباعه وإشاعتهم عنه أنه مفتر على الله وتلفيقهم الحجج الباطلة على ذلك مما يثير سؤال سائل عما كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك، فيجاب بأنه توجه إلى الله الذي أرسله بالدعاء بأن ينصره عليهم. وتقدم القول في نظيره آنفاً في قصة نوح.
وجاء جواب دعاء هذا الرسول غير معطوف لأنه جرى على أسلوب حكاية المحاورات الذي بيَّناه في مواضع منها قوله: {قَالُوا أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها} في سورة البقرة (30).
{وعَمَّا قَليلٍ} أفاد حرف (عن) المجاوزة، أي مجاوزة معنى مُتعلَّقها الاسمَ المجرور بها. ويكثر أن تفيد مجاوزة معنى متعلّقها الاسم المجرور بها فينشأ منها معنى (بَعْد) نحو {لَتَرْكَبُنّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] فيقال: إنها تجيء بمعنى (بَعْد) كما ذكره النحاة وهم جروا على الظاهر وتفسير المعنى إذ لا يكون حرف بمعنى اسم، فإن معاني الحروف ناقصة ومعاني الأسماء تامة. فمعنى {عما قليل ليصبحن نادمين}: أن إصباحهم نادمين يتجاوز زمناً قليلاً: أي من زمان التكلم وهو تجاوز مجازي بحرف (عن) مستعار لمعنى (بَعْد) استعارة تبعيَّة. و{ما} زائدة للتوكيد.
و {قليل} صفة لموصوف محذوف دل عليه السياق أو فعل الإصباح الذي هو من أفعال الزمن فوعد الله هذا الرسول نصراً عاجلاً.
وندمهم يكون عند رؤية مبدأ الاستئصال ولا ينفعهم ندمهم بعد حلول العذاب.
والإصباح هنا مراد به زمن الصباح لا معنى الصيرورة بدليل قوله في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحة مصبحين.}
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
تقتضي الفاء تعجيل إجابة دعوة رسولهم.
والأخذ مستعار للإهلاك.
والصيحة: صوت الصاعقة، وهذا يرجح أو يعيِّن أن يكون هؤلاء القرن هم ثمود قال تعالى: {فأما ثمود فأهْلِكوا بالطاغية} [الحاقة: 5] وقال في شأنهم في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحة مصبحين} وإسناد الأخذ إلى الصيحة مجاز عقلي لأن الصيحة سبب الأخذ أو مقارنة سببه فإنها تحصل من تمزق كرة الهواء عند نزول الصاعقة.
والباء في {بالحق} للملابسة، أي أخذتهم أخذاً ملابساً للحق، أي لا اعتداء فيه عليهم لأنهم استحقوه بظلمهم.
والغُثاءُ: ما يحمله السيْل من الأعواد اليابسة والورق. والكلام على التشبيه البليغ للهيئة فهو تشبيه حالة بحالة، أي جعلناهم كالغثاء في البِلى والتكدس في موضع واحد فهلكوا هَلكة واحدة.
وفُرع على حكاية تكذيبهم دعاء عليهم وعلى أمثالهم دعاءَ شتم وتحقير بأن يَبْعَدوا تحقيراً لهم وكراهية، وليس مستعملاً في حقيقة الدعاء لأن هؤلاء قد بعدوا بالهلاك. وانتصب {بعداً} على المفعولية المطلقة بدلاً من فعله مثل: تَبّاً وسُحْقاً، أي أتبَّه الله وأسحقه.
وعكس هذا المعنى قول العرب لا تبعَد (بفتح العين) أي لا تفقد. قال مالك بن الريْب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني *** وأين مكانُ البعد إلا مكانيا
والمراد بالقوم الظالمين الكافرون {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]. واختير هذا الوصف هنا لأن هؤلاء ظلموا أنفسهم بالإشراك وظلموا هوداً لأنه تعمد الكذب على الله إذ قالوا: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً} [المؤمنون: 38].
والتعريف في {الظالمين} للاستغراق فشملهم، ولذلك تكون الجملة بمنزلة التذييل.
واللام في {للقوم الظالمين} للتبيين وهي مبيّنة للمقصود بالدعاء زيادة في البيان كما في قولهم: سحقاً لك وتبّاً له، فإنه لو قيل: فبُعدا، لعلم أنه دعاء عليه فبزيادة اللام يزيد بيان المدعو عليهم وهي متعلقة بمحذوف مستأنف للبيان.
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)}
القرون: الأمم، وهذا كقوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} [الفرقان: 38].
وهم الأمم الذين لم ترسل إليهم رسل وبقوا على اتباع شريعة نوح أو شريعة هود أو شريعة صالح، أو لم يؤمروا بشرع لأن الاقتصار على ذكر الأمم هنا دون ذكر الرسل ثم ذكر الرسل عقب هذا يومئ إلى أن هذه إما أمم لم تأتهم رسل لحكمة اقتضت تركهم على ذلك لأنهم لم يتأهلوا لقبول شرائع، أو لأنهم كانوا على شرائع سابقة.
وجملة {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} معترضة بين المتعاطفة. وهي استئناف بياني لما يؤذن به قوله: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً} من كثرتها ولا يؤذن به وصفهم ب {آخرين} من جهل الناس بهم، ولما يؤذن به عطف جملة {ثم أرسلنا رسلنا تترى} [المؤمنون: 44] من انقراض هذه القرون بعد الأمة التي ذكرت قصتها آنفاً في قوله {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} دون أن تجيئهم رسل، فكان ذلك كله مما يثير سؤال سائل عن مدة تعميرهم ووقت انقراضهم. فيجاب بالإجمال لأن لكل قرن منهم أجلا عيَّنه الله يبقى إلى مثله ثم ينقرض ويخلفه قرن آخر يأتي بعده، أو يعمَّر بعده قرن كان معاصراً له، وأن ما عيّن لكل قرن لا يتقدمه ولا يتأخر عنه كقوله تعالى: {لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 49].
والسبق: تجاوز السائر وتركه مُسائرَه خلفه، وعكسه التأخر. والمعنى واضح. والسين والتاء في {يستأخرون} زائدتان للتأكيد مثل: استجاب. وضمير {يستأخرون} عائد إلى {أمة} باعتبار الناس.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}
الرسل الذين جاءوا من بعدُ، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب. ومن أرسل قبل موسى، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله.
والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله: {فأتبعنا بعضهم بعضاً}.
{وتترى} قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فَعلى مثل دَعوى وسَلوى، وألفه للتأنيث مثل ذكرى، فهو ممنوع من الصرف. وأصله: وترى بواو في أوله مشتقاً من الوتر وهو الفرد. وظاهر كلام اللغويين أنه لا فعل له، أي فرداً فرداً، أي فرداً بعد فرد فهو نظير مثنى. وأبدلت الواو تاء إبدالاً غير قياسي كما أبدلت في (تجاه) للجهة المواجهة وفي (تَوْلَج) لكناس الوحش (وتراث) للموروث.
ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطّع. ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات. والوتيرة: الفترة عن العمل. وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك. يقال: جاءوا متداركين، أي متتابعين.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر منوناً وهي لغة كنانة. وهو على القراءتين منصوب على الحال من {رسلنا}.
واعلم أن كلمة {تترى} كتبت في المصاحف كلها بصورة الألف في آخرها على صورة الألف الأصليَّة مع أنها في قراءة الجمهور ألف تأنيث مقصورة وشأن ألف التأنيث المقصورة أن تكتب بصورة الياء مثل تقوى ودعوى، فلعل كتَّاب المصاحف راعوا كلتا القراءتين فكتبوا الألف بصورتها الأصليَّة لصلوحيَّة نطق القارئ على كلتا القراءتين. على أن أصل الألف أن تكتب بصورتها الأصليَّة، وأما كتابتها في صورة الياء حيث تكتب كذلك فهو إشارة إلى أصلها أو جواز إمالتها فخولف ذلك في هذه اللفظة لدفع اللبس.
ومعنى الآية: ثم بعد تلك القرون أرسلنا رسلاً، أي أرسلناهم إلى أمم أخرى، لأن إرسال الرسول يستلزم وجود أمة وقد صرح به في قوله {كلما جاء أمة رسولُها كذبوه}. والمعنى: كذبه جمهورهم وربما كذبه جميعهم.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد... " الحديث.
وإتباع بعضهم بعضاً إلحاقهم بهم في الهلاك بقرينة المقام وبقرينة قوله {وجعلناهم أحاديث}، أي صيَّرناهم أحدوثات يتحدث الناس بما أصابهم. وإنما يتحدث الناس بالشيء الغريب النادر مثله. والأحاديث هنا جمع أحدوثة، وهي اسم لما يتلهى الناس بالحديث عنه. ووزن الأفعولة يدل على ذلك مثل الأعجوبة والأسطورة.
وهو كناية عن إبادتهم، فالمعنى: جعلناهم أحاديث بائدين غير مبصَرين.
والقول في {فبعداً لقوم لا يؤمنون} مثل الكلام على {فبعداً للقوم الظالمين} [المؤمنون: 41]؛ إلا أن الدعاء نيط هنا بوصف أنهم لا يؤمنون ليحصل من مجموع الدعوتين التنبيه على مذمة الكفر وعلى مذمة عدم الإيمان بالرسل تعريضاً بمشركي قريش، على أنه يشمل كل قوم لا يؤمنون برسل الله لأن النكرة في سياق الدعاء تعم كما في قول الحريري: «يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا».
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)}
الآيات: المعجزات، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها. والسلطان المبين: الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه. والباء للملابسة، أي بعثناه ملابساً للمعجزات والحجة.
وملأ فرعون: أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة. وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى: {فاتِياه فَقُولا إنَّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} [طه: 47]. ولم يرسلا بشريعة إلى القبط. وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم.
وعطف {فاستكبروا} بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء، فالسين والتاء للتوكيد، أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذناً صاغية.
وجملة {وكانوا قوماً عالين} معترضة بين فعل {استكبروا} وما تفرع عليه من قوله {فقالوا} في موضع الحال من فرعون وملئه، أي فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو، أي كان الكبر خلقهم وسجيتهم. وقد بينا عند قوله تعالى: {لآياتتٍ لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164) أن إجراء وصف على لفظ (قوم) أو الإخبار بلفظ (قوم) متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ (قوم) أو تمكنه من أولئك القوم. فالمعنى هنا: أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم. فالعلو بمعنى التكبر والجبروت. وسيجيء بيانه عند قوله: {إن فرعون علا في الأرض} في سورة القصص (4).
وبين ذلك بالتفريع بقوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} فهو متفرّع على قوله {فاستكبروا}، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون}. وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض، ولما كانوا قد تراوضوا عليه نسب إليهم جميعاً. وأما فرعون فكان مصغياً لرأيهم ومشورتهم وكان له قول آخر حكي في قوله تعالى: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيري} [القصص: 38] فإن فرعون كان معدوداً في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشراً في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة.
والاستفهام في {أنؤمن} إنكاري، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مبايناً للمرسل إليهم، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناساً غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي، ولا يقيمون وزناً لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانيَّة.
وهذه الشبهة هي سبب ضلال أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم.
واللام في قوله: {لبشرين} لتعدية فعل {نؤمن}. يقال للذي يصدّق المخبر فيما أخبر به: آمن له، فيعدى فعل (آمن) باللام على اعتبار أنه صدّق بالخبر لأجْل المخبر، أي لأجل ثقته في نفسه. فأصل هذه اللام لام العلة والأجْل. ومنه قوله تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] وقوله: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} [الدخان: 21]. وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول: آمنت بأن الله واحد. وبهذا ظهر الفرق بين قولك: آمنت بمحمد وقولك: آمنت لمحمد. فمعنى الأول: أنك صدقت شيئاً. ولذلك لا يقال: آمنت لله وإنما يقال: آمنت بالله. وتقول: آمنت بمحمد وآمنت لمحمد. ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به.
و {مثلنا} وصف {لبشرين} وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغه موصوفه كما هنا. ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالُكم} [الأعراف: 194].
وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا: {وقومهما لنا عابدون}، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا.
وقوله: {عابدون} جمع عابد، أي مطيع خاضع. وقد كانت بنو إسرائيل خَوَلاً للقبط وخدماً لهم قال تعالى: {وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبَّدت بني إسرائيل} [الشعراء: 22].
وتفرع على قولهم التصميمُ على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله {فكذبوهما}، أي أرسى أمرهم على أن كذبوهما، ثم فرّعَ على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق، أي فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا. وهذا أبلغ من أن يقال: فأهلكوا، كما مر بنا غير مرة.
والتعقيب هنا تعقيب عرفي لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك.
وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى الله عليه وسلم لأن في قوله: {من المهلكين} إيماء إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}
لما ذُكرت دعوة موسى وهارون لفرعون وملئه وما ترتب على تكذيبهم من إهلاكهم أكملت قصة بعثة موسى بالمهم منها الجاري ومن بعثة من سلف من الرسل المتقدم ذكرهم وهو إيتاء موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لحصول اهتدائهم ليبني على ذلك الاتعاظ بخلافهم على رسلهم في قوله بعد ذلك {فَتَقَطَّعوا أمرَهم بينهم زُبُراً} [المؤمنون: 53] فإن موعظة المكذبين رسولهم بذلك أولى. وهنا وقع الإعراض عن هارون لأن رسالته قد انتهت لاقتصاره على تبليغ الدعوة لفرعون وملئه إذ كانت مقام محاجّة واستدلال فسأل موسى ربه إشراك أخيه هارون في تبليغها لأنه أفصح منه لساناً في بيان الحجة والسلطان المبين.
والتعريف في {الكتاب} للعهد، وهو التوراة.
ولذلك كان ضمير {لعلهم يهتدون} ظاهر العَوْد إلى غير مذكور في الكلام بل إلى معلوم من المقام وهم القوم المخاطبون بالتوراة وهم بنو إسرائيل فانتساق الضمائر ظاهر في المقام دون حاجة إلى تأويل قوله: {آتينا موسى} بمعنى: آتينا قوم موسى، كما سلكه في «الكشاف».
و (لعل) للرجاء، لأن ذلك الكتاب من شأنه أن يترقب من إيتائه اهتداء الناس به.
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}
لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفيَّة تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا، ولم تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته. وأما قوله {وأمه} فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعناً ومغمزاً فيهما.
وتنكير {آية} للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات. ولما كان مجموعها دالاً على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمتَ.
وأما قوله: {وآويناهما إلى رُبوة} فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه.
والإيواء: جعل الغير آوياً، أي ساكناً. وتقدم عند قوله: {أو آوي إلى ركن شديد} في سورة هود (80) وعند قوله: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} في سورة هود (43).
والرُبوة بضم الراء: المرتفع من الأرض. ويجوز في الراء الحركات الثلاث. وتقدم في قوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} في البقرة (265). والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضُها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظاً لعيسى من أذاهم.
والقرار: المكث في المكان، أي هي صالحة لأن تكون قراراً، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها.
والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وهو وصف جرى على موصوف محذوف، أي ماء معين، لدلالة الوصف عليه كقوله: {حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. وهذا في معنى قوله في سورة مريم (24 26) {قد جعل رَبّك تَحْتَككِ سَريّاً وهُزّي إليك بجذْع النخلة تَسَّاقطْ عليك رُطَباً جَنِيَّاً فَكُلِي واشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً.}
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}
يتعيَّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول، وهو استئناف ابتدائي، أي قلنا: يا أيها الرسل كلوا. والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجهاً للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم. فالتقدير: قلنا لكل رسول مِمَّنْ مضَى ذكرُهم كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً إني بما تعمل عليم.
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات. ومنه: ركب القوم دوابَّهم.
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة.
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} [المؤمنون: 33]، وقال: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة. وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.
والأمر في قوله: {كلوا} للإباحة، وإن كان الأكل أمراً جبلِّياً للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.
وتعليق {من الطيبات} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات، أي أن يكون المأكول طيّباً. ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات. والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه.
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة، وهذا كقوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات} [المائدة: 93] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.
وقوله: {إني بما تعملون عليم} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء، فالخبر مستعمل في التحريض.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}
يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] الخ، فيكون هذا مما قيل للرسل. والتقدير: وقلنا لهم {إن هذه أمتكم أمة واحدة} الآية. ويجوز أن تكون عطفاً على قصص الإرسال المبدوءة من قوله: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [المؤمنون: 23] لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهيَّة. وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء (92) {إن هذه أمتكم أمة واحدة} الآية.
وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء. فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة (إن). فأما هذه الآية فقرأ الجمهور {وأنّ} بفتح الهمزة وتشديد النون، فيجوز أن تكون خطاباً للرسل وأن تكون خطاباً للمقصودين بالنذارة على الوجهين وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله: {فاتقون} عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعاً من تقديم معموله، أو متعلقة بمحذوف دل عليه {فاتقون} عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء، كما تقدم في قوله تعالى: {فإياي فارهبون} في سورة النحل (51).
والمعنى عليه: ولكون دينكم ديناً واحداً لا يتعدد فيه المعبود. وكوني ربكم فاتَّقون ولا تشركوا بي غيري، خطاباً للرسل والمراد أممهم. أو خطاباً لمن خاطبهم القرآن.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة (إنّ) وتشديد النون، فكسر همزة (إن) إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول، وإمَّا لأنها مستأنفة على الوجه الثاني. والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور.
وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من (أنّ) المفتوحة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها. ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء.
واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية.
وتأكيد الكلام بحرف (إن) على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن.
وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء، إلا أن الواقع هنا {فاتقون} وهناك {فاعبدون} [الأنبياء: 92] فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكى في كل سورة أمراً من الأمرين، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين. ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين: الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى. قد وقع في خطاب مستقل تماثَل بعضُه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين. ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة.
وأيّاً مَّا كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51] ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان. أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظُّ الأمم منه أكثر. إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.
وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب ب {يا أيها الرسل} [المؤمنون: 51] فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيّه {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه} [المزمل: 1 4] ثم قال في حق الأمة {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] الآية. وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضُمَّه إليه وعوّل عليه.
وقد فات في سورة الأنبياء (92) أن نبين عربية قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} فوجب أن نشبع القول فيه هنا. فالإشارة بقوله {هذه} إلى أمر مستحضر في الذهن بيّنه الخبر والحال ولذلك أنث اسم الإشارة، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك. ومعنى هذا الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئاً. ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بياناً لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله.
قال الزجاج: ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر. ففي قولك: هذا زيد قائماً، لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامَه. ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيداً عند عدم القيام وليس بصحيح.
وبهذا يعلم أن ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازاً في معنى التحريض والملازمة، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم. ومنه قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخا} [هود: 72] فإن سارّة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق. وإنما المعنى: وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يُترقب منه النسل المبشرَّ به، أي حاله ينافي البشارة، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية. وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52] أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعاً قطعاً لكل فريق صنم وعبادة خاصة به. فضمير {تقطّعوا} عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52]. وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق.
فالكلام مسوق مساق الذم. ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيباً من حالهم. ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله {كل حزب بما لديهم فرحون} أي وهم ليسوا بحال من يفرح.
والتقطع أصله مطاوع قطع. واستعمل فعلاً متعدياً بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل، ونظيره تخوفه السير، أي تنقصه، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن. فالمعنى: قطعوا أمرهم بينهم قطعاً كثيرة، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه ديناً. ويجوز أن يجعل {تقطَّعوا} قاصراً أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله {أمرهم} كأنه قيل: تقطعوا أمراً، فإن كثيراً من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة. وقد بسطنا القول في معنى {تقطعوا أمرهم بينهم} في سورة الأنبياء (93).
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.
والزبُر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب. استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أدياناً وعقائد لو سجلت لكانت زُبُراً.
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه {زُبَرا} بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زُبرة بمعنى قطعة.
وجملة {كل حزب بما لديهم فرحون} تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه، ففي الكلام صفة محذوفة ل {حزب}، أي كل حزب منهم، بدلالة المقام.
والفرح: شدة المسرة، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين. والمعنى: أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد. وذلك يومئ إليه {لديهم} المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} [المؤمنون: 52]. وقديماً كان التحزب مسبباً لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.
والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، أو هم عينهم: فمنهم من اتخذ إلهه العزى. ومنهم من اتخذ مناة، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك.
والكلام ظاهره المتاركة، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء العاقبة في وقت ما. ولذلك نكر لفظ {حين} المجعول غاية لاستدراجهم، أي زمن مبهم، كقوله: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187].
والغمرة حقيقتها: الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه. وتقدم في قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} في سورة الأنعام (93). وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم، وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يَسْبحون.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {فَذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54] باعتبار أن جملة {فذرهم} تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألْهَتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة والترف، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجاً لهم. وهذا كقوله تعالى {وذَرْني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً} [المزمل: 11] وقوله: {لا يَغُرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].
والاستفهام في {أيحسبون} إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلاً لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض، لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها.
و {أنما} هنا كلمتان (أن) المؤكدة (وما) الموصولة وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب (إنما) المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطاً كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة.
والإمداد: إعطاء المدد وهو العطاء. و{من مال وبنين} بيان ل (ما) الموصولة.
والمسارعة: التعجيل، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله. وفي حديث عائشة أنها قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» أي يعطيك ما تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعاً في إعطائه مرغوبه، ويقال: فلان يجري في حظوظك. ومتعلق {نسارع} محذوف تقديره: نسارع لهم به، أي بما نمدهم به من مال وبنين. وحذف لدلالة {نمدهم به} عليه.
وظرفية (في) مجازية. جعلت {الخيرات} بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون (في) قرينة مكنية. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يُحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] وقوله: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} [المائدة: 52] كلاهما في سورة العقود، وقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} في سورة الأنبياء (90).
والخيرات: جمع خير بالألف والتاء، وهو من الجموع النادرة مثل سرادقات. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأولئك لهم الخيرات} في سورة براءة (88)، وتقدم في سورة الأنبياء (73 90).
و (بل) إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم.
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله {فذرهم في غمرتهم} [المؤمنون: 54] من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته، ومن إشراكهم آلهة مع الله، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات، ومن تكذيبهم بالبعث. كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم، ألا ترى إلى قوله بعد هذا {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63].
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين. واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم، فحصل بهذا إيجاز بديع، وطباق من ألطف البديع، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع.
وافتتاح الجملة ب {إن} للاهتمام بالخبر، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعاً بالعطف. والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات. و(من) في قوله {من خشية ربهم} للتعليل.
والإشفاق: توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى: {وهم من خشيته مشفقون} في سورة الأنبياء (28). وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه.
والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن. والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق {مشفقون} لدلالة السياق عليه.
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها.
ومعنى: {يؤتون ما آتوا} يُعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله. قال تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة: 177] الآية وقال: {وويل للمشركين الذين لا يُؤتُون الزكاة} [فصلت: 6، 7]. واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا.
وإنما عُبر ب {ما آتوا} دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعاً وليعم القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب.
وجملة {وقلوبهم وجلة} في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجَلاً وخوفاً من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضياً عنهم، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين. وفي الحديث «أن أهل الصّفة قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة».
وقال أبو مسعود الأنصاري: لما أمرنا بالصدقة كما نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به. ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً} [الإنسان: 8 10] الآيات.
وخبر {إن} جملة {أولئك يسارعون في الخيرات}.
وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا.
وتقدم الكلام على معنى {يسارعون في الخيرات} آنفاً.
ومعنى {وهم لها سابقون} أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق.
وعلى التقديرين فاللام بمعنى (إلى). وقد قيل إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى ب (إلى). وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون. لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين، وذكر بعده ما دل على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات، ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفاً لا يشق عليهم، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذراً يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذا بذلوا غاية وسعهم. قال تعالى {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].
فقوله: {ولا نكلف نفساً إلا وسعها} خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم. وقطع معذرتهم، وتيسير الاعتذار على الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] مع ما في ذلك من جبر الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة.
ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم. فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته. وفي قوله {لدينا} دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان. والنطق مستعار للدلالة، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصوات وقدرة الله لا تُحد.
وأما قوله {وهم لا يظلمون} فالمناسب أن يكون مسوقاً لمؤاخذة المفرّطين والمعرضين فيكون الضمير عائداً إلى ما عاد إليه ضمير {فتقطعوا أمرهم} [المؤمنون: 53] وأشباهه من الضمائر والاعتماد على قرينة السياق، وقوله {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63] وما بعده من الضمائر. والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى عموم الأنفس في قوله {ولا نكلف نفساً إلا وسعها} فيكون قوله {وهم لا يظلمون} من بقية التذييل، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى: {كلتا الجنتين آتتْ أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] فيكون وعيداً لفريق ووعداً لفريق. وهذا أليق الوجهين بالإعجاز.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)}
إضراب انتقال إلى ما هو أغرب مما سبق وهو وصف غمرة أخرى انغمس فيها المشركون فهم في غمرة غمرت قلوبهم وأبعدتها عن أن تتخلق بخلق الذين هم من خشية ربهم مشفقون كيف وأعمالهم على الضد من أعمال المؤمنين تناسب كفرهم، فكل يعمل على شاكلته.
فحرف (من) في قوله: {من هذا} يوهم البدلية، أي في غمرة تباعدهم عن هذا.
والإشارة ب {هذا} إلى ما ذكر آنفاً من صفات المؤمنين في قوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله: {وهم لها سابقون} [المؤمنون: 57 61].
و {دون} تدل على المخالفة لأحوال المؤمنين، أي ليسوا أهلاً للتحلي بمثل تلك المكارم.
وقوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} يبين (هذا)، أي وأعمالهم التي يعملونها غير ذلك. ويذكرني هذا قول محمد بن بشير الخارجي في مدح عروة بن زيد الخيل:
يا أيها المتمني أن يكون فتى *** مثل ابن زيد لقد أخلى لك السبلا
أعدِدْ فضائل أخلاق عُدِدْنَ له *** هل سَبّ من أحد أو سُب أو بخلا
إن تنفق المال أو تكلَف مَسَاعيَه *** يشفقْ عليك وتفعل دون ما فعلا
ولام {لهم أعمال} للاختصاص. وتقديم المجرور بها على المبدأ لقصر المسند إليه على المسند، أي لهم أعمال لا يعملون غيرها من أعمال الإيمان والخيرات.
ووُصف {أعمال} بجملة {هم لها عاملون} للدلالة على أنهم مستمرون عليها لا يقلعون عنها لأنهم ضروا بها لكثرة انغماسهم فيها.
وجيء بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على تلك الأعمال وثباتهم عليها.
ويجوز أن يكون تقديم {لها} على {عاملون} لإفادة الاختصاص لقصر القلب، أي لا يعملون غيرها من الأعمال الصالحة التي دعوا إليها. ويجوز أن يكون للرعاية على الفاصلة لأن القصر قد أفيد بتقديم المسند إليه.
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}
{حتى} ابتدائية. وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} [الأنبياء: 96].
و (حتى) الابتدائية. يكون ما بعدها ابتداء كلام، فليس الدال على الغاية لفظاً مفرداً كما هو الشأن مع (حتى) الجارة و(حتى) العاطفة، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع.
وبهذه الغاية صار الكلام تهديداً لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه. والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجّوا في طغيانهم يعمهون} [المؤمنون: 75].
و {إذا} الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل. و{إذا} الثانية فجائية داخلة على جواب شرط (إذا).
والمترَفون: المُعْطَون تَرَفاً وهو الرفاهية، أي المنعَّمون كقوله تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة} [المزمل: 11] فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.
وإنما جعل الأخذ واقعاً على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم. وكذلك حقّ على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر، وأن يُسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى: {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً} [الأحزاب: 67، 68]، وقال {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} [النحل: 25].
وتخصيص المترَفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيوياً أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة، ولأن المترفين هم أشد إحساساً بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام. وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله: {إذا هم يجئرون} فإن الضميرين في {إذا هم} و{يجأرون} عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {مترفيهم} بقرينة قوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم} إلى قوله {سامراً تهجرون} فإن ذلك كان من عمل جميعهم.
ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانية ويكون ذكر المترفين تهويلاً في التهديد تذكيراً لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تُجْبَى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرَّمين لدى جميع القبائل، قال الأخطل:
فأما الناس ما حاشا قريشاً *** فإنا نحن أفضلهم فعالا
وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى:
{الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} [قريش: 4]، فيكون المعنى: حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم، كقوله: {وذرني والمكَذِّبين أولي النعمة ومَهِّلْهم قليلاً} [المزمل: 11].
ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب. قال شداد ابن الأسود:
وماذا بالقليب قليب بدر *** من الشيزى تزيَّن بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر *** من القينات والشَّرب الكرام
يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.
وضمير {إذا هم يجأرون} على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورَثَوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.
ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى بعد {ولقد أخذناهم بالعذاب} [المؤمنون: 76] الآية.
ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هُددوا به، وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته. ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أُثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيراً وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العِلهِز والجيف سبع سنين، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.
وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين أنه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة للمؤمنين، وذلك المذكور في سورة الدخان (12) {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.} وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون...} الآيات إلى قوله: {إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون} [المؤمنون: 99 114] كما ستعلمه.
وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.
ومعنى {يجأرون} يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجُؤَار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبراً عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.
وجملة {لا تَجْأَرُوا اليوم} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله: {أفلم يدبروا القول} [المؤمنون: 68] وهي مقول قول محذوف، أي تقول لهم: لا تجأروا اليوم.
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذ لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه.
وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هُددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب عذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى: {اصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم} [الطور: 16].
وجملة {إنكم منا لا تنصرون} تعليل للنهي المستعمل في التسوية، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لِجُؤَاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا، فموقع (إن) إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.
وضمّن {تنصرون} معنى النجاة فعدي الفعل ب (مِن)، أي لا تنجون من عذابنا. فثَمّ مضاف محذوف بعد (مِن)، وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.
وقوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم} استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على جملة {إنكم منا لا تنصرون} لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.
والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة {تتلى} إذ التلاوة القراءة.
والنكوص: الرجوع من حيث أتى، وهو الفرار. والأعقاب: مؤخر الأرجل. والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل. وقد تقدم في قوله تعالى: {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} في سورة الأنفال (48).
وذكر فعل (كنتم) للدلالة على أن ذلك شأنهم. وذكر المضارع للدلالة على التكرر فلذلك خُلق منهم مُعاد مكرورٌ.
وضمير {به} يجوز أن يكون عائداً على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون {مستكبرين} بمعنى معرضين استكباراً ويكون الباء بمعنى (عن)، أو ضمّن {مستكبرين} معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.
ويجوز أيضاً أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويُعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكرت تلاوة الآيات عليهم. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم. فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم. وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهراً للتواضع ومكارم الأخلاق، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتاً لله حنيفاً أشنعُ استكبار.
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله {به} للنبيء صلى الله عليه وسلم والباء حينئذٍ للتعدية، وتضمين {مستكبرين} معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب.
{وسامراً} حال ثانية من ضمير المخاطبين، أي حال كونكم سامرين. والسامر: اسم لجمع السامرين، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته، أو ضوء قمره.
وأطلق السمر على الكلام في الليل، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال. وعندي أنه يجوز أن يكون {سامراً} مراداً منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلاً ويكون نصبه على نزع الخافض، أي في سامركم، كما قال تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29].
{وتُهجِرون} بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر: إذا قال الهُجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء. وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا. والجملة في موضع الصفة ل {سامراً}، أي في حال كونكم متحدثين هجراً وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}
الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله {بل قلوبهم في غمرة من هذا} إلى قوله {سامراً تهجرون} [المؤمنون: 63 67]. وهذا التفريع معترض بين جملة {بل قلوبهم في غمرة من هذا} وجملة {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} [المؤمنون: 75].
والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه.
وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريقة المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء.
ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه.
فالاستفهام الأول: عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]. والتدبر: إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له. وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً} في سورة النساء (82).
والمعنى: أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر.
والاستفهام الثاني: هو المقدر بعد (أم) وقوله: {أم لم يعرفوا رسولهم}. ف (أم) حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي (أم) المنقطعة بمعنى (بل) ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة. فقوله {جاءهم ما لم يأت آباءهم} تقديره: بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ، وكذلك الإتيان.
و (ما) الموصولة صادقة على دين. والمعنى: أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]. ولهذا قال الله تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: 23، 24].
ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي {ما لم يأت آباءهم الأولين} من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا ديناً جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم. ووجه التهكُّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أُنُفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.
وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى: لم يأت آباءهم، كان الكلام مجرد تغليط، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفاً للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى: {أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 21، 22].
وأما الاستفهام الثالث: المقدر بعد (أم) الثانية في قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم} فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على أن عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام هو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل، إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء، ولذلك تفرع على عدم معرفتهم إنكارهم إياه، أي إنكارهم صفاته الكاملة.
فتعليق ضمير ذاتتِ الرسول ب {منكرون} هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]. وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء.
ولله در أبي طالب في قوله:
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
وقال تعالى فيما أمر به رسوله {فقد لبثتُ فيكم عُمُرا من قبله (أي القرآن) {أفلا تعقلون} [يونس: 16].
ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على {أم لم يعرفوا رسولهم} قوله {أم يقولون به جنة}، وهو الاستفهام الرابع، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذباً.
والجِنّة: الجنون، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن.
والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله: {من الجِنّة والناس} [الناس: 6]. ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة. وتقدم عند قوله تعالى {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} في سورة الأعراف (184). وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتاناً. وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام. ثم قد نُقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو (بل).
والحق: الثابت في الواقع ونفس الأمر، يكون في الذوات وأوصافها. وفي الأجناس، وفي المعاني، وفي الأخبار. فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط.
فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم، والاعتراف للفاضل بفضله. وزجر الخبيث عن خبثه، وأخوة المسلمين، بعضهم لبعض، والمساواة بينهم في الحق. ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين. ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان. والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم. فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]. ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه. ولقولهم هو مجنون كان ما بعد (بل) نقضاً لقولهم.
وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير {أكثرهم} يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله {فذرهم في غمرتهم} [المؤمنون: 54] فيكون المعنى: أكثر المشركين من قريش كارهون للحق. وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} [المؤمنون: 63]، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع. ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله: {ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا} [الأنعام: 52، 53].
وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافاً لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة. فكان المعنى: بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم، فأما أكثرهم فكراهية للحق، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم.
وتقدم المعمول في قوله {للحق كارهون} اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية.
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}
{وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والارض وَمَن فِيهِنَّ}.
عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة {وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون: 70] زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة.
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون: 70] وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء. وعلم من قوله {ولو اتبع الحق أهواءهم} أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفاً أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه، وهو مصدر بمعنى المفعول. وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة.
والاتِّباع: مجاز شائع في الموافقة، أي لو وافق الحق ما يشتهونه.
ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس. فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له؛ فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحداً، وكونه لا يلد، وكون البعث واقعاً للجزاء، فكونها حقاً هو عين تقررها في الخارج.
ومنها الحقائق المعنوية وهي الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات. وكونها حقاً هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلماً، وكون القتل عدواناً، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن، أي من في السماوات والأرض من الناس.
ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جارياً على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى؛ فمنها المتفق، وأكثرهم مختلف، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقاً لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم.
فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى {لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء. وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السموات والأرض كما تقدم. وقد قال الله تعالى في هذه السورة {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله}
[المؤمنون: 91] الآية، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد.
ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السموات والأرض ومن فيهن. فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل؛ فلم يعمل أحد خيراً إذ لا رجاء في ثواب. ولم يترك أحد شراً إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السموات والأرض قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وكذا لو كان الحق حسنَ الاعتداء والباطلُ قبحَ العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جُهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205]، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة. ويزيد أمرها فساداً بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفاً للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون.
وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الدخان: 38، 39].
والظاهر أن (مَن) في قوله: {ومن فيهن} صادقة على العقلاء من البشر والملائكة. ففساد البشر على فرض أن يكون جارياً على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه.
وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بُنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم ءالهة لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلاً لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة. وأيضاً لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح.
ويجوز أن يكون {مَن} صادقاً على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال (مَن). ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلال مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه، فيفسد العالم. وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثاً في إمكان فناء العالم وفرَض أسباباً إن وجد واحد منها في هذا العالم. وعدّ من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما.
وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالاً لزعمهم أن ما جاء به الرسول تصرفات مجنون.
إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله {ولو اتبع الحق أهواءهم} أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها. كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحاً عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئاً طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري «فإن الحق قديم» قال تعالى {ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} [يونس: 82].
وعُدِّي فعل {أتيناهم} بالباء لأنه استعمل مجازاً في الإرسال والتوجيه.
والذكر يجوز أن يكون مصدراً بمعنى التذكير. ويجوز أن يكون اسماً للكلام الذي يذكر سامعه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية. وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر.
والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم، أي فتفرع على الإرسال إليهم بالذكر إعراضهم عنه. والمعنى: أرسلنا إليهم القرآن ليُذَكِّرهم.
وقيل: إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون {لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنَّا عباد الله المخلصين} [الصافات: 168- 169] فيكون الذكر على هذا مصدراً بمعنى الفاعل، أي ما يتذكرون به. والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة، أي فها قد أعطيناهم كتاباً فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى: «لو أن عندنا ذكراً من الأولين (أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به»، وقول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خُراسان
وقوله تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} [المائدة: 19].
والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم. وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}
(أم) عاطفة على {أم يقولون به جنة} [المؤمنون: 70] وهي للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة.
والاستفهام المقدر هنا إنكاري، أي ما تسألهم خرجاً فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحاً بأموالهم. وهذا في معنى قوله تعالى {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} [سبأ: 47] على سبيل الفرض، والتقدير: إن كنتُ سألتكم أجراً فقد رددته عليكم فماذا يمنعكم من اتباعي. وقوله: {أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون} [القلم: 46] كل ذلك على معنى التهكم. وأصرح منهما قوله تعالى {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى: 23].
وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائياً من قِبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم، فالاستفهام الذي في قوله {أم تسألهم خرجاً} إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض فيهم.
والخرج: العطاء المعيّن على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين. وعن ابن الأعرابي: التفرقة بينهما بأن الخرج الإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين.
وقيل الخرج: ما تبرع به المعطي والخراج: ما لزمه أداؤه. وفي «الكشاف»: والوجه أن الخرج أخص من الخراج (يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب «الفرائد» في نقل الطيبي) كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ {خرجاً فخراج ربك خير} يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير» اه.
وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف.
هذا وقد قرأ الجمهور {أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير}. وقرأ ابن عامر {خرجاً فخرج ربك}. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير}. فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنباً لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} [سبأ: 47] فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ.
وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة.
وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع محسن المزاوجة بتماثل اللفظين. ولا توجهان على طريقة الزمخشري.
قال صاحب «الكشاف»: ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات (أي قوله
{أفلم يدبروا القول} [المؤمنون: 68] إلى هنا) وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يُعْرَض له حتى يدّعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل. واستهتارهم بدين الآباء الضُّلاَّل من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتُهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر» اه.
وجملة {وهو خير الرازقين} معترضة تكميلاً للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله. ويفيد تأكيداً لمعنى {فخراج ربك خير}.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما وسموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك. وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير، فكما أن السائر إلى طلبته لا يبلغها إلا بطريق، ولا يكون بلوغه مضموناً ميسوراً إلا إذا كان الطريق مستقيماً فالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء.
والتأكيد ب (إن) واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك التوكيد في قوله: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط الناكبون}. والتعبير فيه بالموصول وصلته إظهار في مقام الإضمار حيث عدل عن أن يقول: وإنهم عن الصراط لناكبون. والغرض منه ما تنبئ به الصلة من سبب تنكبهم عن الصراط المستقيم أن سببه عدم إيمانهم بالآخرة. وتقدم قوله تعالى: {قال هذا صراطٌ علي مستقيم} في سورة الحجر (41).
والتعريف في {الصراط} للجنس، أي هم ناكبون عن الصراط من حيث هو حيث لم يتطلبوا طريق نجاة فهم ناكبون عن الطريق بله الطريق المستقيم ولذلك لم يكن التعريف في قوله {عن الصراط} للعهد بالصراط المذكور لأن تعريف الجنس أتم في نسبتهم إلى الضلال بقرينة أنهم لا يؤمنون بالآخرة التي هي غاية العامل من عمله فهم إذن ناكبون عن كل صراط موصل إذ لا همة لهم في الوصول.
والناكب: العادل عن شيء، المعرض عنه، وفعله كنصر وفرح. وكأنه مشتق من المنكب وهو جانب الكتف لأن العادل عن شيء يولي وجهه عنه بجانبه.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}
عطف على جملة {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} [المؤمنون: 64] وما بينهما اعتراضات باستدلال عليهم وتنديم وقطع لمعاذيرهم، أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون} [الدخان: 15].
و {لو} هنا داخلة على الفعل الماضي المراد منه الاستقبال بقرينة المقام إذ المقام للإنذار والتأييس من الإغاثة عند نزول العذاب الموعود به، وليس مقام اعتذار من الله عن عدم استجابته لهم أو عن إمساك رحمته عنهم لظهور أن ذلك لا يناسب مقام الوعيد والتهديد. وأما مجيء هذا الفعل بصيغة المضي فذلك مراعاة لما شاع في الكلام من مقارنة (لو) لصيغة الحاضر لأن أصلها أن تدل على الامتناع في الماضي ولذلك كان الأصل عدم جزم الفعل بعدها.
واللجاج بفتح اللام: الاستمرار على الخصام وعدم الإقلاع عن ذلك. يقال: لجّ يلِجّ ويلَجّ بكسر اللام وفتحها في المضارع على اختلاف حركة العين في الماضي.
والطغيان: أشد الكبر. والعمه: التردد في الضلالة. و{في طغيانهم} متعلق ب {يعمهون} قدم عليه للاهتمام بذكره، وللرعي على الفاصلة. و(في) للظرفية المجازية المراد منها معنى السببية وتقدم قوله تعالى: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} في سورة البقرة (15).
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}
استدلال على مضمون قوله {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} [المؤمنون: 75] بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم.
والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه. ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى؛ ولذلك وقع قبله {فذرْهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54]، ووقع بعده {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} [المؤمنون: 84].
والتعريف في قوله {بالعذاب} للعهد، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} [المؤمنون: 64] الخ. ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله {فما استكانوا لربهم}، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها. وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان (13 15) {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه} إلى قوله {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون} والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار.
وقيل: هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر.
والاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته. وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة.
وقيل الألف للإشباع، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة. وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذاً كقول طرفة:
ينباع من ذفري غضوب جسرة ***
أي ينبع. وأشار في «الكشاف» إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح
أراد: بمنتزح فأشبع الفتحة.
ويبعد أن يكون {استكانوا} استفعالاً من الكون من جهتين: جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح.
والتعبير بالمضارع في {يتضرعون} لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم. والتضرع: الدعاء بتذلل، وتقدم في قوله: {لعلهم يتضرعون} في سورة الأنعام (42). والقول في جملة {حتى إذا فتحنا عليهم باباً} كالقول في {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} [المؤمنون: 64].
و (إذا) من قوله {حتى إذا فتحنا عليهم باباً} مثل (إذا) التي تقدمت في قوله {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} إلخ.
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]. وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى {ولو دُخلت عليهم من أقطارها} [الأحزاب: 14].
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه، أو تقول: شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم. وهذا كما مثل بقوله: {وفار التنور} [هود: 40] وقولهم: طفحت الكأس بأعمال فلان، وقوله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم} [الذاريات: 59] وقول علقمة:
فحقّ لشاس من نداكَ ذَنوبُ ***
ومنه قول الكتّاب: فتح باب كذا على مصراعيه، تمثيلاً لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلاً من الإحسان، وقول أبي تمام:
من شاعر وقف الكلام ببابه *** واكتن في كنفيْ ذراه المنطق
ووصف {باباً} بكونه {ذا عذاب شديد} دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال: باب عذاب كما قال تعالى: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} [الفجر: 13] لأن {ذا عذاب} يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب، وليتأتى بذلك وصف (عذاب) ب (شديد) بخلاف قوله {سوط عذاب} فقد استغني عن وصفه ب (شديد) بأنه معمول لفعل (صب) الدال على الوفرة.
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل. والأرجح: أن المراد به عذاب السيف يوم بدر. وعن مجاهد: أنه عذاب الجوع.
وقيل: عذاب الآخرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71].
والإبلاس: شدة اليأس من النجاة. يقال: أبلس، إذا ذل ويئس من التخلص، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلاً مجرداً. فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المِسح، وأن أصل أبلس صار ذا بَلاس. وكان شعار من زهدوا في النعيم. يقال: لبس المسوح، إذا ترهب.
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [المؤمنون: 23] وما تفرع عليها من قوله {فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54] إلى قوله {إذا هم فيه مبلسون}
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}
هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة، وذلك قد انتقل عنه من قوله {وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 22] فانتقل إلى الاعتبار بآية فُلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى: {وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 22] فالجملة إما معطوفة على جملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [المؤمنون: 21] والغرض واحد وما بينهما انتقالات.
وإما مستأنفة رجوعاً إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [المؤمنون: 23].
وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم. وسماه السكاكي: قرى الأرواح. وجعله من آثار كرم العرب.
وقوله: {وهو الذي أنشأ لكم السمع} تذكير بوحدانية الله تعالى.
والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسنداً واسم الموصول مسنداً إليه لأنهم علموا أن منشئاً أنشأ لهم السمع والأبصار، فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسنداً إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد، أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم. والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات، أو لجميع الناس، أو للمسلمين، والمقصود منه التعريض بالمشركين.
والإنشاء: الإحداث، أي الإيجاد.
وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها. وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر. وقيل: الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناساً وأنواعاً جُمِعا بهذا الاعتبار. وأفرد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات.
وانتصب {قليلاً} على الحال من ضمير {لكم}. و{ما} مصدرية. والتقدير: في حال كونكم قليلاً شكركم. فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد، أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة. وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين، لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17]. وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}
هو على شاكلة قوله: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار} [المؤمنون: 78].
والذرء: البث. وتقدم في سورة الأنعام (136). وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله. وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه في الإلهية أصنافاً هم يعلمون أنها لا تخلق شيئاً. وهو أيضاً استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم.
وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع، فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر. وفيه محسن الطباق.
والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث، فتقديم المجرور في {إليه تحشرون} تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)}
هو من أسلوب {وهو الذي أنشأ لكم السمع} [المؤمنون: 78] وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن البعث إحياء إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم.
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر. ولما كان من الإحياء خلْق الإيقاظ ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29].
واللام في {له اختلاف الليل والنهار} للملك، أي بقدرته تصريف الليل والنهار، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثاً، والليلُ يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاةً في قوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه} [الأنعام: 60].
وتقديم المجرور للقصر، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره، أي فغيره لا تحق له الإلهية.
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علماً بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جُعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله {أفلا تعقلون}.
وهذا تذييل راجع إلى قوله {وإليه تحشرون} [المؤمنون: 79] وما بعده.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
هذا إدماج لذكر أصل آخر من أصول الشرك وهو إحالة البعث بعد الموت. و(بل) للإضراب الإبطالي إبطالاً لكونهم يعقلون. وإثباتٌ لإنكارهم البعث مع بيان ما بعثهم على إنكاره وهو تقليد الآباء. والمعنى: أنهم لا يعقلون الأدلة لكنهم يتبعون أقوال آبائهم.
والكلام جرى على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة لأن الكلام انتقل من التقريع والتهديد إلى حكاية ضلالهم فناسب هذا الانتقال مقام الغيبة لما في الغيبة من الإبعاد فالضمير عائد إلى المخاطبين.
والقول هنا مراد به ما طابق الاعتقاد لأن الأصل في الكلام مطابقة اعتقاد قائله، فالمعنى: بل ظنوا مثل ما ظن الأولون.
والأولون: أسلافهم في النسب أو أسلافهم في الدين من الأمم المشركين.
وجملة {قالوا أإذا متنا} إلخ بدل مطابق من جملة {قالوا مثل ما قال الأولون} تفصيل لإجمال المماثلة، فالضمير الذي مع {قالوا} الثاني عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قالوا} الأول وليس عائداً على {الأولون}. ويجوز جعل {قالوا} الثاني استئنافاً بيانياً لبيان {ما قال الأولون} ويكون الضمير عائداً إلى {الأولون} والمعنى واحد على التقديرين. وعلى كلا الوجهين فإعادة فعل (قالوا) من قبيل إعادة الذي عمل في المبدل منه. ونكتته هنا التعجيب من هذا القول.
وقرأ الجمهور {أإذا متنا} بهمزتين على أنه استفهام عن الشرط. وقرأه ابن عامر بهمزة واحدة على صورة الخبر والاستفهام مقدر في جملة {إنا لمبعوثون}.
وقرأ الجمهور {أإنّا لمبعوثون} بهمزتين على تأكيد همزة الاستفهام الأولى بإدخال مثلها على جواب الشرط. وقرأه نافع وأبو جعفر بدون همزة استفهام ووجود همزة الاستفهام داخلة على الشرط كاف في إفادة الاستفهام عن جوابه.
والاستفهام إنكاري، و{إذا} ظرف لقوله {مبعوثون}.
والجمع بين ذكر الموت والكون تراباً وعظاماً لقصد تقوية الإنكار بتفظيع إخبار القرآن بوقوع البعث، أي الإحياء بعد ذلك التلاشي القوي.
وأما ذكر حرف (إن) في قولهم {أإنا لمبعوثون} فالمقصود منه حكاية دعوى البعث بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيق وتوكيد مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادة في تفظيع الدعوى في وهمهم.
وجملة {لقد وعدنا} إلخ تعليل للإنكار وتقوية له. وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم.
ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائل: إنكم تبعثون قبل أن تصيروا تراباً وعظاماً، فأعَدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصراً عليهم فيقعوا في شك باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعد قديم وُعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم.
وجملة {إن هذا إلا أساطير الأولين} من القول الأول وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال يثيره قولهم {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل} وهو أن يقول سائل: فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصور مختلفة مع تحققهم عدم وقوعه، فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه.
والإشارة في قوله {لقد وعدنا هذا} إلى ما تقدم في قولهم {أإذا متنا} إلى آخره، أي هذا المذكور من الكلام. وكذلك اسم الإشارة الثاني {إن هذا إلا أساطير الأولين}. وصيغة القصر بمعنى: هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين. وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعاً كما زعم المدّعون.
والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيراً بخطئه في زعمهم.
والأساطير: جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها. وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل: الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريباً.
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)}
استئناف استدلاللٍ عليهم في إثبات الوحدانية لله تعالى عاد به الكلام متصلاً بقوله: {وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون} [المؤمنون: 80].
والاستفهام تقريري، أي أجيبوا عن هذا، ولا يسعهم إلا الجواب بأنها لله. والمقصود: إثبات لازم جوابهم وهو انفراده تعالى بالوحدانية.
و {إن كنتم تعلمون} شرط حذف جوابه لدلالة الاستفهام عليه، تقديره: فأجيبوني عن السؤال. وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنُبهوا بقوله {إن كنتم تعلمون} إلى التأمل، أي إن كنتم تعلمون علم اليقين، ولذلك عقب بقوله: {سيقولون لله}، أي يجيبون عقب التأمل جواباً غير بطيء. وانظر ما تقدم في تفسير قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} في سورة الأنعام (12).
ووقعت جملة {قل أفلا تذكرون} جواباً لإقرارهم واعترافهم بأنها لله. والاستفهام إنكاري إنكار لعدم تذكرهم بذلك، أي تفطن عقولهم لدلالة ذلك على انفراده تعالى بالإلهية. وخص بالتذكر لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)}
تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفاً دون أن تعطف جملة {مَن رب السماوات} لأنها وقعت في سياق التعداد فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف. والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعاً لهم بالحجة، ولذلك لم تُعَد في السؤالين الثاني والثالث جملة {إن كنتم تعلمون} [المؤمنون: 84] اكتفاءً بالافتتاح بها.
وقرأ الجمهور {سيقولون لله} بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه، لأنهم لما سئلوا ب (مَن) التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه، فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولاً إلى جانب المعنى دون اللفظ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبية والربوبية تقتضي الملك. ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب «المطلع»:
إذَا قِيلَ مَنْ ربّ المَزَالف والقرى *** وربّ الجياد الجُرد؟ قلت لخالد
ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من «تفسير الزجاج» ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية.
وأقول: إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع اللَّهُ، لأنهم أثبتوا مع الله أرباباً في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك». ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {سيقولون الله} بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعاً على أنه خبر (مَن) في قوله {من رب السموات} والمعنى واحد.
ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط {إن كنتم تعلمون} [المؤمنون: 84] ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.
وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكر ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام. وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلاّ الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وأن يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
وحذف مفعول {تتقون} لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}
قد عرفت آنفاً نكتة تكرير القول.
والملكوت: مبالغة في الملك بضم الميم. فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده {كل شيء}.
واليد: القدرة. ومعنى {يجير} يغيث ويمنع من يشاء من الأذى. ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجارَ بأذى فمعنى {لا يجار عليه} لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من عقابه. فيفيد معنى العزة التامة.
وبني فعل {يجار عليه} للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.
ولما كان تصرف الله هذا خفياً يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عُقب الاستفهام بقوله: {إن كنتم تعلمون} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثاً لهم على علمه والاهتداء إليه.
ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل {سيقولون لله}.
وقرأ الجمهور {سيقولون لله} بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق.
(وأنَّى) يجوز أن تكون بمعنى (من أين) كما تقدم في سورة آل عمران (37) {قال يا مريم أنى لك هذا} والاستفهام تعجيبي. والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعاً. والمعنى: فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل. فالمراد بالسحر ترويج أيمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}
إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين، أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم. فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن. والباء للتعدية كما يقال: ذهب به أي أذهبه. وهذا كقوله آنفاً {بل أتيناهم بذكرهم} [المؤمنون: 71].
والعدول عن الخطاب من قوله {فأنى تسحرون} [المؤمنون: 89] إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة. والحق هنا: الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم {إن هذا إلا أساطير الأولين} [المؤمنون: 83] وفي مقابلة الحق ب {كاذبون} محسن الطباق.
وتأكيد نسبتهم إلى الكذب ب (إن) واللام لتحقيق الخبر.
وقد سُلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي؛ فابتدئ بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين، ثم ارتقي إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش، ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي (كل).
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}
أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية. وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار، فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة، وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو القياس تسمى مطلوباً كما في علم المنطق. ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} هو المطلوب وقوله {إذاً لذهب كل إله بما خلق} إلى آخر الآية هو الدليل. وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل. وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا: هم بنات الله.
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظراً إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام، ولأن الذين زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً عند قوله تعالى {قل من رب السماوات السبع} [المؤمنون: 86] الآية.
و (إذن) حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر. والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله {وما كان معه من إله} فالجواب ضد ذلك النفي. وإذ قد كان هذا الضد أمراً مستحيل الوقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير، والحرف المعد لمثل هذا الشرط هو (لو) الامتناعية، فالتقدير: ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق.
وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد (إذن) دليل على أن المقدر شرط (لو) لأن اللام تلزم جواب (لو) ولأن غالب مواقع (إذن) أن تكون جواب (لو) فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره.
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إنكم إذن مثلهم} في سورة النساء (140).
فقوله: {إذن لذهب كل إله بما خلق} استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة.
وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولداً لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولد لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] أي له.
والذهاب في قوله {لذهب كل إله} مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه.
وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله ءالهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقاً لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة، فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك: إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي الإلهية، وإما تحصيل للحاصل وهو محال، فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات. ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقداراً معيناً من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبيةٌ على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص. ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد. ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته، فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك، لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين:
أولهما: أن يكون كل إله مختصاً بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره، فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره. وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقة الإلهية. وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها. فهذا معنى قوله تعالى: {لذهب كل إله بما خلق}.
وثاني: اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الآلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية. وهذا معنى قوله تعالى: {ولعلا بعضهم على بعض}.
وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين، وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديداً مثلاً؛ إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات.
ويجوز اتفاق الآلهة أيضاً على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة.
فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانياً، وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم، والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة.
أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفّى أيمة علم الكلام بسطها بما لارواج بعده لعقيدة الشرك. وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني في هذا الموضع من «حاشيته» على «الكشاف» ولكنه انفرد بادعاء أنه مأخوذ من الآية وليس كما ادعى. وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله.
ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى: {سبحان الله عمايصفون} وهو بمنزلة نتيجة الدليل. وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام.
وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله {علام الغيب والشهادة} المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في {الغيب والشهادة} من الاستغراق الحقيقي، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر، لدفع توهم أن يقال: إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته. ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القُدَر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت. فظهر أن قوله {عالم الغيب والشهادة} من تمام الاستدال على انتفاء الشركاء، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله {فتعالى عما يشركون}.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {عالمُ الغيب} برفع {عالم} على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات.
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر {عالم} على الوصف لاسم الجلالة في قوله {سبحان الله عما يصفون}.
و (ما) مصدرية. والمعنى فتعالى عن إشراكهم، أي هو أعظم من أن يكون موصوفاً بكونه مشاركاً في وصفه العظيم، أي هو منزه عن ذلك.
{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}
آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله تعالى وبغضب الله عليهم لذلك، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في الدنيا وادخر لها عذاباً آخر في الآخرة، فكان ذلك نذراة لهم بمثله وتهديداً بما سيقولونه وكان مثاراً لخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوْله فلقن الله نبيئه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب. وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته، وإيماء إلى أن الله يري نبيئه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] الآية.
فهذه الجملة استئناف بياني جواباً عما يختلج في نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين. فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله: {فلا تجعلني في القوم الظالمين}.
وذكر في هذا الدعاء لفظ (رب) مكرراً تمهيداً للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب.
وأدخل بعد حرف الشرط (ما) الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط.
ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى:
إما تَرَيْنا حفاةً لا نعال لنا *** إنا كذلِك ما نحفَى وننتعل
أي فاعلمي حقاً أنا نحفى تارة وننتعل أخرى لأجل ذلك، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة.
وقد تقدم في قوله {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} في آخر الأعراف (200). والمعنى: إذا كان ما يوعدون حاصلاً في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ.
واستعمال حرف الظرفية من قوله: {في القوم الظالمين} يشير إلى أنه أُمر أن يَسأل الكون في موضع غير موضع المشركين، وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية، أي بينهم.
والخبر الذي هو قوله: {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك.
وفي قوله: {أن نريك} إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه سيراه مرأى عين دون كون فيه. وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماوياً فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يُبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحداً واحداً وقال لهم «لقد وَجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً». وبهذا القصد يظهر موقع حرفي التأكيد (إن) واللام من إصابة محزّ الإعجاز.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}
لما أنبأ الله رسوله عليه الصلاة والسلام بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسولُ والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام. وسيأتي بيانه في سورة فصلت (34) عند قوله {ادفع بالتي هي أحسن.} وقوله نحن أعلم بما يصفون} خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يُجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم
وحذف مفعول {يصفون} وتقديره: بما يصفونك، أي مما يضيق به صدرك. وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم قرُب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه، ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} [البقرة: 204].
و {التي هي أحسن} مراد بها الحسنة الكاملة، فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله {السجن أحب إليَّ} [يوسف: 33].
والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق.
وهكذا كان خلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه. وذكر في «المدارك» في ترجمة عبد الله بن غانم: أن رجلاً يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه، فلقي ابنَ غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعاماً فلما أراد مفارقته قال لابن غانم: يا أبا عبد الرحمن اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي، فقال له ابن غانم: أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى، وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}
الظاهر أن يكون المعطوف موالياً للمعطوف هو عليه، فيكون قوله {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} متصلاً بقوله: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} [المؤمنون: 96] فلما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض جزاءهم إلى ربه أمره بالتعوذ من حيلولة الشياطين دون الدفع بالتي هي أحسن، أي التعوذ من تحريك الشيطان داعية الغضب والانتقام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون {الشياطين} مستعملاً في حقيقته. والمراد من همزات الشياطين: تصرفاتهم بتحريك القوى التي في نفس الإنسان (أي في غير أمور التبليغ) مثل تحريك القوة الغضبية كما تأول الغزالي في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " ولكن الله أعانني عليه فأسْلم ". ويكون أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالتعوذ من همزات الشياطين مقتضياً تكفل الله تعالى بالاستجابة كما في قوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} [البقرة: 286]، أو يكون أمره بالتعوذ من همزات الشياطين مراداً به الاستمرار على السلامة منهم. قال في «الشفاء»: الأمة مجتمعة (أي مجمعة) على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس.
ويجوز أن تكون جملة {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} عطفاً على جملة {قل رب إما تريني ما يوعدون} [المؤمنون: 93] بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم، فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] ويكون هذا في معنى قوله: {قل أعوذ برب الناس} إلى قوله {الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} [الناس: 1 6] فيكون المراد: أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من همزات الشياطين منهم.
والهمز حقيقته: الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه، ويستعمل مجازاً بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة، ومنه قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} [القلم: 11] وقوله: {ويل لكل هُمزة لمزة} [الهمزة: 1].
ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين. وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له.
ومعنى التعوذ من همزهم: التعوذ من آثار ذلك. فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه، كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة. وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله {حتى إذا جاء أحدهم الموت} [المؤمنون: 99] كما سيأتي.
وأما قوله: {وأعوذ بك رب أن يحضرون} فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
{حتى} ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة، وتقدمت في سورة الأنبياء. ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مُغيّا بها فلا حاجة إلى تعليق (حتى) ب {يصفون} [المؤمنون: 91]. والوجه أن (حتى) متصلة بقوله {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} [المؤمنون: 95]. فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا {حتى إذا جاء أحدهم الموت} وصفاً أُنُفا لعذابهم في الآخرة. وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذاباً في الدنيا لا في الآخرة. فإن حملتَ العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالاً وكان قوله {حتى إذا جاء أحدهم الموت} إلى آخره تفصيلاً له.
وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قوله {قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون} [المؤمنون: 82] إلى ما هنا وليست عايدة إلى الشياطين. ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعدّ لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم.
وضمير الجمع في {ارجعون} تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها: أنتم. ولا يقال: أنتن. قال العرجي:
فإن شئتتِ حرَّمتُ النساء سواكم *** وإن شئتتِ لم أطعم نُقاخاً ولا بردا
فقال: سواكم، وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم *** لشيء ولا أني من الموت أفرق
فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقَّف عليه.
وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون {ارجعون}.
والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة. وما صدق {ما تركت} عالم الدنيا. ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى: لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف. ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة.
و {كلاّ} ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر.
وقوله: {إنها كلمة هو قائلها} تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن. وحاصل معناه: أن قول المشرك {رب ارجعون} إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به.
فجملة {هو قائلها} وصف ل {كلمة}، أي هي كلمة هذا وصفها. وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف {كلمة} به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها.
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف (إن) لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف.
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ***
وكما في قولهم: كلمة الشهادة وكلمة الإسلام. وتقدم قوله تعالى {ولقد قالوا كلمة الكفر} في سورة براءة (74).
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه. شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه، وهذا كقوله تعالى {والله من ورائهم محيط} [البروج: 20] وقوله {ومن ورائهم جهنم} [الجاثية: 10] وقوله {من ورائهم عذاب غليظ} [إبراهيم: 17]. وتقدم قوله: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79].
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع
والبرزخ: الحاجز بين مكانين. قيل: المراد به في هذه الآية القبر، وقيل: هو بقاء مدة الدنيا، وقيل: هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل، وإلى هذا مال الصوفية. وقال السيد في «التعريفات»: البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه، أي عند الفلاسفة القدماء.
ومعنى {إلى يوم يبعثون} أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث. فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم {إلى يوم يبعثون} هو الذي أعلمهم بما هو البعث.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)}
تفريع على قوله {إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث فالتقدير: فإذا جاء يوم يبعثون، ولكن عدل عن ذلك إلى {فإذا نفخ في الصور} تصوير لحالة يوم البعث.
والصور: البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند اليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من «صحيح البخاري». وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73).
وأسند {نُفِخ} إلى المجهول لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ. وإنما يُنفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل.
والمقصود التفريع الثاني في قوله {فمن ثقلت موازينه} إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} [المؤمنون: 99، 100] المردود إجمالاً بقوله تعالى {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله {فلا أنساب بينهم} إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم.
والأظهر أن جواب (إذا) هو قوله الآتي {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} [المؤمنون: 112] كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض.
وضمير {بينهم} عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين.
ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة. فقوله {فلا أنساب بينهم} كناية عن عدم النصير.
والتساؤل: سؤال بعضهم بعضاً. والمعنيّ به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول، وهو أن يسأل بعضهم بعضاً المعونة والنجدة، كقوله تعالى {ولا يسأل حميم حميماً} [المعارج: 10].
وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون} [الصافات: 27 33] فذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع. وفي «البخاري»: أن رجلاً (هو نافع بن الأزرق الخارجي) قال لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} وقال {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات: 27] فقال ابن عباس: أما قوله {فلا أنساب بينهم} فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون اه. يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه.
وذكر من {ثقلت موازينه} في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئاً، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} [الفرقان: 23]. وتقدم الكلام على نظير قوله {فمن ثقلت موازينه} في أول سورة الأعراف (8).
والخسارة: نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} في سورة الأنعام (12)، وقوله {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أول الأعراف (9). وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تَلِفَت منهم. ولذلك نصب {أنفسهم} على المفعول ب {خسروا}. واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم.
وجملة {تلفح وجوههم النار} في موضع الحال من {الذين خسروا أنفسهم}. ومعنى {تلفح وجوههم النار} تحرق. واللفح: شدة إصابة النار.
والكالح: الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم.
{أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)}
جملة {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} مقول قول محذوف، أي يقال لهم يومئذ. وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ. والآيات: آيات القرآن بقرينة قوله {تتلى عليكم} وقوله {فكنتم بها تكذبون} حملاً على ظاهر اللفظ.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في البقرة (102)، وقوله: إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً في سورة الأنفال (2). والاستفهام إنكار.
والغلب حقيقته: الاستيلاء والقهر. وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة. ومفعول غلبت} محذوف يدل عليه {شقوتنا} لأن الشقوة تقابلها السعادة، أي غلبت شقوتنا السعادة. والمجرور ب (على) بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث «قال النساء: غلبنا عليك الرجال». مُثِّلَت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم. وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لاختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم.
والشِّقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور. وهي زنة الهيئة من الشقاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {شقاوتنا} بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة. وزيادة قوله {قوماً} على أن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164) وعند قوله {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في آخر سورة يونس (101).
وهم ظنوا أنهم إن أخرجوا من النار رجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح فالتزموا لله بأنهم لا يعودون إلى الكفر والتكذيب.
وحذف متعلق عدنا} لظهوره من المقام إذ كان إلقاؤهم في النار لأجل الإشراك والتكذيب كما دل عليه قولهم {وكنا قوماً ضالين}.
والظلم في {فإنا ظالمون} هو تجاوز العدل، والمراد ظلم آخر بعد ظلمهم الأول وهو الذي ينقطع عنده سؤال العفو.
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}
{اخسئوا} زجر وشتم بأنهم خاسئون، ومعناه عدم استجابة طلبهم. وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل. ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه.
وجملة {إنه كان فريق من عبادي} إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم، وتحسيرُهم على ما كانوا يعاملون به المسلمين.
والإخبار في قوله: {إنه كان فريق من عبادي} إلى قوله: {سخرياً} مستعمل في كون المتكلم عالماً بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه. وتأكيد الخبر ب (إن) وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم.
وجملة {إنى جزيتهم} خبر (إن) الأولى لزيادة التأكيد. وتقدم نظيره في قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} في سورة الكهف (30).
والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلف، وبكسر السين في قراءة الباقين، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحققين من أيمة اللغة لا فرق بينهما خلافاً لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذاً من سخر بمعنى هزأ، والمضموم مأخوذاً من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر. فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال: الخصوصية لمصدر الخصوص.
وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر. والمعنى: اتخذتموهم مسخوراً بهم، فنصب سخرياً} على أنه مفعول ثان ل {اتخذتموهم}.
و {حتى} ابتدائية ومعنى (حتى) الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية. شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه (حتى). والمعنى: أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر، لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله. وتقدم الكلام على فعل (سخر) عند قوله: {فحاق بالذين سخروا منهم} في سورة الأنعام (10) وقوله: {يسخرون منهم} في سورة براءة (79).
فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببه، أو هو مجاز بالحذف بتقدير: حتى أنساكم السخري بهم ذكري. والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية.
وقوله: أنهم هم الفائزون} قرأه الجمهور بفتح همزة (أن) على معنى المصدرية والتأكيد، أي جزيتهم بأنهم. وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة (إن) على التأكيد فقط فتكون استئنافاً بيانياً للجزاء.
وضمير الفصل للاختصاص، أي هم الفائزون لا أنتم.
وقوله: {بما صبروا} إدماج للتنويه بالصبر، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سبباً في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء. وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدّونهم أعداءهم.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}
قرأ الجمهور: {قال كم لبثتم} بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض، فالأظهر أن يكون هو جواب (إذا) في قوله فيما سبق {فإذا نفخ في الصور} [المؤمنون: 101]. والتقدير: قال الله لهم إذا نفخ في الصور. كم لبثتم في الأرض عدد سنين. وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي. وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلاً بعد دخول الكافرين النار، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني.
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي {قل} بصيغة الأمر. والخطاب للملَك الموكل بإحياء الأموات.
وجملة: {فسئل العادين} تفريع على جملة: {لبثنا يوماً أو بعض يوم} لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض. وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسَأة، قال الكناني:
ونحن الناسئون على معدّ *** شهور الحل نجعلها حراما
والمفسرون جعلوا المراد من العادّين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث. ولكن القرطبي قال: أي سللِ الحُسَّاب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه.
وقوله: {قال إن لبثتم إلا قليلاً} قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل {قال إن لبثتم إلا قليلاً} وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30). وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله.
والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها.
وانتصب {عدد سنين} على التمييز ل {كم} الاستفهامية والتمييز إنما هو {سنين}. وإضافة لفظ {عدد} إليه تأكيد لمضمون (كم) لأن (كم) اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ {عدد} معها تأكيد لبعض مدلولها.
وجوابهم يقتضي أنهم تحققوا أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها. والظاهر أن المراد بقولهم {يوماً أو بعض يوم} أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم (55) {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.} ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر. والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياءً وهو ما كانوا ينكرونه، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات.
وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قروناً كثيرة، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم.
وقد دل على هذا قوله في آخر الآية {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قِصرَ المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطإهم فإنهم لمّا أحسوا من أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمالُ أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمناً يسيراً لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر.
وأما قولهم: {فسئل العادين} فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب.
وأما رد الله عليهم بقوله: {إن لبثتم إلا قليلاً} فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة دلالة الاقتضاء، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلاً، فتعين أن قوله: {إن لبثتم إلا قليلاً} لا يستقيم أن يكون جواباً لكلامهم إلا بتقدير: قال بل لبثتم قروناً، كما في قوله في الذي مر على قرية {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام} [البقرة: 259]. ولذلك تعين أن يكون التقدير: قال بل لبثتم قروناً، وإن لبثتم إلا قليلاً فيما عند الله {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47].
وقرينة ذلك ما تفيده (لو) من الامتناع في قوله: {لو أنكم كنتم تعلمون} أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلاً، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلاً مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثاً قليلاً، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}
هذا من تمام القول المحكي في {قال كم لبثتم في الأرض} [المؤمنون: 112] مفرع على ما قبله. فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث. والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملاً على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقُرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم.
وأدخلت أداة الحصر بعد (حسب) فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولاً واحداً وهو المصدر المستخلص من {أنما خلقناكم} والتقدير: أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالباً لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجرداً عن خبره، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات؛ فقولك: ظننت زيداً قائماً، إنما هو في الحقيقة: ظننت قيام زيد، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبراً مضافاً إلى ضمير مبتدئه كما قال الرضي: يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولاً به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدراً صريحاً. فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاققٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].
وحيث كانت (أنما) مركبة من (أن) المفتوحة الهمزة ومن (ما) الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر، ولولا (أن) لكان الكلام: أحسبتمونا خالقينكم عبثاً.
وانتصب {عَبَثاً} على الحال من ضمير الجلالة مؤولاً باسم الفاعل. والعبث: العمل الذي لا فائدة فيه. وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتباً عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث.
وبيان كونه عبثاً أنه لو خُلق الخلق فأحسنَ المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطاً للعبث. وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها.
وأما قوله: {وأنكم إلينا لا ترجعون} فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار.
وقرأ الجمهور: {تُرجعون} بضم التاء وفتح الجيم، أي أن الله يرجعهم قهراً. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم، أي يرجعون طوعاً أو كرهاً.
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}
تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى المُلك. فملكه الملك الكامل في حقيقته. الشامل في نفاذه.
والتعريف في {الملك} للجنس.
والحق: ما قابل الباطل، ومفهوم الصفة يقتضي أن مُلك غيره باطل، أي فيه شائبة الباطل لا من جهة الجور والظلم لأنه قد يوجدُ مُلك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء، بل من جهة أنه مُلك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه المُلك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك مُلك باطل لأنه ادعاء مُلك غير تام.
وجملة: {تعالى} يجوز أن تكون خبراً قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو.
والتعالي: مبالغة في العلو. وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي، وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة.
و {الكريم} بالجر صفة العرش. وكرم الجنس أن يكون مستوفياً فضائل جنسه كما في قوله تعالى: {إني ألقي إليّ كتاب كريم} في سورة النمل (29).
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}
لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلال المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعَوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل، لأنهم لم يثبتوا لله المُلك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة. فقوله: {لا برهان له به} حال من {من يدع مع الله إلهاً آخر}، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان ونظير هذا الحال قوله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
والقصر في قوله: {فإنما حسابه عند ربه} قصر حقيقي. وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده مبالغة في تخطئتهم وتهديدهم.
ويجوز أن يكون القصر إضافياً تطمينا للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على الكفر كقوله {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] وقوله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] وهذا أسعد بقوله بعده {وقل رب اغفر وارحم} [المؤمنون: 118].
ويدل على ذلك تذييله بجملة {إنه لا يفلح الكافرون}. وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] وختمت ب {إنه لا يفلح الكافرون} وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}
عطف على جملة: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر} [المؤمنون: 117] إلخ باعتبار قوله: {فإنما حسابه عند ربه}. فإن المقصود من الجملة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة. وفي حذف متعلق {اغفر وارحم} تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين، والمراد من كانوا من المؤمنين ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني، بقرينة المقام.
وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعداً بالإجابة.
وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire