samedi 5 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة غافر
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏
القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته‏.‏ وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة وذكرنا هنالك أن الحروف التي أسماؤها ممدودة الآخِر يُنطق بها في هذه الفواتح مقصورة بحذف الهمزة تخفيفاً لأنها في حالة الوقف مثل اسم ‏(‏حا‏)‏ في هذه السورة واسم ‏(‏را‏)‏ في ‏(‏أَلر‏)‏ واسم ‏(‏يا‏)‏ في ‏(‏يس‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏
القول فيه كالقول في فاتحة سورة الزمر‏.‏ ويُزاد هنا أن المقصود بتوجيه هذا الخبر هم المشركون المنكرون أن القرآن منزل من عند الله‏.‏ فتجريد الخبر عن المؤكد إخراج له على خلاف مقتضى الظاهر بجعل المنكِر كغير المنكر لأنه يحف به من الأدلة ما إِنْ تَأَمَّلَه ارتدع عن إنكاره فما كان من حقه أن ينكر ذلك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف‏.‏
ووصْفُ الله بوصفي ‏{‏العَزِيز العَليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله‏.‏
وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف ‏{‏العَزِيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1‏]‏ على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف ‏{‏الحكيم في سورة الزمر‏.‏ ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن‏.‏ وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم ‏{‏وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف ‏{‏غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول‏}‏ ترشيح لذلك التعريضضِ كأنه يقول‏:‏ إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم‏.‏
وتقديم ‏{‏غافر‏}‏ على ‏{‏قابل التوب‏}‏ مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ تعريض بالترغيب، وصِفتا ‏{‏شَدِيد العقاب ذِي الطَّول‏}‏ تعريض بالترهيب‏.‏ والتوبُ‏:‏ مصدر تاب، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه‏.‏ وإنما عطفت صفة ‏{‏وقَابِل التَّوْب‏}‏ بالواو على صفة ‏{‏غَافِر الذنب‏}‏ ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتا ‏{‏العليمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏غافرِ الذنب‏}‏ وصفة ‏{‏شديد العقاب‏}‏ إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها، فيصبحَ كأنه لم يفعلها‏.‏ وهذا فضل من الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏شديد العقاب‏}‏ إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله‏:‏ ‏{‏تنزيلُ الكِتَاب مِن الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب‏.‏
والمراد بغافر‏}‏ و‏{‏قابل‏}‏ أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمَل الفعل، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا‏.‏
و ‏{‏التوب‏}‏ صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل‏.‏
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال، ويطلق على مطلق القدرة كما في «القاموس»، وظاهرُه الإِطلاقُ وأقره في «تاج العروس» وجعله من معنى هذه الآية، ووقوعُه مع ‏{‏شديد العقاب‏}‏ ومزاوجتها بوصفي ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف ‏{‏شديد العِقَاب‏}‏، وبعذاب الدنيا من وصف ‏{‏ذِي الطَّوْل‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن اللَّه قادر على أن ينزل آية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث‏.‏
فجملة ‏{‏لا إله إلاَّ هو‏}‏ في موضع الصفة، وأتبع ذلك بجملة ‏{‏إليه المَصِير‏}‏ إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات ‏{‏غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوببِ شَدِيد العِقَاب‏}‏ أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم‏.‏
وتقديم المجرور في ‏{‏إليه المَصِيرُ‏}‏ للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين‏:‏ حرف لين، وحرف صحيح مثل‏:‏ العليم، والبلاد، وعقاب‏.‏
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏‏}‏
استئناف بياني نشأ من قوله‏:‏ ‏{‏تَنْزِيلُ الكِتَاببِ مِن الله العَزيز العَليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ المقتضي أن كون القرآن منزلاً من عند الله أمرٌ لا ريب فيه كما تقدم، فينشأ في نفوس السامعين أن يقولوا‏:‏ فما بال هؤلاء المجادلين في صدق نسبة القرآن إلى الله لم تقنعهم دلائل نزول القرآن من الله، فأجيب بأنه ما يجادل في صدق القرآن إلا الذين كفروا بالله وإذ قد كان كفر المكذبين بالقرآن أمراً معلوماً كان الإِخبار عنهم بأنهم كافرون غير مقصود منه إفادة اتصافهم بالكفر، فتعين أن يكون الخبر غير مستعمل في فائدة الخبر لا بمنطوقه ولا بمفهومه، فإن مفهوم الحصر وهو‏:‏ أن الذين آمنوا لا يجادلون في آيات الله كذلك أمر معلوم مقرر، فيجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا نفس المجادلين في آيات الله وأن المراد بكفرهم كفرهم بوحدانية الله بسبب إشراكهم، فالمعنى‏:‏ لا عجب في جدالهم بآيات الله فإنهم أتوا بما هو أعظم وهو الإِشراك على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللَّه جهرة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏‏.‏
ويجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا جميع الكافرين بالله من السابقين والحاضرين، أي ما الجَدل في آيات الله إلا من شأن أهل الكفر والإِشراك، ومجادلة مشركي مكة شعبة من شعب مجادلة كل الكافرين، فيكون استدلالاً بالأعمّ على الخاص، وعلى كلا الوجهين تُرك عطف هذه الجملة على التي قبلها‏.‏
والمراد بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل بقرينة السياق فمعنى ‏{‏في آيات الله‏}‏ في صدق آيات الله بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيل الكِتَاب مِن الله العَزيز العليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دَل قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏، على تقدير‏:‏ في إهلاك قوم لوط، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإِفادة التكرر مثل‏:‏ سافر وعافاه الله، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقولَ الزور من نحو قولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏، ‏{‏سحر مبين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، ‏{‏قول كاهن‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 42‏]‏، ‏{‏قول شاعر‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41‏]‏ لا ينفكون عن ذلك‏.‏ ومن المجادلة توركهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون، نحو قولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآيات وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ الآيات‏.‏
وقد كان لتعلق ‏{‏في‏}‏ الظرفية بالجدال، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُجَادِلُ في آيات الله‏}‏ موقعٌ عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحْوِي جميعَ أصناف الجدال، وجُعل مجرورُ الحرف نفسَ الآيات دون تعيين نحو صدقِها أو وقوعها أو صنفها، فكان قوله‏:‏ ‏{‏في آيات الله‏}‏ جامعاً للجدل بأنواعه ولمتعلِّق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم
‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏ فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه‏.‏
والمعنى‏:‏ ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله، فإن القرآن تحدّاهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعدما تقدم من التحدّي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلاّ فكونهم كفاراً معلوم‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله‏}‏ دون أن يقول‏:‏ في آياته، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن‏.‏
وفُرع قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغرُرك تَقَلُّبهم في البِلادِ‏}‏ على مضمون ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن المجادلين في آيات الله هم أهل الكفر، وذلك من شأنه أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظنَّ أنهم أمنوا من عذاب الله، ففرع عليه الجواب ‏{‏فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتاً مَّا، أو أن معناه نحن نُعلمُ أنهم يجادلون في آياتنا إصراراً على الكفر فلا يوهمْك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك‏.‏
والغرور‏:‏ ظن أحد شيئاً حسناً وهو بضده يقال‏:‏ غَرّك، إذا جعلك تظن السيّئ حسناً‏.‏ ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح‏.‏
والتقلب‏:‏ اختلاف الأحوال، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب‏.‏ و‏{‏البلاد‏}‏ الأرض، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة‏.‏
والمخاطب بالنهي في قوله‏:‏ ‏{‏فلا يغررك‏}‏ يجوز أن يكون غيرَ معين فيعم كل مَن شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد، وعلى هذا يكون النهي جارياً على حقيقةِ بابه، أي موجهاً إلى من يتوقع منه الغرور، ومثله كثير في كلامهم، قال كعب بن زهير‏:‏
فلا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وما وعدت *** إِنَّ الأَمَانِيَّ والأَحلامَ تضليل
ويجوز أن يكون الخطاب موجهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبي صلى الله عليه وسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غرّهُ تقلبهم في البلاد سالمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذينهم على جدالِهم في آياتنا، أو لا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلاً للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على دوام كفرهم ومعاودةِ أذاهم كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏، وفي معنى هذه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ وتقدمت في ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْم نُوحٍ‏}‏ وما بعدها بيان لجملة ‏{‏فلا يغرُرك تقلُّبهم في البلد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم فكيف كانَ عِقَاب‏}‏، فالمعنى‏:‏ سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء فأخذتهم فكيف رأيت عقابي إياهم كذلك مثل هؤلاء في إمهالهم إلى أن آخذهم‏.‏
والأحزاب‏:‏ جمع حِزب بكسر الحاء وسكون الزاي وهو اسم للجماعة الذين هم سواء في شأن‏:‏ من اعتقادٍ أو عمل أو عادةٍ‏.‏ والمراد بهم هنا الأمم الذين كانت كل أمة منهم متفقة في الدين، فكل أمة منهم حزب فيما اتفقت عليه‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِهم‏}‏ إشارة إلى أن قوم نوح كانوا حزباً أيضاً فكانوا يدينون بعبادة الأصنام‏:‏ يغوث، ويعوق، ونسر، وودَ، وسُواع، وكذلك كانت كل أمة من الأمم التي كذبت الرسل حزباً متفقين في الدين، فعادٌ حزب، وثمود حزب، وأصحاب الأيكة حزب، وقوم فرعون حزب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم جميعاً اشتركوا في تكذيب الرسل وإن تخالف بعض الأمم مع بعضها في الأديان‏.‏ وفي الجمع بين ‏{‏قبلهم‏}‏ و‏{‏مِن بَعْدِهِم‏}‏ محسِّن الطباق في الكلام‏.‏
والهمّ‏:‏ العزم‏.‏ وحقه أن يعدّى بالباء إلى المعاني لأن العزم فعل نفساني لا يتعلق إلا بالمعاني‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏، ولا يتعدّى إلى الذوات، فإذا عدّي إلى اسم ذات تعينّ تقدير معنى من المعاني التي تلابس الذات يدل عليها المقام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد همت به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏ أي همّت بمضاجعته‏.‏ وقد يذكر بعد اسم الذات ما يدل على المعنى الذي يُهَمّ به كما في قوله هنا‏:‏ ‏{‏ليأخذوه‏}‏ إن الهمّ بأخذه، وارتكابُ هذا الأسلوب لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ومثله تعلق أفعال القلوب بالأسماء في ظننتك جائياً، أي ظننت مجيئك‏.‏
والأخذ يستعمل مجازاً بمعنى التصرف في الشيء بالعقاب والتعذيب والقتل ونحو ذلك من التنكيل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذهم أخذة رابية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 10‏]‏ ويقال للأسير‏:‏ أخيذ، وللقتيل‏:‏ أخيذ‏.‏
واختير هذا الفعل هنا ليشمل مختلف ما هَمّت به كل أمة برسولها من قتل أو غيره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبوتك أو يقتلوك أو يخرجوك‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏
‏(‏والمعنى‏:‏ أن الأُمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى غاية الأذى من الهمّ بالقتل كما حكى الله عن ثمود‏:‏ ‏{‏قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقد تآمر كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جَميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم‏.‏
ويفهم من تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وهَمَّتْ كُلُّ أُمة بِرَسولهم لِيَأْخُذوه‏}‏ إنذارُ المشركين أن همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم هو منتهى أمد الإِمهال لهم، فإذا صمّموا العزم على ذلك أخذهم الله كما أخذ الأمم المكذبة قبلهم حين همّت كل أمة برسولهم ليأخذوه فإن قريشاً لما همّوا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أنجاه الله منهم بالهجرة ثم أمكنه من نواصيهم يوم بدر‏.‏ والمراد ب ‏{‏كُلُّ أُمَّة‏}‏ كل أمة من الأحزاب المذكورين‏.‏
وضمير ‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ عائد على ‏{‏كُلُّ أُمَّة‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ من تعداد جرائم الأمم السابقة من تكذيب الرسل والهمّ بقتلهم والجدال بالباطل تنظير حال المشركين النازل فيهم قوله‏:‏ ‏{‏ما يُجَادِلُ في آيَاتتِ الله إلا الذين كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ بحال الأمم السابقين سواء، لينطبق الوعيد على حالهم أكمل انطباق في قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذْتهُم فَكَيفَ كَانَ عِقابِ‏}‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالباطل‏}‏ للملابسة، أي جادلوا ملابسين للباطل فالمجرور في موضع الحال من الضمير، أو الباء لِلآلة بتنزيل الباطل منزلة الآلة لِجدالهم فيكون الظرف لغواً متعلقاً ب ‏{‏جادلوا‏}‏‏.‏ وتقييد ‏{‏جادلوا‏}‏ هذا بقيد كونه ‏{‏بالباطل‏}‏ يقتضي تقييد ما أطلق في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُجَادل في آيات الله إلاَّ الذينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏
والإِدحاض‏:‏ إبطال الحجة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم زوروا الباطل في صورة الحقّ وروّجوه بالسفسطة في صورة الحُجَّة ليبْطلوا حجج الحق وكفى بذلك تشنيعاً لكفرهم‏.‏
وفُرع على قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ قولُه‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ كما فُرّع قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغررك تَقَلُّبهم في البِلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ على جملة ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ فيجري توجيه الاستفهام هنا على نحو ما جرى من توجيه الخطاب هناك‏.‏
والأخذ هنا‏:‏ الغَلب‏.‏ والاستفهام ب ‏{‏كيف كانَ عقاب‏}‏ مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 76‏]‏ ونحوه، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم وتوصيفهم، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم، ففي هذا الاستفهام تحقيق وتثبيت لمضمون جملة ‏{‏فأخذتهم‏}‏‏.‏
ويجوز أن يكون في هذا الاستفهام معنى التقرير بناء على أن المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏كذَّبَت قبلهم قوم نوح‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ التعريض بتهديد المشركين من قريش بتنبيههم على ما حلّ بالأمم قبلهم لأنهم أمثالهم في الإِشراك والتكذيب فلذلك يكون الاستفهام عمّا حلّ بنظرائهم تقريرياً لهم بذلك‏.‏
وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏عقاب‏}‏ تخفيفاً مع دلالة الكسرة عليها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏
الواو عاطفة على جملة ‏{‏فكيف كان عِقَاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏، أي ومثل ذلك الحَقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدَر المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏حَقَّت كَلِماتُ رَبك‏}‏ على نحو ما قرر غير مرة، أولاها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه‏.‏
ولك أن تجعل المشار إليه الأخْذَ المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذِ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقاً لكلمات الله، أي تصديقاً لما أخبرهم به من الوعيد، فالمراد بالذين كفروا‏}‏ جميع الكافرين، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون ‏{‏الذينَ كَفَروا‏}‏ أعم‏.‏ وبذلك يكون التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك حقت كلمات ربك‏}‏ جارياً على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به، وليس هو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ونظائره‏.‏
ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ عين المراد بقوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم‏.‏
و ‏(‏كلمات الله‏)‏ هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين، و‏{‏على الذين كفروا‏}‏ يتعلق ب ‏{‏حقت‏.‏
وقوله‏:‏ أنهم أصحابُ النَّار‏}‏ يجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏كلمات ربك‏}‏ بدلاً مطابقاً فيكون ضمير ‏{‏أنَّهُم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين‏.‏
ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفةٍ على طريقة كثرة حذفها قبل ‏(‏أنَّ‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير ‏{‏أنَّهُم‏}‏ عائداً إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏كلمة ربك‏}‏ بالإِفراد‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإِفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب ‏(‏على‏)‏ تعلق بفعل ‏{‏حَقَّت‏}‏ وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنساً صادقاً بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعَّدة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادَّةُ بين الحالين والمقالين‏.‏
ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها‏.‏
وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعاً من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء اللَّه حفيظ عليهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏‏.‏
و ‏{‏الذين يحمِلُون العَرْش‏}‏ هم الموكَّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏من حَوله‏}‏ طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقاً لعظمته قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏
‏(‏والإِخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإِيمان‏.‏
وصِيغةُ المضارع في ‏{‏يسبحون‏}‏ و‏{‏يؤمنون‏}‏ و‏{‏يستغفرون‏}‏ مفيدة لتجدد ذلك وتكرره، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله‏:‏ ‏{‏فاغفر للذين تابوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأدخِلهم جَنَّات عَدننٍ التي وعَدتَّهُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومَن تَقِ السَّيِئات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 9‏]‏ الخ وقد قال في الآية الأخرى ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ أي من المؤمنين كما تقدم‏.‏
ومعنى تجدد الإِيمان المستفاد من ‏{‏ويؤمنون‏}‏ تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة وإلا فإن الإِيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره‏.‏ وفائدة الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون مع كونه معلوماً في جانب الملائكة التنويهُ بشأن الإِيمان بأنه حال الملائكة، والتعريضُ بالمشركين أن لم يكونوا مثل أشرف أجناس المخلوقات مثل قوله تعالى في حق إبراهيم ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَحْمَة وعِلمَاً‏}‏ مبيّنة ل ‏{‏يستغفرون‏}‏، وفيها قول محذوف دلت عليه طريقة التكلم في قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏‏.‏
والباء في ‏{‏بِحَمْد رَبهِم‏}‏ للملابسة، أي يسبحون الله تسبيحاً مصاحباً للحمد، فحذف مفعول ‏{‏يسبحون‏}‏ لدلالة المتعلِّق به عليه‏.‏
والمراد ب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحاً لكل المؤمنين‏.‏
وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإِجابة، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه لأن سعة الرحمة مما يُطمِع باستجابة الغفران، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيماننِ الذين آمنوا‏.‏
ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك‏.‏
وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنَّ ذاته هي التي وَسِعَتْ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرِد بعدَه فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب، لأن للتفصيل بعد الإِجمال تمكيناً للصفة في النفس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والمراد أن الرحمة والعلم وَسِعَا كل موجود، الآن، أي في الدنيا وذلك هو سياق الدعاء كما تقدم آنفاً، فما من موجود في الدنيا إلا وقد نالته قسمة من رحمة الله سواء في ذلك المؤمن والكافر والإِنسان والحيوان‏.‏
و ‏{‏كُلَّ شيءٍ‏}‏ كل موجود، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار، من الإِنسان والحيوان، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحَجر والشجر ونحوهما‏.‏ وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب‏.‏
وتَفَرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا لأنه إذا كان قد عَلم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلَّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها‏.‏
ومفعولُ ‏{‏فاغفر‏}‏ محذوف للعلم، أي اغفر لهم ما تابوا منه، أي ذنوب الذين تابوا‏.‏ والمراد بالتوبة‏:‏ الإِقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله‏.‏
واتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتنابُ ما نهاهم عنه، فالإِرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشَوا فيه فوصلوا إلى المقصود‏.‏
‏{‏وَقِهم عذاب الجحيم‏}‏ عطف على ‏{‏فاغفر‏}‏ فهو من جملة التفريع فإن الغفران يقتضي هذه الوقاية لأن غفران الذنب هو عدم المؤاخذة به‏.‏ وعذاب الجحيم جعله الله لِجزاء المذنبين، إلا أنهم عضدوا دلالة الالتزام بدلالة المطابقة إظهاراً للحرص على المطلوب‏.‏ والجحيم‏:‏ شدة الالتهاب، وسميت به جهنم دارُ الجزاء على الذنوب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏
‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏
إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم‏.‏
والعَدْن‏:‏ الإِقامة، أي الخلود‏.‏ والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدُب مع الله تعالى لأنه لا يُسأل عما يفعل، كما تقدم في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏
ويجوز أن يكون المراد بقولهم‏:‏ ‏{‏وأدخلهم‏}‏ عَجِّل لهم بالدخول‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم‏}‏ فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحاً‏.‏ و‏{‏من صلح‏}‏ عطف على الضمير المنصوب في ‏{‏أدخلهم‏}‏‏.‏
والمعنى دعاء بأن يجعلهم الله معهم في مساكن متقاربة، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلال‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذرياتهم‏}‏ في سورة ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏
ورُتبت القرابات في هذه الآية على ترتيبها الطبيعي فإن الآباء أسبق علاقة بالأبناء ثم الأزواجُ ثم الذريات‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّك أنت العَزِيز الحَكِيم‏}‏ اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإِجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب‏.‏ واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها‏.‏ و‏(‏إنَّ‏)‏ في مثل هذا المقام تُغني غَناء فاء السببية، أي فعزتُك وحكمتك هما اللتان جَرَّأَتَانَا على سؤال ذلك من جلالك، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وَعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل، والحكمةُ تقتضي معاملة المحسن بالإِحسان‏.‏
وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسوءهم يوم القيامة بقولهم‏:‏ ‏{‏وَقِهِم السيئات‏}‏ وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله‏:‏ ‏{‏فوقاه اللَّه سيئات ما مكروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏ صيغت على وزن فَيْعَلَة للمبالغة في قيام الوصف بالموصوف مثل قيّم وسيّد وصيقل، فالمعنى‏:‏ وقِهِمْ من كل ما يسوءهم‏.‏
فالتعريف في ‏{‏السَّيّئَاتِ‏}‏ للجنس وهو صالح لإِفادة الاستغراق، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري‏:‏
يا أهلَ ذا المغنى وُقيتم ضُرا ***
وفي الحديث «اللهم أعط منفقاً خَلفاً، ومُمسكاً تلَفاً» أي كلّ منفق ومُمسك‏.‏
والمراد‏:‏ إبلاغ هؤلاء المؤمنين أعلى درجات الرضى والقبول يومَ الجزاء بحيث لا ينالهم العذاب ويكونون في بحبوحة النعيم ولا يعتريهم ما يكدرهم من نحو التوبيخ والفضيحة‏.‏ وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏فوقاهم اللَّه شر ذلك اليوم‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏ومن تَققِ السَّيئات يومئذ فقد رحمته‏}‏ تذييل، أي وكل من وقي السيئات يوم القيامة فقد نالته رحمة الله، أي نالته الرحمة كاملة ففعل ‏{‏رحمته‏}‏ مراد به تعظيم مصدره‏.‏
وقد دل على هذا المراد في هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وذلك هُوَ الفَوْزُ العَظِيم‏}‏ إذ أشير إلى المذكور من وقاية السيئات إشارةً للتنويه والتعظيم‏.‏ ووصف الفوز بالعظيم لأنه فوز بالنعيم خالصاً من الكدرات التي تنقص حلاوة النعمة‏.‏
وتنوين ‏{‏يومئذ‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي يوم إذ تدخلهم جنات عدن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏
مقابلةُ سؤال الملائكةِ للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطَب به المشركون يومئذٍ من التوبيخ والتنديم وما يراجِعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابةِ دعاء الملائكة للمؤمنين، فطيُّ ذكرِ ذلك ضرب من الإِيجاز‏.‏
والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذٍ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا ينادون‏}‏ الآيات مستأنف استئنافاً بيانياً كأنَّ سائلاً سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك، وفي هذا الأسلوب إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 6‏]‏ والمراد بالذين كفروا هنا مشركو أهل مكة، فإنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم يناديهم الملائكة تبليغاً عن رب العزة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏ وهو بعد عن مرتبة الجلال، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏.‏
واللام في ‏{‏لَمَقْتُ الله‏}‏ لام القسم‏.‏ والمقت‏:‏ شدة البغض‏.‏ و‏{‏إذْ تُدْعَون‏}‏ ظرف ل ‏{‏مَقتكم أنفسكم‏}‏‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للزمن الماضي، أي حينَ كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في الدنيا بقرينة ‏{‏تُدعون‏}‏ وجيء بالمضارع في ‏{‏تُدعَون‏}‏ و‏{‏تَكفرون‏}‏ للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإِيمان وتكرر كفرهم، أي تجدده‏.‏
ومعنى‏:‏ مقتهم أنفسهم حينئذٍ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يُشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإِيمان ومحاسن شرائعه ورضُوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومَغِبَّة سوءٍ، فكان فعلهم ذلك شبيهاً بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد، وهذا كما يقال‏:‏ فلان عدو نفسه‏.‏ وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألْنَ النبي صلى الله عليه وسلم ويستكثرن، فلما دخل عمر ابتدَرْن الحجاب فقال لهن‏:‏ «يا عدُوَّاتتِ أنفسهن أتهبنَني ولا تهِبْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فالمقت مستعار لِقلة التدبر فيما يضر‏.‏ وقد أشار إلى وجه هذه الاستعارة قوله‏:‏ ‏{‏إذْ تُدْعون إلى الإيمان فتكفرون‏}‏ فمناط الكلام هو ‏{‏فتكفرون‏}‏ وفي ذكر ‏{‏ينادون‏}‏ ما يدل على كلام محذوف تقديره‏:‏ أن الذين كفروا يمقتهم الله وينادَون لمقتُ الله الخ‏.‏
ومعنى مقت الله‏:‏ بغضه إياهم وهو مجاز مرسل أطلق على المعاملة بآثار البغض من التحقير والعقاب فهو أقرب إلى حقيقة البغض لأن المراد به أثره وهو المعاملة بالنكال، وهو شائع شيوع نظائره مما يضاف إلى الله مما تستحيل حقيقته عليه، وهذا الخبر مستعمل في التوبيخ والتنديم‏.‏
و ‏{‏أكبر‏}‏ بمعنى أشد وأخطر أثَراً، فإطلاق الكِبَر عليه مجاز لأن الكبر من أوصاف الأجسام لكنه شاع إطلاقه على القوة في المعاني‏.‏
ولما كان مقتهم أنفسهم حَرَمهم من الإِيمان الذي هو سبب النجاة والصلاح وكان غضب الله عليهم أوقعهم في العذاب كان مقت الله إياهم أشدّ وأنكى من مقتهم أنفسهم لأن شدة الإِيلام أقوى من الحرمان من الخير‏.‏ والمقت الأول قريب من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ مقتاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 39‏]‏ وهو مقت العذاب‏.‏ هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها، وللمفسرين فيها وجوه أخر تدنو وتبعد مما ذكرنا فاستعرِضْها واحكم فيها‏.‏
و ‏{‏أنفسكم‏}‏ يتنازعه ‏{‏مقتُ الله،‏}‏ و‏{‏مقتِكم‏}‏ فهو مفعول المصدرين المضافين إلى فاعلَيهما‏.‏
وبني فعل ‏{‏تدعون‏}‏ إلى النائب للعلم بالفاعل لظهور أن الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الرسل عليهم السلام‏.‏ وتفريع ‏{‏فتكفرون‏}‏ بالفاء على ‏{‏تدعون‏}‏ يفيد أنهم أعقبوا الدعوة بالكفر، أي بتجديد كفرهم السابق وبإعلانه أي دون أن يتمهلوا مهلة النظر والتدبر فيما دُعوا إليه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏
جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم‏.‏
والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏‏.‏
والمراد بإحدى الموتتين‏:‏ الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة، فإطلاقه على حالة إنعدام الحياة قبلَ حصولها فيه استعارةٌ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال ‏{‏أمتنا‏}‏ في حقيقته ومجازه، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعاً لِجريان الاستعارة في المصدر، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترككِ في معنييه، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلاً بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحاً، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليباً للموتة الثانية‏.‏ وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان‏.‏
والمراد بالاحياءتَيْن‏:‏ الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه، والإِحياءة الثانية التي تحصل عند البعث، وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وانتصب ‏{‏اثنتين‏}‏ في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ موتتين اثنتين وإحياءتَيْن اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يُقيِّد معنى الموت‏.‏
وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر‏.‏
وتفرع قولهم‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏ على قولهم‏:‏ ‏{‏وأحييتنا اثنتين‏}‏ اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة‏.‏
فجملة ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏ إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو‏:‏ بعتُ‏.‏ والمعنى‏:‏ نعترف بذنوبنا‏.‏
وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ، فلذلك فرعوا عليه‏:‏ ‏{‏فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل‏}‏، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً‏.‏
والاستفهام بحرف ‏{‏هَل‏}‏ مستعمل في الاستعطاف‏.‏ وحرف ‏{‏مِن‏}‏ زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة ‏{‏مِن‏}‏ أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات‏.‏ وقد عُدّ الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ خاصة من مواقع زيادة ‏{‏مِن‏}‏ لتوكيد العموم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتقول هل من مزيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، وأن وجه اختصاص ‏{‏هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال‏.‏
وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال، أي إلى شيء من الخروج قليللٍ أو كثير لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏‏.‏
والسبيل‏:‏ الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب، وكثُر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود‏.‏
وتنكير ‏{‏سبيل‏}‏ كتنكير ‏{‏خروج‏}‏ أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك‏.‏
قال في «الكشاف» «وهذا كلامُ من غلب عليه اليأس والقنوط» يريد أَنَّ في اقتناعهم بخروج مَّا دلالة على أنهم يستبعدون حُصول الخروج‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏
عدل عن جوابهم بالحرمان من الخروج إلى ذكر سبب وقوعهم في العذاب، وإذ قد كانوا عالمين به حين قالوا‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذنوبنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏، كانت إعادة التوقيف عليه بعد سؤال الصفح عنه كنايةً عن استدامته وعدم استجابة سؤالهم الخروج منه على وجه يشعر بتحقيرهم‏.‏ وزيد ذلك تحقيقاً بقوله‏:‏ ‏{‏فالحُكمُ لله العَلِي الكَبِير‏}‏‏.‏
فالإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى ما هم فيه من العذاب الذي أنبأ به قوله‏:‏ ‏{‏يُنادون لمقتُ الله أكبر من مقتِكم أنفُسكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ وما عقب به من قولهم‏:‏ ‏{‏فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والباء في ‏{‏بأنه‏}‏ للسببية، أي بسبب كفركم إذا دُعي الله وحده‏.‏ وضمير ‏{‏بأنه‏}‏ ضمير الشأن، وهو مفسر بما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إذا دُعِيَ الله وحْدَه كفرتُم وإن يُشْرك به تُؤمنُوا‏}‏، فالسبب هو مضمون القصة الذي حاصل سبكِه‏:‏ بكفركم بالوحدانية وإيمانكم بالشرك‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ مستعملة هنا في الزمن الماضي لأن دعاء الله واقع في الحياة الدنيا وكذلك كفرهم بوحدانية الله، فالدعاء الذي مضى مع كفرهم به كان سبب وقوعهم في العذاب‏.‏
ومجيء ‏{‏وإنْ يُشْرك بِهِ تُؤْمِنُوا‏}‏ بصيغة المضارع في الفعلين مؤوّل بالماضي بقرينة ما قبله، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين لدلالتهما على تكرر ذلك منهم في الحياة الدنيا فإن لتكرره أثراً في مضاعفة العذاب لهم‏.‏
والدعاء‏:‏ النداء، والتوجهُ بالخطاب‏.‏ وكلا المعنيين يستعمل فيه الدعاء ويطلق الدعاء على العبادة، كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال ربكم ادعُوني أستَجِب لَكُم‏}‏ في هذه السورة ‏[‏60‏]‏، فالمعنى إذا نودي الله بمسمعكم نداء دالاً على أنه إله واحد مثل آيات القرآن الدالة على نداء الله بالوحدانية، فالدعاء هنا الإِعلان والذكر، ولذلك قوبل بقوله‏:‏ ‏{‏كَفَرْتُم وإن يُشْرَك بهِ تُؤْمِنُوا‏}‏، والدعاء بهذا المعنى أعم من الدعاء بمعنى سؤال الحاجات ولكنه يشمله، أو إذا عُبد الله وحده‏.‏
ومعنى ‏{‏كفرتم‏}‏ جدّدتم الكفر، وذلك إمّا بصدور أقوال منهم ينكرون فيها انفراد الله بالإلهية، وإمّا بملاحظة الكفر ملاحظةً جديدة وتذكر آلهتهم‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وإن يُشْرك به تُؤمنوا‏}‏ إن يَصدر ما يدل على الإِشراك بالله من أقوال زعمائهم ورفاقهم الدالة على تعدد الآلهة أو إذا أُشرك به في العبادة تؤمنوا، أي تجددوا الإيمان بتعدد الآلهة في قُلوبكم أو تؤيدوا ذلك بأقوال التأييد والزيادة‏.‏ ومتعلِّق ‏{‏كفرتم‏}‏ و‏{‏تؤمنوا‏}‏ محذوفان لدلالة ما قبلهما‏.‏ والتقدير‏:‏ كفرتم بتوحيده وتؤمنوا بالشركاء‏.‏
وجيء في الشرط الأول ب ‏{‏إذا التي الغالب في شرطها تحقق وقوعه إشارة إلى أن دعاء الله وحده أمر محقق بين المؤمنين لا تخلو عنه أيامهم ولا مجامعهم، مع ما تفيد إذا من الرغبة في حصول مضمون شرطها‏.‏
وجيء في الشرط الثاني بحرف إنْ التي أصلها عدم الجزم بوقوع شرطها، أو أَنَّ شرطها أمر مفروض، مع أن الإِشراك مُحقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك المفروض للتنبيه على أن دلائل بطلان الشرك واضحة بأدنى تأمل وتدبر فنزل إشراكهم المحقق منزلة المفروض لأن المقام مشتمل على ما يَقلَع مضمون الشرط من أصله فلا يصلح إلاّ لفرضه على نحو ما يفرض المعدوم موجوداً أو المحال ممكناً‏.‏
والألف واللام في الحكم للجنس‏.‏ واللام في لله للملككِ أي جنس الحكم ملك لله، وهذا يفيد قصر هذا الجنس على الكون لله كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ وهو قصر حقيقي إذ لا حكم يوم القيامة لغير الله تعالى‏.‏
وبهذه الآية تمسك الحرورية يوم حروراء حين تداعَى جيش الكوفة وجيش الشام إلى التحكيم فثارت الحرورية على علي بن أبي طالب وقالوا‏:‏ لا حُكم إلا لله ‏(‏جعلوا التعريف للجنس والصيغة للقصر‏)‏ وحدَّقوا إلى هذه الآية وأغضوا عن آيات جَمَّة، فقال عليّ لما سمعها‏:‏ «كلمةُ حَقَ أُريد بها باطل» اضطرب الناس ولم يتم التحكيم‏.‏
وإيثار صفتي ‏{‏العَلِيّ الكَبِير‏}‏ بالذكر هنا لأن معناهما مناسب لحِرمانهم من الخروج من النار، أي لِعدم نقض حكم الله عليهم بالخلود في النار، لأن العلوّ في وصفه تعالى علوّ مجازي اعتباري بمعنى شرف القدر وكماله، فهو العلي في مراتب الكمالات كلها بالذات، ومن جملة ما يقتضيه ذلك تمامُ العلم وتمامُ العدل، فلذلك لا يَحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والعدل‏.‏
ووصف ‏{‏الكبير‏}‏ كذلك هو كبَر مجازي، وهو قوة صفات كماله، فإن الكبير قوي وهو الغنيُّ المطلق، وكلا الوصفين صيغ على مثال الصفة المشبهة للدلالة على الاتصاف الذاتي المكين، وإنما يقبل حكم النقض لأحد أمرين إما لعدم جريه على ما يقتضيه من سبب الحكم وهو النقض لأجل مخالفة الحق وهذا ينافيه وصف ‏{‏العلي،‏}‏ وإمَّا لأنه جَور ومجاوز للحد، وهذا ينافيه وصف ‏{‏الكبير‏}‏ لأنه يقتضي الغِنَى عن الجور‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏
هذا استئناف ابتدائي إقبالٌ على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب، وما يدعون من دعاء لا يستجاب، وقرينة ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ومناسبة الانتقال هي وصفَا ‏{‏العلي الكبير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ لأن جملة ‏{‏يريكم آياته‏}‏ تناسب وصف العلوّ، وجملة ‏{‏ينزل لكم من السماء رزقاً‏}‏ تناسب وصف ‏{‏الكبير‏}‏ بمعنى الغَنِيّ المطلق‏.‏
والآيات‏:‏ دلائل وجوده ووحدانيتِه‏.‏ وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏‏.‏ وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان، ولذلك عُقب الأمران بقوله‏:‏ ‏{‏ومَا يَتَذَكَّرُ إلا مَن يُنيب‏}‏‏.‏
وصيغة المضارع في ‏{‏يريكم‏}‏ و‏{‏ينزل‏}‏ تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في الدنيا، فتعين أن الخطاب مستأنف مراد به المؤمنون وليس من بقية خطاب المشركين في جهنم، ويزيد ذلك تأييداً قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏
‏(‏وعُدي فعلاً ‏(‏يرى‏)‏ و‏{‏ينزل‏}‏ إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجُعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ فجَعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه‏.‏
ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزالُ الرزق لهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلا من ينيب‏}‏ أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصدّ أهله عن الإِنصاف وإعمال النظر في الأدلة‏.‏
والإِنابة‏:‏ التوبة، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإِنابة المحصلة للمطلوب هي الإِنابة المتجددة المتكررة، وإذ قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ دَالاً بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات واطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإِنابة وبين التذكر تلازم عادي، ولذلك فجملة ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ تذييل‏.‏
وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على مفعول ‏{‏يُنزل‏}‏ وهو ‏{‏رزقاً‏}‏ لكمال الامتنان بأن جُعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة ل ‏{‏رِزْقاً‏}‏ فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطَبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلِّقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة‏.‏
وجُعل تنزيل الرزق لأَجل المخاطبين وهم المؤمنون إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى‏.‏
وتُثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعَم عليه أوْ لا‏؟‏ فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي‏:‏ هو منعم عليه نعمةً دنيوية، لا دينية ولا أُخروية، وقالت المعتزلة‏:‏ هم منعم عليه نعمةً دنيوية ودينية لا أخروية، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة‏.‏
وأنا أقول‏:‏ لو استُدل له بأنها حاصلة لهم تبعاً فهي لذائد وليست نعماً لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرتُ إليه آنفاً‏.‏
وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذّ فلم يمنع أن تكون نعماً وإن كانت عواقبُها آلاماً، وآياتُ القرآن شاهدة لقوله‏.‏ وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دِينَا، وأرادوا بذلك أن الله مكَّن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجببِ صفاته‏.‏ والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين، وإنما نظر كل شِق من أهل الخلاف إلى ما حفّ بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها لا في حقائق المقصود منها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏
‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
تفريع على ما شاهدوا من الآيات وما أفيض عليهم من الرزق، وعلى أنهم المُرْجَوون للتذكر، أي إذ كنتم بهذه الدرجة فادعوا الله مخلصين، ففي الفاء معنى الفصيحة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الله أراكم آياته وأنزل لكم الرزق وما يتذكر بذلك إلا المنيبون وأنتم منهم فادعوا الله مخلصين لتوفر دواعي تلك العبادة‏.‏
والدعاء هنا الإِعلان وذكر الله وَنداؤه ويشمل الدعاء بمعنى سؤال الحاجة شمول الأعم للأَخص، وتقدم آنفاً أن الدعاء يطلق على العبادة‏.‏ والأمر مستعمل في طلب الدوام لأن المؤمنين قد دَعوا الله مخلصين له، فالمقصود‏:‏ دوموا على ذلك ولو كره الكافرون، لأن كراهية الكافرين ذلك من المؤمنين تكون سبباً لمحاولتهم صرفهم عن ذلك بكل وسيلة يجدون إليها سبيلاً فيُخشى ذلك أن يفتن فريقاً من المؤمنين، فالكراهية كناية عن المقاومة والصدّ لأنهما لازمان للكراهية لأن شأن الكاره أن لا يصبر على دوام ما يكرهه، فالأمر بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين‏}‏ لي نحو الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ لأن الكلام تفريع لاستجداد غرض آخر فجعل مستقلاً عما قبله‏.‏
وتقدم تفسير ‏{‏مُخلصِينَ لهُ الدينَ‏}‏ في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فاعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ أول سورة ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏ادْعوا‏}‏‏.‏
و ‏{‏لو‏}‏ وصلية تفيد أن شرطها أقصَى ما يكون من الأحوال التي يراد تقييد عامل الحال بها، أي اعبدوه في كل حال حتى في حال كراهية الكافرين ذلك لأن كراهية الكافرين ذلك والمؤمنُون بين ظَهْرَانَيْهم وفي بلاد فيه سلطان الكافرين مظنة لأن يصدهم ذلك عن دعاء الله مخلصين له الدين‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏ وقد تقدم تفصيل ‏(‏لو‏)‏ هذه عند قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏
‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏‏}‏
‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق * يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ‏}‏‏.‏
‏{‏رفيعُ الدرجات‏}‏ خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ وليس خبراً ثانياً بعد قوله‏:‏ ‏{‏هُو الَّذي يُريكم آياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏ لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب‏:‏
سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتي *** أَيَادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت
و‏{‏رفيع‏}‏ يجوز أن يكون صفة مشبهة‏.‏ والتعريف في ‏{‏الدرجات‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ رفيعةٌ درجاتُه، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال‏:‏ فلان حسنٌ فعلُه، ويقال‏:‏ فلان حسَنُ الفعل، فيؤُول قوله‏:‏ ‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجات‏}‏ إلى صفة ذاته‏.‏
و ‏{‏الدرجات‏}‏ مستعارة للمجد والعظمة، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر، والمعنى‏:‏ أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الكافرون‏}‏ من أمثلة المبالغة، أي كثير رفععِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وإضافته إلى ‏{‏الدرجات‏}‏ من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى‏.‏
والمقصود‏:‏ تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ في سورة ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏ذُو العَرْش‏}‏ خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت‏.‏
كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل‏:‏ إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم‏.‏
وجملة ‏{‏يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه‏}‏ خبر ثالث، أو بدلُ بعض من جملة ‏{‏رَفِيعُ الدرجات‏}‏ فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه‏.‏
والإِلقاء‏:‏ حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قال‏:‏ ‏{‏فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86، 87‏]‏‏.‏ واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض‏.‏
والروح‏:‏ الشريعة، وحقيقة الروح‏:‏ ما به حياة الحيّ من المخلوقات، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم، فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلممِ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة، ويطلق الروح على المَلَك قال‏:‏
‏{‏فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏‏.‏
و ‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية في ‏{‏مِن أمْرِهِ‏}‏، أي بأمره، فالأمر على ظاهره‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة ‏{‏الروح‏}‏ أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن، أي الشؤون العجيبة، وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد‏.‏
وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ ثم أُعقب بقوله‏:‏ ‏{‏رفيع الدرجات‏}‏ فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات، ثم أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏يُلقِي الرُّوح من أمرِه‏}‏ فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة ‏{‏مَن يَشاء مِن عِباده‏}‏، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وهذا يرتبط بقوله في أول السورة ‏[‏2‏]‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه، وجاء في شأن الناس بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مُخْلِصين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ ثم أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏رَفِيع الدرجات‏}‏‏.‏
وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء، وفيه تعريض بتسفيه المشركين ‏{‏فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏
وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ الخ‏.‏
والإِنذار‏:‏ إِخبار فيه تحذير مما يسوء، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة‏.‏ وفعله المجرد‏:‏ نَذِر كعلم، يقال‏:‏ نَذِر بالعدوّ فحَذِره‏.‏ والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء، يقال‏:‏ أنذرتُهم بالعَدوّ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن، وأما قوله في أول ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏لتنذر به‏}‏ فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية‏.‏ وضمير به عائداً إلى الكتاب‏.‏
والضمير المستتر في لينذر‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏، والأحسن أن يعود على ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه، ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏لا يخفى على الله منهم شيء‏}‏ كما سيأتي‏.‏
و ‏{‏يوم التَلاَقي‏}‏ هو يوم الحشر، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازياً، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ أي لا يرجُون يوم الحشر‏.‏ وانتصبَ ‏{‏يوم التلاقي‏}‏ على أنه مفعول ثان ل ‏{‏ينذر‏}‏، وحذف المفعول الأول لظهوره، أي لينذر الناسَ‏.‏ وبَين ‏{‏التَّلاَقي‏}‏ و‏{‏يُلْقي‏}‏ جناس‏.‏
وكتب ‏{‏التَّلاَقي‏}‏ في المصحف بدون ياء‏.‏ وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء‏.‏ وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع‏.‏ وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعاً‏.‏
و ‏{‏يَوْمَ هُم بارزون‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ التَّلاَقي‏}‏‏.‏ و‏{‏هم بارزون‏}‏ جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير‏.‏
وضمير الغيبة عائد إلى ‏{‏الكافِرُونَ من قوله‏:‏ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ‏}‏ بيان لجملة ‏{‏هُم بارزون‏}‏ والمعنى‏:‏ أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم‏:‏ ‏{‏مِنْهم شَيءٌ‏}‏‏.‏
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله‏:‏ ‏{‏على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ‏}‏، ولأن الأظهر أن ضمير ‏{‏ليُنذِر‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَن يَشَاء‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏مِنهُم‏}‏ من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام، وأوثر أيضاً لفظ ‏{‏شَيْءٌ‏}‏ لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى‏:‏ لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها‏.‏
‏{‏شَئ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد‏}‏
مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر‏.‏ والتقدير‏:‏ يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله‏.‏
والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللاتتِ لثقيف، وذي الخَلَصة لدوْس، ومناةَ للأوس والخزرج‏.‏ وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب‏:‏ ملك الملوك ‏(‏شاهنشاه‏)‏، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا ‏(‏شاه جهان‏)‏‏.‏ ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر «ثم يقول الله أنا المَلِك أين ملوك الأرض» استفهاماً مراداً منه تخويفهم من الظهور يومئذٍ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم‏.‏
ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه‏:‏ ‏{‏وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏
و ‏{‏اليوم‏}‏ المعرف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام‏.‏
وجملة ‏{‏لله الواحد القَهَّار‏}‏ يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملاً في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّ يتساءَلُون عَننِ النبإ العَظِيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف، أي فيقول المسؤولون‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهَّار‏}‏ إقراراً منهم بذلك، والتقدير‏:‏ فيقول البارزون لله الواحد القهار، فتكون معترضة‏.‏
وذكر الصفتين ‏{‏الواحد القَهَّار‏}‏ دون غيرهما من الصفات العُلَى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَننِ المُلْكُ اليَوْمَ‏}‏ حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏
لا ريب في أن هذه الجمل الثلاث متصلة بالمقول الصادر من جانب الله تعالى، سواء كان مجموع الجملتين السابقتين مَقولاً واحداً أم كانت الثانية منهما من مقول أهل المحشر‏.‏ وترتيبُ هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين، عددت آثار التصرف بذلك المُلككِ وهي الحكم على العباد بنتائج أعمالهم وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ولا هو بحاجة إلى التدبر والتأمل في طرق قضائه، وعلى هذه النتائج جاء ترتيب ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏، ثم ‏{‏لا ظُلم اليوم‏}‏، ثم ‏{‏إن الله سَرِيع الحِساب‏}‏، وأما مواقع هاته الجمل الثلاث فإن جملة ‏{‏اليوم تجزى‏}‏ الخ واقعة موقع البيان لما في جملة ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ وجوابها من إجمال، وجملة ‏{‏لا ظلم اليوم‏}‏ واقعة موقع بدل الاشتمال من جملة ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏ أي جزاء عادلاً لا ظلم فيه، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد ‏{‏لا‏}‏ النافية للجنس‏.‏
وتعريف ‏{‏اليَوْم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم تجزى كل نفس‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا ظلم اليوم‏}‏ نظير تعريف ‏{‏لِمَن المُلك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏، وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ واقعة موقع التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء‏.‏ وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن ‏{‏إنَّ‏}‏ إذا جاءت في غير مقام رَد الإِنكار، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكم‏.‏ وسرعة الحكم تقتضي تملُّؤٍ الحاكم من العلم بالحق، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب، فكانَ قوله‏:‏ ‏{‏سَريعُ الحساب‏}‏ علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله محاسبهم حساباً سريعاً لأنه سريع الحساب‏.‏
والحساب مصدر حاسب غيره إذا حَسِب له ما هو مطلوب بإعداده، وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمّي يوم الجزاء يومَ الحساب، وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كسبت‏}‏ للسببية، أي تُجزى بسبب ما كسبت، أي جزاء مناسباً لما كسبت، أي عملت‏.‏
وفي الآية إيماء إلى أن تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضَرب من ضروب الجور لأن الحق إنْ كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم، ولَعل صاحب الحق في حاجة إلى تعجيل حقه لنفع معطَّل أو لدفع ضر جَاثم، ولعله أن يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد‏.‏
وإن كان الحق حقَّ الله كان تأخير القضاء فيه إقراراً للمنكر‏.‏ في «صحيح البخاري» ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذَ بن جبل فلمّا قدِم معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له‏:‏ أنزل، وإذا رجُل موثق عند أبي موسى، قال مُعاذ‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ كان يهودياً فأسلم ثم تَهوَّد‏.‏ قال مُعاذ‏:‏ لا أجلس حتى يُقتَل، قضاءَ الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به أبو موسى فقتل ‏"‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏‏}‏
الأظهر أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وأنذِرْهم‏}‏ وما بعده معترضاً بين جملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏ وجملة ‏{‏يَعْلم خائِنة الأعيُن‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ على الوجهين الآتيين في موقع جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏، فالواو اعتراضية، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة‏.‏
ويوم الآزفة يوم القيامة‏.‏ وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزِف الأمر، إذا قرب، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره‏:‏ الساعة الآزفة، أو القيامة الآزفة، مثل الصاخّة، فتكون إضافة ‏{‏يوم‏}‏ إلى ‏{‏الآزفة‏}‏، حقيقية‏.‏ وتقدم القول في تعدية الإِنذار إلى ‏(‏اليوم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لتنذر يوم التلاقي‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏إذْ‏}‏ بدل من ‏{‏يوم‏}‏ فهو اسم زمان منصوب على المفعول به، مضاف إلى جملة ‏{‏القلوب لدى الحناجر‏}‏ و‏{‏أل‏}‏ في ‏{‏القُلُوبُ‏}‏ و‏{‏الحناجر‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ وأصله‏:‏ إذْ قلوبهم لدى حناجرهم، فبواسطة ‏(‏أل‏)‏ عُوض تعريف الإِضافة بتعريف العهد وهو رَأي نحاة الكوفة، والبصريون يقدرون‏:‏ إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى‏:‏ إذ قلوب الذين تنذرهم، يعني المشركين، فأمَّا قلوب الصالحين يومئذٍ فمطمئنة‏.‏
والقلوب‏:‏ البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيًّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم‏.‏
والحناجر‏:‏ جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحُلقوم‏.‏ ومعنى القلوب لدى الحناجر‏:‏ أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهِده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوبُ مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب‏:‏ ‏{‏وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وكاظم‏:‏ اسم فاعل من كظَم كُظُوماً، إذا احتبسَ نفَسُه ‏(‏بفتح الفاء‏)‏‏.‏ فمعنى ‏{‏كاظمين‏}‏‏:‏ اكنين لا يستطيعون كلاماً‏.‏ فعلى هذا التأويل لا يقدَّر ل ‏{‏كاظمين‏}‏ مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم‏.‏ ويقال‏:‏ كَظَم كظماً، إذا سَدّ شيئاً مجرى ماء أو باباً أو طريقاً فهو كاظم، فعلى هذا يكون المفعول مقدراً‏.‏ والتقدير‏:‏ كاظمينها، أي كاظمين حناجرهم إشفاقاً من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب‏.‏ وانتصب ‏{‏كاظمين‏}‏ على الحال من ضمير الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏أنذرهم‏}‏ على أن الحال حال مقدرة‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ وإنما الكاتبون هم بأيديهم‏.‏
وجملة ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع‏}‏ في موضع بدل اشتمال من جملة ‏{‏القُلُوب لدَى الحناجِر‏}‏ لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم ليَشفعوا لهم عند الله فلا يُلفون صديقاً ولا شفيعاً‏.‏ والحميم‏:‏ المحب المشفق‏.‏
والتعريف في ‏{‏الظالمين‏}‏ للاستغراق ليعم كل ظالم، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذَرين، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏
ووصْفُ‏:‏ ‏{‏شفيع‏}‏ بجملة ‏{‏يطاع‏}‏ وصْف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له‏.‏ وأُتبع ‏{‏شفيع‏}‏ بوصف ‏{‏يطاع‏}‏ لتلازمهما عرفاً فهو من إيراد نفي الصفة اللازمةِ للموصوف‏.‏ والمقصودُ‏:‏ نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابنِ أحمر‏:‏
ولا تَرى الضبَّ بها ينْجَحِرْ ***
أي لا ضبّ فيها فينجحر، وذلك يفيد مفاد التأكيد‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الشفيع إذا لم يُطَع فليس بشفيع‏.‏ والله لا يجترئ أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا مَن يُطاع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون جملة ‏{‏يعلم خائِنة الأعين‏}‏ خبراً عن مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏ على نحو ما قرر قبله في قوله‏:‏ ‏{‏رفيعُ الدرجات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ومجموع الظاهر والمقدر استئناف للمبالغة في الإِنذار لأنهم إذا ذُكِّروا بأن الله يعلم الخفايا كان إنذاراً بالغاً يقتضي الحذر من كل اعتقاد أو عمل نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فبعد أن أيْأَسهم من شفيع يسعى لهم في عدم المؤاخذة بذنوبهم أيأسهم من أن يتوهموا أنهم يستطيعون إخفاء شيء من نواياهم أو أدنى حركات أعمالهم على ربهم‏.‏ ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن اسم إنَّ في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏، وما بينهما اعتراض كما مرّ على كلا التقديرين‏.‏
و ‏{‏خائِنة الأعين‏}‏ مصدر مضاف إلى فاعله فالخائنة مصدر على وزن اسم الفاعل مثل العَافية للمعافاة، والعاقبة، والكاذبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لوقعتها كاذبة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 2‏]‏ ويجوز إبقاء ‏{‏خائنة‏}‏ على ظاهر اسم الفاعل فيكون صفة لموصوف محذوف دل عليه ‏{‏الأعين،‏}‏ أي يعلم نظرة الأعين الخائنة‏.‏
وحقيقة الخيانة‏:‏ عمل مَن أؤتُمِن على شيء بضد مَا أؤتُمنَ لأجله بدون علم صاحب الأمانة، ومن ذلك نقضُ العهد بدون إعلان بنبذه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏خائِنة الأعين‏}‏ خيانة النظر، أي مسارقة النظر لشيء بحضرة من لا يحب النظر إليه‏.‏ فإضافة ‏{‏خائنة‏}‏ إلى ‏{‏الأعين‏}‏ من إضافة الشيء إلى آلتِه كقولهم‏:‏ ضرب السيف‏.‏
والمراد ب ‏{‏خائنة الأعين‏}‏ النظرة المقصود منها إشعار المنظور إليه بما يسوء غيرها الحاضرَ استهزاء به أو إغراء به‏.‏ وإطلاق الخائنة بمعنى الخيانة على هذه النظرة استعارة مكنية، شبه الجليس بالحليف في أنه لما جلس إليك أو جلست إليه فكأنه عاهدك على السلامة، ألا ترى أن المجالسة يتقدّمها السلام وهو في الأصل إنباء بالمسالمة فإذا نظرت إلى آخر غَيْرِكُما نظراً خفياً لإِشارة إلى ما لا يرضي الجليسَ من استهزاء أو إغراء فكأنك نقضت العهد المدخول عليه بينكما، فإطلاق الخيانة على ذلك تفظيع له، ويتفاوت قربُ التشبيه بمقدار تفاوت ما وقعت النظرة لأجله في الإِساءة وآثار المضرة‏.‏ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يَكون لنبي أن تكون له خَائنة الأعين»، أي لا تصدر منه‏.‏
و ‏{‏وما تُخفي الصدور‏}‏ النوايا والعزائم التي يضمرها صاحبها في نفسه، فأطلق الصدر على ما يكنّ الأعضاء الرئيسية على حسب اصطلاح أصحاب اللغة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏‏}‏
كان مقتضى الظاهر أن يؤتَى بجملة ‏{‏يقضي بالحق‏}‏ معطوفة بالواو على جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ فيقال‏:‏ ويقضى بالحق ولكن عدل عن ذلك لما في الاسم العلم لله تعالى من الإِشعار بما يقتضيه المسمى به من صفات الكمال التي منها العدل في القضاء، ونظيره في الإِظهار في مقام الإِضمار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وليحصل من تقديم المسند إليه على المسند الفعلي تقوِّي المعنى، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ أعيد الموصول ولم يؤت بضمير ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ليُفيد تقديمُ الاسم على الفعل تقوّي الحكم‏.‏
والجملة من تمام الغرض الذي سيقت إليه جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ كما تقدم، وكلتاهما ناظرة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ أي أن ذلك من القضاء بالحق‏.‏
وأما جملة ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ فناظرة إلى جملة ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ فبعد أن نُفي عن أصنامهم الشفاعة، نُفيَ عنها القضاءُ بشيء مَّا بالحق أو بالباطل وذلك إظهار لعجزِها‏.‏ ولا تحْسِبنَّ جملةَ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ مسوقةً ضميمة إلى جملة‏:‏ ‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏ ليفيد مجموع الجملتين قصر القضاء بالحق على الله تعالى قَصْرَ قلب، أي دون الأصنام، كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قول السمَوْأل أو عبد الملك الحارثي‏:‏
تَسيل على حد الظُّبات نفوسنا *** وليست على غير الظُّبات تسيل
لأن المنفي عن آلهتهم أعمّ من المثبت لله تعالى، وليس مثل ذلك مما يضاد صيغة القصر لكفى في إفادته تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بحَمْله على إرادة الاختصاص في قوله‏:‏ ‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏‏.‏ فالمراد من قوله‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ التذكير بعجز الذين يدعونهم وأنهم غير أهل للإِلهية، وهذه طريقة في إثبات صفة لموصوف ثم تعقيب ذلك بإظهار نقيضه فيما يُعدّ مساوياً له كما في قول أمية بن أبي الصلت‏:‏
تلك المكارمُ لا قَعْبَاننِ من لَبَن *** شيباً بماءٍ فصار فيما بعدُ أبوالا
وإلاَّ لما كان لعطف قوله‏:‏ لا قَعْباننِ من لبن، مناسبة‏.‏
والدعاء يجوز أن يكون بمعنى النداء وأن يكون بمعنى العبادة كما تقدم آنفاً‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله هو السميع البصير‏}‏ مقررة لجمل ‏{‏يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يَقْضُون بشيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ فتوسيط ضمير الفصل مفيد للقصر وهو تعريض بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر فكيف ينسبون إليها الإِلهية، وإثبات المبالغة في السمع والبصر لله تعالى يُقرر معنى ‏{‏يَقْضِي بالحق‏}‏ لأن العالم بكل شيء تتعلق حكمته بإرادة الباطل ولا تخطئ أحكامه بالعثار في الباطل‏.‏ وتأكيد الجملة بحرف التأكيد تحقيق للقصر‏.‏ وقد ذكر التفتزاني في «شرح المفتاح» في مبحث ضمير الفصل أن القصر يُؤكَّد‏.‏
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر ‏{‏تدعُون بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لقرع أسماع المشركين بذلك‏.‏ وقرأ الجمهور بياء الغيبة على الظاهر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏
‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏‏}‏
انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم‏.‏
فالواو عاطفة جملة ‏{‏ألم يسيروا في الأرض‏}‏ على جملة ‏{‏وأنذرهم يوم الأزِفَة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏ والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف ‏(‏لْم‏)‏، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوماً للجميع، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة‏.‏
والمضارع الواقع بعد ‏(‏لَم‏)‏ والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة ‏(‏لم‏)‏‏.‏ وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم‏.‏
والضمير المنفصل في قوله‏:‏ ‏{‏كانُوا هُم‏}‏ ضمير فصل عائد إلى ‏{‏الظالمين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله‏:‏ ‏{‏وأنذرهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مراداً به قصر المسند على المسند إليه، أي قصر الأشدّية على ضمير‏:‏ كانوا‏}‏ إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنني أنا الله‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد‏.‏ واقتصار القزويني في «تلخيص المفتاح» على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام «المفتاح» وقد نبه عليه سعد الدين في «شرحه على التلخيص»‏.‏
والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏
وجملة ‏{‏كانوا هم أشد منهم قوَّة‏}‏ الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لتفصيل الإِجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم‏}‏ لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهم الله بذنوبهم‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏منهم‏}‏ بضمير الغائب، وقرأه ابن عامر ‏{‏منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات‏.‏
والآثار‏:‏ جمع أثر، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر، مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 96‏]‏ ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والمراد بالأرض‏:‏ أرض أمتهم‏.‏
والفاء في ‏{‏فأخَذَهُم الله‏}‏ لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة، فالتقدير‏:‏ فأعرضوا، أو فكفروا فأخذهم الله‏.‏
والآخذ‏:‏ الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ، أو استعمل الأخذ مجازاً في العقاب‏.‏
والذنوب‏:‏ جمع ذنب وهو المعصية، والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل، وذلك يستتبع ذنوباً جمة، وسيأتي تفسيرها بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات‏}‏‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق‏}‏ ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم، فالواقي‏:‏ هو المدافع الناصر‏.‏
و ‏{‏مِن الأولى متعلقة بواقٍ،‏}‏ وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور، و‏{‏من‏}‏ الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ‏(‏ما‏)‏ وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم‏.‏
والباء للسببية، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏‏.‏ والجملة بعد ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة في تأويل مصدر‏.‏ فالتقدير‏:‏ ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم‏.‏
وأفاد المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تأتيهم‏}‏ تجدد الإتيان مرة بعد مرة لمجموع تلك الأمم، أي يأتي لكل أمة منهم رسول، فجمع الضمير في ‏{‏تأتيهم‏}‏ و‏{‏رسلهم‏}‏ وجمع الرسل في قوله‏:‏ ‏{‏رسلهم‏}‏ من مقابلة الجمع بالجمع، فالمعنى‏:‏ أن كل أمة منهم أتاها رسول‏.‏ ولم يؤت بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏فكفروا‏}‏ لأن كفر أولئك الأمم واحد وهو الإِشراك وتكذيب الرسل‏.‏
وكرر قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهُمُ الله‏}‏ بعد أن تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِم‏}‏ الخ إطناباً لتقرير أخذ الله إياهم بكفرهم برسلهم، وتهويلاً على المنذَرين بهم أن يُساوُوهم في عاقبتهم كما سَاوَوْهم في أسبابها‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنَّه قَوِيٌّ شَدِيد العِقَابِ‏}‏ تعليل وتبيين لأخذ الله إياهم وكيفيته وسرعة أخذه المستفادة من فاء التعقيب، فالقويّ لا يعجزه شيء فلا يعطل مراده ولا يتريث، و‏{‏شديد العقاب‏}‏ بيان لذلك الأخذ على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏
هذا ذكر فريق آخر من الأمم لم يشهد العرب آثارهم وهم قوم فرعون أقباطُ مصر، وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة هود‏.‏ وتقدم ذكر هامان وهو لقب وزير فرعون في سورة القصص‏.‏ وفي هذه القصة أنها تزيد على مَا أجمل من قصص أمم أخرى أن فيها عبرتين‏:‏ عبرةً بكيد المكذبين وعنادهم ثم هلاكهم، وعبرةً بصبر المؤمنين وثباتهم ثم نصرهم، وفي كلتا العبرتين وعيد ووعد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ولقد أرْسَلْنَا موسى‏}‏ وبين جملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهم بِالحَقّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 25‏]‏‏.‏
‏(‏وقَارون هو من بني إسرائيل كذب موسى، وتقدم ذكره في القصص، وقد قيل إنه كان منقطعاً إلى فرعون وخادماً له، وهذا بعيد لأنه كان في زمرة من خرج مع موسى، أي فاشترك أولئك في رمي رسولهم بالكذب والسحر كما فعلت قريش‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏
‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏
أي رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهماً أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ، أي الواضحة، فأطلق ‏{‏جاءهم‏}‏ على ظهور الحق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏‏.‏
و ‏{‏مِن عِندِنا‏}‏ وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده، وهو آيات نبوته التسعُ‏.‏
ووجه وقوع ‏{‏فلَمَّا جَاءَهم بالحَقِّ مِن عِندنا‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏أرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 23‏]‏ مع اتحاد مُفاد الجملتين فإن مفاد جملة ‏{‏جاءهم‏}‏ مساو لمفاد جملة ‏{‏أرسلنا‏}‏ ومفاد قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ مساو لمفاد قوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا وسُلطان مُبين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 23‏]‏ أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام أعظم ملوك الأرض يومئذٍ، وأما قوله‏:‏ ‏{‏فلمَّا جَاءَهُم بالحَقِّ‏}‏ فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها، وتقدير الكلام‏:‏ أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق، فسلكت في هذا النظم طريقة الإِطناب للتنويه والتشريف‏.‏
وجملة ‏{‏فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ معترضة‏.‏ وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يُرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصاراً ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين‏.‏
وضمير ‏{‏جاءهم‏}‏ يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ الآية‏.‏ وليس عائداً إلى فرعون وهامان وقارون، لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغا بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص‏.‏
والضمير في قولهم‏:‏ ‏{‏اقتلوا‏}‏ مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل ‏{‏ربّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏ وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه، ففعل قالوا‏}‏ بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة‏:‏ قال قائل، لأن المقصود قوله بعده‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ‏}‏‏.‏ وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم‏.‏ وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي وُلد موسى في زمنه‏.‏
وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ الآية، ثم بقوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏ الآية‏.‏
والضلال‏:‏ الضياع والاضمحلال كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لانقاذه سبيلاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏
‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
عطفُ ‏{‏وقال‏}‏ بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏اقْتُلوا أبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 25‏]‏، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه‏}‏ وأنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنتهم‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏ذروني‏}‏ إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال المخاطبين بحال من يريد فعل شيء فيصدّ عنه، فلرغبته فيه يقول لمن يصده‏:‏ دَعْنِي أفعل كذا، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما، قال طرفة‏:‏
فان كنتَ لا تستطيع دفع منيتي *** فدَعْنِي أبادرها بما ملكتْ يدي
ثم استعمل هذا في التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل‏:‏ دَعْني وخَلِّني، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏، وقول أبي القاسم السهيلي‏:‏
دَعْنِي على حكم الهوى أتضرع *** فَعَسَى يلين ليَ الحبيب ويخشع
وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يَمنع المستشارُ مستشيره من الإِقدام عليه، ولذلك عطف عليه‏:‏ ‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدَّاهم بالآيات التسع‏.‏ ولام الأمر في ‏{‏وَلْيَدعُ رَبَّهُ‏}‏ مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث‏.‏ وجملة ‏{‏إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ‏}‏ تعليل للعزم على قتل موسى‏.‏ والخوف مستعمل في الإِشفاق، أي أظن ظناً قوياً أن يبدل دينكم‏.‏ وحذفت ‏(‏مِن‏)‏ التي يتعدى بها فعل ‏{‏أخاف‏}‏ لأنها وقعت بينه وبين ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏
والتبديل‏:‏ تعويض الشيء بغيره‏.‏ وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها‏.‏
والإِضافة في قوله‏:‏ ‏{‏دينكم‏}‏ تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينَه أيضاً لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم ‏{‏أتذر موسى وقومَه ليفسدوا في الأرض ويذَرَك وآلهتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏ وذلك كله إلهاب وتحضيض‏.‏
والأرض‏:‏ هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون‏.‏
ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد‏.‏ وأطلق الإِظهار على الفشوّ والانتشار على سبيل الاستعارة‏.‏ وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فساداً إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإِلف والانتفاع العاجل‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ‏{‏وأَنْ بواو العطف‏.‏ وقرأ غيرهم أوْ أَنْ‏}‏ ب ‏(‏أو‏)‏ التي للترديد، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين‏.‏ وقرأ نافع وأبو عَمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء ‏{‏يُظهر‏}‏ ونصب ‏{‏الفَسَاد‏}‏ أي يبدل دينكم ويكون سبباً في ظهور الفساد‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع ‏{‏الفسادُ‏}‏ على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أَتْباع موسى، أو بأن يجترئ غيره على مثل دعواه بأن تزول حُرمة الدولة، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏‏}‏
هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه‏:‏ ‏{‏ذروني أقتل موسى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 26‏]‏ ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه‏:‏ ‏{‏إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم‏}‏، ولذلك حكِيَ فعل قوله معطوفاً بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 18 31‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏قال ألم نربك فينا وليداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قال فأْتِ به إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِر‏}‏ خطاب لقومه من بني إسرائيل تطميناً لهم وتسكيناً لإِشفاقهم عليه من بطش فرعون‏.‏ والمعنى‏:‏ إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذَ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون‏.‏
ومعنى ذلك‏:‏ أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند، وذلك ما حكي في سورة ‏[‏طه‏:‏ 45، 46‏]‏‏:‏ ‏{‏قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمَع وأرى‏}‏ فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظٌ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لاحينَ كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94، 95‏]‏ الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته‏.‏
وتأكيد الخبر بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جُلهم منزلة من يتردد في ذلك لِما رأى من إشفاقهم عليه‏.‏
والعَوذ‏:‏ الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه مَن يروم ضره، يقال‏:‏ عاذ بالجبل، وعاذ بالجيش، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏
وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه‏.‏ وزيادة وصفه برب المخاطبين للإِيماء إلى أن عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم‏.‏
وجُعلت صفة ‏{‏لاَ يُؤمِنُ بِيَوْممِ الحِسَابِ‏}‏ مغنية عن صفة الكفر أو الإِشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏
عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون، لأنه لو كان قوله جارياً مجرى المحاورة مع فرعون في مجلس استشارته، أو كان أجاب به عن قول فرعون‏:‏ ‏{‏ذَرُوني أقتُل موسى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 26‏]‏ لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المُحاورات‏.‏ والذي يظهر أن الله ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاماً كان أولَ مظهر من تحقيق الله لاستعاذة موسى بالله، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحاً ولم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله‏.‏
وخطابه بقوله‏:‏ ‏{‏أتقتلون‏}‏ موجَّه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به، ولحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله‏:‏ ‏{‏قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏‏.‏
ووصفُه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط ولم يكن من بني إسرائيل خلافاً لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏يا قوم لكم المُلْك اليومَ ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ فإن بني إسرائيل لم يكن لهم مُلك هنالك‏.‏
والأظهر أنه كان من قرابة فرعون وخاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقةً أو مجازاً‏.‏ والمراد أنه مؤمن بالله ومؤمن بصدق موسى، وما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلاً صالحاً اهتدى إلى توحيد الله إما بالنظر في الأدلة فصدَّق موسى عندما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى تصديق النبي في حين سماع دعوته فقال له‏:‏ صَدَقتَ‏.‏ وكان كتمه الإِيمان متجدداً مستمراً تقيةً من فرعون وقومه إذ علم أن إظهاره الإِيمان يُضره ولا ينفع غيره كما كان ‏(‏سقراط‏)‏ يكتم إيمانه بالله في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصاراً لآلهتهم‏.‏
وأراد بقوله‏:‏ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً‏}‏ إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى، وهذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى‏}‏ فإن تلك القصة كانت قُبَيْل خروج موسى من مصر، وهذه القصة في مبدأ دخوله مصر‏.‏ ولم يوصف هنالك بأنه مؤمن ولا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج‏.‏ والظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلاً صالحاً نظَّاراً في أدلة التوحيد ولم يستقر الإِيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى، وإن الله يقيض لعباده الصالحين حُماة عند الشدائد‏.‏
قيل اسم هذا الرجل حبيب النجّار وقيل سمعان، وقد تقدم في سورة ‏(‏يس‏)‏ أن حبيباً النجار من رسل عيسى عليه السلام‏.‏
وقصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في «التوراة» بالصريح ولكنها مذكورة إجمالاً في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر «فقال عبيد فرعون إلى متَى يكون لنا هذا ‏(‏أي موسى‏)‏ فخًّا أَطْلِق الرجال ليعبدوا الرب إلههم»‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أتقتلون‏}‏ استفهام إنكار، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفساً لأنه يقول ربي الله، أي ولم يجبركم على أن تؤمنوا به ولكنه قال لكم قولاً فاقبلوه أو ارفضوه، فهذا محمل قوله‏:‏ ‏{‏أنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله‏}‏ وهو الذي يمكن الجمع بينه وبين كون هذا الرجل يكتم إيمانه‏.‏
و ‏{‏أنَّ يَقُولَ‏}‏‏.‏ مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع ‏(‏أَن‏)‏ كثيراً‏.‏ وذكر اسممِ الله لأنه الذي ذكره موسى ولم يكن من أسماء آلهة القبط‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏وقد جاءَكُم بالبيناتت من رَبِّكُم‏}‏ فهو ارتقاء في الحِجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجَّه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه جاء بالبينات، أي الحجج الواضحة بصدقه، وإلى التصريح بأن الذي سماه الله في قوله‏:‏ ‏{‏أن يقول ربي الله‏}‏ هو رب المخاطبين فقال‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏‏.‏ فجملة ‏{‏وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏}‏ في موضع الحال من قوله‏:‏ ‏{‏رجلاً‏}‏ والباء في ‏{‏بالبينات‏}‏ للمصاحبة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يَكُ كاذبا فَعلَيهِ كَذِبُهُ‏}‏ رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملاً على احتمالَيْ تصديق وتكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يُخيل إليهم أنه في حالة نظر وتأمل ليسوق فرعون وملأَه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم، فالجملة عطف على جملة ‏{‏وقد جاءكم بالبينات‏}‏ فتكون حالاً‏.‏
وقَدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادةً في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يَظهَر في مظهر المهتَم بأمر قومه ابتداء‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏وإن يَكُ كَاذِباً فَعلَيه كَذِبُهُ‏}‏ استنزالهم للنظر، أي فعليكم بالنظر في آياته ولا تعجلوا بقتله ولا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به وما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئاً وعاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب، وإن تبين لكم صدقه يصبكم بعضُ ما تَوَعَّدكم به، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبَعوه، وهذا وجه التعبير ب ‏{‏بعض‏}‏ دون أن يقول‏:‏ يصبكم الذي يعدكم به‏.‏ والمراد بالوعْد هنا الوعد بالسوء وهو المسمى بالوعيد‏.‏ أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعَّدكم به بطريق الأوْلى‏.‏
وقد شابَه مقامُ أبي بكر الصديققِ مقامَ مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع دعوته ولم يكن من آله، ويومَ جاء عقبة بن أبي مُعيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏والنبي صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة‏)‏ يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبة ودفَعه وقال‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏}‏‏.‏
قال علي بن أبي طالب‏:‏ «والله لَيَومُ أبي بكر خيرٌ من مؤمن آل فرعون، إنَّ مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه وإن أبا بكر كان يُظهر إيمانه وبذل ماله ودمه»
وأقول‏:‏ كان أبو بكر أقوى يقيناً من مؤمن آل فرعون لأن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه وأبو بكر أظهر إيمانه‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن هُو مُسْرفٌ كَذَّابٌ‏}‏ يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون، فالمقصود منها تعليل قوله‏:‏ ‏{‏وَإن يَكُ كاذبا فعليه كَذِبُهُ وإن يَكُ صادقاً يُصِبكم بعْض الذي يَعِدُكُم‏}‏ أي لأن الله لا يقره على كذبه فإن كان كاذباً على الله فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 46‏]‏ لأن الله لا يمهل الكاذب عليه، ولأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن الله لا يَخرق العادة بعد تحدي المتحدّي بها إلاّ ليجعلها أمارة على أنه مرسَل منه لأن تصديق الكاذب محال على الله تعالى‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏يصيبكم بعض الذي يعدكم‏}‏ أي مما تَوعدكم بوقوعه في الدنيا، أو في الآخرة وكيف إذا كانت البينة نفسُها مصائب تحلّ بهم مثل الطوفان والجراد وبقية التسع الآيات‏.‏
والمسرف‏:‏ متجاوز المعروف في شيء، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏
وإذا كان المراد الإِسراف في الكذب تعين أن قوله‏:‏ ‏{‏كذاب‏}‏ عطف بيان وليس خبراً ثانياً إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون، رمَاه بين ظهرانَيْهم‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏إنَّ الله لاَ يَهْدِي‏}‏ إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قُرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق، وأنه تقيّ صادق، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدىً والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏‏}‏
‏{‏ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا‏}‏
لما توسم نهوضَ حجتِه بينهم وأنها داخلت نفوسهم، أَمِن بأسهم، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم، فصارحهم بمقصوده من الإِيمان بموسى على سَنَن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود، فوعظهم بهذه الموعظة‏.‏ وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجدَ فرعون بُدّاً من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم، وأيضاً فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيراً لهم من مصائبَ تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون‏.‏ وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم «ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم» ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله‏.‏
وابتداء الموعظة بقوله‏:‏ ‏{‏لَكُمُ المُلكُ اليَوْمَ ظاهرين في الأرْضِ‏}‏ تذكيرٌ بنعمة الله عليهم، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله، يعني‏:‏ لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما معرضان للزوال إن غضب الله عليكم‏.‏
والمقصود‏:‏ تخويف فرعون من زوال ملكه، ولكنه جعل المُلك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه‏.‏
والأرض‏:‏ أرض مصر، أي نافذاً حكمكم في هذا الصقع‏.‏
وفرع على هذا التمهيد‏:‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنا مِن بأس الله إن جاءَنا،‏}‏ و‏(‏مَنْ‏)‏ للاستفهام الإِنكاري عن كل ناصر، فالمعنى‏:‏ فلا نصر لنا من بأس الله‏.‏ وأدمج نفسه مع قومه في ‏{‏ينصرنا‏}‏ و‏{‏جاءنا،‏}‏ ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض‏.‏
ومعنى ‏{‏ظاهرين‏}‏ غالبين، وتقدم آنفاً، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم‏.‏
والبَأْس‏:‏ القوة على العدوّ والمعاند، فهو القوة على الضر‏.‏
‏{‏جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ‏}‏
تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى‏.‏ ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قوللِ فرعون مَفْصُولاً غيرَ معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيكُم‏}‏‏:‏ ما أجعلكم رَائِين إلا ما أراه لنفسي، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده، فالرؤية علمية، أي لا أشير إلا بما هو معتقَدي‏.‏
والسبيل‏:‏ مستعار للعمل، وإضافته إلى الرشاد قرينة، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد‏.‏ وكأنه يعرِّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي‏.‏ والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بَيّن وكما هو مقتضى العطف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏‏}‏
لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله‏:‏ ‏{‏مَا أريكم إلاَّ مَا أرى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ الخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البَيْن واسترسل يكمل مقالته عُطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، ولئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم‏.‏ وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم‏.‏
وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه وإلى المخوف عليه بحرف ‏(‏على‏)‏ قال لبيد يرثي أخاه أربد‏:‏
أخشَى على أرْبَدَ الحُتوفَ ولا *** أخشَى عليه الرياحَ والمطرا
و‏{‏يَوْممِ الأحْزَابِ‏}‏ مراد به، الجنس لا ‏(‏يومٌ‏)‏ معين بقرينة إضافته إلى جمعٍ أزمانُهم متباعدة‏.‏ فالتقدير‏:‏ مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإِيجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل‏:‏
كلُوا في بعض بَطْنِكم تَعِفُّوا *** فإن زَمانكم زمنٌ خميص
والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب‏.‏ والأحزاب الأمم لأن كل أمة حِزبٌ تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزباً، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 53‏]‏‏.‏
والدأْب‏:‏ العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ في أول ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وانتصب ‏{‏مِثْلَ دَأْببِ قَوْممِ نُوحٍ‏}‏ على عطف البيان من ‏{‏مِثلَ يَوْممِ الأحزابِ‏}‏ ولما كان بياناً له كان ما يضافان إليه متحداً لا محالة فصار الأحزاب و‏(‏الدأب‏)‏ في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير‏:‏ مثلَ يوممِ جزاء الأحزاب‏.‏ مثلَ يوممِ جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم‏.‏ ودأبُهم الذي اشتركوا فيه هو الاشراك بالله‏.‏
وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهوراً، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيماً لا يخفى على مجاوريهم‏.‏
وجملة ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ‏}‏ معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاءً عادلاً من الله وهو جزاء الإشراك‏.‏
والظلم يطلق على الشرك ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله‏:‏ ‏{‏وما الله يريد ظلماً للعباد‏}‏ نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المُشترك في معنييه‏.‏ وكذلك فعل ‏{‏يريد‏}‏ يطلق بمعنى المشيئة كقوله‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ويطلق بمعنى المحبة كقوله‏:‏ ‏{‏ما أريد منهم من رزق‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏، فلما وقع فعل الإِرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإِرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يَظلِم عبادَه‏.‏
وأول المعنيين في الإِرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإِنذار، والمعنى الثاني تابع للأَول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عَدْل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلممِ أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإِقامة العدل‏.‏
وتقديم اسم ‏{‏اللَّهُ‏}‏ على الخبر الفعلي لإِفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، وإذ كان المسند واقعاً في سياق النفي كان المعنى‏:‏ قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصرَ قلب، أي الله لا يريد ظلماً للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأيمتُه إذ يدعونهم إليه ويَزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
هذا على المعنى الأول للظلم، وأما على المعنى الثاني فالمعنى‏:‏ ما الله يريد أن يَظلم عبادَه ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أيمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏ وبظلمهم دعاتهم وأيمتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، فلم يَخْرُج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏
‏{‏وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏
أعقب تخويفَهم بعقاب الدنيا الذي حلّ مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذينَ مِن بعدهم بأنْ خَوَّفهم وأنذَرَهم عذاب الآخرة عاطفاً جملته على جملة عذاب الدنيا‏.‏
وأَقْحَم بين حرف العطف والمعطوففِ نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفاً‏.‏
و ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِي‏}‏ هو يوم الحساب والحشر، سمي ‏{‏يَوْمَ التَّنَادي‏}‏ لأن الخلق يتنادون يومئذٍ‏:‏ فَمِن مستشفع ومن متضرع ومن مسلِّم ومهنِّئ ومن موبّخ ومن معتذر ومن آمر ومن معلن بالطاعة قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏، ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏، ‏{‏يوم ندعوا كل أناس بإمامهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 71‏]‏، ‏{‏دعوا هنالك ثبورا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏يوم يدعُ الداعِ إلى شيء نكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 6‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوممِ في هذا المقام ليُذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب ‏(‏يا قوم‏)‏ ناصحاً ومريداً خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة، وتأهيلَهم لكل نداء سارّ فيه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ بدون ياء في الوصل والوقففِ وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنوّن لقصد الرعاية على الفواصل، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع‏:‏ «زَوجي رفيعُ العِماد، طويل النِجَاد، كثيرُ الرماد، قريبُ البيت من الناد» فحذفت الياء من كلمة ‏(‏الناد‏)‏ وهي معرِفة‏.‏
وقرأ ابن كثير ‏{‏يوم التنادي بإثبات الياء على الأصل اعتباراً بأن الفاصلة هي قوله‏:‏ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ‏}‏‏.‏
و ‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏، والتولي‏:‏ الرجوع، والإِدبارُ‏:‏ أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَرباً من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه‏.‏ و‏{‏مدبرين‏}‏ حال مؤكدة لعاملها وهو ‏{‏تولون‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ‏}‏ في موضع الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ حالةَ لا ينفعكم التولِّي‏.‏
والعاصم‏:‏ المانع والحافظ‏.‏ و‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏عاصم،‏}‏ و‏{‏من‏}‏ المتعلقة به للابتداء، تقول‏:‏ عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم‏.‏ وضَمن فعل ‏(‏عَصم‏)‏ معنى‏:‏ أنقذَ وانتزعَ، ومعنى‏:‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الداخلة على ‏{‏عاصم‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي‏.‏
وَأغنى الكلام على تعدية فعل‏:‏ ‏{‏أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَوممِ الأحْزَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30‏]‏ عن إعادته هنا‏.‏
وجملة ‏{‏وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنِّي أخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ لتضمنها معنى‏:‏ إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي‏.‏
وفي الكلام إيجاز بحذف جُمل تدل عليها الجملة المعطوفة‏.‏ والتقدير‏:‏ هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد، وفي هذه الجملة معنى التذييل‏.‏
ومعنى إسناد الإِضلال والإِغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقاً غير قابل لمعاني الحق والصواب، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح‏.‏
وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم، وآثر لهم هذا دون أن يقول‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله فما له من مضل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏ لأنه أحسّ منهم الإِعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏
وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُم لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعدِهِ رَسُولاً‏}‏‏.‏
توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏قد‏)‏ ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به‏.‏
فالمجيء في قوله‏:‏ ‏{‏جاءكم‏}‏ مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببيّنات‏.‏ ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارناً دعوةً إلى شرع لأنه لما أظهر البينات وتحققوا مكَانتهُ كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريقَ الهدى والنجاة، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه، لحكمة لعلَّها هي انتظار الوقت والحاللِ المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام‏.‏
والبيّنات‏:‏ الدلائل البينة المظهرة أنه مصطَفى من الله للإِرشاد إلى الخير، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم الماديِّ، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات‏:‏ إما بالعقل، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين‏.‏
والبينات‏:‏ إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرُّؤَى، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهِدُ أهلها حتى قال المَلِك‏:‏ ‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالاً يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم، فقال له الملِك‏:‏ ‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ولم يخطر ببالهم أن يسْترشدوا به في سلوكهم الديني‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدْعُهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سَأَل من الملك‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ لأن الله لم يأمره بالدعوة للإِرشاد إلا إذا سُئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفاً، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغيِّر للمنكر، و‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، فلما أقامه الله كذلك وعَلِم يوسف من قول الملك‏:‏ ‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏ أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك‏.‏ وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم، فمعنى‏:‏ ‏{‏فَمَا زِلْتُم في شَكّ مِمَّا جَاءَكُم به‏}‏ الإِنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهُدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين‏.‏
فهم من أمره في حالة شك، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر‏.‏ فالملام متوجه عليهم لتقصيرهم في طلب ما ينجيهم بعد الموت قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ الآيتين‏.‏
وحتى‏}‏ للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة‏:‏ ‏{‏إذَا هَلَكَ‏}‏، و‏{‏إذَا‏}‏ هنا اسم لزمان المضي مجرورة ب ‏(‏حتى‏)‏ وليست بظرف، أي حتى زمننِ هلاك يوسف قُلتم‏:‏ لن يَبعث الله من بعده رسولاً، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف‏:‏ لا يبعث الله في المستقبل أبداً رسولاً بعد يوسف، يعنون‏:‏ أنا كنا مترددين في الإِيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدَّعِي الرسالة عن الله من بعده، وهذا قول جَرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإِصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندماً على ما فاتهم من خير كانوا يَدعونهم إليه‏.‏
وفيه ضرب من المبالغة في الكمال في عصره كما يقال‏:‏ خاتمة المحققين، وبقية الصالحين، ومن لا يأتي الزمان بمثله، وحاصله أنهم كانوا في شك من بعثة رسول واحد، وأنهم أيقنوا أن من يَدّعي الرسالة بعده كاذب فلذلك كذبوا موسى‏.‏
ومقالتهم هذه لا تقتضي أنهم كانوا يؤمنون بأنه رسول ضرورةَ أنهم كانوا في شك من ذلك وإنما أرادوا بها قطع هذا الاحتمال في المستقبل وكشفَ الشك عن نفوسهم وظاهر هذه الآية أن يوسف كان رسولاً لظاهر قوله‏:‏ ‏{‏قلتم لَن يَبْعثَ الله من بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ أن رسولاً محال من ضمير ‏{‏من بعده‏}‏‏.‏ والوجه أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏رسولا‏}‏ مفعولَ ‏{‏يبعث‏}‏ وأنه لا يقتضي وصف يوسف به فإنه لم يَرِد في الأخبار عدّة في الرسل ولا أنه دعا إلى دين في مصر وكيف والله يقول‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ ولا شك في أنه نبيء إذا وجد مساغاً للإرشاد أظهره كقوله‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39، 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وأتعبتُ ملة آباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37، 38‏]‏‏.‏
وعدي فعل ‏{‏جاءكم‏}‏ إلى ضمير المخاطبين‏.‏
وأسند ‏{‏فما زِلْتُمْ‏}‏ و‏{‏قلتم‏}‏ إلى ضميرهم أيضاً، وهم ما كانوا موجودين حينئذٍ قصداً لحمل تبعة أسلافهم عليهم وتسجيلاً عليهم بأن التكذيب للناصحين واضطراب عقولهم في الانتفاع بدلائل الصدق قد ورثوه عن أسلافهم في جبلّتهم وتقرر في نفوسهم فانتقاله إليهم جيلاً بعد جيل كما تقدم في خطاب بني إسرائيل في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏‏:‏ ‏{‏وإذا نجيناكم من آل فرعون‏}‏ ونحوه‏.‏
جرى أكثر المفسرين على أن هذه الجمل حكاية لبقية كلام المؤمن وبعضهم جعل بعضها من حكاية كلام المؤمن وبعضَها كلاماً من الله تعالى، وذلك من تجويز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يجادلونرسولا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الذين يجادلون فى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ الخ بدلاً أو مبتدأ، وسكت بعضهم عن ذلك مقتصراً على بيان المعنى دون تصدّ لبيان اتصالَها بما قبلها‏.‏
والذي يظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏جَبَّارٍ‏}‏‏.‏ كله من كلام الله تعالى معترَض بين كلام المؤمن وكلام فرعون فإن هذا من المعاني الإِسلامية قصد منه العبرة بحال المكذبين بموسى تعريضاً بمشركي قريش، أي كضلال قوم فرعون يضل الله من هو مسرف مرتاب أمثالكم، فكذلك يكون جزاؤكم، ويؤيد هذا الوجه قوله في آخرها‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الَّذِينَ ءامَنُوا‏}‏ فإن مؤمن آل فرعون لم يكن معه مؤمن بموسى وهارون غيره، وهذا من باب تذكر الشيء بضده، ومما يزيد يقيناً بهذا أن وصف ‏{‏الذين يجادلون في آيات الله‏}‏ تكرر أربع مرات من أول هذه السورة، ثم كان هنا وسطاً في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، ثم كان خاتمة في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69‏]‏‏.‏
والإِشارة في قوله كذلك‏:‏ إلى الضلال المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ الله‏}‏ أي مثل ذلك الضلال يضل الله المسرفين المرتابين، أي أن ضلال المشركين في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم مثل ضلال قوم فرعون في تكذيبهم موسى عليه السلام‏.‏ والخطاب بالكاف المقترنة باسم الإِشارة خطاب للمسلمين‏.‏
والمسرف‏:‏ المُفْرِط في فعل لا خير فيه‏.‏ والمرتاب‏:‏ الشديد الريب، أي الشك‏.‏
وإسناد الإِضلال إلى الله كإسناد نفي الهداية إليه في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏، وتقدم آنفاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في آيات الله‏}‏ يجوز أن يكون مبتدأ خبره ‏{‏كَبُرَ مُقْتاً‏}‏ ويجوز أن يكون بدلاً من ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من هو مسرف مرتاب‏}‏ فبيّن أن مَاصْدَقَ ‏(‏مَن‏)‏ جماعة لا واحد، فروعي في ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتاب‏}‏ لفظ ‏(‏مَن‏)‏ فأخبر عنه بالإِفراد، وروعي في البدل معنى ‏(‏مَن‏)‏ فأبدل منه موصول الجمع‏.‏
وصلة ‏{‏الذين‏}‏ عُرف بها المشركون من قريش قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وقال في هذه السورة ‏[‏4‏]‏‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏
واختيار المضارع في ‏{‏يجادلون‏}‏ لإِفادة تجدد مجادلتهم وتكررها وأنهم لا ينفكون عنها‏.‏ وهذا صريح في ذمهم وكنايةٌ عن ذم جدالهم الذي أوجب ضلالهم‏.‏
وفي الموصولية إيماء إلى علة إضلالهم، أي سببُ خلق الضلال في قلوبهم الإِسراف بالباطل تكررُ مجادلتهم قصداً للباطل‏.‏ والمجادلة‏:‏ تكرير الاحتجاج لإِثبات مطلوب المجادل وإبطال مطلوب مَن يخالفهُ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، فمن المجادلة في آيات الله المحاجّة لإِبطال دلالتها، ومنها المكابرة فيها كما قالوا‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ومنها قطع الاستماع لها، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بنُ سلول في وقت صراحة كفره للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً فيه ابن سلول فقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن سلول لاَ أحسنَ مما تقول أيُّها المرءُ ولاَ تَغْشَنَا به في مجالسنا واجلِسْ في رحلك فمن جاءك فاقْرَأ عليه‏.‏
و ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ مُتعلق ب ‏{‏يجادلون،‏}‏ والباء للاستعانة، والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يجادلون بما ليس بحجة ولكن باللَّجاج والاستهزاء‏.‏ و‏{‏أتاهم‏}‏ صفة ل ‏{‏سلطان‏.‏‏}‏ والإِتيان مستعار للظهور والحصول‏.‏
وحصول الحجة هو اعتقادها ولَوْحُها في العقل، أي يجادلون جدلاً ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات‏.‏
وجملة ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله‏}‏ خبر ‏{‏إنَّ من باب الإِخبار بالإِنشاء، وهي إنشاء ذمِّ جدالِهم المقصود منه كَمُّ فم الحق، أي كبر جدالهم مَقْتاً عند الله، ففاعل كبر‏}‏ ضمير الجدال المأخوذ من ‏{‏يجادلون‏}‏ على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏إعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏
و ‏{‏مقتاً تمييز للكُبْر وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل، والتقدير‏:‏ كبر مَقْتُ جدالهم‏.‏
وفعل كبر‏}‏ هنا ملحق بأفعال الذم مثل‏:‏ ساء، لأن وزن فَعْل بضم العين يجيء بمعنى‏:‏ نِعْم وبِئس، ولو كانت ضمة عينه أصلية وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإِضلال المكين، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح‏.‏
والكِبَر‏:‏ مستعار للشدة، أي مُقِت جدالُهم مَقْتاً شديداً‏.‏ والمقت‏:‏ شدة البغض، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله‏.‏ وكونه مَقتاً عند الله تشنيع لهم وتفظيع‏.‏
أما عطف ‏{‏وَعِندَ الذِينَ ءامَنُوا‏}‏ فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عَرج على فائدة عطف ‏{‏وعند الذين آمنوا‏}‏ ما عدا المَهائمي في «تبصرة الرحمان» إذ قال‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مقْتَاً عِندَ الله‏}‏ وهو موجب للإِضلال، ويدل على أنه كبر مقتاً أنه عند الذين آمنوا، وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهورُ الحق ا ه‏.‏ وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتاً عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبَر فزيد الخبر تأييداً بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قِلتهم يومئذٍ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين‏.‏
وعندي‏:‏ أن أظهرَ من هذا أنّ الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يُرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبأون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إيّاهم، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل، كما قال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ مع الإِشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏ ونحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال‏:‏ «آمنت بذلك وأبُو بكر» ولم يكن أبو بكر في المجلس‏.‏
وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإِعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏
والقول في ‏{‏كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار‏}‏ كالقول في ‏{‏كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب‏}‏‏.‏
والطبع‏:‏ الختم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏
والختم والطبع والأَكِنَّة‏:‏ خَلْق الضلالة في القلب، أي النفس‏.‏ والمتكبر‏:‏ ذو الكبْر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف‏.‏ والجبّار‏:‏ مثال مبالغة من الجبر، وهو الإكراه، فالجبار‏:‏ الذي يُكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏على كل قلب متكبر‏}‏ بإضافة ‏{‏قلب‏}‏ إلى ‏{‏متكبر‏.‏‏}‏ وقرأ أبو عمرو وحْده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بتنوين ‏{‏قلبٍ على أن يكون متكبر‏}‏ و‏{‏جبار‏}‏ صفتين ل ‏{‏قلب،‏}‏ ووصفُ القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي‏.‏ والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ لأنه سبب الإِثم كما يقال‏:‏ رأتْ عيني وسمعتْ أُذْني‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏
‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً، وكما أشرنا إليه في سورة القصص، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها، وتقدم ذكر ‏(‏هامان‏)‏ والصرح هنالك‏.‏
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال‏:‏ ‏{‏إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 48‏]‏ فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل‏.‏ وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه من المحراب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم‏.‏
والأسباب‏:‏ جمع سبب، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد، فيطلق السبب على الطريق، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل‏.‏ والمراد هنا‏:‏ طرق السماوات، كما في قول زهير‏:‏
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه *** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم
وانتصب ‏{‏أسباب السماوات‏}‏ على البدل المطابق لقوله‏:‏ ‏{‏الأسباب‏.‏‏}‏ وجيء بهذا الأسلوب من الاجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيماً لشأنها وشأننِ عمله لأنه أمرٌ عجيب ليورَدَ على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس ‏(‏هامان‏)‏‏.‏
والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع، والطلوع‏:‏ الظهور‏.‏ والأكثر أن يكون ظهوراً من ارتفاع، ويعرف ذلك أو عدمُه بتعدية الفعل فإن عُدي بحرف ‏(‏على‏)‏ فهو الظهور من ارتفاع، وإن عُدي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ فهو ظهور مطلق‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فأَطَّلِعُ‏}‏ بالرفع تفريعاً على ‏{‏أبلغ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أبلغُ ثم اطَّلِعُ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور، والبصريون ينكرونه كأنه قيل‏:‏ متى بلغتُ اطلعتُ، وقد تكون له ههنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بُعْد ما ترجاه، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة‏.‏
وبيْن ‏{‏إلى‏}‏ و‏{‏إله‏}‏ الجناسُ الناقص بحرففٍ كما ورد مرتين في قول أبي تمام‏:‏
يمُدُّون من أَيْد عَواصصٍ عَوَاصِمٍ *** تَصُول بأسياف قَوَاضضٍ قَواضَبِ
وجملة ‏{‏وَإنِّي لأظُنُّه كاذبا‏}‏ معترضة للاحتراس من أن يظن ‏(‏هامان‏)‏ وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينَه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس‏.‏ وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه‏.‏ والمعنى‏:‏ إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى‏.‏
والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيداً في قوله‏:‏ ‏{‏ومَا كَيْدُ فِرْعَونَ إلاَّ في تَبَابٍ‏}‏‏.‏
‏{‏كاذبا وكذلك زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى‏}‏
جملة ‏{‏وكذلك زُيِنَ لفرعون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وَقَال فِرْعَوْنُ‏}‏ لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله، والمعنى‏:‏ أنه قال قولاً منبعثاً عن ضلال اعتقاد ومُغرياً بفساد الأعمال‏.‏ ولهذا الاعتبار اعتبارِ جميع أحوال فرعون لم تُفْصَل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى، وهذا مما سموه بالتوسط بين كَمَالَي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني‏.‏ وافتتاحها ب ‏{‏كذلك‏}‏ كافتتاح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، أي مثل ذلك التزيين أي تزيين عمل فرعون زُيّن له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شِبْه يُشبَّه به فمن أراد تشبيهه فليشبّهه بعيْنه‏.‏
وبُني فعل ‏{‏وكذلك‏}‏ إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فَاعله، أي حَصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسِب الباطل حقّاً والضلال اهتداء‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وَصَدَّ‏}‏ بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصراً الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد، ويجوز اعتباره متعدياً الذي مضارعه يصُد بضم الصاد، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وعاصم بضم الصاد‏.‏
والقول فيه كالقول في‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِفِرعونَ سُوءُ عَمَلهِ‏}‏‏.‏
وتعريف ‏{‏السبيل‏}‏ للعهد، أي سبيل الله، أو سبيل الخير، أو سبيل الهدى‏.‏ ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع، أي صد عن السبيل الكامل الصالح‏.‏
وجملة ‏{‏ومَا كَيْدُ فِرعون إلا في تَبَابٍ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وكذلك زُيِّنَ لفرعون سُوَءُ عَمَلِه‏}‏، والمراد بكيده ما أَمر به من بناء الصرح والغايةِ منه، وسمي كيداً لأنه عمل ليس المراد به ظاهره بل أريد به الإِفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه السلام‏.‏
والتباب‏:‏ الخسران والهلاك، ومنه‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أبي لهببٍ وتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل‏:‏ «ومَا كَيدُ فرعون إلاَّ بتَبَابٍ شديد»‏.‏ والاستثناء من أحوال مقدرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏
هذا مقال في مقام آخر قاله مؤمنُ آل فرعون، فهذه المقالات المعطوفة بالواو مقالات متفرقة‏.‏ فابتدأ موعظته بندائهم ليلفت إليه أذهانهم ويستصغي أسماعهم، وبعنوان أنهم قومه لتَصْغَى إليه أفئدتُهم‏.‏ ورتب خطبتُه على أسلوب تقديم الإِجمال ثم تعقيبه بالتفصيل، فابتدأ بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوننِ أَهدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏، وسبيل الرشاد مجمل وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس، فربْطُ حصوله باتِّباعهم إيَّاه مما يُقبِل بهم على تلقّي ما يفسر هذا السبيل، ويسترعي أسماعهم إلى ما يقوله إذ لعله سيأتيهم بما ترغبه أنفسهم إذ قد يَظنون أنه نقحَ رأَيه ونخَل مقالَه وأنه سيأتي بما هو الحق الملائم لهم‏.‏ وتقدم ذكر ‏{‏سبيل الرشاد‏}‏ آنفاً‏.‏
وأعاد النداء تأكيداً لإِقبالهم إذْ لاحت بوارقه فأكمل مقدمته بتفصيل ما أجمله يذكرهم بأن الحياة الدنيا محدودة بأجل غير طويل، وأن وراءها حياةً أبدية، لأنه علم أن أشدّ دفاعهم عن دينهم منبعثٌ عن محبة السيادة والرفاهية، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية‏.‏ وقد بنَى هذه المقدمة على ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية فيها حقيقة السعادة والشقاء، وفيها الجزاء على الحسنات والسّيئات بالنعيم أو العذاب، إذ كانت ديانتهم تثبت حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ولكنها حَرفت معظم وسائل السعادة والشقاوة، فهذه حقائق مسلّمة عندهم على إجمالها وهي من نوع الأصول الموضوعة في صناعة الجَدل، وبذلك تمّت مقدمة خطبته وتهيأت نفوسهم لبيان مقصده المفسِّر لإِجمال مقدمته‏.‏
فجملة ‏{‏إنما هذه الحياة الدُّنيا متاع‏}‏ مبينة لجملة ‏{‏أهْدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏‏.‏ والمتاع‏:‏ ما ينتفع به انتفاعاً مؤجلاً‏.‏ والقرار‏:‏ الدوام في المكان‏.‏ والقصر المستفاد من قوله ‏{‏إنما هذه الحياة الدنيا متاع‏}‏ قصرُ موصوففٍ على صفة، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة‏.‏
وجملتا ‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِئَةً‏}‏ إلى آخرهما بيان لجملة ‏{‏وإنَّ الآخِرَة هِيَ دَارُ القَرارِ‏}‏ والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله ‏{‏وَإِنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ‏}‏ قصرُ قلْببٍ نظير القصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع‏}‏، وهو مؤكد للقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع‏}‏ من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه، وهو قصر قلب، أي لاَ الدنيا‏.‏ ‏(‏ومَنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِئةَ‏}‏ شرطية‏.‏ ومعنى ‏{‏إلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال‏:‏ «أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول‏:‏
‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم»‏.‏ وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه‏.‏
ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول‏:‏ ‏{‏ومَنْ عَمِلَ صالحا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏، فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّء فإن سُوءه وفساده جُزئي مُنقَضضٍ فكان العقاب عليه غير أبدي، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبدياً، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُجْزَىَ إلاَّ مِثلها‏}‏ أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مِثْل الكفر في كونه ملازماً للكافر إِن مات كافراً‏.‏
وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإِيمان، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع، ونظير هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏‏.‏
وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه‏:‏ من عمل صالحاً ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها‏}‏، فإنْ خلَط المؤمن عملاً صالحاً وسيئاً فالمقاصة، وبيانه في تفاصيل الشريعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ حِسابٍ‏}‏ كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏
و ‏{‏مَن في قوله‏:‏ وَمَنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ الخ شرطية، وجوابها ‏{‏فأولئك يَدْخُلون الجنَّة‏}‏‏.‏ وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية‏.‏ وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّئ لا تدخلونها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ ذَكَرٍ أوْ أنثى‏}‏ بيان لما في ‏{‏مَنْ من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ ذَكَرٍ أو أنثى‏}‏ مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصاً على إرادة العموم، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضاً بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَدْخُلونَ الجَنَّة‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء، والمعنى واحد‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏
‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏
أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سَيَطْرَق ما يغاير أول كلامه مغايرة مَّا تُشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقي باستدراجهم في دَرَج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئاً جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظتَهُ إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم، وهو كلامُ آيسسٍ من استجابتهم لقوله فيه‏:‏ ‏{‏فَسَتَذكُرُونَ مَا أقولُ لَكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 44‏]‏، ومُتَوقِّععٍ أذاهم لقوله‏:‏ ‏{‏وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 44‏]‏، ولقوله تعالى آخر القصة‏:‏ ‏{‏فوقاه الله سيئات ما مكروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فصرّح هنا وبينّ بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط‏.‏
والاستفهام في ‏{‏مَا لِي أدْعُوكم إلى النجاة‏}‏ استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي ‏{‏وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ‏}‏ فجملة ‏{‏وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ‏}‏ في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال‏:‏ ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاماً عن فعل أو حاللٍ ثبت للمجرور باللام ‏(‏وهي لام الاختصاص‏)‏، ومعنى لام الاختصاص يَكسب مدخولها حالةً خَفيًّا سببُها الذي عُلق بمدخول اللام نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللَّه اثّاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏ما لي لا أرى الهدهد‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 20‏]‏ وقولك لمن يستوقفك‏:‏ ما لك‏؟‏ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية‏.‏
وتركيب‏:‏ ما لي ونحوه، هو كتركيب‏:‏ هل لك ونحوه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل هل لك إلى أن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏ وقول كعب بن زهير‏:‏
ألا بلغا عني بُجيرا رسالة *** فهل لك فيما قلتَ ويحْك هلْ لَكَ
فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإِنكار أو نحو ذلك‏.‏ فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم‏.‏
وجملة ‏{‏تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بالله‏}‏ بيان لجملة ‏{‏وتدعونني إلى النار‏}‏ لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار‏.‏ والمعنى‏:‏ تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإِلهية‏.‏
ومعنى ‏{‏مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم‏.‏
وعطف عليه ‏{‏وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار‏}‏ فكان بياناً لمجمل جملة ‏{‏أدْعُوكُمْ إلَى النجاة‏}‏‏.‏ وإبراز ضمير المتكلم في قوله‏:‏ ‏{‏وأنا أدعوكم‏}‏ لإِفادة تقوِّي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي‏.‏
وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدّى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف ‏(‏إلى‏)‏ وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معموله في هذه الآية أربع مرات ب ‏(‏إلى‏)‏ ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقه الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل ‏{‏تدعونني لأكْفُرَ بالله وأُشْرِكَ بِهِ‏}‏، وربطِه بما هو ذات بحرف ‏(‏إلى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أدْعُوكم إلى النجاة‏}‏ فإن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله‏:‏ ‏{‏وتدعونني إلى النَّار‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا‏}‏ الخ، لأن حرف ‏(‏إلى‏)‏ دالّ على الانتهاء لأن الذي يدعو أحداً إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقادُه صحتَه بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت الدعوة إليه بالدلالة على الشيء المرغوب الوصول إليه فكانت في حرف ‏(‏إلى‏)‏ استعارة مكنية وتخييلية وتبعية، وفي ‏{‏العَزِيزِ الغفار‏}‏ استعارة مكنية، وفي ‏{‏أدعوكم‏}‏ استعارة تبعية وتخييلية‏.‏
وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين ‏{‏العَزِيزِ الغفار‏}‏ لإِدماج الاستدلال على استحقاقه الإِفراد بالإِلهية والعبادة، بوصفه ‏{‏العزيز‏}‏ لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإِدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإِلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم به حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه‏.‏
وجملة ‏{‏لا جَرَمَ أنما تَدْعُونني‏}‏ بيان لجملة ‏{‏تَدْعُونني لأكْفُرَ بِالله‏}‏‏.‏ وكلمة ‏{‏لا جَرَم‏}‏ بفتحتين في الأفصح من لغاتتٍ ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لا بد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل ذلك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون‏:‏ لا ذا جرم، ولا أنَّ ذا جرم، ولا عَنَّ ذا جرم، ولاَ جَرَ بدون ميم ترخيماً للتخفيف‏.‏
والأظهر أن ‏{‏جَرم اسم لا فعل لأنه لو كان فعلاً لكان ماضياً بحسب صيغته فيكون دخول لا عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء‏.‏
والأكثر أن يقع بعدها ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف ‏(‏في‏)‏ ملتزماً حذفه غالباً‏.‏ والتقدير‏:‏ لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة‏.‏ وتقدم بيان معنى لا جَرم وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وَمَا صَدَق ‏{‏ما الأصنام، وأعيد الضمير عليها مفرداً في قوله‏:‏ لَيْسَ لَهُ‏}‏ مراعاة لإِفراد لفظ ‏(‏ما‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ جَرم أنَّما تدعونني إليه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أصحاب النَّار‏}‏ واقع موقع التعليل لجملتي ‏{‏ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏ لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل المشاهدة، ولا في الآخرة بدلالة الفحوى، فقد تحقق أنها لا تنجي أتباعها في الدنيا ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها‏.‏ وتحقق إذن أن المرجو للإِنعام في الدنيا والآخرة هو الربّ الذي يدعوهم هو إليه‏.‏ وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليلَه لأنهم سيظهر لهم قريباً أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنهُ المتصرف في الآخرة‏.‏
ومعنى ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ‏}‏ انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعاً لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهَد‏.‏ فهذا من باب «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقولهم‏:‏ ليس ذلك بشيء، أي بشيء نافع، وبهذا تعلم أن ‏{‏دعوة مصدر متحمل معنَى ضمير فاعل، أي ليست دعوةُ داع، وأنّ ضمير له‏}‏ عائد إلى ‏(‏ما‏)‏ الموصولة، أي لا يملك دعوة الداعين، أي لا يملك إجابتهم‏.‏
وعطفت على هذه الجملة جملة ‏{‏وأنَّ مردَّنَا إلى الله‏}‏ عطفَ اللازم على ملزومه لأنه إذا تبين أن رب موسى المسمى ‏(‏الله‏)‏ هو الذي له الدعوة، تبين أن المرد أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء‏.‏ ولو عطف مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها، ولكن عُدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماماً بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غيرَ باحثثٍ سامعُها على ما ترتبط به، لأن الشيء المتفرع على شيء يعتبر تابعاً له، كما قال الأصوليون في أنّ جوابَ السائل غيرَ المستقل بنفسِه تَابع لعُموم السُّؤال‏.‏
وكذلك جملة ‏{‏وأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصحاب النَّارِ‏}‏ بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة ‏{‏وأنَّ مَرَدَّنا إلى الله‏}‏ لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مُثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقَب هم الكافرون بالله‏.‏
فالإِسراف هنا‏:‏ إفراط الكفر، ويشمل ما قيل‏:‏ إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام‏.‏ والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام‏.‏ والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يُخاطبهم إذْ هُم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ أصحاب النَّارِ‏}‏ يفيد قصراً ادعائياً لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين، وهذا لِحَمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبي أو مُلْهَم وإلاّ فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏‏}‏
هذا الكلام متاركة لقومه وتنهية لخطابه إياهم ولعله استشعر من ملامحهم أو من مقاطعتهم كلامه بعبارات الإِنكار، ما أيْأَسَه من تأثرهم بكلامه، فتحدّاهم بأنهم إن أعرضوا عن الانتصاح لنصحه سيندمون حين يرون العذاب إما في الدنيا كما اقتضاه تهديده لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنِّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْممِ الأحْزَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30‏]‏، أو في الآخرة كما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏إنِّي أخافُ عليكم يَومَ التَّنادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 32‏]‏، فالفاء تفريع على جملة ‏{‏ما لِيَ أدْعُوكم إلى النجاة وتَدْعُونني إلى النَّار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وفعل ‏{‏ستذكرون‏}‏ مشتق من الذُّكْر بضم الذال وهو ضد النسيان، أي ستذكرون في عقولكم، أي ما أقول لكم الآن يحضر نصب بصائركم يوم تحققه، فشبه الإِعراض بالنسيان ورمز إلى النسيان بما هو من لوازمه في العقل مُلازمةَ الضد لضده وهو التذكر على طريقة المكنية وفي قرينتها استعارة تبعية‏.‏ والمعنى سيحلّ بكم من العذاب ما يُذَكِّركم ما أقوله‏:‏ إنَّه سيحل بكم‏.‏
وجملة ‏{‏وَأُفَوِّضُ أمرِي إلى الله‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏، ومساق هذه الجملة مساق الانتصاف منهم لما أظهروه له من الشرّ، يعني‏:‏ أني أَكِل شأني وشأنكم معي إلى الله فهو يجزي كل فاعل بما فعل، وهذا كلام مُنصِف فالمراد ب ‏{‏أمري‏}‏ شأني ومُهمّي‏.‏ ويدل لمعنى الانتصاف تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله بَصيرٌ بالعِبَادِ‏}‏ معللاً تفويض أمره معهم إلى الله بأن الله عليم بأحوال جميع العباد فعموم العباد شَمِله وشمل خصومَهُ‏.‏
وقال في «الكشاف» قوله‏:‏ ‏{‏وأُفَوِّضُ أمرِي إلى الله‏}‏ لأنهم توعدوه ا ه‏.‏ يعني أن فيه إشعاراً بذلك بمعونة ما بعده‏.‏
و ‏{‏العباد‏}‏ الناس يطلق على جماعتهم اسم العباد، ولم أر إطلاق العبد على الإِنسان الواحد ولا إطلاق العبيد على الناس‏.‏
والبصير‏:‏ المطلع الذي لا يخفى عليه الأمر‏.‏ والبَاء للتعدية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبصرت به عن جنب‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 11‏]‏، فإذا أرادوا تعدية فعل البصر بنفسه قالوا‏:‏ أبصره‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏
‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏
تفريع ‏{‏فَوَقاهُ الله‏}‏ مؤذن بأنهم أضمروا مكراً به‏.‏ وتسميته مكراً مؤذن بأنهم لم يُشعروه به وأن الله تكفل بوقايته لأنه فوَّض أمره إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ فأنجاه الله، فيجوز أن يكون نجا مع موسى وبني إسرائيل فخرج معهم، ويجوز أن يكون فرّ من فرعون ولم يعثروا عليه‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ مصدرية‏.‏ والمعنى‏:‏ سيئات مكْرهم‏.‏ وإضافة ‏{‏سيئات‏}‏ إلى ‏(‏مكر‏)‏ إضافة بيانية، وهي هنا في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف لأن المكر سيّء‏.‏ وإنما جُمع السيئات باعتبار تعدد أنواع مكرهم التي بيّتوها‏.‏
وحَاق‏:‏ أحاط‏.‏ والعذاب‏:‏ الغَرَق‏.‏ والتعريف للعهد لأنه مشهور معلوم‏.‏ وتقدم له ذكر في السور النازلة قبل هذه السورة‏.‏
ومناسبة فعل ‏{‏حَاق لذلك العذاب أنه مما يَحيق على الحقيقة، وإنما كان الغَرَق سوء عذاب لأن الغريق يعذب باحتباس النفَس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويُرعبه هول الأمواج وهو مُوقن بالهلاك ثم يكون عُرضة لأكْل الحيتان حيًّا وميِّتاً وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يُذكرون به بين الناس‏.‏
وقوله‏:‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُواً وعَشياً‏}‏ يجوز أن يكون جملة وقعت بدلاً من جملة ‏{‏وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏}‏، فيجعل ‏{‏النَّار‏}‏ مبتدأ ويجعل جملة ‏{‏يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ خبراً عنه ويكون مجموع الجملة من المبتدأ وخبره بدل اشتمال من جملة ‏{‏وحَاقَ بِآللِ فِرعون سُوءُ العَذَّابِ‏}‏ لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملاً على موتهم وموتُهم يشتمل على عرضهم على النار غدُوًّا وعشِيًّا، فالمذكور عَذَابَان‏:‏ عذاب الدنيا وعذابُ الغرق وما يلحق به من عذاببٍ قبل عذاب يوم القيامة‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏النار‏}‏ بدلاً مفرداً من ‏{‏سُوءُ العَذَابِ‏}‏ بدلاً مطابقاً وجملة ‏{‏يُعْرَضُونَ عليها‏}‏ حالاً من ‏{‏النار‏}‏ فيكون المذكور في الآية عذاباً واحداً ولم يذكر عَذاب الغرق‏.‏ وعلى كلا الوجهين فالمذكور في الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة فذلك هو المذكور بعده بقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا ءالَ فِرْعَونَ أشَدَّ العَذَابِ‏}‏‏.‏
والعرض حقيقته‏:‏ إظهار شيء لمن يراه لترغيب أو لتحذير وهو يتعدّى إلى الشيء المظْهَر بنفسه وإلى من يُظهَر لأجله بحرف ‏(‏على‏)‏، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يَعقل ومنزّلاً منزلة من يعقل، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب «عرضتُ الناقةَ على الحوض»، وحقه‏:‏ عرضت الحوض على الناقة، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف ‏(‏20‏)‏ ‏{‏ويوم يعرض الذين كفروا على النار‏}‏ وقد عدَّ علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ومثلوا له بقول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض‏.‏ واختلفوا في عدّه من أفانين الكلام البليغ فعدّه منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور، وقال القزويني‏:‏ إن تضمن اعتباراً لطيفاً قُبِل وإلاّ رُدّ‏.‏
وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العَرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال‏:‏ عُرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير‏.‏
ولعلّ أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض، قَلب، ويقال‏:‏ عُرض بنو فلان على السيف، إذا قُتلوا به‏.‏ وخرج في «الكشف» آية الأحقاففِ على قولهم‏:‏ عُرض على السيففِ‏.‏
ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تُشاهِد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وهو ما يبينه حديث عبد الله بن عُمر في «الصحيح» قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏ إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقْعَدُه بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثَك الله يوم القيامة ‏"‏
وقولُه‏:‏ ‏{‏غُدُوّاً وعَشِيّاً‏}‏ كناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو عن هاذين الوقتين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة أدْخِلوا ءالَ فِرْعون أشدَّ العَذَابِ‏}‏ هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يُقال‏:‏ أَدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى‏.‏
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏أدخلوا‏}‏ بهمزة قطع وكسر الخاء‏.‏ وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء على معنى أن القول مُوجّه إلى آل فرعون وأن ‏{‏ءَالَ فِرْعَونَ‏}‏ منادى بحذف الحرف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏
‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون ‏{‏إذ‏}‏ معمولاً ل ‏(‏اذْكُرْ‏)‏ محذوففٍ فيكون عطفاً على جملة ‏{‏وأنذرهم يوم الأزِفَةِ‏}‏، والضميرُ عائداً إلى ‏{‏الذِّينَ يجادلون في ءاياتت الله بِغَيْرِ سلطان‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استُوفي ذلك عاد الكلام إليهم‏.‏ ويفيد ذلك صريحَ الوعيد للمشركين بعد أن ضُربت لهم الأمثال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللكافرين أمثالها‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏ الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏
‏(‏ويجوز أن تكون ‏{‏وَإذْ يَتَحَآجُّونَ‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏ويوم تقوم الساعة ادخلوا ءالَ فرعونَ أشدَّ العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ لأن ‏(‏إذْ‏)‏ و‏(‏يومَ‏)‏ كليهما ظرف بمعنى ‏(‏حين‏)‏، فيكون المعنى‏:‏ وحين تقوم الساعة يقال‏:‏ أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء الخ‏.‏
وقرن ‏{‏فَيَقُولُ الضعفاؤا‏}‏ بالفاء لإِفادة كون هذا القول ناشئاً عن تحاجّهم في النار مع كون ذلك دَالاً على أنه في معنى متعلَّق ‏{‏إذ، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن بَرهان، وحكاه عن أصحابه البصريين‏.‏ وضمير يتحاجون‏}‏ على هذا الوجه عائد إلى آل فرعون‏.‏ ويفيد مع ذلك تعريضاً بوعيد المشركين كما هو مقتضى المماثلة المسوقة وضمير ‏{‏يتحاجون‏}‏ غير عائد إلى ‏{‏ءَالَ فِرعونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ لأن ذلك يأباه قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين في النار لِخَزنة جهنم ادعوا ربكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُ تَأتيكم رُسُلكم بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏ ولم يَأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه السلام فيعود ضمير ‏{‏يتحاجون‏}‏ إلى معلوم من المقام وهم أهل النار‏.‏
والتحاجّ‏:‏ الاحتجاج من جانبين فأكثرَ، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجّين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها‏.‏
والضعفاء‏:‏ عامة الناس الذين لا تصرُّف لهم في أمور الأمة‏.‏ والذين استكبروا‏:‏ سادة القوم، أي الذين تكبروا كِبْراً شديداً، فالسين والتاء فيه للمبالغة‏.‏ وقول الضعفاء للكبراء هذا الكلامَ يحتمل أنه على حقيقته فهو ناشئ عما اعتادوه من اللجإ إليهم في مهمهم حين كانوا في الدنيا فخالوا أنهم يتولون تدبير أمورهم في ذلك المكان ولهذا أجاب الذين استكبروا بما يفيد أنهم اليوم سواء في العجز وعدم الحيلة فقالوا‏:‏ ‏{‏إنَّا كُلٌّ فِيهَآ‏}‏ أي لو أغنينا عنكم لأغنينا عن أنفسنا‏.‏
وتقديم قولهم‏:‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا لَكُم تبعَاً‏}‏ على طلب التخفيف عنهم من النار، مقدمة للطلب لقصد توجيهه وتعليله وتذكيرهم بالولاء الذي بينهم في الدنيا، يلهمهم الله هذا القول لافتضاح عجز المستكبرين أن ينفعوا أتباعهم تحقيراً لهم جزاء على تعاظمهم الذي كانوا يتعاظمون به في الدنيا‏.‏
ويحتمل أن قول الضعفاء ليس مستعملاً في حقيقة الحث على التخفيف عنهم ولكنه مستعمل في التوبيخ، أي كنتم تدعوننا إلى دين الشرك فكانت عاقبة ذلك أنا صرنا في هذا العذاب فهل تستطيعون الدفع عنا‏.‏ وتأكيد ‏{‏إنَّا كنا لكُم تَبَعاً‏}‏ ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام بالخبر وليس لرد إنكار‏.‏
والتبع‏:‏ اسم لمن يتبع غيره، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو مثل خَدَم وَحَشَم لأن أصله مصدر، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع، وقيل التَبَع‏:‏ جمع لا يجري على الواحد، فهو إذن من الجموع النادرة‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أنتُم مُغْنُونَ‏}‏ مستعمل في الحث واللوم على خذلانهم وترك الاهتمام بما هم فيه من عذاب‏.‏
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي هل من شأنكم أنكم مغنون عنّا‏.‏ و‏{‏مغنون‏}‏ اسم فاعل من أغنى غناء بفتح الغين والمدّ، أي فائدة وإجزاء‏.‏
والنصيب‏:‏ الحَظ والحصة من الشيء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وقد ضمّن ‏{‏مغنون‏}‏ معنى دافعون ورادُّون، فلذلك عُدي إلى مفعوللٍ وهو ‏{‏نصيباً‏}‏ أي جُزءاً من حر النار غير محدد المقدار من قوتها، و‏{‏مِنَ النَّار‏}‏ بيان ل ‏{‏نَصِيباً‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا من عذاب اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ فهم قانعون بكل ما يخفف عنهم من شدة حرّ النار وغير طامعين في الخروج منها‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏مغنون‏}‏ على معناه دون تضمين ويكون ‏{‏نصيباً‏}‏ منصوباً على المفعول المطلق لِمغنون والتقدير غَناء نصيباً، أي غناء مَّا ولو قليلاً‏.‏ و‏{‏منَ النَّارِ‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏مغنون‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون النصيب الجزءَ من أزمنة العذاب فيكون على حذف مضاف تقديره‏:‏ من مُدة النار‏.‏
ولما كان جواب الذين استكبروا للذين استضعفوا جارياً في مجرى المحاورة جرّد فعل ‏{‏قال من حرف العطف على طريقة المحاورة كما تقدم غير مرة‏.‏
ومعنى قولهم‏:‏ إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ نحن وأنتم مستوون في الكون في النار فكيف تطمعون أن ندفع عنكم شيئاً من العذاب‏.‏ وعلى وجه أن يكون قول الضعفاء ‏{‏إنا كُنَّا لَكمُ تَبعاً‏}‏ إلى آخره توبيخاً ولوماً لزعمائهم يكون قول الزعماء ‏{‏إنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ اعترافاً بالغلط، أي دَعُوا لومنا وتوبيخنا فقد كفانا أنا معكم في النار وتأكيد الكلام ب ‏(‏إنّ‏)‏ للاهتمام بتحقيقه أو لتنزيل من طالبوهم بالغناء عنهم من عذاب النار مع مشاهدتهم أنهم في العذاب مثلهم، منزلة من يحسبهم غير واقعين في النار، وفي هذا التنزيل ضرب من التوبيخ يقولون‏:‏ ألستم تروننا في النار مثلكم فكيف نغني عنكم‏.‏ و‏{‏كل‏}‏ مرفوع بالابتداء وخبره ‏{‏فيها‏}‏ والجملة من المبتدأ وخبره خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ وتنوين ‏(‏كل‏)‏ تنوين عوض عن المضاف إليه، إذ التقدير‏:‏ إنا كلُّنا في النار‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ‏}‏ تتنزل منزلة بدل الاشتمال من جملة ‏{‏إنَّا كُلٌّ فيها‏}‏ فكلتا الجملتين جواب لهم مؤيس من حصول التخفيف عنهم‏.‏
والمعنى‏:‏ نحن مستوون في العذاب وهو حكم الله فلا مطمع في التقصي من حكمه فقد جوزي كل فريق بما يستحق‏.‏
وما في هذه الجملة الثانية من عموم تعلق فعل الحكم بين العباد ما يجعل هذا البدل بمنزلة التذييل، أي أن الله حكم بين العباد كلهم بجزاء أعمالهم فكان قسطنا من الحكم هذا العذاب‏.‏ فكلمة ‏{‏حَكَمَ‏}‏ هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو المكان المتوسط، أي وقع حكمه وقضاؤه في مجمعهم الذي حضره من حُكم عليه ومن حكم له ومن لم يتعرض للحكومة لأنه من أهل الكرامة بالجنة، فليست كلمة ‏(‏بين‏)‏ هنا بمنزلة ‏(‏بين‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل اللَّه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ فإنها في ذلك مستعملة مجازاً في التفرقة بين المحق والمبطل‏.‏
وفي هذه الآية عبرة لزعماء الأمم وقادتهم أن يحذروا الارتماء بأنفسهم في مهاوي الخسران فيوقعوا المقتدين بهم في تلك المهاوي فإن كان إقدامهم ومغامرتهم بأنفسهم وأممِهم على علم بعواقب ذلك كانوا أحرياء بالمذمة والخزي في الدنيا ومضاعفة العذاب في الآخرة، إذ ما كان لهم أن يغُرُّوا بأقوام وكلوا أمورهم بقادتهم عن حسن ظن فيهم، أن يخونوا أمانتهم فيهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏، وإن كان قَحْمهم أنفسهم في مضائق الزعامة عن جهل بعواقب قصورهم وتقصيرهم فإنهم ملومون على عدم التوثق من كفاءتهم لتدبير الأمة فيخبِطوا بها خبط عشواء حتى يزلوا بها فيَهْوُوا بها من شواهق بعيدة فيصيروا رميماً، ويَلْقوا في الآخرة جحيماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏
لما لم يجدوا مساغاً للتخفيف من العذاب في جانب كُبرائهم، وتنصَّلَ كبراؤُهم من ذلك أو اعترفوا بغلطهم وتوريطهم قومَهم وأنفسَهم تمَالأَ الجميع على محاولة طلب تخفيف العذاب بدعوة من خَزَنة جهنم، فلذلك أسند القول إلى الذين في النار، أي جميعهم من الضعفاء والذين استكبروا‏.‏
وخَزَنة‏:‏ جمع خَازن، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض‏.‏ و‏{‏خزنة جهنم‏}‏ هم الملائكة الموكَّلون بما تحويه من النار ووَقودها والمعذبين فيها وموكلون بتسيير ما تحتوي عليه دار العذاب وأهلها ولذلك يقال لهم‏:‏ خزنة النار، لأن الخزن لا يتعلق بالنار بل بما يحويها فليس قوله هنا‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ إظهاراً في مقام الإِضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار ولو تقدم لفظ جهنم لقال‏:‏ لخزنتها، كما في قوله في سورة ‏[‏الملك‏:‏ 6 8‏]‏ ‏{‏وللذين كفروا بربهم عذاب ‏(‏جهنم‏)‏ وبئس المصير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سألهم خزنتها‏}‏ فإن الضمير ل ‏{‏جهنم‏}‏ لا ل ‏{‏النار‏}‏‏.‏
وفي «الكشاف» أنه من الإِظهار في مقام الإِضمار للتهويل بلفظ ‏{‏جهنم‏}‏، والمسلك الذي سلكناه أوضح‏.‏
وفي إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير المخاطبين ضرب من الإِغراء بالدعاء، أي لأنكم أقرب إلى استجابته لكم‏.‏ ولما ظنُّوهم أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوماً من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم من تخفيف قوة النار الذي سألوه من مستكبريهم‏.‏
وجزم ‏{‏يخفف‏}‏ بعد الأمر بالدعاء، ولعله بتقدير لام الأمر لكثرة الاستعمال، ومن أهل العربية من يجعله جزماً في جواب الطلب لتحقيق التسبب‏.‏ فيكون فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم‏.‏ وهذا الجزم شائع بعد الأمر بالقول وما في معناه لهذه النكتة وحقه الرفع أو إظهار لام الأمر‏.‏ وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏
‏(‏وضمّن ‏{‏يخفف‏}‏ معنى ينقص فنصب ‏{‏يوماً،‏}‏ أو هو على تقدير مضاف، أي عذاب يوم، أي مقدار يوم، وانتصب ‏{‏يوماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏يخفف‏}‏‏.‏
واليومُ كناية عن القلة، أي يخفف عنا ولو زمناً قليلاً‏.‏ و‏{‏مِنَ العَذَابِ‏}‏ بيان ل ‏{‏يوماً‏}‏ لأنه أريد به المقدار فاحتاج إلى البيان على نحو التمييز‏.‏ ويجوز تعلقه ب ‏{‏يخفف‏}‏‏.‏
وجوَابُ خزنة جهنم لهم بطريق الاستفهام التقريري المراد به‏:‏ إظهارُ سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب، وتنديمُهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب‏.‏ وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ، والتنديم، والتحسير، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب‏.‏
والواو في قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم‏}‏ لم يعرج المفسرون على موقعها‏.‏ وهي واو العطف عطف بها ‏(‏خزنة جهنم‏)‏ كلامهم على كلام الذين في النار من قَبيل طريقة عطف المتكلم كلاماً على كلاممٍ صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يُغفِله، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى‏:‏
‏{‏قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك علموا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم، وتفريع ‏{‏فادعو‏}‏ على ذلك ظاهر على كلا التقديرين‏.‏ وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين، لوجوب صدارتها‏.‏
وجملة ‏{‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلاً لكلامهم يبين أن قولهم‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ مستعمل في التنبيه على الخطأ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً واعتراضاً‏.‏
والبينات‏:‏ الحجج الواضحة والدعَوات الصريحة إلى اتباع الهدى‏.‏ فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء الرسل إليهم بالبينات فقالوا‏:‏ بلى، فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعُوا الله بذلك، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ تفريعاً على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات‏.‏
ومعنى تفريعه عليه هو أنه مفرع عليه باعتبار معناه الكِنائي الذي هو التنصل من أن يَدعُوا لهم، أي كما توليتم الإعراض عن الرسل استبداداً بآرائكم فتولَّوا اليومَ أمرَ أنفسكم فادعوا أنتم، فإن «من تولى قُرها يَتولَّى حَرَّها»، فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ مستعمل في الإِباحة أو في التسوية، وفيه تنبيه على خطإِ السائلين في سُؤالهم‏.‏
وزيادة فعل الكَون في ‏{‏أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكم‏}‏ للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقّق، لما يدل عليه فعل الكَون من الوجود بمعنى التحقق، وأما الدلالة على أن فعل الإِتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من ‏(‏لَم‏)‏ النافية في الماضي‏.‏
والضلال‏:‏ الضياع، وأصله‏:‏ خطأ الطريق، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يُقبل منهم، وسواء كان قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعاء الكافرين إلاَّ فِي ضلال‏}‏ من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم لأن المصدر المضاف من صيغ العموم فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة‏.‏
وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63، 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22، 23‏]‏، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم، وقد يُتوهم في بعض الأحوال أن يَدْعو الكافر فيقع ما طَلبه وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقَت إجابة دعاء غيره من الصالحين، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة‏:‏ «ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُطيلُ السَّفَر أشعثَ أَغْبَرَ يُمدُّ يديْه إلى السماء‏:‏ يا رَبِّ يا رَبِّ، ومطعَمُه حَرام ومَشْرَبُه حرام وغُذّي بالحرام فأنَّى يستجاب له»‏.‏ ولهذا لم يقل الله‏:‏ فلما استجاب دعاءهم، وإنما قال‏:‏ فلما نجاهم، أي لأنه قدّر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏
‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏
كلام مستأنف وهو استخلاص للعبرة من القصص الماضية مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بحسن العاقبة، وتسلية المؤمنين ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏ وذلك أن الكلام من ابتداء السورة كان بذكر مجادلة المشركين في القرآن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وأومأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن شِيَعهم آيلة إلى خسار بقوله‏:‏ ‏{‏فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏، وامتد الكلام في الرد على المجادلين وتمثيل حالهم بحال أمثالهم من الأمم التي آل أمرها إلى خيبة واضمحلال في الدنيا وإلى عذاب دائم في الآخرة ولما استوفى الغرضُ مقتضاه من اطناب البيان بَيّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عَقِبَه أنه ينصر رسله وَالذين آمنوا في الدنيا كما دل عليه قوله في آخر الكلام ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 77‏]‏‏.‏
وقد عُلم من فعل النصر أن هنالك فريقاً منصوراً عليهم الرسلُ والمؤمنون في الدنيا والآخرة، ومن المتعين أنهم الفريقُ المعاند للرسل وللمُؤمنين، فنصر الرسل والمؤمنين عليهم في الدنيا بإظهارهم عليهم وإبادتهم، وفي الآخرة بنعيم الجنة لهم وعذاب النار لأعدائهم‏.‏
والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ لننصر‏}‏ لما فيه من استحضار حالات النصر العجيبة التي وُصفَ بعضها في هذه السورة ووصف بعضٌ آخر في سُور أخرى تقدم نزولها، وإلا فإن نصر الرسل الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم قد مضى ونصْرُ محمد صلى الله عليه وسلم مترقّب غير حاصل حين نزول الآية‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ وبجَعْل المسند فعلياً في قوله‏:‏ ‏{‏لننصر‏}‏ مراعًى فيه حال المعرَّض بهم بأن الله ينصر رسله عليهم وهم المشركون لأنهم كانوا يكذبون بذلك‏.‏
وهذا وعْد للمؤمنين بأن الله ناصرهم على من ظلمهم في الحياة الدنيا بأن يوقع الظالم في سوء عاقبة أو بأن يسلط عليه من ينتقم منه بنحوٍ أو أشدَّ مما ظلَم به مؤمناً‏.‏
والأشهاد‏:‏ جمع شَاهد‏.‏ والقيام‏:‏ الوقوف في الموقف‏.‏ والأشهاد‏:‏ الرسل، والملائكة الحفَظةُ والمؤمنون من هذه الأمة، كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وذلك اليوم هو يوم الحشر، وشهادة الرسل على الذين كفروا بهم من جملة نصرهم عليهم وكذلك شهادة المؤمنين‏.‏
و ‏{‏يومَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُم‏}‏ بدل من ‏{‏يوم يقوم الأشهاد‏}‏ وهو منصوب على البدلية من الظرف‏.‏ والمراد بالظالمين‏:‏ المشركون‏.‏ والمعذرة اسم مَصْدر اعتَذر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا معذرة إلى ربكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏‏.‏
وظاهرُ إضافة المعذرة إلى ضميرهم أنهم تصدر منهم يومئذٍ معذرة يعتذرون بها عن الأسباب التي أوجبت لهم العذاب مثل قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ وهذا لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ الذي هو في انتفاء الاعتذار من أصله لأن ذلك الاعتذار هو الاعتذار المأذون فيه، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 57‏]‏‏.‏
‏(‏وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏لا ينفع‏}‏ بالياء التحتية لأن الفاعل وهو «معذرة» غير حقيقي التأنيث وللفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على اعتبار التأنيث اللفظي‏.‏
و ‏{‏لَهُمُ اللَّعْنَةُ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا يَنفَعُ الظالمين معذِرَتُهُم‏}‏ أي ويوم لهم اللعنة‏.‏ واللعنة‏:‏ البعد والطرد، أي من رحمة الله، ‏{‏ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ هي جهنم‏.‏ وتقديم ‏(‏لهم‏)‏ في هاتين الجملتين للاهتمام بالانتقام منهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏‏}‏
هذا من أوضح مُثُل نصر الله رسله والذين آمنوا بهم وهو أشبه الأمثال بالنصر الذي قدره الله تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فإن نصر موسى على قوم فرعون كوَّن الله به أمةً عظيمة لم تكن يؤبه بها وأوتيتْ شريعة عظيمة ومُلكاً عظيماً، وكذلك كان نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكان أعظمَ من ذلك وأكملَ وأشرفَ‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا موسى الهدى‏}‏ الخ معترضة بين ‏{‏إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ وبين التفريع عليه في قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏، وأيّ نصر أعظم من الخلاص من العبودية والقِلة والتبععِ لأمة أخرى في أحكام تلائم أحوال الأمة التابعة، إلى مصير الأمة مالكة أمر نفسها ذات شريعة ملائمة لأحوالها ومصالحها وسيادة على أمم أخرى، وذلك مَثَل المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعدَه وهو إيماء إلى الوعد بأن القرآن الذي كذَّب به المشركون باققٍ موروث في الأمة الإِسلامية‏.‏
والهُدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق، أي الرسالة وما أنزل إليه من الشريعة وهي المراد بالكتاب، أي التوراة، وهو الذي أورثه الله بني إسرائيل، أي جعله باقياً فيهم بعد موسى عليه السلام فهم ورثوه عن موسى، أي أخذوه منه في حياته وأبقاه الله لهم بعد وفاته، فإطلاق الإِيراث استعارة‏.‏ وفي ذلك إيذان بأن الكتاب من جملة الهدى الذي أوتيه موسى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، ففي الكلام إيجاز حذف تقديره‏:‏ ولقد آتينا موسى الهدى والكتابَ وأورثنا بني إسرائيل الكتاب، فإن موسى أُوتى من الهدى ما لم يرثه بنو إسرائيل وهو الرسالة وأوتي من الهدى ما أُورثه بنو إسرائيل وهو الشريعة التي في التوراة‏.‏
و ‏{‏هُدىً‏}‏ و‏{‏ذِكْرَى‏}‏ حالان من ‏{‏الكتاب،‏}‏ أي هدى لبني إسرائيل وذكرى لهم، ففيه علم ما لم يعلمه المتعلمون، وفيه ذكرى لما علمه أهل العلم منهم، وتشمل الذكرى استنباط الأحكام من نصوص الكتاب وهو الذي يختص بالعلماء منهم من أنبيائهم وقضاتهم وأحبارهم، فيكون ‏{‏لأُوْلِي الألباب‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏ذكرى‏}‏‏.‏
وأولو الألباب‏:‏ أولو العقول الراجحة القادرة على الاستنباط‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏
‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لنَنصُر رُسُلنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ أي فاعلم أنّا ناصروك والذين آمنوا واصبر على ما تلاقيه من قومك ولا تهن‏.‏
وجملةُ‏:‏ ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ تعليل للأمر بالصبر‏.‏ و‏{‏إنّ للاهتمام بالخبر وهي في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التعليل فكأنه قيل‏:‏ فوعد الله حق ويفاد بأن التأكيد الذي هو للاهتمام والتحقيق‏.‏
ووعد الله هو وعد رسوله بالنصر في الآية السابقة وفي غير ما آية‏.‏ والمعنى لا تستبطئ النصر فإنه واقع، وذلك ما نصر به النبي في أيامه على المشركين يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وفي أيام الغزوات الأخرى‏.‏ وما عرض من الهزيمة يوم أُحُد كان امتحاناً وتنبيهاً على سوء مغبة عدم الحفاظ على وصية الرسول أن لا يبرحوا من مكانهم ثم كانت العاقبة للمؤمنين‏.‏
وعُطف على الأمر بالصبر الأمرُ بالاستغفار والتسبيح فكانَا داخلين في سياق التفريع على الوعد بالنصر رمزٌ إلى تحقيق الوعد لأنه أَمَرَ عقبه بما هو من آثار الشكر كنايةً عن كون نعمة النصر حاصلة لا محالة، وهذه كناية رمزية‏.‏
والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله تعالى المغفرة التي اقتضتها النبوءة، أي اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية، وفيه تعريض بأن أمته مطلوبون بذلك بالأحرى كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركتَ ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاستغفار تعبداً وتأدباً‏.‏ وأمر بتسبيح الله تعالى وتنزيهه بالعشي والإِبكار، أي الأوقات كلها فاقتصر على طرفي أوقات العمل‏.‏
والعشيّ‏:‏ آخر النهار إلى ابتداء ظلمة الليل، ولذلك سمي طعام الليل عشاء، وسميت الصلاة الأخيرة بالليل عشاء‏.‏ والإِبكار‏:‏ اسم لبُكرة النهار كالإِصباح اسم للصباح، والبكرة أول النهار، وتقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏أن سبحوا بكرة وعشياً‏}‏ في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وتقدم العشيّ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وهذا مقام التحَلِّي بالكمالات النفسية وبذلك يتم الشكر ظاهراً وباطناً‏.‏ وجُعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود، ولذلك لم يؤمر بالصبر لمَّا حصَل النصر في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء نَصْرُ الله والفَتْحُ ورَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دِين الله أفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1 3‏]‏ فإن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر‏.‏
وقد أخبر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في أول سورة الفتح، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبلَ أن يخبره بذلك، لطلب دوام المغفرة، وكان أمره به في سورة النصر بعدَ أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، للارشاد إلى شكر نعمة النصر، وقد قال بعض الصحابة للنبيء صلى الله عليه وسلم في شأن عبادته‏:‏ إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال؛ «أفلا أكون عبداً شكوراً»‏.‏ وكان يُكثر أن يقول في سجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»‏.‏ بعد نزول سورة ‏{‏إذَا جَاءَ نَصْرُ الله‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ قالت عائشة رضي الله عنها يتأول القرآن‏.‏ وبحكم السياق تعلم أن الآية لا علاقة لها بفرض الصلاة ولا بأوقاتها وإنما هي على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ واستَغْفره‏}‏ في سورة ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏
‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم إِن فِى صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبلِغِهِ‏}‏‏.‏
جرى الكلام من أول السورة إلى هنا في مَيدان الرد على مجادلة المشركين في آيات الله ودَحض شُبههم وتوعدهم على كفرهم وضرب الأمثال لهم بأمثالهم من أهل العناد ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏، كما ذُكرت أمثال أضدادهم من أهل الإِيمان من حَضَر منهم ومَن غَبَرَ من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين إلى فرعون ‏[‏هود‏:‏ 96، 97‏]‏ ثم قوله‏:‏ وقال رجل مؤمن من ءال فرعون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏، وخُتم ذلك بوعد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر كما نُصر النبيئون من قبله والذين آمنوا بهم، وأُمر بالصبر على عناد قومه والتوجه إلى عبادة ربه، فكان ذكر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان عقب ذلك من باب المثل المشهور‏:‏ «الشيء بالشيء يُذكر»‏.‏
وبهذه المناسبة انتقل هنا إلى كشف ما تكنه صدور المجادلين من أسباب جدالهم بغير حق، ليَعلم الرسول صلى الله عليه وسلم دخيلتهم فلا يحسب أنهم يكذبونه تنقصاً له ولا تجويزاً للكذب عليه، ولكن الذي يدفعهم إلى التكذيب هو التكبر عن أن يكونوا تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم ووراء الذين سبقوهم بالإِيمان ممن كانوا لا يعبَأون بهم‏.‏ وهذا نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏
‏(‏فقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذينَ يُجادلُونَ في ءاياتت الله‏}‏ الآية استئناف ابتدائي وهو كالتكرير لِجملة ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ تكرير تعداد للتوبيخ عند تنهية غرض الاستدلال كما يوقَّف الموبخ المرة بعد المرة‏.‏ و‏{‏الذِينَ يجادلون‏}‏ هم مشركو أهل مكة وهم المخبَر عنهم في قوله أولَ السورة‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ومعنى المجادلة في آيات الله تقدم هنالك‏.‏
ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ ب ‏{‏يجادلون‏.‏‏}‏ والباء للمصاحبة، أي مصاحب لهم غير سلطان، أي غير حجة، أي أنهم يجادلون مجادلة عناد وغصْب‏.‏
وفائدة هذا القيد تشنيع مجادلتهم وإلا فإن المجادلة في آيات الله لا تكون إلا بغير سلطان لأن آيات الله لا تكون مخالفة للواقع فهذا القيد نظير القيد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وكذلك وصف ‏{‏سلطان‏}‏ بجملة ‏{‏أتاهم‏}‏ لزيادة تفظيع مجادلتهم بأنها عرية عن حجة لديهم فهم يجادلون بما ليس لهم به علم، وتقدم نظير أول هذه الآية في أثناء قصة موسى وفرعون في هذه السورة‏.‏
و ‏{‏إنْ في قوله‏:‏ إن في صُدُورِهم إلاَّ كِبْرٌ‏}‏ نافية والجار والمجرور خبر مقدم، والاستثناء مفرّغ، و‏{‏كبر‏}‏ مبتدأ مؤخَّر، والجملة كلها خبر عن ‏{‏الَّذِينَ يُجادلون‏}‏‏.‏
وأطلق الصدور على القلوب مجازاً بعلاقة الحلول، والمراد ضمائر أنفسهم، والعرب يطلقون القلب على العقل لأن القلب هو الذي يحس الإِنسان بحركته عند الانفعالات النفسية من الفرح وضده والاهتماممِ بالشيء‏.‏ والكِبْر من الانفعالات النفسية، وهو‏:‏ إدراك الإِنسان خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بَلْهَ متابعته، وتقدم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى واستكبر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكِبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم‏.‏ وقد أثبت لهم الكبرَ الباعثَ على المجادلة بطريق القصر ليُنفَى أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكِبْر على وجه مؤكد، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكِّد، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين‏.‏
وجملة ‏{‏ما هُمْ بِبالِغِيه‏}‏ يجوز أن تكون معترضة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة ل ‏{‏كبر‏.‏‏}‏ وحقيقة البلوغ‏:‏ الوصول، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى بلد لم تكونوا بالغيبة إلا بشق الأنفس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏ ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازاً مرسلاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما بلغوا معشار ما آتيناهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 45‏]‏ وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة، أي ما هم ببالغي الكِبر‏.‏
وإذ قد كان الكبر مثبتاً حصوله في نفوسهم إثباتاً مؤكداً بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ في صُدُورهم إلاَّ كِبرٌ‏}‏، تعيّن أن نفي بلوغهم الكِبر منصرف إلى حالات الكِبر‏:‏ فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ أي لا عزة حقاً لهم، فالمعنى هنا‏:‏ كِبْر زيفٌ، وإما أن يراد نفي نوالهم شيئاً من آثار كِبْرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلاً عن الانتظام في سلك اتباعهم، وإذلالهم، وإفْحام حجتهم، فالمعنى‏:‏ ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ ونحو ذلك من أقوالهم الكاشفة لآمالهم‏.‏
فتنكير‏:‏ ‏{‏كبر‏}‏ للتعظيم، أي كبر شديد بتعدد أنواعه، وتمكنه من نفوسهم، فالضمير البارز في ‏{‏ببالغيه‏}‏ عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإِيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكِبر، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن قسمنا بينهم معيشتهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ أي جميع أحوال معيشتهم‏.‏ فشمل قوله‏:‏ ‏{‏ما هم ببالغيه‏}‏ عدم بلوغهم شيئاً مما ينطوي عليه كِبرُهم، فما بلغوا الفضل على غيرهم حتى يتكبروا، ولا مطمع لهم في حصول آثار كبرهم، كما قال تعالى‏:‏
‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏
وقد نُفي أن يبلغوا مرادهم بصوغه في قالب الجملة الاسمية لإِفادتها ثبات مدلولها ودوامه، فالمعنى، أنهم محرومون من بلوغه حرماناً مستمراً، فاشتمل تشويه حالهم إثباتاً ونفياً على خصوصيات بلاغية كثيرة‏.‏ ومن المفسرين من جعل مَا صَدْقَ‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله‏}‏ هنا اليهودَ، وجعله في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏، وارتقى بذلك إلى القول بأن هذه الآية مدنية ألحقت بالسورة المكية كما تقدم في مقدمة تفسير السورة، وأيدوا تفسيرهم هذا بآثار لو صحت لم تكن فيها دلالة على أكثر من صلوحية الآية لأن تُضرب مثلاً لكل فريق يجادلون في آيات الله بغير سلطان جدالاً يدفعهم إليهم الكبر‏.‏
‏{‏ببالغيه فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏
لما ضمن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن الذين يجادلونه فيما جاءهم به يحدوهم إلى الجدال كبرهم المنطوي على كيدهم وأنهم لا يبلغون من أضمروه وما يضمرونه، فَرّع على ذلك أن أَمَرَه بأن يجعل الله معاذه منهم، أي لا يعبأ بما يبيتونه، أي قدم على طلب العوذ بالله‏.‏ وحذف متعلق ‏(‏استعذ‏)‏ لقصد تعميم الاستعاذة من كل ما يخاف منه‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّه هوَ السَّمِيع البصِير‏}‏ تعليل للأمر بالدوام على الاستعاذة، أي لأنه المطلع على أقوالهم وأعمالهم وأنت لا تحيط علماً بتصاريف مكرهم وكيدهم‏.‏
والتوكيد بحرف ‏(‏إنّ‏)‏، والحصرُ بضمير الفصل مراعى فيه التعريض بالمتحدث عنهم وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه هو القادر على إبطال ما يصنعونه لا أنت فكيف يتم لهم ما أضمروه لك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏
‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏
مناسبة اتصال هذا الكلام بما قبله أن أهم ما جادلوا فيه من آيات الله هي الآيات المثبِتة للبعث وجدالهم في إثبات البعث هو أكبر شبهة لهم ضللت أنفسهم وروجوها في عامَّتهِم فقالوا‏:‏ ‏{‏أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فكانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على اللَّه كذباً أم به جنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏، ولما كانوا مقرّين بأن الله هو خالق السماوات والأرض أقيمت عليهم الحجة على إثبات البعث بأنّ بعْث الأموات لا يبلغ أمره مقدار أمر خلق السماوات والأرض بالنسبة إلى قدرة الله تعالى‏.‏ والكلام مؤذن بقَسَم مقدّر لأن اللام لام جواب القسم، والمقصود‏:‏ تأكيد الخبر‏.‏
ومعنى ‏{‏أكبر‏}‏ أنه أعظم وأهم وأكثر متعلَّقاتتِ قدرة بالقادر عليه لا يعجز عن خلق ناس يبعثهم للحساب‏.‏
فالمراد بالناس في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ خَلْققِ النَّاسِ‏}‏ الذين يعيد الله خلقتهم كما بدأهم أول مرة ويودع فيهم أرواحهم كما أودعها فيهم أول مرة‏.‏ والخبر مستعمل في غير معناه لأن كون خلقها أكبر هو أمر معلوم وإنما أريد التذكير والتنبيه عليه لعدم جريهم على موجَب علمهم به‏.‏
وموقع الاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرَ النَّاسسِ لا يعلَمُون‏}‏ ما اقتضاه التوكيد بالقَسَم من اتضاح أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن حجة إمكان البعث واضحة ولكن الذين ينكرونها لا يعلمون، أي لا يعلمون الدليل لأنهم متلاهون عن النظر في الأدلة مقتنعون ببادئ الخواطر التي تبدو لهم فيتخذونها عقيدة دون بحث عن معارضها، فلما جرَوا على حالة انتقاء العلم نُزلوا منزلة من لا علم لهم فلذلك نزل فعل ‏{‏يعلمون‏}‏ منزلة اللازم ولم يذكر له مفعول‏.‏
فالمراد ب ‏{‏أكثَرَ النَّاسِ‏}‏ هم الذين يجادلون في آيات البعث وهم المشركون، وأما الذين علموا ذلك فهم المؤمنون وهم أقل منهم عدداً‏.‏ وإظهار لفظ ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثَر النَّاس لا يعلمون‏}‏ مع أن مقتضى الظاهر الإضمار، لتكون الجملة مستقلة بالدلالة فتصلح لأن تَسير مسير الأمثال، فالمعنى أنهم أنكروا البعث لاستبعادهم خلق الأجسام مع أن في خلق السماوات والأرض ما لا يبقَى معه استبعاد مثل ذلك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏
‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏
لما نزّلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلاً لهم وللمؤمنين، فمثَل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مَثَل الأعمى، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة ‏{‏أكثر الناس‏}‏ لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين الذين تضمنهما قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرَ النَّاسسِ لا يعلَمون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏
‏(‏ونفيُ الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ الآية في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصَر أشرف من العمى في شخص واحد، ونفي الاستواء بدون متعلِّق يقتضي العموم في متعلقاته، لكنه يُخص بالمُتعلِّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته، ويسمى مثل هذا العموم العمومَ العرفي، وتقدم نظيرها في سورة فاطر ‏[‏19‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والذينَ ءامنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتتِ ولا المُسِيء‏}‏ زيادة بيان لفضيلة أهل الإِيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإِيمان‏.‏ والمعنى‏:‏ وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله‏:‏ ‏{‏وعَمِلُوا الصَّالِحَاتتِ وَلا المُسِيء‏}‏، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين وهذا الإِيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب‏.‏
والواو في قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا‏}‏ عاطفةٌ الجملةَ على الجملة بتقدير‏:‏ وما يستوي الذين آمنوا‏.‏
والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولا المُسِيء‏}‏ عاطفة ‏{‏المسيء‏}‏ على ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ عطفَ المفرد على المفرد، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة، والمشبهَ بالبصير أشرفُ من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيانَ حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتتِ ولا المُسِيء‏}‏ فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماماً بشرف المؤمنين‏.‏
وأعيدت ‏(‏لا‏)‏ النافية بعد واو العطف على النفي، وكان العطف مغنياً عنها فإعادتها لإِفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإِطناب، ولذلك تُعدّ ‏(‏لا‏)‏ في مثله زائدة كما في «مغني اللبيب»، وكان الظاهر أن تقع ‏(‏لا‏)‏ قبل ‏(‏الذين آمنوا‏)‏، فعدُل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عَمِل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مُقتضي للعدول عنه بعد أن قُضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم، فحصل في الكلام اهتمامان‏.‏
وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل‏:‏ اثنتين قُدّم فيهما جانب تشبيه الكافرين، واثنتين قُدّم فيهما تشبيه جانب المؤمنين، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19 22‏]‏‏.‏
و ‏{‏قليلاً‏}‏ حال من ‏{‏أكْثَرَ النَّاسِ‏}‏ في قوله تعالى قبله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏، و‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَتَذَكَّرون‏}‏ مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية‏.‏ وهذا مؤكد لمعنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعْلَمُون‏}‏ لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم، والقلةُ هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكراً لا يتممونه فينقطعون في أثنائه عن التعمّق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَتَذَكَّرون بياء الغيبة جرياً على مقتضى ظاهر الكلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف تتذكرون‏}‏ بتاء الخطاب على الالتفات، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله‏.‏
وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الردّ ولا يلاقي الالتفات‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏
‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏
لما أُعطي إثبات البعث ما يحق من الحجاج والاستدلال، تهيأَ المقام لاستخلاص تحقيقه كما تُستخلص النتيجة من القياس، فأُعلن بتحقيق مجيء ‏{‏الساعة‏}‏ وهي ساعة البعث إذ ‏{‏الساعة‏}‏ في اصطلاح الإسلام علَم بالغلَبة على ساعة البعث، فالساعة والبعث مترادفان في المآل، فكأنه قيل‏:‏ إن الذي جادل فيه المجادلون سيقع لا محالة إذ انكشفت عنه شبه الضالّين وتمويهاتُهم فصار بيّناً لا ريب فيه‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ ولام الابتداء لزيادة التحقيق، وللإِشارة إلى أن الخبر تحقق بالأدلة السابقة‏.‏ وذلك أن الكلام موجه للذين أنكروا البعث، ولهذا لم يؤت بلام الابتداء في قوله في سورة ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏إن الساعة آتية‏}‏ لأن الخطاب لموسى عليه السلام‏.‏
وجيء باسم الفاعل في ‏{‏آتية‏}‏ الذي هو حقيقة في الحال، للإِيماء إلى أنها لما تحققت فقد صارت كالشيء الحاضر المشاهد‏.‏ والمراد تحقيق وقوعها لا الإِخبار عن وقوعها‏.‏
وجملة ‏{‏لَّا رَيْبَ فِيهَا‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏إنَّ السَّاعة لأتِيَةٌ‏}‏، ونُفِي الريب عن نفس الساعة، والمراد نفيه عن إتيانها لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏آتية‏}‏ على ذلك‏.‏
ومعنى نفي الريب في وقوعها‏:‏ أن دلائلها واضحة بحيث لا يُعتد بريب المرتابين فيها لأنهم ارتابوا فيها لعدم الرِويَّةِ والتفكر، وهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
فموقع الاستدراك الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ هو ما يثيره نفي الريب عن وقوعها من أن يتساءل متسائل كيف ينفي الريب عنها والريب حاصل لكثير من الناس، فكان الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ جواباً لذلك السؤال‏.‏ والمعنى‏:‏ ولكن أكثر الناس يمرون بالأدلة والآيات وهم معرضون عن دلالتها فيبقون غيرَ مؤمنين بمدلولاتها ولو تأملوا واستنبطوا بعقولهم لظهر لهم من الأدلة ما يؤمنون بعده، فلذلك نفي عنهم هنا وصف الإِيمان‏.‏
وهذا الاستدراك استئناف بياني، ولولا أن ‏(‏لكنَّ‏)‏ يكثر أن تقع بعد واو العطف لكانت الجملة جديرة بالفصل دون عطف، فهذا العطف تحلية لفظية‏.‏
و ‏{‏أكثر النَّاسِ‏}‏ هم المشركون، وهم يومئذٍ أكثر من المؤمنين جداً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏
‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏
لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإِلهية كما دل عليه قوله الآتي، ‏{‏ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون اللَّه قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 73، 74‏]‏، فجَعل ‏{‏لم نكن ندعوا‏}‏ نقيض ما قيل لهم ‏{‏أين ما كنتم تشركون‏}‏، وتشمل المجادلَة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعدَ هذه ‏{‏ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات اللَّه أنى يصرفون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69 71‏]‏ الآية، أُعقب ذكر المجادلة أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏لَخَلق السموات والأرضضِ أكْبرُ من خَلققِ النَّاس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِب لكُم‏}‏ الآية تحذيراً من الإِشراك به، وأيضاً لما ذُكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمراً مفرّعاً على توبيخ المشركين بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنَّه إذَا دُعيَ الله وحْدَه كَفَرتم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ وعلى قوله عقب ذلك‏:‏ ‏{‏ومَا يتذكَّرُ إلاَّ مَن يُنيب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏ وانتقَل الكلام أثر ذلك إلى الأَهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله‏:‏ ‏{‏وأنذِرْهُم يَومَ الأزِفَة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصةَ لله تعالى وهو أيضاً متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ومَا دَعاؤُا الكافرين إلاَّ في ضلال‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه‏:‏ معنى العبادة، ومعنى سُؤال المطلوب، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين‏.‏
والقول المخبَر عنه بفعل‏:‏ ‏{‏قال ربكم‏}‏ يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقاً صلاحياً، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير ب ‏(‏قال‏)‏ الماضي إخباراً عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا اللَّه مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداعِ إذ دعان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملاً في الحال مجازاً، أي يقول ربكم‏:‏ ادعوني‏.‏
والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمُنَادَى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ الدعاء هو العبادة ‏"‏ ثم قرأ ‏{‏وقَالَ ربُّكم ادعُوني أستَجِب لكم إنَّ الذِّين يستَكبرون عَن عبادتي سيَدخلُون جهنَّم داخِرين‏}‏ رواه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، فإن قوله‏:‏ «الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة‏.‏ فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دُعاء المعبود بنداءِ تعظيمه والتضرع إليه، وهذا إطلاق أقل شيوعاً من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته‏.‏
والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإِيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقاً على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة‏.‏ وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به‏.‏
فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإِطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يَسْتكبرون عَن عِبادي،‏}‏ فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة‏.‏ ففعل ‏{‏ادعوني‏}‏ مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك‏.‏
وفعل ‏{‏أستجب‏}‏ مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمتَ، وذلك من الإِيجاز والكلاممِ الجامع‏.‏
وتعريف الله بوصف الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافتِه من الإِيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوبَ محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ الذين يَسْتكبرون عن عِبادَتي سيدخلون جهنَّم‏}‏ تعليل للأمر بالدعاء تعليلاً يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإِقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنَّه إذا دُعِي الله وحْدَه كفرتم وإن يُشرك به تُؤْمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نجاكم إلى البر أعرضتم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير‏:‏ أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم‏.‏
ومشروعية الدعاء لا خلاف فيها بين المسلمين وإنما الخلاف في أنه ينفع في رد القدر أو لا‏؟‏ وهو خلاف بيننا وبين المعتزلة‏.‏ وليس في الآية حجة عليهم لأنهم تأولوا معنى ‏{‏أستجِبْ لكم‏}‏، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب‏}‏ الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏، وفي الإتيان بالموصول إيماء إلى التعليل‏.‏
و ‏{‏داخرين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏سيدخلون‏}‏ أي أذلة، دخَر كمنَع وفرِح‏:‏ صغر وذلّ، وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏سجداً للَّه وهم داخرون‏}‏ في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏سيدخلون‏}‏ بفتح التحتية وضم الخاء‏.‏ وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏
‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلاً من ‏{‏ربكم‏}‏ في ‏{‏وَقَال ربُّكُمُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ اتبع ‏{‏ربكم‏}‏ بالاسم العلم ليُقضَى بذلك حقّان‏:‏ حق استحقاقه أن يطاع بمتقضى الربوبية والعبودية، وحقُّ استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات‏.‏ ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكرِ نعمِهِ ولا كمالاته اجتزاء بمقتضى حق الربوبية، وذكر مع الاسم العلَم بعض إنعامه وإفضاله ثم وُصف الاسم بالموصول وصلته إشارةً إلى بعض صفاته، وإيماءً إلى وجه الأمر بعبادته، وتكون الجملة استنئافاً بيانياً ناشئاً عن تقوية الأمر بدعائه‏.‏ ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ ويكون جملة ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضلٍ‏}‏ معترضة، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصولُ خبراً‏.‏
واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلاً لأنه أنسب بالتوقيف على سوء شكرهم، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَل لكم الأرْضَ قَرَاراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏إنَّ الذين يستَكْبِرون عن عِبَادتي سيدخلون جَهنَّم دَاخِرِين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار‏.‏ وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى‏:‏ شاكر نعمة، وكفورها، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى‏:‏ مؤمن بوحدانية الله، وكافر بها‏.‏
وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله‏:‏ ‏{‏أَسْتَجِبْ‏}‏ واقتضاه التذييل بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضْللٍ على النَّاسسِ ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسسِ لا يَشْكُرون‏.‏‏}‏ وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق، والتدبير الذي هو مُلازم حقيقة الإِلهية‏.‏
وابتدئ الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالاّن على عظيم قدرة مُكونهما ومنظِّمهما وجاعلهما متعاقبين، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة، والحرارةِ والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح مَن عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار، ومن مصالح سكان العالم سكون الإِنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يُعييه عمل الحواس والجسد في النهار، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكانَ عود النشاط بطيئاً وواهناً ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل‏.‏ ومنها انتشار الناس والحيوان في النهار وتبيّن الذوات بالضياء، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي، والحضر والسفر، فإن الإنسان مدني بالطبع، وكادح للعمل والاكتساب، فحاجته للضياء ضرورية ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة‏.‏
وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أُسند الإِبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر‏.‏ فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط‏.‏
وفي ذكر الليل والنهار تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذَكَر الليل والنهار دون الشمس، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهمّ منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏
ودلت مقابلةُ تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه، بإسناد الإِبصار إلى ذات النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضاً، وأن النهار خُلق ليُبصِرَ الناسُ فيه إذ المنة بهما سواء، فهذا من بديع الإِيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي‏.‏ ولم يعكس فيُقَلْ‏:‏ جَعل لكم الليل ساكناً والنهار لتبصروا فيه، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلاً يُتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال‏:‏ ليل سَاج، لقلة الأصوات فيه‏.‏
وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏، وفي مواضع أخرى‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضْللٍ على النَّاسِ‏}‏ اعتراض هو كالتذييل لجملة ‏{‏الله الَّذِي جَعلَ لكُمُ الليَّلَ لِتَسْكنوا فِيه‏}‏ لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم، ولأن ‏{‏الناس‏}‏ يعمّ المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ‏}‏ وغيرَهم من الناس‏.‏
وتنكير ‏{‏فضل‏}‏ للتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لَذُو فَضْلٍ‏}‏ ولم يقل‏:‏ لمتفضل، ولا لَمُفْضِل، فعُدل إلى إضافة ‏(‏ذو‏)‏ إلى ‏{‏فضل‏}‏ لتأتِّي التنكير المشعر بالتعظيم‏.‏ وعدل عن نحو‏:‏ له فضل، إلى ‏{‏لَذُو فَضْلٍ‏}‏ لما يدل عليه ‏(‏ذو‏)‏ من شرف ما يضاف هو إليه‏.‏
والاستدراك ب ‏{‏لكن‏}‏ ناشئ عن لازم ‏{‏ذو فضل على الناس‏}‏ لأن الشأن أن يشكر الناس ربّهم على فضله فكان أكثرهم كافراً بنعمه، وأيّ كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضللِ عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً‏.‏
وخرج ب ‏{‏أكْثَر النَّاسِ‏}‏ الأقلُّ وهم المؤمنون فإنهم أقل ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏‏.‏ والعدول عن ضمير ‏(‏الناس‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر النَّاسسِ لا يَشْكُرون‏}‏ إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح‏.‏
وقد علمتَ مما تقدم وجه اختلاف المنفيَّات في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثر النَّاسسِ لا يعْلَمُون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكِنَّ أكثر النَّاس لاَ يؤمنون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 59‏]‏ وقوله‏:‏ ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏، فقد أُتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏
‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏
اتصل الكلام على دلائِل التفرد بالإِلهية من قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم خالق كلِّ شَيءٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مُخْلِصين له الدِّينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62 65‏]‏ اتصالَ الأدلة بالمستدل عليه‏.‏
والإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُم الليْلَ لِتَسْكنوا فِيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وعدل عن الضمير إلى اسم الإِشارة لإِفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبِّس عليهم ما لا يفعلُ مثلَ فعله، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإِشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الله رَبُّكم خالق كل شَيْءٍ لا إله إلا هُو‏}‏ أخبار أربعة عن اسم الإِشارة، ابتدئ فيها بالاسم الجامع لصفات الإِلهية إجمالاً، وأردف ب ‏{‏ربكم‏}‏ أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم‏.‏ ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خَلْق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم، وأردف بنفي الإِلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي، وكان رابعها نتيجة لها، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته‏.‏
و ‏{‏أَنَّى‏}‏ اسم استفهام عن الكيفية، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب ‏(‏أنّى‏)‏ عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏
و ‏{‏تؤفكون‏}‏ تُصرفون، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 30‏]‏، وبناؤه للمجهول لإِجمال بسبب إعراضهم إذ سيُبين بحاصل الجملة بعده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏
‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏
هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب، فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومئ إلى وجه بناء الخبر وعلتِه، أي أن استمرارهم على الجحد بآيات الله دون تأمل ولا تدبّر في معانيها ودلائلها يَطبع نفوسهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى‏.‏ فالإِشارة بذلك إلى الإِفك المأخوذ من فعل ‏{‏تؤفكون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏ أي مثل إفككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون‏.‏
فيجوز أن يكون المراد بالذين كانوا بآياتِ الله يَجْحَدون‏}‏ المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏، ويكون الموصول وصلته إظهاراً في مقام الإِضمار، والمعنى‏:‏ كذلك تؤفكون، أي مثلَ أَفككم تُؤفكون، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الأَفك النهاية بحيث لو أراد المقرِّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيهاً له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏الذين كانوا بئاياتت الله يجحَدُون‏}‏ إيماء إلى علة إفكهم تعليلاً صريحاً‏.‏
ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كانوا بآياتِ الله يجحَدُون‏}‏ كلَّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلاً تعريضياً لأنه إذا كان الأفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة‏.‏ وصيغة المضارع لاستحضار الحالة، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجِّيراهم‏.‏
وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإِنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏
‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏
‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض قَرَاراً والسمآء بِنَاءً‏}‏‏.‏
استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي جَعَل لكُمُ الليْلَ لِتَسكنوا فيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏ كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإِنعام عليهم حتى يفتضح خطَلُهم في الإِشراك به وكفراننِ نعمه، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم، وهما عَرَضا الظلمة والنور، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلْق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم، فأما إن جعلتَ اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي جعَل‏}‏ الخ بدلاً من ‏{‏ربكم‏}‏ في ‏{‏وقال ربكم ادعوني‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، فإن جملة ‏{‏الله الذي جعل لكم الأرض قراراً‏}‏ تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏
والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قولَه‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم‏}‏ وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته‏.‏ ويجوز أن يكون الموصول خبراً فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان والاعتبار، ولمّا كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ قُدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم‏.‏
والقرار أصله، مصدر قرّ، إذا سكن‏.‏ وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض، فالمعنى يحتمل‏:‏ أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كُرة الهواء مضطربة متحركة، ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏
ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قَرار، أي قَرارٍ لكم، أي جعلها مستقَراً لكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏ أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالاً كالزئبق أو كالعَجَل فلا يزال الإنسان سائخاً فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة، وذلك كوسَط سبخة ‏(‏التَّاكْمَرْتْ‏)‏ المسماة‏:‏ «شط الجريد» الفاصل بين «نفطة» و«نفزاوة» من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يُعثر عليها، ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهُداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبَة، فكانت خلقة الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإِنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض‏.‏
والبناء‏:‏ ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب‏.‏ ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ، وتقدم الكلام مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏‏.‏
‏{‏بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ‏}‏‏.‏
لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحفّ بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإِنسان وراحته قد تعلقت بإيجاد الإِنسان في ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقَب التذكيرَ بما مَهَّد له من خلق الأرض والسماء، بالتذكير بأنه خلقه خلقاً مستوفياً مصلحتَه وراحتَه‏.‏
وعبّر عن هذا الخلق بفعل ‏{‏صوركم‏}‏ لأن التصوير خلق على صورة مرادة تشعر بالعناية، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ فاقتضى حسن الصور فلذلك عُدل في جانب خلق الإِنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله‏:‏ ‏{‏وصوركم‏}‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسوّاك فعدّلَك في أي صورة‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 7، 8‏]‏ ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإِتقان والتحسين بقوله‏:‏ ‏{‏فأحْسَن صُوَركم‏}‏‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأَحْسَن صُوَركم‏}‏ عاطفة جملة على جملة ودالّة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة‏.‏
وعطف على هذه العبرة والمنة منةٌ أخرى فيها عبرة، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسننِ رزق، فجمع لكم بين الإِيجاد والإِمداد، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملاً على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قُواه الحَيوية وكان في قوله‏:‏ ‏{‏ورزقكم‏}‏ إيماء إلى نعمة طُول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب وجمع له بين حسن الإِيجاد وبين حسن الإِمداد فجَعل ما به مددَ الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان‏.‏
‏{‏الطيبات ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ‏}‏
موقع ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ كموقع نظيره المتقدم آنفاً‏.‏ وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلاَّ هو فأنَّى تُؤفكون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏، وقرينةِ قوله هنا‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هُو فادعوه مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 65‏]‏‏.‏
وفُرِّع على ما ذُكِرَ من بدائع صنعه وجزيل منّهِ‏.‏ أن أنشِيءَ الثناءُ عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال‏:‏ ‏{‏فَتَبَارك الله‏}‏، وفعل ‏{‏تبارك‏}‏ صيغةُ مفاعلة مستعملة مجازاً في قوةِ ما اشتُقّ منه الفعل‏.‏ وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البَركَة، والبركَة‏:‏ اسم يدل على تزايد الخير‏.‏ وإظهار اسم الجلالة مع فعل ‏{‏تبارك‏}‏ دون الإِتيان بضمير مع تقدم اسمه، فالإِظهار لتكون الجملة كلمةَ ثناء مستقلة‏.‏
و ‏{‏رَبِّ العالمين‏}‏ خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ‏.‏ وهذا الوصف من تمام الإِنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضاراً لما أفاضه عليهم من خيرات الإِيجاد والإمداد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏
‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏
‏{‏هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏‏.‏
استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحقِّ بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة، فهذه الجملة مقدمة لجملة ‏{‏لا إله إلاَّ هُوَ‏}‏ فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي رَبَّ العالمين وأوجدَهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبّر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفاً بالحياة، إذ الحياة ‏(‏مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين‏)‏ هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإِدراكَ والإِرادة والفعل، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏
فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقاً بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم إلى الزوال، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإِدراك والإِرادة والفعل‏.‏
وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليًّا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية‏.‏ وهي الحياة الحقيقية لأنها غير معرَّضة للنقص ولا للزوال، فلذلك كان الحيّ حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الحَيُّ‏}‏ وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرّضة للفناء والزوال‏.‏
فموقع قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلاَّ هُوَ‏}‏ موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبةً، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلهاً مدبراً للعالم‏.‏ وجميع ما عبد من دون الله هو بَيْن ما لم يتصف بالحياة تماماً كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن‏.‏ ومثلَ الكواكب الشمسسِ والقمر والشجر، وبين ما اتّصف بحياة عارضة غير زائلة كالملائكة، وبين ما اتصف بحياة عارضة زائلة من معبودات البشر مثل ‏(‏بُوذة‏)‏ و‏(‏بَرْهَما‏)‏ بَلْهَ المعبودات من البقر والثعابين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دون اللَّه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20‏]‏ أي لا يستطيع أحدهم التصرف بالإِيجاد والإِحياء وهو مخلوق، أي معرض للحياة ‏{‏أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏ فجعل نفي الحياة عنهم في الحال أو في المآل دلالة على انتفاء إلهيتهم وجعل نفي إدراك بعض المدركات عنهم دلالة على انتفاء إلهيتهم‏.‏
وبعد اتضاح الدلالة على انفراده تعالى بالإِلهية فرع عليه الأمر بعبادته وحده غير مشركين غيره في العبادة لنهوض انفراده باستحقاق أن يُعبد‏.‏
والدعاء‏:‏ العبادة لأنها يلازمها السؤال والنداء في أولها وفي أثنائها غالباً، لأن الدعاء عنوان انكسار النفس وخضوعها كما تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِبْ لَكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وكما في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 74‏]‏‏.‏
والإِخلاص‏:‏ الإِفراد وتصفية الشيء مما ينافيه أو يفسده‏.‏
والدين‏:‏ المعاملة‏.‏ وأطلق على الطاعة وهو المراد هنا لأنها أشد أنواع المعاملة بين المطيع والمطاع‏.‏ والمعنى‏:‏ فإذ كان هو الحي دون الأصنام وكان لا إله غيره فاعبدوه غير مشركين معه غيره في عبادته‏.‏
ويدخل في ماهية الإِخلاص دخولاً أولياً ترك الرِّيَاء في العبادة لأن الرياء وهو أن يقصد المتعبد من عبادته أن يَراه الناس سواء كان قصداً مجرداً أو مخلوطاً مع قصد التقرب إلى الله‏.‏ كل ذلك لا يخلو من حصول حظ في تلك العبادة لِغير الله وإن لم يكن ذلك الحظ في جوهرها‏.‏ وهذا معنى ما جاء في الحديث «إن الرياء الشرك الأصغر»‏.‏
وتقديم ‏{‏له‏}‏ المتعلق بمخلصين على مفعول ‏{‏مخلصين‏}‏ لأنه الأهم في هذا المقام به لأنه أشد تعلقاً بمتعلقه من تعلق المفعول بعامله‏.‏
‏{‏الدين الحمد للَّهِ رَبِّ‏}‏
يجوز أن تكون إنشاء للثناء على الله كما هو شأن أمثالها في غالب مواقع استعمالها كما تقدم في سورة الفاتحة، فيجوز أن تكون متصلة بفعل ‏{‏فادعوه‏}‏ على تقدير قول محذوف، أي قائلين، الحمد لله رب العالمين، أو قولوا‏:‏ الحمد لله رب العالمين، وقرينة المحذوف هو أن مثل هذه الجملة مما يجري على ألسنة الناس كثيراً فصارت كالمثل في إنشاء الثناء على الله‏.‏ والمعنى‏:‏ فاعبدوه بالعمل وبالثناء عليه وشكره‏.‏ ويجوز أن تكون كلاماً مستأنفاً أريد به إنشاء الثناء على الله من نفسه تعليماً للناس كيف يحمدونه، كما تقدم في وجوه نظيرها في سورة الفاتحة‏.‏ أو جارياً على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للَّه رب العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللَّه أو أتتكم الساعة أغير اللَّه تدعون إن كنتم صادقين‏}‏ الآيات من سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وعندي‏:‏ أنه يجوز أن يكون ‏{‏الحمد‏}‏ مصدراً جيء به بدلاً من فعله على معنى الأمر، أي أحمدوا اللَّه ربَّ العالمين‏.‏ وعدل به عن النصب إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات كما تقدم في أول الفاتحة‏.‏ وفصل الجملة عن الكلام الذي قبلها أسعد بالاحتمالين الأول والرابع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏
‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏
جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليَجْرُوا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإِلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حُكم الله فيهم، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبينّ لهم أنواعاً بمختلف البيان من أدلّة برهانية وتقريبية إقناعية‏.‏
وأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإِلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوَامر إلهية وزواجر وترغيبات، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإِلهية والربوبية تفرداً مطلقاً لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل المُلك والمِلك والحَمد، والنفع والضر، والكرم والإِعانة وذلك كثير‏.‏ فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إني نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الذينَ تَدْعُون مِن دُوننِ الله لَمَّا جَاءَني البينات مِن رَّبِي‏}‏ إبطالاً لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود‏.‏ وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير‏.‏
وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإِلهية تكررت قبل نزول هذه الآية‏.‏ وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير ‏{‏إني‏}‏ على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو‏:‏ هو يعطي الجزيل، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم مَنْهيُّون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى الله عليه وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهاماً إلهيا إرهاصاً لنبوءته‏.‏
و ‏{‏لمّا‏}‏ حرف أو ظرف على خلاف بينهم، وأيًّا مَّا كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تُشبِهان جملتي الشرط والجزاء، ولذلك يدعونها ‏(‏لمّا‏)‏ التوقيتية، وحصولَ ذلك في الزمن الماضي، فقوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا جاءَنِي البينَاتُ من رَّبِي‏}‏ توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات‏.‏
والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم التعريضُ بنهي المشركين، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الإِخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعون من دون الله، يعني‏:‏ فإذا كنتُ أنا منهياً عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقاً ليّناً خفياً لاتِّبَاعِه فيما نهى عنه، كما جاء ذلك صريحاً لا تعريضاً في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه
‏{‏يا أبت إني قد جَاءني من العلم ما لم يَأتِك فاتَّبِعْني أهدِك صراطاً سويًّا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 43، 44‏]‏ وبُني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة‏.‏
ومعنى الدعاء في قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَدْعُون‏}‏ يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء، وهو القول الذي تسأل به حاجة، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فيكون العدول عن أن يقول‏:‏ أن أعبد الذين تعبدون، تفنناً‏.‏ و‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن رَّبِي‏}‏ ابتدائية، وجعل المجرور ب ‏(‏من‏)‏ وصف ‏(‏رب‏)‏ مضافاً إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميراً يعود على اسم الجلالة إظهاراً في مقام الإِضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرَّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمِرتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَب العالمين‏}‏ أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته‏.‏
والإسلام‏:‏ الانقياد بالقول والعمل، وفعله متعدّ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم، فأصله‏:‏ أسلم نفسه أو ذاتَه أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي للَّه‏}‏، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏20‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏131‏)‏، وكذلك هو هنا‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏
استئناف رابع بعد اسئتناف جملة ‏{‏هُوَ الحَيُّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 65‏]‏ وما تفرع عليها، وكلها ناشئ بعضه عن بعض‏.‏ وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به‏.‏ وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع‏.‏ وتقدم الكلام على أطوار خَلق الإنسان في سورة الحج، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر‏.‏
والطفل‏:‏ اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع، للمذكر والمؤنث قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ وقد يطابق فيقال‏:‏ طفل وطفلان وأطفال‏.‏
واللامات في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم‏}‏ وما عطف عليه ب ‏(‏ثم‏)‏ متعلقات بمحذوف تقديره‏:‏ ثم يبقيكم، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى ‏(‏إلى‏)‏ لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها، وتقدم نظيره في سورة الحج‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى‏}‏ عطف على ‏{‏لِتَكُونُوا شُيُوخاً‏}‏ أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة‏.‏ وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ‏}‏ أن من قبل بعض هذه الأطوار، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلاً وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخاً‏.‏ ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ كما عطفت المجرورات الأخرى، والمعنى‏:‏ أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالماً بأن من جملة الغايات في ذلك الخلققِ أن يَبلغوا أجلاً‏.‏
وبُني ‏{‏قبل‏}‏ على الضم على نية معنى المضاف إليه، أي من قبل ما ذُكر‏.‏ والأشُدّ‏:‏ القوة في البدن، وهو ما بين ثمانَ عشرةَ سنةً إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف ‏[‏22‏]‏‏.‏
وشيوخ‏:‏ جمع شيخ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا بعلي شيخاً‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ويجوز في ‏(‏شيوخ‏)‏ ضم الشين‏.‏ وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف‏.‏ ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة، والكسائي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى‏}‏ أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع، وعلى إنفراده بالإِلهية، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل‏.‏ ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل ‏{‏تعقلون‏}‏ بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏
استئناف خامس ومناسبةُ موقعه من قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكم من تُراب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلاً‏}‏ إلى ‏{‏ومِنكم مَن يُتَوفَّى من قَبْلُ ولتبلغوا أجَلاً مُسَمى ولعلكم تعقِلُون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏ فإن من أول ما يُرجَى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإِنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حياً متصرفاً بقوته وتدبيره‏.‏
فمعنى ‏{‏يحيي‏}‏ يُوجِد المخلوق حيّا‏.‏ ومعنى ‏{‏يميت‏}‏ أنه يُعدم الحياة عن الذي كان حيّاً، وهذا هو محل العبرة‏.‏ وأما إمكان الإِحياء بعد الإِماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية‏.‏ والمقصود الامتنان بالحياة تبعاً لقوله قبل هذا‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكم مِن تُراب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يخرجكم طِفلاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُحيِي ويُمِيت‏}‏ المحسن البديعي المسمى الطِّباق‏.‏ وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمراً من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقْدر على فعله دون تردّد ولا معالجة، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعَلق هو توجيه قدرته للإِيجاد أو الإعدام‏.‏ فالفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فَإذَا قَضَى‏}‏ فاء تفريع الإِخبار بما بعدها على الإِخبار بما قبلها‏.‏
وقول‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تَأخير ولا عُدَّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمراً فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإِنسان وأيسر، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو ‏{‏كن‏}‏ المركب من حرفين متحرك وساكن‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏
بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وتكرر ذلك خمس مرات فيها، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإِبطال كلها إذ ابتدئ بإبطاله على الإِجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ ثم بإبطاله بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏، ثم بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُجادلُون في ءاياتت الله بِغَير سُلطاننٍ أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ ثم بقوله‏:‏ ‏{‏ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله أنَّى يُصْرَفُون‏}‏‏.‏
وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإِنحاء على جدالهم في آيات الله، فجملة ‏{‏ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يجادلون في آياتِ الله‏}‏ مستأنفة للتعجيب من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة‏.‏ والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظاً، والمراد به‏:‏ التقرير على الإِثبات، كما تَقدم غير مرة، منها عند قوله‏:‏ ‏{‏قال أو لم تؤمن‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏
والرؤية عِلمية، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام ب ‏{‏أنى يُصْرَفُونَ‏}‏، و‏(‏أنَّى‏)‏ بمعنى ‏(‏كيف‏)‏، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏ أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشَؤه، ولذلك بني فعل ‏{‏يصرفون‏}‏ للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏أنَّى‏)‏ بمعنى ‏(‏أين‏)‏، أي أَلا تعجبُ من أين يصرفهم صارف عن الإِيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شُبَه انصرافهم عن الإِيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسِهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد «أين يُذْهَب بك»‏.‏
وبناء فعل ‏{‏يصرفون‏}‏ للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم‏.‏
وأبدل ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا بالكتاب‏}‏ من ‏{‏الَّذِينَ يجادلون‏}‏ لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد، فالتكذيب هو ما صْدَقُ الجدال، والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏
وعَطْف ‏{‏وَبِمَا أرْسَلنا به رُسُلنا‏}‏ يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضياً المغايرة، فيكون المراد‏:‏ وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن، فيكون تكذيبهم ما أُرسلت به الرسل مراداً به تكذيبهم جميعَ الأديان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللَّه حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك‏.‏
ويجوز أن يكون عطفَ مرادف، فائدته التوكيد، والمراد ب ‏{‏رسلنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ يعني الرسول نوحاً على أن في العطف فائدة زائدة على ما في المعطوف عليه وهي أن مما جاء به الرسول مواعظ وإرشاداً كثيراً ليس من القرآن‏.‏
وتفرع على تكذيبهم وعيدهم بما سيلقونه يوم القيامة فقيل فسوف يعلمون، أي سوف يجدون العذاب الذي كانوا يجادلون فيه فيعلمونه‏.‏ وعبر عن وجدانهم العذاب بالعلم به بمناسبة استمرارهم على جهلهم بالبعث وتظاهرهم بعدم فهم ما يقوله الرسول فأنذروا بأن ما جهلوه سيتحققونه يومئذٍ كقول الناس‏:‏ ستعرف منه ما تجهل، قال أبو علي البصير‏:‏
فتذم رأيك في الذين خصصتَهم *** دُوني وتَعْرِف منهم ما تجهل
وحذف مفعول يعلمون‏}‏ لدلالة ‏{‏كَذَّبُوا بالكتاب‏}‏ عليه، أي يتحققون ما كذبوا به‏.‏ والظرف الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إذِ الأغلال في أعناقهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يعلمون‏}‏ أي يعلمون في ذلك الزمن‏.‏ وشأن ‏(‏إذْ‏)‏ أن تكون اسماً للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة ‏(‏سوف‏)‏ فهو إما استعمالُ المجاز بعلاقة الإِطلاق، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيهاً بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك‏.‏ ومنه اقترانها ب ‏(‏يوم‏)‏ في نحو قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث‏.‏
والأغلال‏:‏ جمع غُل، بضم العين، وهو حلقة من قِدَ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد، أو سَير من قِدّ يُمسك بها المجرم والأسير‏.‏
والسلاسل‏:‏ جمع سِلْسِلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض‏.‏
ومن المسائل ما رأيته أن الشيخ ابن عرفة كان يوماً في درسه في التفسير سئل‏:‏ هل تكون هذه الآية سنداً لما يفعله أمراء المغرب أصلحهم الله من وضع الجناة بالأغلال والسلاسل جرياً على حكم القياس على فعل الله في العقوبات كما استنبطوا بعض صور عقاب من عمل قوم لوط من الرجم بالحجارة، أو الإِلقاء من شاهق‏.‏ فأجاب بالمنع لأن وضع الغل في العنق ضرب من التمثيل وإنما يوثق الجاني من يده، قال‏:‏ لأنهم إنما قاسوا على فعل الله في الدنيا ولا يقاس على تصرفه في الآخرة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِحراق بالنار، وقوله‏:‏ «إنما يعذب بها رب العزة»
وجملة ‏{‏يُسْحَبُون في الحَمِيم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أعناقهم‏}‏ أو من ضمير ‏{‏يعلمون‏}‏‏.‏ والسَّحْب‏:‏ الجرّ، وهو يجمع بين الإِيلام والإِهانة‏.‏ والحميم‏:‏ أشد الحرّ‏.‏
و ‏(‏ثُمّ‏)‏ عاطفة جملة ‏{‏فِي النَّارِ يُسْجَرون‏}‏ على جملة ‏{‏يُسْحَبون في الحَمِيم‏}‏‏.‏ وشأن ‏(‏ثمّ‏)‏ إذا عطَفَت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أُجمل بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ والسَّجْرُ بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخخٍ أم بدونه‏.‏
والسجر‏:‏ ملْءُ التنور بالوقود لتقوية النار فيه، فإسناد فعل ‏{‏يسجرون‏}‏ إلى ضميرهم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يصهر به ما في بطونهم والجلود‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 20‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏
‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏
‏(‏ثمّ‏)‏ هذه للتراخي الرتبي لا محالة لأن هذا القول يقال لهم قبل دخول النار، بدليل أن مما وقع في آخر القول‏:‏ ‏{‏ادخُلوا أبْوَابَ جَهَنَّم‏}‏، ودخول أبواب جهنم قبل السحْب في حميمها والسَّجْرِ في نارها‏.‏ وهذا القيل ارتقاء في تقريعهم وإعلان خطَل آرائهم بين أهل المحشر وهو أشد على النفس من ألم الجسم، ولأن هذا القول مقدمة لتسليط العذاب عليهم لاشتماله على بيان سبب العذاب من عبادة الأصنام وازدهائهم في الأرض بكفرهم ومَرَحِهم، وهو أيضاً ارتقاء في وصف أحوالهم الدالة على نكالهم إذْ ارتقى من صفة جزائهم على إشراكهم وهو شيء غير مستغرب ترتُّبه على الشرك إلى وصف تحقيرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وذلك غريب من أحوالهم وأشدّ دلالة على بطلان إلهية أصنامهم وهو المقصد المهم من القوارع التي سلطت عليهم في هذه السورة‏.‏ فموقع المعطوف ب ‏(‏ثمّ‏)‏ هنا كموقع المعطوف بها في قول أبي نواس‏:‏
قُل إن ساد ثم سادَ أبوه *** قَبله ثم سادَ من قبلُ جدُّه
من حيث كانت سيادة جدّه أرسخت له سيادة أبيه وأعقبت سيادة نفسه، وهذا استعمال موجود بكثرة‏.‏ وصيغ ‏(‏قيلَ‏)‏ بصيغة المضيّ لأنه محقق الوقوع فكأنه وقع ومَضى وكذلك فعل ‏{‏قَالُوا ضَلُّوا‏}‏‏.‏
والقائل لهم‏:‏ ناطق بإذن الله‏.‏ و‏(‏أين‏)‏ للاستفهام عن مكان الشيء المجهول المكان، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف فإنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الأصنام ليكونوا شفعاء لهم من غضب الله فلما حق عليهم العذاب فلم يجدوا شفعاء ذكروا بما كانوا يزعمونه فقيل لهم ‏{‏أيْنَ ما كُنْتُم تُشْرِكُون مِن دُوننِ الله‏}‏، فابتدروا بالجواب قبل انتهاء المقالة طمعاً في أن ينفعهم الاعتذار‏.‏ فجملة ‏{‏قَالُوا ضَلُوا عنا‏}‏ معترضة في أثناء القول الذي قيل لهم، ومعنى ‏{‏ضَلُوا‏}‏ غابوا كقوله‏:‏ ‏{‏أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ أي غُيبنا في التراب، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم‏.‏ فأضربوا عن قولهم‏:‏ ‏{‏ضَلُوا عَنَّا‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ لَمْ نَكُن نَدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئَاً‏}‏ أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئاً يغني عنا، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يُعتدّ به، كما تقول‏:‏ حسبتُ أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء، إن كنتَ خبرته فلم تر عنده خيراً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال‏:‏ «ليسوا بشيء» أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله، وقال عباس بن مرداس‏:‏
وقد كنت في الحرب ذا تدراء *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 68‏]‏، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئاً لمنافاته لقولهم‏:‏ ‏{‏ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ المقتضي الاعترافَ الضمني بعبادتهم‏.‏
وفسر كثير من المفسرين قولهم‏:‏ ‏{‏بَل لَّمْ نَكُن ندْعُوا من قَبْلُ شيئاً‏}‏ أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذٍ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم‏.‏ ومعنى الإِشارة تعجيب من ضلالهم، أي مثل ضلالهم ذلك يُضل الله الكافرين‏.‏ والمراد بالكافرين‏:‏ عموم الكافرين، فليس هذا من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ يُفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، فتكون جملة ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ تذييلاً، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يُضل الله جميع الكافرين، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبهاً به إضلال الكافرين كلهم، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدُّ الكفر‏.‏
والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ولا هو نظير قوله المتقدم ‏{‏كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 63‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم بما كنتم تفرحون‏}‏ تكملة القيل الذي يقال لهم حينَ إِذْ الإِغلالُ في أعناقهم‏.‏ والإِشارة إلى ما هم فيه من العذاب‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ في الموضعين مصدرية، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا، والأرض‏:‏ مطلقة على الدنيا‏.‏
والفرح‏:‏ المسرة ورضى الإِنسان على أحواله، فهو انفعال نفساني‏.‏ والمرح ما يَظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية‏.‏
و ‏{‏بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ يتنازعه كل من ‏{‏تفرحون‏}‏ و‏{‏تمرحون‏}‏ أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولُهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏ فالفرح كلما جاء منهياً عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح إن اللَّه لا يحب الفرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ لا كلُّ فَرح، فإن الله امتنّ على المؤمنين بالفرح في قوله‏:‏ ‏{‏ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وبين ‏{‏تفرحون وتمرحون‏}‏ الجناس المحرَّف‏.‏
وجملة ‏{‏ادْخُلوا أبْوَابَ جَهَنَّم‏}‏ يجوز أن تكون استنئافاً بيانياً لأنهم لما سمعوا التقريع والتوبيخ وأيقنوا بانتفاء الشفيع ترقبوا ماذا سيؤمر به في حقهم فقيل لهم ‏{‏أدْخُلوا أبوَابَ جهنَّم‏}‏، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة ‏{‏ذلكم بِمَا كنتم تفرحون‏}‏ الخ، فإن مدلول اسم الإِشارة العذابُ المشاهد لهم وهو يشتمل على إدخالهم أبواب جهنم والخلودَ فيها‏.‏
ودخول الأبواب كناية عن الكون في جهنم لأن الأبواب إنما جعلت ليسلك منها إلى البيت ونحوه‏.‏ و‏{‏خالدين‏}‏ حال مقدرة، أي مقدراً خلودكم‏.‏
وفرع عليه ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكبرين‏}‏، والمخصوص بالذم محذوف لأنه يدل عليه ذكر جهنم أي فبئس مثوى المتكبرين جهنمُ، ولم يتصل فعل ‏(‏بئس‏)‏ بتاء التأنيث لأن فاعله في الظاهر هو ‏{‏مثوى‏}‏ لأن العبرة بإسناد فعل الذم والمدح إلى الاسم المذكور بعدهما، وأما اسم المخصوص فهو بمنزلة البيان بعد الإِجمال فهو متبدأ خبره محذوف أو خبرُ مبتدإٍ محذوف، ولذلك عدّ باب نعم وبئس من طرق الإِطناب‏.‏
والمثوى‏:‏ محل الثواء، والثواء‏:‏ الإِقامة الدائمة، وأوثر لفظ ‏{‏مثوى‏}‏ دون ‏(‏مُدخل‏)‏ المناسببِ ل ‏{‏ادخلوا‏}‏ لأن المثوى أدل على الخلود فهو أولى بمساءتِهم‏.‏
والمراد بالمتكبرين‏:‏ المخاطبون ابتداء لأنهم جادلوا في آيات الله عن كِبْر في صدورهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يجادلون في ءاياتت الله بِغَير سلطانن أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ مَا هُم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ ولأن تكبرهم من فرحهم‏.‏
وإنما عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر وهو ‏{‏المتكبرين‏}‏ للإِشارة إلى أن من أسباب وقوعهم في النار تكبرهم على الرسل‏.‏ وليكون لكل موصوف بالكِبْر حظ من استحقاق العقاب إذا لم يتُب ولم تغلب حسناته على سيئاته إن كان من أهل الإِيمان‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏
‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏
قد كان فيما سبق من السورة ما فيه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما تلقَّاه به المشركون من الإِساءة والتصميم على الإِعراض ابتداء من قوله في أول السورة ‏{‏فَلاَ يَغْرُرك تقَلُّبُهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيُروا في الأرض فَيَنْظُروا كيْفَ كانَ عاقبة الذين كانُوا مِن قَبْلِهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏، ثم قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لَنَنْصر رُسُلنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏ الآية، ففرع هنا على جميع ما سبق وما تخلله من تصريح وتعريض أن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يلاقيه منهم، وهذا كالتكرير لقوله فيما تقدم ‏{‏فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغْفِر لِذَنْبِك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وذلك أن نظيره المتقدم ورد بعد الوعد بالنصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لننصُرُ رُسُلنا والذين ءامَنُوا في الحياة الدُّنيا ويوْمَ يَقُوم الأشهاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا موسى الهُدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 53‏]‏ الآية، فلما تمّ الكلام على ما أخذ الله به المكذبين من عذاب الدنيا انتقَلَ الكلامُ إلى ذكر ما يلقونه في الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رُسُلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 70، 71‏]‏ الآيات، ثم أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ عوْداً إلى بدء إذ الأمر بالصبر مفرّع على ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغْرُرك تقلبهم في البلاد كَذَّبَت قبلهم قومُ نوح‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4، 5‏]‏ الآيات، ثم قوله‏:‏ ‏{‏وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيروا في الأرضضِ فَيَنظُروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ وما بعده، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فإمَّا نُرينَّك بعض الذي نعِدُهُم‏}‏ فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضاً بالانتصار له ولذلك فرع على الأمر بالصبر الشرطُ المردَّد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏ أي أنهم غير مفلَتين من العقاب، فلا شك أن أحد الترديديْن هو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا‏.‏
ولهذا كان للتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ وعد الله حق‏}‏ موقعُه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استبطأوا النصر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ فنزلوا منزلة المتردد فيه فأُكد وعده بحرف التوكيد‏.‏ والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ لإِفادته التجدد فيشعر بأنه رجوع إلى الله في الدنيا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ شرط، اقترن حرف ‏(‏إنْ‏)‏ الشرطية بحرف ‏(‏ما‏)‏ الزائدة للتأكيد ولذلك لحقت نون التوكيد بفعل الشرط‏.‏ وعطف عليه ‏{‏أو نَتَوفَّيَنَّكَ‏}‏ وهو فعل شرط ثان‏.‏
وجملة ‏{‏فإلينا يُرْجَعُون‏}‏ جواب لفعل الشرط الثاني لأن المعنى على أنه جواب له‏.‏ وأما فعل الشرط الأول فجوابه محذوف دل عليه أول الكلام وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ وعد الله حق‏}‏ وتقديرُ جوابه‏:‏ فإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاكَ، أو نتوفينك فإلينا يُرجعون، أي فهم غير مفلَتين مما نعدهم‏.‏
وتقدم نظير هذين الشرطين في سورة يونس إلا أن في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏ وفي سورة غافر ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏، والمخالفة بين الآيتين تفنن، ولأن ما في يونس اقتضى تهديدهم بأن الله شهيد على ما يفعلون، أي على ما يفعله الفريقان من قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من ينظر إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 43‏]‏ فكانت الفاصلة حاصلة بقوله‏:‏ ‏{‏على ما يفعلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏، وأما هنا فالفاصلة معاقبة للشرط فاقتضت صوغ الرجوع بصيغة المضارع المختتم بواو ونون، على أن ‏{‏مرجعهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ معرف بالإِضافة فهو مشعر بالمرجع المعهود وهو مرجعهم في الآخرة بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ المشعر برجوع متجدد كما علمت‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم واقعون في قبضة قدرتنا في الدنيا سواء كان ذلك في حياتك مثل عذاب يوم بدر أو بعد وفاتك مثل قتلهم يوم اليمامة، وأما عذاب الآخرة فذلك مقرر لهم بطريق الأوْلى، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 42‏]‏‏.‏
‏(‏وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏فإلينا يُرْجعون‏}‏ للرعاية على الفاصلة وللاهتمام‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏
ذكرنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في ءايات الله إلا الذين كفروا‏}‏ في أول هذه السورة ‏[‏4‏]‏ أن من صور مجادلتهم في الآيات إظهارهم عدم الاقتناع بمعجزة القرآن فكانوا يقترحون آيات كما يريدون لقصدهم إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انقضى تفصيل الإِبطال لضلالهم بالأدلة البَيِّنَة والتذكير بالنعمة والإِنذارِ بالترهيب والترغيب وضرببِ الأمثال بأحوال الأمم المكذّبة ثم بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر وتحقيق الوعد، أعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ما كان شأنُه إلا شأنَ الرُّسُل من قبله أن لا يأتوا بالآيات من تلقاءِ أنفسهم ولا استجابةً لرغائب معانديهم ولكنها الآيات عند الله يُظهر ما شاء منها بمقتضى إرادته الجارية على وفق علمه وحكمته، وفي ذلك تعريض بالرد على المجادلين في آيات الله، وتنبيه لهم على خطإ ظنهم أن الرُّسل تنتصب لمناقشة المعاندين‏.‏
فالمقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُوللٍ أنْ يأتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بإذْننِ الله‏}‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ‏}‏ الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلاً من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ما أنزل اللَّه على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ فدُمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة‏.‏
وقد بعث الله رسلاً وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يعلمه بهم إذ لا كمال في الإِعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من قصّهُ في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم بوحي غير القرآن فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث‏:‏ «أن الله بعث نبيئاً اسمه عَبُّود عبداً أسود» وفي الحديث ذكر‏:‏ حَنظلة بن صفوان نَبيُ أهل الرس، وذكرُ خالد بن سِنان نبي عَبس، وفي الحديث‏:‏ «أن نبيئاً لسعَتْه نملة فأحرق قريتها فعوتِبَ في ذلك» ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصِي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب‏.‏
وقد جاء في القرآن تسمية خمسةَ عشر رسولاً وهم‏:‏ نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهُود وصالح وشعيب وموسى وهارون وعيسى ويونس ومحمد صلى الله عليه وسلم واثنا عشر نبيئاً وهم‏:‏ داود وسليمان وأيوب وزكرياء ويحيى وإلياس واليسع وإدريس وآدم وذو الكِفل وذو القرنين ولقمان ونبيئة وهي مريم‏.‏
وورد بالإِجمال دون تسمية صاحبُ موسى المسمى في السنة خضراء ونبيُ بني إسرائيل وهو صمويل وتُبَّعٌ‏.‏
وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوءة يجب الإِيمان بنبوءتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمسة وعشرون بين رسول ونبيء، وقد اشتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولوطاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83 86‏]‏ على أسماء ثمانية عشر منهم وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى وقد جمعها من قال‏:‏
حَتْم على كل ذي التكليف معرفة *** بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية *** من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا *** ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
واعلم أن في كون يوسف رسولاً تردداً بينتُه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‏}‏ في هذه السورة ‏[‏34‏]‏، وأن في نبوءة الخضر ولقمان وذي القرنين ومريم تردداً‏.‏ واخترتُ إثبات نبوءتهم لأن الله ذكر في بَعْضهم أنه خاطبهم، وذكر في بعضهم أنه أوتى الحِكمة وقد اشتهرتْ في النبوءة، وفي بعضهم أنه كلمتْه الملائكة‏.‏ ولا يجب الإِيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوءة على الإِجمال‏.‏
ولا يجب على الأمة الإِيمان بنبوءة رسالة معين إلا محمداً صلى الله عليه وسلم أو من بلغ العلمُ بنبوءته بين المسلمين مبلغ اليقين لتواتره مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح‏.‏
ولكن من اطلع على ذكر نبوءة نبيء بوصفه ذلك في القرآن صريحاً وجب عليه الإِيمان بما علمه‏.‏ وما ثبت بأخبار الآحاد لا يجب الإِيمان به لأن الاعتقادات لا تجبُ بالظن ولكن ذلك تعْليم لا وجوبُ اعتقاد‏.‏
وتنكير ‏{‏رسلاً‏}‏ مفيد للتعظيم والتكثير، أي أرسلنا رسلاً عددهم كثير وشأنهم عظيم‏.‏ وعطف ‏{‏ومَا كَانَ لِرَسُولٍ‏}‏ الخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعاً لغيره، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما من الأخرى‏.‏
والآية‏:‏ المعجزة، وإذن الله‏:‏ هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول‏.‏ ومعنى إتيان الرسول بآية‏:‏ هو تحديه قومه بأن الله سيؤيده بآية يعينّها مثل قول صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ وقول موسى عليه السلام لفرعون‏:‏ ‏{‏أَوَلَو جئتك بشيء مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏
وقول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيها فيكون طائراً بإذن اللَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ وقول محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
فالباء في ‏{‏بآية باء التعدية لفعل أَنْ يَأْتِيَ‏}‏ وأما الباء في ‏{‏بإذن الله‏}‏ فهي باء السببية دخلت على مستثنىً من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إلا بسبب إذن الله تعالى‏.‏
وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات‏.‏
وفُرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَإذَا جَاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالحَقِّ‏}‏ أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله‏}‏ الأمر‏:‏ القضاء والتقدير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏ وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قَتادة يومَ حُنين «ما شأن الناس» حين انهزموا وفَرّوا قال عمر‏:‏ «أَمرُ الله»‏.‏ وفي العدول عن‏:‏ إذن الله، إلى ‏{‏أَمْرُ الله‏}‏ تعريض بأن ما سيظهره الله من الإِذن لمحمد صلى الله عليه وسلم هي آيات عقاب لمعانديه، فمنها‏:‏ آية الجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة، وآيةُ السيففِ يوم بدر إذْ استأصل صناديدَ المكذبين من أهل مكة، وآية السيففِ يوم حُنين إذ استأصل صناديدَ أهل الطائف، وآية الأحزاب التي قال الله عنها‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللَّه المؤمنين القتال وكان اللَّه قوياً عزيزاً وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25 27‏]‏‏.‏
وفي إيثار قُضِيَ بِالحَق‏}‏ بالذكر دون غيره من نحو‏:‏ ظهر الحق، أو تبين الصدق، ترشيح لما في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْرُ الله‏}‏ من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين‏.‏ ولذلك عطف عليه ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ‏}‏ أي خسر الذين جَادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق‏.‏
والخسران‏:‏ مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع، كخسارة التاجر الذي أرادَ الربح فذهب رأس ماله، وقد تقدم معناه غير مرة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في أوائل سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏
و ‏{‏هنالك‏}‏ أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإِشارة إلى الزمان المعبر عنه ب ‏(‏إذا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله‏}‏‏.‏
وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإِيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بَدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآياتتِ الأرضية نحو الغَرق والخسف لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عَصَا موسى مع عِصيّ السحرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏
‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏
انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجْلهم من نظام العوالم العليا والسفلى، وبما منحهم من الإِيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإِبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة، فالجملة استئناف سادس‏.‏
والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره‏.‏
والأنعام‏:‏ الإِبل والغنم والمعز والبقر‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الإِبلُ خاصة لقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبْلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏ وكانت الإِبل غالب مكاسبهم‏.‏
والجَعْل‏:‏ الوضع والتمكين والتهيئة، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم‏.‏
وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيكُم ءاياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏ أي في ذلك كله‏.‏
واللام في ‏{‏لكم‏}‏ لام التعليل، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها‏.‏ ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوا منهَا‏}‏ إلى ‏{‏تحملون‏.‏‏}‏ فاللام في ‏{‏لِتَرْكَبُوا منهَا‏}‏ لام كي وهي متعلقة ب ‏{‏جعل‏}‏ أي لركوبكم‏.‏
و ‏(‏مِنْ‏)‏ في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه ‏(‏من‏)‏ أي بعضاً منها، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل‏.‏ ويتعلق حرف ‏(‏مِن‏)‏ ب ‏{‏تركبوا‏}‏، وتعلُّقُ ‏(‏مِن‏)‏ التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن ‏(‏مِن‏)‏ في مثله اسمٌ بمعنى بعضضٍ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللَّه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏وَمِنْها تَأكُلُونَ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الأنعام،‏}‏ أو عطف على المعنى من جملةِ ‏{‏لِتَرْكَبُوا مِنْهَا‏}‏ لأنها في قوة أن يقال‏:‏ تركبونَ منها، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ الأنعام‏}‏، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها‏:‏ ولتأكلوا منها‏.‏
وجملة ‏{‏ولكم فيها منافع‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وَمِنْهَا تَأكُلُونَ‏}‏، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل‏:‏ ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتتٍ كثيرة‏.‏
والمنافع‏:‏ جمع منفعة، وهي مَفْعلة من النفع، وهي‏:‏ الشيء الذي ينتفع به، أي يستصلح به‏.‏ فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لِتَركبوا مِنهَا‏}‏، فذكر المنافع بعد ‏{‏لِتَركبوا منها‏}‏ تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى‏:‏
‏{‏ولي فيها مئارب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هي عصاي أتوكؤ عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها، ثم عاد إلى عموم المنافع، ثم خص من المنافع الأسفار، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام‏.‏ ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف ‏(‏في‏)‏ دون ‏(‏مِن‏)‏ لأن ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ‏:‏
نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها *** وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر
وأنبأ فعل ‏{‏لِتَبْلغوا‏}‏ أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها‏.‏ والحاجة‏:‏ النية والعزيمة‏.‏
والصدور أطلق على العقول اتباعاً للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول‏.‏
وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْككِ تُحمَلُونَ‏}‏، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وعليها‏}‏ فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريراً للمنّة، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏ فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليباً‏.‏
ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال، كما تقدم في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ الآيات، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضاً قال النابغة يصف الفرات‏:‏
يظل من خوفه الملاح معتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد
والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف، فإن الإِبل سفائن البر، وقديماً سموها بذلك، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين‏.‏
وإنما قال‏:‏ ‏{‏وَعلَى الفُلْكِ‏}‏ ولم يقل‏:‏ وفي الفلك، كما قال‏:‏ ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ لمزاوجة والمشاكلة مع ‏{‏وعليها،‏}‏ وإنما أعيد حرف ‏(‏على‏)‏ في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر ‏{‏وعليها‏}‏ كالتوطئة لها فجاءت على مثالها‏.‏
وتقديم المجرورات في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تأكُلُون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ‏}‏ لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق‏.‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على ‏{‏الأنعام‏}‏ مع أن المفعول أشد اتصالاً بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم‏.‏
وأما تقديم المجرورين في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا منافع‏}‏ فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏
‏{‏وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏لَكُمُ الأنعام‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏ أي الله الذي يريكم آياته‏.‏ وهذا انتقال من متعدد الامتنان بما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏، ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏، ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 67‏]‏، ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكمُ الأنعام‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏، فإن تلك ذكرت في معرض الامتنان تذكيراً بالشكر، فنبّه هنا على أن في تلك المنن آيات دالة على ما يجب للَّه من الوحدانية والقدرة والحكمة‏.‏
ولذلك كان قوله‏:‏ وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ مفيداً مُفاد التذييللِ لما في قوله‏:‏ ‏{‏آياته‏}‏ من العموم لأن الجمع المعرف بالإِضافة من صيغ العموم، أي يريكم آياته في النعم المذكورات وغيرها من كل ما يدلّ على وجوب توحيده وتصديق رسله ونبذِ المكابرة فيما يأتونهم به من آيات صدقهم‏.‏
وقد جيء في جانب إراءة الآيات بالفعل المضارع لدلالته على التجدد لأن الإِنسان كلما انتفع بشيء من النعم علم ما في ذلك من دلالة على وحدانية خالقها وقدرته وحكمته‏.‏ والإِراءة هنا بَصرية، عُبر بها عن العلم بصفات الله إذ كان طريق ذلك العلم هو مشاهدة تلك الأحوال المختلفة فمن تلك المشاهدة ينتقل العقل إلى الاستدلال، وفيه إشارة إلى أن دلالة وجود الخالق ووحدانيته وقدرته برهانية تنتهي إلى اليقين والضرورة‏.‏
وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لزيادة التنويه بها، والإرشاد إلى إجادة النظر العقلي في دلائلها، وأما كونُها جائية من لدن الله وكونُ إضافتها من الإِضافة إلى ما هو في معنى الفاعل، فذلك أمر مستفاد من إسناد فعل ‏{‏يريكم‏}‏ إلى ضميره تعالى‏.‏ وفرع على إراءة الآيات استفهام إنكاري عليهم من أجل إنكارهم ما دلت عليه تلك الآيات‏.‏
و ‏(‏أيّ‏)‏ اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركه فيما يضاف إليه ‏(‏أيُّ‏)‏، وهو هنا مستعمل في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فيفيد أن جميع الآيات صالح للدلالة على وحدانية الله وقدرته لا مساغ لادّعاء خفائه وأنهم لا عذر لهم في عدم الاستفادة من إحدى الآيات‏.‏ والأكثر في استعمال ‏(‏أي‏)‏ إذا أضيفت إلى اسم مؤنثثِ اللفظ أن لا تلحقها هاء التأنيث اكتفاء بتأنيث ما تضاف إليه لأن الغالب في الأسماء التي ليست بصفات أن لا يُفْرَق بين مذكرها ومؤنثها بالهاء نحو حمار فلا يقال للمؤنث حمارة‏.‏ و‏(‏أيّ‏)‏ اسم ويزيد بما فيه من الإِبهام فلا يفسره إلا المضاف إليه فلذلك قال هنا ‏{‏فَأَيَّ ءاياتت الله‏}‏ دون‏:‏ فأيَّة آيات الله، لأن إلحاق علامة التأنيث ب ‏(‏أي‏)‏ في مثل هذا قليل، ومن غير الغالب تأنيث ‏(‏أي‏)‏ في قول الكميت‏:‏
بأي كتاب أم بأيَّةِ سُنة *** تَرى حُبهم عاراً عليَّ وتَحسبُ
تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏
‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏
تفريع هذا الاستفهام عقب قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيكُم ءاياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو ‏{‏فَأَيَّ ءاياتت الله تُنكِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 81‏]‏ فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 80‏]‏، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه‏.‏
وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ الآية، فكان ما تقدم انتقالاً عقب آيات الإِنذار والتهديد، وكان هذا انتقالاً عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد‏.‏ وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين‏.‏
والقول في قوله‏:‏ ‏{‏أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَءَاثَاراً في الأرْضِ‏}‏ مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة، وخولف في عطف جملة ‏{‏أفَلَمْ يَسِيرُوا‏}‏ بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة‏.‏
وجملة ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ‏}‏ معترضة والفاء للتفريع على قوله‏:‏ ‏{‏كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 57‏]‏ وقول عنترة‏:‏
ولقد نَزَلْتتِ فلا تظنّي غيره *** مني بمنزلة المحَبّ المكرَم
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئاً‏.‏
وجملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات‏}‏ الآية مفرعة على جملة ‏{‏كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا‏.‏ وجعلها في «الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُم‏}‏، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده‏.‏
ولِما في ‏(‏لَمَّا‏)‏ من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله‏.‏ وجواب ‏(‏لمّا‏)‏ جملة ‏{‏فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ‏}‏ وما عطف عليها‏.‏
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين‏.‏ وأنهاها صاحب «الكشاف» إلى ستّ، ومال صاحب «الكَشف» إلى إحداها، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك‏.‏
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على ‏{‏الَّذِينَ مِن قَبلِهم‏}‏ وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين ‏(‏فَرحوا بما عندهم من العلم‏)‏ هم ‏(‏الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات‏)‏، وهم الذين ‏(‏حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏)‏، والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نُبين معنى ‏{‏فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ‏}‏‏.‏
فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه، فالمعنى‏:‏ أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر‏.‏ وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم‏.‏
قال مجاهد‏:‏ قالوا لرسلهم‏:‏ نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اه‏.‏ وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل‏.‏ وقال السُدّي‏:‏ فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏
وحاق بهم‏:‏ أحاط، يقال‏:‏ حاق يحيق حيقا، إذا أحاط، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً‏.‏
و ‏{‏مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ‏}‏ هو الاستئصال والعذاب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم، وفي الإتيان ب ‏{‏يستهزؤون‏}‏ مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏
‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏
‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏
موقع جملة ‏{‏فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ كموقع جملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم من قوله‏:‏ كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 82‏]‏ لأن إفادة ‏(‏لمَّا‏)‏ معنى التوقيت يثير معنى توقيتتِ انتهاء ما قبلها، أي دام دُعاء الرسل إياهم ودام تكذيبهم واستهزَاؤهم إلى أن رَأوا بأسنا فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏.‏
والبَأْس‏:‏ الشدة في المكروه، وهو جامع لأصناف العذاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42، 43‏]‏ فذلك البأس بمعنى البَأساء، ألا ترى إلى قوله‏:‏ تضرعوا وهو هنا يقول‏:‏ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏ فالبأس هنا العذاب الخارق للعادة المنذِرُ بالفناء فإنهم لما رأوه علموا أنه العذاب الذي أُنذروه‏.‏ وفرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأَوا بَأْسَنا‏}‏، أي حين شاهدوا العذاب لم ينفعهم الإِيمان لأن الله لا يقبل الإِيمان عند نزول عذابه‏.‏
وعُدل عن أن يقال‏:‏ فلم ينفعهم، إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم‏}‏ لدلالة فعل الكون على أن خبره مقررُ الثبوتتِ لاسمه، فلما أريد نفي ثبوت النفع إياهم بعد فوات وقته اجتلب لذلك نفي فعل الكون الذي خبره ‏{‏ينفعهم‏}‏‏.‏ والمعنى أن الإِيمان بعد رؤية بوارق العذاب لا يفيد صاحبه مثل الإِيمان عند الغَرْغرة ومثل الإِيمان عند طلوع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الصحيح وسيأتي بيان هذا عَقبه‏.‏
‏{‏بَأْسَنَا سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ‏}‏
انتصب ‏{‏سُنَّتَ الله‏}‏ على النيابة عن المفعول المطلق لأن ‏{‏سنت‏}‏ اسم مصدر السَّنِّ، وهو آتتٍ بدلاً من فعله، والتقدير‏:‏ سَنَّ الله ذلك سُنَّةً، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مَن يسأل لماذا لم ينفعهم الإِيمان وقد آمنوا، فالجواب أن ذلك تقدير قدّره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشَرَطه عليهم فهي قَديمة في عباده لا ينفع الكافر الإِيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏‏.‏
وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة، فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نَصر الله به رسوله يومَ بدر ويومَ فتح مكة، فإنَّ من يؤمن عند رؤيته مثلُ أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش الفتح، أو بعد أن ينجو منه مثلَ إيمان قريش يوم الفَتح بعد رفع السيف عنهم، فإيمانه كامل مثل إيمان خالد بن الوليد، وأبي سفيان بن الحَارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد ارتداده‏.‏
ووجه عدم قبول الإِيمان عند حلول عذاب الاستئصال وقبوللِ الإِيمان عند نزول بأس السيف؛ أن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا فإيقاع الإِيمان عنده لا يحصِّل المقصد من إيجاب الإِيمان وهو أن يكون المؤمنون حزباً وأنصاراً لدينه وأنصاراً لرسله، وماذا يغني إيمان قوم لم يَبق فيهم إلاّ رمق ضعيف من حياة، فإيمانهم حينئذٍ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل، قال تعالى في شأن فرعون‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90، 91‏]‏، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏ فأشار قوله‏:‏ أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ إلى حكمة عدم انتفاع أحد بإيمانه ساعتئذٍ‏.‏ وإنما كان ما حل بقوم يونس حالاً وسيطاً بين ظهور البأس وبين الشعور به عند ظهور علاقاته كما بيّناه في سورة يونس‏.‏
وجملة ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ كالفذلكة لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأوا بَأْسَنا‏}‏، وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة‏.‏ و‏{‏هنالك‏}‏ اسم إشارة إلى مكاننٍ، استعير للإِشارة إلى الزمان، أي خسروا وقتَ رؤيتهم بأسنا إذْ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل‏.‏
والعدول عن ضمير ‏{‏الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهم كَانُوا هم أشَدَّ منهم قُوَّةً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ إلى الاسم الظاهر وهو الكافرون‏}‏ إيماءٌ إلى أن سبب خسرانهم هو الكفر بالله وذلك إعذار للمشركين من قريش‏.‏
أسلوب سورة غافِر
أسلوبها أسلوبُ المحاجّة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله، وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة، وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا‏.‏ وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمزٌ إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحدّاهم، لذلك فلم يفعلوا، كما تقدم في فاتحة سورة البقرة‏.‏ وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلّع ما يأتي بعده للاهتمام به‏.‏
وكان في الصفات التي أجريت على اسم مُنزِّل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم، وإيماء إلى تيسير إقلاعهم عن الكفر، وترهيب من العقاب على الإِصرار، وذلك كله من براعة الاستهلال‏.‏ ثم تُخلص من الإِيماء والرمز إلى صَريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله‏.‏
وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمةٍ من أعظم الأمم السالِفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم، وفي قلة المؤمنين منهم مثل مؤمن آل فرعون، وتخلل ذلك ثَبات موسى وثَبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات‏.‏
وختمت بذكر أهل الضلال من الأمم السالفة الذين أَوْبقهم الإِعجابُ برأيهم وثقتهم بجهلهم فصمَّت آذانهم عن سماع حجج الحق، وأعماهم عن النظر في دلائل الكون فحسبوا أنهم على كمال لا ينقصهم ما به حاجة إلى الكمال، فحاق بهم العذاب، وفي هذا رد العجز على الصدر‏.‏ وخوّف الله المشركين من الانزلاق في مهواة الأولين بأن سنة الله في عباده الإِمهال ثم المؤاخذة، فكان ذلك كلمة جامعة للغرض أذنت بانتهاء الكلام فكانت محسن الختام‏.‏
وتخلل في ذلك كلّه من المستطردات والانتقالات بذكر ثناء الملأ الأعلى على المؤمنين وثنائهم على الكافرين، وذكر ما هم صائرون إليه من العذاب والندامة، وتمثيل الفارق بين المؤمنين والكافرين، وتشويه حال الكافرين في الآخرة، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم وأن الله ناصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأمْرَهم بالصبر والتوكل، وأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم كشأن الرسل من قبله في لُقيان التكذيب وفي أنه يأتي بالآيات التي أجراها الله على يديه دون مقترحات المعاندين‏.‏
سورة فصلت
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏
القول في الحروف الواقعة فاتحةَ هذه السورة كالقول في ‏{‏ألام‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏
‏{‏تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏
افتتح الكلام باسم نكرة لما في التنكير من التعظيم‏.‏ والوجه أن يكون ‏{‏تَنزِيلٌ‏}‏ مبتدأ سَوَّغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم فكانت بذلك كالموصوفة وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ خبر عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتاب بَدل من تنزيل فحصل من المعنى‏:‏ أن التنزيل من الله كتاب، وأن صفته فُصّلت آياته، موسوماً بكونه قرآناً عربياً، فحصل من هذا الأسلوب أن القرآن منزَّل من الرحمان الرحيم مفصلاً عربياً‏.‏ ولك أن تجعل قوله‏:‏ مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ في موضع الصفة للمبتدأ وتجعل قوله‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ خبرَ المبتدأ، وعلى كلا التقديرين هو أسلوب فخم وقد مَضى مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آلمص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
والمراد‏:‏ أنه منزَّل، فالمصدر بمعنى المفعول كقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192، 193‏]‏ وهو مبالغة في كونه فَعَل الله تنزيله، تحقيقاً لكونه موحى به وليس منقولاً من صحف الأولين‏.‏ وتنكير ‏{‏تنزيل وكتاب لإِفادة التعظيم‏.‏
والكتاب‏:‏ اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله بأن يكتب ما أُوحي إليه، ولذلك اتخذ الرسول كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن‏.‏ وإيثار الصفتين الرحمنن الرَّحِيمِ‏}‏ على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ وقولِه تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏
والجمع بين صفتي ‏{‏الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة‏.‏ وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ بُينت، والتفصيل‏:‏ التبيين والإخلاء من الالتباس‏.‏ والمراد‏:‏ أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها، وقد تقدم في طالعة سورة هود‏.‏
ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني، واسعة الأفنان، فصيحة الألفاظ، فكانت سالمة من التباس الدلالة، وانغلاق الألفاظ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل‏.‏ وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله‏:‏ ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 195‏]‏ ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا ‏{‏فَأعْرَضَ أكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون‏}‏ وقوله هنالك‏:‏
‏{‏كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 200، 201‏]‏‏.‏
والقرآن‏:‏ الكلام المقروء المتلوّ‏.‏ وكونه قُرآناً من صفات كماله، وهو أنه سهْل الحفظ، سهْل التلاوة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 22‏]‏ ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان شأن المسلمين الاقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمَكْنَات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن‏.‏ وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة‏.‏
وانتصب ‏{‏قرآناً على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعاً على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني، فقوله‏:‏ قرآناً‏}‏ مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية، ولولا ذلك لقال‏:‏ كتاب فصّلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء ‏(‏195‏)‏ ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ولك أن تجعله منصوباً على الحال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لِقَوْممٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ صفة ل ‏{‏قرآناً‏}‏ ظرفٌ مستقر، أي كائناً لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏قُرءَاناً عَرِبيَّاً‏}‏ من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة، أو يتعلق ‏{‏لِقَوْممٍ يَعْلَمُون‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏تنزيل أو بقوله‏:‏ فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ على معنى أن فوائد تنزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم يُنزل إلا لهم، أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏‏.‏
والبشير‏:‏ اسم للمبشر وهو المخبر بخبر يسر المخبَر‏.‏ والنذير‏:‏ المخبر بأمر مَخُوف، شبه القرآن بالبشير فيما اشتمل عليه من الآيات المبشرة للمؤمنين الصالحين، وبالنذير فيما فيه من الوعيد للكافرين وأهل المعاصي، فالكلام تشبيه بليغ‏.‏ وليس‏:‏ ‏{‏بشيراً‏}‏ أو ‏{‏نذيراً‏}‏ اسمي فاعل لأنه لو أريد ذلك لقيل‏:‏ مُبشراً ومُنذراً‏.‏
والجمع بين‏:‏ ‏{‏بشيراً‏}‏ و‏{‏نَذِيراً‏}‏ من قبيل محسن الطِّبَاق‏.‏ وانتصب ‏{‏بشيراً‏}‏ على أنه حال ثانية من ‏{‏كتاب‏}‏ أو صفة ل ‏{‏قرآناً،‏}‏ وصفة الحال في معنى الحال، فالأوْلى كونه حالاً ثانية‏.‏
وجيء بقوله‏:‏ ‏{‏نذيراً‏}‏ معطوفاً بالواو للتنبيه على اختلاف موقع كل من الحالين فهو بشير لقوم وهم الذين اتبعوه ونذير لآخرين، وهم المعرضون عنه، وليس هو جامعاً بين البشارة والنذارة لطائفة واحدة فالواو هنا كالواو في قوله‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وتفريع ‏{‏فأعْرَضَ أكْثَرُهُم‏}‏ على ما ذكر من صفات القرآن‏.‏ وضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون كما هي عادة القرآن في غير موضع‏.‏ والمعنى‏:‏ فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدى فلم يهتدوا، ومن البشارة فلم يُعنوا بها، ومن النذارة فلم يحذروها، فكانوا في أشد الحماقة، إذ لم يعنوا بخَير، ولا حَذِرُوا الشر، فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم وليس عائداً ل ‏{‏قوم يعلمون‏}‏ لأن الذين يعلمون لا يُعرض أحد منهم‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لا يَسْمَعُون‏}‏ للتفريع على الإِعراض، أي فهم لا يُلقون أسماعهم للقرآن فضلاً عن تدبره، وهذا إجمال لإِعراضهم‏.‏ وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في ‏{‏فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فلا يسمعون لإِفادة تقوّي الحكم وتأكيده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏
عطف ‏{‏وقالوا‏}‏ على ‏{‏فأعرض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ أو حالٌ من ‏{‏أكثرهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ أو عطف على ‏{‏لا يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏، أو حال من ضميره، والمعنى‏:‏ أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء‏.‏ وهذا تفصيل للإعراض عما وُصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يَبعدوا ويعرضوا وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحداً واحداً كما ستعلمه‏.‏
والمراد بالقلوب‏:‏ العقول، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل‏.‏
والأكنة‏:‏ جمع كنان مثل‏:‏ غطاء وأغطية وزناً ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشُبهت القلوب بالأشياء المغطّاة على طريقة الاستعارة المكنية‏.‏ ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته‏.‏ ومَا يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها، ومنها دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وجعلت القلوب في أكنة لإِفادة حرف ‏{‏في‏}‏ معنى إحاطة الظرف بالمظروف‏.‏ وكذلك جعل الوَقر في القلوب لإِفادة تغلغله في إدراكهم‏.‏
و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ‏}‏ بمعنى ‏(‏عن‏)‏ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد كنا في غفلة من هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 97‏]‏، والمعنى‏:‏ قلوبنا في أكنة فهي بعيدة عما تدعونا إليه لا ينفذ إليها‏.‏
والوَقر بفتح الواو‏:‏ ثقل السمع وهو الصمم، وكأنَّ اللغة أخذته من الوِقر بكسر الواو، وهو الحِمل لأنه يثقل الدَّابة عن التحرك، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز، كما فرقوا بين العَضّ الحقيقي وعظِّ الدهر بأن صيروا ضادهُ ظاء‏.‏ وقد تقدم ذكر الأكنة والوقر في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ في الأنعام ‏(‏25‏)‏ وفي سورة الإِسراء ‏(‏46‏)‏‏.‏
والحجاب‏:‏ الساتر للمرئيّ من حائط أو ثوب‏.‏ أطلقوا اسم الحجاب على ما يمنع نفوسهم أن يأخذوا بالدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية دينه وتجافي تقلده بجامععِ أن الحجاب يحول بين الرائي والمَرْئِيّ فلا ينظر أحدهما الآخر ولا يصل إليه، ومرادهم البراءة منه‏.‏ مثل نبوّ قلوبهم عن تقبُّل الإسلام واعتقاده بحال ما هو في أكنّة، وعدمَ تأثر أسماعهم بدعوته بصَم الآذان، وعدمَ التقارب بين ما هم عليه وما هو عليه بالحجاب الممدود بينه وبينهم فلا تلاقيَ ولا ترائيَ‏.‏
وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه‏.‏ واجتلابُ حرف ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ‏}‏ لتقوية معنى الحجاب بين الطرفين وتمكن لازمه الذي هو بُعد المسافة التي بين الطرفين لأن ‏{‏مِن‏}‏ هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة‏.‏
وضمير ‏{‏بيننا‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وعطف وبينك‏}‏ تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال ‏(‏بين‏)‏ أن يكون معطوفاً عليه مثله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وقد جعل ابن مالك ‏(‏من‏)‏ الداخلة على ‏(‏قبل‏)‏ و‏(‏بعد‏)‏ زائدة فيكون ‏(‏بَين‏)‏ مقيساً على ‏(‏قبل‏)‏ و‏(‏بعد‏)‏ لأن الجميع ظروف‏.‏ وهذا القول المحكي عنهم في القرآن ب ‏{‏قالوا‏}‏ يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج، ويحتمل أنه حكاه بلفظهم فيكون مما قاله أحد بلغائهم في مجامعهم التي جمعت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر ما في سيرة ابن إسحاق، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف‏.‏
ويحتمل أن يكونوا تلقفوه ممّا سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏46‏)‏، فإن سورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً‏}‏ في سورة الإِسراء ‏(‏45‏)‏ أيضاً، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول‏.‏ فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى‏.‏ قيل‏:‏ إن قائله أبو جهل في مجمع من قريش فلذلك أسند القول إليهم جميعاً لأنهم مشائعون له‏.‏
وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذُكر قبله من صفات القرآن وهي ‏{‏تَنزِيلٌ مِنَ الرحمنن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرْءَاناً عَرَبِياً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 2، 3‏]‏، فإن كونَه تنزيلاً من الرحمان الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه، فقوبل بقولهم‏:‏ قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ‏}‏ وكونَهُ فُصلت آياته يستدعي تلقّيها والاستماعَ إليها فقوبل بقولهم‏:‏ ‏{‏في آذاننا وقر‏}‏، أي فلا نسمع تفصيله، وكونَه قرآناً عربياً أشد إلزاماً لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة وهو ‏{‏من بيننا وبينك حجاب‏}‏ أي فلا يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏{‏فاعْمَل إنَّنَا عاملون‏}‏ تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابِل وصف القرآن بأنه بَشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيراً لهم بعذاب عظيم لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبأُون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون‏:‏ «ذَرَوني أَقتُل موسى ولْيَدْعُ ربه»‏.‏
وحذف مفعولا ‏(‏اعمل‏)‏ و‏{‏عاملون‏}‏ ليعُمّ كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه‏.‏ والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاعمل‏}‏ مستعمل في التسوية كقول عنترة بن الأخرس المعْنِي‏:‏
أَطِلْ حملَ الشَّناءة لِي وبُغضي *** وعِشْ ما شئتَ فانظر من تضيرُ
وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏
والخَبر في قولهم‏:‏ ‏{‏إنَّنَا عاملون‏}‏ مستعمل في التهديد‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏
‏{‏عاملون * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏
استئناف ابتدائي هو تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجيب قولهم‏:‏ ‏{‏فاعْمَل إنَّنَا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ المفرّعَ على قولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ إلى آخره جوابَ المُتبرئ من أن يكون له حول وقوة ليعمل في إلجائهم إلى الإِيمان لمَّا أبوْه إذ ما هو إلا بشر مثلهم في البشرية لا حول له على تقليب القلوب الضالة، إلى الهدى، وما عليه إلا أن يبلغهم ما أوحَى الله إليه‏.‏ وهذا الخبر يفيد كناية عن تفويض الأمر في العمل بجزائهم إلى الله تعالى كأنه يقول‏:‏ وماذا أستطيع أن أعمل معكم فإني رسول من الله فحسابكم على الله‏.‏
فصيغة القصر في ‏{‏إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم‏}‏ تفيد قصراً إضافياً، أي أنَا مقصور على البشرية دون التصرف في قلوب الناس‏.‏ وبيَّن مما تميَّز به عنهم على وجه الاحتراس من أن يتلقفوا قوله‏:‏ ‏{‏إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم‏}‏ تلقفَ من حصَّل على اعتراف خصمه بنهوض حجته بما يُثبت الفارق بينه وبينهم في البشرية، وهو مضمون جملة ‏{‏يوحى إلَيَّ‏}‏ وذلك للتسجيل عليهم إبطال زعمهم المشهور المكرر أن كونه بشراً مانع من إرساله عن الله تعالى لقولهم‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، ونحوه مما تكرر في القرآن‏.‏ ومثل هذا الاحتراس ما حكاه الله عن قول الكفار لرسلهم‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن اللَّه يمن على من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏
وحرصاً على إبلاغ الإرشاد إليهم بيَّن له ما يوحى إليه بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّمَا إلهكم إله واحد‏}‏ إعادة لِمَا أبلغهم إياه غيرَ مرة، شأنَ القائم بهدي الناس أن لا يغادر فرصة لإِبلاغهم الحق إلا انتهزها‏.‏ ونظيره ما جاء في محاورة موسى وفرعون ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مؤمنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23 28‏]‏‏.‏
و ‏{‏أنما‏}‏ مفتوحة الهمزة، وهي أخت ‏{‏إنما‏}‏ المكسورة وإنما تفتح همزتها إذا وقعت معمولة لما قبلها ولم تكن في الابتداء كما تفتح همزة ‏(‏أنَّ‏)‏ وتكسر همزة ‏(‏إن‏)‏ لأن إنَّمَا أو ‏(‏أنَّما‏)‏ مركبان من ‏(‏إنَّ‏)‏ أو ‏(‏أَنَّ‏)‏ مع ‏(‏ما‏)‏ الكافة الزائدة للدلالة على معنى ‏(‏مَا‏)‏ و‏(‏إلا‏)‏ حتى ذهب وَهَلُ بعضهم أن ‏(‏ما‏)‏ التي معها هي النافية اغتراراً بأن معنى القصر إثبات الحكم للمذكور ونفيُه عما عداه مثلَ ‏(‏ما‏)‏ و‏(‏إلاَّ‏)‏ ولا ينبغي التردد في كون أَنما المفتوحةِ الهمزة مفيدة القصرَ مثلُ أختها المكسورة الهمزة وبذلك جزم الزمخشري في تفسير سورة الأنبياء، وما رده أبو حيان عليه إنما هو مجازفة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل انتم مسلمون‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏108‏)‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏أنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ إدماج للدعوة إلى الحق في خلال الجواب حرصاً على الهدْي‏.‏
وكذلك التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ فإنه إتمام لذلك الإِدماج بتفريع فائدته عليه لأن إثبات أن الله إله واحد إنما يقصد منه إفراده بالعبادة ونبذُ الشرك‏.‏ هذا هو الوجه في توجيه ارتباط ‏{‏قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ‏}‏ بقولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ الخ‏.‏
وموقع أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ‏}‏ أنه نائب فاعل ‏{‏يوحى إلَيَّ‏}‏، أيْ يوحَى إِليَّ معنى المصدر المنسبك من ‏{‏أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ‏}‏ وهو حصر صفة الله تعالى في أنه واحد، أي دون شريك‏.‏
ومماثلته لهم‏:‏ المماثلة في البشرية فتفيد تأكيدَ كونه بشراً‏.‏
والاستقامة‏:‏ كون الشيء قويماً، أي غير ذي عوج وتطلق مجازاً على كون الشيء حقاً خالصاً ليست فيه شائبة تمويه ولا باطل‏.‏ وعلى كون الشخص صادقاً في معاملته أو عهده غير خالط به شيئاً من الحيلة أو الخيانة، فيقال‏:‏ فلان رجل مستقيم، أي صادق الخُلُق، وإن أريد صدقه مع غيره يقال‏:‏ استقام له، أي استقام لأجله، أي لأجل معاملته منه‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ والاستقامة هنا بهذا المعنى، وإنما عُدّي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لأنها كثيراً ما تعاقب اللام، يقال‏:‏ ذهبتُ له وذهبت إليه، والأحسن أن إيثار ‏(‏إلى‏)‏ هنا لتضمين ‏(‏استقيموا‏)‏ معنى‏:‏ توجهوا، لأن التوحيد توجه، أي صرف الوجه إلى الله دون غيره، كما حكَى عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏، أو ضمّن ‏(‏استقيموا‏)‏ معنى‏:‏ أنيبوا، أي توبوا من الشرك كما دل عليه عطف ‏{‏واستغفروه‏.‏
والاستغفار‏:‏ طلب العفو عما فرط من ذنب أو عصيان وهو مشتق من الغَفْر وهو الستر‏.‏
والمعنى‏:‏ فأخلصوا إلى الله في عبادته ولا تشركوا به غيره واسألوا منه الصفح عما فرط منكم من الشرك والعناد‏.‏
واستغفروه وَوَيْلٌ‏}‏ ‏{‏لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏
وعيد للمشركين بسوء الحال والشقاء في الآخرة يجوز أن يكون من جملة القول الذي أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله فهو معطوف على جملة ‏{‏إنَمَّا أنَا بَشَرٌ‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون كلاماً معترضاً من جانب الله تعالى فتكون الواو اعتراضية بين جملة ‏{‏قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ‏}‏ وجملة ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ أي أجبهم بقولك‏:‏ أنا بشر مثلك يوحى إليّ ونحن أعتدنا لهم الويل والشقاء إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه، فيكون هذا إخباراً من الله تعالى‏.‏
وذكر المشركين إظهار في مقام الإِضمار ويستفاد تعليق الوعيد على استمرارهم على الكفر من الإِخبار عن الويل بكونه ثابتاً للمشركين والموصوفين بالذين لا يؤتون الزكاة وبأنهم كافرون بالبعث لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليَّة ما منه الاشتقاق، ولأن الموصول يؤذن بالإِيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ فأما كون الشرك وإنكارِ البعث موجِبَيْن للويل فظاهر، وأما كون عدم إيتاء الزكاة موجباً للويل فذلك لأنه حَمَّل عليهم ما قارن الإشراك وإنكار البعث من عدم الانتفاع بالأعمال التي جاء بها الإسلام، فذِكرُ ذلك هنا لتشويه كفرهم وتفظيع شركهم وكفرانهم بالبعث بأنهما يدعوانهم إلى منع الزكاة، أي إلى القسوة على الفقراء الضعفاء وإلى الشحّ بالمال وكفى بذلك تشويهاً في حكم الأخلاق وحكم العُرف فيهم لأنهم يتعيرون باللؤم، ولكنهم يبذلون المالَ في غير وجهه ويحرمون منه مستحقيه‏.‏
ويعلم من هذا أن مانع الزكاة من المسلمين له حظ من الويل الذي استحقه المشركون لمنعهم الزكاة في ضمن شركهم، ولذلك رأى أبو بكر قتال مانعي الزكاة ممن لم يرتدوا عن الإسلام ومنَعوا الزكاة مع المرتدين، ووافقه جميع أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ف ‏{‏الزكاة‏}‏ في الآية هي الصدقة لوقوعها مفعول ‏{‏يؤتون،‏}‏ ولم تكن يومئذٍ زكاة مفروضة في الإسلام غير الصدقة دون تعيين نُصُببٍ ولا أصناففِ الأرزاق المزكّاةِ، وكانت الصدقة مفروضة على الجملة، ولبعض الصدقة ميقات وهي الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافرون‏}‏ إما حال من ضمير ‏{‏يؤتون‏}‏ وإما معطوفة على الصلة‏.‏ وضمير ‏{‏هُمْ كافرون‏}‏ ضمير فصل لا يفيد هنا إلا توكيد الحكم ويشبه أن يكون هنا توكيداً لفظياً لا ضميرَ فصل ومثله قوله‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنني أنا اللَّه‏}‏ في سورة طه ‏(‏14‏)‏‏.‏
وتقديم ‏{‏بِالآخِرَة‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏كافرون‏}‏ لإِفادة الاهتمام‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏
استئناف بياني نشأ عن الوعيد الذي تُوُعّد به المشركون بعد أن أُمروا بالاستقامة إلى الله واستغفارِه عما فرط منهم، كأنَّ سائلاً يقول‏:‏ فإن اتعظوا وارتدعوا فماذا يكون جزاؤهم، فأفيد ذلك وهو أنهم حينئذٍ يكونون من زمرة ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون‏}‏، وفي هذا تنويه بشأن المؤمنين‏.‏
وتقديم ‏{‏لهم‏}‏ للاهتمام بهم‏.‏
والأجر‏:‏ الجزاء النافع، عن العمل الصالح، أو هو ما يُعطُوْنه من نعيم الجنة‏.‏
والممنون‏:‏ مفعول من المَنّ، وهو ذِكر النعمة للمنعَم عليه بها، والتقدير غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أُعطُوه شكراً لهم على ما أسلفوه من عمل صالح فإن الله غفور شكور، يعني‏:‏ أن الإِنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يُحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله‏:‏ ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد وذلك تفضل من الله، وقريب منه قول لبيد‏:‏
غُضْفٌ كواسبُ لا يُمَنُّ طعامها ***
أي تأخذ طعامها بأنفسها فلا منّة لأحد عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏
بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب المشركين بأنه بشَر يُوحَى إليه فما يملك إلجاءَهم إلى الإِيمان أمره عقب ذلك بمعاودة إرشادهم إلى الحق على طريقة الاستفهام عن كفرهم بالله، مدمِجاً في ذلك تذكيرهم بالأدلة الدالة على أن الله واحد، بطريقة التوبيخ على إشراكهم به في حين وضوح الدلائل على انفراده بالخلق واتصافه بتمام القدرة والعلم‏.‏
فجملة ‏{‏قُلْ أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ‏}‏ إلى آخرها استئناف ابتدائي ثان هو جواب ثان عن مضمون قولهم‏:‏ ‏{‏إننا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وهمزة الاستفهام المفتتح بها الكلام مستعملة في التوبيخ فقوله‏:‏ ‏{‏أئِنَّكُم لَتَكْفُرُونَ‏}‏ كقوله في سورة البقرة ‏(‏28‏)‏ ‏{‏كيف تكفرون باللَّه‏}‏‏.‏
وفي الافتتاح بالاستفهام وحرفي التوكيد تشويق لتلقي ما بعد ذلك لدلالة ذلك على أن أمراً مُهمّاً سيُلقى إليهم، وتوكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ ولام الابتداء بعد الاستفهام التوبيخي أو التعجيبي استعمال وارد كثيراً في الكلام الفصيح، ليكون الإِنكار لأمر محقق، وهو هنا مبني على أنهم يحسبون أنهم مهتدون وعلى تجاهلهم الملازمةَ بين الانفراد بالخلق وبين استحقاق الإِفراد بالعبادة فأُعلموا بتوكيد أنهم يكفرون، وبتوبيخهم على ذلك، فالتوبيخ المفاد من الاستفهام مسلط على تحقيق كفرهم بالله، وذلك من البلاغة بالمكانة العليا، واحتمالُ أن يكون التوكيد مسلطاً على التوبيخ والإِنكار قلب لنظام الكلام‏.‏
ومجيء فعل «تكفرون» بصيغة المضارع لإِفادة أن تجدد كفرهم يوماً فيوماً مع سطوع الأدلة التي تقتضي الإِقلاع عنه أمر أحق بالتوبيخ‏.‏ ومعنى الكفر به الكفر بانفراده بالإِلهية، فلما أشركوا معه آلهة كانوا واقعين في إبطال إلهيته لأن التعدد ينافي حقيقة الإِلهية فكأنهم أنكروا وجوده لأنهم لمّا أنكروا صفات ذاته فقد تصوروه على غير كنهه‏.‏
وأدمج في هذا الاستدلال بيان ابتداء خلق هذه العوالم، فمحل الاستدلال هو صلة الموصول، وأما ما تعلق بها فهو إدماج‏.‏
و ‏{‏الأرض‏}‏‏:‏ هي الكرة الأرضية بما فيها من يابس وبحار، أي خلق جِرمها‏.‏ واليومان‏:‏ تثنية يوم، وهو الحصة التي بين طلوع الشمس من المشرق وطلوعها ثانية‏.‏ والمراد‏:‏ في مدة تساوي يَومين مما عرفَه الناس بعد خَلق الأرض لأن النور والظلمة اللذان يُقدَّر اليوم بظهورهما على الأرض لم يظهرا إلا بعد خلق الأرض، وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف‏.‏
وإنما ابتُدئ بذكر خلق الأرض لأن آثاره أظهرُ للعيان وهي في متناول الإِنسان، فلا جرم أن كانت الحجة عليهم بخلق الأرض أسبقَ نهوضاً‏.‏ ولأن النعمة بما تحتوي عليه الأرض أقوى وأعمّ فيظهر قبح الكفران بخالقها أوضح وأشنع‏.‏
وعطْفُ ‏{‏وَتَجْعَلُون لَهُ أندَاداً‏}‏ على ‏{‏لتكفرون‏}‏ تفسيرٌ لكفرهم بالله‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن في التفسير لا يعطف فعدل إلى عطفه ليكون مضمونه مستقلاً بذاته‏.‏
والأنداد‏:‏ جمع نِدّ بكسر النون وهو المثل‏.‏ والمراد‏:‏ أنداد في الإِلهية‏.‏
والتعبير عن الجلالة بالموصول دون الاسم العلم لما تؤذن به الصلة من تعليل التوبيخ، لأن الذي خلق الأرض هو المستحق للعبادة‏.‏
والإشارة ب ‏{‏ذلك رَبُّ العالمين‏}‏ إلى «الذي خلق الأرض في يومين» وفي الإشارة نداء على بلادة رأيهم إذ لم يتفطنوا إلى أن الذي خلق الأرض هو رب العالمين لأنه خالق الأرض وما فيها، ولا إلى أن ربوبيته تقتضي انتفاء الند والشريك، وإذا كان هو رب العالمين فهو رب ما دون العالمين من الأجناس التي هي أحط من العقلاء كالحجارة والأخشاب التي منها صُنععِ أصنامهم‏.‏ وجملة ‏{‏ذلك رَبُّ العالمين‏}‏ معترضة بين المعطوفات على الصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏
عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل، فجملة ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رواسي‏}‏ الخ صلة ثانية في المعنى، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل ‏(‏خلق‏)‏ لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏‏.‏
والرواسي‏:‏ الثوابت، وهو صفة للجبال لأن الجبال حجارة لا تنتقل بخلاف الرمال والكثبان، وهي كثيرة في بلاد العرب‏.‏ وحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته الجواري في البحر‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏ أي السفن الجواري‏.‏ وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏31‏)‏‏.‏
ووصفُ الرواسي ب ‏{‏مِن فَوْقِهَا‏}‏ لاستحضار الصورة الرائعة لمناظر الجبال، فمنها الجميل المنظر المجلّل بالخضرة أو المكسوّ بالثلوج، ومنها الرهيب المرأى مثل جبال النار ‏(‏البراكين‏)‏، والجبال المعدنية السود‏.‏
و ‏{‏بارك فيها‏}‏ جعل فيها البَرَكة‏.‏ والبَرَكة‏:‏ الخير النافع، وفي الأرض خيرات كثيرة فيها رزق الإنسان وماشيتِه، وفيها التراب والحجارة والمعادن، وكلها بركات‏.‏ و‏{‏قدَّر‏}‏ جعل قَدْراً، أي مقداراً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد جعل اللَّه لكل شيء قدراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والمقدار‏:‏ النصاب المحدود بالنوع أو بالكمية، فمعنى ‏{‏قدر فيها أقواتها‏}‏ أنه خلق في الأرض القُوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحَبّ للحبوب، والكَلأ والكمْأة، والنَّوى للثمار، والحرارةِ التي يَتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير، وما يتولد منه الحيتان ودَوابّ البحار والأنهار‏.‏
ومن التقدير‏:‏ تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال‏.‏ وأشار إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ ويأتي القول فيه، وقوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏
وجمع الأقوات مضافاً إلى ضمير الأرض يفيد العموم، أي جميع أقواتها وعمومُه باعتبار تعدد المقتاتين، فللدواب أقوات، وللطير أقوات، وللوحوش أقوات، وللزواحف أقوات، وللحشرات أقوات، وجُعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ ومضى الكلام عليه في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ‏}‏ فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جِرمِها، وما عليها من رواسي، وما فيها من القوى، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليوماننِ اللذان في قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ في يَومين آخرين فتلك أربعة أيام، فقوله في ‏{‏أرْبَعَة أيام‏}‏ فذلكة، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإِيجاز واعتماداً على ما يأتي بعدُه من قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سماوات في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية، وذلك ينافي الإِشارة إلى عِدّة أيام الأسبوع، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين‏.‏ وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة‏.‏
و ‏{‏سواء‏}‏ قرأه الجمهور بالنصب على الحال من ‏{‏أيام‏}‏ أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة‏.‏ وقرأه أبو جعفر مرفوعاً على الابتداء بتقدير‏:‏ هي سواء‏.‏ وقرأه يعقوب مجروراً على الوصف ل ‏{‏أيام‏.‏
وللسائلين‏}‏ يتنازعه كل من أفعال ‏{‏جعل‏}‏ و‏{‏بَارك‏}‏ و‏{‏قَدر‏}‏ فيكون ‏{‏للسائلين‏}‏ جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، أي بيّنا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون ل ‏{‏السائلين‏}‏ متعلقاً بفعل ‏{‏قدر فيها أقواتها‏}‏ فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏
‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها، فإن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض، وعوالمها أكثر وأعظم، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قُضِي حق الاهتمام بذكر خلق الأرض حتى يوفَّى المقتضيان حقَّهما‏.‏ وليس هذا بمقتض أن الإِرادة تعلقت بخلق السماء بعد تمام خلق الأرض ولا مقتضياً أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض كما سيأتي‏.‏
والاستواء‏:‏ القصد إلى الشيء تَوًّا لا يعترضه شيء آخر‏.‏ وهو تمثيل لتعلق إرادة الله تعالى بإيجاد السماوات، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏‏.‏ وربما كان في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَال لَهَا وللأرْضضِ ائتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ إشارة إلى أنه تعالى توجهت إرادته لخلق السماوات والأرض توجهاً واحداً ثم اختلف زَمن الإِرادة التنجيزي بتحقيق ذلك فتعلقت إرادته تنجيزاً بخلق السماء ثم بخلق الأرض، فعبر عن تعلق الإِرادة تنجيزاً لخلق السماء بتوجه الإرادة إلى السماء، وذلك التوجه عبر عنه بالاستواء‏.‏ ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا ولِلأرْضضِ ائْتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طآئِعِينَ‏}‏ ففعل ‏{‏ائتيا‏}‏ أمر للتكوين‏.‏
والدخان‏:‏ ما يتصاعد من الوَقود عند التهاب النار فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ تشبيه بليغ، أي وهي مثل الدخان، وقد ورد في الحديث‏:‏ «أنها كانت عَماء»‏.‏
وقيل‏:‏ أراد بالدخان هنا شيئاً مظلماً، وهو الموافق لما في «سفر التكوين» من قولها‏:‏ «وعلى وجه الغمر ظلمة» وهو بعيد عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في الوجود من الحوداث إلا العَماءَ، والعماء‏:‏ سحابٌ رقيق، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خَلق الله منه الموجودات، وهو الذي يناسب كوْنَ السماء مخلوقة قبل الأرض‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ أن أصل السماء هو ذلك الكائن المشبه بالدخان، أي أن السماء كونت من ذلك الدخان كما تقول‏:‏ عمَدْتُ إلى هاته النخلة، وهي نواة، فاخترت لها أخصب تربة، فتكون مادة السماء موجودة قبل وجود الأرض‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وللأرْضِ‏}‏ تفريع على فعل ‏{‏استوى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ فيكون القول موجهاً إلى السماء والأرض حينئذٍ، أي قبل خلق السماء لا محالة وقبل خلق الأرض، لأنه جعل القولَ لها مقارناً القول للسماء، وهو قول تكوين‏.‏ أي تعلّققِ القدرة بالسماء والأرض، أي بمادة تكوينهما وهي الدخان لأن السماء تكونت من العماء بجمود شيء منه سمي جلداً فكانت منه السماء وتكوّن مع السماء الماء وتكونت الأرض بيُبْس ظهر في ذلك الماء كما جاء الإِصحاح الأول من «سفر التكوين» من التوراة‏.‏
والإِتيان في قوله‏:‏ ‏{‏ائتيا‏}‏ أصله‏:‏ المجيء والإِقبال ولما كان معناه الحقيقي غير مراد لأن السماء والأرض لا يتصور أن يأتيا، ولا يتصور منهما طواعية أو كراهية إذ ليستا من أهل العقول والإدراكات، ولا يتصور أن الله يكرههما على ذلك لأنه يقتضي خروجهما عن قدرته بادئ ذي بدء تعينّ الصرف عن المعنى الحقيقي وذلك بأحد وجهين لهما من البلاغة المكانة العليا‏:‏
الوجه الأول‏:‏ أن يكون الإِتيان مستعاراً لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإِدبارُ في قوله تعالى‏:‏
‏{‏ثم أدبر يسعى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة حين امتنع من الإِيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة «لئن أدبرت ليعقرنك اللَّه» وكما يستعار النفور والفرار للعصيان‏.‏ فمعنى ‏{‏ائتيا‏}‏ امتثلا أمر التكوين‏.‏ وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله‏:‏ ‏{‏أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ كناية عن عدم البدّ من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة ‏{‏طَوْعاً أو كَرْهاً‏}‏ جارية مجرى الامثال‏.‏ و‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ مصدران وقعا حالين من ضمير ‏{‏ائتنا‏}‏ أي طائعين أو كارهيْن‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ أن تكون جملة ‏{‏فَقَالَ لَهَا ولِلأرْضِ ائتنا طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ مستعملة تمثيلاً لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظَمة خلْقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مُطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له‏:‏ ائت لهذا العمل طوعاً أو كرهاً، لتوقع إبائهِ من الإِقدام على ذلك العمل، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبَّهة لأجزاء الهيئة المشبه بها، فلا قول ولا مقول، وإنما هو تمثيل، ويكون ‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ على هذا من تمام الهيئة المشبه بها وليس له مقابل في الهيئة المشبهة‏.‏ والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإِلهية ونفوذها في المقدورات دَقَّت أو جلَّت‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعاراً لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكَّأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه‏:‏
امتَلأَ الحَوْضُ وقال قَطْنِي ***
وهو كثير، ويجوز أن يكون تمثيلاً لهيئة تكوّن السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقَبله سريعاً عن طواعية‏.‏ وهما اعتباران متقاربان، إلا أن القول، والإِتيان، والطوع، على الاعتبار الأول تكون مجازات، وعلى الاعتبار الثاني تكون حقائق وإنما المجاز في التركيب على ما هو معلوم من الفرق بين المجاز المفرد والمجاز المركب في فن البيان‏.‏
وإنما جاء قوله‏:‏ ‏{‏طَآئِعِينَ‏}‏ بصيغة الجمع لأن لفظ السماء يشتمل على سبع سماوات كما قال تعالى إثر هذا ‏{‏فقضاهن سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ فالامتثالُ صادر عن جَمع، وأما كونه بصيغة جمع المذكر فلأنَّ السماء والأرضَ ليس لهما تأنيث حقيقي‏.‏
وأما كونه بصيغة جمع العقلاء فذلك ترشيح للمكنية المتقدمة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏
‏{‏طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وَحِفْظاً ذَلِكَ‏}‏‏.‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وللأرْضضِ ائْتِيَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والقضاء‏:‏ الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع، كقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏
وعليهما مسرودتان قَضاهما *** دَاود أو صَنَعُ السوابغغِ تُبَّعُ
وضَمير ‏{‏فقضاهن‏}‏ عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها، وهذا تفنن‏.‏ وانتصب ‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ على أنه حال من ضمير «قضاهن» أو عطف بيان له، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل «قضاهن» لتضمين «قضاهن» معنى صيرهن، وهذا كقوله في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏‏.‏
وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خُلقت فيها الأرض وما فيها‏.‏ وقد بيَّنَّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة‏.‏ وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك‏.‏ وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه، وهو الذي قَرَّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سَمَّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض مَعلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر‏.‏ وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولُّد المبطئ لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضاً ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خِلواً من الخلْق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يومَ السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنْهَاءِ خلق العالَمين‏.‏ وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد، واسمه في العربية القديمة ‏(‏أَول‏)‏ وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين‏.‏ والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع، وأن الله هدى إليه المسلمين‏.‏ قال النبي فهذا اليوم ‏(‏أي الجمعة‏)‏ هو اليوم الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناسُ لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غدٍ‏.‏ ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يومُ خلقه هو اليوم السابع‏.‏
وقد رَوى مسلم في صحيحه‏}‏ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت»‏.‏ وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كَعب الأحبار حدّث به أبَا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواةِ سنده فظنه مرفوعاً‏.‏
ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألمْمنَا بها هنا لئلا يعروَ التفسير عنها فيقع من يراها في غيرِهِ في حَيْرةٍ وإنما مقصد القرآن العِبرة‏.‏
‏{‏يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح‏}‏‏.‏
‏{‏وأوحى‏}‏ عطف على ‏{‏فقضاهن‏.‏
والوحي‏:‏ الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قوللٍ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ أي أومأ إليهم بما يدل على معنى‏:‏ سَبحوا بُكرة وعشياً‏.‏ وقول أبي دُؤاد‏:‏
يَرمُون بالخُطب الطِّواللِ وتارةً *** وَحْيَ الملاَحظ خيفةَ الرُّقَباء
ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم بأمره يعملون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 20‏]‏‏.‏
و ‏{‏أمرها‏}‏ بمعنى شأنها، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها‏.‏ وذلك مقابل قوله في خلق الأرض ‏{‏وجعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وانتصب أمرها‏}‏ على نزع الخافض، أي بأمرها أو على تضمين أَوحَى معنى قدَّر أو أودَع‏.‏
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح‏}‏ تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم ‏{‏وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا‏}‏، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها‏.‏
والمصابيح‏:‏ جمع مصباح، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفاً عن الصباح‏.‏ والمراد بالمصابيح‏:‏ النجوم، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها‏.‏
وانتصب ‏{‏حفظاً‏}‏ على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل ‏{‏زيَّنَّا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وجعلنَاها حفظاً‏.‏ والمراد‏:‏ حفظاً للسماء من الشياطين المسترقة للسمع‏.‏ وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات‏.‏
‏{‏وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز‏}‏
الإِشارة إلى المذكور من قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ إلى قوله‏:‏ وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح وَحِفْظاً‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وضْع الشيء على مقدار معيَّن، وتقدم نظيره في سورة يَس‏.‏ وتقدم وجهُ إيثار وصفي ‏{‏العَزِيزِ العَلِيمِ‏}‏ بالذكر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏
‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
‏{‏وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ‏}‏‏.‏
بعد أن قَرَعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسرباً إلى النفوس بعدها في أَن الله منفرد بالإِلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها‏.‏ وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزَّل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإِيماننِ بالقرآن، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة ‏{‏فأعرض أكْثَرُهُم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ الخ، فلذلك جعل استمرارهم على الإِعراض بعد تلك الحجج أمراً مفروضاً كما يُفْرَض المُحال، فجيء في جانبه بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏ في قراءة من قرأ بكسر همزة ‏(‏إنْ‏)‏‏.‏
فمعنى ‏{‏فَإنْ أعْرَضُوا‏}‏ إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏
والإِنذار‏:‏ التخويف، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإِعراض خشيةَ أن يحلّ بهم ما حل بأولئك، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سَنن واحد، وليس هو وعيداً لأن قريشاً لم تصبهم صاعقة مثلُ صاعقة عاد وثمود، وإن كانوا قد ساوَوْهما في التكذيب والإِعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ وأمهل الله قريشاً حتى آمن كثير منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص‏.‏
وحقيقة الصاعقة‏:‏ نار تخرج مع البرق تُحرق ما تصيبه، وتقدم ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏‏.‏ وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاككِ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عادٍ وثمود، وعادٌ لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمودُ أهلكوا بالصاعقة فقد استُعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصدَ الإِيجاز، وليقع الإِجمَال ثم التفصيل بعد بقوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا عَادٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للماضي، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات‏.‏ روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبةَ بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاففِ قومه فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ حتى بلغ ‏{‏فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 1 13‏]‏ الآية، فأمسَكَ عتبةُ على فم النبي وقال له‏:‏ «ناشدتُك الله والرحم»
وضمير جاءتهم‏}‏ عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما‏.‏ وجَمْع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، والقرينة واضحة وهو استعمالٌ غير عزيز، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَيْننِ أيْدِيهم ومِن خَلْفِهِم‏}‏ تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يَتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها‏.‏ فمُثِّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة، كما يفعل الحريص على تحصيل أمرٍ أَن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان ‏{‏ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تُستوعب الجهات الأربع كما مُثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيراً منه وإثارة لبُغضه في نفوس الناس‏.‏ و‏{‏أَلاَّ تعبدوا إلا الله‏}‏ تفسير لِجملة ‏{‏جَآءَتهُمُ الرُّسُلُ‏}‏ لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفاً بأنهم رسُل، فتكون ‏(‏أَنْ‏)‏ تفسيرية ل ‏{‏جاءتهم‏}‏ بهذا التأويل كقول الشاعر‏:‏
إِنْ تحمِلا حاجة لي خفٌ مَحْمَلُها *** تَسْتَوْجبَا مِنةً عندي بها ويَدا
أَنْ تَقرَآننِ على أسماءَ ويحكما *** مني السَّلام وأن لا تُشعرا أحدا
إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافاً لما أطال به صاحب «مغني اللبيب» من أبحاث لا يرضاها الأريب، أو لما يتضمنه عنوان ‏{‏الرسل‏}‏ من إبلاغ رسالة‏.‏
‏{‏الله قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاََنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏
حكاية جواب عاد وثمود لرسولَيْهم فقد كان جواباً متماثلاً لأنه ناشئ عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنَى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وَأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات، ولذلك يتماثل في هذا حالُ أهل الجهالة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52، 53‏]‏، أي بل هم متماثلون في الطغيان، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة‏.‏
ولكون جوابهم جَرَى في سياق المحاورة أتتْ حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة، كما تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فإن قول الرسل لهم‏:‏ لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول، وهو فعل ‏{‏جاءتهم‏}‏ كما تقدم آنفاً‏.‏
فقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً‏}‏ يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى‏.‏
ومفعول ‏{‏شاء‏}‏ محذوف دل عليه السياق، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسَلين إلينا، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولاً عليه بجواب ‏{‏لوْ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏، ونكتته الإِبهام ثم البيان، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة، ونظيره قول المعري‏:‏
وإنْ شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستَشْهِدْ إلهَكَ يَشْهَدِ
وتضمن كلامهم قياساً استثنائياً تركيبه‏:‏ لو شاء ربنا أن يرسل رسولاً لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولاً‏.‏ وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم‏:‏ ‏{‏فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بهِ كافرون‏}‏ أي جاحدون رسالتكم وهو أيضاً كناية عن التكذيب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏
‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
بعد أن حُكي عن عاد وثمود ما اشترك فيه الأمتان من الكابرة والإصرار على الكفر فصّل هنا بعض ما اختصت به كل أمة منهما من صورة الكفر، وذكر من ذلك ما له مناسبة لما حلّ بكل أمة منهما من العذاب‏.‏
والفاء تفريع على جملة ‏{‏قَالُوا لَو شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ المقتضية أنهم رفضوا دعوَة رسوليهم ولم يقبلوا إرشادهما واستدلالهما‏.‏
و ‏{‏أَمَّا‏}‏ حرف شرط وتفصيل، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فأما عاد فمنعهم من قبول الهدى استكبارهم‏.‏
والاستكبار‏:‏ المبالغة في الكبر، أي التعاظم واحتقار الناس، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل‏:‏ استجاب، والتعريف في ‏{‏الأرْض‏}‏ للعهد، أي أرضهم المعهودة‏.‏ وإنما ذُكر من مساويهم الاستكبار لأن تكبرهم هو الذين صرفهم عن اتباع رسولهم وعن توقع عقاب الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ زيادة تشنيع لاستكبارهم، فإن الاستكبار لا يكون بحق إذ لا مبرر للكبر بوجه من الوجوه لأن جميع الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تُبلغ الإِنسان مبلغ الخلوّ عن النقص وليس للضعيف الناقص حق في الكبر ولذلك كان الكبر من خصائص الله تعالى‏.‏ وهم قد اغترُّوا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد، وهو معنى قولهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً‏}‏ فقولهم ذلك هو سبب استكبارهم لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم فكذبوا رسولهم‏.‏
فلما كان اغترارهم بقوتهم هو باعثَهم على الكفر وكان قولهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً‏}‏ دليلاً عليه خصّ بالذكر‏.‏ وإنما عطف بالواو مع أنه كالبيان لقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَكْبَرُوا في الأرْضضِ بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ إشارة إلى استقلاله بكونه مُوجب الإِنكار عليهم، لأن قولهم ذلك هو بمفرده منكر من القول فذُكر بالعطف على فعل «استكبروا» لأن شأن العطف أن يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ويعلم أنه باعثهم على الاستكبار بالسياق‏.‏
وجملة ‏{‏أوَلَم يَرَوا أنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُم قُوَّةً‏}‏ جملة معترضة، والواو اعتراضية‏.‏ والرؤية علمية، والاستفهام إنكاري، والمعنى‏:‏ إنكار عدم علمهم بأن الله أشد منهم قوة حيث أعرضوا عن رسالة رسول ربهم وعن إنذاره إياهم إعراضَ من لا يكترث بعظمة الله تعالى لأنهم لو حسبوا لذلك حسابه لتوقعوا عذابَه فَلأَقْبلوا على النظر في دلائل صدق رسولهم‏.‏ وإجراءُ وصف ‏{‏الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ على اسم الجلالة لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه الإِنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة، فكان العلم به كافياً في الدلالة على أنه أشدّ منهم قوة، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم‏.‏
وضمير ‏{‏هُوَ أشَدُّ مِنْهُم‏}‏ ضمير فصل، وهو مفيد تقوية الحكم بمعنى وضوحه، وإذا كان ذلك الحكم محققاً كان عدم علمهم بمقتضاه أشنع وعذرهم في جهله منتفياً‏.‏
والقوة حقيقتها‏:‏ حالة في الجسم يتأتّى بها أن يعمل الأعمال الشاقة، وتطلق على لازم ذلك من القدرة ووسائل الأعمال، وقد تقدم بيان إطلاقها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏145‏)‏، والمراد بها هنا معناها الحقيقي والكنائي والمجازي، فهو مستعمل في حقيقته تصريحاً وكنايةً، ومجازِه لما عندهم من وسائل تذليل صعَاب الأمور لقوة أجسامهم وقوة عقولهم‏.‏ والعرب تضرب المثل بِعَادٍ في أصالة آرائهم فيقولون‏:‏ أحلام عاد، قال النابغة‏:‏
أَحلامُ عادٍ وأجسامٌ مطهرة *** من المَعَقَّةِ والآفاتتِ والإِثَمِ
ويقولون في وصف الأشياء التي يقل صنع أمثالها‏:‏ عاديَّة يقولون‏:‏ بئر عاديَّة، وبناءٌ عَاديّ‏.‏
ولما كانت القوّة تستلزم سعة القدرة أسند القوة إلى الله تعالى بمعنى أن قدرته تعالى لا يستعصي عليها شيء تتعلق به إرادته تعالى، وهذا المراد هنا في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً‏}‏ أي هو أوسع قدرة من قدرتهم فإطلاق القوة على قدرة الله تعالى بمعنى كماللِ القدرة، أي عموم تأثيرها وتعلقها بالممكنات على وفق الإِرادة لا يستعصي على تعلق قدرته شيء ممكنٌ، وكماللِ غِناه عن التأثّر للغير، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه قوي شديد العقاب‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏52‏)‏‏.‏
وجملة ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً‏}‏ معترضة بين الجمل المتعاطفة، والواو فيها اعتراضية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا بئآياتنا يَجْحَدُون‏}‏ يحتمل أن المراد بالآيات معجزات رسولهم هود فلم يؤمنوا بها وأصروا على العناد ولم يذكر القرآن لهود آيات سوى أنه أنذرهم عذاباً يأتيهم من السماء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فذلك من تكذيبهم بأوائل الآيات‏.‏
ويحتمل أن المراد بالآيات دلائل الوحدانية التي في دعوة رسولهم وتذكيرُهم بنعم الله عليهم كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 132، 134‏]‏‏.‏
ودل فعل ‏{‏كانوا‏}‏ على أن التكذيب بالآيات متأصل فيهم‏.‏ ودلت صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ أن الجحد متكرر فيهم متجدد‏.‏ ورتب على ذلك وصف عقابهم بأن الله أرسل عليهم ريحاً فأشارت الفاء إلى أن عقابهم كان مسبباً على حالة كفرهم بصفتها فإن باعث كفرهم كان اغترارهم بقوتهم، فأهلكهم الله بما لا يترقب الناس الهلاك به فإن الناس يقولون للشيء الذي لا يُؤبه به‏:‏ هو ريح، ليريهم أن الله شديد القوة وأنه يضع القوة في الشيء الهيّن مثل الريح ليكون عذاباً وخزياً، أي تحقيراً كما قال‏:‏ ‏{‏لنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ في الحياة الدُّنْيَا‏}‏، وأي خزي أشد من أن تتراماهم الريح في الجوّ كالريش، وأن تلقِيَهم هلكَى على التراب عن بكرة أبيهم فيشاهدهم المارّون بديارهم جثثاً صرعى قد تقلصت جلودهم وبليت أجسامهم كأنهم أعجاز نخل خاوية‏.‏
والريح‏:‏ تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور‏}‏ وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة، وتسمى الطاقة الذَّرية، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة‏.‏
والصرصر‏:‏ الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها‏.‏ وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ‏.‏ وأصله صَرَّ، أي صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث‏.‏
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء‏:‏ جمع نَحس بدون تأنيث لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في يوم نحس مستمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء‏.‏ ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من ‏(‏نَحِس‏)‏ إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد‏.‏ وضده البخت في أوهام العامة، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك‏.‏ وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية‏.‏ وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأياممِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة‏.‏ وكل ذلك أبطله الإسلام، أي كشف بطلانه، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام‏.‏
فمعنى وصف الأيام بالنحسات‏:‏ أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح، وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏، فالمراد‏:‏ أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحساً وأن نَحْسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عاداً هم المقصودون بالعذاب‏.‏ وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام‏.‏
ووُصفت تلك الأيام بأنها ‏{‏نَّحِسَاتٍ‏}‏ لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهَشْم المحقققِ إفضاؤه إلى الموت، ومشاهدة الأموات من ذويهم، وموت أنعامهم، واقتلاع نخيلهم‏.‏
وقد اخترع أهل القصص تسمية أيام ثمانية نصفُها آخر شهر ‏(‏شُباط‏)‏ ونصفها شهر ‏(‏آذار‏)‏ تكثر فيها الرياح غالباً دَعَوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة ‏(‏7‏)‏ ‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏}‏ فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عاداً، ثم ركَّبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكَذَبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغْث على إبالة، وتفنن في أوهام الضلالة‏.‏
وجُمع ‏{‏نّحِسَاتٍ‏}‏ بالألف والتاء لأنه صفة لجمععِ غير العاقل وهو ‏{‏أَيَّامٍ‏}‏‏.‏
واللام في ‏{‏لنُذِيقَهُم‏}‏ للتعليل وهي متعلقة ب ‏(‏أرسلنا‏)‏‏.‏ والإِذاقة تخييل لمكنية، شُبه العذاب بطعام هُيِّئ لهم على وجه التهكم كما سمَّى عمرو بن كلثوم الغارة قِرَى في قوله‏:‏
قرينَاكُمْ فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِردَاةً طَحُونا
والإِذاقة‏:‏ تخييل من ملائمات الطعام المشبه به‏.‏
والخزي‏:‏ الذلّ‏.‏ وإضافة ‏{‏عَذَابَ‏}‏ إلى ‏{‏الخِزْي‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏، أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزياً للذي يعذب به‏.‏ ومعنى كون العذاب مخزياً‏:‏ أنه سببُ خزي فوصْفُ العذاب بأنه خزي بمعنى مُخز من باب المجازِ العقلي، ويُقدر قبل الإضافة‏:‏ لنذيقهم عذاباً خزياً، أي مُخْزياً، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل‏:‏ ‏{‏عذابَ الخزي‏}‏، للمبالغة أيضاً لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسِّن التجريد فحصلت مبالغتان في قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابَ الخِزْي‏}‏ مبالغةُ الوصف بالمصدر، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏
وجملة ‏{‏ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏ احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه‏.‏ وأخْزى‏:‏ اسم تفضيل جرى على غير قياس، وقياسه أن يقال‏:‏ أشد إخزاء، لأنه لا يقال‏:‏ خَزاه، بمعنى أخزاه، أي أهانه، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال‏.‏
وجملة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ‏}‏ تذييل، أي لا ينصرهم من يدفع العذاب عنهم، ولا من يشفع لهم، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏
بقية التفصيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏
ولما كان حال الأمتين واحداً في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ كان الإِخبار عن ثمود بأن الله هَداهم مقتضياً أنه هدَى عاداً مثل ما هدى ثمود وأن عاداً استحبوا العَمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود‏.‏ والمعنى‏:‏ وأما ثمودُ فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض‏.‏
فالمراد بالهداية هنا‏:‏ الإرشاد التكليفي، وهي غير ما في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يهد اللَّه فما له من مضل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏ فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِللِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 33‏]‏‏.‏
واستحبوا العمى معناه‏:‏ أحبّوا، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله‏:‏ ‏{‏فاستكْبُروا في الأرضضِ بغيرِ الحَقِّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏، أي كان العمى محبوباً لهم‏.‏ والعمى‏:‏ هنا مستعار للضلال في الرأي، أي اختاروا الضلال بكسبهم‏.‏ وضُمن ‏(‏استحبوا‏)‏ معنى‏:‏ فَضَّلوا، وَهَيَّأ لهذا التضمين اقترانُه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي ‏(‏استحبوا‏)‏ بحرف ‏{‏على‏}‏، أي رجحوا باختيارهم‏.‏ وتعليق ‏{‏عَلَى الهدى‏}‏ بفعل ‏(‏استحبوا‏)‏ لتضمينه معنى‏:‏ فضّلوا وآثروا‏.‏
وفُرع عليه ‏{‏فَأَخَذَتْهُم صاعقة العَذَاببِ الهُونِ‏}‏، وكان العقاب مناسباً للجُرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تُعمِي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏
والأخذ‏:‏ مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمُهلَك يُزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد‏.‏
والصاعقة‏:‏ الصيْحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه‏.‏ وإضافة ‏{‏صاعقة‏}‏ إلى ‏{‏العَذَابِ‏}‏ للدلالة على أنها صاعقة تُعَرّف بطريق الإضافة إذ لا يُعرِّفَ بها إلا ما تضاف إليه، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه‏.‏
و ‏{‏العذاب‏}‏ هو‏:‏ الإِهلاك بالصعق، ووصف ب ‏{‏الهُونِ‏}‏ كما وصف العذاب بالخزي في قوله‏:‏ ‏{‏لنُذيقَهُم عَذَابَ الْخِزي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏، أي العذاب الذي هو سبب الهُون‏.‏ و‏{‏الهُون‏}‏‏:‏ الهوان وهو الذل، ووجه كونه هَواناً أنه إهلاك فيه مذلة إذ استُؤْصلوا عن بكرة أبيهم وتُركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد‏.‏ أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته‏.‏
ويعلم من قوله في شأن عاد ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏ أن لثمود عذاباً في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم‏.‏ وهذا مُحسِّن الاكتفاء، وهو محسِّن يرجع إلى الإيجاز‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏
الأظهر أنه عطف على التفصيل في قوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا عَاد فاستكبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ وما عطف عليه من قوله‏:‏ ‏{‏وأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ لأن موقع هاته الجملة المتضمنة إنجاءَ المؤمنين من العذاب بعد أن ذُكر عذاب عاد وعذاب ثمود يشير إلى أن المعنى إنجاء الذين آمنوا من قوم عاد وقوم ثَمود، فمضمون هذه الجملة فيه معنى استثناء من عموم أمتيْ عاد وثمود فيكون لها حكم الاستثناء الوارد بعد جُمل متعاقبة أنه يعود إلى جميعها فإن جملتي التفصيل هما المقصود، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقد بينا في سورة هود كيف أنجى الله هوداً والذين آمنوا معه، وصالحا والذين آمنوا معه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏، أي كان سنتهم اتقاء الله والنظرُ فيما ينجي من غضبه وعقابه، وهو أبلغ في الوصف من أن يقال‏:‏ والمتقين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏
‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
‏{‏لله يتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ * حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ‏}‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَئ‏}‏
لما فُرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحلّ بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثراً في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعاني العقلية، انتقل إلى إنذارهم بما سيحلّ بهم في الآخرة فجملة ‏{‏ويَوْمَ نحشر أعداء الله‏}‏ الآيات، معطوفة على جملة ‏{‏فَقُلْ أنذَرتُكُم صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ الآيات‏.‏ والتقدير‏:‏ وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار‏.‏ ودل على هذا المقدر قوله‏:‏ ‏{‏أنذَرتُكُم صاعقة الخ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة‏.‏
وأعداء الله‏:‏ هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ يعني المشركين لقوله بعده‏:‏ ‏{‏يخرجون الرسول وإياكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏، ولأنها نزلت في قضية كِتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يعلمهم بتهيّؤ النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات ‏{‏ذلك جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏ بعد قوله ‏{‏وقال الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرءَاننِ والغَوا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ولا يجوز أن يكون المراد ب ‏{‏أعْدَاءَ الله‏}‏ جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام لأن الغرض من ذكر ما أصاب عاداً وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأساً بعذاب يعذَّبونه في الآخرة، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يُطل بمثله حينَ التعرض لِعذاب عاد في الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏ المكتفى به عن ذكر عذاب ثمود‏.‏ ولهذا فليس في قوله‏:‏ ‏{‏أَعْدَاءَ الله‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار من ضمير عاد وثمود‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏ويَوْمَ نحشر أعْدَاءَ الله‏}‏ مفعولاً لفعل ‏(‏واذكر‏)‏ محذوفاً مثل نظائره الكثيرة‏.‏ والحشر‏:‏ جمع الناس في مكَان لمقصد‏.‏
ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏إلى النَّارِ‏}‏ ب ‏{‏نَحْشر‏}‏ لتضمين ‏{‏نحشر‏}‏ معنى‏:‏ نرسل، أي نرسلهم إلى النار‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ عطف وتفريع على ‏{‏نحشر‏}‏ لأن الحشر يقتضي الوزْع إذ هو من لوازمه عُرفاً، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين وكثرةُ العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم ورَدِّ بعضهم عن بعض‏.‏ والوزْع‏:‏ كفّ بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى، وتقدم في سورة النمل ‏(‏17‏)‏، وهو كناية عن كثرة المحشورين‏.‏
وقرأ نافع ويعقوب ‏{‏نَحشر‏}‏ بنون العظمة مبنياً للفاعل ونصب ‏{‏أَعْدَاءَ‏}‏‏.‏ وقرأه الباقون بياء الغائب مبنياً للنائب‏.‏
و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه، و‏{‏ما‏}‏ زائدة للتوكيد بعد ‏{‏إذَا‏}‏ تفيد توكيد معنى ‏{‏إذَا‏}‏ من الارتباط بالفعل الذي بعد ‏{‏إذا‏}‏ سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما غضبوا هم يغفرون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ويظهر أن ورود ‏{‏مَا‏}‏ بعد ‏{‏إذا‏}‏ يقوّي معنى الشرط في ‏{‏إذا‏}‏، ولعلهُ يكون معنى الشرط حينئذٍ نصاً احتمالاً‏.‏ وضمير المؤنث الغائب في ‏{‏جَاءُوهَا‏}‏ عائد إلى ‏{‏النَّارِ‏}‏، أي إذا وصلوا إلى جهنم‏.‏
وجملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم‏}‏ الخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب ‏{‏إذا‏}‏، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب‏.‏ واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار، فقدَّروا فِعلاً محذوفاً تقديره‏:‏ وسُئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، يعني‏:‏ سألهم خزنة النار‏.‏
وأحسنُ من ذلك أن نقول‏:‏ إن جواب ‏{‏إذا‏}‏ محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن، ويكون جملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم‏}‏ إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن مفاد ‏{‏حتى‏}‏ من الغاية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم وَجُلُودُهُم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم‏.‏ أو أن يكون جواب ‏{‏إذا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏ الخ‏.‏
وجملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم‏}‏ وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه‏.‏ وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم‏:‏ شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعاً في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرئ عليهم كتابُهم، وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيراً وتنديماً على سوء اعتقادهم في سعة علم الله‏.‏
وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصاً بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ولأن للأبصار اختصاصاً بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر‏.‏
ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور ‏(‏24‏)‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏}‏، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإِفك ومشَوا في المجامع يُشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكاً‏.‏
وإنما قالوا لجلودهم ‏{‏لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة‏.‏ وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ‏.‏ ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب «كنايات الأدباء» فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير‏.‏
والاستفهام في قولهم‏:‏ ‏{‏لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها‏.‏ واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏‏.‏
وقول الجلود ‏{‏أنطَقَنَا الله‏}‏ اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار‏.‏ وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى‏:‏ الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم ‏{‏كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ مخصوص بالعرف‏.‏
‏{‏شَئ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ‏}‏
يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة‏.‏ وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب‏.‏
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة ‏{‏وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ‏}‏ وجملة ‏{‏فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏ موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها‏.‏
ويكون فعل ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ مستعملاً في الاستقبال على أصله، والكلام استدلال على إمكان البعث‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وتقديم متعلق ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏
‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
قلّ من تصدى من المفسرين لبيان اتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها، ومن تصدّى منهم لذلك لم يأت بما فيه مقْنع، وأوْلى كلام في ذلك كلام ابن عطية ولكنه وَجيز وغير محرر وهو وبعض المفسرين ذكروا سبباً لنزولها فزادوا بذلك إشكالاً وما أبانوا انفصالاً‏.‏ ولنبدأ بما يقتضيه نظم الكلام، ثم نأتي على ما روي في سبب نزولها بما لا يفضي إلى الانفصام‏.‏
فيجوز أن تكون جملة ‏{‏وَمَا كُنتُم تَسْتتِرُونَ‏}‏ بتمامها معطوفة على جملة ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏ الخ فتكون مشمولة للاعتراض متصلة بالتي قبلها على كلا التأويلين السابقين في التي قبلها‏.‏ ويجوز أن تكون مستقلة عنها‏:‏ إمّا معطوفة على جملة ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُر أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ الآيات، وإما معترضة بين تلك الجملة وجملةِ ‏{‏فَإِنْ يَصبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏، وتكون الواو اعتراضية، ومناسبة الاعتراض ما جرى من ذكر شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم‏.‏ فيكون الخطاب لجميع المشركين الأحياء في الدنيا، أو للمشركين في يوم القيامة‏.‏
وعلى هذه الوجوه فالمعنى‏:‏ ما كنتم في الدنيا تخفون شرككم وتستترون منه بل كنتم تجهرون به وتفخرون باتباعه فماذا لومكم على جوارحكم وأجسادكم أن شهدت عليكم بذلك فإنه كان أمراً مشهوراً فالاستتار مستعمل في الإخبار مجازاً لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه‏.‏ وحرف ‏{‏ما‏}‏ نفي بقرينة قوله بعده‏:‏ ‏{‏ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ‏}‏ الخ، ولا بد من تقدير حرف جر يتعدى به فعل ‏{‏تَستتِرُونَ‏}‏ إلى ‏{‏أَن يَشْهَدَ‏}‏ وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع ‏(‏أَنْ‏)‏‏.‏ وتقديره‏:‏ بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرفَ مِن، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، أي ما كنتم تستترون من تلك الشهود، وما كنتم تتقون شهادتها، إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب‏.‏
فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث «الصحيحين» و«جامع الترمذي» بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال‏:‏ «كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليلٌ فِقْهُ قلوبهم كثيرٌ شحْم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم‏:‏ أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر‏:‏ يَسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، قال عبد الله‏:‏ فذكرتُ ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتم تَستَتِرُونَ أَن يَشْهَد عَلَيكُم سَمْعُكُم وَلا أبصاركم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏ وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير‏.‏
ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريباً، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم‏.‏
ومع هذا فهي آية مكية إذ لم يختلف المفسرون في أن السورة كلها مكية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه ا ه‏.‏ وفي كلامه الأول مخالفة لما جزم به هو وغيرهُ من المفسرين أن السورة كلها مكية، وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيرهُ أن النفر الثلاثة هم‏:‏ عبد ياليل الثقفي وصفوان وربيعة ابنا أمية بننِ خلف، فأما عبد ياليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة، وكذلك صفوان بن أمية، وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقي ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة‏.‏ وأحسن ما في كلام ابن عطية طرفه الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها فإن ذلك يُؤَوِّل قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية، ويبين وجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إياها عندما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقاً لمثال من صور معنى الآية، وهو أن مثل هذا النفر ممن يَشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذٍ، والآية تحق على من مات منهم كافراً مثل ربيعة بن أمية بن خلف‏.‏
وعلى بعض احتمالات هذا التفسير يكون فعل ‏{‏تَستَتِرُونَ‏}‏ مستعملاً في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم، وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ما هم عليه قبيحاً حتى يستتروا منه وعلى بعض الاحتمالات فيما ذكر يكون فعل ‏{‏تستترون‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه، ولا يُعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات بعضها مع بعض في كل تقدير تَفرِضُه‏.‏ وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات‏:‏ أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوارحكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله‏.‏
‏{‏وذلكم ظَنُّكُمُ‏}‏ الإِشارة إلى الظن المأخوذ من فعل ‏{‏ظَنَنتُم أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏، ويستفاد من الإِشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم‏.‏ وأتبع اسم الإِشارة بالبدل بقوله‏:‏ ‏{‏ظَنُّكُم‏}‏ لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر، والخبر هو فعل ‏{‏أَردَاكُم‏}‏ وما تفرع عليه‏.‏
و ‏{‏الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم‏}‏ صفة ل ‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏‏.‏
والإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو ‏{‏أَرْدَاكُم‏}‏ وما تفرع عليه، أي الذي ظننتم بربكم ظناً باطلاً‏.‏ والعدول عن اسم الله العَلَم إلى ‏{‏بِرَبِّكُم‏}‏ للتنبيه على ضلاللِ ظنهم، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم، وهو يشير إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، ففي وصف ‏{‏بِرَبِّكُم‏}‏ إيماء إلى هذا المعنى‏.‏
والإِرداء‏:‏ الإِهلاك، يقال‏:‏ رَدِيَ كرضِي، إذا هلَك، أي مات، والإِرداء مستعار للإِيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإِتيان بالمسند فعلاً إفادة قصرٍ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك، وهو قصر إضافي، أي لم تُردِكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصبحتم مِنَ الخاسرين‏}‏ تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله ووثقوا من تحصيل سعادتهم، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعدّ للربح فوقع في الخسارة‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه نُعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإِلهية، وقياسُهم الغائبَ على الشاهد، تلك الأصولُ التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث، ثم أثبتوا شركاء لله في الإِلهية، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا، فذلك جماع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذلكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بربِّكم أرداكم فأصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏
واعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإِيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك يفضي إلى الوهَم المعبر عنه بالظن السيِّئ، أو الباطل‏.‏ وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال‏:‏ ‏{‏يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏، فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبُوءُوا ببعض ما نُعي على عبدة الأصنام‏.‏
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» يريد الظن الذين لا دليل عليه‏.‏ و‏(‏أصبحتم‏)‏ بمعنى‏:‏ صرتم، لأن أصبح يكثر أن تأتي بمعنى‏:‏ صار‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
تفريع على جواب ‏{‏إذا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏ على كلا الوجهين المتقدمين، أو تفريع على جملة ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏، أو هو جواب ‏{‏إذا‏}‏، وما بينهما اعتراض على حسب ما يناسب الوُجوه المتقدمة‏.‏ والمعنى على جميع الوجوه‏:‏ أن حاصل أمرهم أنهم قد زُجَّ بهم في النار فإن صَبَروا واستسلموا فهم باقون في النار، وإن اعتذروا لم ينفعهم العذر ولم يقبل منهم تنصل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُم‏}‏ دليل جواب الشرط لأن كون النار مثوى لهم ليس مُسبَّباً على حصول صبرهم وإنما هو من باب قولهم‏:‏ إن قَبِل ذلك فذاك، أي فهو على ذلك الحال، فالتقدير‏:‏ فإن يصبروا فلا يَسَعُهم إلا الصبر لأن النار مثوى لهم‏.‏
ومعنى ‏{‏وَإن يَسْتَعتِبُوا‏}‏ إنْ يسألوا العُتْبَى ‏(‏بضم العين وفتح الموحدة مقصوراً اسم مصدر الإِعتاب‏)‏ وهي رجوع المعتُوب عليه إلى ما يُرضي العاتب‏.‏ وفي المَثل «مَا مُسيء من أعْتَبَ» أي من رجع عمَّا أساء به فكأنه لم يسئ‏.‏ وقلما استعملوا المصدر الأصلي بمعنى الرجوع استغناء عنه باسم المصدر وهو العتبى‏.‏ والعاتب هو اللائم، والسين والتاء فيه للطلب لأن المرء لا يسأل أحداً أن يعاتبه وإنما يسأله ترك المعاتبة، أي يسأله الصفح عنه فإذا قبل منه ذلك قيل‏:‏ أَعْتبه أيضاً، وهذا من غريب تصاريف هذه المادة في اللغة ولهذا كادوا أن يميتوا مصدر‏:‏ أعتب بمعنى رجَع وأبقوه في معنى قَبِل العُتَبى، وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا هُم مِنَ المُعتَبِينَ‏}‏ أي أن الله لا يُعتبهم، أي لا يقبل منهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏
‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أَعْدَاءَ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏، وذلك أنه حُكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله قُل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله ويوم نحشر أعداء الله ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأتْ عنه أحوالهم بقوله‏:‏ وَقَيَّضنا لَهُم قُرَنَاءَ‏}‏‏.‏ وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ‏.‏
وَقَيَّض‏:‏ أَتاح وهيَّأ شيئاً للعمل في شيء‏.‏ والقرناء جَمْعُ‏:‏ قرين، وهو الصاحب الملازم، والقرناء هنا‏:‏ هم الملازمون لهم في الضلالة‏:‏ إمَّا في الظاهر مثلُ دعاة الكفر وأيمتِه، وإما في باطن النفُوس مثلُ شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً فهو له قرين‏}‏ ويأتي في سورة الزخرف ‏(‏36‏)‏‏.‏ ومعنى تقييضهم لهم‏:‏ تَقديرهم لهم، أي خَلْق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاةِ والقابلين كما يقول الحُكماء «استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما»‏.‏ فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكوَّنَةِ في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها وحدوثَ الخواطر السيئة فيها‏.‏ وللإِحاطة بهذا المقصود أُوثر التعبير هنا ب ‏{‏قيضنا‏}‏ دون غيره من نحو‏:‏ بَعثنا، وأرسلنا‏.‏
والتزيين‏:‏ التحسين، وهو يشعر بأن المزيَّن غير حسن في ذاته‏.‏ و‏{‏مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم‏}‏ يستعار للأمور المشاهدة، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة‏.‏
والمراد ب ‏{‏مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم‏}‏ أمور الدنيا، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام، وقتل النفس بلا حق، وأكل الأموال، والعدول على الناس باليد واللسان، والميسر، وارتكاب الفواحش، والوأد‏.‏ فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة‏.‏
والمراد ب ‏{‏ما خلفهم‏}‏ الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم، وإحالتهم بعثة الرسل، وإحالتهم البعث والجزاء‏.‏ ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم‏:‏ ‏{‏أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏
و ‏{‏حق عليهم‏}‏ أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر، فالتعريف في ‏{‏القَوْل‏}‏ للعهد‏.‏ وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يُعهد منه هذا القول مثل قوله‏:‏ ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون‏}‏
‏[‏الصافات‏:‏ 31‏]‏، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فِي أُمَمٍ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏عَلَيْهِم‏}‏، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم‏.‏ والظرفية هنا مجازية، وهي بمعنى التبعيض، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول‏.‏ ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أُذينة‏:‏
إن تَك عَن أَحسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكوا
أي فأنت من جملة آخرين قد صُرفوا عن أحسن الصنيعة‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الجِنِّ والإنْسِ‏}‏ بيانية، فيجوز أن يكون بياناً ل ‏{‏أُمَمٍ‏}‏، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84، 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ويجوز أن يكون بياناً ل ‏{‏قُرَنَاءَ‏}‏ أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّهُم كَانُوا خاسرين‏}‏ يجوز أن تكون بياناً للقول مثل نظيرتها ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏31‏)‏، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة ‏{‏وحَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ في أُمَمٍ‏}‏ والمعنيان متقاربان‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ عطفَ القصة على القصة، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإِنس، أو هو عطف على جملة ‏{‏فَزَيَّنُوا لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أَساليب الإِعراض، فالذين كفروا هنا هم أيمة الكفر يقولون لعامتهم‏:‏ لا تسمعوا لهذا القرآن، فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريفَ معاننٍ وبلاغةَ تراكيبَ وفصاحةَ أَلفاظٍ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتُداخل نفسَه جزالةُ ألفاظه وسُمُوُّ أغراضه قضى له فهمُه أنه حق إتباعُه، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبيراً لمنع الناس من استماعه، وذلك خشية من أن تَرقَّ قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه‏.‏
وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكُمُّوا أفواه الناطقين بالحق والحجة، بما يستطيعون من تخويف وتسويل، وترهيب وترغيب ولا يَدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهَضُ، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحِيَل ورأوا بوارق الحق تخفق خَشُوا أن يعُمَّ نورُها الناسَ الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء‏.‏
فقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرْءَانِ‏}‏ تحذيراً واستهزاء بالقرآن، فاسم الإِشارة مستعمل في التحقير كما فيما حُكي عنهم ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسميته بذلك‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏تَسْمَعُوا‏}‏ باللام لتضمينه معنى‏:‏ تَطمئنوا أو تركنوا‏.‏
واللغو‏:‏ القول الذي لا فائدة فيه، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغواً، وهو واوي اللام، فأصل ‏{‏وَالغَواْ‏}‏‏:‏ والغَوُوا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكوناً حيًّا، والواو علامة الجمع‏.‏ وهذا الجاري على ظاهر كلام «الصحاح» و«القاموس» في «الكشاف» أنه يقال‏:‏ لَغِي يلغَى، كما يقال‏:‏ لغَا يلغُو فهو إذن واويٌ ويائيٌ‏.‏ فمعنى ‏{‏وَالغَوْاْ فِيهِ‏}‏ قُولوا أقوالاً لا معنى لها أو تكلموا كلاماً غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن‏.‏ ولما كان المقصود بتخلُّل أصواتهم صوتَ القارئ حتى لا يفقهه السامعون عُدّي اللغو بحرف ‏(‏في‏)‏ الظرفية لإِفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارئ وُقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز‏.‏ وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوتتِ أو كلاممِ ليشمل كل ما يُخفي ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك‏.‏
وهذا نظَم له مكانة من البلاغة‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم‏:‏ لا تسمعوا له والغَواْ فيه، فكانوا يأتُون بالمُكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها ‏"‏‏.‏ وقد ورد في «الصحيح» «أنهم قالوا لمّا استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة‏:‏ إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا»‏.‏
ومعنى ‏{‏لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ‏}‏ رجاءَ أن تغلبوا محمداً بصرف من يُتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته‏.‏ وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبَهم إذ كان الذين يسمعونه يُداخل قلوبهم فيؤمنون، أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏
‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏
دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها‏:‏ فإمّا أن يكون تفريعاً على آخِر ما تقدم وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ الذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لهذا القُرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الآية، وإمّا أن يكون مفرعاً على جميع ما تقدم ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مما تَدْعُونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرضُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشر أعداء الله إلى النَّار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَيَّضْنَا لهم قُرَنَاءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الخ‏.‏ وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ هنا‏:‏ المشركين الذين الكلام عنهم‏.‏
ف ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الموصول من الإِيماء إلى علة إذاقة العذاب، أي لكفرهم المحكي بعضه فيما تقدم‏.‏ وإذاقة العذاب‏:‏ تعذيبُهم، استعير له الإِذاقة على طريق المكنية والتخييلة‏.‏ والعذاب الشديد عن ابن عباس‏:‏ أنه عذاب يوم بدر فهو عذاب الدنيا‏.‏
وعطف ‏{‏ولنَجْزِيَنَّهُم أسوَأَ الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة‏.‏ و‏{‏أسوَأَ الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ منصوب على نزع الخافض‏.‏ والتقدير‏:‏ على أسوأ ما كانوا يعملون، ولك أن تجعله منصوباً على النيابة عن المفعول المطلق تقديره‏:‏ جزاء مماثلاً أسوأَ الذي كانوا يعملون‏.‏
وأسوأ‏:‏ اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، وإنما أريد به السّيئ، فصيغ بصيغة التفضيل للمبالغة في سوئه‏.‏ وإضافتُه إلى ‏{‏الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ من إضافة البعض إلى الكل وليس من إضافة اسم التفضيل إلى المفضل عليه‏.‏
والإِشارة ب ‏{‏ذلك جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏ إلى ما تقدم وهو الجزاء والعذاب الشديد على أسوأ أعمالهم‏.‏ وأعداءُ الله‏:‏ هم المشركون الذين تقدم ذكرهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أعْدَاءَ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏‏.‏
والنار عطف بيان من جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏‏.‏
و ‏{‏دَارُ الخُلْدِ‏}‏‏:‏ النار‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ‏}‏ جَاء بالظرفية بتنزيل النار منزلة ظرف لدار الخلد وما دار الخلد إلاّ عين النار‏.‏ وهذا من أسلوب التجريد ليفيد مبالغة معنى الخلد في النار‏.‏ وهو معدود من المحسنات البديعية، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ وقول أبي حامد العتَّابي‏:‏
وفي الرحمان للضعفاء كافي ***
أي والرحمان كاف للضعفاء‏.‏
و ‏{‏الخلد‏}‏‏:‏ طول البقاء، وأطلق في اصطلاح القرآن على البقاء المؤبد الذي لا نهاية له‏.‏
وانتصب ‏{‏جَزَآءُ‏}‏ على الحال من ‏{‏دَارُ الخُلْدِ‏}‏‏.‏ والباء للسببية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي جزاء بسبب كونهم يجحدون بآياتنا‏.‏
وصيغة المضارع في ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ دالّة على تجدد الجحود حيناً فحيناً وتكرره‏.‏ وعدي فعل ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ بالباء لتضمينه معنى‏:‏ يُكذِّبون‏.‏ وتقديم ‏{‏بآياتِنَا‏}‏ للاهتمام وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏لهم فيها دارُ الخُلدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏، أي ويقولون في جهنم، فعدل عن صيغة الاستقبال إلى صيغة المضيّ للدلالة على تحقيق وقوع هذا القول وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فئآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، فالقائلون ‏{‏رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا‏}‏‏:‏ هم عامّةُ المشركين، كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏اللذَيْننِ أَضَلاَّنَا‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏أَرِنَا‏}‏ عيّن لنا، وهو كناية عن إرادة انتقامهم منهم ولذلك جُزم ‏{‏نَجْعَلْهُمَا‏}‏ في جواب الطلب على تقدير‏:‏ إن ترناهما نجعلهما تحت أقدامنا‏.‏
والجعل تحت الأقدام‏:‏ الوطء بالأقدام والرفسُ، أي نجعل آحادهم تحت أقدام آحاد جماعتنا، فإن الدهماء أكثر من القادة فلا يعوزهم الانتقام منهم‏.‏ وكان الوطء بالأرجل من كيفيات الانتقام والامتهان، قال ابن وَعْلَة الجَرمي‏:‏
ووَطِئْنَا وَطْأً على حَنَق *** وَطْأَ المُقَيَّد نابتَ الهَرْم
وإنما طلبوا أن يُرَوْهُما لأن المضلين كانوا في دركات من النار أسفل من دركات أتباعهم فلذلك لم يعرفوا أين هم‏.‏
والتعليل ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ‏}‏ توطئة لاستجابة الله تعالى لهم أن يريَهُمُوهُما لأنهم علموا من غضب الله عليهم أنه أشد غضباً على الفريقين المضلين فتوسلوا بعزمهم على الانتقام منهم إلى تيسير تمكينهم من الانتقام منهم‏.‏ والأسفلون‏:‏ الذين هم أشد حَقارة من حقارة هؤلاء الذين كفروا، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم، فالسفالة مستعارة للإِهانة والحقارة‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أَرِنَا‏}‏ بكسر الراء‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوبُ بسكون الراء للتخفيف من ثقل الكسرة، كما قالوا‏:‏ فَخْذ في فَخِذ‏.‏ وعن الخليل إذا قلت‏:‏ أرِني ثوبك بكسر الراء، فالمعنى‏:‏ بصِّرْنيه، وإذا قلته بسكون الراء فهو استعطاء، معناه‏:‏ أعطنيه‏.‏ وعلى هذا يَكون معنى قراءة ابن كثير وابن عامر ومَن وافقهما‏:‏ مَكِّنا من الذين أضلاَّنا كي نجعلهما تحت أقدامنا، أي ائذَن لنا بإهانتهما وخزيهما‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏اللَّذينِّ‏}‏ بتشديد النون من اسم الموصول وهي لغة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللذانِّ يأتيانها منكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏16‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏
بعد استيفاء الكلام على ما أصاب الأممَ الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أُعدّ لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بطريق التعريض، ثم أنذروا بالتصريح بما سيحلّ بهم في الآخرة، ووصف بعض أهواله، تشَوَّفَ السامعُ إلى معرفة حظ المؤمنين ووصففِ حالهم فجاء قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله‏}‏ الخ، بياناً للمترقب وبشرى للمتطلب، فالجملة استئناف بياني ناشئ عما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُرُ أعدَاءَ الله إلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 29‏]‏‏.‏
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك، ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم‏.‏ ومعنى ‏{‏قالوا ربُّنا الله‏}‏ أنهم صدعوا بذلك ولم يخشَوا أحداً بإعلانهم التوحيد، فقولُهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد، فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر الواقع وما في الوجود الخارجي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند، أي لا ربّ لنا إلا الله، وذلك جامع لأصل الاعتقادِ الحق لأن الإِقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به إذ لم يصُدَّ المشركين عن الإِيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله، ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك‏.‏
والاستقامة حقيقتها‏:‏ عدم الاعوجاج والميللِ، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقوّم، فحقيقة استقام‏:‏ استقَل غير مائل ولا منحن‏.‏ وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسْتَقِيموا إليه واستَغْفروه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏، ويقال‏:‏ استقامت البلاد للملك، أي أطاعت، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ف ‏{‏استقاموا‏}‏ هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه‏.‏
ومن معنى هذه الآية ما روي في «صحيح مسلم» عن سفيان الثقفي قال‏:‏ قلتُ‏:‏ يا رسول الله قُل لي في الإِسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً غيرَك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ قُل آمنت بالله ثم استقِمْ ‏"‏‏.‏ وعن أبي بكر ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏‏:‏ لم يشركوا بالله شيئاً‏.‏ وعن عمر‏:‏ استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعَالب‏.‏ وقال عثمان‏:‏ ثم أخلَصوا العمل لله‏.‏ وعن علي‏:‏ ثم أدّوا الفرائض‏.‏ فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم‏.‏ وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإِيمان وآثاره، وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مُشير إلى أهميتها في الدين‏.‏
وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال‏:‏ إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإِيماء إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكَرامة مسبَّب على قولهم‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإِقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز‏.‏
و ‏{‏ثُم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن الاستقامة زائدة في المرتبة على الإِقرار بالتوحيد لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه والعملَ بما يستدعيه، ولأن الاستقامة دليل على أن قولهم‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الله‏}‏ كان قولاً منبعثاً عن اعتقاد الضمير والمعرفة الحقيقية‏.‏
وجَمَع قولُه‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ أَصْلَي الكمال الإسلامي، فقوله‏:‏ ‏{‏قالُوا رَبُّنَا الله‏}‏ مشير إلى الكمال النفساني وهو معرفة الحق للاهتداء به، ومعرفة الخير لأجل العمل به، فالكمال علم يقيني وعمل صالح، فمعرفة الله بالإِلهية هي أساس العلم اليقيني‏.‏ وأشار قوله‏:‏ ‏{‏استقاموا‏}‏ إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق، أي أن يكون وسطاً غير مائل إلى طرفَي الإِفراط والتفريط قال تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ على أن كمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة، فالاعتقاد الحق أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يتوغل في جانب الإِثبات إلى حيث ينتهي إلى التّشبيه والتمثيل بل يمشي على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل، ويستمر كذلك فاصلاً بين الجبريّ والقدَريّ، وبين الرجاء والقنوط، وفي الأعمال بين الغلوّ والتفريط‏.‏
وتنزُّلُ الملائكة على المؤمنين يحتمل أن يكون في وقت الحشر كما دل عليه قولهم‏:‏ ‏{‏الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ‏}‏، وكما يقتضيه كلامهم لهم لأن ظاهر الخطاب أنه حقيقة، فذلك مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أعْدَاء الله إلَى النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏، فأولئك تلاقيهم الملائكة بالوزع، والمؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالأمن‏.‏ وذِكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حُضَّراً في المحشر يَزَعُونهم وليسوا يتنزلون لأجلهم فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين إذ يُنزّل الله عليهم الملائكة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يتنزل على كل مؤمن مَلَكان هما الحافظان اللذان كانا يكتبان أعماله في الدنيا‏.‏ ولتضمن ‏{‏تَتَنَزَّلُ‏}‏ معنى القول وردت بعده ‏(‏أنْ‏)‏ التفسيرية والتقدير‏:‏ يقولون لا تخافوا ولا تحزنوا‏.‏ ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا، وهو تنزل خفيّ يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين ويكون الخطاب ب ‏{‏لا تخافوا ولا تحزنوا‏}‏ بمعنى إلقائهم في رُوعهم عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين، أي يُلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة فتحِل فيهم السكينة فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها، ويلقُون في نفوسهم نَبذ ولاية من ليسوا من حزب الله، فذلك مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وَقَيَّضْنا لَهُم قُرَنَآءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ الآية فإنه تقييض في الدنيا‏.‏ وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله، ولا يحزنون على ما يصيبهم، ويوقنون أن كل شيء بقدر، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله‏.‏
وعلى هذا المعنى فقوله‏:‏ ‏{‏الَّتِي كُنتُم‏}‏ تُعتبرُ ‏(‏كان‏)‏ فيه مزيدة للتأكيد، ويكون المضارع في ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ على أصل استعماله للحال والاستقبال، ويكون قولهم‏:‏ ‏{‏نَحنُ أولِياؤكُم فِي الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة‏}‏ تأييداً لهم في الدنيا ووعداً بنفعهم في الآخرة‏.‏
و ‏{‏لا‏}‏ ناهية، والمقصود من النهي عن الخوف‏:‏ النهي عن سببه، وهو توقع الضر، أي لا تحسبوا أن الله معاقبكم، فالنهي كناية عن التأمين من جانب الله تعالى لأنهم إذا تحققوا الأمن زال خوفهم، وهذا تطمين من الملائكة لأَنْفُس المؤمنين‏.‏
والخوف‏:‏ غمّ في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد‏.‏ والحزَن‏:‏ غمّ في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوَاتتِ نفععٍ أو حصول ضرّ‏.‏
وألحقوا بتأمينهم بشارتهم، لأن وقع النعيم في النفس موقعَ المسرة إذَا لم يخالطه توقع المكروه‏.‏
ووصفُ الجنة ب ‏{‏الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ‏}‏ تذكير لهم بأعمالهم التي وعدوا عليها بالجنة، وتعجيل لهم بمسرة الفوز برضى الله، وتحقيق وعده، أي التي كنتم توعدونها في الدنيا‏.‏ وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أنهم متأصلون في الوعد بالجنة وذلك من سابق إيمانهم وأعمالهم‏.‏
وفي التعبير بالمضارع في ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ إفادة أنهم قد تكرر وعدهم بها، وذلك بتكرر الأعمال الموعود لأجلها وبتكرر الوعد في مواقع التذكير والتبشير‏.‏
وقول الملائكة‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ‏}‏ تعريف بأنفسهم للمؤمنين تأنيساً لهم‏.‏
فإن العلم بأن المتلقِّيَ صاحب قديم يزيد نفس القادم انشراحاً وأنساً ويزيل عنه دهشة القدوم، يُخفف عنه من حشمة الضيافة، ويزيل عنه وحشة الاغتراب، أي نحن الذين كنا في صحبتكم في الدنيا، إذ كانوا يكتبون حسناتهم ويشهدون عند الله بصلاتهم كما في حديث‏:‏ ‏"‏ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم‏:‏ كيف تركتم عبادي‏؟‏ فيقولون‏:‏ أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون ‏"‏‏.‏ وقد حفظوا العهد فكانوا أولياء المؤمنين في الآخرة، وقد جيء بهذا القول معترضاً بين صفات الجنة ليتحقق المؤمنون أن بشارتهم بالجنة بشارة محب يفرح لحبيبه بالخير ويسعى ليزيده‏.‏
واعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏في الحَياةِ الدُّنيا‏}‏ إشارة إلى مقابلة قوله في المشركين ‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُم قُرَنَاءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ فكما قيّض للكافر قرناء في الدنيا قيّض للمؤمنين ملائكة يكونون قرناءَهم في الدنيا، وكما أنطق أتباعهم باللائمة عليهم أنطق الملائكة بالثناء على المؤمنين‏.‏ وهذه الآية تقتضي أن هذا الصنف من الملائكة خاص برفقة المؤمنين وولائهم ولا حظ للكافرين فيهم، فإن كان الحفظة من خصائص المؤمنين كما نقله ابن ناجي في «شرح الرسالة» فمعنى ولايتهم للمؤمنين ظاهر، وإن كان الحفظة موكَّلين على المؤمنين والكافرين كما مشى عليه الجمهور وهو ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9 12‏]‏ فهذا صنف من الملائكة موكّل بحفظ المؤمنين في الدنيا، وهم غير الحفظة، وقد يكون هذا الصنف من الملائكة هو المسمى بالمعقبات في قوله تعالى‏:‏
‏{‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللَّه‏}‏ حسب ما تقدم في سورة الرعد ‏(‏11‏)‏‏.‏
وقد دلت عدة آثار متفاوتة في القبول على أن الملائكة الذين لهم علاقة بالناس عموماً أو بالمؤمنين خاصة أصناف كثيرة‏.‏ وعن عثمان «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم من ملَك على الإِنسان، فذكر له عشرين مَلكاً»‏.‏ ولعل وصف الملائكة المتنزلين بأنهم أولياء يقتضي أن عملهم مع المؤمن عمل صلاح وتأييد مثل إلهام الطاعات ومحاربة الشياطين ونحو ذلك، وبذلك تتم مقابلة تنزلهم على المؤمنين بذكر تقييض القرناء للكافرين، وهذا أحسن‏.‏
وجملة ‏{‏ولَكُم فِيهَا ما تَشْتَهِي أنفُسُكُم‏}‏ عطف على ‏{‏التي كُنتُم تُوعَدُون‏}‏ وما بينهما جملة معترضة كما بينته آنفاً‏.‏
ومعنى ‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏‏:‏ ما تتمنون‏.‏ يقال‏:‏ ادَّعَى، أي تمنى، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم ما يدَّعون‏}‏ في سورة يس ‏(‏57‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لكم فيها ما تشتهونه مما يقع تحت الحسّ وما تتمنونه في نفوسكم من كل ما يخطر بالبال مما يجول في الخيال، فما يدّعون غير ما تشتهيه أنفسهم‏.‏
ولهذه المغايرة أعيد ‏{‏لكم‏}‏ ليؤذن باستقلال هذا الوعد عن سابقه، فلا يتوهم أن العطف عطف تفسير أو عطف عام على خاص‏.‏
والنزُل بضم النون وضم الزاي‏:‏ ما يُهَيَّأ للضيف من القِرى، وهو مشتق من النزول لأنه كرامة النزيل، وهو هنا مستعار لما يُعطَوْنَه من الرغائب سواء كانت رزقاً أم غيره‏.‏ ووجه الشبه سرعة إحضاره كأنه مُهَيَّأٌ من قبللِ أن يشتهوه أو يتمنوه‏.‏
و ‏{‏من غَفُورٍ رحيمٍ‏}‏ صفة ‏{‏نُزُلاً‏}‏، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية‏.‏
وانتصب ‏{‏نُزُلاً‏}‏ على الحال من ‏{‏مَا تَشتهي أنفُسُكم‏}‏‏.‏ و‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏ حال كونه كالنزل المهيّأ للضيف، أي تعطونه كما يعطى النزل للضيف‏.‏
وأوثرت صفتا ‏(‏الغفور الرحيم‏)‏ هنا للإِشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللممَ وما تابوا منه، وأنه رحيم بهم لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏
ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على ‏{‏الذين قالوا‏:‏ ربنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل‏.‏ وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً، طَرَفَاه‏:‏ الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏‏.‏
والواو إما عاطفة على جملة ‏{‏إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، أو حاليَّة من ‏{‏الذينَ قالُوا‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً‏.‏ ومَنْ‏}‏ استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه‏}‏ الآية في سورة النساء ‏(‏125‏)‏‏.‏
و ‏{‏ممن دعا إلى اللَّه‏}‏‏:‏ كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة‏.‏ والدعاء إلى شيء‏:‏ أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم‏:‏ الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب‏.‏ فالدعاء إلى الله‏:‏ تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد‏.‏ وقوله‏:‏ مِمَّن دعا إلى الله‏}‏ ‏(‏مِنْ‏)‏ فيه تفضيلية لاسْم ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏، والكلام على حذف مضاف تقديره‏:‏ من قول من دعا إلى الله‏.‏ وهذا الحذف كالذي في قول النابغة‏:‏
وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المَطارة عاقل
أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن باللَّه‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏
والعمل الصالح‏:‏ هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح‏:‏ هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ثمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏
وأما ‏{‏وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ‏}‏ فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام‏.‏
والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين‏.‏ ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان‏:‏ اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا‏:‏ «الله أعلى وأجلّ»
فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ‏"‏‏.‏ وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي ‏{‏الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا‏.‏
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه‏.‏ وفيها أيضاً منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم مُحمد بن سُحنون‏:‏ أن المسلم يقول‏:‏ أَنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافاً لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عَبدوس فنُقل أنه كان يقول‏:‏ أنا مؤمن إن شاء الله‏.‏ وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن‏.‏ والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في «المدارك» ووافقه‏.‏ وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللَّه ربنا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏89‏)‏ وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون‏.‏ والقول في قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمين‏}‏ كالقول في ‏{‏إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏
عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 58‏]‏، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض‏.‏ ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الواقعة بعد جملة ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاعمل إننا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة‏}‏ الآية‏.‏
فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادراً إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة‏.‏ فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها ‏{‏ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ‏}‏ الآية‏.‏
وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوللِ الأعشى‏:‏
ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذي *** جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِببِ الماطر
مِثلَ الفُراتيِّ إذَا مَا طَمَا *** يَقْذِفُ بالبُوصِيِّ والماهرِ
فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ ولا تستوي الحسنة والسيئة، دون إعادة ‏{‏لا‏}‏ النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 58‏]‏، فإعادة ‏{‏لا‏}‏ النافية تأكيد لأختها السابقة‏.‏ وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره‏:‏ وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة‏.‏ فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوئ السيئة، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة‏.‏ وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين‏:‏ جنسسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر‏.‏
وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله‏:‏ ‏{‏ادْفَع بالتي هي أحسن‏}‏، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله‏:‏ ‏{‏ادْفَعَ بالتي هي أحسن‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ادْفَعَ بالتي هي أحسن‏}‏ يجري موقعُه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة‏}‏‏.‏
فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة ‏{‏ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخُلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبةِ أَن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاداً من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى‏.‏ وهي على الوجه الثاني من وجهيْ موقع جملة ‏{‏ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصدِ من المقدمة، فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها‏.‏
وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة ‏{‏ادفَع بالتي هي أحْسَن‏}‏ مفصولة غير معطوفة‏.‏
وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال‏:‏ ‏"‏ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ‏"‏‏.‏ وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه ‏(‏كان خلقه القرآن‏)‏ لأنه أفضل الحكماء‏.‏
والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محموداً في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص‏.‏ والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة‏:‏ «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله»‏.‏ وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وروى عياض في «الشفاء» وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في «تفسيره» لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ سألَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن تأويلها فقال له‏:‏ حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال‏:‏ «يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك»‏.‏
ومفعول ‏{‏ادْفَع‏}‏ محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعاً بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير‏:‏ ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرءون بالحسنة السيئة‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏22‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏96‏)‏‏.‏
و ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك‏.‏
وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح»‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك وصفه في التوراة‏.‏ وفرع على هذا الأمر قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عداوة كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ‏}‏ لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان‏.‏ ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها‏.‏ وأَمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحُسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حُسنه على حسن سببه‏.‏
ولذكر المُثُل والنتائج عقب الإرشاد شأن ظاهر في تقرير الحقائق وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدنيه من الصداقة أو يُكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن‏.‏
و ‏(‏إذا‏)‏ للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدوّ صديقاً‏.‏ وعدل عن ذكر العَدوّ معرفاً بلام الجنس إلى ذكره باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونِها، كما أن ظرف ‏{‏بَيْنَك وبَيْنَه‏}‏ يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طُرُوَّها‏.‏
وهذا تركيب من أعلى طَرَف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإِحسان ناجع في اقتلاع عداوة المحسَن إليه للمحِسِن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفاً، وتمكناً وبعداً، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدوّ قوياً بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها‏.‏ ومن الأقوال المشهورة‏:‏ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها‏.‏
والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كأنَّه وليُّ حَميمٌ‏}‏، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوتُ الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإِحسان وتفاوت قوة العداوة قبلَ الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبَّه به إذ من النادر أن يصير العدوّ وليّاً حميماً، فإنْ صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإِسراع الذي آذنتْ به ‏(‏إذا‏)‏ الفجائية‏.‏ والعداوةُ التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى‏:‏ فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعدَ الكفر فزالت عداوتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، أي وستزيدِين حباً‏.‏
وعن مقاتل‏:‏ أنه قال‏:‏ هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدواً للنبيء صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فصار بعد إسلامه ولياً مصافياً‏.‏ وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإِحسان‏.‏
والولي‏:‏ اسم مشتق من الوَلاية بفتح الواو، والولاء، وهو‏:‏ الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن‏.‏
والحميم‏:‏ القريب والصديق‏.‏ ووجه الجمع بين ‏{‏وَلِيٌّ حَمِيمٌ‏}‏ أنه جمَع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏
‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏، أو حال من ‏(‏التي هي أحسن‏)‏، وضمير ‏{‏يُلَقَّاهَآ‏}‏ عائد إلى ‏(‏التي هي أحسن‏)‏ باعتبار تعلقها بفعل ‏(‏ادْفَعْ‏)‏، أي بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا‏.‏
وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن، وحسبك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام‏.‏
و ‏{‏يُلقَّاها‏}‏ يُجعل لاَقِياً لها، أي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقاهم نضرة وسروراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11‏]‏، وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه‏.‏ وجيء في ‏{‏يلقاها‏}‏ بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل، وجيء في الصلة وهي ‏{‏الَّذِينَ صَبَرُوا‏}‏ بالماضي للدلالة على أن الصبر خلُق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال‏:‏ إلا الصابرون، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة‏.‏ ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تَحْصُل إلا لِذي حظ عظيم‏.‏
والحظ‏:‏ النصيب من الشيء مطلقاً، وقيل‏:‏ خاص بالنصيب من خير، والمراد هنا‏:‏ نصيب الخير، بالقرينة أو بدلالة الوضع، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى‏.‏
فتحصَّل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن، وأنه ليس وحده شرطاً فيها بل وراءه شروط أُخر يجمعها قوله‏:‏ ‏{‏حَظٍ عظيم‏}‏، أي من الأخلاق الفاضلة، والصبرُ من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعمّ من الصبر، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودُها‏.‏
وفي إعادة فعل ‏{‏ومَا يُلقاها‏}‏ دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستِتر من صريحه شيء تحتَ العاطف‏.‏
وأفاد ‏{‏ذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ أن الحظ العظيم من الخير سجيتُه وملكته كما اقتضته إضافة ‏{‏ذو‏}‏‏.‏ وحاصل ما أشار إليه الجملتان أنّ مِثْلَك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهيّن لكل أحد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏
‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏، فبعد أن أُرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن، وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ صُرِف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان، فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تَصْرِفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزغ من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذه لأنه أمره بذلك، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم
وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات‏.‏ وهذا سر من الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وربه وقد أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنه لَيُغانَ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» فبذلك تسلم نفسه من أن يغشَاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين‏.‏
وفي الحديث القدسي عند الترمذي «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحِبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأُعطينَّه ولئن استعاذني لأعِيذَنَّه»‏.‏ ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمة الملَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان»‏.‏
والنزغ‏:‏ النخس، وحقيقته‏:‏ مسّ شديد للجِلد بِطرَف عُود أو إصبَع، فهو مصدر، وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ باللَّه إنه سميع عليم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏200‏)‏ وإسناد ‏{‏يَنزَغَنَّكَ‏}‏ إلى ‏{‏نَزْغٌ‏}‏ مجاز عقلي من باب‏:‏ جدّ جدّه، و‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا‏:‏ النازغ، وهو الشيطان، وصف بالمصدر للمبالغة، و‏{‏من‏}‏ بيانية، أي ينزغنّك النازغ الذي هو الشيطان‏.‏ والمبالغة حاصلة على التقديرين مع اختلاف جهتها‏.‏
وجيء في هذا الشرط ب ‏(‏إنْ‏)‏ التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط ترفيعاً لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فإن نزغ الشيطان له إنما يفرض كما يفرض المُحال، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏
‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ فجاء في ذلك الشرط بحرف ‏(‏إذا‏)‏ التي الأصل فيها الجزم بوقوع الشرط أو بغلبة وقوعه‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ زائدة بعد حرف الشرط لتوكيد الربط بين الشرط وجوابه وليست لتحقيق حصول الشرط فإنها تزاد كثيراً بعد ‏(‏إن‏)‏ دون أن تكون دالة على الجزم بوقوع فعل الشرط‏.‏
وضمير الفصل في قوله‏:‏ إنَّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ‏}‏ لتقوية الحكم وهو هنا حكم كِنائي لأن المقصود لازمُ وصف السميع العليم وهو مؤاخذة من تصدر منهم أقوال وأعمال في أذى النبي صلى الله عليه وسلم والكيدِ له ممن أُمِر بأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن سوّل لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة وزين لك الانتقام وقال لك‏:‏ كيف تحسن إلى أعداء الدين، وفي الانتقام منهم قطعُ كيدهم للدين، فلا تأخذ بنزغه وخذ بما أمرناك واستعذ بالله من أن يزلّك الشيطان فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك وهو يتولى جزاءهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالاً في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات، فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله‏:‏ ‏{‏ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏‏.‏
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13 34‏]‏ إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏‏.‏
والآيات‏:‏ الدلائل، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده‏.‏
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية‏.‏ وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏‏}‏‏.‏
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سَبْعَ سموات‏}‏ توفيراً للمعاني‏.‏
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام ‏(‏76‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي‏}‏ الآيات، ثم ظهر هذا الدين في سبأ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل‏.‏ ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا‏:‏ ‏(‏لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر‏)‏ ا ه‏.‏ ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب‏.‏ وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه ‏(‏شَمس‏)‏ وبه سموا ‏(‏عبدَ شمس‏)‏، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة، قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة‏:‏
تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْراً *** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا
وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ‏.‏
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر‏.‏
وفي «تلخيص التفسير» للكواشي‏:‏ ‏(‏وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة‏)‏ وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر‏.‏ وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم‏:‏ صَبَأَ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فإذا لم يكن النهي في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ‏}‏ نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما‏.‏
ووقوع قوله‏:‏ ‏{‏واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ‏}‏ بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي‏:‏
تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
فكأنه قيل‏:‏ لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر‏.‏
فجملة ‏{‏لا تَسْجدوا للشَّمس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ‏}‏، وبين جملة ‏{‏فَإنْ استَكْبَرُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب‏:‏ السجود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم إيَّاهُ تعبدون‏}‏ وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود، وروي عن الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب‏:‏ هي عند قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَسْأمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏
‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع على نهيهم عن السجود للشمس والقمر وأمرِهم بالسجود لله وحده، أي فإن استكبروا أن يتبعوك وصمموا على السجود للشمس والقمر، أو فإن استكبروا عن الاعتراف بدلالة الليل والنهار والشمس والقمر على تفرد الله بالإِلهية ‏(‏فيعم ضمير ‏{‏اسْتَكْبَرُوا‏}‏ جميع المشركين‏)‏ فالله غني عن عبادتهم إياه‏.‏
والاستكبار‏:‏ قوة التكبر، فالسين والتاء للمبالغة وأصل السين والتاء المستعملين للمبالغة هما السين والتاء للحسبان، أي عدوا أنفسهم ذوي كبر شديد من فرط تكبرهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فالذِينَ عِندَ رَبِّكَ‏}‏ دليل جواب الشرط‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن تكبروا عن السجود لله فهو غني عن سجودهم، لأن له عبيداً أفضل منهم لا يفترون عن التسبيح له بإقبال دون سآمة‏.‏
والمراد بالتسبيح‏:‏ كل ما يدل على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق به، أو نفي ما لا يليق، وذلك بالأقوال قال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏، أو بالأعمال قال‏:‏ ‏{‏ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 49 50‏]‏ وذلك ما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يسأمون‏}‏ من كون ذلك التسبيح قولاً وعملاً وليس مجرد اعتقاد‏.‏
والعِندية في قوله‏:‏ ‏{‏عِنْدَ رَبِّكَ‏}‏ عندية تشريف وكرامة كقوله في سورة الأعراف ‏(‏206‏)‏ ‏{‏إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون‏}‏ وهؤلاء الملائكة هم العامرون للعوالم العليا التي جعلها الله مشرفة بأنها لا يقع فيها إلا الفضيلة فكانت بذلك أشد اختصاصاً به تعالى من أماكنَ غيرها قصداً لتشريفها‏.‏
والسآمة‏:‏ الضجر والملل من الإِعياء‏.‏ وذكر الليل والنهار هنا لقصد استيعاب الزمان، أي يسبحون له الزمان كله‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَسْأَمُون‏}‏ في موضع الحال وهو أوقع من محمل العطف لأن كون الإِخبار عنهم مقيداً بهذه الحال أشد من إظهار عجيب حالهم إذ شأن العمل الدائم أن يسلم منه عامله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏
‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏
‏{‏يَسْھَمُونَ * وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الارض خاشعة فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ومِن آياته الليل والنهار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏، وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله فهو دليل إلهيته دون غيره لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإِله الحق وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة، والنقص ينافي الإِلهية كما قال‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّكَ‏}‏ لغير معيّن ليصلح لكل سامع‏.‏
والخشوع‏:‏ التذلل، وهو مستعار لحال الأرض إذا كانت مقحطة لا نبات عليها لأن حالها في تلك الخصاصة كحال المتذلّل، وهذا من تشبيه المحسوس بالمعقول باعتبار ما يتخيله الناس من مشابهة اختلاف حالي القحولة والخصب بحالي التذلل والازدهاء‏.‏
والاهتزاز حقيقته‏:‏ مطاوعة هزّهُ، إذا حرَّكه بعد سكونه فتحرّك‏.‏ وهو هنا مستعار لربّو وجه الأرض بالنبات، شبّه حال إنباتها وارتفاعها بالماء والنبات بعد أن كانت منخفضة خامدة بالاهتزاز‏.‏ ويؤخذ من مجموع ذلك أن هذا التركيب تمثيل، شُبه حال قحولة الأرض ثم إنزال الماء عليها وانقلابها من الجدوبة إلى الخِصب والإنباتتِ البهيج بحال شخص كان كاسف البال رثّ اللباس فأصابه شيء من الغنى فلبس الزينة واختال في مشيته زُهُوًّا، ولذا يقال‏:‏ هَز عطفيه، إذا اختال في مشيته‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏خاشعة‏}‏ و‏{‏اهْتَزَّتْ‏}‏ مكنية بأن شبهت بشخص كان ذليلاً ثم صار مهتزًّا لعطْفيْه ورمز إلى المشبه بهما بذكر رديفيهما‏.‏ فهذا من أحسن التمثيل وهو الذي يقبل تفريق أجزائه في أجزاء التشبيه‏.‏
وعطف ‏{‏وَرَبَتْ‏}‏ على ‏{‏اهْتَزَّتْ‏}‏ لأن المقصود من الاهتزاز هو ظهور النبات عليها وتحركه‏.‏ والمقصود بالربوّ‏:‏ انتفاخُها بالماء واعتلاؤها‏.‏
وقرأ أبو جعفر ‏{‏وربأت‏}‏ بهمزة بعد الموحدة من ‏(‏ربَأ‏)‏ بالهمز، إذا ارتفع‏.‏
‏{‏وَرَبَتْ إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَئ‏}‏
إدماج لإِثبات البعث في أثناء الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق والتدبير، ووقوعه على عادة القرآن في التفنن وانتهاز فرص الهدى إلى الحق‏.‏
والجملة استئناف ابتدائي والمناسبة مشابهة الإِحياءين، وحرف التوكيد لمراعاة إنكار المخاطبين إحياء الموتى‏.‏
وتعريف المسند إليه بالموصولية لما في الموصول من تعليل الخبر، وشُبه إمداد الأرض بماء المطر الذي هو سبب انبثاق البزور التي في باطنها التي تصير نباتاً بإحياء الميت، فأطلق على ذلك ‏{‏أحْيَاهَا‏}‏ على طريق الاستعارة التبعية، ثم ارتُقي من ذلك إلى جَعل ذلك الذي سمي إحياء لأنه شبيه الإحياء دليلاً على إمكان إحياء الموتى بطريقة قياس الشبه، وهو المسمى في المنطق قياس التمثيل، وهو يفيد تقريب المقيس بالمقيس عليه‏.‏ وليس الاستدلال بالشبه والتمثيل بحجة قطعية، بل هو إقناعي ولكنه هنا يصيرُ حجة لأن المقيس عليه وإن كان أضعف من المقيس إذ المشبه لا يبلغ قوة المشبه به، فالمشبه به حيث كان لا يَقدر على فعله إلا الخالق الذي اتصف بالقدرة التامة لذاته فقد تساوى فيه قويُّه وضعيفه، وهم كانوا يحيلون إحياء الأموات استناداً للاستبعاد العادي، فلما نُظِّر إحياء الأموات بإحياء الأرض المشبه تم الدليل الإقناعي المناسب لشبهتهم الإِقناعية‏.‏ وقد أشار إلى هذا تذييله بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏
‏{‏قَدِيرٌ * إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏
استئناف ابتدائي قصد به تهديد الذين أهملوا الاستدلال بآيات الله على توحيده‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا يخفون علينا‏}‏ مراد به الكناية عن الوعيد تذكيراً لهم بإحاطة علم الله بكل كائن، وهو متصل المعنى بقوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏
والإِلحاد حقيقته‏:‏ الميل عن الاستقامة، والآيات تشمل الدلائل الكونية المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن آياته الليل والنهار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ الخ‏.‏ وتشمل الآيات القولية المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فالإِلحاد في الآيات مستعار للعدول والانصراف عن دلالة الآيات الكونية على ما دلت عليه‏.‏ والإلحاد في الآيات القولية مستعار للعدول عن سَماعها وللطعن في صحتها وصرف الناس عن سماعها‏.‏
وحرف ‏{‏في‏}‏ مِن قوله‏:‏ ‏{‏فِي ءاياتنا‏}‏ للظرفية المجازية لإِفادة تمكن إلحادهم حتى كأنه مظروف في آيات الله حيثما كانت أو كلما سمعوها‏.‏ ومعنى نفي خفائهم‏:‏ نفي خفاء إلحادهم لا خفاء ذواتهم إذ لا غرض في العلم بذواتهم‏.‏
‏{‏عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ‏}‏‏.‏
تفريع على الوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏لا يَخْفُونَ عَلَيْنَا‏}‏ لبيان أن الوعيد بنار جهنم تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى النار، وبالمؤمنين بأنهم آمنون من ذلك‏.‏
والاستفهام تقريع مستعمل في التنبيه على تفاوت المرتبتين‏.‏
وكنّي بقوله‏:‏ ‏{‏يَأتِي ءَامِناً‏}‏ أن ذلك الفريق مصيره الجنة إذ لا غاية للأمن إلا أنه في نعيم‏.‏ وهذه كناية تعريضية بالذين يُلحدون في آيات الله‏.‏
وفي الآية محسن الاحتباك، إذ حذف مقابل‏:‏ ‏(‏من يُلقَى في النار‏)‏ وهو‏:‏ من يدخل الجنة، وحذف مقابل‏:‏ ‏{‏مَن يأتي ءامناً‏}‏ وهو‏:‏ من يأتي خائفاً، وهم أهل النار‏.‏
‏{‏القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏
الجملة تذييل لجملة ‏{‏إنَّ الذين يُلْحِدون في ءاياتنا‏}‏ الخ، كما دل عليه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآية، أي لا يخفى علينا إلحادهم ولا غيره من سيِّئ أعمالهم‏.‏ وإنما خص الإِلحاد بالذكر ابتداء لأنه أشنع أعمالهم ومصدر أسوائها‏.‏
والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا ما شِئْتُم‏}‏ مستعمل في التهديد، أو في الإِغراء المكنّى به عن التهديد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنَّه بِمَا تعمَلونُ بَصِيرٌ‏}‏ وعيد بالعقاب على أعمالهم على وجه الكناية‏.‏
وتوكيده ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لتحقيق معنييه الكنائي والصريح، وهو تحقيق إحاطة علم الله بأعمالهم لأنهم كانوا شاكين في ذلك كما تقدم في قصة الثلاثة الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏
والبصير‏:‏ العليم بالمبصرات‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏
أعقب تهديدهم على الإِلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعُرضَةٍ لأن يُكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه، فلهذه الجملة اتصال في المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ واتصال في الموقع بجملة ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي مواقع أجزائها من تصريح وتقدير‏.‏
فجعل صاحب «الكشاف» قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذِين كَفَروا بالذِّكر‏}‏ بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُلحِدُونَ في آياتنا، وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلاً مطابقاً أو بدل اشتمال، وأنه بتكرير العامل وهو حرف إنَّ‏}‏ وإن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهورة إلاّ في حرف الجر كما قال الرضيّ، فكلام الزمخشري في «المفصل» يقتضي الإِطلاق، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر‏.‏
وعلى هذا القول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يَخْفَون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي أنهم يجعلون جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا بالذِكْر‏}‏ جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل ‏{‏إن‏}‏ خبراً‏.‏ فأما أبو عمرو فقال‏:‏ خبر ‏{‏إن‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏
حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر ‏{‏إن‏}‏ فقال‏:‏ لم أجد لها نفاذاً، فقال له أبو عمرو‏:‏ إنه منك لقريب‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏.‏ وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم إنَّ‏}‏ وخبرها جملاً معترضة وهي نحو سبع‏.‏ وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبراً لاسم ‏{‏إن‏}‏ فقال الكسائي‏:‏ الخبر محذوف دل عليه قوله قبله‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار خير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، فنقدر الخبر، يُلقون في النار، مثلاً‏.‏ وسأل عيسى بنُ عمر عمرو بن عبيد عن الخبر، فقال عمرو‏:‏ معناه أن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز‏.‏ فقال عيسى‏:‏ أجدتَ يا أبا عثمان‏.‏ ويجيء على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلاً من جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يُلْحدون في آياتِنا بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله‏:‏ في ءاياتنا مطلق الآيات، أو بدلاً مطابقاً إن أريد بالآيات آيات القرآن‏.‏ وقيل الخبر قوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏، أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك، وما بينهما اعتراض‏.‏
والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم‏:‏ سحر، وشعر، وقول كاهن، وقول مجنون، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، وأساطير الأولين، وقلوبنا في أكنّة، وفي آذاننا وقر‏.‏
والأظهر أن تكون جملة ‏{‏إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ‏}‏ الخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَخْفَونَ عَلَيْنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لأنهم جديرون بالعقوبة إذ كفروا بالآيات، وهي آية القرآن المؤيد بالحق، وبشهادة ما أوصي إلى الرسل من قوله‏.‏
وموقع إن‏}‏ موقع فاء التعليل‏.‏ وخبر ‏{‏إنّ‏}‏ محذوف دل عليه سياق الكلام‏.‏ والأحسن أن يكون تقديره بما تدل عليه جملةُ الحال من جلالة الذكر ونفاسته، فيكون التقدير‏:‏ خسروا الدنيا والآخرة، أو سفهوا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل، وحَذْفُ خبرِ ‏{‏إنّ‏}‏ إذا دل عليه دليل وارد في الكلام‏.‏ وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الأحرف الخمسة، وتبعه الجمهور، وخالفه الفراء فشرطه بتكرر ‏{‏إنّ‏}‏‏.‏ ومن الحذف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام‏}‏ الآية في سورة الحج ‏(‏25‏)‏، وأنشد سيبويه‏:‏
يا ليت أيام الصبا رواجعا ***
إذ روي بنصب ‏(‏رواجعا‏)‏ على الحال فلم يذكر خبر ‏(‏ليت‏)‏‏.‏
وذكر أن العرب يقولون‏:‏ «إنّ مالاً وإنَّ وَلَداً» أي إِنَّ لهم، وقول الأعشى‏:‏
إنَّ مَحلاًّ وإِنَّ مُرْتَحَلا ***
أي أن لنا في الدنيا حلولاً ولنا عنها مرتحلاً، إذ ليس بقية البيت وهو قوله‏:‏
وإن في السَّفر إذ مَضَوْا مَهَلا ***
ما يصح وقوعه خبراً عن ‏(‏إنّ‏)‏ الأولى‏.‏ وقال جميل‏:‏
وقالوا نراها يا جميل تنكرتْ *** وغَيَّرها الواشي فقلتُ لعلَّها
وقال الجاحظ في «البيان» في باب من الكلام المحذوف عن الحسن‏:‏ أن المهاجرين قالوا‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا، قال النبي صلى الله عليه وسلم تعرفون ذلك لهم، قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإن ذلك ليس في الحديث غير هذا ‏"‏ يريد فإن ذلك شكر ومكافأة ا ه‏.‏ وفي المقامة الثالثة والأربعين «حسبك يا شيخُ فقد عرفتُ فنَّك، واستبنتُ أنك» أي أنك أبو زيد‏.‏ وقد مثل في «شرح التسهيل» لحذف خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ بهذه الآية‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وَإنَّهُ لكتاب‏}‏ الخ في موضع الحال من الذِّكْر، أي كفروا به في حاله هذا، ويجوز أن تكون الجملة عطفاً على جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذينَ كَفَروا بالذِّكْر‏}‏ على تقدير خبر ‏{‏إن‏}‏ المحذوف‏.‏ وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم‏:‏
الوصف الأول‏:‏ أنه ذِكر، أي يذكِّر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم‏.‏
الوصف الثاني من معنى الذكر‏:‏ أنه ذكر للعرب وسُمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لما جاءهم‏}‏ إشارة إلى هذا المعنى الثاني‏.‏
الوصف الثالث‏:‏ أنه كتاب عزيز، والعزيز النفيس، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفسي يدافعَ عنه ويُحمَى عن النبذ فإنه بيِّن الإِتقان وعلوِّ المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزاً، والعزيز أيضاً‏:‏ الذي يَغلب ولا يُغلب، وكذلك حجج القرآن‏.‏
الوصف الرابع‏:‏ أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحُه ولا ضمنيُّه، أي لا يشتمل على الباطل بحال‏.‏ فمُثِّل ذلك بِ ‏{‏من بين يديه ولا من خلفه‏}‏‏.‏
والمقصود استيعاب الجهات تمثيلاً لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صدّه خاتله فأتاه من خلفه، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لآتِيَنّهم من بين أيديهم ومن خلفهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏
فمعنى‏:‏ لا يأتِيهِ الباطل‏}‏ لا يوجد فيه ولا يداخله، وليس المراد أنه لا يُدعَى عليه الباطل‏.‏
الوصف الخامس‏:‏ أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقية لأنه تنزيل من حكيم، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة‏:‏ ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ فإن كلام الحكيم يأتي محكماً متقناً رصيناً لا يشوبه الباطل‏.‏
الوصف السادس‏:‏ أنه تنزيل من حميد، والحميد هو المحمود حمداً كثيراً، أي مستحقّ الحمد الكثير، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذْ يكون دليلاً للخيرات وسائقاً إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه، فيحمده سامعه كثيراً لأنه يجده مجلبة للخير الكثير، ويحمد قائله لا محالة خلافاً للمشركين‏.‏
وفي إجراء هذه الأوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال‏:‏ ‏{‏وَإنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ الآيات‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏
‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏
‏{‏حَمِيدٍ * مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو‏}‏‏.‏
استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل‏:‏ فما بال هؤلاء طعنوا فيه‏؟‏ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به‏.‏ وإذا بنيت على ما جوزته سابقاً أن يكون جملة‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ‏}‏ خبر ‏{‏إنّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ كانت خبراً وليست استئنافاً‏.‏
وهذا تسلية للنبيء بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض‏.‏ ولهذا الكلام تفسيران‏:‏
أحدهما‏:‏‏}‏ أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ‏}‏ هو مقالات الذين كذبوهم، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 53‏]‏‏.‏
التفسير الثاني‏:‏ ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك، فأنت لم تكن بدعاً من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، فمَا صدقُ‏:‏ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل‏}‏ هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما‏.‏
وفي التعبير ب ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا قَدْ قِيلَ‏}‏ نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين، وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل‏}‏ تشبيه بليغ‏.‏ والمعنى‏:‏ إلا مثل ما قد قيل للرسل‏.‏
واجتلاب المضارع في ‏{‏مَا يُقَال‏}‏ لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك‏.‏
واقتران الفعل ب ‏{‏قد‏}‏ لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم‏.‏ وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏
‏{‏قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ‏}‏
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له‏.‏ ووقوع هذا الخبر عقب قوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ يومئ إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه‏.‏
ومعنى المغفرة له‏:‏ التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير‏.‏ وحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد‏.‏
وكلمة ‏{‏ذو‏}‏ مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما‏.‏
ووصف العقاب ب ‏{‏أَلِيمٍ‏}‏ دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا‏.‏
وفي جملة‏:‏ ‏{‏إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَاببٍ ألِيم‏}‏ مُحسِّن الجمع ثم التقسيم، فقوله‏:‏ ‏{‏ما يقال لك‏}‏ يجمع قائلاً ومقولاً له فكان الإِيماء بوصف ‏(‏ذو مغفرة‏)‏ إلى المقول له، ووصف ‏{‏ذو عقاب أليم‏}‏ إلى القائلين، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلاًّ إلى مناسبه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏
‏{‏أَلِيمٍ * وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين‏}‏‏.‏
اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا‏}‏ إلى آخره تنقُّلٌ في دَرجَ إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيببِ به، وتكلّفُ الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج، فأخَذ يَنقض دعاويهم عُروة عُروة، إذْ ابتدئت السورة بتحدِّيهم بمعجزة القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءَاناً عَرَبِياً‏}‏ إلى قوله ‏{‏فهم لا يسمعون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 1 4‏]‏ فهذا تحدَ لهم ووصف للقرآن بصفة الإِعجاز‏.‏
ثم أخذَ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبيء صلى الله عليه وسلم ثم تَمالُئهم على الأعراض بقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وهو عجز مكشوف بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في ءاياتنا لا يَخْفَون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآيات‏.‏ فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعناً فيها بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏
وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالاً لتعللاتهم، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصَّل الدلالةِ المعروفةِ في لغتهم حسبما ابتدئ الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءاناً عربياً لِقَوْممٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ وانْتُهي هنا بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41، 42‏]‏، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرضُ والتقديرُ أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب‏.‏
ولذلك فجملة‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ على الاعتبارين المتقدمين آنفاً في موقع تلك الجملة‏.‏
ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏كتاب فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْءاناً عربياً لِقَوم يعلمون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ من التحدِّي بصفة الأمية كما علمت آنفاً، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قُرآناً أعجمياً، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل، لقلبوا معاذيرهم فقالوا‏:‏ لولا بُينت آياتُه بلغة نفهمها وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي‏.‏ فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف ‏{‏لو‏}‏ الامتناعية‏.‏ وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم‏.‏
ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 198، 199‏]‏، أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروضضِ إنزالُ الكتاب بها، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسوللٍ لا يعرف العربية، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بلغة غير العربية‏.‏ وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجباً أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمةً علمها الله، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربياً وبعثه بين أمة عربية كان أحقُّ اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية، إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسداً بينها لأن بينهم من سوابق الحوادث في التاريخ ما يثير الغيرة والتحاسد بينهم بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن بقية الأمم، فلا جرم رُجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم‏.‏‏.‏
ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسنَ أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة‏.‏ ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم‏.‏ ووقع في «تفسير الطبري» عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ قالت قريش‏:‏ لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته أعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام ا ه‏.‏ ولا أحسب هذا إلا تأويلاً لسعيد بن جبير لأنه لم يسنده إلى راو، ولم يرو عن غيره فرأى أن الآية تنبئ عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير ‏{‏لَّقَالُوا‏}‏‏.‏ وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى، وكيف و‏{‏لو‏}‏ الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه‏.‏
وأما ما ذكره في «الكشاف»‏:‏ «أنهم كانوا لتعنتهم يقولون‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العجم‏؟‏ فقيل‏:‏ لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا‏:‏ لولا فصّلت آياته الخ»‏.‏ فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روي عن سعيد‏.‏ ولو كان كذلك لكان نظم الآية‏:‏ وقالوا لولا فصلت آياته، ولم يكن على طريقة ‏{‏لو‏}‏ وجوابها‏.‏ ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء‏.‏
وضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذكر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ أعجمِيٌّ وعَرَبِيٌّ‏}‏ بقية ما يقولونه على فرض أن يُجعل القرآن أعجمياً، أي أنهم لا يخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير‏.‏
و ‏{‏لولا‏}‏ حرف تحضيض‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏فُصِّلَتْ‏}‏ هنا‏:‏ بيِّنت ووضِّحت، أي لولا جعلت آياته عربية نفهمها‏.‏
والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَرَبِيٌّ‏}‏ للعطف بمعنى المعية‏.‏ والمعنى‏:‏ وكيف يلتقي أعجمي وعربي، أي كيف يكون اللفظ أعجمياً والمخاطب به عربياً كأنهم يقولون‏:‏ أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏قوآناً‏}‏ كتاباً مقروءاً‏.‏ وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه السلام قرآناً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن داود يُسّر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه ‏(‏أو كما قال‏)‏‏.‏
والأعجمي‏:‏ المنسوب إلى أعجم، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإِفصاح، فالأعجم‏:‏ الذي لا يفصح باللغة العربية، وزيادة الياء فيه للوصف نحو‏:‏ أحمري ودَوّاري‏.‏ فالأعجمي من صفات الكلام‏.‏
وأفرد ‏{‏وَعَرَبِيٌّ‏}‏ على تأويله بجنس السامع، والمعنى‏:‏ أكتاب عربي لسامعين عرب فكان حق ‏{‏عربي أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإِنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد، أو جمع‏.‏ وحاصل معنى الآية‏:‏ أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذِّكْر، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماماً لهديكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجمياً لقلتم‏:‏ هلا بينت لنا حتى نفهمه‏.‏
‏}‏
هذا جواب تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ما يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُللِ مِن قَبْلِكَ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏، أي ما يقال من الطعن في القرآن، فجوابه‏:‏ أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حَرَمَهم كُفْرُهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هدياً وشفاء‏.‏ وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم‏.‏
وحقيقة الشفاء‏:‏ زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء، يقال‏:‏ شُفيتْ نفسه، إذا زال حَرجه، قال قيس بن زهير‏:‏
شَفَيْتُ النفسَ من حَمَللِ بننِ بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شفاني
ونظيره قولهم‏:‏ شُفي غليله، وبرد غليله، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ الخ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏هُوَ للذِينَ ءامَنُوا هُدًى‏}‏ فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسَهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه، وهو ما تقدم في حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقاً بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبراً عن القرآن‏.‏
ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً عن ضمير الذكر، أي القرآن، فتكونَ من مقول القول وكذلك جملة ‏{‏وَهُوَ عَليهِمْ عَمًى‏}‏‏.‏
والإِخبار عنهُ ب ‏{‏وَقْرٌ‏}‏ و‏{‏عَمًى‏}‏ تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه، والوقر‏:‏ داء فمقابلته بالشفاء من محسِّن الطِّباق‏.‏
وضمير ‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ يتبادر أنه عائد إلى الذِّكر أو الكتاب كما عاد ضمير ‏{‏هو‏}‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى‏}‏‏.‏ والعَمى‏:‏ عدم البصر، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسِّن الطِّباق‏.‏
والإِسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمًى من الإِسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سبباً لضلالهم فكان القرآن سَبَبَ سبببٍ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏وَهُوَ‏}‏ ضميرَ شأن تنبيهاً على فظاعة ضلالهم‏.‏ وجملة ‏{‏عَلَيهم عَمًى‏}‏ خبر ضميرَ الشأن، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى، أي على أبصارهم عمى كقوله‏:‏ ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازياً تعين أن مصيبَته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضراً من عمى الأبصار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمَى القلوب التي في الصدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏أولئك يُنَادونَ مِن مَكاننٍ بَعِيدٍ‏}‏ خبر ثالث عن ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏ والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من يُنادَى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع‏}‏ كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏171‏)‏‏.‏ وتقول العرب لمن لا يفهم‏:‏ أنت تُنادَى من مكان بعيد‏.‏ والإِشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى ‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏ لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحْرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
ويتعلق ‏{‏مِن مكاننٍ بعيدٍ‏}‏ ب ‏{‏يُنَادونَ‏}‏‏.‏ وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادَى ‏(‏بالفتح‏)‏ في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق ‏{‏من الأرض‏}‏، بقوله‏:‏ ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ أي دعاكم من مكانكم في الأرض، ويذلك يجوز أن يكون ‏{‏مِن مَكَاننٍ بعيدٍ‏}‏ ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُنَادونَ‏}‏ وذلك غير متأتَ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا دعاكم دعوة من الأرض‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏
‏{‏بَعِيدٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏‏.‏
اعتراض بتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأَوحدَ في ذلك فقد أوتي موسى التوراة فاختلف الذين دعاهم في ذلك، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر‏.‏
والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين‏:‏ اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافاً عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن‏.‏ وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 12‏]‏ فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع، وهذا ناظر إلى قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏ على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم‏.‏
‏{‏فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ‏}‏
هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله‏:‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمتُه، فأَما قوم موسى فقد قضَى بينهم باستئصال قوم فرعون، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى، وبخراب بيت المقدس، وزوال ملك إسرائيل آخراً‏.‏ وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر‏.‏
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين، والإِمهاللِ إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر‏.‏
والتعبير عن الجلالة بلفظ ‏{‏رَبِّكَ‏}‏ لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف‏.‏ وكلا الأمرين تعزيز للتسلية‏.‏
ولك أن تجعل كلمة ‏(‏بين‏)‏ دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف‏.‏ والتقدير‏:‏ بينهم وبينَ المؤمنين، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين، فإنه يكثر أن يقال‏:‏ بين كذا وبين كذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏سَبَقَتْ‏}‏ أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته‏.‏
والأجلُ المسمى‏:‏ جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله‏.‏ وأما ضمير ‏{‏وإنَّهُمْ لَفِي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين‏.‏
والريب‏:‏ الشك، فوصف ‏{‏شَكّ‏}‏ ب ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم‏:‏ لَيلٌ أَلْيل وشِعْرٌ شَاعر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏
‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏
هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى‏.‏ وفيه معنى التذييل لأن ‏{‏مَن‏}‏ في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة‏.‏ ووجود الفاء في الموضعين‏:‏ إمّا لأنهما جوابان للشرط، وإما لمعاملة الموصول معاملةَ الشرط وهو استعمال كثير‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الإِمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم‏.‏
وتقديم قريب من هذه الآية في سورة الزمر، كما تقدم نظير ‏{‏وما رَبُّكَ بِظَلاممٍ لِلْعَبِيد‏}‏ لفظاً ومعنى في سورة غافر ‏(‏31‏)‏‏.‏
وحرف ‏(‏على‏)‏ مؤذن بمؤاخذة وتحمُّل أعباء كما أن اللام في قوله‏:‏ ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ مؤذن بالعطاء‏.‏
والخطاب في ‏{‏رَبُّكَ‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 45‏]‏ من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب‏.‏
والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده‏:‏ أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم، لأن الله لما وضع للناس شرائع وبيّن الحسنات والسيئات، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانوناً، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلماً إذ الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإِلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة‏.‏ وأما صيغة ‏(‏ظلام‏)‏ المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل‏:‏ ليعذب الله المسيء لكان ظلاّماً له وما هو بظلاّم، وهذا معنى قول علماء المعاني‏:‏ إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيَّد قد يكون النفي نفياً للقيد وقد يكون القَيد قيداً في النفي ومثلوه بهذه الآية‏.‏ وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏
‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏
كانوا إذا أُنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها، وكان ذلك مما يتكرّر منهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن السّاعة أيّان مُرساها لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيداً للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ، فهو قصر قلب‏.‏ وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم، أي الأجدر أن تعلموا أنْ لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها‏.‏ ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏{‏ماذا أعددت لها‏}‏ أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها‏.‏
والرّد‏:‏ الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم فردّه إلى الله‏.‏ وفي حديث موسى مع الخضر في «الصحيح» «فعاتب الله موسى أن لم يَرُدّ العِلم إليه» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو رَدّوه إلى الرّسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏ الآية‏.‏ وعطف جملة ‏{‏وما تخرج من ثمرات من أكمامها‏}‏ وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائرِ لا يعلمها النّاس، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلاّ الله، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجةٌ على تكذيب من أنذَر بها، لأنّهم قالوا‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق‏.‏ فهذا وجه ذكر تلك النظائر، وهي ثلاثة أشياء‏:‏
أوّلها‏:‏ علم ما تُخرجه أكمام النخيل من الثَمَر بقدره وجودتِه وثباته أو سقوطه، وضمير ‏{‏أكمامها‏}‏ راجع إلى الثمرات‏.‏ والأكمام‏:‏ جمع كِمّ بكسر الكاف وتشديد الميم وهو وعاء الثّمر وهو الجُفّ الذي يخرج من النّخلة محتوياً على طلْع الثّمر‏.‏
ثانيها‏:‏ حمل الأنثى من النّاس والحيوان، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلاّ الله‏.‏
ثالثها‏:‏ وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله‏.‏
وعُدل عن إعادة حرف ‏{‏ما‏}‏ مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواءً بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين ‏{‏ما‏}‏ و‏(‏لا‏)‏ في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف ‏{‏ما‏}‏ وتخليصه للاستقبال مع حرف ‏(‏لا‏)‏‏.‏ ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك‏.‏ وحرف ‏{‏من‏}‏ بعد مدخولي ‏{‏ما‏}‏ في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفاً زائِداً‏.‏
والباء في ‏{‏بعلمه‏}‏ للملابسة‏.‏ وتقدم نظيره في سورة فاطر‏.‏
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏ثمرات‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏ثمرةٍ‏}‏ واحدةِ الثمرات‏.‏
‏{‏بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قالوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن‏}‏ ‏{‏شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ‏}‏‏.‏
عطف على الجملة قبلها فإنّه لما تضمن قوله‏:‏ ‏{‏إليه يرد علم الساعة‏}‏ إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها، وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دَوْماً عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضياً إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلْقونه في يومها‏.‏
و ‏{‏يوم‏}‏ متعلّق بمحذوف شائععٍ حذفه في القرآن، تقديره‏:‏ واذكر يوم يناديهم‏.‏
والضّمير في ‏(‏ينادي‏)‏ عائد إلى ‏{‏ربّك في قوله وما ربّك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله‏:‏ ‏{‏ينادونهم ألم نكن معكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا إننا سمِعنا منادياً ينادي للإيمان‏}‏ في آل عمران ‏(‏193‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونُودوا أن تلكُم الجنّة أورثتموها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏43‏)‏‏.‏
وجملة ‏{‏أين شركائي‏}‏ يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى ‏{‏ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وحذف القول ليس بعزيز‏.‏
ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه ‏{‏يناديهم‏}‏ من معنى الكلام المعْلن به‏.‏ وجاءت جملة ‏{‏قالوا آذناك‏}‏ غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏
و ‏{‏آذناك‏}‏ أخبرناك وأعلمناك‏.‏ وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فقل آذنتكم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏، وقال الحارث بن حلزة‏:‏
أذنَتْنَا بِبَيْنها أسماء ***
وصيغة الماضي في ‏{‏آذناك‏}‏ إنشاء فهو بمعنى الحال مثل‏:‏ بعْتُ وطلقت، أي نأذنك ونُقر بأنّه ما منّا من شهيد‏.‏
والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد، أي المبصر، أي ما أحد منا يَرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن، أي لا نرى واحداً من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة ‏{‏وضلّ عنهم ما كانوا يدعون‏}‏ في موضع الحال، والواو واو الحال‏.‏ ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك، فيكون ذلك اعترافاً بكذبهم فيما مضى، وتكون جملة ‏{‏وضل عنهم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏قالوا آذناك‏}‏، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحداً من أصنامهم‏.‏ وفعل ‏{‏آذناك‏}‏ معلّق عن العمل لورود النفي بعده‏.‏
و ‏{‏ضلّ‏}‏‏:‏ حقيقته غاب عنهم، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل ضلُّوا عنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فالمراد به هنا‏:‏ غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النّظر عن كونها ملقاة في جهنّم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه‏.‏ وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنّهم لا محيص لهم، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده، فالظّنّ هنا بمعنى اليقين‏.‏
والمحيصُ مصدر ميمي أو اسم مكان من‏:‏ حاص يَحيصُ، إذا هرب، أي ما لهم مفر من النّار‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏
‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏
‏{‏مَّحِيصٍ * لاَّ يَسْھَمُ الانسان مِن دُعَآءِ الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ ‏{‏قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِى‏}‏‏.‏
اعتراض بين أجزاء الوعيد‏.‏ والمعنى‏:‏ وعلموا ما لهم من محيص‏.‏ وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذّبوا بقيام السّاعة فجملة ‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قنوط‏}‏ تمهيد لجملة ‏{‏ولئن أذقناه رحمةً منا‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏
وموقع هذه الآيات عقب قوله ‏{‏ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ الخ يقتضي مناسبة في النّظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأنّ الإنسان المخبر عنه بأنّه لا يسأمُ من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف النّاس الذين جرى ذِكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون، فإمّا أن يكون المراد فريقاً من نوع الإنسان، فيكون تعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممَثل له في علم المعاني بقولكَ‏:‏ جمع الأمير الصاغة‏.‏ وإمّا أن يكون المراد إنساناً معيناً من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد‏.‏ كما أن الإخبار عن الإنسان بأنّه يقول‏:‏ ما أظنّ الساعة قائمة، صريح أن المخبر عنه من المشركين معيناً كان أو عاماً عموماً عرفياً‏.‏ فقيل المراد بالإنسان‏:‏ المشركون كلّهم، وقيل أريد به مشرك معين، قيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة بن ربيعة‏.‏ وأيًّا مَّا كان فالإخبار عن إنسان كافر‏.‏
ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أنَّ إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومئ بأنّ للجبلة الإنسانية أثراً قوياً في الخُلُق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان‏.‏ فأصل هذا الخُلق أمر مرتكز في نفس الإنسان، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في مُعطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعاً، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضرّ فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه‏.‏ فأما أنّ الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه‏:‏ أنّه لا يكتفي، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة، وهي الملَل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفيُ السآمة عنه رمزٌ للاستعارة‏.‏
وفي الحديث‏:‏ «لوْ أن لابن آدم واديين من ذهب لأحبّ لهما ثالثاً، ولو أن له ثلاثة لأحبّ لهما رابعاً، ولا يملأ عين ابن آدم إلاّ التراب» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّه لِحُبّ الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏‏.‏
والدعاء‏:‏ أصله الطلب بالقول، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقاً فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير‏.‏
ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يُقبِل عليه، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏
وأما أن الإنسان يؤوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خُلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويَشق عليه فيضجر إن لحقه شرّ ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول‏:‏ لئن مسني الشرّ زمناً لقد حلّ بي الخير أزماناً، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشرّ عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضباً وكبراً ولا ينتظر معاودة الخير ظاهراً عليه أثرُ اليأس بانكسار وحزن‏.‏ واليأس فعل قلبي هو‏:‏ اعتقاد عدم حصوله الميؤوس منه‏.‏
والقُنوط‏:‏ انفعال يدني من أثَر اليأس وهو انكسار وتضاؤل‏.‏ ولم يذكر هنا أنّه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏وإذا مسه الشرُّ فذو دعاء عريض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ لأنّ المقصود أهل الشرك وهم إنّما ينصرفون إلى أصنامهم‏.‏ وقد جاءت تربية الشريعة للأمّة على ذم القنوط، قال تعالى حكاية عن إبراهيم ‏{‏قال ومن يَقنَط من رحمة ربّه إلاّ الضَّالون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 56‏]‏، وفي الحديث «انتظار الفرج بعد الشدّة عبادة»‏.‏
فالآية وصفت خُلقين ذميمين‏:‏ أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها‏.‏ وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها‏.‏ وفي نظم الآية لطائف من البلاغة‏:‏
الأولى‏:‏ التعبير عن دوام طلب النّعمة بعَدم السآمة كما علمْتَه‏.‏
الثانية‏:‏ التعبير عن محبّة الخير بدُعاء الخير‏.‏
الثالثة‏:‏ التعبير عن إضافة الضر بالمسّ الذي هو أضعف إحساس الإصابة قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمَسُّهم السوء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 61‏]‏‏.‏
الرّابعة‏:‏ اقتران شرط مسّ الشر ب ‏{‏إنْ‏}‏ التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعُه فإن إصابة الشر الإنسانَ نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم‏.‏
الخامسة‏:‏ صيغة المبالغة في ‏{‏يَؤُوس‏}‏‏.‏
السّادسة‏:‏ إتْباع ‏{‏يؤوس‏}‏ ب ‏{‏قنوط‏}‏ الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار، وهو من شدّة يَأسه، فحصلت مبالغتان في التّعبير عن يأسه بأنّه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته‏.‏ فالمشرك يتأصّل فيه هذا الخُلق ويتزايد باستمرار الزّمان‏.‏ والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد‏.‏
ثم بينت الآية خلقاً آخر في الإنسان وهو أنّه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النّعمة نسي ما كان فيه من الشّدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النّعمةَ، وقال‏:‏ قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري، وهذا الخير حق لي حصلت عليه، ثمّ إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه ‏{‏ما أظنّ السّاعة قائمة‏}‏ ولئن فَرَضت قِيام السّاعة على احتمال ضعيف فإنّي سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأنّي من أهل الثراء والرفاهية في الدّنيا فكذلك سأكون يوم القيامة‏.‏
وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسبوا أحوال الدّنيا مقارنة لهم في الآخرة، كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خبَّاب بن الأرتِّ مالاً له عنده من أجر صناعةِ سيف فقال له‏:‏ حتى تكفر بمحمد‏؟‏ فقال خبَّاب‏:‏ لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال‏:‏ أوَ إنِّي لميّت فمبعوث‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرَأيت الذي كفَر بآياتنا وقال لأوتيَنَّ مالاً وولداً‏}‏ الآيات من سورة مريم ‏(‏77‏)‏‏.‏
ولَعَل قوله‏:‏ ‏{‏ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏ إنّما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقالة العاصي بن وائل‏.‏ وذِكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشرك في عموم أحوال الإنسان‏.‏
وجيء في حكاية قوله ‏{‏ولئن رجعت‏}‏ بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ الشرطية التي يَغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنّه جعل رجوعه إلى الله أمراً مفروضاً ضعيف الاحتمال‏.‏ وأما دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط‏.‏
وكذلك التأكيد ب ‏{‏إن‏}‏ ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط، وكذلك تقديم ‏{‏لي‏}‏ و‏{‏عنده‏}‏ على اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ هو لتقوّي ترتب الجواب على الشرط‏.‏
والحسنى‏:‏ صفة لموصوف محذوف، أي الحالة الحسنى، أو المعاملة الحسنى‏.‏ والأظهر أن الحسنى صارت اسماً للإحسان الكثير أخذاً من صيغة التفضيل‏.‏
واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخُلق المعزوّ إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور، ولما كان أكثر النّاس يومئذٍ المشركين كان هذا الخلق فاشياً فيهم يقتضيه دين الشرك‏.‏ ولا نظر في الآية لمن كان يومئذٍ من المسلمين لأنهم النادر، على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شِيَات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافاً بقدر قوة إيمانه، ومعلوم أنّه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول ‏{‏وما أظنّ الساعة قائمة‏}‏، ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظنّ أن الساعة قائمة مثل أولئك الذّين يأتون السيئات ثم يقولون‏:‏ إن الله غفور رحِيم، والله غني عن عذابنا، وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا‏:‏ ما ثَمّ إلا الخير ونحو ذلك، فجعل الله في هذه الآية مذمّة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمَداً للأوّلين وانتشالاً للآخرين‏.‏
‏{‏للحسنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ‏}‏‏.‏
تفريع على جملة ‏{‏ويوم يناديهم أين شركائي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ وما اتصل بها أي فلنعلمنّهم بما عَمِلوا عَلناً يعلَمُون به أنّا لا يخفى علينا شيء مما عملوه وتقريعاً لهم‏.‏
وقول‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار، ومقتضى الظّاهر أن يقال‏:‏ ولننبئنّهم بما عملوا، فعدل إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من علة استحقاقهم الإذاقة بما عملوا وإذاقة العذاب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏}‏ هو المقصود من التفريع‏.‏
والغليظ حقيقته‏:‏ الصلب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستغلظ فاستوى على سوقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وهو هنا مستعار للقويّ في نوعه، أي عذاب شديد الإيلام والتعذيب، كما استعير للقساوة في المعاملة في قوله ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏‏.‏
والإذاقة‏:‏ مجاز في مطلق الإصابة في الحسّ لإطماعهم أنّها إصابة خفيفة كإصابة الذوق باللّسان‏.‏ وهذا تجريد للمجاز كما أن وصفه بالغليظ تجريد ثان فحصل من ذلك ابتداء مُطمِع وانتهاء مُؤيِس‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏
‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏
هذا وصف وتذكير بضرب آخر من طغيان النفس الإنسانية غير خاص بأهل الشرك بل هو منبث في جميع النّاس على تفاوتتٍ إلاَّ من عصم الله‏.‏ وهو توصيف لنَزَق النفْس الإنساني وقلّة ثباته فإذا أصابته السراء طغا وتكبر ونسِي شكر ربّه نسياناً قليلاً أو كثيراً وَشُغل بلذاته، وإذا أصابته الضراء لم يصبر وجزِع ولجأ إلى ربّه يُلحّ بسؤال كشف الضراء عنه سريعاً‏.‏ وفي ذكر هذا الضرب تعرُّض لفعل الله وتقديره الخَلتين السراء والضراء‏.‏ وهو نقد لسُلوك الإنسان في الحالتين وتعجيب من شأنه‏.‏ ومحل النقد والتعْجيب من إعراضه ونأيه بجانبه واضح، وأمّا محل الانتقاد والتعجيب من أنّه ذو دُعاء عريض عندما يمسه الشرّ فهو من حيث لم يتذكر الإقبالَ على دعاء ربّه إلا عندما يمَسُّه الشر وكان الشأن أن لا يغفل عن ذلك في حال النعمة فيدعو بدوامها ويشكر ربّه عليها وقبوللِ شكره لأن تلك الحالة أولى بالعناية من حالة مسّ الضر‏.‏
وأما ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للحسنى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49، 50‏]‏ فهو وصف لضرب آخر أشدّ، وهو خاص بأهل الشرك لِما وقع فيه من قوله‏:‏ ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 36‏]‏، فليس قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه‏}‏ الخ تكريراً مع قوله‏:‏ ‏{‏لا يسأم الإنسان‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49‏]‏ الآية‏.‏ فهذا التفنن في وصف أحوال الإنسان مع ربّه هو الذي دعا إلى ما اشتمل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا‏}‏ من بعض التكرير لِما ذكر في الضرب المتقدم لزيادة تقريره، وللإشارة إلى اختلاف الحالتين باعتبار الشرك وعدمه مع اتحادهما في مثار الجبلة الإنسانية، وباعتبار ما قدره الله للإنسان‏.‏
والإعراض‏:‏ الانصراف عن شيء، وهو مستعار هنا للغفلة عن شكر المنعم أو التعمد لترك الشكر‏.‏
ومتعلق فعل ‏{‏أعرض‏}‏ محذوف لدلالة السياق عليه، والتقدير‏:‏ أعرض عن دعائنا‏.‏
والنأي‏:‏ البعد، وهو هنا مستعار لعدم التفكر في المنعِم عليه، فشبّه عدم اشتغاله بذلك بالبُعد‏.‏ والجانب للإنسان‏:‏ منتهى جسمه من إحدى الجهتين اللَّتين ليستا قُبالَة وجهه وظهرِه، ويسمى الشِقّ، والعِطف بكسر العين‏.‏ والباء للتعدية‏.‏ والمعنى‏:‏ أبعد جانبه، كناية عن إبعاد نفسه، أي ولَّى معرضاً غير ملتفت بوجهه إلى الشيء الذي ابتعد هو عنه‏.‏
ومعنى ‏{‏مسه الشر‏}‏ أصابه شر بسبب عاديّ‏.‏ وعدل عن إسناد إصابة الشر إلى الله تعليماً للأدب مع الله كما قال إبراهيم ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ الخ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وإذا مَرِضْت فهو يشفين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ فلم يقل‏:‏ وإذا أمرضني، وفي ذلك سرّ وهو أن النعم والخير مسخّران للإنسان في أصل وضع خلقته فهما الغالبان عليه لأنّهما من مظاهر ناموس بقاء النوع‏.‏ وأمّا الشرور والأضرار فإن معظمها ينجرّ إلى الإنسان بسوء تصرفه وبتعرضه إلى ما حذرته منه الشرائع والحكماء الملهمون فقلما يقع فيهما الإنسان إلا بعلمه وجُرأته‏.‏
والدعاء‏:‏ الدعاء لله بكشف الشرّ عنه‏.‏ ووصفُه بالعريض استعارة لأن العَرض بفتح العين ضد الطول، والشيء العريض هو المتسع مساحة العَرض، فشبه الدعاء المتكرر الملَحُّ فيه بالثوب أو المكان العريض‏.‏ وعُدل عن أن يقال‏:‏ فداع، إلى ‏{‏ذو دعاء‏}‏ لما تشعر به كلمة ‏{‏ذو‏}‏ من ملازمة الدعاء له وتملكه منه‏.‏
والدّعاء إلى الله من شيم المؤمنين وهم متفاوتون في الإكثار منه والإقلال على تفاوت ملاحظة الحقائق الإلهيّة‏.‏ وتَوجه المشركين إلى الله بالدعاء هو أقوال تجري على ألسنتهم توارثوها من عادات سالفة من أزمان تدينهم بالحنيفية قبل أن تدخل عليهم عبادة الأصنام وتتأصل فيهم فإذا دعوا الله غفلوا عن منافاة أقوالهم لعقائد شركهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لمَّا جاءهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لفي شك منه مريب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41، 45‏]‏‏.‏ فهذا انتقال إلى المجادلة في شأن القرآن رجع به إلى الغرض الأصلي من هذه السورة وهو بيان حقّيّة القرآن وصدقه وصدق من جاء به‏.‏ وهذا استدعاء ليُعمِلُوا النظر في دلائل صدق القرآن مثل إعجازه وانتساقه وتأييد بعضه بعضاً وكونه مؤيّداً للكتب قبلَه، وكوننِ تلك الكتب مؤيدة له‏.‏
والمعنى‏:‏ ما أنتم عليه من إنكار صدق القرآن ليس صادراً عن نظر وتمحيص يحصّل اليقين وإنما جازفتم به قبل النظر فلو تأملتم لاحتمل أن يُنتج لكم التأمل أنه من عند الله وأن لا يكون من عنده، فإذا فُرض الاحتمال الأول فقد أقحمتم أنفسكم في شقاق قويّ‏.‏ وهذا من الكلام المنصِف واقتُصر فيه على ذكر الحالة المنطبقة على صفاتهم تعريضاً بأن ذلك هو الطرَف الرّاجح في هذا الإجمال كأنه يقول‏:‏ كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوماً بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدّلائل، فهم لمّا أنكروا أن يكون من عند الله وصدوا أنفسهم وعامتهم عن الاستماع إليه والتدبر فيه فقد أعملوا شهوات أنفسهم وأهملوا الأخذ بالحيطة لهم أن يتدبروه حتى يكونوا على بينة من أمرهم في شأنه، وهم إذا تدبروه لا يلبثون أن يعلموا صدقه، فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد، وإذا كانوا كذلك فقد حقّت عليهم كلمات الوعيد‏.‏
و ‏{‏إن‏}‏ الشرطية شأنها أن تدخل على الشرط المشكوك فيه، فالإتيان بها إرخاء للعنان معهم لاستنزال طائر إنكارهم حتى يقبلوا على التأمل في دلائل صدق القرآن‏.‏ ويشبه أن يكون المقصود بهذا الخطاب والتشكيك أولاً دَهماءَ المشركين الذين لم ينظروا في دلالة القرآن أو لم يطيلوا النظر ولم يبلغوا به حد الاستدلال‏.‏
وأما قادتهم وكبراؤهم وأهل العقول منهم فهم يعلمون أنه من عند الله ولكنّهم غلب عليهم حبّ الرئاسة على أنهم متفاوتون في هذا العلم إلى أن يبلغ بعضهم إلى حدّ قريب من حالة الدّهماء ولكن القرآن ألقى بينهم هذا التشكيك تغليباً ومراعاةً لاختلاف درجات المعاندين ومجارَاةً لهم ادعاءهم أنّهم لم يهتدوا نظراً لقولهم ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏
و ‏{‏ثُمّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم كفرتم‏}‏ للتراخِي الرتبي لأن الكفر بما هو من عند الله أمره أخطر من كون القرآن من عند الله‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ الأولى للاستفهام وهو مستعمل في معنى النفي، أي لا أضل ممن هو في شقاق بعيد إذا تحقق الشرط‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ الثانية موصولة ومَا صْدَقُها المخاطبون بقوله‏:‏ ‏{‏كفرتم به‏}‏ فعُدل عن الإضمار إلى طريق الموصول لما تأذن به الصلة من تعليل أنّهم أضلُّ الضالّين بكونهم شديدي الشقاق، وذلك كناية عن كونهم أشد الخلق عقوبة لما هو معلوم من أن الضلال سبب للخسران‏.‏
والشقاق‏:‏ العصيان‏.‏ والمراد‏:‏ عصيان أمر الله لظهور أن القرآن من عنده على هذا الفرض بيننا‏.‏
والبعيد‏:‏ الواسع المسافة، واستعير هنا للشديد في جنسه، ومناسبة هذه الاستعارة للضلال لأن الضلال أصله عدم الاهتداء إلى الطريق، وأن البعد مناسب للشقاق لأن المنشقّ قد فارق المنشقَّ عنه فكان فراقه بعيداً لا رجاء معه للدنوّ، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏176‏)‏‏.‏
وفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏ معلق عن العمل لوجود الاستفهام بعده، والرؤية علمية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏
‏{‏سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏
‏{‏بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وفى أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ‏}‏‏.‏
أعقب الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما فيه تخويفهم من عواقب الشقاق على تقدير أن يكون القرآن من عند الله وهم قد كفروا به إلى آخر ما قرر آنفاً، بأن وَعَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والبشارة بأن الله سيغمر المشركين بطائفة من آياته ما يتبيّنون به أن القرآن من عند الله حقاً فلا يسعهم إلا الإيمان به، أي أن القرآن حقّ بَيِّنٌ غير محتاج إلى اعترافهم بحقيته، وستظهر دلائل حقّيّته في الآفاق البعيدة عنهم وفي قبيلتهم وأنفسهم فتتظاهر الدلائل على أنّه الحق فلا يجدوا إلى إنكارها سبيلاً، والمراد‏:‏ أنهم يؤمنون به يومئذٍ مع جميع من يؤمن به‏.‏ وفي هذا الوعد للرّسول صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذْ يسمعونه على طريقة‏:‏ فاسمعي يا جارة‏.‏
فموقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما أمر به، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن‏.‏ وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حقّ لأن ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ ينبئ عن تقديره، أي لا يسعهم إلا الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكّاً من قبلُ عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك، ومن كان إنّما يكفر عناداً واحتفاظاً بالسيادة افتضح بهتانه وسفَّهه جيرانه‏.‏ وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيراً عظيماً من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفقَ مِن قبللِ الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاَّ وعد الله الحسنى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرتْ بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسَّر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه مِن بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي بَاحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمْثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة، فيتبيّن أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسّكوا بعُرى الإسلام لَقُوا من نصر الله أمراً عجيباً يشهد بذلك السابق واللاحق، وقد تحدّاهم الله بذلك في قوله‏:‏
‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ ثم قال ‏{‏ويقول الذّين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏
ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه ديناً وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونُظُمهم المدنِيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأيّمة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم‏.‏
فالمراد بالآيات في قوله‏:‏ ‏{‏سنريهم آياتنا‏}‏ ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدِّق أخبارها ويبيّن نصحها إياهم بدعوتها إلى خير الدّنيا والآخرة‏.‏
والآفاق‏:‏ جمع أُفُق بضمتين وتسكن فاؤه أيضاً هو‏:‏ الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها، والناحية من قبة السماء‏.‏ وعطف ‏{‏وفي أنفسهم‏}‏ يجوزُ أن يكون من عطف الخاص على العام، أي وفي أفق أنفسهم، أي مكّة وما حولها على حذف مضاف‏.‏
والأحسن أنْ يكون في الآفاق على عمومه الشامل لأفقهم، ويكون معنى ‏{‏وفي أنفسهم‏}‏ أنّهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم، أي ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتَقِبْ يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏، ومثل ما شاهدوه من مَصارِع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وأيَّة عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد‏.‏ وقد قال عند مَوته‏:‏ لو غيرُ أكَّار قتلني، ومن مقتل أُبيّ بن خلف يومئذٍ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة‏:‏ أنا أقتلُك وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر‏:‏ والله لو بصق علي لقتلني‏.‏
‏{‏الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَئ‏}‏‏.‏
عَطْفٌ على إعلام الرّسول بما سيظهر من دلائل صدق القرآن وصدق الرّسول صلى الله عليه وسلم زيادة لتَثبيتتِ الرّسول وشرح صدره بأن الله تكفل له بظهور دينه ووضوح صدقه في سائر أقطار الأرض وفي أرض قومه، على طريقة الاستفهام التقريري تحقيقاً لتيقن النبي صلى الله عليه وسلم بكفالة ربّه بحيث كانت ممّا يقرر عليها كنايةً عن اليقين بها، فالاستفهام تقريري‏.‏
والمعنى‏:‏ تكفيك شهادة ربّك بصدقك فلا تلتفت لتكذيبهم، وهذا على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏وأرسلناك للنّاس رسولاً وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ فهذا وجه في موقع هذه الآية‏.‏
وهنالك وجه آخر أن يكون مساقها مساق تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشهد بالله على أن القرآن من عند الله، فيكون موقعها موقع القَسم بإشهاد الله، وهو قسم غليظ فيه معنى نسبة المقسَم عليه إلى أنه مما يشهَد الله به فيكون الاستفهام إنكارياً إنكاراً لعدم الاكتفاء بالقَسَم بالله، وهو كناية عن القسم، وعن عدم تصديقهم بالقسَم، فيكون معنى الآية قريباً من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏‏.‏
وليس معنى الآية إنكاراً على المشركين أنّهم لم يكتفوا بشهادة الله على صدق القرآن ولا على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير معترفين بأن الله شهد بذلك فلا يظهر توجه الإنكار إليهم‏.‏ ولقد دلّت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية على تردد في استخراج معناها من لفظها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أنه على كل شيء شهيد‏}‏ بدل اشتمال من ‏{‏بربّك‏}‏ والتقدير‏:‏ أو لم يكفهم ربُّك عِلمُه بكل شيء، أي فهو يحقق ما وعدك من دمغهم بالحجة الدالة على صدقك، أو فمن استشهدَ به فقد صدق لأن الله لا يُقرّ من استشهد به كاذباً فلا يلبثُ أن يأخذه‏.‏
وفي الآية على الوجه الثاني من وجهي قوله‏:‏ ‏{‏أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد‏}‏ إشارة إلى أن الله لا يصدق من كذب عليه فلا يتم له أمر وهو معنى قول أيّمة أصول الدّين‏:‏ إن دلالة المعجزة على الصدق أن تغيير الله العادة لأجل تحدّي الرّسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام قوله‏:‏ صَدَق عبدي فيما أخبر به عني‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏
تذييلان للسورة وفذلكتان افتتحا بحرف التنبيه اهتماماً بما تضمناه‏.‏ فأما التذييل الأول فهو جُماع ما تضمنته السورة من أحوال المشركين المعاندين إذ كانت أحوالهم المذكورة فيها ناشئة عن إنكارهم البعث فكانوا في مأمن من التفكير فيما بعد هذه الحياة، فانحصرت مساعيهم في تدبير الحياة الدّنيا وانكبُّوا على ما يعود عليهم بالنفع فيها‏.‏ وضمير ‏{‏إنهم‏}‏ عائد إليهم كما عاد ضمير الجمع في ‏{‏سنريهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وأما التذييل الثاني فهو جامع لكل ما تضمنته السورة من إبطاللٍ لأقوالهم وتقويممٍ لاعوجاجهم، لأن ذلك كله من آثار علم الله تعالى بالغيب والشهادة‏.‏ وتأكيد الجملتين بحرف التأكيد مع أن المخاطب بهما لا يشكّ في ذلك لقصد الاهتمام بهما واستدعاء النّظر لاستخراج ما تحويانه من المعاني والجزئيات‏.‏
والمرية بكسر الميم وهو الأشهر فيها واتفقت عليه القراءات المتواترة، وبكسر الميم وهو لغة مثل‏:‏ خِفْية وخُفية‏.‏ والمرية‏:‏ الشك‏.‏ وحرف الظرفية مستعار لتمكن الشك بهم حتى كأنّهم مظروفون فيه و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية وتعدى بها أفعال الشك إلى الأمر المشكوك فيه بتنزيل متعلق الفعل منزلة مثار الفعل بتشبيه المفعول بالمَنشإ كأن الشك جاء من مكان هو المشكوك فيه‏.‏
وفي تعليقه بذات الشيء مع أن الشك إنما يتعلق بالأحكام مبالغة على طريقة إسناد الأمور إلى الأعيان والمرادُ أوصافها، فتقدير ‏{‏في مرية من لقاء ربهم‏}‏‏:‏ في مرية من وقوع لقاء ربّهم وعدممِ وقوعه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ أي في ريب من كونه منزلاً‏.‏ وأطلق الشك على جزمهم بعدم وقوع البعث لأن جزمهم خلي عن الدّليل الذي يقتضيه، فكان إطلاق الشك عليه تعريضاً بهم بأن الأوْلى بهم أن يكونوا في شك على الأقل‏.‏
ووصف الله بالمحيط مجاز عقلي لأن المحيط بكل شيء هو علمه فأسندت الإحاطة إلى اسم الله لأن ‏(‏المحيط‏)‏ صفة من أوصافه وهو العلم‏.‏
وبهاتين الفذلكتين آذن بانتهاء الكلام فكان من براعة الختام‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire