lundi 7 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏
معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏أو كالذي مر على قرية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏، فهو مثال ثالث لقضية قوله‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ الآية ومثال ثان لقضية ‏{‏أو كالذي مر على قرية‏}‏ فالتقدير‏:‏ أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ‏.‏ فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني، إلى العلم الضروري، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس‏.‏
وانتصب ‏{‏كيف‏}‏ هنا على الحال مجردةً عن الاستفهام، كانتصابها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أولم تؤمن‏}‏ الواو فيه واو الحال، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أرني‏}‏ والتقدير‏:‏ أأرِيك في حال أنّك لم تؤمن، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك، فقوله‏:‏ ‏{‏بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ كلام صدر عن اختباره يقينَه وإلفائه سالماً من الشك‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ليطمئن قلبي‏}‏ معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشُبه عن العقل، وذلك أنّ حقيقة يَطمئن يسكن، ومصدره الاطمئنان، واسم المصدر الطُّمَأنِينَة، فهو حقيقة في سكون الأجسام،‏.‏ وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفاء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردّد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساوياً للحقيقة، يقال اطمأنّ بَالَهُ واطمأنّ قلبه‏.‏
والأظهر أنّ اطمأن وزنه افعلَلَ وأنّه لا قلب فيه، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة، وهذا قول أبي عمرو وهو البيِّن إذ لا داعي إلى القلب، فإنّ وقوع الهمزة لا ما أكثر وأخف من وقوعها عيناً، وذهب سيبويه إلى أنّ اطْأمَنّ مقلوب وأصله اطْمَأنّ وقد سمع طَمْأنْتُه وطَأْمَنْتُه وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة، والذي أوجب الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طَمَن‏.‏
والقلبُ مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنّما ذلك للفكر، وأراد بالاطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دلّه الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فخذ أربعة من الطير‏}‏ اعلم أنّ الطير يطلق على الواحد مرادفاً لطائر؛ فإنّه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة، ولا شك في هذا الإطلاق، وهو قول أبي عبيدة والأزهري وقُطرب ولا وجه للترّدد فيه، ويطلق على وجمعه أيضاً وهو اسم جمع طائر كصحْب وصاحب، وذلك أنّ أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع‏.‏
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض، فلذلك عدّدت الأنواع، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعُها على الجهات الأربع‏:‏ المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلاّ يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران، فجعل ذلك آية على أنَّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماماً‏.‏
وذكر كل جبل يدل على أنّه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأنّ وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء؛ فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسِرة التناول‏.‏
والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيِّء، وبعضها تعتصم به الناس من العدوّ كما قال السَّمَوْأل‏:‏
لنا جبل يحتلّه من نجيره *** منيع يردّ الطَّرفَ وهو كليل
ومعنى ‏{‏صرهنّ‏}‏ أدنِهن أو أيلهن يقال صاره يصُوره ويصيره بمعنًى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب، فعن عكرمة أنّه نبطي، وعن قتادة هو حبشي، وعن وهب هو رومي، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنّها لم ينتقل جزء منها عن موضعه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً‏}‏ عطف على محذوف دلّ عليه قوله ‏{‏جزءاً‏}‏ لأن تجزئتهن إنّما تقع بعد الذبح‏.‏ فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فصُرهن‏}‏ بضم الصاد وسكون الراء من صاره يُصوره، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب ‏{‏فصِرهن‏}‏ بكسر الصاد من صار يصير لغة في هذا الفعل‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏جُزْءاً‏}‏ بسكون الزاي وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي، وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 262‏]‏
‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏‏}‏
عود إلى التحريض على الإنفاق في سبيل الله، فهذا المثَل راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏‏.‏ وهو استئناف بياني لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏من قبللِ أن يأتي يوم لا بيع فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ الآية يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر وقد تهيّأت نفوس السامعين إلى التمحّض لهذا المقصود فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ تشبيه حال جزائهم وبركتهم، والصلة مؤذنة بأنّ المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير مَثَلُ نفقةِ الدين‏.‏ وقد شبه حالُ إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبَّة أنبتت سبع سنابل إلخ، أي زُرعت في أرض نقية وتراب طيّب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل‏.‏ وحذف ذلك كله إيجازاً لظهور أنّ الحبّة لا تنبت ذلك إلاّ كذلك، فهو من تشبيه المعْقول بالمحسوس والمشبه به هيأة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبّة لأنّ تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع، وفي المثل «رُب ساع لقاعد وزَارع غيرِ حاصد»‏.‏ ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل وحدة، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيبُ الله به على الحسنات الصغيرة، أي ما يقع ثواباً على أقلّ الحسنات كمن همّ بحسنة فلم يعملها، فإنّه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف‏.‏ `
قال الواحدي في أسباب النزول وغيرُه‏:‏ إنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف؛ ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله‏.‏ وكان الجيشُ يومئذ بحاجة إلى الجهاز وهو جيش العُسْرة فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال عثمان بن عفان‏:‏ «عَلَيّ جهاز من لا جهاز له» فجَهّز الجيش بألف بعير بأقْتَابها وأحْلاسِهَا وقيل جاء بألف دينار ذهباً فصبّها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏والله يضعاف لمن يشاء‏}‏ أنّ المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلاّ الله تعالى؛ لأنّها تترتّب على أحوال المتصدّق وأحوال المتصدّق عليه وأوقات ذلك وأماكنه‏.‏ وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحفّ بالصدقة والإنفاق، تأثير في تضعيف الأجر، والله واسع عليم‏.‏
وأعاد قوله‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ إظهاراً للاهتمام بهذه الصلة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم لا يتبعون‏}‏ جاء في عطفه بشم مع أنّ الظاهر أن يعطف بالواو، قال في «الكشاف»‏:‏ «لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وإنّ تركهما خير من نفس الإنفاق»؛ يعني أنّ ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة الزمنية ترفيعاً لرتبة ترك المنّ والأذى على رتبة الصدقة؛ لأنّ العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحبّ المحمدة فللنفوس حظّ فيه مع حظّ المعطَى، بخلاف ترك المنّ والأذى فلا حظ فيه لِنفس المعطي؛ فإنّ الأكثر يميلون إلى التبجّح والتطاول على المعطَى، فالمهلة في ‏(‏ثم‏)‏ هنا مجازية؛ إذ شُبِّه حصول الشيء المهم في عزّة حصوله بحصول الشيء المتأخّر زمنه، وكأنّ الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنّه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأنّ المراد حصول الإنفاق وترك المنّ معاً‏.‏
والمنّ أصله الإنعام والفضل، يقال مَنّ عليه مَنَّا، ثم أطلق على عدّ الإنعام على المنعَم عليه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏، وَهو إذا ذُكر بعد الصدقة والعطاء تعيّن للمعنى الثاني‏.‏
وإنّما يكون المنّ في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق، وبالتطاول على المجاهدين الذين يُجَهِّزهم أو يَحْملهم، وليس من المنّ التمدّح بمواقف المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومِه، فقد قال الحُريش بن هلال القريعي يذكر خَيْله في غزوة فتح مكة ويوم حنين‏:‏
شَهِدنَ مع النبي مُسَوّمَاتٍ *** حُنينا وهْيَ دَاميَةُ الحَوامِي
ووقْعَةَ خالدٍ شَهِدَت وحَكَّتْ *** سَنَابِكَها علَى البَلَد الحَرَامِ
وقال عباس بن مرداس يتمدّح بمواقع قومه في غزوة حنين‏:‏
حَتَّى إذا قال النبيءُ محمدٌ *** أبَنِي سُلَيْممٍ قَدْ وَفَيْتُم فأرجِعوا
عُدْنَا ولَوْلاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعَهُمْ *** بالمُسْلمين وأحرَزُوا مَا جَمَّعوا
والأذى هو أن يؤذي المنفِق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة‏:‏
عليّ لِعمروٍ نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب
فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مراداً به نصر الدين ولا حظّ للنفس فيه، فذلك هو أعلى درجات الإنفاق وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏263- 264‏]‏
‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏‏}‏
تخلُّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس، وهو الصدقات‏.‏ ولم يتقدم ذكر للصدقة إلاّ أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 262‏]‏ الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين؛ فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حُصولاً لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفِق‏.‏
فالمنّ على المتصدّق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفاً‏.‏
ومن فقرات الزمخشري في «الكَلِم النَّوابغ»‏:‏ «طَعْمُ الآلاء أحْلى من المنّ‏.‏ وهوَ أمَرُّ من الآلاء عند المنّ» الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شَجر مُر الورق، والمنّ الأول شيء شِبْه العسل يقع كالنَّدَى على بعض شجر بادية سِينا وهو الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا عليكم المن والسلوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏، والمنّ الثاني تذكير المنَعم عليه بالنعمة‏.‏
والأذى الإساءة والضرّ القليل للمنعم عليه قال تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏، والمراد به الأذى الصريح من المنعِم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنّه أعطاه، أو أن يتكبّر عليه لأجل العطاء، بله تعيِيره بالفقر، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن‏.‏ وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من «الإحياء» إلى أنّ المنّ له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم تتفرّع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح‏.‏ ومنبع الأذى أمران‏:‏ كراهية المعطي إعطاءَ ماله وشدّةُ ذلك على نفسه ورؤيتُه أنّه خير من الفقير، وكلاهما منشؤهُ الجهل؛ فإنّ كراهية تسليم المال حمق لأنّ من بذل المال لطلب رضا الله والثواب فقد علم أنّ ما حصل له من بذل المال أشرف ممّا بذله، وظنَه أنّه خير من الفقير جهل بِخطر الغنَى، أي أنّ مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني‏.‏
ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه عُلِم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصلٌ بفحوى الخطاب لأنّه أوْلى بالنهي‏.‏
أوْسع اللَّهُ تعالى هذا المقام بيَاناً وترغيباً وزجراً بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنّبهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة‏.‏
وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية‏.‏
ولقد كان مقدار الإصابة والخطإ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعَوا إلاّ وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حَظاً من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعاً عظيماً من تشريعهم أو دعوتهم، إلاّ أنّهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصِّر أو آمِل ومُدَبِّر، غير أنّك لا تجد شريعة سدّدت السهم لهذا الغرض‏.‏ وعرفت كيف تفرق بين المستحبّ فيه والمفتَرض‏.‏ ومثل هذه الشريعة المباركة، فإنّها قد تصرّفت في نظام الثروة العامة تصرّفاً عجيباً أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفاعه به قبل كل أحد‏.‏
فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب بالأمن على ماله من أن ينتزعه منه مُنتزع إذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع‏:‏ «إن دماءَكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها‏.‏
وقد أتْبعت إعلان هذه الثقةِ بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والتوثيقات، كمشروعية الرهن في السلف والتوثّق بالإشهاد كما تُصرّح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصاً واستنباطاً‏.‏
ثم أشارت إلى أنّ من مقاصدها ألاّ تبقى الأموال متنقّلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالاً أي كيلا يكون المال دُولة‏.‏ والدُّولة ما يتداوله الناس من المال، أي شرْعنا صرفه لمن سمّيناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه، لينال الفقراءُ منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مُدالاً بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المِرْبَاع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة‏.‏
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعاً منظّماً فجعلت منه انتزاعاً جبرياً بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته‏.‏ فأما الذي في حياته فهو الصدقات الواجبة، ومنها الزكاة، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها‏.‏ وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن
«إن الله فرض عليهم زكاة تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم» وجعل توزيع ما يتحصّل من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء، غير مهينين ولا مهددّين بالمنع والقساوة‏.‏ والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا العطاء بأفضل ما وُعد به المحسنون، من تسميته قرضاً لله تعالى، ومن توفير ثوابه، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها‏.‏
ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنّها حق المحاربين، فانتزع منهم ذلك وقال لهم‏:‏ ‏{‏واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ للَّه خمسه وللرسول‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ فحَرضهم على الرضا بذلك، ولا شك أنّه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم‏.‏ وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنّها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألُّف العائلة، ولا نفقةِ الأولاد كذلك لأنّ الداعي إليها جبلِيّ‏.‏ أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين، وفطر رمضان، والظهار، والإيلاء، وجزاء الصيد‏.‏ فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته‏.‏
وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان‏.‏ وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبّون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ ‏(‏180‏)‏، وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر‏.‏
وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال، فلم تعط أموالهم إلاّ لأقرب الناس إليهم، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض، وبحسب الأحوجية إلى المال، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنّه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها‏.‏ والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حقّ التصرّف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألاّ يكون وارثاً، حتى لا يتوسلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره‏.‏
وجعلت الشريعة من الانتزاع انتزاعاً مندوباً إليه غير واجب، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مراباة وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة‏.‏
وجملة ‏{‏قول معروف‏}‏ إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً‏.‏ وتنكير ‏{‏قول معروف‏}‏ للتقليل، أي أقَلُّ قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى‏.‏ والمعروف هو الذي يعرفه الناس، أي لا ينكرونه‏.‏ فالمرَاد به القول الحسن وهو ضدّ الأذى‏.‏
والمغفرة هنا يراد بها التجاوز عن الإساءة أي تجاوز المتصدق عن الملحّ أو الجافي في سؤاله إلحاحَهُ أو جفاءهُ مثل الذي يسأل فيقول‏:‏ أعطني حقّ الله الذي عندك أو نحو ذلك، ويراد بها أيضاً تجاوز الله تعالى عن الذنوب بسبب تلك الصدقة إذا كان معها قول معروف، وفي هذا تعْريض بأنّ الأذى يوشك أنْ يبطل ثواب الصدقة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله غني حليم‏}‏ تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما‏:‏ الغِنَى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي، والحلمُ الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العُفاة‏.‏
والإبطال جعل الشيء باطلاً أي زائلاً غير نافع لما أُريدَ منه‏.‏ فمعنى بطلان العمل عدم ترتّب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجباً أم كان متطوّعاً به، فإن كان العمل واجباً فبطلانه عدم إِجزائه بحيث لا تبرأ ذمة المكلّف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختلّ ركن أو شرط من العمل‏.‏ وإن كان العمل متطوّعاً به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعاً بين أدلة الشريعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس‏}‏ الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا، أي لا تكونوا في إتْبَاع صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنّما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية‏.‏
فالموصول من قوله‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله‏}‏ مراد به جنس وليس مراد به جنس وليس مراد به معَيّناً ولا واحداً، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبّه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي، جمعاً بين الأدلة الشرعية‏.‏
والرئاء بهمزتين فِعال مِن رأى، وهو أن يُكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة، وأَولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة، ويقال رياء بياء بعد الراء على إبدال الهمزة ياء بعد الكسرة‏.‏
والمعنى تشبيه بعض المتصدّقين المسلمين الذين يتصدّقون طلباً للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمَنّ والأذى، بالمنفقين الكافرين الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلاّ الرئاء والمدحة إذ هم لا يتطلّبون أجر الآخرة‏.‏
ووجه الشبه عدم الانتفاع مِمَّا أعطوا بأزيدَ من شفاء ما في صدورهم من حبّ التطاول على الضعفاء وشفاء خُلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة‏.‏
ومُثّل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبِه به تمثيلاً يسري إلى الذين يُتبعون صدقاتهم بالمنّ والأذى بقوله‏:‏ ‏{‏فمثله كمثل صفوان‏}‏ إلخ وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء للناس، لأنّه لما كان تمثيلاً لحال المشبّه به كان لا محالة تمثيلاً لحال المشبّه، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات‏.‏
مثَّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه، يعني يَخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر، فتقدير الكلام عليه تراب صالحٌ للزرع فحذفت صفة التراب إيجازاً اعتماداً على أنّ التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه الوابل هو التراب الذي يبذرون فيه، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئاً وبقي مكانُه صلداً أملس فخاب أمل زارعه‏.‏
وهذا أحسن وأدّق من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان أصابه وابل فجرفه، وأنّ وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ فإنّ مورد تلك الآية مقام آخر‏.‏
ولك أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله‏}‏ صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف مضاف بين الكاف وبين اسم الموصول، والتقدير إنفاقاً كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس‏.‏
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق مالَه في سبيل الله بحبّة أغَلَّتْ سبعمائة حَبَّة‏.‏
فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس‏.‏ ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع ثم لا تلبث ألاّ تأتي لآملها بما أمَّله فخاب أمله‏.‏ ذلك أنّ المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدّق فيُتبع صدقته بالمنّ والأذى اندفاعاً مع خواطر خبيثة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا يقدرون على شيء مما كسبوا‏}‏ أوقع موقعاً بديعاً من نظم الكلام تنهال به معاننٍ كثيرة فهو بموقعه كان صالحاً لأن يكون حالاً من الذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون مندرجاً في الحالة المشبّهة، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة، وصالحاً لأن يكون حالاً من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوكصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعياً للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفرداً، وصالحاً لأن يجعل استينافاً بيانياً لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه، وصالحاً لأن يجعل تذييلاً وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله‏:‏ ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ إلى آخر الكلام‏.‏
وصالحاً لأن يجعل حالاً من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يقدرون‏}‏ لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء‏.‏
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏‏.‏
والمعنى فتركه صلداً لا يحصدون منه زرعاً كما في قوله‏:‏ ‏{‏فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرّب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإنّ من أحوالهم المنّ على من ينفقون وأذاه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏
‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفنّناً في التمثيل‏.‏ فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه‏.‏
وانتصب ‏{‏ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً‏}‏ على الحال بتأويل المصدر بالوصف، أي مبتغين مرضاة الله ومثَبِّتين من أنفسهم‏.‏ ولا يحسن نصبهما على المفعول له، أما قوله «ابتغاء» فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجله بإضمارها، لأنّ يؤول إلى معنى لأجل طلبهم مرضاة الله، وأما قوله «وتثبيتاً» فلأنّ حكمَهُ حكم ما عطف هو عليه‏.‏
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً‏.‏
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس، وتكون «من» على هذا الوجه للتبعيض، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال، أي تثبيتاً لبعض أحوال النفس‏.‏
وموقع ‏(‏من‏)‏ هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله، وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً‏.‏
ويجوز أن يكون تثبيتاً تمثيلاً للتصديق أي تصديقاً لوعد الله وإخلاصاً في الدين ليخالف حال المنافقين؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلاّ عن تصديق للآمر بها، أي يدُلُّون على تثبيت من أنفسهم‏.‏
و ‏(‏مِنْ‏)‏ على هذا الوجه ابتدائية، أي تصديقاً صادراً من أنفسهم‏.‏
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها، وبلا كلفة ولا ضجر‏.‏ فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق‏.‏
ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة، فالهيأة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديقُ بوعده فضوعفت أضعافاً كثيرة أو دونها في الكثرة، والهيأة المشبّهة بها هي هيأة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتَان فزكا ثمرُها وتزايد فأكملت الثمرة، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك‏.‏
والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجِنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنَّ إذا ستر، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختَلف الأصناف، فأما ما كان مغروساً نخيلاً بحتاً فإنّما يسمى حائطاً‏.‏ والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر، فقد كان الغالبَ على بلاد اليمن والطائف‏.‏ ومن ثمارهم الرمّان، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضاً كما في الآية التي بعد هذه‏.‏ ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 141‏]‏ ‏{‏وهوَ الذي أنشأ جناتتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع‏}‏ فعطف النخل على الجنّات، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة‏.‏
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف‏.‏
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجُبيل‏.‏ وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء‏.‏ وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربى تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول ضعفين‏}‏، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع‏.‏
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضاً، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعُنْق وفُلْك وحُمْق، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى‏:‏ ‏{‏بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 16‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏تؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب «أُكْلها» بسكون الكاف، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف‏.‏
وقوله‏:‏ «ضِعفين» التثنية فيه لمجرد التكرير مثل لَبَّيْك أي آتت أكلها مضاعفاً على تفاوتها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن لم يُصبها وابل فطل‏}‏، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين‏.‏ والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم، وهو مع ذلك متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏266‏]‏
‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏
استئناف بياني أثارُه ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل، ومثَل جنة برُبوة إلى آخر ما وصف من المَثَلين‏.‏ ولمَّا أتبع بما يفيد أنّ ذلك إنّما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى، ثم أتبع بالنهي عن أن يُتبعوا صدقاتهم بالمنّ والأذى، اسْتشرفت نفس السامع لتلقي مَثَل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضُرب المثل لمن كانوا بضدّ حالهم في حالة محمودة‏.‏
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏ الآية‏.‏ وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في «لسان العرب» هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وقال أبو خالد العتَّابي‏:‏
لقد زادَ الحياةَ إليّ حُبا *** بَناتي إنَّهُنّ من الضِّعاف
وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة، فهذه أشدّ الأحوال الحرص كقول الأعْشى‏:‏
كجَابيِة الشَّيخخِ العِراقي تَفْهَقُ
فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها‏.‏
فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أيَوَدُّ‏}‏ استفهام إنكار وتحذير كما في قوله‏:‏ ‏{‏أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والهيأة المشبّهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى‏.‏
روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوماً أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَ ترون هذه الآية نَزلت‏:‏ ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏}‏ الآية، فقال بعضهم‏:‏ «الله أعلم»، فغضب عمر وقال‏:‏ «قولوا نَعْلَم أو لا نعلم»، فقال ابن عباس‏:‏ «في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين»، فقال عمر‏:‏ يا ابن أخي قُل ولا تحقِرْ نفسك»، قال ابن عباس‏:‏ «ضُربت مثلاً لعَملٍ»، قال عمر‏:‏ «أيُّ عمل»، قال ابن عباس‏:‏ «لعملٍ»، قال‏:‏ صدقتَ، لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فَني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ تذييل، أي كَهذا البيان الذي فيه تقريب المعْقول بالمحسوس بين الله نصحاً لكم، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة‏.‏ والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ نحو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏267‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏‏}‏
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير‏.‏ وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب‏.‏ فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا‏.‏ وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان‏.‏ ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سُفيان الغَامِدي أحد قواد أهل الشام بلدَ الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي وقتلوا عاملها حسان بنَ حسان البَكري‏:‏ «أما بعد فإنّ من تَرك الجهاد رغبةَ عنه ألبسه الله ثوبَ الذل، وشملُه البلاء، ودُيِّثَ بالصّغار، وضرب على قلبه، وسيم الخَسْفَ، ومُنِع النِّصْف‏.‏ ألاَ وإنِّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وقلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِي قوم في عُقْر دارهم إلاّ ذلوا، فتواكلتم‏.‏ هذا أخو غامد قد وردتْ خيلُه الأنباء» إلخ‏.‏ وانظر كلمة «الجهاد» في هذه الخطبة فلعل أصلها القِتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحَرفَها قاصِدٌ أو غَافِلٌ ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه‏.‏
والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة، أو للندب وهي في صدقة التطوّع، أو هو للقدر المشترك في الطَلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل‏.‏ والقيد بالطَّيِّبَات يناسب تعميم النفقات‏.‏
والمراد بالطيّبات خيار الأموال، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه‏.‏ والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد‏.‏ ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه ‏"‏ الحديث، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ‏"‏‏.‏ ولم يذكر الطيّبات مع قوله‏:‏ ‏{‏ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏ اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏أخرجنا لكم‏}‏ أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً‏.‏
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار، فمنه ما يخرج بنفسه، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية‏.‏
وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في ‏{‏ما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏‏.‏ وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب، وفيه ربع العشر‏.‏ وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة، ولذلك قال فيه الخمس‏.‏ وبعضهم عدّ الركاز داخلاً فيما أخرج من الأرض ولكنّه يخمس، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية‏.‏ ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ أصل تيمّموا تتيمموا، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتَيمّم بمعنى قصد وعمد‏.‏
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويحرم عليهم الخبايث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ‏.‏
وجملة ‏{‏منه تنفقون‏}‏ حال، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله‏.‏ أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه‏.‏ وفي حديث «الموطأ» في البيوع ‏"‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له‏:‏ أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال‏:‏ لا، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب‏.‏ فقال له‏:‏ بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً ‏"‏ فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة‏.‏ وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تَيمّموا‏}‏ بتاء واحدة خفيفة وصْلاً وابتداء، أصله تَتيمّموا، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه‏.‏ وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم، ولذلك وقع القياس عليها‏.‏
ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثاننٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه، وعلى كلا الوجهين هو مقتضضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره‏.‏
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى‏:‏
عليككِ مثلُ الذي صَلِّيتتِ فاغْتمضي *** جَفْناً فإنّ لِجَنْببِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
أراد فاهنئي‏.‏ ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح‏:‏
لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ *** يْممِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين‏.‏ لقصد الراحة من تحرّك القذى، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي‏:‏
وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها *** ولَمْ أسْمَعْ إلى قاللٍ وقِيلِ
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً، هو تقييد للنفي‏.‏ وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏}‏ تذييل، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء، أو التي فيها استساغة الحرام‏.‏ حميد، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة‏.‏ وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب‏.‏
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال‏.‏
والحميد من أمثلة المبالغة، أي شديد الحَمد؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات‏.‏ ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود، فيكون حَميد بمعنى مفعول، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏268‏]‏
‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏‏}‏
استئناف عن قوله‏:‏ ‏{‏أنفقوا من طيبات ما كسبتم الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ لأنّ الشيطان يصدّ الناس عن إعطاء خيار أموالهم، ويغريهم بالشحّ أو بإعطاء الرديء والخبيث، ويخوّفهم من الفقر إن أعطوا بعض مَالهم‏.‏
وقدّم اسم الشيطان مسنداً إليه لأنّ تقديمه مؤذن بذمّ الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمِه لتحذير المسلمين من هذا الحكم، كما يقال في مثال علم المعاني «السَّفَّاح في دَار صديقك»، ولأنّ في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تَقَوِّيَ الحُكم وتحقيقه‏.‏
ومعنى ‏{‏يعدكم‏}‏ يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية‏.‏ وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعداً مجازاً لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبِر، ولذلك يقال‏:‏ أنجز فلان وعده أو أخلف وعده، ولا يقولون أنجز خَبَره، ويقولون صدق خَبَرِه وصدَق وعده، فالوعد أخصّ من الخبر، وبذلك يؤذن كلام أئِمة اللغة‏.‏ فشُبِّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق، وحسَّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله‏:‏ ‏{‏والله يعدكم مغفرة‏}‏ فإنّه وعد حقيقي‏.‏
ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام «القاموس» تبعاً لفصيح ثعلب ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد، وإن كان خاصاً بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس، ففي قوله‏:‏ ‏{‏يعدكم الفقر‏}‏ مجازان‏.‏
والفقر شدّة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فَقَره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظَّهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر، ويقال فَقْر وفُقْر وفَقَر وفُقُر بفتح فسكون، وبفتحتين، وبضم فسكون، وبضمتين، ويقال رجل فقير، ويقال رجل فَقْر وصفاً بالمصدر‏.‏
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاققِ الذم عرفاً أو شرعاً‏.‏ مشتق من الفحش بضم الفاء وسكون الحاء تجاوز الحد‏.‏ وخصّه الاستعمال بالتجاوز في القبيح، أي يأمركم بفعل قبيح‏.‏ وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة، وليس المراد بالفحشاء البخل لأنّ لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمّى فاحشاً‏.‏ وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأنّ الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام‏.‏ والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس‏.‏
‏{‏والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله واسع عَلِيمٌ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر‏}‏ لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعو إليه أوامر الله تعالى، والوعد فيه حقيقة لا محالة‏.‏ والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏والله يعدكم‏}‏ على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله‏:‏ ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر‏}‏‏.‏
ومعنى «واسع» أنّه واسع الفضل، والوصف بالواسع مشتق من وَسِع المتعدي إذا عمّ بالعطاء ونحوه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏، وتقول العرب‏:‏ «لا يسعني أن أفعل كذا»، أي لا أجدُ فيه سعة، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قد وسع الناسَ بِشْرُه وخُلقُه ‏"‏‏.‏ فالمعنى هنا أنّه وَسِعَ الناس والعالمين بعطائِه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏269‏]‏
‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏
هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل‏.‏
فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء‏.‏ فالمعنى‏:‏ هذا من الحكمة التي آتاكم الله، فهو يؤتى الحكمة من يشاء، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏
قال الفخر‏:‏ «نبه على أنّ الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمان على وعد الشيطان هو أنّ وعد الرحمان ترجّحه الحكمة والعقل، ووعدَ الشيطان ترجّحه الشهوة والحسّ من حيث إنّهما يأمران بتحصيل اللذّة الحاضرة، ولا شك أنّ حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرّأ عن الزيغ، وحكم الحسّ والشهوة يوقع في البلاء والمحنة‏.‏ فتعقيب قوله‏:‏ ‏{‏والله يعدكم مغفرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 268‏]‏، بقوله‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة‏}‏ إشارة إلى أنّ ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة، وأنّ الحكمة كلّها من عطاء الله تعالى، وأنّ الله تعالى يعطيها من يشاء‏.‏
والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، فلذلك قيل‏:‏ نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين‏.‏ وهي مشتقة من الحُكْم وهو المنع لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أحكمت آياته‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حَكَمَة‏.‏
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير‏.‏ وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب‏.‏
والحكمة قسمت أقساماً مختلفةَ الموضوع اختلافاً باختلاف العصور والأقاليم‏.‏ ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين، وعند أهل الصين البوذيين، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت، وعند القبط في حكمة الكهنة‏.‏ ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهُذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين‏:‏ حكمة عملية، وحكمة نظرية‏.‏
فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس، وهي تنحصر في تهذيب النفس، وتهذيب العائلة، وتهذيب الأمة‏.‏
والأول علم الأخلاق، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان‏.‏
والثاني علم تدبير المنزل‏.‏
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية‏.‏
وأما الحكمَة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال، وهي ثلاثة علوم‏:‏
علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ‏.‏
فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنَبات والحيوان والإنسان، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم‏.‏
والرياضيّ الحساب والهندسة والهيأة والموسيقى، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة ‏(‏الماكينية‏)‏ وجرّ الأثقال‏.‏
وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام‏:‏ معاني الموجودات، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة، وإثبات واجب الوجود وصفاتِه، وإثبات الأرواح والمجرّدات، وإثبات الوحي والرسالة، وقد بَيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا‏.‏
فأمّا المتأخّرون من حكماء الغرب فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات‏.‏
والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول‏:‏
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة‏.‏
الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان، وهو علم الأخلاق‏.‏
الثالث تهذيب العائلة، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل‏.‏
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية‏.‏ ودعوةُ الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة‏.‏
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مراداً بها ما فيه صلاح النفوس، من النبوءة والهدى والإرشاد‏.‏ وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لجماع الآداب‏.‏‏.‏ وذكر الله تعالى في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12‏]‏ الآيات‏.‏ وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال، كما فعل زُهير في الأبيات التي أولها «رأيت المنايا خبط عشواء» والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته‏.‏ وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمْثاله، فكان العرب ينقلون منها أقوالاً‏.‏ وفي «صحيح البخاري» في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حُصين قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخياء لا يأتي إلاّ بخير، فقال بُشير بن كعب العدوي‏:‏ مَكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقاراً وإنّ من الحياء سكينة، فقال له عمران‏:‏ أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن صحيفتك ‏"‏‏.‏
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته‏.‏
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول‏.‏ وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات‏.‏ بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا، وميّزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاماً عظيمة وأبقوا كثيراً‏.‏ وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية‏.‏ والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية‏.‏ وعنهما أخذ أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم، وسُمّيت أتباعه بالمشَّائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا‏.‏
‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة‏.‏ والخيرُ الكثير منجّر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي‏.‏ وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجّرا من المعارف والعلم بالحقائق، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعاً في البؤس والشقاء‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ومن يؤت‏}‏ بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب، على أنّ ضمير يؤت نائبُ فاعل عائد على من الموصولة وهو رَابطُ الصلة بالموصول‏.‏ وقرأ يعقوب ومن يؤتتِ الحكمة بكسر المثناة الفوقية بصيغة البناء للفاعل‏.‏ فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائِداً إلى الله تعالى، وحينئذ فالعائِد ضمير نصب محذوف والتقدير‏:‏ ومن يؤته اللَّهُ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏ تذييل للتنبيه على أنّ من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللّب‏.‏ وأنّ تذّكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللّب وقوته واللّب في الأصل خلاصة الشيء وقلبُه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنّه أنفع شيء فيه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏270‏]‏
‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏‏}‏
تذييل للكلام السابق المسوققِ للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولَة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً‏.‏
والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء‏.‏ وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين، وأكرِم بها مزيةً، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت‏.‏ وهي أول من كسا الكعبة الديباج‏.‏ وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال أوْففِ بنذرك ‏"‏‏.‏
وفي الأمم السالفة كان النذر، وقد حكى الله عن امرأة عمران ‏{‏إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏‏.‏ والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً، لأنّ الآية أطلقت، ولأنّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏ مراد به الوعد بالثواب‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل ‏"‏‏.‏ ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر‏.‏ وقد مدح الله عباده فقال‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وفي «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه ‏"‏‏.‏
و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من نفقة‏}‏ و‏{‏من نذر‏}‏ بيان لما أنفقتم ونذرتم، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري ‏(‏مِنْ‏)‏ من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموممِ ما أفادته ما الشرطيةُ من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت، قال التفتازاني‏:‏ «مِثْل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص»‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏ كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون، فأريد لازم معناه، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء‏.‏
‏{‏وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ‏}‏‏.‏
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة‏.‏
والأنصار جمع نصير، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق، ويقسي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهية من الناس‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏271‏]‏
‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏
استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 270‏]‏، إذ أشعر تعميمُ «مِن نفقة» بحال الصدقات الخفيّة فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يُعد رِياءً وقد سمع قبل ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، ولأنّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 270‏]‏ قد كان قولاً فصلاً في اعتبار نيَّات المتصدّقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم‏.‏ فهذا الاستئناف يدفع توهّماً من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بُدّاً من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء‏.‏
والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏الصدقات‏}‏ تعريف الجنس، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضِها ونفلها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقاتتِ‏.‏
وجاء الشرط بإنْ في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مُرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله‏:‏ ‏{‏فهو خير لكم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فنعما‏}‏ أصله فنعمَ مَا، فأدغم المِثلان وكسرت عَيْن نِعْم لأجل التقاء الساكنين، وما في مثله نكرة تامة أي متوغّلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصّصها، فتمامُها من حيث عدم إتباعها بوصف لا من حيث إنّها واضحة المعنى، ولذلك تفسّر بشيء‏.‏ ولما كانت كذلك تعيّن أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إنّ المتكلم إذا ميّز لا يميّز إلاّ بمثللِ المميَّز‏.‏
وقوله ‏{‏هِي‏}‏ مخصوص بالمدح، أي الصدقاتُ، وقد علم السامع أنّها الصدقات المُبْدَأة، بقرينة فعل الشرط، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤهما‏.‏
وقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا بكسر العين وتشديد الميم من نِعم مع ميم ما‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين‏.‏ وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون‏.‏ وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم، ورويت هذه أيضاً عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ تفضيل لصدقة السرّ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي‏.‏ وفي الحديث الصحيح، عَد من السبعة الذين يظلّهم الله بظلّه ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ ورجلٌ تصدّقَ بصدقة فأخفاها حتى لا تَعلمَ شِماله ما أنْفَقَت يَمينه ‏"‏ ‏(‏يعني مع شدّة القرب بين اليمين والشمال؛ لأنّ حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين‏)‏‏.‏
وقد فضّل الله في هذه الآية صدقة السرّ على صدقة العلانية على الإطلاق، فإن حُملت الصدقات على العموم كما هو الظاهر إجراءً للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاّحِقة كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل، وهو قول جمهور العلماء، وعن الكِيَا الطَّبَري أنّ هذا أحد قول الشافعي‏.‏
وعن المهدوي‏:‏ كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماءُ إظهار صدقة الفرض، قال ابن عطية‏:‏ وهذا مخالف للآثار أنّ إخفاء الصدقة أفضل‏.‏ فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصاً بصدقة التطوّع، ومخصّص العموم الإجماعُ، وحكى ابن العربي الإجماع عليه‏.‏ وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخصّ من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها، وكان تفضيل الإخفاء مختصاً بالصدقات المندوبة‏.‏ وقال ابن عباس والحسن‏:‏ إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وتؤتوها الفقراء‏}‏، توقّف المفسّرون في حكمة ذكره، مع العلم بأنّ الصدقة لا تكون إلاّ للفقراء، وأنّ الصدقة المُبْدَاة أيضاً تعطي للفقراء‏.‏
فقال العصام‏:‏ «كأنّ نكتة ذكره هنا أنّ الإبداء لا ينفكّ عن إيتاء الفقراء؛ لأنّ الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله، بخلاف الإخفاء، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثّاً على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة» ‏(‏أي لأنّ الحرِيصينَ من غير الفقراء يستحيون أن يتعرّضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدّهم شيء عن التعرّض للصدقات الخفيّة‏)‏‏.‏
وقال الخفاجي‏:‏ «لم يذكر الفقراء مع المُبْدَاةِ لأنّه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراءُ وغيرهم، وأما الصدقة المخفَاةُ فهي صدقة التطوّع ومصارفها الفقراء فقط»‏.‏ وهو ضعيف لوجهين‏:‏ أحدهما أنّه لا وجه لقصر الصدقة المبدَاةِ على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أنّ تفضيل الإخفاء هل يعمّ الفريضة أولاً، الثاني أنّ الصدقة المتطوّع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش‏.‏
وقال الشيخ ابن عاشور جدّي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطاً للخيرية في الآية مع العلم بأنّ الصدقة للفقراء يؤذن بأنّ الخيرية لإخْفَاءِ حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه ‏"‏ أي فهو إيماء إلى العلة وأنّها الإبقاء على ماء وجه الفقير، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏ قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة، وبجزم الراء عطفاءً على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم، فيكون التكفير معلّقاً على الإخفاء‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضاً وبرفع الراء على أنّه وعد على إعطاء الصدقات ظاهرةَ أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية على أنّ ضميره عائد إلى الله وبالرفع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏272‏]‏
‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏‏}‏
استئناف معترض به بين قوله ‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏}‏، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس‏:‏ منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمَنّ والأذى، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعَدهم الشيطان الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء‏.‏ وكان وجود هذه الفرق مما يَثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هُداهم ولكن عليه البلاغ‏.‏ فالهُدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النَّبِيء، ونظائر هذا في القرآن كثيرة‏.‏ فالضمير رَاجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنّه كان لأسماء ابنةِ أبي بكر أمٌّ كافرة وجَدٌّ كافر فأرادت أسماء عام عمرة القضية أن تواسيهما بمال، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهَى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ الآيات، أي هدى الكفّار إلى الإسلام، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة‏.‏
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب‏.‏ فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئاً عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سببَ السبب لنزول هذه الآية‏.‏
والمعنى أنْ ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسّر للهُدى‏.‏
والخطاب في ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم‏.‏ ويجوز أن يكون خطاباً لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك‏.‏
و ‏(‏على‏)‏ في قوله ‏{‏عليك‏}‏ للاستعلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب‏.‏ والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء‏.‏
وتقديم الظرف وهو ‏{‏عليك‏}‏ على المسند إليه وهو ‏{‏هُداهم‏}‏ إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بيّناً لا غبار عليه نحو ‏{‏لكم دينكم ولي ديني‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت عليها ما اكتسبت‏}‏
‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيداً للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها‏.‏ فإذا دخل عليها النفي كان مقتضياً نفي النسبة المقيّدة، أي نفي ذلك الانحصارِ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد‏.‏ لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو ‏{‏لا فيها غَوْل‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏، فقد مثل به في «الكشاف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فقال‏:‏ «قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا»، وقال السيد في شرحه هنالك «عُدّ قصراً للموصوف على الصفة، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور»‏.‏ وقد أحلتُ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ على هذه الآية هنا، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيداً لفظياً بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو ‏{‏لا فيها غول‏}‏ يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة‏.‏ وإلى هذا أشار السيّد في شرح «الكشاف» عند قوله ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ إذ قال «وبالجملة يجعل حرف النفي جزءاً أو حرفاً من حروف المسند أو المسند إليه»‏.‏ / وعلى هذا بنى صاحب «الكشاف» فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ كما قدم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏لا فيها غول‏}‏ لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتاباً آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد‏.‏
فإذا تقرر هذا فقوله‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني‏.‏ فالوجه‏:‏ إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري‏:‏
ما فيه من عيب سوى أنّه *** يوم النَّدى قِسمته ضيزى
بنفي كون هداهم حقاً على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضاً إلى الله فمن قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏‏.‏ وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله، فيلزم من ذلك أنّه على الله، أي مفوّض إليه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة، أعْني ‏{‏من يشاء‏}‏؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه‏.‏ والتقدير‏:‏ ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء أن يهديهم هداهم‏.‏
‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاَِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يُكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏}‏ جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلممٍ وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتمَلين في الآية التي قبلها‏.‏ ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلاّ ابتغاء وجه الله‏.‏ وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة وما تنفقوا من خير يوف إليكم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏ عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه‏.‏ وكُرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلاّ لابتغاء وجه الله‏.‏
وتقديم ‏{‏وأنتم‏}‏ على الخَبَر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم لا يُظلَمون، وإنّما يَظْلمون أنفسهم‏.‏
وإنما جعلت هاته الأحكام جملاً مستقلاً بعضُها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيَّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريراً للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني، فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال‏.‏
وقد أخذ من الآيات الأخيرة على أحد التفسيرين جواز الصدقة على الكفّار، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران‏.‏ واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان، ففي الحديث الصحيح‏:‏ قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجراً‏.‏
فقال‏:‏ «في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ»‏.‏
واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة أعني الزكاة لا تعطى للكفّار، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أوَد المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة، ففيه غنَى المسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة‏.‏ واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر‏.‏ ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشْبَه، فإنّ العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقةَ شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدِّق لا حال المتصدَّق عليه‏.‏ وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالاً منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏273‏]‏
‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏‏}‏
‏{‏للفقراء‏}‏ متعلّق بتنفقون الأخير، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة، فما من نفقة ذكرت آنفاً إلاّ وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضاً‏.‏
و ‏{‏الذين أحصروا‏}‏ أي حبسوا وأرصدوا‏.‏ ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد؛ فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمْنَى ففي للسبيبة والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد؛ وإن كانوا قوماً بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية؛ وإن كان المراد بهم أهل الصفة، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عِيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فسبيل الله هو الجهاد‏.‏ ومعنى «أحصروا» على هذا الوجه أرصدوا‏.‏ و‏(‏في‏)‏ باقية على التعليل‏.‏
والظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون ضرباً‏}‏ أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته‏.‏
وجملة ‏{‏لا يستطيعون ضرباً‏}‏ يجوز أن تكون حالاً، وأن تكون بياناً لجملة أحصروا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء‏}‏ حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان‏.‏
والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق‏.‏ وفي «البخاري» باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد‏:‏ أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفِدَ ما عنده فقال‏:‏ ‏"‏ ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يُعِفّه الله، ومن يستغننِ يُغْنِه الله، ومن يتصبّر يصبِّره الله ‏"‏‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسِبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين، وهما لغتان‏.‏
ومعنى ‏{‏تعرفهم بسماهم‏}‏ أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيَّن ليعم كلّ مخاطب، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم‏.‏ والمخاطب بتَعْرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء‏}‏‏.‏
والجملة بيان لجملة ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء‏}‏، كأنّه قيل‏:‏ فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّاً، وكيف يُطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 75‏]‏‏.‏
والسيما العلامة، مشتقة من سَام الذي هو مقلوب وَسَم، فأصلها وِسْمَى، فوزنها عِفْلَى، وهي في الصورة فِعْلى، يدل لذلك قولهم سِمَة؛ فإنّ أصلها وِسْمَة‏.‏
ويقولون سِيمى بالقصر وسِيماء بالمد وسِيميَاء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد، ويقولون سَوّم إذا جَعَل سِمة‏.‏ وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها‏.‏ ولم يسمع من كلامهم فِعْل مجردٌ من سوّم المقلوب، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سَوّم فرسه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بياناً ثانياً، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس‏.‏ وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضرباً في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام‏.‏
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئاً من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء‏.‏
والإلحاف الإلحاح في المسألة‏.‏ ونُصب على أنّه مفعول مطلق مُبيّن للنوع، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير يسألون بتأويل مُلحفين‏.‏ وأيَّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم مُلحفون وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم مع أنّ قوله‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏}‏ يدل على أنّهم لا يسألون أصلاً، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفيُ الإلحاف معاً كقول امرئ القيس‏:‏
عَلَى لاَحِببٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *** يُريد نفي المنار والاهتداء، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يُحسبون أغنياء من التعفّف، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيععٍ يُطاعُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ أي لا شفيع أصلاً، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة، فأنتج لا شفيع يطاع، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعاً من أنواع الكناية، وقال التفتازاني‏:‏ «إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللاّحب أن يكون له مَنار، وشأنَ الشفيع أن يُطاع، فيكون نفي اللازم نفياً للملزوم بطريق برهاني، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك، بل لا يبعد أن يكون ضدُّ الإلحاف وهو الرفق والتلطّف أشبه باللازم» ‏(‏أي أن يكون المنفي مُطرّد اللزوم للمنفي عنه‏)‏‏.‏ وجوّز صاحب «الكشاف» أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في «الكشاف» ثانياً وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون، وتعين أنّ قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ تعريض بالملحفين في السؤال، أي زيادة فائدة في عدم السؤال‏.‏
‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله به عليم‏}‏ كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيراً، فلما كان الإنفاق مرغّباً فيه من الله، وكان عِلم الله بذلك معروفاً للمسلمين، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليماً به، لأنّه قدير عليه‏.‏ وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق، وصلة بينه وبين ربّه، ونوال الجزاء من الله، وأنّه ثابت له في علم الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏274‏]‏
‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏
جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خُصّص الكلام بالإنفاق للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، فاسم الموصول مبتدأ، وجملة ‏{‏فلهم أجرهم‏}‏ خبر المبتدأ‏.‏
وأَدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملاً على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ وهي ينفقون صَحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلاّ لذلك‏.‏ والسرّ‏:‏ الخفاء‏.‏ والعلانية‏:‏ الجهر والظهور‏.‏ وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 270‏]‏ إذ هو تهديد لمانعِي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلاّ ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه‏.‏
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله‏:‏ ‏{‏فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏‏.‏
ورُفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا بيع فيه ولا خلة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏، ومنه ما في حديث أم زرع‏:‏ «لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ»‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏275‏]‏
‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏‏}‏
نَظَم القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات‏.‏ فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة، فأطنب في الحثّ عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين، يقولون‏:‏ إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي‏.‏ وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء‏.‏ والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر، وربّما تسامح بعضهم في ذلك‏.‏ وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجّة الوداع ‏"‏ ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب ‏"‏‏.‏
وجملة ‏{‏الذين يأكلون الربوا‏}‏ استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يقومون‏}‏ إلى آخره‏.‏
والأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا‏:‏ أكل مال الناس ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏ألا تأكلوا أموالكم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 91، 92‏]‏، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن ‏{‏فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏
والربا‏:‏ اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في «الصحاح» وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يربو عند الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏اهتَزّتْ ورَبَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ‏.‏ وكتب بالألف، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج‏:‏ ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون ‏{‏وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏ بفتحة على الواو ‏{‏في أموال الناس‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏ يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة‏.‏
وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفاً، فقال صاحب «الكشاف»‏:‏ كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو، والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف‏.‏
وقال المبرّد‏:‏ كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا‏:‏ رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع‏.‏
والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء‏.‏ وقال صاحب «الكشاف»‏:‏ وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع‏.‏ وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو‏.‏
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم‏.‏ أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏130‏)‏، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا‏.‏
وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم ‏(‏39‏)‏‏:‏ وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه‏:‏ الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏‏.‏
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم، وتعريضاً بتخويف المسلمين، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر‏.‏ وقد قال ابن عباس‏:‏ كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يحب كلّ كفّار أثيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏‏.‏
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال‏:‏
‏{‏يأيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ الآيات، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار‏:‏ إنّما البيع مثل الربا‏.‏ فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه‏.‏
والربا يقع على وجهين‏:‏ أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا يقومون‏}‏ حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب‏.‏ فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى‏:‏ لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً‏.‏ فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا‏}‏، وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة‏.‏
والتخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكاً شديداً، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق‏.‏ ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا‏:‏ اضطَرّه إلى كذا‏.‏ فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً، أي متحرّكاً على غير اتّساق‏.‏
والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع‏.‏ فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها، وقد عُرِف ذلك عندهم‏.‏ قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلاً كاملاً‏:‏
وتُصبح عن غِب السري وكأنّها *** ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ
والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها‏:‏ «المَسُّ مَس أرنب»، وهو إذا أطلق معرّفاً بدون عهدِ مسَ معروف دل عندهم على مسّ الجن، فيقولون‏:‏ رجل ممسوس أي مجنون، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة‏.‏
و ‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة‏.‏
وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي مثل قوله‏:‏ «طَلْعُها كأنّه رُؤوس الشياطين»، وقول امرئ القيس‏:‏
ومسنونةٌ زُرقٌ كأنياببِ أغوال *** إلاّ أنّ هذا أثره مشاهد وعلته مُتخيَّلة والآخران متخيَّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة‏.‏ وعندنا هو أيضاً مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المِرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلاّ أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية، فإنّ عوالم المجرّدات كالأرواح لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا‏}‏ الإشارة إلى ‏{‏كما يقوم‏}‏ لأنّ ما مصدرية، والباء سببية‏.‏
والمحكيّ عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا إنما البيع مثل الربوا‏}‏، إن كان قولاً لسانياً فالمراد به قول بعضهم أو قول دُعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حيننِ تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏قالوا‏}‏ مجازاً لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربوا‏}‏ قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال‏:‏ إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول‏:‏ ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه‏.‏
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربوا‏}‏ من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفراً ونفاقاً فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام‏.‏
وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذاك، وما ذلك إلاّ لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة‏.‏
واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين ‏{‏إنما البيع مثل الربوا‏}‏ أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله‏.‏
وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال‏:‏ «من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض‏.‏ ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة»‏.‏ ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة‏.‏
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح، وأما الذي دفع درهماً لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال‏:‏ إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير‏.‏
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصدِّيهِ للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها‏.‏
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل‏.‏ وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال‏.‏
فالتجارة معاملة بين غنيّين‏:‏ ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه، فالمتسلّف مظنّة الفقر، والمشتري مظنّة الغِنى، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات‏.‏ فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف‏.‏ فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف‏.‏ وكفى بهذا تفرقة بين الحالين‏.‏
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة‏:‏
أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه‏.‏
الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة‏.‏
الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض‏.‏
الرابع أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً، وفي المستقرض أن يكون فقيراً، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف‏.‏
وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ من سورة آل عمران ‏(‏130‏)‏‏.‏
هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه‏.‏
و ‏(‏أل‏)‏ في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها‏:‏ أحدهما يسمّى بيعاً والآخر يسمّى ربا‏.‏ أولهما مباح معتبر كونه حاجياً للأمة، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة‏.‏ وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليلُ سائر أفراده، وأنّه حرم الربا بجنسه كذلك‏.‏ ولما كان معنى أحل الله البيع‏}‏ أذِنَ فيه كان في قوة قضية موجَبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامَها في نحو الحمدُ لله، فبقي محتملاً شمول الحِلّ لسائر أفراد البيع‏.‏ ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية‏.‏
أما معنى قوله‏:‏ ‏{‏وحرم الربوا‏}‏ فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع، فكان مقتضياً استغراق جنس الربا بالصيغة؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالاً‏.‏
ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع‏.‏
فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة ‏"‏ إنّما الربا في النسيئة ‏"‏ ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر‏:‏ «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد»، يعني أنّه حمل ‏{‏أحل الله البيع‏}‏ على عمومه‏.‏
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال‏:‏ «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد‏:‏ ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً‏.‏
والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير‏.‏ وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان‏.‏ وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربوا‏}‏ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعمومَيْها‏:‏ عموم البيععِ وعموممِ الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام‏.‏ والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث‏:‏
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري‏:‏ «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْللٍ يداً بيد، فمن زاد وازداد فقد أربى، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء»‏.‏
الثاني حديث عبادة بن الصامت‏:‏ «الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد، فمن زاد واستزاد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود، فسمّاه في هذين الحديثين ربا‏.‏
الثالث حديث أبي سعيد‏:‏ أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ، فقال له‏:‏ من أين هذا فقال بلال‏:‏ تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّهْ عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا‏.‏
الرابع حديث «الموطأ» و«البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا ‏"‏ فقال‏:‏ «يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تَفْعَلْ، بع الجمعْ بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا ‏"‏‏.‏
الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري»‏:‏ قالت ‏"‏ لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر ‏"‏ فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد‏.‏
السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً، فقالت لها عائشة‏:‏ «بئسما شَرَيْتتِ وما اشتريتتِ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب»، قالت‏:‏ فقلت لها‏:‏ «أرأيتتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي» قالت‏:‏ «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية‏.‏
فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع‏:‏
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير‏.‏
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت‏.‏
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً‏.‏ وزاد المالكية نوعاً رابعاً‏:‏ وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية‏.‏ ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي‏.‏
وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة ‏"‏ إنّما الربا في النسيئة ‏"‏ ليجمع بين الحديثين، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغراق في الاحتياط، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد‏.‏
ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع‏.‏
وفي «تفسير القرطبي»‏:‏ كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال‏:‏ «سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين، من زاد وازداد فقد أربَى» فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال‏:‏ «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت‏:‏ «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية»‏.‏
والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى‏}‏ الآية تفريع على الوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يأكلون الربوا‏}‏‏.‏
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران‏.‏
والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق، وكأنّه مشتق من النُّهَى بضم النون وهو العقل‏.‏ ومعنى «فله ما سلف»، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض، بقرينة قوله الآتي
‏{‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 279‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأمره إلى الله‏}‏ فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى «من جاءه» وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود، وأنّ معنى ‏{‏وأمره إلى الله‏}‏ أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم‏.‏ فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏
وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربوا‏}‏، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته‏.‏ وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى‏}‏ والخلود طول المكث كقول لبيد‏:‏
فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا *** صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها
ومنه‏:‏ خلَّد الله مُلك فلان‏.‏
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها‏.‏ وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر‏.‏ ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏276‏]‏
‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏
استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقُّع سؤاللِ من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويربى الصدقات‏}‏ استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضاً ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان‏.‏
والمَحْق هو كالمَحْو‏:‏ بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار‏.‏ ومعنى ‏{‏يمحق الله الربا‏}‏ أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا، ‏{‏ويربي الصدقات‏}‏ أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلاّ بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ مَن تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيباً تلقاها الرحمان بيمينه وكِلْتَا يديه يمين فيُرْبيها له كما يُرْبِي أحدُكم فُلُوّه ‏"‏‏.‏ ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى‏:‏ يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏والله لا يحب كل كفار أثيم‏}‏ معترضة بين أحكام الربا‏.‏ ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك‏.‏
ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ ‏(‏كل‏)‏ من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً‏.‏ فإذا أضيفت ‏(‏كل‏)‏ إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على ‏(‏كل‏)‏ كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه، أو لم أدخل كلّ دار، أو كلّ دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم‏:‏
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي *** عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع
كما قال سيبويه‏:‏ إنّه لو نصب لكان أولى؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان‏.‏ ولا تخرج ‏(‏كل‏)‏ عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ‏(‏كل‏)‏ صريحاً أو تقديراً، كأنْ يقول أحد‏:‏ كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع، فتقول له‏:‏ ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل‏:‏ «ما كل بيضاء شَحْمة»، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي‏:‏
وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً *** وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ‏(‏كل‏)‏ إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع ‏(‏كل‏)‏ ونصبه في قوله «كلّه لم أصنع»‏.‏ وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي، وأنّه قد تخلّف في مواضع‏.‏ وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي «الإيجاز على دلائل الإعجاز» أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏277‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏‏}‏
جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريباً‏.‏ والمقصود التعريض بأنّ الصفات المقابلة لهاته الصفات صفتُ غير المؤمنين‏.‏ والمناسبة تزداد ظهوراً لقوله‏:‏ ‏{‏وأتوا الزكاة‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏278- 279‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏‏}‏
قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا‏}‏ إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه‏.‏ فإن كان قوله‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ من كلام الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم‏.‏
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها‏.‏ فهو كالأمرِ بطريق برهاني‏.‏
ومعنى ‏{‏وذروا ما بقي من الربوا‏}‏ الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله‏:‏ «فله ما سلف»، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه‏.‏
قيل نزلت هذه الآية خطاباً لثقيف أهل الطائف إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسَيْد الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شَرْطَهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطاباً لهم وكانوا حديثي عهد بإسلام فقالوا‏:‏ لا يَدَيْ لنا بحرب الله ورسوله‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ معناه إن كنتم مؤمنين حقاً، فلا ينافي قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا‏}‏ إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏}‏ يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله‏:‏ «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء»‏.‏ وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر‏.‏ فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا ما بقى من الربوا‏}‏؛ فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه‏.‏
ودلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض، ولذلك جاء قبلها «فله ما سلف» وجاء هنا ‏{‏وذروا ما بقي من الربوا‏}‏ إلى قوله ‏{‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏}‏‏.‏
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقالَ الضمان بالقبض، والفواتَ بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأنّ القيمة بدل من رأس المال‏.‏
ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث ‏"‏ رأس الأمر الإسلام ‏"‏‏.‏
ومعنى ‏{‏لا تظلِمون ولا تظلَمون‏}‏ لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فاذَنوا‏}‏ بهمزة وصل وفتح الذاللِ أمراً من أذِنَ، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف ‏{‏فآذِنوا‏}‏ بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏280‏]‏
‏{‏وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏‏}‏
عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فلكم رؤوس أموالكم‏}‏ لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة، إذ العقود قد فسخت‏.‏ فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب، والأصل حصول المشروط عند الشرط‏.‏ والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر‏.‏
وفي الآية حجة على أنّ ‏(‏ذُو‏)‏ تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً‏.‏
والنظِرة بكسر الظاء الانتظار‏.‏
والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم‏.‏
وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له‏.‏
والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب‏.‏ فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنّه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت‏.‏ وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب‏.‏ غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ‏.‏
ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه‏.‏ وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأن تصدقوا خير لكم‏}‏ أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف‏.‏
وقرأ الجمهور من العشرة ‏{‏تصدقوا‏}‏ بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏281‏]‏
‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏
جيء بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ تذييلاً لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تُطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح‏.‏
وفي «البخاري» عن ابن عباس أنّ هذه آخر آية نزلت‏.‏ وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل‏:‏ «يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة»‏.‏ وهذا الذي عليه الجمهور، قاله ابن عباس والسُّدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل‏.‏ وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً، وقيل واحداً وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل تسعة، وقيل ثلاث ساعات‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ آخر آية هي آية الكلالة، وقيل غير ذلك، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان‏.‏
وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان‏.‏ وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل‏.‏
والجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرمَاء أهل الربا‏.‏
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله، فشرّع الله تعالى للناس بَقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه‏.‏ وأفاد ذلك التشريعَ بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد‏.‏
والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله‏.‏ فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى‏.‏ فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى‏:‏ «واللَّهُ على ما نَقول وكيل»، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك‏.‏
والتداين تفاعل، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين‏.‏ ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد‏.‏
وزيادة قيد ‏{‏بدين‏}‏ إما لِمجرد الإطناب، كما يقولون رأيتُه بعيني ولمَسته بيدي، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدّين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنّه أبين لتنويع الدين إلى مؤجّل وحالّ، قاله في «الكشاف»‏.‏
وقال الطيبي عن صاحب الفرائد‏:‏ يمكن أن يظنّ استعمال التداين مجازاً في الوعد كقول رؤبة‏:‏
داينتُ أرْوَى والديونُ تُقضَى *** فمطَلَتْ بعضاً وأدّت بعضاً
فذكر قوله «بدين» دفعاً لتوهم المجاز‏.‏ والدين في كلام العرب العوض المؤخّر قال شاعرهم‏:‏
وعدَتْنَا بدرهمَيْنَا طِلاء *** وشِواءً معجّلا غيرَ دَيْن
وقوله‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ طلب تعيين الآجال للديون لئلاّ يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل‏.‏
والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها‏.‏
والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل‏.‏ ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏‏.‏
والمُسمّى حقيقته المميّز باسم يميّزه عمّا يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمّى هنا مستعار للمعيّن المحدود، وإنّما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلاّ بذلك، فأطق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى‏.‏ فالمعنى أجل معيّن بنهايته‏.‏ والدين لا يكون إلاّ إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، هو وصف أجللٍ بمسمّى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بدين إلى أجل مسمى‏}‏ يعمّ كل دين‏:‏ من قرض أو من بيع أو غير ذلك‏.‏ وعن ابن عباس أنّها نزلت في السلَم يعني بيعَ الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجللٍ وكان السلَم من معاملات أهل المدينة‏.‏ ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم‏.‏
والأمر في «فاكتبوه» قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالككٍ وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ تكميلاً لمعنى الاستحباب‏.‏ وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبَري‏.‏ ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخاً‏.‏
والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة‏.‏ والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات، وأنّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يَعُد المدينُ ذلك من سوء الظنّ به، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين‏.‏
وقال ابن عطية‏:‏ «الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنّما هو ندب للاحتياط»‏.‏
وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع‏.‏
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ يشمل حالتين‏:‏
الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسناننِ الكتابة معاً، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر‏.‏
والثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما‏.‏ فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية‏.‏ فكانت الأميّة بينهم فاشية، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحِيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلاً من مكة والمدينة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل‏}‏ أمر للمتداينِين بأن يوسّطوا كاتباً يكتب بينهم لأنّ غالب حالهم جهل الكتابة‏.‏
فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب‏.‏ والعرب تعمد إلى المقصود فتنزّله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدُك مهذّباً، وفي النهي لا تنس ما أوصيتُك، ولا أعرِفَنَّك تفعلُ كذا‏.‏
فمتعلِّق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏ أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي‏:‏ ‏{‏فليملل وليه بالعدل‏}‏‏.‏
ولذلك قصر المفسرون قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب، ولتعقيبه بقوله‏:‏ وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه‏.‏
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب‏}‏ نهي لمن تطْلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دُعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل‏}‏ لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجّهاً للمتداينين‏.‏ وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعي لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع‏.‏ وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إنّما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلاّ كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالؤوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل‏:‏ إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدَهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفاً‏.‏
وقيل‏:‏ إنّما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السُّدي‏.‏ وقيل‏:‏ هو منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يضارّ كاتب ولا شهيد‏}‏ وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر لأنّ الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلاّ في أحوال نادرة كبُعد مكان المتداينين من مكان الكاتب‏.‏ وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنّه منسوخ بقوله تعالى بعد هذا ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ وسيأتي لنا إبطال ذلك‏.‏
وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنّها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلاّ فالأجر جائز‏.‏
ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثّق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يضارّ كاتب ولا شهيد‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كما علمه الله‏}‏ أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله‏:‏ ‏{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة‏.‏
ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ واستفتتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس ‏"‏‏.‏
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضضِ بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب علمها، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحسن كما أحسن الله إليك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب، و‏(‏ما‏)‏ على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏أن يكتب‏}‏، وجوّز صاحب «الكشاف» تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فليكتب‏}‏ تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب‏}‏، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏، فهو يفيد تأكيدَ الأمر وتأكيدَ النهي أيضاً، وإنّما أعيد ليُرتَّب عليه قولُه‏:‏ ‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏}‏ لبعد الأمر الأول بما وَلِيَه، ومثله قوله تعالى‏:‏
‏{‏اتخذوه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً جسداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وليُملل الذي عليه الحق‏}‏ أمَلّ وأمْلَى لغتان‏:‏ فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فهي تملي عليه بكرة وأصيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض‏.‏
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في «اللِّسَان» و«القاموس»‏.‏ وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان ‏(‏5‏)‏‏:‏ ‏{‏فهي تملى عليه بكرة وأصيلا‏}‏ تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان‏.‏ فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلاممٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن‏.‏
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة‏.‏
والضميران في قوله‏:‏ وليتق‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يبخس منه‏}‏ يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئاً حينَ الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن‏.‏ وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يعود الضميران إلى ‏{‏كاتب‏}‏ بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقاً بالكاتب؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه‏.‏
والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين، فإذا بخس منه شيئاً أضرّ بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع‏.‏
والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص، فهو نقص بإخفاء‏.‏ وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف‏:‏ «البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه» أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏}‏
‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً‏}‏ السفيه هو مختلّ العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏‏.‏
والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله ذرية ضعفاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 266‏]‏‏.‏
والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعاً‏.‏
ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏فليملل‏}‏ لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة‏.‏ والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن‏:‏ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم» وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ‏.‏
ومعنى ‏{‏بالعدل‏}‏ أي بالحق‏.‏ وهذا دليل على أنّ إقرار الوصي والمقدّم في حق المولّى عليه ماضضٍ إذا ظهر سببه، وإنّما لم يعمل به المتأخّرون من الفقهاء سدّاً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء‏.‏
‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى‏}‏‏.‏
عطف على ‏{‏فاكتبوه‏}‏، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو‏.‏ فالمأمور به المتداينون شيآن‏:‏ الكتابة، والإشهاد عليها‏.‏ والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان‏.‏ ومن أجل ذلك سمّاها الفقهاء ذُكْر الحق، وتسمّى عَقداً قال الحارث بن حلزة‏:‏
حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏، فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏ولم تجدوا كاتباً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين‏.‏ وإنّما جعَل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة‏.‏
‏{‏واستشهدوا‏}‏ بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏ تكليفاً لمن يَطلب منه صاحبُ الحق أن يَشهد عليهما ألاّ يمتنع‏.‏
والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضورٍ لمشاهدة تعاقدٍ بين متعاقدَيْن أو لسماععِ عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحُبس‏.‏ وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وجَعَل المأمورَ به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله‏.‏
ولهذا أمَرَ المستشهَدَ بفتح الهاء بعد ذلك بالامتثال فقال‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا‏}‏‏.‏
والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين‏:‏ مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من رجالكم‏}‏ أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان‏:‏ أنّهم رجال، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير‏.‏
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا‏.‏
وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم‏.‏
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام‏.‏ فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي‏.‏ فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها‏.‏ وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا‏:‏ «ليس علينا في الأمّيين سبيل»‏.‏ وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة‏.‏ على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم‏.‏
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة «ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل»‏.‏ وفي «البخاري»، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز‏.‏ وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري‏:‏ أنّ نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه، فقال لهم‏:‏ ‏"‏ تأتون بالبيّنة على من قتله ‏"‏ قالوا‏:‏ «ما لنا بيّنة»، قال‏:‏ ‏"‏ فتحلف لكم يهودُ خمسين يميناً ‏"‏ قالوا‏:‏ «ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون»، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة‏.‏
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود‏:‏ إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون‏.‏
فإن قلت‏:‏ كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار، قلت‏:‏ اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتْها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها‏.‏
ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكُوفة، وهو قول أحمدَ وسفيانَ الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور‏:‏ لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالَفه الجمهور، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً‏.‏
وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البَتِّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد‏:‏ المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألاّ يرد مُطلقاً إلاّ مراداً به الأحرار، يقولون‏:‏ رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي‏:‏
يا رَبَّةَ البيتتِ قُومي غيرَ صاغِرة *** ضُمي إليككِ رِجَالَ الحَيِّ والغُرَبا
وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المُجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً؛ ولأنّهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلُول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لِهذا التعليل‏.‏
واشتُرط العددُ في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة، وزِيد انضمام ثاننٍ إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور‏.‏ فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن، ولهذا لو روَى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لَمَا قُبلت روايتُه، وقد كلف عُمَرُ أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على أنّ رسول الله قال‏:‏ «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع» إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذنْ له عُمَر في الثالثة رجَع، فشهد له أبو سعيد الخدْري في ملإ من الأنصار‏.‏
والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن لم يكونا رجلين‏}‏ أي لم يكن الشاهدَاننِ رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد، فرجل وامرأتان يشهدان‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فرجل وامرأتان‏}‏ جواب الشرط، وهو جزء جملة حُذف خبرها لأنّ المقدر أنسب بالخبرية ودليل المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ وقد فهم المحذوف فكيفما قدّرْتَه ساغ لك‏.‏
وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين‏.‏ وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسياننِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أن تضل‏}‏ قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله‏.‏ واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب ‏{‏فتذكّر‏}‏ عطفاً على ‏{‏أن تضلّ‏}‏، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏
ولما كان «أن تضلّ» في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 266‏]‏، ونظيره كما في «الكشاف» أن تقول‏:‏ أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه‏.‏ وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال‏:‏ أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها‏.‏ ووجَّهه صاحب «الكشاف» بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله‏.‏
وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة‏:‏ أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة‏.‏ ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به «الكشاف»، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره‏.‏
والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك‏:‏ فعلت كذا إكراماً لك، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه‏.‏ فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين‏.‏ لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب «الكشاف»‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله أحداهما المظهر فاعلاً أو مفعولاً به، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولاً، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى‏.‏ وهو موجود في الآية كما لا يخفى‏.‏
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون، قال التفتازاني في «شرح الكشاف»‏:‏ «ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال‏:‏ فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة»‏.‏ وقال العصام في «حاشية البيضاوي» «نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار ‏(‏أي لعدم تقدم إمعاد‏)‏ ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما ‏(‏أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفاً إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور‏)‏ فأبدل بإحداهما ‏(‏أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما‏)‏ ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه، ‏{‏أن تضلّ إحداهما‏}‏ يعني فهذا وجه الإظهار‏.‏
وقال الخفاجي في «حاشية التفسير» «قالوا‏:‏ إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم» يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة‏.‏
وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال‏:‏
يا رأس أهل العلوم السادةِ البرره *** ومَن نداه على كل الورى نَشَره
ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُها *** في آية لذوي الأشهاد في البقره
وظاهر الحال إيجاز الضمير على *** تكرار إحداهما لو أنّه ذكره
وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في *** أولاهما ليس مرضياً لدى المهره
فغُص بفكرك لاستخراج جوهره *** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
فأجاب الغزنوي‏:‏
يا من فوائده بالعلم منتشره *** ومَن فضائله في الكون مشتهره
تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل *** كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا *** تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما *** أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به *** واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره
وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مراداً به إحدى الشهادتين، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين‏.‏ ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزّه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله‏:‏ «ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ»‏.‏
والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل‏.‏ وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى‏.‏ فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله‏:‏ ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها‏.‏
‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏‏.‏
عُطف ‏{‏ولا يأب‏}‏ على ‏{‏واستشهدوا شهيدين‏}‏ لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد‏.‏
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط‏.‏ فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضدّه‏.‏
وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريببِ، وهو المشارفة، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة‏:‏ وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعيّنت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء‏.‏
وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله ‏{‏واستشهدوا شهيدين‏}‏ أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معاً؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد‏:‏ إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله‏:‏ ‏{‏الشهداء‏}‏ لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا
‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء‏.‏
والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل ‏{‏دعوا‏}‏ لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد‏:‏ من تحمّل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البيّنة‏.‏ قال ابن الحاجب‏:‏ «والتحمّل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين إن كانا اثنين فرضُ عين، ولا تحِلُّ إحالته على اليمين»‏.‏
والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب‏}‏ ويظهر أنّ التحمّل يتعيّن بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلاّ لِضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلاّ إذا تعيَّن عليه‏:‏ بأن لا يوجد بَدَلُه، وإنّما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان‏:‏ بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعِلْمِه بأنّه تقبل شهادته، وطلب المدّعي‏.‏ وفي هذه التعليقات ردّ بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه‏.‏
قال القرطبي‏:‏ «يؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلاّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها»‏.‏ قلت‏:‏ وقد أحسن‏.‏ قضاة تونس المتقدّمون، وأمراؤها، في تعيين شهود مُنتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممّن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من حسن النظر للأمة، ولم يكن ذلك متّبعاً في بلاد المشرق، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكَتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازِل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان ممّا يعدّ في ترجمة بعض العلماء أن يقال‏:‏ كان مقبولاً عند القاضي فلان‏.‏
‏{‏وَلاَ تسھموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ‏}‏‏.‏
تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل‏.‏ والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا‏.‏ والسآمة‏:‏ الملل من تكرير فعللٍ مَّا‏.‏
والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب‏:‏ لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب‏.‏
والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون‏.‏
وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كانَ مع اسمها‏.‏ وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير‏.‏
وجملة ‏{‏إلى أجله‏}‏ حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه، والمراد التغيية في الكتابة‏.‏
‏{‏ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا‏}‏‏.‏
تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة‏:‏ بأنّ الكتابة فيها زيادة التوثّق، وهو أقسط أي أشدّ قسطاً، أي عدلاً، لأنّه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أنّ المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بيّنة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهّمات‏.‏ واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنّه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد‏.‏
وفي الآية حجّة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعدّدة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه‏.‏
واشتقاق ‏{‏أقْسَطُ‏}‏ من أقْسَطَ بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قَسَط لأنّه بمعنى جَار، وكذا اشتقاق ‏{‏أقْوَمُ‏}‏ من أقام الشهادةَ إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجّب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفْرط‏.‏ وجوّز صاحب «الكشّاف» أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغةِ نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل‏.‏ واستشكل أيضاً بأنّ صوغه من الجامد أشدّ من صوغه من الرباعي‏.‏ والجواب عندي أنّ النسبَ هنا لما كان إلى المصدر شابَه المشتق‏:‏ إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محوّل إلى وزن فَعُلَ بضم العين الدال على السجيّة، الذي يجيء منه قويم صفة مشبّهة‏.‏
‏{‏إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا‏}‏‏.‏
استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله‏:‏ ‏{‏صغيراً أو كبيراً‏}‏‏.‏ وهو استثناء؛ قيل منقطع، لأنّ التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء، والتقدير‏:‏ إلاّ كونَ تجارةٍ حاضرة‏.‏
والحاضرة الناجزة، التي لا تأخير فيها، إذ الحاضر، والعاجل، والناجز‏:‏ مترادفة‏.‏ والدين، والأجل، والنّسيئة‏:‏ مترادفة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏تديرونها بينكم‏}‏ بيان لجملةِ ‏{‏أن تكون تجارة حاضرة‏}‏ بل البيان في مثل هذا، أقرب منه في قول الشاعر ممّا أنشده ابن الأعرابي في نوادره، وقال العيني‏:‏ ينسب إلى الفرزدق‏:‏
إلى الله أشكُو بالمدينةِ حاجة *** وبالشَّام أخرى كيفَ يلتقيان
إذ جعل صاحب «الكشاف» كيفَ يلتقيان بياناً لحاجةٍ وأخرى، أو تجعل ‏{‏تديرونها‏}‏ صفة ثانية لتجارة في معنى البيان، ولعلّ فائدة ذكره الإيماءُ إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة، لأنّ إدارتها أغنت عن الكتابة‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء متّصل، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجّلة إلى أجل قريب، فهي من جملة الديون، رخص فيها ترك الكتابة بها، وهذا بعيد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح ألا تكتبوها‏}‏ تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله‏:‏ ‏{‏جُناح‏}‏ من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم رخصة، لأنّ رفع الجناح مؤذن بأنّ الكتابة أولى وأحسن‏.‏
وقرأ الجمهور تجارةٌ بالرفع‏:‏ على أنّ تكونَ تامة، وقرأه عاصم بالنصب‏:‏ على أنّ تكونَ ناقصة، وأنّ في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان، أي إلاّ أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرة، كما في قول عَمّرو بن شاس-أنشده سيبويه-‏:‏
بنِي أسد هل تعلمون بلاءَنَا *** إذَا كان يوماً ذَا كَوَاكِبَ أشْنَعا
تقديره إذا كان اليومُ يوماً ذا كواكب، وقوله‏:‏ ‏{‏ألا‏}‏ أصله أن لا فرسم مدغماً‏.‏
‏{‏وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏‏.‏
تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غيرَ تجارة حاضرة، وهذا إكمال لصور المعاملة‏:‏ فإنّها إمّا تداين، أو آيل إليه كالبيع بدين، وإمّا تناجز في تجارة، وإمّا تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بتبايعتم التجارة، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة، وهذا بعيد جداً، لأنّ الكتابة ما شُرعت إلاّ لأجل الإشهاد والتوثّق‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا‏}‏ أمر‏:‏ قيل هو للوجوب، وهذا قول أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد الخُدْري، وسعيد بن المسيّب، ومجاهد، والضحّاك، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، وجابر بن زيد، وداوود الظاهري، والطبري‏.‏ وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيع عبد باعه للعَدّاء بن خالد بن هوذة، وكتَب في ذلك «باسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داءَ ولا غائلة ولا خِبثة بيعَ المُسلم للمُسلم» وقيل‏:‏ هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن، والشعبي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وتمسّكوا بالسنّة‏:‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يُشهد، قاله ابن العربي، وجوابه‏:‏ أنّ ذلك في مواضع الائتمان، وسيجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب ورَدُّنا له عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏‏.‏
‏{‏وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏‏.‏
نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار‏:‏ لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين، ليكون الكلام موجّهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز‏.‏
والمضارّة‏:‏ إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحَرج والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدان أحدَ المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة‏.‏ وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرّع عن الإضرار‏:‏ منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقاللِ من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم‏}‏ حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم، لأنّه الإضرارُ المستفاد من لا يضارّ مثلُ «اعدلوا هو أقرب» والفسوق‏:‏ الإثم العظيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏
‏{‏واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويعلمكم الله‏}‏ تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل‏:‏ إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم‏.‏ وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث‏:‏ لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي‏:‏
اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ *** واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا
واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به *** لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبدا
فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها، ومَا ولدته، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها‏.‏ هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل‏.‏ وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في «دلائل الإعجاز»، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل‏:‏ «ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال‏:‏ كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها‏:‏
أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد *** على ما مضى أم حسْرة تتجدّد
وقال لي‏:‏ تأمّلها، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله‏:‏
بجَهْللٍ كجهل السيففِ والسيفُ منتضًى *** وحِلْممٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ
فقلت‏:‏ لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت‏؟‏ فقال‏:‏ لعلّ القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّاً من تركه؛ فقال‏:‏ إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات، قال الصاحب‏:‏ لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر‏:‏ والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب‏:‏ إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلته وبالحق نزل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد، الله الصمد‏}‏ ‏[‏الصمد‏:‏ 1، 2‏]‏ عَمَل لولاه لم يكن‏.‏
وقال الراغب‏:‏ قد استكرهوا التكرير في قوله‏:‏
فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى ***
حتى قيل‏:‏ لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى، ثم قال‏:‏ إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد‏:‏
لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه *** بمَفرِققِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا
«كان الواجب أن يقول‏:‏ قلت له مرحباً، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم»‏.‏
واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر، كما تقدّم في بيتي الحماسة‏:‏ «اللؤم أكرم من وبر» إلخ‏.‏
وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران ‏(‏78‏)‏‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏283‏]‏
‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏‏}‏
هذا معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏إذا تداينتم بدَين وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة‏.‏
والرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة‏:‏ بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عَمْرو‏:‏ بضم الراء وضم الهاء، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم‏.‏
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق‏.‏ ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه‏.‏ وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس ما كسبت رهينة‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 38‏]‏ فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير‏:‏
وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه *** يومَ الوَدَاععِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا
والرهن شائع عند العرب‏:‏ فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها، فربّما رهنوا أبناءهم، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم‏:‏
آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا *** رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا
وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي‏:‏
فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم *** نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا
ومن حديث كعب بن الأشْرَففِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف‏:‏ ارْهَنُوني أبْنَاءَكم‏.‏
ومعنى فرِهانٌ‏:‏ أي فرهان تعَوّض بها الكتابة‏.‏ ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين‏.‏
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها‏.‏ وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب‏.‏ ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه‏.‏
وقد أخذ مجاهد، والضحّاك، وداود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر‏.‏
والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي‏:‏ القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة‏:‏ لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة‏:‏ هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة‏:‏ هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبضُ من لوازمه، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض‏.‏ وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزاً‏.‏ وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع‏.‏
‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏‏.‏
متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين‏:‏ أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض المرفوع هو الدائن، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن‏.‏
والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً‏.‏ والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول‏.‏ وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏ وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عندَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا لكم ناصح أمين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏68‏)‏‏.‏
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة؛ لأنّها ضدّها، وفي الحديث‏:‏ أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك‏.‏
والأداء‏:‏ الدفع والتوفية، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها‏.‏
وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ أنّ آية ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته‏}‏ تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور‏.‏
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أماننٍ بينهما فلهما تركهما‏.‏
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله‏.‏
وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري‏.‏
ومحمل قولهم وقوللِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة‏.‏ وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة‏.‏
أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما، ومنهم الطبري، فقصروا آية ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه‏.‏
ولَوْ أنّهم قالوا‏:‏ إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير‏:‏ فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة‏.‏ وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون‏.‏
وأظهر ممّا قالوه عندي‏:‏ أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون‏:‏ من إشهاد، ورهننٍ، ووفاءٍ بالدّين، والمتعلّقةِ بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة ‏{‏بعض‏}‏ ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين‏:‏ الذي من قبل ربّ الدين، والذي من قبل المدين‏.‏
فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر‏.‏
والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كلّ جانب مؤتمننٍ أن يؤدّي أمانته، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين؛ لأنّ الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن‏.‏
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين‏:‏ معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمَّن‏.‏
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن‏:‏ وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم
‏"‏ لا يَغْلق الرهنُ ‏"‏ وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية، قال زهير‏:‏
وفارقَتْكَ برَهْننٍ لا فَكَاكَ له *** عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا
ومعنى ‏{‏أمن بعضكم بعضاً‏}‏ أن يقول كلا المتعاملين للآخر‏:‏ لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر‏.‏
وزيد في التحذير بقوله‏:‏ ‏{‏وليتق الله ربه‏}‏، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله‏:‏ «وليتّق ربّه» لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الذي أؤتمن‏}‏ وقع فيه ياء هي المدة في آخر ‏(‏الذي‏)‏ ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال، والثانية قطعية أصلية، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرَج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال، وهو الهمزة الأولى، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال‏.‏
وقرأه ورش عن نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر‏:‏ الّذِيتُمن بياء بعد ذال الذي، ثم فوقية مضمومة‏:‏ اعتباراً بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال ‏(‏الذي‏)‏ فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان‏.‏
وقرأه أبو بكر عن عاصم‏:‏ الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة‏.‏
وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف‏.‏
‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏
وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها‏.‏ فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين‏.‏
واعلم أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ نهي، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول‏:‏ أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضضِ فعله، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داععٍ لِفعل المنهيّ عنه، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه‏:‏ بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضِي به، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه‏:‏ بغيبة أو طُرُوِّ نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده‏.‏
وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله‏:‏ ‏{‏وأقوم للشهادة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق‏.‏ ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً‏:‏ قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها ‏"‏ رواه مالك في «الموطّأ»، ورواه عنه مسلم والأربعة‏.‏
فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ‏.‏ ولكن روى في «الصحيح» عن أبي هريرة‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا ‏"‏ الحديثَ‏.‏
وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة‏.‏ وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض‏:‏ حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً، وإلاّ فقد جاء في «الصحيح»‏:‏ ‏"‏ خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها ‏"‏‏.‏ وأقول‏:‏ روى مسلم عن عِمران بن حُصَين‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ‏"‏ الحديث‏.‏
والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد، سمعه كِلاَهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله‏:‏ قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مُشهد، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله‏:‏ وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً‏.‏ فهذا طريق للجمع بين الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن‏.‏
وقال النووي‏:‏ تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي‏:‏ «وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا» وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغَى أحدهما‏.‏
قلت‏:‏ وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها، ذكره الغزالي في «الوجيز»، والذي نقل ابن مرزوق في «شرح مُختصر خليل عن الوجيز» «الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان»‏.‏
فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم‏.‏
فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث «الموطأ» «خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» ونقل الباجي عن مالك‏:‏ «أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها، فيخبره بها، ويؤدّيها له عند الحاكم» فإنّ مالكاً ذكره في «الموطأ» ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في «شرحه لمختصر خليل»، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب، وخليلٌ، وشارحو مختصرَيْهما‏:‏ أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها‏:‏ قال ابن الحاجب «وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة» وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة‏:‏ «أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي»‏.‏ وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه «الفائِق في الأحكام والوثائق» ونسبه النووي في «شرحه على صحيح مسلم لمالك»، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم‏.‏
وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال‏:‏ «فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل» وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال‏:‏ «والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ» واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث‏:‏ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها‏.‏
وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين‏:‏ مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين، وهو مسلك الشافعية، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏ زيادة في التحذير‏.‏ والإثمُ‏:‏ الذنب والفجور‏.‏
والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا‏.‏ وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم‏:‏ فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى‏:‏
كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْا *** وأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسسِ تَفْرق
لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال‏.‏
وقوله‏:‏ والله بما تعملون عليم‏}‏ تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏
‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏
تعليل واستدلال على مضمون جملةوالله بما تعملون عليم لِّلَّهِ‏}‏ وعلى ما تقدم آنفاً من نحو‏:‏ ‏{‏الله بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 176‏]‏ ‏{‏واللَّه بما تعملون عليم واللَّه بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏واللَّه بما تعملون خبير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم‏}‏ إلى آخرها هي محطُّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة ‏{‏ولا تكتموا الشهادة إلى والله بما تعملون عليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ وجملةُ ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى‏:‏ إنّكم عبيد ه فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه‏.‏ وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ عطف جملة على جملة، والمعنى‏:‏ إنكم عبيدُه، وهو محاسبكم، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13، 14‏]‏ ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام‏.‏
ومعنى الاستدلال هنا‏:‏ إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه‏.‏ ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏ الآية‏.‏
وعُطف قوله‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم‏}‏ بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له‏.‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا‏}‏ عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ اعتراضاً بينهما‏.‏
وإبداء ما في النفس‏:‏ إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف ‏{‏أو تخفوه‏}‏ للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات‏.‏ وما في النفي يعمّ الخير والشر‏.‏
والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة‏:‏ يعُدُّه عليكم، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏ وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضّحه هنا قوله‏:‏ ‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏‏.‏
وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة‏:‏ ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه‏.‏ وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها ‏"‏ وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما «لصحيح مسلم»‏:‏ وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عَزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال‏:‏ مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث ‏"‏ من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً ‏"‏ وإن رجع لمانععٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان‏.‏ أي إنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحاسبكم به الله‏}‏ محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏‏.‏
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها» أي بقوله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ كما سيأتي هنالك‏.‏
وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى، كما هو بيّن‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ فيَغفرْ ويعذّب بالجزم، عطفاً على يحاسِبْكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر، وهم وجهان فصيحان، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ تذييل لما دلّ على عموم العلم، بما يدلّ على عموم القدرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏285‏]‏
‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏
قال الزجاج‏:‏ «لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً، وقصصاً، ختمها بقوله‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏}‏ تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل»‏.‏ يعني‏:‏ أنّ هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلّل ذلك‏:‏ ممّا هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل‏.‏ فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر‏:‏ هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض‏.‏ وورد في أسباب النزول أنّ قوله‏:‏ ‏{‏آمن الرسول‏}‏ يرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ كما تقدم آنفاً‏.‏
وأل في الرسول للعد‏.‏ وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهمّوا بإخراج الرسول‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ و‏{‏المؤمنون‏}‏ معطوف على ‏{‏الرسول‏}‏، والوقف عليه‏.‏
والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله‏:‏ ‏{‏آمن‏}‏ فائدةٌ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك‏:‏ قامَ القائمون‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كل آمن بالله‏}‏ جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن ‏(‏كلَ‏)‏ إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي، بعد أبيات‏:‏
كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا
وإذ كانت ‏(‏كلّ‏)‏ من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في «التسهيل»‏.‏ ولا يعكر عليه أنّ ‏(‏كل‏)‏ اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه‏.‏ فمن جوّز أن يكون عَطْفُ ‏{‏المؤمنون‏}‏ عطفَ جملة وجعل ‏{‏المؤمنون‏}‏ مبتدأ وجعل ‏{‏كلٌّ‏}‏ مبتدأ ثانياً ‏{‏وآمن‏}‏ خبره، فقد شذّ عن الذوق العربي‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏وكتبه‏}‏ بصيغة جمع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي‏:‏ وكِتَابِه، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب‏.‏ فيكون مساوياً لقوله‏:‏ ‏{‏وكتبه‏}‏، إذ المراد الجنس، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون‏:‏ إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال‏:‏ إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنّه قال، لما سئل عن هذه القراءة‏:‏ «كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب» فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب «المفتاح» «استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع»‏.‏
والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات‏.‏ وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى، مع كونه أخصر لفظاً، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏ قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك، وهو يحتمل الالتفات‏:‏ بأن يكون من مقول قول محذوففٍ دل عليه السياق وعطف ‏{‏وقالوا‏}‏ عليه‏.‏ أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول‏.‏ وقرأه يعقوب بالياء‏:‏ على أنّ الضمير عائد على ‏{‏كلُّ آمن بالله‏}‏‏.‏
والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق‏:‏ بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏ تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏‏.‏
‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا‏}‏ عطف على ‏{‏آمن الرسول‏}‏ والسمع هنا كناية عن الرضا، والقبول، والامتثال، وعكسه لا يَسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة‏:‏
تَناذَرَهَا الرّاقُون مِنْ سُوءِ سَمْعِها *** أي عدم امتثالها للرُّقْيَا‏.‏ والمعنى‏:‏ إنَّهم آمنوا، واطمأنّوا وامتثلوا، وإنّما جيء بلفظ الماضي، دون المضارع، ليدلوا على رسوخ ذلك؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت‏.‏
وغفرانك نُصب على المفعول المطلق‏:‏ أي اغفِرْ غفرانك، فهو بدل من فعله‏.‏ والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم، أو عالَم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة‏.‏ ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان‏.‏ كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففروا إلى اللَّه‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ وتقديم المجرور لإفادة الحصر‏:‏ أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏
‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏
الأظهر أنّه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضاً ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها‏:‏ وهي ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏ما لا طاقة لنا به‏}‏ قبل أن يحكي دعواتهم تلك‏.‏
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، ممَّا أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً، أو يعقد عليه القلب، ويطمئنّ به، إلاّ أنّ قوله‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ إلخ يبعد هذا؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك‏.‏
فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏ وهذا مروي في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة وابن عباس أنّه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا‏:‏ لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا‏:‏ ‏"‏ سمعنا وأطعنا وسلمنا ‏"‏ فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس‏:‏ أنّ هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً‏.‏
والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول‏.‏ والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع‏.‏
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ‏(‏نفساً‏)‏ في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها‏.‏
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة «المشقّةُ تجلب التيسير»‏.‏ وكانت المشقة مظنّة الرخصة، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى «مقاصد الشريعة» وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتتِ للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلّة المسلمين‏.‏
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحَال، والتكليف بما لا يطاق، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة‏:‏ يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة، وانتفائه علامة على الشقاوة، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي، وتعذيبَ المطيع، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل، أو متعذّر، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروححِ في الصورة وما هو بنافخ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل‏.‏ ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي‏.‏
واستدلّوا بهذه الآية، وبالآيات الدالة على أصولِها‏:‏ مثل ‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ إلخ‏.‏
والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد،؛ فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد، وقال بالكسب، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم، وذلك تكليف بما لا يطاق، فالتزم الأشعري ذلك، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك‏.‏
ثم اختلف المجوّزون‏:‏ هل هو واقع، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية، وقال إمام الحرمين في «البرهان»‏:‏ «والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات» وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة، المعبّر عنها بالكسب، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن، في مسألة التكليف بما لا يطاق، أو بالمحال؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد‏.‏
وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1، 3‏]‏ فقد يقال‏:‏ إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك، وبذلك نسلم من أن نقول‏:‏ إنّه خارج عن الدعوة، ومن أن نقول‏:‏ إنّه مخاطب بعد نزول الآية‏.‏
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ حال من «نَفَسا» لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس‏:‏ وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها‏.‏ وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة «اللاّم» مرة وبواسطة ‏(‏علَى‏)‏ أخرى‏.‏ وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها، كما فعل ذو الرمة في قوله‏:‏
ومُطعَممِ الصيد هَبَّال لبُغيته *** ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا
وقول النابغة‏:‏
فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ ***
وابتدُئ أولاً بالمشهور الكثير، ثم أعيد بمطاوعه، وقد تَكون، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب‏.‏ واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة، ووقع في «الكشاف» أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال، وكان الشرّ مشتهًى للنفس، فهي تَجِدُّ تحصيله، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب‏.‏
والمراد بما اكتسبت الشرور، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير، والاكتساب هو اجتناء الشر، وهو خلاف التحقيق؛ ففي القرآن ‏{‏ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ ثم قيل للذين ظلموا ‏{‏ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 52‏]‏ وقد قيل‏:‏ إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف‏.‏ لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير‏.‏
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة‏.‏
ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد، وقد قيل‏:‏ إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار، رأس الفرقة النجارية من الجبرية، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي‏:‏ «أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ»‏.‏
وتعريف الكسب، عند الأشعري‏:‏ هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها‏.‏ وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله‏.‏ وللكسب تعاريف أخر‏.‏
وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته‏:‏ هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّه خالق كلّ شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه، فوجب إعمال هذا العموم‏.‏ ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية، كحركة المرتعش، والأفعاللِ الاختيارية، كحركة الماشي والقاتِل، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله، وترككِ ما يريد تركه، وهي ميله إلى الفعل أو الترك، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة، وسمّاها كسباً‏.‏ وقال‏:‏ إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها‏.‏
وتقديم المجروريْن في الآية‏:‏ لقصد الاختصاص، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية‏:‏ من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله‏.‏
وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره؛ ففي الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث‏:‏ صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له ‏"‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل ‏"‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ‏"‏‏.‏
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏‏.‏
يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّاً من قول المؤمنين‏:‏ الذين قالوا‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏، بأن اتّبعوا القبول والرضا، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى‏.‏ واختيارُ حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها‏.‏ ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم‏:‏ بأن يقولوا هذا الدعاء، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير، قولوا‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا‏}‏ إلى آخر السورة؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع‏.‏ والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة، كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏ والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ‏.‏
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى‏.‏
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ وضع ‏"‏ رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته، وقد حسّنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع‏.‏ فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة «لا تؤاخذنا» أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ‏:‏ نسياننٍ أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في «الكشاف»‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنّه مستغنى عنه‏:‏ لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل‏.‏ والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب لاستعارة الإصر‏.‏
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له‏:‏ الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران ‏(‏81‏)‏‏:‏ ‏{‏قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري‏}‏ وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله، والامتثالُ فيه، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف ‏(‏157‏)‏‏:‏
‏{‏ويضع عنهم إصرهم‏}‏ وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله‏:‏ ولا تحمِلْ‏}‏ ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ عهداً لا نفي به، ونعذّب بتركه ونقضه»‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ صفة ل ‏{‏إصراً‏}‏ أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويضع عنهم إصرهم ‏"‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات‏.‏ والتضعيف فيه للتعدية‏.‏ وقيل‏:‏ هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم‏.‏ والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا‏:‏ جابة وإجابة وطاعة وإطاعة‏.‏
والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واعف عنا واغفر لنا‏}‏ لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنّه دعاء واحد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أنت مولانا‏}‏ فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية‏:‏ أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي‏:‏
رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني *** على حدثَاننِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان‏:‏ «لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم» قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه ‏"‏ الله مولانا ولا مولَى لكم ‏"‏‏.‏ ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجاً‏.‏
وفي «الصحيح»، عن أبي مسعود الأنصاري البدري‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه ‏"‏ وهما من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ قيل معناه كفتاه عن قيام الليل، فيكون معنى من قرأ من صلَى بهما، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد‏.‏
سورة آل عمران
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏
لما كان أول أغراض هذه السورة، الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانِيَّة، لا جرم افتتحت بحروف التهجّي، المرموز بها إلى تحدّي المكذّبين بهذا الكتاب، وكان الحظّ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العَرب؛ لأنّ اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلّموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثلُ السَّمَوْأل، وهذا وما بعده إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى ءادم ونوحا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ تمهيد لِما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك‏.‏
وتقدم القول في معاني ‏{‏آلم‏}‏ أول البقرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏
‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏
ابتُدِئ الكلام بمسند إليه خَبرُه فِعْلِيُّ‏:‏ لإفادة تقوية الخبر اهتماماً به‏.‏
وجيء بالاسم العلَم‏:‏ لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة لا إله إلاّ هوالله لاا إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن‏}‏، جملةً معترضة أو حاليةً، ردّاً على المشركين، وعلى النصارى خاصة‏.‏ وأتبع بالوصفين ‏{‏الحيّ القيوم‏}‏ لنفي اللبس عن مسمَّى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلاهية، وأنّ غيره لا يستأهلها؛ لأنّه غير حيّ أوْ غير قَيُّوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوُّم ولا هو في حال حياته بقيّوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذِيَ في الله، وكُذّب، واختفّى من أعدائه‏.‏ وقد مضى القول في معنى ‏{‏الحيّ القيّوم‏}‏ في تفسير آية الكرسي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب‏}‏ خبر عن اسم الجلالة‏.‏ والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكايةَ بأهل الكتاب‏:‏ الذين أنكروا ذلك‏.‏ وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة مع ذلك على الاختصاص‏:‏ أي الله لا غيره نزّل عليك الكتاب إبطالاً لقول المشركين‏:‏ إنّ القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يُعلِّمه بَشَرٌ‏.‏
والتضعيف في ‏{‏نَزّل‏}‏ للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل، وإنّما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كمّيته، في الفعل المتعدّي بغير التضعيف، من أجل أنّهم قد أنوا ببعض الأفعال المتعدّية، للدلالة على ذلك، كقولهم‏:‏ فَسَر وفسَّر، وفَرَق وفرّق، وكَسَر وكسّر، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل، كما قالوا‏:‏ مَاتَ ومَوّت وصَاح وصَيّح‏.‏ فأما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنّه يدلّ على تقوية الفعل، إلاّ أن يقال‏:‏ إنّ العدول عن التعدية بالهمز، إلى التعدية بالتضعيف، لقصد ما عُهد في التضعيف من تَقوية معنى الفعل، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب‏}‏ أهمّ من قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل التوراة‏}‏ للدلالة على عظم شأن نزول القرآن‏.‏ وقد بيّنت ذلك مستوفى في المقدّمة الأولى من هذا التفسير، ووقع في «الكشاف»، هنا وفي مواضع متعدّدة، أن قال‏:‏ إن نزّل يدل على التنجيم وإنّ أنزل يدل على أنّ الكتابين أنزلا جملةً واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المُدّعَى للفعل المضاعف، إلاّ أن يعني أنّ نزّل مستعمل في لازم التكثير، وهو التوزيع ورّده أبو حيان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لَوْلاَ نُزِّل عليه القرآن جُملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ فجمع بين التضعيف وقوله‏:‏ ‏{‏جملة واحدة‏.‏ وأزيدُ أنّ التوراة والإنجيل نزلا مفرّقَين كشأن كلّ ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة، وهو الحق‏:‏ إذ لا يعرف أنّ كتاباً نزل على رسول دفعة واحدة‏.‏
والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والباء في قوله‏:‏ بالحق‏}‏ للملابسة، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نَزل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏ أنّه مصدق للكتب السابقة له، وجعل السابق بين يديه‏:‏ لأنّه يجيء قبله، فكأنّه يمشي أمامه‏.‏
والتوراة اسم للكتاب المنزّل على موسى عليه السلام، وهو اسم عبراني أصله طوْراً بمعنى الهدي، والظاهر أنّه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل الطور؛ لأنّها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى، فأطق ذلك الاسم على جميع كتب موسى، واليهود يقولون ‏(‏سِفر طوراً‏)‏ فلمّا دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصَاففِ والنكرات لتصير أعلاماً بالغَلَبة‏:‏ مثل العَقَبة، ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيهاً لاشتقاقه اشتقاقاً عربياً، فقالوا‏:‏ إنّ مشتق من الوَرْي وهو الوقد، بوزن تَفعَلة أو فَوْعَلَة، وربّما أقدمهم على ذلك أمران‏:‏ أحدهما دخول التعريف عليه، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرّب كما قالوا‏:‏ الاسكندرية، وهذا جواب غير صحيح؛ لأنّ الإسكندرية وزن عربي؛ إذ هو نسب إلى إسكندر، فالوجه في الجواب أنّه إنّما ألزم التعريف لأنّه معرّب عن اسم بمعنى الوصف اسممٍ علم فلمّا عربوه ألزموه اللام لذلك‏.‏
الثاني أنّها كتبت في المصحف بالياء، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربياً، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغةِ إمالته‏.‏
وأما الإنجيل فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه‏.‏
وهو اسم معرّب قيل من الرومية وأصله ‏(‏إثَانْجَيْلِيُوم‏)‏ أي الخبر الطيّب، فمدلوله مدلول اسم الجنس، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية، فلمّا عرّبه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف، وذكر القرطبي عن الثعلبي أنّ الإنجيل في السريانية وهي الآرامية ‏(‏أنكليون‏)‏ ولعلّ الثعلبي اشتبه عليه الرومية بالسريانية، لأنّ هذه الكلمة ليست سريانية وإنّما لما نطق بها نصارى العراق ظنّها سريانية، أو لعلّ في العبارة تحريفاً وصوابها اليونانية وهو في اليونانية ‏(‏أووَانَيْلِيُون‏)‏ أي اللفظ الفصيح‏.‏ وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقاً من النجل وهو الماء الذي يخرج من الأرض، وذلك تعسّف أيضاً‏.‏ وهمزة الإنجيل مكسورة في الأشهر ليجري على وزن الأسماء العربية؛ لأنّ إفعيلاً موجود بقلة مثل إبْزِيممٍ، وربّما نطق به بفتح الهمزة، وذلك لا نظير له في العربية‏.‏
و ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ يتعلّق ‏{‏بأنْزَلَ‏}‏، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل، و«هُدَى» حال ثانية‏.‏ والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويُّ مَعْنَى، كما اقتضاه بناء قبل على الضم، والتقدير من قبل هذا الزمان، وهو زمان نزول القرآن‏.‏
وتقديم ‏{‏مِنْ قبلُ‏}‏ على ‏{‏هدَى للناس‏}‏ للاهتمام به‏.‏
وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيللِ مستمرّ بعد نزول القرآن‏.‏ وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر ‏{‏إنّ الدينَ عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ فالهدى الذي سبقه غير تام‏.‏
و ‏{‏للناس‏}‏ تعريفه إمّا للعهد‏:‏ وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين، وإمّا للاستغراق العُرفي‏:‏ فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه‏.‏
والفرقان في الأصل مصدر فرَق كالشُكران والكُفران والبُهتان، ثم أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وهو يوم بدر‏.‏ وسمّي به القرآنُ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ والمرادبالفرقان هنا القرآن؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة‏.‏ وإعادةُ قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل الفرقان‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ للاهتمام، وليُوصَل الكلام به في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآيات اللَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ الآية أي بآياته في القرآن‏.‏
‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام‏}‏‏.‏
استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل‏.‏
وشَمل قولُه‏:‏ ‏{‏الذين كفروا بآيات الله‏}‏ المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله؛ لأنّه مُعجزة‏.‏ وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً؛ لأنّ الصلة تجمعهم، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله‏:‏ ‏{‏لهم عذاب شديد‏}‏‏.‏
وعطف قوله‏:‏ ‏{‏والله عزيز ذو انتقام‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآيات الله‏}‏ لأنّه من تكملة هذا الاستئناف‏:‏ لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم؛ إذ هو عذابٌ عزيزٍ منتقم كقوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏
‏(‏والعزيز تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏209‏)‏‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم‏.‏‏}‏ والانتقام‏:‏ العقاب على الاعتداء بغضب، ولذلك قيل للكاره‏:‏ ناقم‏.‏ وجيء في هذا الوصف بكلمة ‏(‏ذو‏)‏ الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏‏}‏
استئناف يتنزّل منزلة البيان لوصف الحي لأنّ عموم العلم يبيِّن كمال الحياة‏.‏ وجيء ب ‏(‏شيء‏)‏ هنا لأنّه من الأسماء العامة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض ولا في السماء‏}‏ قصد منه عمومُ أمكنة الأشياء، فالمراد من الأرض الكرة الأرضية‏:‏ بما فيها من بحار، والمراد بالسماء جنس السموات‏:‏ وهي العوالم المتباعدة عن الأرض‏.‏ وابتدئ في الذكر بالأرض ليتسنَّى التدرّج في العطف إلى الأبعد في الحكم؛ لأنّ أشياء الأرض يعلم كثيراً منها كثيرٌ من الناس، أما أشياءالسماء فلا يعلم أحد بعضها فضلاً عن علم جميعها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏
استئناف ثان يبيّن شيئاً من معنى القيّومية، فهو كبدل البعض من الكل، وخصّ من بين شؤون القيّومية تصويرُ البشر لأنّه من أعجب مظاهر القدرة؛ ولأنّ فيه تعريضاً بالرد على النصارى في اعتقادهم إلاهية عيسى من أجل أنّ الله صوّره بكيفية غير معتادة فبيّن لهم أنّ الكيفيات العارضة للموجودات كلّها مِن صنع الله وتصويره‏:‏ سواء المعتاد، وغيرُ المعتاد‏.‏
وكيفهُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَآءُ‏}‏ هنا ليس فيها معنى الاستفهام، بل هي دالة على مجّد معنى الكيفية؛ أي الحالة، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة؛ إذ لا ريب في أنّ ‏(‏كيف‏)‏ مشتملة على حروف مادة الكيفية، والتكيّف، وهو الحالة والهيئة، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام، وليست ‏(‏كيف‏)‏ فعلاً؛ لأنّها لا دلالةَ فيها على الزمان، ولا حرفاً لاشتمالها على مادة اشتقاق‏.‏ وقد تجيء ‏(‏كيف‏)‏ اسم شرط إذا اتّصلت بها ما الزائدة وفي كلّ ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلاّ ما شذّ من قولهم‏:‏ كيف أنت‏.‏ فإذا كانت استفهاماً فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها، ملتزماً تقديمُها عليه؛ لأنّ للاستفهام الصدارة، وإذا جرّدت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء‏.‏
وأمّا الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافاً إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة‏.‏ وجرى في كلام بعض أهل العربية أنّ فتحة ‏(‏كيف‏)‏ فتحة بناء‏.‏
والأظهر عندي أنّ فتحة كيف فتحة نصب لزِمَتْها لأنّها دائماً متّصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوِها، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء‏.‏
فكيف في قوله هنا ‏{‏كيف يشاء‏}‏ يعرب مفعولاً مطلقاً «ليصوِّرُكُم»، إذ التقدير‏:‏ حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف فعل ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وجوّز صاحب «المغني» أن تكون شرطية، والجواب محذوف لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏يصوركم‏}‏ عليه وهو بعيد؛ لأنّها لا تأتي في الشرط إلاّ مقترنة بمَا‏.‏ وأما قول الناس‏:‏ كيف شاء فعل فلحن‏.‏ وكذلك جزم الفعل بعدها قد عُدّ لحناً عند جمهور أئمّة العربية‏.‏
وذلّ تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنّه كذلك في الواقع؛ إذ هو مكّون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبة النصارى إذ توهّموا أن تخلّق عيسى بدون ماء أب دليل على أنّه غير بشر وأنّه إله وجهلوا أنّ التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقاً لما كان معدوماً فكيف يكون ذلك المخلوق المصوّر في الرحم إلهاً‏.‏
‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏
تذييل لتقرير الأحكام المتقدّمة‏.‏ وتقدم معنى العزيز الحكيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم‏}‏ وفي افتتاح السورة بهذه الآيات براعة استهلال لنزولها في مجادلة نصارى نجران، ولذلك تكرّر في هذا الطالع قصْر الإلهية على الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏الله لا لا إله إلا هو‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي صوركم‏}‏ وقوله‏:‏ لا إله إلا هو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏
استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام‏:‏ وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابيننِ من قبله، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏]‏ هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات‏}‏ وتمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح‏:‏ تالإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء بأويل‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل الكتاب‏}‏ قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى‏:‏ لتكون الجملة، مع كونها تأكيداً وتمهيداً، إبطالاً أيضاً لقول المشركين‏:‏ ‏{‏إنّما يعلّمه بَشَر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210 212‏]‏ ذلك أنّهم قالوا‏:‏ هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء ‏(‏جمعَ رئي‏)‏‏.‏
ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب‏.‏
وضمير ‏{‏منه‏}‏ عائد إلى القرآن‏.‏ و«منه» خبر مقدم و‏{‏آيات محكمات‏}‏ مبتدأ‏.‏
والإحكام في الأصل المنع، قال جرير‏:‏
أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم *** إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا
واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور‏.‏
أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد‏.‏
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أم الكتاب‏}‏ أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له‏:‏ أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ‏.‏ ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن‏.‏
والكتاب‏:‏ القرآن لا محالة؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب‏}‏ فليس قوله‏:‏ ‏{‏أم الكتاب‏}‏ هنا بمثللِ قوله‏:‏ ‏{‏وعنده أم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأُخر متشابهات‏}‏ المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه‏.‏
وقد أشارت الآية‏:‏ إلى أنّ آيات القرآن صنفان‏:‏ محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها، فعلمنا أنّ صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات‏.‏
ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل، أو المرجع، وهما متقاربان‏:‏ أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ، وكانت أصولاً لذلك‏:‏ باتّضاح دلالتها، بحيث تدل على معاننٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شي‏}‏ ‏[‏الشورة‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏لا يُسأل عمّا يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏يريد اللَّه بكم اليسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ ‏{‏واللَّه لا يحبّ الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ ‏{‏وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع‏.‏
والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلّت على معاننٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ‏.‏ ومعنى تشابهها‏:‏ أنّها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض‏.‏ أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً، فلا يتبيّن الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى‏.‏
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال‏:‏ مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء، فعن ابن عباس‏:‏ أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم‏}‏ والآيات من سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور‏.‏
وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضاً‏:‏ أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية‏.‏
وعن الأصم‏:‏ المحكم ما اتّضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي نزّل من السماء ما ء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 11‏]‏ فأولها محكم وآخرها متشابه‏.‏
وللجمهور مذهبان‏:‏ أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبيَّة، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات‏.‏
وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيُها، وإليه مال الفخر‏:‏ فالنص والظاهر هنا المحكم، لاتّضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما‏:‏ أي المؤول دالاً على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية‏.‏
قال الشاطبي‏:‏ فالتشابه‏:‏ حقيقي، وإضافي، فالحقيقي‏:‏ ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي‏:‏ ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر‏.‏ فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير‏.‏
وقد دل هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أحكمت آياته‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏ والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة، وهو معنَى‏:‏ «ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً» فلا تعارض بين هذه الآيات‏:‏ لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات‏.‏
وسبب وقوع المتشابهات في القرآن‏:‏ هو كونه دعوة، وموعظة، وتعليماً، وتشريعاً باقياً، ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لِجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنّما كانت هجّيراهم الخطابة والمقاولة، فأسلوب المواعظ والدعوةِ قريب من أسلوب الخطابة، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلَّفة لِلعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأودعت العلوم المقصود منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات، كالبيع، متّصلاً بعضها ببعض، بل تلفيه موزّعاً على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليخفّ تلقّيه على السامعين، ويعتادُوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرّقة يضمّ بعضها إلى بعض بالتدبّر‏.‏ ثم إنّ إلقاء تلك الأحكام كان في زمان طويل، يزيد على عشرين سنة، ألقِي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم، وتحمّلته مقدرتهم، على أنّ بعض تشريعه أصول لا تتغيّر، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم، فلذلك تجد بعضها عاماً، أو مطلقاً، أو مجملاً، وبعضها خاصاً، أو مقيداً، أو مبيَّناً، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصات مثلاً، فلعلّ بعضاً منهم لا يتمسّك إلاّ بعمومه، حينئذ، كالذي يرى الخاص الوارد بعد العام ناسخاً، فيحتاج إلى تعيين التاريخ، ثم إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا‏:‏ وهي علوم فيما بعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق‏.‏
وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، مَا أوجب تشابهاً في مدلولات الآيات الدالة عليها‏.‏ وإعجازُ القرآن‏:‏ منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي، وهو فنّ جليل من الإعجاز بيّنته في المقدمة العاشرة من مقدّمات هذا التفسير‏.‏ فلمّا تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرّض إليه، جاء به محكياً بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربّما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولاً لأقوام، فيعدّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بَعْدهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلهم متشابهاً ما هو إلاّ محكم‏.‏
على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين‏:‏
أحدَهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة‏.‏ من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم، تبعاً لاختلاف مراتب العصور‏.‏
فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن‏.‏ وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها‏.‏ وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب‏:‏
أولاها‏:‏ معاننٍ قُصِد إيداعها في القرآن، وقُصد إجمالها‏:‏ إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي استأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره‏.‏ وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر، أو جهةٍ، لفهمها بالكنة ومن هذا أحوال القيامة، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام، والرؤية، والكلاممِ، ونحو ذلك‏.‏
وثانيتها‏:‏ معاننٍ قصد إشعار المسلمين بها، وتَعيّن إجمالها، مع إمكان حملها على معاننٍ معلومةٍ لكن بتأويلات‏:‏ كحُروف أوائل السور، ونحوِ ‏{‏الرحمانُ على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏
‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏
ثالثتها‏:‏ معاننٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نورُ السموات والأرض‏.‏
رابعتها‏:‏ معاننٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله‏:‏ ‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏يكور الليل على النهار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏زيتونة لا شرقية ولا غربية‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج‏.‏
خامستها‏:‏ مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى‏:‏ لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً، نحو‏:‏ ‏{‏فإنّك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأيدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏ويبقى وجه ربّك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏
وسادستها‏:‏ ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم‏:‏ قريش والأنصار مثل‏:‏ ‏{‏وفاكهة وأبّا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 31‏]‏ ومثل ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏إنّ إبراهيم لأوّاه حليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ ‏{‏ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 36‏]‏‏.‏
سابعتها‏:‏ مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية‏:‏ كالتيمّم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال‏:‏ كالربا قال عمر‏:‏ «نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها» وقد تقدم في سورة البقرة‏.‏
ثامنتها‏:‏ أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ومثل المشاكلة في قوله‏:‏ ‏{‏يخادعون اللَّه وهو خادعهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏ فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة‏.‏
وتاسعتها‏:‏ آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها، فظنّوها من المتشابه، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏، في «الموطأ» قال ابن الزبير‏:‏ «قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة» فقالت له‏:‏ «ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية» إلخ‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ‏{‏ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها‏.‏
عاشرتها‏:‏ أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبِّهة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يكشف عن شاق‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏
‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله‏:‏ ‏{‏لا تأتيكم إلاّ بغتة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏‏.‏
وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس‏:‏ ‏{‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ مع ما في الآيات المقتضية ‏{‏فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ إنه لا يحبّ الفساد‏.‏
وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة‏:‏ إمّا لضيقها عن المعاني، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإمّا لتناسي بعض اللغة، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه‏:‏ صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني‏.‏
وإنّما أخبر عن ضمير آياتتٍ محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو ‏{‏أمّ‏}‏، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتاببِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده‏.‏ والمعنى‏:‏ هنّ كأمِّ للكتاب‏.‏ ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى‏.‏ وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد‏:‏
فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيها *** أي مجموعهم كالدِّرع لي، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع‏.‏ ومن هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعلنا للمتقين إماما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏‏.‏
والكلام على ‏(‏أخَر‏)‏ تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏
‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ‏}‏‏.‏
تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه‏.‏ أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة، فلا حاجة إلى تفصيل فيه، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه‏:‏ وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشبهات القرآن‏.‏
والقلوب محالُّ الإدراك، وهي العقول، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏
والزيغ‏:‏ الميل والانحراف عن المقصود‏:‏ ‏{‏ما زاغ البصر‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏ ويقال‏:‏ زاغت الشمس‏.‏ فالزيغ أخصّ من الميل؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ‏.‏
والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ‏.‏
وقد ذكر علة الاتّباع، وهو طلب الفتنة، وطَلبُ أن يؤوّلوه، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم‏}‏ كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم‏.‏
وهذا ديدن الملاحِدة وأهللِ الأهواء‏:‏ الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم‏.‏
ولما وَصَف أصحَاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضياً إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم‏.‏ فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون، والزنادقة، والمشركون مثال تأويل المشركين‏:‏ قصةُ العاصي بن وائل من المشركين إذْ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجراً، فقال العاصي متهكّما به «وإنِّي لمبعوثٌ بعد الموت أي حَسْب اعتقادكم فسوفَ أقضيك إذا رجعتُ إلى مال وولد» فالعاصي توهّم، أو أراد الإيهام، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدْعَى إلى تكذيب الخبر بالبعث، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات، ولذلك كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏فأتُوا بآبائنا إن كُنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 36‏]‏‏.‏
ومثال تأويل الزنادقة‏:‏ ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال‏:‏ كنت بمكة حين كان الجَنَّابي زعيم القرامطة بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون‏:‏ أليس قد قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا‏؟‏» قال‏:‏ فقلت له‏:‏ هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه، كقوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربّصن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات‏.‏ وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي‏.‏
وقد فُهم أنّ المراد‏:‏ التأويل بحسب الهوى، أو التأويل المُلْقِي في الفتنة، بقرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به‏}‏ الآية، كما فهم من قوله‏:‏ ‏{‏فيتّبعون‏}‏ أنّهم يهْتَمُّون بذلك، ويستهترون به، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتيع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك‏.‏ وفي «البخاري» عن سعيد بن جُبير أنّ رجلاً قال لابن عباس‏:‏ «إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ» قال‏:‏ ما هو قال‏:‏ «فلا أنسَابَ بينهم يومئذ ولا يتساءلون» وقال «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» وقال‏:‏ «ولا يكتمون الله حديثاً» وقال‏:‏ «قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين» قال ابن عباس‏:‏ «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فأما قوله‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون‏:‏ تعالَوا نقلْ‏:‏ «ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً»‏.‏
وأخرج البخاري، عن عائشة‏:‏ قالت «تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولوا الألباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ قالت قال رسول الله‏:‏» ‏"‏ فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ‏"‏‏.‏ ويقصد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه‏}‏ التعريض بنصارى نجران، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس‏.‏
‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏‏.‏
جملة حال أي وهم لا قِبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم، كما قيل في المثل‏:‏ «ليس بعشّك فادرجي»‏.‏
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ «أيُّ أرضضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم»‏.‏ وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضرباً موجعاً، وكرّر ذلك أياماً، فقال‏:‏ «حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته‏.‏ ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا‏.‏
قال ابن العربي في «العواصم من القواصم» «من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية»‏.‏ قلت‏:‏ أمَّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابهاً، وتأوّلوه بحسب أهوائهم، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سبب التشابه واقعاً، فالأوّلون دخلوا في قوله‏:‏ ‏{‏وابتغاء تأويله‏}‏، والأخيرون خرجوا من قوله‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ أو وما يعلم تأويله إلا الله، فخالفوا الخلف والسلف‏.‏ قال ابن العربي «في العواصم» «وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا‏:‏ لا حُكْم إلاّ لله» يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إننِ الحُكْمُ إلا لله‏}‏ ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم‏.‏
والمراد بالراسخين في العلم‏:‏ الذين تمكّنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه‏.‏ والرسوخ في كلام العرب‏:‏ الثبات والتمكن في المكان، يقال‏:‏ رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة‏.‏
فالراسخون في العلم‏:‏ الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه‏.‏
ولذا فقوله‏:‏ ‏{‏والراسخون‏}‏ معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس، ومجاهد، وَالربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها‏.‏ ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة‏.‏ ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه‏:‏ لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أيِّ شيء رسوخهم، وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس‏:‏ أنّه قال في هاته الآية‏:‏ «أنا ممّن يعلم تأويله»‏.‏
وقيل‏:‏ الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏ وإنّ جملة ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفرّاء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين‏.‏
ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات، وهو تأويل المتشابه، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله‏.‏ ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ‏:‏ «يقولون ءامّنا به» خبراً، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏ إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه‏.‏
واحتجّ أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة‏:‏ بأنّ الظاهر أن يكون جملة ‏(‏والراسخون‏)‏ مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏، والتقدير‏:‏ وأمّا الراسخون في العلم‏.‏ وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه‏.‏ واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ قال الفخر‏:‏ لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة‏.‏
وذكر الفخر حججاً أخر غير مستقيمة‏.‏
ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابهاً غير ما خفي المراد منه، وأنّ خفاء المراد متفاوت، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابهاً استأثر الله بعلمه، وهو أيضاً متفاوت؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبَة، وهو ممّا ينبغي ألاّ يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سَهْللٍ تأويلُها مثل ‏{‏فإنّك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يَعلم تأويلَه على الاستيفاء إلاّ الله تعالى فمَن قالَ، من العلماء الحذّاق‏:‏ بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، فإنّما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال»‏.‏
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابهاً‏:‏ من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم
فكان رأي فريق منهم الإيمانَ بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويضَ العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلَف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلِّمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويُعبّر عنها بطريقة السلف، ويقولون‏:‏ طريقة السلف أسْلَمُ، أي أشدُّ سلامة لهم من أن يَتأوّلوا تأويلات لا يدرَى مدى ما تفضِي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل‏.‏
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعاننٍ من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الدّاعي إلى التأويل، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون‏:‏ طريقة الخلف أعم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لِجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين، وقد يصفونها بأنّها أحْكَمُ أي أشدّ إحكاماً؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم‏.‏ وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماءِ الأصول، ولم أقف على تعيين أوّللِ من صدَرا عنه، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية في «العقيدة الحموية» إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل‏.‏ والموصوف بأسْلَم وبأعلَم الطريقةُ لا أهلُها؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممّن سلموا في دينهم من الفِتن‏.‏
وليس في وصف هذه الطريقة، بأنّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يُعير البحثَ عنها جانباً من همّته، مثل سائر العامة‏.‏ فلا جرم كان طَيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعْلَم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤوِّلوها به لأوسعوا، للمتطلّعين إلى بيانها، مجالاً للشك أو الإلحاد، أو ضيققِ الصدر في الاعتقاد‏.‏
واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيِّن، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يُعادِل حملَ اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه‏.‏ فهذا القسم من التأويل حقيق بألاّ يسمّى تأويلاً وليس أحدُ مَحْمَلَيْه بأقوى من الآخر إلاّ أنّ أحدهما أسبقُ في الوضع من الآخر، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبقُ إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتضضٍ ترجيحَ ذلك المعنى، فكم من إطلاق مجازي للفظٍ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي‏.‏ وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجحُ من المجاز بمقبول على عمومه‏.‏
وتسميةُ هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية‏.‏ وعدّه من المتشابه جمود‏.‏
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلةَ أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه‏.‏
ثم إنّ تأويل اللفظ في مِثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جَرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله‏:‏ ‏{‏بَنيناها بأيدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإنَّك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ فمَن أخذوا من مثله أنّ لله أعيناً لا يُعرف كنهها، أوْ له يداً ليست كأيدينا، فقد زادوا في قوة الاشتباه‏.‏
ومنه ما يعتبر تأويله احتمالاً وتجويزاً بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّناً وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثاللِ، وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلاّ أن يأتيَهم الله في ظُلَل من الغمام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يَدعي أحد، أن ما أوّلَه به هو المرادُ منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل‏.‏
وقد استبان لك من هذه التأويلات‏:‏ أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يقولون آمنا به‏}‏ حال من ‏(‏الراسخون‏)‏ أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه‏:‏ يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتَقَده، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا‏:‏ لماذا لم يجئ الكلام كلّه واضحاً، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله، فلذلك يقولون‏:‏ ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏‏.‏
ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم‏:‏ أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين، الذين لا قِبل لهم بإدراك تأويله، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان، وعدمَ التطلّع إلى ما ليس في الإمكان، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول‏:‏ إنّ المجتهد لا يلزمه بيانُ مُدركه للعامي، إذا سأله عن مأخذ الحكم، إذا كان المدرَك خفياً‏.‏ وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقففِ على اسم الجلالة‏.‏
وعلى قول المتقدّمين يكون قوله‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ خبراً، وقولهم‏:‏ ‏{‏آمنا به‏}‏ آمنّا بكونه من عند الله، وإن لم نفهم معناه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏ أي كلٌ من المحكَم والمتشابه‏.‏ وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم‏:‏ ‏{‏آمنا به‏}‏، فلذلك قطعت الجملة‏.‏ أي كلّ من المحكم والمتشابه، مُنزل من الله‏.‏
وزيدت كلمة ‏(‏عند‏)‏ للدلالة على أنّ مِن هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامِه، وليس كقوله‏:‏ ‏{‏ما أصابك مِن حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 197‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب‏}‏ تذييل، ليس من كلام الراسخين، مَسوق مَساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم‏.‏
والألبابُ‏:‏ العقول‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏
‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏‏}‏
دعاء عُلِّمَه النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة‏:‏ لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلاّ من عقلاء البشر، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية، ولا في سلامة العقول والمشاعر، فما كان ضلالهم إلاّ عن حرمانهم التوفيق، واللطف، ووسائلَ الاهتداء‏.‏
وقد عُلم من تعقيب قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ الآيات بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ أنّ من جملة ما قُصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكماً ومنه متشابهاً، إيقاظَ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها‏:‏ تحذيراً لها من الوقوع في الضلال، الذي أوقع الأممَ في كثير منه وجودُ المتشابهات في كتبها، وتحذيراً للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب، ففي «الموطأ»، عن الصُّنَابِحي‏:‏ أنّه قال‏:‏ «قدمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية‏:‏ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ الآية‏.‏
فَزَيْغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل‏:‏ من خلل في ذاته، أو دواععٍ من الخُلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهُدى، ولا يدري المؤمن، ولا العاقلُ، ولا الحكيم، ولا المهذّبُ‏:‏ أيَّةَ ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأفن‏:‏ أيَّةَ ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خَليط، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ ولذا كان دأب القرآن قرنَ الثناء بالتحذير، والبشارة بالإنذار‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بعد إذ هديتنا‏}‏ تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف؛ إذ أسندوا الهَدْي إلى الله تعالى، فكان ذلك كرماً منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذَ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء‏.‏
وإذْ اسم للزمن الماضي متصرّف، وهي هنا متصرّفة تصرّفاً قليلاً؛ لأنّها لمّا أضيف إليها الظرف، كانت في معنى الظروف، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبةُ تصرّففٍ، كما هي في يومئذٍ وحينئذٍ، أي بعد زمن هدايتِك إيانا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏}‏ طلبوا أثَرَ الدوام على الهُدى وهو الرحمة، في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر‏.‏
وجعلت الرحمة من عند الله لأنّ تيسير أسبابها، وتكوين مهيّئاتها، بتقدير الله؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معَرّضاً لنزول المصائب والشرور في كلّ لمحة؛ فإنّه محفوف بموجودات كثيرة، حيّة وغير حيّة، هو تلقاءَها في غاية الضعف، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتّقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبةِ له قوى عمياءَ لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلاّ على سبيل الندور ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه لطيف بعباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏ ومن أجلَى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة «اللّطْفُ عند الاضطرار»‏.‏
والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت الوهاب‏}‏ للمبالغة، لأجل كمال الصفة فيه تعالى؛ لأنّ هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به‏.‏ وفي هذه الجملة تأكيد بإنّ، وبالجملة الاسمية، وبطريق القصر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏}‏ استحضروا عند طلب الرحمة أحْوجَ ما يكونون إليها، وهو يومُ تكونُ الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءَهم على سبيل الإيجاز، كأنّهم قالوا‏:‏ وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم‏:‏ ‏{‏ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏ على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين، والعلماءِ الراسخين‏.‏
ومعنى ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ لا ريب فيه جديراً بالوقوع، فالمراد نفي الريب في وقوعه‏.‏ ونفوه على طريقه نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين، هذا إذا جعلتَ ‏(‏فيه‏)‏ خبراً، ولك أن تجعله صفةً لريبَ وتجعلَ الخبر محذوفاً على طريقة لا النافية للجنس، فيكون التقدير‏:‏ عندنا، أو لَنَا‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ تعليل لنفي الريب أي لأنّ الله وعد بجمع الناس له، فلا يخلف ذلك، والمعنى‏:‏ إنّ الله لا يُخلف خبرَه، والميعاد هنا اسم مكان‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏
استئناف كلام ناشيء عن حكاية ما دعا به المؤمنون‏:‏ من دوام الهداية، وسؤال الرحمة، وانتظار الفوز يوم القيامة، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة‏.‏ وتعقيب دعاء المؤمنين، بذكر حال المشركين، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت‏.‏ والمراد بالذين كفروا‏:‏ المشركون، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل‏:‏ الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران؛ ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهودوالنصارى أعلق بأخبار فرعون‏.‏ كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة‏.‏ ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين‏:‏ من المشركين، وأهل الكتابَيْن، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم‏.‏
ومعنى «تُغني» تُجزِي وتكفي وتدفع، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو‏:‏ «ما أغني مَالِيَهْ»‏.‏
ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع، كان مؤذناً بأنّ هنالك شيئاً يدفع ضُرّه، وتُكفى كلفتُه، فلذلك قَد يذكرون مع هذا الفعل متعلِّقاً ثانياً ويُعَدُّونَ الفعل إليه بحرف ‏(‏مِن‏)‏ كما في هذه الآية‏.‏ فتكون ‏(‏مِن‏)‏ للبدل والعوض على ما ذهب إليه في «الكشاف»، وجعل ابن عطية ‏(‏من‏)‏ للابتداء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي من أمر يضاف إلى الله؛ لأنّ تعليق هذا الفعل، تعليقاً ثانياً، باسم ذات لايقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة‏.‏ والتقدير هنا من رحمة الله، أو من طاعته، إذا كانت ‏(‏مِنْ‏)‏ للبدل وكَذا قدّره في «الكشاف»، ونظّره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وعلى جعل ‏(‏من‏)‏ للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله، أو من عذابه، أي غناء مبتدِئاً من ذلك‏:‏ على حدّ قولهم‏:‏ نَجَّاه من كذا أي فصله منه، ولا يلزم أن تكون ‏(‏مِن‏)‏ مَعَ هذا الفعل، إذا عدّي بعَن، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام‏.‏ والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ ‏(‏شيء‏)‏ مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية، وبدون ذكر متعلِّقين، كما في قول أبي سفيان، يومَ أسْلَمَ‏:‏ «لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً»‏.‏
وانتصب قوله‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏ على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء‏.‏ وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً، بله الغناء المهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي‏.‏
وقد ظهر بهذا كيفية تصرفّ هذا الفعل التصرّفَ العجيب في كلامهم، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف، وما دونها، في معنى هذا التركيب‏.‏
وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله‏:‏ ‏{‏ولنبلونَّكم بشيء من الخوف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏ وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل، من عشيرته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤُها‏.‏ قال قيس بن الخطيم‏:‏
ثَأرْتُ عَدِيَّا والخَطِيمَ ولَمْ أضعْ *** وَلاَيَة أشْيَاخخٍ جُعِلْتُ إزَاءَها
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها، وهي جمع مال، وغلب اسم المال في كلام جلِّ العرب على الإبل قال زهير‏:‏
صَحيحاتتِ ماللٍ طَالعات بمخرم ***
وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث «كان أبو طلحة أكثرَ أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحَبُّ أمواله إليه بئر حاء»، ويطلق المال غالباً على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس «أيْن المال الذي عند أم الفضل‏.‏» والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا؛ لأنّه شُبِّه بأنّه ‏{‏كدأب ءال فرعون‏}‏ إلى قوله ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم وقود النار‏}‏‏.‏
وجيء بالإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله‏:‏ ‏{‏هم وقود النار‏}‏‏.‏ وعطفت هذه الجملة، ولم تفصل، لأنّ المراد من التي قبلهالا وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله، في الآية التي بعد هذه‏:‏ ‏{‏ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالوَضوء، وقد تقدّم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏التي وقودها الناس والحجارة‏}‏ في سورة البقرة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كدأب ءال فرعون‏}‏ موقع كاف التشبيه موقع خبرٍ لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبّه به، والتقدير‏:‏ دأبُهم في ذلك كدأب آل فرعون، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون‏.‏
والدأب‏:‏ أصله الكَدْح في العمل وتكريره، وكأنّ أصل فعله متعدَ، ولذلك جاء مصدره على فَعْل، ثم أطلق على العادة لأنّها تأتي من كثرة العمل، فصار حقيقة شائعة قال النابغة‏:‏
كدأبِك في قوممٍ أرَاكَ اصطنعتَهُم ***
أي عادتك، ثم استعمل بمعنى الشَّأن كقول امرئ القيس‏:‏
كدأبك من أم الحُويرث قبلَها ***
وهو المراد هنا، في قوله‏:‏ ‏{‏كدأب ءال فرعون‏}‏، والمعنى‏:‏ شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون؛ إذ ليس في ذلك عادة متكرّرة، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة؛ لأنّهم إذا استقْرَوْا الأمم التي أصابها العذاب، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر‏:‏ بالله، وبرسله، وبآياته، وكفَى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب، وقد تعيّن أن يكون المشبّه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا؛ إذ الأصل أنّ حال المشبّه، أظهر من حال المشبّه به عند السامع‏.‏
وعليه فالأخذ في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله‏:‏ ‏{‏أخذناهم بغتة فإذا هم مُبلسون فقطع دابر القوم الذي ظلموا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44، 45‏]‏‏.‏
وأريد بآل فرعون فرعون وآلهُ؛ لأنّ الآل يطلق على أشدّ الناس اختصاصاً بالمضاف إليه، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعةِ والتواطؤ على الكفر، كقوله‏:‏ ‏{‏أدْخِلُوا ءال فرعون أشدّ العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم؛ إذ قوم الرجل قد يخالفون، فلا يدل الحكم المتعلّق بهم على أنّه مساوٍ لهم في الحكم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لعاد قوم هود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 60‏]‏ في كثير من الآيات نظائرها، وقال‏:‏ ‏{‏أن ائْتتِ القومَ الظالمين قومَ فرعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ «كذبوا» بيان لدأبهم، استئناف بياني‏.‏ وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئاً تُجاه ضلالهم؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهداً بزمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقول شعيب‏:‏ ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89‏]‏ وكقول الله تعالى للمشركين‏:‏ ‏{‏وإنّها لبسبيل مقيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 76‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنّهما لبإمام مبين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنّكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبحين وبالليللِ أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏
‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي، للانتقال من النذارة إلى التهديد، ومن ضَرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال‏.‏ وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة، والتذكير بوصف يوم كانَ عليهم، يعلمونه‏.‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 39‏]‏ يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 116‏]‏ فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير ‏(‏هم‏)‏ إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة‏.‏
والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة، ولذلك أعيد الاسم الظاهر، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعدَه‏:‏ ‏{‏قد كان لكم آية‏}‏ إلى قوله ‏{‏يرونهم مثليهم رأى العين‏}‏ وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر‏.‏
وقد قيل‏:‏ أريد بالذين كفروا خصوص اليهود، وذكروا لذلك سبباً رواه الواحدي، في أسباب النزول‏:‏ أنّ يهود يَثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة‏.‏ نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشْرَف في ستين راكباً إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم‏:‏ لتكونَنّ كلمتنا واحدة، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية‏.‏
وروى محمد بن إسحاق‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غَلَب قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ وقال لهم‏:‏ ‏"‏ يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم، أنّي نبيء مرسل ‏"‏ فقالوا‏:‏ «يا محمد لا يغرنّك أنّك لقيتَ قوماً أغمارَا لا معرفة لهم بالحرب فأصبْتَ فيهم فرصة أمَا والله لو قاتلناك لعرفتَ أنّا نحن الناس» فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضِير وخَيبر، وأيضاً فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال‏.‏
وعطف ‏{‏بئس المهاد‏}‏ على ‏{‏ستغلبون‏}‏ عطف الإنشاء على الخبر‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ستُغلبون وتُحشرون‏}‏ كلتيهما بتاء الخطاب وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف‏:‏ بياء الغيبة، وهما وجهان فيما يحكَى بالقول لمخاطب، والخطابُ أكثر‏:‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبُدوا الله ربّي وربّكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ ولم يقل ربَّك وربَّهم‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏قد كان لكم آية‏}‏ خطاب للذين كفروا، كما هو الظاهر؛ لأنّ المقام للمحاجّة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة‏.‏ فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر‏.‏
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر‏.‏
والالتقاء‏:‏ اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى‏:‏
تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏
‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
‏{‏زُيِّنَ‏}‏‏.‏
استئناف نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ إذ كانت إضافة أمواللٍ وأولاد إلى ضمير «هم» دالة على أنّها معلومة للمسلمين‏.‏ قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات‏.‏ وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس‏.‏
والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً‏.‏
وقال امرؤ القيس‏:‏
الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن‏:‏ التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تريد زينة الحياةِ الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة‏:‏
أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا
وفي حديث «سنن أبي داود»‏:‏ أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه‏:‏ إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح‏.‏ قال أبو برزة‏:‏ «ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد»‏.‏ فقال عبيد الله‏:‏ «إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن»‏.‏
والشهوات جمع شهوة، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي، والشهوة بزنة المَرّة، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة‏.‏ وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف‏.‏ وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ، أي المشتهيات نفسها، لا حبُّها، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان، وليس الحبّ بمزيَّن، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق‏.‏
والوجه عندي إمّا أن يجعل ‏{‏حبّ الشهوات‏}‏ مصدراً نائباً عن مفعول مطلق، مبيّناً لنوع التزيين‏:‏ أي زيّن لهم تزيين حب، وهو أشدّ التزيين، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل، وأصل الكلام‏:‏ زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل، وجعل نائباً عن الفاعل، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة‏.‏ وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار، فعبّر عن ذلك بالتزيين، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة، وقد تكون في كثير منها مضارّ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال‏.‏
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا، لما جُهل فاعله في متعارف العموم، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول‏:‏ كقولهم عُني بكذا، واضْطُرّ إلى كذا، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 72‏]‏‏.‏
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة‏.‏ كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات‏:‏ من الخِلاّن والقُرناء، وعن الحسن‏:‏ المزيِّن هو الشيطان، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام، وفي الحديث‏:‏ «قالوا‏:‏ يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال‏:‏ أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر» وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام، والمعرَّضة للزوال، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية، وتنال النعيم الأبدي العظيم؛ كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب‏}‏‏.‏
وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما، بيان بأصول الشهوات البشرية‏:‏ التي تجمع مشتهيَات كثيرة، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل؛ إذ المرأة هي موضع التناسل، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة، وفي الحديث‏:‏ «ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء» ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسن‏.‏
ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع‏:‏ إذ جعل الله في الوالدين، من الرجال والنساء، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل، وببقائه بقاء النوع، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف، بعد القوة، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه‏.‏
والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء، والنقدان منهما‏:‏ الدنانيرُ والدراهم، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها‏.‏
‏{‏والقناطير‏}‏ جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية، كما نقله النقّاش عن الكلبي، وهو الصحيح؛ فإن أصله في اللاّتينية «كِينْتال» وهو مائة رطل‏.‏ وقال ابن سيده‏:‏ هو معرّب عن السريانية‏.‏ فما في «الكشاف» في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قتطَرت الشيءَ إذا رفعتَه، تكلّف‏.‏ وقد كان القنطار عند العرب، وزنا ومقداراً، من الثروة، يبلغه بعض المثرين‏:‏ وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة، ويقولون‏:‏ قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة، وقد يقال‏:‏ هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب‏.‏
و ‏{‏المقنطرة‏}‏ أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوففِ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم‏:‏ لَيْلٌ ألْيَلُ، وظِلٌ ظَلِيلٌ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء، وشِعْرٌ شَاعِر، وإبِل مُؤَبَّلَة، وآلاف مُؤَلَّفَة‏.‏
‏{‏والخيل‏}‏ محبوبة مرغوبة، في العصور الماضية وفيما بعدها، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس، والعناية بالمسابقة بين الأفراس‏.‏
وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها، قال امرؤ القيس‏:‏
كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *** و ‏{‏المسوّمة‏}‏ الأظهر فيه ما قيل‏:‏ إنّه الراعية، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي، يقال‏:‏ أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل ‏"‏ فأطال لَها في مَرْج أو روضة ‏"‏‏.‏
وقيل‏:‏ المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب، قال العَتَّابي‏:‏
ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف
يريد جعلت له سُومة أفراسسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرفهم بسيماهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏
و ‏{‏الأنعام‏}‏ زينة لأهل الوبر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء‏}‏ الآيات في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً‏.‏
‏{‏والحرث‏}‏ أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساؤكم حَرث لكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَسقي الحرث‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ فيها‏.‏
والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا‏}‏ إلى جميع ما تقدم ذكره، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة‏.‏
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة‏.‏
ومعنى ‏{‏والله عنده حسن مئاب‏}‏ أنّ ثواب الله خير من ذلك‏.‏ والمآب‏:‏ المرجع، وهو هنا مصدرٌ، مَفْعَل من آب يَؤوب، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة، وقلبت الواو ألفاً، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏
‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏‏}‏
استئناف بياني، فإنّه نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏زين للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات‏.‏ وافتتح الاستئناف بكلمة ‏{‏قل‏}‏ للاهتمام بالمقول، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وأبو جعفر، ورُويس عن يعقوبَ‏:‏ ‏{‏أُونّبئكم‏}‏ بتسهيل الهمزة الثانية واوَا‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، ورَوح عن يعقوب، وخلفٌ‏:‏ بتخفيف الهمزتين‏.‏
وجملة ‏{‏للذين اتقوا عند ربهم جنات‏}‏ مستأنفة وهي المنبَّأ به‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏للذين اتقوا‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ «خيرٍ» و«جنّات» مبتدأ محذوف الخبر‏:‏ أي لهم، أو خبراً لمبتدأ محذوف‏.‏ وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة؛ لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة، للاستغناء عنها، وكذلك لذة الخيل والأنعام؛ إذ لا دوابّ في الجنة، فبقي ما يقابل النساء والحرث، وهو الجنّات وَالأزواج، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرُمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة‏.‏ ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ مِنه النفوس، فالطهارة هنا حسية لا معنوية‏.‏
وعطف ‏{‏رضوانٌ من الله‏}‏ على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله‏:‏ لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي؛ لأنّ رضوان الله تقريب رُوحاني قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏رِضوان‏}‏ بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم‏:‏ بضم الراء وهما لغتان‏.‏
وأظهر اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله‏}‏، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم‏:‏ لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان‏.‏
وجملة ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ اعتراض لبيان الوعد أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتببِ تقواهم، فهو يجازيهم، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء‏.‏ وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه بصير بالعباد‏}‏ لقصد استقلال الجملة لتكون كالمَثَل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يقولون‏}‏ عطف بيان ‏{‏للذين اتقوا‏}‏ وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة‏.‏ ومعنى القول هنا الكلامُ المطابق للواقع في الخبرِ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء، في قولهم‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ إلخ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يُجازَى هذا الجزاءَ من قال ذلك بفمه ولم يعمل لهُ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الصابرين والصادقين‏}‏ الآية صفات للذين اتّقوا، أو صفات للذين يقولون، والظاهر الأوّل‏.‏ وذكر هنا أصول فضائل صفات المتديّنين‏:‏ وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي‏.‏ والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبثّ الثقة بين أفراد الأمة‏.‏
والقنوت، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية‏.‏ والإنفاق وهو أصل إقامة أوَد الأمة بكفاية حاج المحتاجين، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس‏.‏ وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل، والسحر سُدس الليل الأخيرْ؛ لأنّ العبادة فيه أشدّ إخلاصاً، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقُون آخرَ الليل لأنّه وقت صفاء السرائر، والتجرّد عن الشواغل‏.‏
وعطف في قوله‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏، وما بعده‏:‏ سواء كان قوله‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏ صفة ثانية، بعد قوله‏:‏ ‏{‏الذين يقولون‏}‏، أممِ كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم، فيكون، بالعطف وبدونه، مثل تعدّد الأخبار والأحوال؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات‏.‏ وفي «الكشاف»؛ أنّ في عطف الصفات نكْتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كلّ صفة منها، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ مع أنّه لم يبيّن هنالك شيئاً من هذا، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك، وكلامه يقتضي أنّ الأصل عنده في تعدّد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذناً بمعنى خصوصي، يقصده البليغ، ولعل وجهه أنّ شأن حرف العطف أن يُستغنَى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات، وليس كذلك الصفات، فإذا عُطفت فقد نُزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة، وما ذلك إلاّ لقوة الموصوف في تلك الصفة، حتى كأنّ الواحد صار عدداً، كقولهم واحدٌ كألْف، ولا أحسب لهذا الكلام تسليماً‏.‏ وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ في سورة البقرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏
استئناف وتمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند اللَّه الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله، وإعلان هذا التوحيد، وتخليصه من شوائب الإشراك، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود، وإن تفاوَتوا في مراتب الإشراك، وفيه ضرب من ردّ العجز على الصدر‏:‏ لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم، نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 2، 3‏.‏
‏(‏والشهادة حقيقتها خبر يصدَّق به خَبَرُ مُخْبِرٍ وقد يكذّب به خبرُ آخرَ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏282‏)‏‏.‏ وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق، كان مظنّة اهتمام المخبِر به والتثبّتتِ فيه، فلذلك أطلق مجازاً على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم، فشهادة اللَّه تحقيقُه وحدانيتَه بالدلائل التي نصبها على ذلك، وشهادةُ الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة‏.‏
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبِر بالمخبِر، ولك أن تجعل «شهد» بمعنى بيَّن وأقام الأدلة، شُبه إقامة الأدلة على وحدانيته‏:‏ من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التَبعية، وبَيّن ذلك الملائكة بما نَزَلوا به من الوحي على الرسل، وما نطقوا به من محامد، وبيَّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين‏:‏ إقرار الملائكة، واحتجاج أولي العلم، ثم تِبْنيَه على استعمال شهد في معاننٍ مجازية، مثل‏:‏ ‏{‏إنّ الله وملائكته يصلّون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏، أو على استعمال شهد في مجاز أعم، وهو الإظهار، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام، بناء على عموم المجاز‏.‏
وانتصب ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ على الحال من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ هو‏}‏ أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏شهد الله‏}‏ فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط، فالشاهد بها قائم بالقسط، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين للَّه شهداء بالقسط‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وزعم ابن هشام في الباب الرابع‏:‏ أنّ كونه حالاً مؤكدة وهَم، وعلّله بما هو وهَم‏.‏ وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعرَاب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب‏.‏
والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله‏:‏ ‏{‏أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ وقوله‏:‏
‏{‏ليقوم الناس بالقسط‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وتقول‏:‏ الأمير قائم بمصالح الأمة، كما تقول‏:‏ ساهر عليها، ومنه «إقام الصلاة» وقول أيمن بن خُريم الأنصاري‏:‏
أقامتْ غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأِهْل العِراقَيْننِ حَوْلاً قميطاً
وهو في الجميع تمثيل‏.‏ *** والقسط‏:‏ العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنّه قال‏:‏ القسطاس‏:‏ العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان، لأنّه آلة للعدل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 35‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القِسط ليوم القيامة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نُظُمها، وفي تقدير بقاء الأنواع، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل‏:‏ لدفع ظلم بعضهم بعضاً، وظلمِهم أنفسَهم، فهو القائم بالعدل سبحانه، وعَدْل الناس مقتبس من محاكاة عدله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ تمجيد وتصديق، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقينُ الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يصلّون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ أي اقتداء بالله وملائكته، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏
قرأ جمهور القرّاء إنّ الدينإِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام‏}‏ بكسر همزة إنّ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بِأجمَع عبارة وأوجزَها‏.‏
وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة‏:‏ غرض محاجّة نصارى نجران، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب، إذ هو الفرقان، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم، ولما كان الكلام المتقدم مشتملاً على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن، وإبطاللٍ لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام «أسْلَمْنَا قبلَك» فقال لهم‏:‏ «كَذَبْتُم» روى الواحدي، ومحمد بن إسحاق‏:‏ أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله‏:‏ ‏"‏ أسْلِمَا ‏"‏ قالا‏:‏ «قد أسلمنا قبلك» قال‏:‏ ‏"‏ كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّهِ ولدا، وعبادتُكما الصليب ‏"‏، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله‏:‏ ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم‏.‏
واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة، وإن كان بعضها استئنافاً، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات‏.‏
وتوكيد الكلام بأنّ‏}‏ تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام‏:‏ أي الدين الكامل‏.‏
وقرأ الكسائي ‏{‏أنّ الدين‏}‏ بفتح همزة أنّ على أنّه بدل من ‏{‏أنَّه لا إله إلاّ هو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام‏.‏
والدين‏:‏ حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على‏:‏ مجموع عقائد، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب‏.‏ ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس‏.‏ وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم، ويقولون‏:‏ هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقال أبو سفيان يوم أحُد‏:‏ أعْلُ هُبَلْ‏.‏ وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس‏:‏ أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله‏:‏ «لقد علمتُ أنْ لو كان معه إله غَيرُه لقد أغنى عَنّي شيئاً»‏.‏ وأهل الأديان الإلهيَّة يترقّبون الجزاء الأوْفَى في الدنيا والآخرة، فأول دين إلهي كان حقاً وبه كان اهتداء الإنسان، ثم طرأت الأديان المكذوبة، وتشبّهت بالأديان الصحيحة، قال الله تعالى تعليماً لرسوله ‏{‏لكم دينكم ولي ديني‏}‏
‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه فِي دِين الملك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه «وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً»‏.‏
والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد هنا، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هو سمَّاكم المسلمين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة‏.‏
وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال؛ والإيمان على الاعتقاد، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع، كما في قوله تعالى، خطاباً لقوم أسلموا متردّدين ‏{‏قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل‏:‏ من ذكر معنى الإيمان، والإسلام، والإحسان‏.‏
والتعريف في الدين تعريف الجنس؛ إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة‏:‏ لأنّ الإسلام صار علماً بالغَلَبة على الدين المحمّدي‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد‏.‏
وقولُه‏:‏ ‏{‏عند الإسلام‏}‏ وصف للدين، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم‏:‏ فأفاد، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام، فيكون قصراً للمسند، إليه باعتبار قيد فيه، لا في جميع اعتباراته‏:‏ نظير قول الخنساء‏:‏
إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيل *** رأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا
فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتتِ حُجْ البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل‏.‏
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول‏:‏ إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله، حينَ الإخبار، وهو الإسلام، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما أختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن، وهذا المعنى أولي محملي الآية، لأنّ مُفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم‏.‏
ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكّنوا من العمل بها بدواممٍ وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان‏.‏ ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة‏.‏
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالاتتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد، إلاّ دواع غير منتشرة؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به، وتحسيننِ حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاععِ عن النفس، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأنّ بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدّات‏:‏ وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة‏.‏
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين‏:‏ عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان‏.‏
فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصوّر عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى، في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال‏:‏ «فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» وفي رواية البخاري‏:‏ «فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط» الحديث‏.‏ وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان‏.‏
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل، فحصل للأمم حظ من الحضارة، وتقاربت العوائد، وتوسّعت معلوماتهم، وحضارتهم، فكانت من الشرائع الإلهية‏:‏ شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن غيرها شريعة ‏(‏حمورابي‏)‏ في العراق، وشريعة البراهمة، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة ‏(‏زرادشت‏)‏ في الفرس، وشريعة ‏(‏كنفشيوس‏)‏ في الصين، وشريعة ‏(‏سولون‏)‏ في اليونان‏.‏
وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها، وامتزجت بها، وصاهرتها، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة‏.‏
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد، بسببين‏:‏ اضطراري، واختياري‏.‏ أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب، وأهل الغرب إلى الشرق، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم، وهما يومئذ قطبا العالم، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، وتوالت أزماناً طويلة‏.‏
وأمّا الاختياري فهو ما أبْقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد، حسنت في أعين رائيها، فاقتبسوها، وأشياء قبحت في أعينهم، فحذِروها، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة، وتأسّست مدنيات متفنّنة، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتاً ربما كان منه ما زاد بعضَها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة، وقهقر بعضاً عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها، أو العكوف والإلف على حضارتها‏.‏
فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة‏.‏
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم‏.‏ ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا تحت الصريح، والعلم الصحيح، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده‏.‏
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير ماسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم ‏{‏ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏، قال الشيخ أبو علي ابن سينا‏:‏ «الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لم يسمع رأياً، ولم يعتقد مذهباً، ولم يعاشر أمة، لكنّه شاهد المحسوسات، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً، قبل أن يعترضه الوهْم»‏.‏
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالاً، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة‏.‏ فبهذا الأصل‏:‏ أصللِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر‏.‏
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله‏.‏
المظهر الأول‏:‏ إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم ‏{‏قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏
وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثرَ ما تعرّض له؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة‏:‏ خوفاً من لا شَيء، وطمعاً في غير شيء، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه‏.‏
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي‏:‏ عزّة النفس، وأصلة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل‏.‏
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً‏.‏
المظهر الثاني‏:‏ جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى‏:‏ ‏{‏من عَمِل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏
المظهر الثالث‏:‏ اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر‏.‏
المظهر الرابع‏:‏ أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وفي القرآن‏:‏ ‏{‏قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي فذكر وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة» وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم‏.‏
والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الارض، إنّما هو مبْني‏:‏ على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الارض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائرالارض، ألاَ ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الارض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح، فإن عموم دعوتة حاصل غير مقصود‏.‏
المظهر الرابع‏:‏ الدوام ولم يَدّععِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة، بل ما من رسول، ولا كتاب، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده‏.‏
المظهر الخامس‏:‏ الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرّطنا في الكتاب من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان‏.‏
المظهر السادس‏:‏ أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور؛ لأنّ الشرور، إذا تَسرَّبت إلى النفوس، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين‏:‏ طريقة مباشرة، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث‏:‏
«إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس»‏.‏
المظهر السابع‏:‏ الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة، وفي القرآن ‏{‏يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه» وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام‏.‏
المظهر الثامن‏:‏ امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة‏.‏ وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتّحاد الأمة في العمل والنظام‏.‏
المظهر التاسع‏:‏ صراحة أصول الدين، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏
‏{‏وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏
عُطِفَ ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين عند الله الإسلام‏}‏ للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام، ومن سوء فهمهم في دينهم‏.‏
وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر‏:‏ لبيان سبب اختلافهم، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع‏.‏ وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّيننِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف، وبين سلامة الإسلام من ذلك‏.‏
وذلك أنّ قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم، والدوام، قبل التغيير، بلَه ما طرأ عليها من التغيير، وسوء التأويل، إلى يومَ مجيء الإسلام، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف، كما تقدّم في المظهر التاسع، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة، والتي لم يَدْعُ إليها داععٍ صريح‏.‏
وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ‏:‏ منها التحذير من الاختلاف في الدين، أي في أصوله، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف‏.‏
ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين‏.‏
ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان‏:‏ أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع‏.‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة ‏"‏ يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا‏.‏
ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض‏.‏
ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضضِ عنه بغياً منهم وحسداً، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146، 147‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ أي أعرضوا عن الإسلام، وصمّموا على البقاء على دينهم، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق‏.‏
ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله‏:‏ ‏{‏اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ليشمل كلّ اختلاف منهم‏:‏ من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين‏.‏
وحُذف متعلّق العلم في قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ لذلك‏.‏
وجُعل «بغيا» عقب قوله‏:‏ «من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلُّ من فعل ‏(‏اختلف‏)‏ ومن لفظ ‏(‏العِلم‏)‏‏.‏
وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به‏:‏ ليتنازعه كلّ من فعل ‏(‏اختلف‏)‏ وفِعل ‏(‏جاءَهم‏)‏ ولفظِ ‏(‏العِلم‏)‏ ولفظ ‏(‏بَغيا‏)‏‏.‏
وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم‏}‏
في سورة ا ‏[‏لبقرة‏:‏ 213‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة‏}‏ في سورة ‏[‏البيّنة‏:‏ 4‏]‏ كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين‏.‏
فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم‏:‏ أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين‏:‏ مملكة إسرائيل، ومملكة يَهُوذا، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح، وفي رسوم الدين، ويكون قوله‏:‏ بينهم حالاً لبغيا‏:‏ أي بغيا متفشيّا بينهم، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر‏.‏
ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم‏:‏ هو حق، وقال فريق‏:‏ هو مرسل إلى الأميّين، وكفر فريق، ونافق فريق‏.‏ وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى‏:‏ إن الدين عند الله الإسلام‏}‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ على هذا وصفا لبغيا‏:‏ أي بغياً واقعاً بينهم‏.‏
ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى‏.‏
وانتصب ‏{‏بغيا‏}‏ على أنّه مفعول لأجله، وعامل المفعول لأجله‏:‏ هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ‏:‏ ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم‏.‏ ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب، وهو وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت، فجاء الحال منه عقب ذلك، أي حال كون المختلفين باغين، فالمصدر مؤوّل بالمشتق‏.‏ ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من ‏(‏اختلف‏)‏ باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا‏.‏
وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف، والبغي كُفْر، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم، وإلى نكران دين الإسلام، ولذلك ذيّله بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بآيات الله‏}‏ إلخ‏.‏
وقولُه‏:‏ ‏{‏فإن الله سريع الحساب‏}‏ تعريض بالتهديد، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله‏:‏ ‏{‏إنْ حسابهم إلاّ على ربي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏‏.‏
وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين، وخدمة مقاصد الشريعة، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة، والنصارى عبدوا مريم والمسيح، ونقضوا أصول التوحيد، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق‏.‏ فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام‏.‏
والمحاجة مُفاعلة ولم يجئ فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة‏.‏ ومعنى المحاجّة المخاصمة، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل‏:‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاجّهُ قومه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ وتقدم عنذ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
فالمعنى‏:‏ فإن خاصموك خاصمَ مكابرة فقل أسلمت وجهي لله‏.‏
وضمير الجمع في قوله‏:‏ فإن حاجوك‏}‏ عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل معلوم من المقام، وهو مقام نزول السورة، أعني قضية وفد نجران؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ‏.‏ فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة، فانقطعت محاجّتهم، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة‏.‏
وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلاّ وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ أي ذاته‏.‏
وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث‏:‏ إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات، ومباهته، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد‏.‏ قال الفخر‏:‏ فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول‏:‏ أمّا أنا فمنقاد إلى الحق‏.‏ وإلى هذا التفسير مال القرطبي‏.‏
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏}‏ دون أن يقال‏:‏ فأعرض عنهم وقُل سلام، ضَرْباً من الإدماج؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين‏.‏
والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم، والإعذارُ إليهم، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله‏:‏ ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم‏}‏ خارج عن الحاجة، وإنّما هو تكرّر للدعوة، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم‏.‏
وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة، ومنه ما طُوي ذكره‏.‏
الطريقة الثانية أنّ قوله‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي‏}‏ تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني‏:‏ إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله‏:‏
‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم‏:‏ فإبراهيم قال‏:‏ ‏{‏إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ ومحمد عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ أسلمت وجهي لله ‏"‏ أي فقد قلتُ ما قاله الله، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك، فكيف تنكرون أنّي عتلى الحق، قال‏:‏ وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏
الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطً بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام، فقل‏:‏ إنّي بالإسلام أسلمتُ وجهي لله فلا ألتفتُ إلى عبادة غيره مثلكم، فديني الذي أرسلتُ به هو الدين عند الله ‏(‏أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس ديناً عند الله‏)‏‏.‏
وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله‏:‏ ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم‏}‏ خارجاً عن الحجة؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم، ويكون مراداً منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحْضيض كقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ أي قل لأولئك‏:‏ أتُسلمون‏.‏
وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل‏:‏ «حاجُّوك» الاستمرار على المحاجّة‏:‏ أي فإن استمرّ وفدُ نجران على محاجّتهم فقل لهم قولاً فَصْلاً جامعاً للفَرْق بين دينك الذي أرسلتَ به وبين ما هُم متديّنون به‏.‏ فمعنى ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ أخلصت عبوديتي له لا أوَجِّه وجهي إلى غيره، فالمراد أنّ هذا كُنْه دين الإسلام، وتَبيَّن أنَّه الدين الخالص، وأنّهم لا يُلْفُوْن تَدَيّنهم على هذا الوصففِ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم‏}‏ معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها، فيدخل المعطوف في التفريع، فيكون تقديرُ النظم‏:‏ ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقُل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين‏:‏ أأسلمتم، أي فكرِّرْ دعوتهم إلى الإسلام‏.‏
والاستفهامُ مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وجيء بصيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏}‏ دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر، للتنبيه على أنّه يَرجو تحقق إسلامهم، حتى يكونَ كالحاصل في الماضي‏.‏
اعلم أنّ قوله‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون، ويزداد المسلمون يقيناً بدينهم؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك‏}‏ وتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏}‏ أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة، وتختصر المقاولة، ويسهل عَرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة، ليعلموا ما هم عليه من الديانة‏.‏
وبَيّنتْ هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه؛ فإنّ اسمه الإسلام، وهو مفيد معنى معروفاً في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم، وقد حذف مفعوله ونُزِّل الفعل منزلة الفعل اللاّزم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليهِ، فكأنّه يقول‏:‏ أسلمتُني أي أسلمتُ نفسي، فبُين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلاّ يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد، فعبّر عنه بقوله‏:‏ ‏(‏وجهي‏)‏ أي نفسي‏:‏ لظهور ألاّ يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود، بل المعنى البَيِّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكاً له، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله، وتحت هذا معاننٍ جمّة هي جماع الإسلام‏:‏ نحصرها في عشرة‏:‏
المعنى الأول‏:‏ تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألاّ يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها‏.‏
المعنى الثاني‏:‏ إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله‏.‏
الثالث‏:‏ إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، على حسب المقدرة والعلممِ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المتكلّفين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 86‏]‏‏.‏
الرابع‏:‏ أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس، ليُجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة، بدون تحفّز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة، ولا إعراضضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة‏.‏
الخامس‏:‏ امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرسل الصادقين، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره‏.‏
السادس‏:‏ ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض‏.‏ كما حكى الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48، 49‏]‏، وقد وصف الله المسلمين بقوله‏:‏
‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث‏.‏
السابع‏:‏ أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله‏:‏ بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردون إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏ ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏
الثامن‏:‏ الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القوللِ فيه بغير سلطان‏:‏ ‏{‏ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏‏.‏
التاسع‏:‏ أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً، وجماعاتِها، ومعاملتها الأممَ كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات‏.‏
العاشر‏:‏ التصديق بما غُيّب عنّا، مما أنبأنا الله به‏:‏ من صفاته، ومن القضاء والقدر، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم‏}‏ إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم‏.‏
وأما اليهود فإنّهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى، وكذّبوا الرسل، وقتلوا الأحبار، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه‏.‏
ثم إنّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن أسلموا فقد اهتدوا‏}‏ معناه‏:‏ فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتَلقي ما تُبَلِّغِهم عن الله؛ لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم‏:‏ آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبِعة، فإنّما عليك البلاغ، فقوله‏:‏ ‏{‏فإنما عليك البللاغ‏}‏ وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنّن أنّ عدم اهتدائهم، وخيبتَك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك؛ إذ لم تُبعث إلاّ للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلَّغ إليهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ أي مطّلع عليهم أتمّ الأطّلاع، فهو الذي يتولّى جَزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به‏.‏
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي، وأبو جعفر، وخلف «اتبعني» بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف‏.‏ وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلامَ الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن‏.‏ والمناسبة‏:‏ جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه‏:‏ ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 20‏.‏
‏(‏وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية، وليس المراد إفادة التجدّد؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله‏:‏ ‏{‏يكفرون‏}‏ لا يتأتَّى في قوله‏:‏ ‏{‏ويقتلون‏}‏ لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمننٍ مضى‏.‏ والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي‏:‏ لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى، وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه، وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال، ملكُ إسرائيل، النبي أشعياء‏:‏ نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، ولم يحموه، فكان هذا القتل معدوداً عليهم، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنّهم رضُوا بها، وألَحّوا في وقوعها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ ‏{‏يقتلون النبيّئين‏}‏ إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏41‏)‏‏.‏
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم‏.‏
ولما كان قوله‏:‏ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط‏}‏ مومئاً إلى وجه بناء الخبر‏:‏ وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع‏.‏
وقرأ الجمهور من العشرة ‏{‏يقتلون‏}‏ الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده «ويُقاتلون» بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل‏.‏
والفاء في ‏{‏فبشّرهم‏}‏ فاء الجواب المستعملةُ في الشرط، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنّه ليس المقصود، قوماً معيّنين، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً‏.‏ واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً‏.‏
وحقيقة التبشير‏:‏ الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر ‏(‏بفتح الباء‏)‏ وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبَرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم‏.‏
اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله‏:‏
نزلتم مَنزل الأضياففِ منّا *** فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَزَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكم *** قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا
قال السكاكي‏:‏ وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب‏.‏
وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حبطت أعمالهم‏}‏ لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة‏.‏
واسم الإشارة مبتدأ، وخبره ‏{‏الذين حَبِطتْ أعمالهم‏}‏، وقيل هو خبر ‏(‏إنّ‏)‏ وجملة ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً‏.‏
وحَبَط الأعماللِ إزالةِ آثارها النافعة من ثواببٍ ونعيم في الآخرة، وحياةٍ طيّبة في الدنيا، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به‏.‏
وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏
والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلمّا كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم، ولذلك ابتُدئ به بقوله‏:‏ فبشرهم بعذاب أليم‏}‏‏.‏ فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا، ومعنى ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به‏.‏
وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي‏:‏ للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم‏.‏ فالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ للتقرير والتعجيب، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلاً على نفي الفعل والمراد حصولُ الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضاً للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى‏:‏ الذي يتعدى به فعل النظر، وجوز صاحب الكشاف‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 44‏]‏‏:‏ أن تكون الرؤية قلبية، وتكون ‏(‏إلى‏)‏ داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العِلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه، فتكون مثل قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
وعُرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم، أعني اليهودَ‏:‏ لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم؛ لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليللٍ أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم‏.‏ على ما في هذه الصلة أيضاً من توهين علمهم المزعوم‏.‏
والكتاب‏:‏ التوراة فالتعريف للعهد، وهو الظاهر، وقيل‏:‏ هو للجنس‏.‏
والمراد بالذين أوتوه هم اليهود، وقيل‏:‏ أريد النصارى، أي أهل نجران‏.‏
والنصيب‏:‏ القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 202‏]‏‏.‏
‏{‏وتنكير نصيباً‏}‏ للنوعية، وليس للتعظيم؛ لأنّ المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل‏.‏
و ‏{‏من‏}‏ للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابُهم، والمراد‏:‏ أوتوا بعض كتابهم، تعريضاً بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلاّ حظّاً يسيراً، ويجوز كون مِن للبيان‏.‏ والمعنى‏:‏ أوتوا حظّاً من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه‏.‏
وجملة ‏{‏يدعون إلى كتاب الله‏}‏ في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها، وهو، قوله‏:‏ ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏ لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله، وإذا جعلت ‏(‏تَر‏)‏ قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمتَ بُعده‏.‏
و ‏{‏كتاب الله‏}‏‏:‏ القرآن كما في قوله‏:‏ ‏{‏نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللَّه وراء ظهورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ فهو غير الكتاب المراد في قوله‏:‏ ‏{‏من الكتاب‏}‏ كما ينبئ به تغيير الأسلوب‏.‏ والمعنى‏:‏ يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون‏.‏ ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحَه إلى صفاته‏.‏
روي، في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نُعيم بن عمرو، والحارث بن زَيد‏:‏ على أيّ دين أنت قال‏:‏ على ملة إبراهيم قالا‏:‏ فإنّ إبراهيم كان يهودياً‏.‏
فقال لهما‏:‏ إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبيا،
وقوله‏:‏ ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏ ‏(‏ثم‏)‏ عاطفة جملة ‏{‏يتولّى فريق منهم‏}‏ على جملة ‏{‏يدعون‏}‏ فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت ‏(‏ثم‏)‏ على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولَّون ثم يتولّون؛ لأنّ المرء قد يُعرض غضباً، أو لِعِظَم المفاجأة بالأمر غيرِ المترقَّب، ثم يثوب إليه رشده، ويراجع نفسه، فيرجع، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخخٍ حاصل بفحوى الخطاب‏.‏
فدخول ‏{‏ثم‏}‏ للدلالة على التراخي الرتبي؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتُوا الكتاب ونقلوه، فإذا دُعوا إلى كتابهم تولّوا‏.‏ والإتيان بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يتولون‏}‏ للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن عُلبة الحارثي‏:‏
ولا يكشف الغَمَّاء إلاّ ابن حرة *** يَرَى غَمَراتتِ الموتتِ ثُم يَزُورها
والتولّي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان‏.‏
وجملة ‏{‏وهم معرضون‏}‏ حال مؤكّدة لجملة ‏{‏يتولّى فريق‏}‏ إذ التولّي هو الإعراض، ولما كانت حالاً لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض، منهم المفاد أيضاً من المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار‏}‏ الإشارة إلى تولّيهم وإعراضهم، والباء للسببية‏:‏ أي إنّهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنّهم في أمان من العذاب إلاّ أياماً قليلة، فانعدَم اكتراثهم باتّباع الحق؛ لأنّ اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حاللٍ جَرّأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض‏.‏ وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضاً بسفالة همّتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس‏.‏ وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أنّ هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنّه قول مفتري مدلّس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود، كما تقدم في البقرة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي ما تقوّلوه على الدِّين وأدخلوه فيه، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية‏.‏ ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏، وكانوا أيضاً يزعمون أنّ الله وعد يعقوب ألاّ يعذّب أبناءه‏.‏
وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأنّ المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجوٌ، أما المغرور فلا يترقّب منه إقلاع‏.‏ وقد ابتلي المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه‏}‏ تفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏وغرهم في دينهم‏}‏ أي إذا كان ذلك غروراً فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازاً‏.‏
«وكيف» هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق، و‏{‏إذا‏}‏ ظرف منتصب بالذي عمِلَ في مظروفه‏:‏ وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك‏:‏ كيف أنت إذا لقيت العدوّ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏
‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك‏.‏
و ‏{‏اللهم‏}‏ في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء، ومعناه يا الله‏.‏ ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة‏:‏ إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلاّ عند إرادة الدعاء صار غنيّاً عن جلب حرف النداء اختصاراً، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء‏.‏ والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة ‏(‏اللَّهم‏)‏ من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لاَ هُم مرداف إله‏.‏
ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى‏:‏
كدعوةٍ من أبي رباح *** يَسْمَعُها اللهُم الكبير
وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقوللِ أبي خراش الهذلي‏:‏
إنِّي إذا ما حَدَتٌ ألَمَّا *** أقُول يا اللهُمّ يا اللهُمّا
وأنّهم يقولون يا الله كثيراً‏.‏ وقال جمهور النحاة‏:‏ إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي‏:‏ وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ‏.‏ وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها «يا الله أمّ» أي أقبل علينا بخير، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه‏.‏
والمالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يُقصد له من ذواتها، ومنافعها، وثمراتها، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد، وهو الأكثر، وقد يكون بمشاركةٍ‏:‏ واسعةٍ، أو ضيّقة‏.‏
والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون، وإقامةِ الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة‏.‏ وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أنّى يكون له المُلك علينا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏247‏)‏ وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك ‏(‏بالضم‏)‏ بما يشاء، بأن يراد بالمُلك هذا النوع‏.‏ والتعريف في المُلك الأول لاستغراق الجنس‏:‏ أي كل ملك هو في الدنيا‏.‏ ولما كان المُلك ماهية من المواهي، كان معنى كون الله مالك المُلك أنّه المالك لتصريف المُلك، أي لإعطائه، وتوزيعه، وتوسيعه، وتضييقه، فهو على تقدير مضاف في المعنى‏.‏
والتعريف في المُلك الثاني والثالث للجنس، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس المُلْك، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن‏.‏
ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله‏:‏ ‏{‏تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏ فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك‏:‏ إيجاباً، وسلباً، وكثرة وقلّة‏.‏
والنزع‏:‏ حقيقة إزالة الجِرم من مكانه‏:‏ كنزع الثوب، ونزع الماء من البئر، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غلّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان، وتشبيه إزالته بالنزع، ومنه قوله هنا‏:‏ ‏{‏تنزع الملك‏}‏ أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بيدك الخير‏}‏ تمثيل للتصرّف في الأمر؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده، ولو كان لا يوضع في اليد، قال عنترة بن الأخرس المَعْني الطائي‏:‏
فما بيديك خير أرتجيه *** وغيرُ صدودَك الخطبُ الكبير
وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة، ولا تشابه فيه‏:‏ لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي‏.‏ والاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ أي والبرد‏.‏
وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعَرَض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور‏:‏
«وخُص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخيرمن الله، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل‏:‏
مصائب قوم عند يوم فوائدُ *** أي «الخير مقتضَى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتَبع لِمَا أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل، لصار تركها شرّاً كثيراً، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ»‏.‏
وحقيقة «تُولج» تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل، فكأنَّ أحدهما يدخل في الآخر، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلاّ العلماء، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة‏:‏ «كان بعضهم يقول‏:‏ القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقات ومنه هذه الآية؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلاّ الخواص والفصولَ التي يدركها سائر العوام»‏.‏
وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات، ولذلك ابتدئ بقوله‏:‏ ‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏، ليكون الانتهاء بقوله‏:‏ ‏{‏وتولج النهار في الليل‏}‏، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله‏:‏ ‏{‏تؤتي الملك من تشاء‏}‏ الآية‏.‏ والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏اللهم مالك الملك‏}‏ إلخ‏.‏
وإخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة، ومن مُح البيضة‏.‏ وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله‏:‏
‏{‏ومن يخرج الحي من الميّت‏}‏ في سورة يونس ‏(‏31‏)‏‏.‏ وهذا رمز إلى ظهور الهُدى والملك في أمّة أمية، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين، وزوال الملك من خَلَفهم يعد أن كان شعار أسلافهم، بقرينة افتتاح الكلام بقوله‏:‏ اللهم مالك الملك‏}‏ إلخ‏.‏
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف‏:‏ «الميّت» بتشديد التحتية‏.‏ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب‏:‏ بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏ هو كالتذييل لذلك كلّه‏.‏
والرزق ما يَنتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمارَ كقوله‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليأتكم برِزق منه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدْعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب‏.‏ وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب ثم قال إنّ لهذا لَرِزْقُنا مَالَه من نَفَاد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 51 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله‏}‏ ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقاً‏:‏ لأنّ بها يعوض ما هو رزق، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏
استئناف عُقب به الآي المتقدمة، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم، وتولّيهم عنه‏:‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 116‏]‏ إلى هنا‏.‏
فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها‏:‏
نَهى الله المؤمنين بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم أنْ يتخذوا الكفّار أولياءَ من دون المؤمنين؛ لأنّ اتّخاذهم أولياء بعد أنْ سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتِّباعه يعدّ ضعفاً في الدين وتصويباً للمعتدين‏.‏
وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودّات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم‏.‏ وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين‏.‏ وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين‏:‏ مثل المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بآيات اللَّه فإنّ اللَّه سريع الحساب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، فلذلك كله قيل‏:‏ إن الآية نزلت في «حاطب بن أبي بلتعه» وكان كان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين، إلا أنه تأول فكتب كتاباً إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وقيل‏:‏ نزلت في أسماءَ ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرّ والدتها وصِلتِها، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة؛ فإنّه ثبت في «الصحيح» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ صِلِي أمَّككِ‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولِّين لكعْب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيق، وهما يهوديان بيثرب‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود؛ إذ هم كفّار جهتهم، وقيل‏:‏ نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود، فلما كان يوم الأحزاب، قال عُبادة للنبيء صلى الله عليه وسلم إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يَخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذاباً شديداً، فقال ما أرادوه منه، فكَفُّوا عنه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏"‏ كيف تجد قلبك ‏"‏ قال‏:‏ «مطمئناً بالإيمان» فقال‏:‏ فإنْ عَادُوا فعُد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ ‏(‏من‏)‏ لتأكيد الظرفية‏.‏
والمعنى‏:‏ مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده‏:‏ «ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء» لأنّه نفيٌ لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال، والعرب تقول‏:‏ «أنت منّي وأنا منك» في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة‏:‏ لست منّي ولست منك؛ قال النابغة‏:‏
فإنّي لستُ منك ولستَ منّي ***
فقوله‏:‏ ‏{‏في شيء‏}‏ تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال التي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل‏:‏ إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين، ومِمَّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إنّ المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 144، 145‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ لا مفهوم لقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ لأنّ آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقاً‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ وقوله ‏{‏يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 57‏]‏ وإلى هذا الوجه مالَ الفخر‏.‏
واسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ بمعنى ذلك المذكور، وهو مضمون قوله‏:‏ ‏{‏أولياء من دون المؤمنين‏}‏‏.‏
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصتُ من ذلك ثمانية أحوال‏.‏
الحالة الأولى‏:‏ أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفته، أولياء له في باطن أمره، ميلاً إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالك‏:‏ أنّ قائلاً قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أين مالك بن الدُّخْشُن ‏"‏، فقال آخر‏:‏ «ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله» فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تقل ذلك أما سمعتَه يقول لا إله إلاّ الله يبْتغي بذلك وجه الله ‏"‏ فقال القائل‏:‏ «الله ورسوله أعلم فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين»‏.‏ فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلاّ الله‏.‏
الحالة الثانية‏:‏ الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفّار، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلاّ أنّ ارتكبها إثم عظيم، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام، على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام، والغيرة عليه، كما قل العتابي‏:‏
تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني *** صديقك إنّ الرأي عنك لَعَازب
وفي مثلها نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 9‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ كانت كفّار قريش من المستهزئين» وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما ينهاكم اللَّهعن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 9‏]‏ الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ الآية نزلت في قوم كان، بينهم وبين اليهود، جوار وحلف في الجاهلية، فداوموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيْق، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحالة الثالثة‏:‏ كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا، الذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏ وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر‏:‏ وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلاّ أنّه منهيّ عنه، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين‏.‏
الحالة الرابعة‏:‏ موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك، في الجاسوس يتجسس للكفّار على المسلمين‏:‏ إنّه يُوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب لأنّ التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غروراً، ويفعله طمعاً، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأباً وعادة، وقال ابن القاسم‏:‏ ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق، وهو الذي يُظهر الإسلام ويسر الكفار، إذَا اطُّلع عليه، وقال ابن وهب رِدّة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر‏.‏
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمْتونيين، فيقال‏:‏ إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أميرَ المسلمين علياً بنَ يوسف بننِ تاشفين، بكفر ابن عبّاد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه‏.‏
الحالة الخامسة‏:‏ أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعَرْضِهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها‏:‏ ففي المدوّنة قال ابن القاسم‏:‏ لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافرٍ تبعه يوم خروجه إلى بدر‏:‏ ‏"‏ ارجع فلن أستعين بمشرك ‏"‏ وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب‏:‏ أنّ مالكاً قال‏:‏ لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البر‏:‏ وحديث
«لَن أستعين بمشرك» مختلف في سنده، وقال جماعة‏:‏ هو منسوخ، قال عياض‏:‏ حملُه بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاص واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذ غير مسلم، واحتجوا أيضاً بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود‏:‏ «إنَّا وأنتم أهل كتاب وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإمّا قاتلتم معنا وإلاّ أعرتمونا السلاح» وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال‏:‏ لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم‏:‏ لأنّ الإذن كالطلب، ولكن إذا أخرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة‏:‏ أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد‏:‏ وهذا لا وجه له، وعن أصبغ المنع مطلقاً بلا تأويل‏.‏
الحالة السادسة‏:‏ أن يتّخذ واحد من المسلمين واحداً من الكافرين بعينه وَليّاً له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏ واستأذنتْ أسماءُ النبي صلى الله عليه وسلم في برّ والدتها وصِلتها، وهي كافرة، فقال لها‏:‏ «صِلِي أمّك» وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏}‏ ‏[‏الممتجنة‏:‏ 8‏]‏ قيل نزلت في والدة أسماءَ، وقيل في طوائف من مشركي مكة‏:‏ وهم كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة‏.‏ وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبي، والتردّد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية‏.‏
الحالة السابعة‏:‏ حالة المعاملات الدنيوية‏:‏ كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه‏.‏
الحالة الثامنة‏:‏ حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏‏.‏
والاستثناء في ‏{‏إلاّ أن تتّقوا‏}‏ منقطع ناشئ عن جملة ‏{‏فليس من الله في شيء‏}‏ لأنّ الاتّقاء ليس ممّا تضمنه اسم الإشارة، ولكنّه أشبَه الولاية في المعاملة‏.‏
والاتّقاء‏:‏ تجنّب المكروه، وتعديته بحرف ‏(‏مِن‏)‏ إمّا لأنّ الاتّقاء تستّر فعديّ بمن كما يعدّى فعل تستّر، وإمّا لتضمينه معنى تخافوا‏.‏
و ‏{‏تُقاةً‏}‏ قرأه الجمهور‏:‏ بضم المثنّاة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف، وهو اسم مصدر الاتّقاء، وأصله وُقَيَة فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعاً لفعل اتّقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتّى إدغامها في تاء الافتعال، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتُّجاة والتكْلة والتوءَدَة والتخْمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلاّ هذا‏.‏ وشذّ تُراث‏.‏ يدل لهذا المقصد قول الجوهري‏:‏ «وقولهم تُجاهك بني على قولهم اتّجه لهم رأي»‏.‏ وفي «اللسان» في تخمة، «لأنّهم توهّموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال»‏.‏ ويدل لذلك أيضاً قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشدّدة بوزن فَعِيلة‏.‏
وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا‏:‏ الإشارة إلى تحقّق كون الحالة حالة تَقِية، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يَجدوا سبيلاً للهجرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدوّ، وكذلك يجب أن تكون التُّقاة غير دائمة لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها‏.‏
وانتصاب ‏{‏نفسَه‏}‏ على نزع الخافض وأصله ويحذّركم الله من نفسه، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسدَ، وأصله أحَذِّرك من الأسد‏.‏ وقد جعل التّحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعمّ في الأحوال، لأنّه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهّم أنّ لله رضا لا يضرّ معه، تعمّد مخالفة أوامره، والعربُ إذا أرادت تعميم أحوال الذات علّقت الحكم بالذات‏:‏ كقولهم لولا فلان لهلك فلان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا رجال مؤمنون إلى قوله لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا‏.‏
وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافاً إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏
وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه‏.‏
و ‏{‏المصير‏}‏‏:‏ هو الرجوع، وأريد به البعث بعد الموت وقد عَلِم مثبتو البعث لا يكون إلاّ إلى الله، فالتقديم في قوله‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ لمجرد الاهتمام، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏
انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله، وهو إشعار المحذّر باطّلاع الله على ما يخفونه من الأمر‏.‏
وذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر‏:‏ جرياً على معروف اللغة من إضافة الخواطر النفسية إلى الصدر والقلب، لأنّ الانفعالات النفسانية وتردّدات التفكّر ونوايا النفوس كلّها يشعر لها بحركات في الصدور‏.‏
وزاد أو تُبدوه فأفاد تعميم العلم تعليماً لهم بسعة علم الله تعالى لأنّ مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح‏.‏
وجملة ‏{‏ويعلم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ معطوفة على جملة الشرط فهي معمولة لفعل قل، وليست معطوفة على جواب الشرط‏:‏ لأنّ علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقاً غير معلّق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجملة من التعميم يجعلها في قوة التذييل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ إعلام بأنّه مع العلم ذو قدرة على كلّ شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدِّد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلاّ أحد أمرين‏:‏ الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أنّ الله لا يفلتهم من عقابه‏.‏
وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير‏:‏ لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل، والجملة لها معنى التذييل‏.‏ والخطاب للمؤمنين تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏لا يتّخذ المؤمنون الكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ الآية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏
جملة مستأنفة، أصل نظم الكلام فيها‏:‏ تَوَدّ كل نفس لَوْ أنّ بينهَا وَبيْن ما عملت من سوء أمداً بعيداً يومَ تَجِدُ مَا عملت من خير مُحْضراً‏.‏ فقُدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان، إذا كانت هي المقصود من الكلام، قضاء لحق الإيجاز بنسج بديع‏.‏ ذلك أنّه إذا كان اسم الزمان هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وكان مع ذلك ظرفاً لشيء من علائقه، جيء به منصوباً على الظرفية، وجُعل معنى بعضضِ ما يحصل منه مصوغاً في صيغة فعللٍ عامل في ذلك الظرف‏.‏ أو أصل الكلام‏:‏ يحضر لكلِّ نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء، فتودّ في ذلك اليوم لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمداً بعيداً، أي زماناً متأخّراً، وأنّه لم يحضر ذلك اليومَ‏.‏ فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملتْ من سوء، فحُوِّل التركيب، وجُعل ‏(‏تودّ‏)‏ هو الناصب ليوم، ليستغنى بكونه ظرفاً عن كونه فاعلاً‏.‏ أو يكون أصل الكلام‏:‏ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شرّ محضراً، تودّ لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم أمداً بعيداً؛ ليكون ضمير بينه عائداً إلى يوم أي تودّ أنّه تأخّر ولم يحضر كقوله‏:‏ ‏{‏رب لولا أخرتنِي إلى أجل قريب فأصدّق‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس‏.‏
ويوماً على ظهر الكثيب تعذّرت *** عليّ وآلت حِلفة لم تُحَلَّل
فإنّ مقصده ما حصل في اليوم، ولكنّه جعل الاهتمام بنفس اليوم، لأنّه ظرفه‏.‏ ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأنّ الظرف والمجرور يشبهان الروابط، فالجملة المفصولة إذا صدّرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها‏:‏ كما في هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قالت امرأة عمران‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏ ونحوهما، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في «الكشاف»‏.‏
وقيل منصوب باذكر، وقيل متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏المصير‏}‏ وفيه بعد لطول الفصل، وقيل بقوله‏:‏ ‏(‏ويحذّركم‏)‏ وهو بعيد، لأنّ التحذير حاصل من وقت نزول الآية، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام‏.‏
فعلى الوجه الأول قوله تودّ هو مبدأ الاستئناف، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عمِلت من سُوء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ يجوز أن كون تكريراً للتحذير الأول لِزيادة التأكيد كقول لبيد‏:‏
فتنازَعَا سَبِطاً يَطير ظِلاله *** كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها
مَشْمُولَةٍ غُلِثت بنابت عَرنَج *** كدُخَاننِ نَارٍ سَاطِععٍ أسْنَامُها
ويجوز أن يكون الأول تحذيراً من موالاة الكافرين، والثاني تحذيراً من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضراً‏.‏
والخطاب للمؤمنين ولذلك سمّى الموعظة تحذيراً‏:‏ لأنّ المحذّر لا يكون متلبّساً بالوقوع في الخطر، فإنّ التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالاً بعدَ الوقوع وذيّله هنا بقوله‏:‏ ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ للتذكير بأنّ هذا التحذير لمصلحة المحذّرين‏.‏
والتعريف في العباد للاستغراق‏:‏ لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ الناس مسلمهم وكافرهم‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏ وما وعيدهم إلاّ لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلاّ لصدق كلماته، وانتظاممِ حكمته سبحانه‏.‏ ولك أن تجعل ‏(‏أل‏)‏ عوضاً عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏
انتقال إلى الترغيب بعد الترهيب على عادة القرآن‏.‏ والمناسبةُ أنّ الترهيب المتقدم ختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله رؤف بالعباد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ والرأفة تستلزم محبة المرؤف به الرؤفَ، فجَعْلُ محبة الله فعلاً للشرط في مقام تعليق الأمر باتباععِ الرسول عليه مَبْنِيٌّ على كون الرأفة تستلزم المحبة، أو هو مبني على أنّ محبة الله أمر مقطوع به من جانب المخاطبين، فالتعليق عليه تعليق شرط محقّق، ثم رتّب على الجزاء مشروط آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏يحببكم الله‏}‏ لكونه أيضاً مقطوع الرغبة من المخاطبين، لأنّ الخطاب للمؤمنين، والمؤمن غايةُ قصده تحصيل رضا الله عنه ومحبته إياه‏.‏
والمحبة‏:‏ انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء‏:‏ من صفات ذاتية‏.‏ أو إحسان، أو اعتقاد أنّه يُحِب المستحسِنَ ويَجُر إليه الخير‏.‏ فإذا حصل ذلك الانفعال عقِبَهُ ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعِل محبّاً، ويكون المشعور بمحاسنه محبوباً، وتُعدّ الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالاً عند المحبّ، فإذا قويَ هذا الانفعال صار تهيّجاً نفسانياً، فسُمي عشقاً للذوات، وافتنَاناً بغيرها‏.‏
والشعور بالحسن الموجبُ للمحبة يُستمدّ من الحواسّ في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال، ويُستمد أيضاً من التفكّر في الكمالات المستدلّ عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة، ولذلك يحبّ المؤمنون الله تعالى، ويحبّون النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً للكمالات، واعتقاداً بأنّهما يدعوانهم إلى الخير، ويحبّ الناس أهل الفضل الأوّلين كالأنبياء والحكماء والفاضلين، ويحبون سُعاة الخير من الحاضرين وهم لم يَلْقوهم ولا رَأوْهم‏.‏
ويَرجِع الجماللِ والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها‏:‏ من الأشكال، والأنغام، والمحسوسات، والخلال‏.‏ وهذه الملاءمة تكون حسيّة لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف، والحرّ في الشتاء، وملاءمة الليِّن لسليم الجلد، والخُشِن لمن به داعي حِكّة، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة‏.‏ وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدواء للمريض، والتعبَ لجاني الثمرة، والسهَر للمتفكّر في العلم، وتكون لأجل الإلف، وتكون لأجل الاعتقاد المحض، كتلقّي الناس أنّ العلم فضيلة، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدَهم من غير تأمل في صلاحها، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءَمة الألوان اللطيفة‏.‏
وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحاً بأضدادها كالأشكال الفاسدة، والأصوات المنكرة، والألوان الكريهة، دائماً أو في بعض الأحوال، كاللون الأحمر يراه المحموم‏.‏
ولم يستطع الفلاسفة توضيح علّة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس‏:‏ ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حَسناً لدى النفس، والشكللِ المختلّ قبيحاً، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب‏:‏
ضُروبُ الناس عُشاقٌ ضُرُوبا *** وأنّ بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهَد أنّ معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالمو الأذواق‏.‏
فأما المتقدمون فقال سُقراط‏:‏ سبب الجمال حبّ النفع، وقال أفلاطون‏:‏ «الجمال أمر إلا هي أزلي موجود فِي عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلمّا نزلت إلى الأجسام صارت مهماً رأت شيئاً على مِثال ما عهِدته في العوالم العقلية وهي عالم المِثال مَالت إليه لأنّه مألوفها من قبل هبوطها»‏.‏ وذهب الطبائعيون‏:‏ إلى أنّ الجمال شيء ينشأ عندنا عن الإحساسسِ بالحواس‏.‏ ورأيتُ في كتاب «جامع أسرار الطب» للحكيم عبد الملك ابن زُهر القرطبي «العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذّه، وذلك أنّ الروح النفساني الذي مسكنه الدمَاغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخّر الدماغ وهو الذُّكْر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسَن انضم النوري البصريّ وارتَعَد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقبله قبولاً حسناً ثم يودعه الذُّكر فيوجب ذلك المحبةَ‏.‏ ويشترك أيضاً بالروح الحيواني الذي مسكنه القَلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر»‏.‏
والحق أنّ منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثّر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضاً كتأثّر المحمُوم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي‏:‏
وحَبّبَ أوطَانَ الرجاللِ إليهِمُ *** مآربُ قَضّاها الشبابُ هُنالِك
إذَا ذَكَروا أوطانَهم ذَكّرَتْهُمُ *** عُهُودَ الصِّبَا فيها فحنوا لِذَلِكَ
وعن ترقّب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقّب الخير من صاحب الكمال والفضيلة‏.‏
ووراء ذلك كلّهِ شيءٌ من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة‏.‏
وقد اختلف المتقدمون في أنّ المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات‏:‏ فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبّة المادية، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبةِ العبد للَّهِ تعالى، وهذا هو الحق، وقال به من المتقدّمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون، فقيل محبة أفلاطونية‏:‏ لأنّه بحث عنها وعلَّلَها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعِلم والكرم والعدل، فنجد من أنفسنا ميلاً إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميلُ حتى يصير محبّة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم، ألا ترى أنّ مزاولة كتب الحديث والسيرةِ ممّا يقوّي محبة المزاوِل في الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك صفات الخالق تعالى، لما كانت كلها كمالات وإحساناً إلينا وإصلاحاً لفاسدنا، أكسبنا اعتقادُها إجلالاً لموصوفها، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوَى إلى أن يصير محبّة وفي الحديث‏:‏
«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ أنْ يكونَ الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يُحب المرءَ لا يحبّه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبّة ولذلك جُعل عندها وجدان حلاوة الإيمان أي وجدانه جميلاً عند معتقدِه‏.‏
فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازاً بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح‏.‏
ومن آثار المحبّة تطلّب القرب من المحبوب والاتّصاللِ به واجتناب فراقه‏.‏ ومن آثارها محبة ما يسّره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتّباع الرسول على محبة الله تعالى لأنّ الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبّة‏.‏
وأما إطلاق المحبة في قوله‏:‏ ‏{‏يحببكم الله‏}‏ فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبّة وهو الرضى وسَوْق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه‏.‏ وهما المعبر عنهما بقوله‏:‏ ‏{‏يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم‏}‏ فإنّ ذلك دليل المحبة وفي القرآن‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 18‏)‏‏.‏
وتعليق محبة الله إياهم على ‏{‏فاتبعون‏}‏ المعلّق على قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تحبون الله‏}‏ ينتظم منه قياس شرطي اقتراني‏.‏ ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتّباع الرسول فهو حبّ كاذب، لأنّ المحب لمن يحبّ مطيع، ولأنّ ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاضة له وتلبس بعدوّه وقد قال أبو الطيب‏:‏
أأحبّه وأحبّ فيه ملامة *** إنّ الملامة فيه من أعدائه
فعلم أنّ حب العدوّ لا يجامع الحب وقد قال العتابي‏:‏
تودّ عدوي ثم تزعم أنّني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب
وجملة ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ في قوة التذييل مثل جملة ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ المتقدمة‏.‏ ولم يذكر متعلّق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏
‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
عودة إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت‏:‏ فَذْلَكَةً للكلام، وحرصاً على الإجابة، فابتدأ الموعظة أولاً بمقدمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ ثم شرع في الموعظة بقوله‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏ وهو ترهيب ثم بذكر مقابله في الترغيب بقوله‏:‏ ‏{‏قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله‏:‏ ‏{‏شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ الآية وفي ذلك تفصيل كثير‏.‏ ثم جاء بطريق المجادلة بقوله‏:‏ ‏{‏فإن حاجّوك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيين بغير حق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏ الآيات‏.‏ ثم أمر بالقطيعة في قوله‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردّاً للعجز على الصدر المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين، نفياً عن هؤلاء الكافرين المعيَّنين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏
انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة بين التمهيد والمقصد، كطريقة التخلّص، فهذا تخلّص لمحاجّة وفد نَجْرَانَ وقد ذكرناه في أول السورة، فابتُدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبَوا البشر أو أحدُهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب‏.‏ فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلاّ شذوذاً من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظرية تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظرية فائلة‏.‏
وآدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان، وهو علَم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة، ولا شك أنّ من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبِّر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أنّ الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقاً من الأدمة، وهي اللون المخصوص لأنّ تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعلّ العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذاً من وصف لَون آدم أبي البشر‏.‏
وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضى‏:‏ أنّ آدم وُجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنتين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبّله المؤرّخون المتبعون لضبط السنين‏.‏ والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حَضارة البشرية أنّ هذا الضبط لا يُعتمد، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدّده سفر التكوين‏.‏
وأمّا نوح فتقول التوراة‏:‏ إنه ابن لاَمك وسمّي عند العرب لَمَك بن متوشالخ بن أخنوخَ ‏(‏وهو إدريس عند العرب‏)‏ ابن يارد بتحتية في أوله بن مَهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم‏.‏ وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود ءادم‏.‏
وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولادَه وأزواجهم في الفُلْك فيكون أباً ثانياً للبشر‏.‏ ومن الناس من يدّعى أنّ الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرّخو الصين وزعموا أنّ الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أباً ثانياً للبشر‏.‏ وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام، حام، ويافث، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح، وعُمِّر نوح تسعماية وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى‏:‏
‏{‏فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ وفي التوراة‏:‏ أنّ الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأنّ نوحاً صار بعد الطوفان فلاّحاً وغرس الكرم واتّخذ الخمر‏.‏ وذكر الألوسي صفته بدون سند فقال‏:‏ كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيمَ العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرّة طويل القامة جسيماً طويل اللحية، قيل‏:‏ إنّ مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة، وقيل في ذيل جبل لبنان، وقيل بمدينة الكرك، وسيأتي ذكر الطوفان‏:‏ في سورة الأعراف، وفي سورة العنكبوت، وذكر شريعته في سورة الشورى، وفي سورة نوح‏.‏
والآل‏:‏ الرهط، وآل إبراهيم‏:‏ أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم‏.‏ وشمل آل إبراهيم الأنبياءَ من عقبه كموسى، ومَن قبله ومن بعده، وكمحمد عليه الصلاة والسلام، وإسماعيل، وحنظلةَ بن صفوان، وخالد بن سنان‏.‏
وأما آل عمران‏:‏ فهم مريم، وعيسى، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم، قال المفسّرون‏:‏ هو من نسل سليمان بن داود، وهو خطأ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى، كما سيأتي قريباً‏.‏ وفي كتب النصارى‏:‏ أنّ اسمه يوهاقيم، فلعله كان له اسمان ومثله كثير‏.‏ وليس المراد هنا عِمران والد موسى وهارون؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنِها عيسى بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إذ قالت امرأت عمران‏}‏‏.‏
وتقدم الكلام على احتمال معنى الآل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏ ولكنّ الآل هنا متعين للحمل على رهط الرجل وقرابته‏.‏
ومعنى اصطفاء هؤلاء على العالمين اصطفاء المجموع على غيرهم، أو اصطفاء كلّ فاضل منهم على أهل زمانه‏.‏
وقوله‏:‏ ذرية بعضها من بعض‏}‏ حال من آل إبراهيم وآللِ عمران‏.‏ والذرية تقدم تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال من ذريتي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏ وقد أجمل البعض هنا‏:‏ لأنّ المقصود بيان شدّة الاتصال بين هذه الذرية، فمن للاتصال لا للتبعيض أي بين هذه الذرية اتّصال القرابة، فكل بعض فيها هو متّصل بالبعض الآخر، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس من اللَّه في شيء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏
والغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدّة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة مُوجبَ عداوة وتفريق‏.‏ ومن هنا ظهر موقع قوله‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ أي سميع بأقوال بعضكم في بعضضِ هذه الذرية‏:‏ كقول اليهود في عيسى وأمه، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏
‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏‏}‏
تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إليّ جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة‏:‏ إذ هنا زائدة، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفاً، ولا يجوز تعلقها باصطفى‏:‏ لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم‏.‏
وامرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا‏.‏ قيل‏:‏ مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حَبَلَها ذلك محرّراً أي مخلَّصاً لخدمة بيت المقدس، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكراً‏.‏ وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حُرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى‏.‏ قيل‏:‏ إنّها كانت تظنّه ذكراً فصدر منها النذر مطلقاً عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون‏:‏ إذا جاء ذكراً فهو محرّر‏.‏ وأنّث الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فلما وضعتها‏}‏ وهو عائد إلى ‏{‏ما في بطني‏}‏ باعتبار كونه انكشف ما صْدَقه على أنثى‏.‏
وقولها‏:‏ ‏{‏إني وضعتها أُنثى‏}‏ خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليماً بكل شيء‏.‏
وتأكيد الخبر بإنّ مراعاةٌ لأصل الخبرية، تحقيقاً لكون المولود أنثى؛ إذ هو بوقوعه على خلاف المترقّب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد، فلذا أكّدته‏.‏ ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمّته على طريقة المجاز المركّب المُرسَل، ومعلوم أنّ المركب يَكون مجازاً بمجموعه لا بأجزائه ومفرداتِه‏.‏ وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يَحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني‏:‏ وهي الروْعة والكراهية لولادتها أنثى، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطْمينها بها، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معاننٍ كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها‏.‏
وأنّث الضمير في ‏{‏إني وضعتها أُنثى‏}‏ باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها ‏{‏أُنثى‏}‏ إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيداً فلذلك أنّث الضمير باعتبار تلك الحال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏ جملة معترضة، وقرأ الجمهور‏:‏ وضعَتْ بسكون التاء فيكون الضمير راجعاً إلى امرأة عِمران‏.‏ وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي، والمقصود منه‏:‏ أنّ اللَّه أعلم منها بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألْته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأنّ من فوّض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقّب تدبيره‏.‏
وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب‏:‏ بضم التاء، على أنها ضمير المتكلمة امرأةِ عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة فيكون قرينة لفظية على أنّ الخبر مستعمل في التحسر‏.‏
وجملة ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته في أن يكون المولود ذكراً، فتحرره لخدمة بيت المقدس‏.‏
وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور، أي ليس جنس الذكر مساوياً لجنس الأنثى‏.‏ وقيل‏:‏ التعريف في ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ تعريف العهد للمعهود في نفسها‏.‏ وجملة ‏{‏وليس الذكر‏}‏ تكملة للاعتراض المبدوء بقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏ والمعنى‏:‏ وليس الذكر الذي رغبتْ فيه بمساوٍ للأنثى التي أعطيتْها لو كانت تعلم علوّ شأن هاته الأنثى وجعلوا نفي المشَابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل وإلى هذا مال صاحب «الكشاف» وتبعه صاحب «المفتاح» والأول أظهر‏.‏
ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب‏:‏ ليس سواءً كذا وكذا، وليس كذا مثلَ كذا، ولا هو مثل كذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ وقوله ‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء‏}‏ ‏[‏الإحزاب‏:‏ 32‏]‏ وقول السموأل‏:‏
فليسَ سواءً عالمٌ وجَهول *** وقولِهم‏:‏ «مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كَصَدَّى»‏.‏
ولذلك لا يَتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به؛ إذ لم يبق للتشبيه أثر، ولذلك قيل هنا‏:‏ وليس الذكر كالأنثى، ولو قيل‏:‏ وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود‏.‏ ولكن قدّم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم‏.‏ وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة‏:‏ «غدوتَ قبلَ استقلال الركاب، ولا اغتداء اغتداءَ الغراب» وقال في الحادية عشرة‏:‏ «وضحكتم وقت الدفن، ولا ضَحِكَكُم ساعةَ الزّفن» وفي الرابعة عشرة‏:‏ «وقمتَ» ولا كعَمْرو بن عُبيد» فجاء بها كلها على نَسق ما في هذه الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏ الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أختُ موسى وهارون، وخَوّلها أنّ أباها سَمِيُّ أبي مريم أختتِ موسى‏.‏
وتكرُّر التأكيد في ‏{‏وإنّي سميتها‏}‏ ‏{‏وإنّي أعيذها بك‏}‏ للتأكيد‏:‏ لأنّ حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعْرض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهاراً للرضا بما قدّر الله تعالى، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء‏:‏ لأنّ الخبر مستعمل في الإنشاء برمّته التي كان عليها وقتَ الخبرية، كما قدّمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني وضعتها أُنثى‏}‏ وكقول أبي بكر‏:‏ «إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب»‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏
تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، وضمائر النصب لمريم‏.‏ ومعنى تقبلها‏:‏ تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى، ولم يكن ذلك مشروعاً من قبل‏.‏
وقوله‏:‏ بقبول حسنفَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ الباء فيه للتأكيد، وأصل نظم الكلام‏:‏ فتقبّلها قبولاً حسناً، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلَة للتقبل فكأنه شيء ثاننٍ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، وكل هذا إرهاصٌ بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏‏:‏ أنشأها إنشاء صالحاً، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة، ‏(‏ونبات‏)‏ مفعول مطلق لأنبَت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف‏.‏
‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏‏.‏
عُدَّ هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مُربّاه‏.‏
وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أَبِيَّا بن باكر بن بنيامين من كَهَنة اليهود، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجاً امرأةً من ذرية هارون اسمها ‏(‏اليصابات‏)‏ وكانت امرأته نسيبَة مريم كما في إنجيل لوقا قيل‏:‏ كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها، أو من قرابة أمها، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحْبار بني إسرائيل حرصاً‏.‏ على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك كما يأتي، فطارت القرعة لزكرياء، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربيَةً صالحة لذلك‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وكَفَلها زكرياءُ‏}‏ بتخفيف الفاء من كفَلها أي تولَّى كفالتها، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف‏:‏ وكَفّلها بتشديد الفاء أي أنّ الله جعل زكرياء كافلاً لها، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره، ممدوداً وبرفع الهمزة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي وحفص عن عاصم، وخلفٌ‏:‏ بالقصر، وقرأه أبو بكر عن عاصم‏:‏ بالهمز في آخره ونصب الهمزة‏.‏
‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏
دل قوله‏:‏ ‏{‏كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقاً‏}‏ على كلام محذوف، أي فكانت مريم ملازِمة لخدمة بيت المقدس، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها مِحراباً، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامةً لها أنّ عندها ثِماراً في غير وقت وجود صنفها‏.‏
و ‏{‏كلّما‏}‏ مركّبة من ‏(‏كُلَ‏)‏ الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه، ومن ‏(‏مَا‏)‏ الظرفية وصلتِها المقدّرةِ بالمصدر، والتّقدير‏:‏ كلّ وقتتِ دُخوللِ زَكرياء عليها وجد عندها رزقاً‏.‏
وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏
فجملة وجد عندها رزقاً حال من زكرياء في قوله ‏{‏وكفَلها زكرياء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏‏.‏
ولك أن تجعل جملة ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ بدلَ اشتمال من جملة ‏{‏وكفّلها زكريّاء‏}‏‏.‏
والمحراب بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته، وأكثر ما يتخذ في علوّ يرتقي إليه بسلّم أو درج، وهو غير المسجد‏.‏ وأطلق على غير ذلك إطلاقات، على وجه التشبيه أو التوسّع كقول عمر بن أبي ربيعة‏:‏
دمْيةٌ عند راهب قسيس *** صوّرُوها في مذبح المحراب
أراد في مذبح البيعةِ، لأنّ المحراب لا يجعل فيه مذبح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ المحراب مشتق من الحَرْب لأن المتعبّد كأنّه يحارب الشيطان فيه، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لمِحرَب الشيطان‏.‏
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبّة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة‏.‏ وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك، مدةَ إمارة عُمَر بن عبد العزيز على المدينة‏.‏ والتعريف في ‏{‏المحراب‏}‏ تعريف الجنس ويعلم أنّ المراد محراب جعلته مريم للتعبّد‏.‏
و ‏(‏أنّى‏)‏ استفهام عن المكان، أي من أين لك هذا، فلذلك كان جواب استفهامه قوله‏:‏ ‏{‏من عند الله‏}‏‏.‏
واستفهام زكرياءَ مريمَ عن الرزق لأنه في غير إبَّانِه ووقتتِ أمثاله‏.‏ قيل‏:‏ كان عِنباً في فصل الشتاء‏.‏ والرزق تقدم آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنّ الله يرزق من يشاء‏}‏ من كلام مريم المحكي‏.‏
والحساب في قوله‏:‏ ‏{‏بغير حساب‏}‏ بمعنى الحصر لأنّ الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص، فالمعنى إنّ الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏
‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏
أي في المكان، قبل أن يخرج، وقد نبّهه إلى الدعاء مشاهدةُ خوارق العادة مع قول مريم‏:‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ والحكمةُ ضالة المؤمن، وأهلُ النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حَسرة من عدم الولد كما حكى الله عنه في سورة مريم‏.‏ وأيضاً فقد كان حينئذ في مكان شَهد فيه فيضا إلاهياً‏.‏ ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمْكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلاّ كالذوات الصالحة في أنها محالّ تجلّيات رضا الله‏.‏
وسأل الذرية الطيّبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة‏.‏ ومشاهدةُ خوارق العادات خوّلت لزكرياء الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنّه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزاً لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرّره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز‏.‏ وسميع هنا معنى مجيب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏
‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏
الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وهو قائم‏}‏ جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته‏.‏
ومقتضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏ والتفريع عليه بقوله‏:‏ فنادته أنّ المحراب محراب مريم‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ فنادته بتاء تأنيث لِكون الملائكة جمعاً، وإسناد الفعل للجمع يجوز فيه التأنيث على تأويله بالجماعة أي نادته جماعة من الملائكة‏.‏ ويجوز أن يكون الذي ناداه ملكاً واحداً وهو جبريل وَقد ثبت التصريح بهذا في إنجيل لوقا، فيكون إسناد النداء إلى الملائكة من قبيل إسناد فعل الواحد إلى قبيلته كقولهم‏:‏ قتلت بَكرٌ كُلَيباً‏.‏
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ فناداه الملائكة على اعتبار المنادي واحداً من الملائكة وهو جبريل‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ أنّ الله بفتح همزة أن على أنه في محل جر بباء محذوفة أي نادته الملائكة بأنّ الله يبشرك بيحيى‏.‏
وقرأ ابن عامر وحمزة‏:‏ إنّ بكسر الهمزة على الحكاية‏.‏ وعلى كلتا القراءتين فتأكيد الكلام بإنّ المفتوحة الهمزةِ والمكسورتِها لتحقيق الخبر؛ لأنّه لغرابته يُنزّل المخبَر به منزلة المتردّد الطالب‏.‏
ومعنى «يبشرك بيحيى» يبشرك بمولود يسمّى يحيى فعلم أن يحيى اسم لا فعل بقرينة دخول الباء عليه وذُكر في سورة مريم ‏(‏7‏)‏‏:‏ ‏{‏إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى‏}‏
ويحيى معرّب يوحنا بالعبرانية فهو عجمي لا محالة نطق به العرب على زنة المضارع من حَيي وهو غير منصرف للعُجمة أو لوزن الفعل‏.‏ وقتل يحيى في كهولته عليه السلام بأمر ‏(‏هيرودس‏)‏ قبل رفع المسيح بمدة قليلة‏.‏
وقد ضمت إلى بشارته بالابن بشارة بطيبه كما رجَا زكرياء، فقيل له مصدّقاً بكلمةٍ من الله، فمصدّقاً حال من يحيى أي كاملَ التوفيق لا يتردّد في كلمة تأتي من عند الله‏.‏ وقد أجمل هذا الخبر لزكرياء ليَعلم أنّ حادثاً عظيماً سيقع يكون ابنه فيه مصدّقاً برسول يجيء وهو عيسى عليهما السلام‏.‏
ووُصِفَ عيسى كلمةً من الله لأنّ خُلق بمجرد أمر التكوين الإلهي المعبر عنه بكلمة كُنْ أي كان تكوينه غير معتادو سيجيء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏‏.‏ والكلمة على هذا إشارة إلى مجيء عيسى عليه السلام‏.‏ ولا شكّ أنّ تصديق الرسول، ومعرفة كونه صادقاً بدون تردّد، هدى عظيم من الله لدلالته على صدق التأمل السريع لمعرفة الحق، وقد فاز بهذا الوصف يحيى في الأولين، وخديجة وأبو بكر في الآخرين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدّق به‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏، وقيل‏:‏ الكلمة هنا التوراة، وأطلق عليها الكلمة لأنّ الكلمة تطلق على الكلام، وأنّ الكلمة هي التوراة‏.‏
والسيد فَيْعِل من سَاد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل‏.‏
فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفاية مهمّات القبيلة والبذل لها وإتعاب النفس لراحة الناس قال الهذلي‏:‏
وإنّ سيادةَ الأقوام فاعلَمْ *** لها صُعَدَاءُ مطلبها طويل
أترجو أن تَسُودَ ولن تُعَنّى *** وكيف يسودُ ذو الدعةَ البَخيل
وكان السؤدد عندهم يعتمد خلال مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه، وملاكه بذل الندى، وكفّ الأذى، واحتمال العظائم، وأصالة الرأي، وفصاحة اللسان‏.‏
والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معاً وفي الحديث ‏"‏ أَنا سيّد ولد آدم ولا فخر ‏"‏ وفيه «إنّ ابني هذا سيّد» يعني الحسنَ بن علي فقد كان الحسنُ جامعاً خصال السؤدد الشرعي، وحسبك من ذلك أنّه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين، وفي تفسير ابن عطية عن عبد الله بن عمر‏:‏ أنه قال‏:‏ «ما رأيتُ أحداً أسود من معاوية ابن أبي سفيان فقيل له وأبو بكر وعمر قال‏:‏ هما خير من معاوية ومعاوية أسودُ منهما» قال ابن عطية‏:‏ «أشار إلى أنّ أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلة هما فيها خير من معاوية، ولكن مع تتبع الجَادّة، وقلّةِ المبالاة برضا الناس ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد ومعاوية قد برّز في خصال السؤدد التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه ولم يواقع محذوراً»‏.‏
ووصف الله يحيى بالسيّد لتحصيلة الرئاسة الدينية فيه من صباه، فنشأ محترماً من جميع قومه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآياتيه الحكم صبياً وحناناً من لدنا وزكاة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12، 13‏]‏، وقد قيل السيّد هنا الحليم التقيّ معاً‏:‏ قاله قتادة، والضحاك، وابن عباس، وعكرمة‏.‏ وقيل الحليم فقط‏:‏ قاله ابن جبير‏.‏ وقيل السيّد هنا الشريف‏:‏ قاله جابر بن زيد، وقيل السيّد هنا العالم‏:‏ قاله ابن المسيّب، وقتادة أيضاً‏.‏
وعُطف سيّداً على مصدّقاً، وعطفُ حَصُوراً وما بعده عليه، يؤذن بأنّ المراد به غير العليم، ولا التقي، وغيرُ ذلك محتمل‏.‏ والحصور فعول بمعنى مفعول مثل رسول أي حصور عن قربان النساء‏.‏
وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إمّا أن يكون مدحاً له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرّمة، بأصل الخلقة، ولعلّ ذلك لمراعاة براءته ممّا يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشدّ البهتان والاختلاق، وإمّا ألاّ يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحاً له لأنّ من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النّساء فتعيّن أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاماً لزكرياء بأنّ الله وهبه ولداً إجابة لدعوته، إذ قال‏:‏ ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً يرثني‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5، 6‏]‏ وأنّه قد أتمّ مراده تعالى من انقطاع عقب زكرياء لحكمة علمها، وذلك إظهار لكرامة زكرياء عند الله تعالى‏.‏
ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيساً لزكرياء وتخفيفاً من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي غلام‏}‏ استفهام مراد منه التعجّب، قَصَد منه تعرُّف إمكان الولد، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلاّ تطلباً لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة، وليس من الشك في صدق الوعد، وهو كقول إبراهيم‏:‏ ‏{‏ليطمئنّ قلبي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإنْ عز وقوعها في العادة‏.‏
و ‏(‏أنّى‏)‏ فيه بمعنى كيف، أو بمعنى المكان، لتعذّر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسل وهما الكِبَر والعَقْرَة‏.‏ وهذا التعجّب يستلزم الشكر على هذه المنّة فهو كناية عن الشكر‏.‏ وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوّج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكرياء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وقد بلغني الكبر‏}‏ جاء على طريق القلب، وأصله وقد بلغتُ الكبرَ، وفائدته إظهار تمكّن الكبر منه كأنَه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 78
‏(‏والعاقر المرأة التي لا تلد عَقَرَت رحمَها أي قطعته‏.‏ ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنّث كقولهم حائض ونافس ومُرضع، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عَقْرى دُعاء على المرأة، وفي الحديث‏:‏ «عَقْرَى حَلْقَى» وكذلك نُفَساء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من شيخ هرِم لم يسبق له ولد وامرأةٍ عاقر كذلك، ولعلّ هذا التكوين حصل بكون زكرياء كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقرّ بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة ‏{‏يفعل ما يشاء‏}‏ أي هو تكوين قدّره الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قال رب اجعل لي آية‏}‏ أراد آية على وقت حصول ما بُشِّر به، وهل هو قريب أو بعيد، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه‏.‏ وعن السدي والربيع‏:‏ آيةَ تحقق كون الخطاب الوارد عليه وارداً من قبل الله تعالى، وهو ما في إنجيل لوقا‏.‏ وعندي في هذا نظر، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا‏}‏ جعل الله حُبْسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته، لأنّ الله صرف ما لَه من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدمَاغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البَلاذر لقوة الفكر‏.‏ أوْ أمرِه بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل‏.‏ قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملَك، وبذلك صرح في إنجيل لوقا، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آيةً فأعطي غيرها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار‏}‏ أمر بالشكر‏.‏ والذِّكر المراد به‏:‏ الذِّكر بالقلب والصلاةِ إن كان قد سلب قوة النطق، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط‏.‏ والاستثناء في قوله إلاّ رمزاً استثناء منقطع‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إذْ قالت امرأةُ فرعون‏}‏‏.‏ انتقال من ذِكر أمّ مريم إلى ذكر مريم‏.‏
ومريم عَلَم عبراني، وهو في العبرانية بكسر الميم، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمِّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدئ فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار، قد حملت من غير زوج‏.‏
والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة‏:‏ قلت لزِير لَمْ تصله مريمهْ‏.‏
‏(‏والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء‏)‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة‏.‏
وتكرّر فعل ‏{‏اصطفاك‏}‏ لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منزّهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير‏.‏ فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق‏.‏ وعدُيّ الثاني‏.‏ ونساء العالمين نساء زمانها، أو نساء سائر الأزمنة‏.‏ وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة‏.‏
وإعادةُ النداء في قول الملائكة‏:‏ ‏{‏يا مريم اقنتي‏}‏ لقصد الإعجاب بحالها، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة، فكان النداء الثاني مستعملاً في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمِه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها، ونظيره قول امرئ القيس‏:‏
تقول وقد مال الغَبيط بنامعَا *** عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِل
‏(‏فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ‏)‏‏.‏
والقنوت ملازمة العبادة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوموا للَّه قانتين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏
وقدم السجود، لأنّ أدخل في الشكر والمقَام هنا مقام شكر‏.‏
وقوله‏:‏ مع الراكعين‏}‏ إذن لها بالصلاة مع الجماعة، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهاراً لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير‏.‏
وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو ‏{‏يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏ لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم‏}‏ إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك، وإلاّ لقال‏:‏ وما كنت تتلو كُتبهم مثل‏:‏ «وما كنت تتلو من قبله من كتاب» أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يلقون أقلامهم‏}‏ وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات‏:‏ بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المِدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخيْر‏.‏ وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلاّ مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه‏.‏ وأشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏
‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏
بدل اشتمال من جملة ‏{‏وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 42‏]‏ قصد منه التكرير لتكميل المقُول بعد الجمل المعترضة‏.‏ ولكونه بدلاً لم يعطف على إذْ قالت الأوللِ‏.‏ وتقدّم الكلام على يُبشرك‏.‏
والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله‏:‏ «ويؤمر بأرْبَع كَلِمَات بكتب رزقه وأجله» إلخ‏.‏
ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ مِن للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏إذا قضى أمراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏اسمه المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ عبر عن العَلَم واللقَب والوصففِ بالاسم‏.‏ لأنّ لثلاثتها أثراً في تمييز المسمّى‏.‏ فأما اللقب والعلم فظاهر‏.‏ وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم‏:‏ زياد بن سُمَيةَ قبل أن يُلْحق بأبي سفيان في زمننِ معاويةَ بن أبي سفيان، وإما لأنّ لأمّه مفخراً عظيماً كقولهم‏:‏ عَمْرو ابن هند، وهو عمرو بن المنذر ملكُ العرب‏.‏
والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف‏.‏ ونقلت إلى العربية علماً بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعضَ أبنائهم «عبد المسيح» وأصلها مَسِّيِّح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سِكِّين‏.‏
ومعنى مسيح ممسوح بدهن المَسْحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهناً لبني إسرائيل، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملِّكونهم عليهم من عهد شاول الملِك، فصار المسيح عندهم بمعنى المَلِك‏:‏ ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت «كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب»‏.‏
فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يُسَمّون بمَلِك ويحتمل أنه لقبٌ لقبه به اليهود تهكماً عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكاً على إسرائيل ثم غَلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك، فلذلك سمي به في القرآن‏.‏
والوجيه ذو الوجاهة وهي‏:‏ التقدّم على الأمثال، والكرامةُ بين القوم، وهي وصف مشتق من الوَجْه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال‏:‏ وجهُ النهار لأول النهار قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفُروا آخرَه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ وقال الربيع بن زياد العبسي‏:‏
مَن كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأتتِ نسوتنا بوجه نهار
وقال الأعشى‏:‏
ولاَح لهم وَجْهَ العَشِيَّاتتِ سَمْلَقُ ***
ويقولون‏:‏ هو وَجْه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم‏.‏ واشتق من هذا الاسم فعل وَجُه بضم الجيم ككَرُم فجاء منه وَجيه صفةً مشبّهة، فوجيه الناس المكرّم بينهم، ومقبول الكلمة فيهم، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وكان عند اللَّه وجيهاً‏}‏‏.‏
والمهد شِبْه الصندوق من خشب لا غطاء له يُمهد فيه مَضجع للصبي مدة رضاعه يُوضع فيه لحفظه من السقوط‏.‏
وخُص تكليمُه بحالين‏:‏ حاللِ كونه في المَهد، وحاللِ كونه كهلاً، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصاً لنبوءته‏.‏ وأما تكليمهم كهلاً فمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة‏.‏ فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين‏.‏
وعطف عليه ‏{‏ومن الصالحين‏}‏ فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال‏.‏
والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم‏:‏ ‏{‏ربِّ هبْ لي من الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏‏.‏
والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب، والمرأة شهلة بالشين، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلاّ أن العرب قديماً سمّوا شهلاً مثل شهل بن شيبان الملقب الفِنْد الزِّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت‏.‏ وقد كان عيسى عليه السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وجيهاً‏}‏ حال من ‏{‏كلمة‏}‏ باعتبار ما صِدْقها‏.‏ ‏{‏ومن المقرّبين‏}‏ عطف على الحال، ‏{‏ويكلم‏}‏ جملة معطوفة على الحال المفردة‏:‏ لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏في المهد‏}‏ حال من ضمير ‏(‏يكلّم‏)‏‏.‏ وكهلاً عطف على محلّ الجار والمجرور، لأنهما في موضع الحال، فعطف عليهما بالنصب، ‏{‏ومن الصالحين‏}‏ معطوف على ‏{‏ومن المقرّبين‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏‏}‏
قوله‏:‏ ‏{‏قالت رب‏}‏ جملة معترضة، من كلامها، بين كلام الملائكة‏.‏
والنداء للتحسر وليس للخطاب‏:‏ لأنّ الذي كلمها هو الملك، وهي قد توجهت إلى الله‏.‏
والاستفهام في قولها ‏{‏أنى يكون لي ولد‏}‏ للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها‏.‏
وجملة ‏{‏قال كذلك الله يخلق‏}‏ إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها ومابعدها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏ والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي‏.‏
واسم الإشارة في قوله‏:‏ كذلك‏}‏ راجع إلى معنى المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله وكهلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45، 46‏]‏ أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء‏.‏ وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله‏:‏ ‏{‏الله يخلق‏}‏ لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر‏.‏
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق‏:‏ لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشئ عن أسباب إيجاد الناس، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏
‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏ويعلّمه‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ويكلّم الناس في المهد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 46‏]‏ بعد انتهاء الاعتراض‏.‏
وقرأ نافع، وعاصم‏:‏ ويُعلّمه بالتحتِية أي يعلّمه اللَّهُ‏.‏ وقرأه الباقون بنُون العظمة، على الالتفات‏.‏
والكتاب مراد به الكتاب المعهود‏.‏ وعطفُ التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة‏.‏
‏{‏ورسولاً‏}‏ عطف على جملة ‏(‏يُعلّمه‏)‏ لأنّ جملة الحال، لكونها ذات محل من الإعراب، هي في قوة المفرد فنصب رسولاً على الحال، وصاحب الحال هو قوله بكلمة، فهو من بقية كلام الملائكة‏.‏
وفتح همزة أنّ في قوله‏:‏ ‏{‏أنى قد جئتكم‏}‏ لتقدير باء الجر بعد رسولاً، أي رسولاً بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولاً من كونه مبْعوثاً بكلام، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة‏.‏
ومعنى ‏{‏جئتكم‏}‏ أُرسلت إليكم من جانب الله ونظيرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 63‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بآية‏}‏ حال من ضمير ‏{‏جئتكم‏}‏ لأنّ المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية‏.‏ شبه أمر الله إياه بأن يبلّغ رسالة بمجيء المرسَل من قوم إلى آخرين ولذلك سميّ النبي رسولاً‏.‏
والباء في قوله ‏{‏بآية‏}‏ للملابسة أى مقارناً للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبّر عنها بفعل المجيء‏.‏ والمجرور متعلق بجئتكم على أنه ظرف لغو، ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ‏{‏جئتكم‏}‏ لأن معنى جئتكم‏:‏ أرسلت إليكم، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني أخلق بكسر الهمزة استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع، وأبي جعفر‏.‏ وقرأه الباقون بفتح همزة أنّي‏}‏ على أنه بدل من ‏{‏أني قد جئتكم‏}‏‏.‏
والخلق‏:‏ حقيقته تقدير شيء بقدْر، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قِطعَه قبل قطع القطعة منه قال زهير‏:‏
ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبَعْض القَوْم يَخْلُق ثُم لا يَفْرِي
يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري، ويُستعمل مجازاً مشهوراً أو مشتركاً في الإنشاء، والإبداع على غير مثال ولا احتذاءٍ، وفي الإنشاء على مثال يُبْدَع ويقدّر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صَوّرناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود والخلق هنا مستعمل في حقيقته أيْ‏:‏ أقدّر لكم من الطين كهيئة الطير، وليس المراد به خلق الحيوان، بدليل قوله فأنفُخ فيه‏.‏
وتقدم الكلام على لفظ الطّيْر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذ أربعة من الطير‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 360‏]‏‏.‏ والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كهيئة الطير‏}‏ بمعنى مثل، وهي صفة لِموصوف محذوف دل عليه أخلُق، أي شيئاً مقدّراً مثلَ هيئة الطير‏.‏ وقرأ الجمهور «الطَّير» وهو اسم يقع على الجمع غالباً وقد يقع على الواحد‏.‏ وقرأه أبو جعفر «الطائر»‏.‏
والضمير المجرور بفي من قوله‏:‏ ‏{‏فأنفخ فيه‏}‏ عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف‏.‏
وقرأ نافع وحده فيكون طائراً بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طَيْراً بصيغة اسم الجمع فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى‏.‏ جعل لنفسه التقدير، وأسند لله تكوين الحياة فيه‏.‏
والهيئة‏:‏ الصورة والكيفية أي أصَوِّر من الطين صورةً كصورة الطير‏.‏ وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة‏.‏
وزاد قوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ لإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات‏.‏ والأكمه‏:‏ الأعمى، أو الذي ولد أعمى‏.‏
والأبرص‏:‏ المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوّعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البَهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمّت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد‏.‏
وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة، وهو غير مُعْد، وشوهد أنّ الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة‏.‏ والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بَدَتْ أعراضه على واحد منهم‏.‏ فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلاّ من وراءِ حجاب، كما وقع في قصّة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند‏.‏ وأما العبرانيون فهم أشدّ في ذلك‏.‏ وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكرّرته مراراً، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لِموسى ليعَلِّمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أنّ المصاب يُعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصّلة في سفر اللاويين‏.‏ ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهمّ المعجزات فائدة عندهم ديناً ودنيا‏.‏
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصّلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه‏.‏
وإحياء الموتى معجزة للمسيح أيضاً، كنفخ الروح في الطير المصوّر من الطين، فكان إذا أحيا ميتاً كلّمةُ ثم رجع ميّتاً، وورد في الأناجيل أنّه أحيا بنتاً كانت ماتت فأحياها عقب موتها‏.‏ ووقع في إنجيل متَّى في الإصحاح 17 أنّ عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكلّ ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وأنبئكم بما تأكلون وما تدخون في بيوتكم‏}‏ أنّه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطّلع عليها أحد فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم، وما عندهم مدّخر فيها، لتكون هاته المتعاطفات كلّها من قبيل المعجزات بقرينة قوله أنبّئكم لأنّ الإنباء يكون في الأمور الخفيةِ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ جعل هذه الأشياء كلّها آيات تدعو إلى الإيمان به، أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة‏.‏ والخطاب موجّه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم‏.‏
وتعرُّض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلاً على ألوهية عيسى، بعلة أنّ هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله‏:‏ ‏{‏بآية من ربكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ مرتين‏.‏ وقد روى أهل السِّير أنّ نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلى الله عليه وسلم
تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏
‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏
عطف على بآية بناء على أنّ قوله‏:‏ بآية ظرف مستقرّ في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة جئتكموَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلاُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فيقدّر فعل جئتكم بعد واو العطف، ‏{‏ومصدّقاً‏}‏ حال من ضمير المقدّر معه، وليس عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ورسولا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ لأنّ رسولاً من كلام الملائكة، ‏{‏ومصدقاً‏}‏ من كلام عيسى بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لما بين يدي‏}‏‏.‏
والمصدّق‏:‏ المخبر بصِدق غيره، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية، للدلالة على تصديققٍ مُثبت محقّق، أي مصدّقاً تصديقاً لا يشوبُه شك ولا نِسبةٌ إلى خطأ‏.‏ وجَعْل التصديق متعدياً إلى التوراة تَوْطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏‏.‏
ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مَجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل‏.‏ ويستعمل بين يديْ كذا فِي معنى المشاهَد الحاضر، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم في سورة البقرة‏.‏
وعَطْف قوله ولأحِلّ‏}‏ على ‏{‏رسولاً‏}‏ وما بعده من الأحوال‏:‏ لأنّ الحال تشبه العلة؛ إذ هي قيد لعاملها، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابَه المفعولَ لأجله، وشابَه الجرور بلام التعليل، فصح أن يُعطف عليها مجرورٌ بلام التعليل‏.‏ ويجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏بآية من ربكم‏}‏ فيتعلّق بفعللِ جئتكم‏.‏ وعقب به قوله‏:‏ ‏{‏مصدّقاً لما بين يديّ‏}‏ تنبيهاً على أنّ النسخ لا ينافي التصديق؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيُّر الحكم‏.‏ وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعياً لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولاً‏.‏ قيل أحلّ لهم الشحوم، ولحوم الإبل، وبعض السمك، وبعض الطير‏:‏ الذي كان محرّماً من قبل، وأحلّ لهم السبت، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل‏.‏ وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم، فما قيل‏:‏ إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوُّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبَيّن لهم سوء عواقبه، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة‏:‏ من تذكير، ومواعظ، وترغيبات‏.‏
‏{‏وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وجئتكم بآية من ربكم‏}‏ تأكيد لقوله الأولِ‏:‏ ‏{‏أنى قد جئتكم بآية من ربكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين، وليبنى عليه التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور قوله‏:‏ ‏{‏وأطيعون‏}‏ بحذف ياء المتكلم في الوصل والوقف، وقرأه يعقوب‏:‏ بإثبات الياء فيهما‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏}‏ إنّ مكسورة الهمزة لا محالة، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لِمجرّد الاهتمام كقول بشار
*** بَكِّرا صَاحِبَيّ قَبْلَ الهَجير
إنّ ذَاكَ النجَاحَ في التبْكِيرِ *** ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ربي وربكم‏}‏ فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعةَ رسوله‏.‏
وقوله‏:‏ فاعبدوه تفريع على الرُّبوبية، فقد جعل قولَه إنّ الله ربي تعليلاً ثم أصلا للتفريع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ الإشارة إلى ما قاله كلِّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏
‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏
آذَنَ شرطُ لَما بجمل محذوفة، تقديرها‏:‏ فوُلِد عيسى، وكَلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم، وكلم الناس بالرسالة‏.‏ وأراهم الآيات الموعودَ بها، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته، فكفروا به، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره‏.‏ أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله‏:‏ ‏{‏وأطيعون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏ أي سمع تكذيبهم إياه وأُخبر بتمالئهم عليه‏.‏ «ومنهم» متعلق بأحسّ‏.‏ وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر‏.‏
وطَلَبُ النصرِ لإظهار الدعوة لله، موقفٌ من مواقف الرسل، فقد أخبر الله عن نوح «فدعا رَبه أنّي مغلوب فانتصر» وقال موسى‏:‏ ‏{‏واجعل لي وزيراً من أهلي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 29‏]‏ وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يُبلغ دعوة ربّه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قال من أنصاري إلى الله‏}‏ لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبْلاغاً للدعوة، وقطعاً للمعذرة‏.‏ والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه‏.‏ ووصل وصْفَ أنصاري بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي مَن ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي، الذي وعدني به؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تنصروا الله ينصركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏ على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ أي ضامِّينها فهو ظرف لغو، وإما على جعله حالاً من ياء المتكلم والمعنَى في حال ذهابي إلى الله، أي إلى تبليغ شريعته، فيكون المجرور ظرفاً مستقراً‏.‏ وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله‏.‏
والحواريون‏:‏ لقب لأصحاب عيسى، عليه السلام‏:‏ الذين آمنوا به ولازموه، وهو اسم معرَّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أى غسّال الثياب‏.‏
وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته‏.‏
وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لكل نبيِّء حَوَارِيٌّ وحَوارِيّ الزُّبَيْر بنُ العوام ‏"‏
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء‏.‏
والحواريون اثنا عشر رجلا وهم‏:‏ سَمْعَان بطرس، وأخوه أندراوس، ويوحنا بن زبْدي، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلّهم صيادو سَمك ومتَّى العشَّار وتوما وفيليبس، وبرثو لماوس، ويعقوب بن حلفي، ولباوس، وسمعان القانوى، ويهوذا الأسخريوطي‏.‏
وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله، وليس في قولهم‏:‏ ‏{‏نحن أنصار الله‏}‏ ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً، فلم يحصل تعريف الجزأين، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب‏.‏
وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام، ومريم المجدلية، وأم يوحنا، وحماة سمعان، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس، وسوسة، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا آمنا‏}‏ من كلام الحواريين بقية قولهم، وفرّعوا على ذلك الدعاء دعاءً بأن يجعلهم الله مع الشاهدين أي مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ، وبالصدق، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى فيما علّمهم إياه فضائل من يشهد للرسل بالصدق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر‏}‏ فإنّه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر‏.‏
وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بَيّن ذلك قولُه تعالى، في سورة الصف ‏(‏14‏)‏‏:‏ ‏{‏قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ والمكر فعل يُقصد به ضر ضُرُّ أحَد في هيئة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، والمراد هنا‏:‏ تدبير اليهود لأخذ المسيح، وسعيُهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله‏.‏ ومَكْرُ الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيَهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم، وهو هنا مشاكلة‏.‏ وجَازَ إطلاق المكر على فعل الله تعالى دونَ مشاكلة كما في قوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر اللَّه‏}‏ ‏(‏99‏)‏ في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية‏.‏
ومعنى‏:‏ والله خير الماكرين‏}‏ أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم‏.‏
ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين‏:‏ أنّ الإملاء والاستدراج، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمَكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيّء العاقبة، هو خير محض لا يترتّب عليه إلاّ الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رَأي، أو سوء طوية، أو جُبن، أو ضُعف، أو طَمع، أو نحو ذلك‏.‏ أي فإن كان في المكر قبْح فمكر الله خير محض، ولك على هذا الوجه أن تجعل «خَيْر» بمعنى التفضيل وبدونه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏
‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏
استئناف؛ و‏(‏إذ‏)‏ ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي اذكُر إذ قال الله‏:‏ كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه‏.‏ وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه‏.‏ مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال له‏:‏ ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا‏}‏ والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يقبض نبيء حتى يُخَيَّر ‏"‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إني متوفيك‏}‏ ظاهر معناه‏:‏ إنّي مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه‏.‏ فيقال‏:‏ توفاه اللَّهِ أي قدّر موته، ويقال‏:‏ توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ وقوله ‏{‏الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يتوفاكم بالليل ثم قال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرّع بالبيان بقوله‏:‏ فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام‏.‏ وأصرح من هذه الآية آية المائدة‏:‏ فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له؛ لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه‏:‏ إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك‏:‏ مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل‏}‏‏:‏ «يحتمل أنّ قوله‏:‏ مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز»‏.‏
وقال الربيع‏:‏ هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة‏:‏ معناه إنّي قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل‏:‏ متوفيك متقبل عملك‏.‏
والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث ‏"‏ أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ ‏"‏ ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه‏:‏ توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ توفّي سبع ساعات‏.‏ وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا‏.‏ ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة‏.‏
وقد قيل في تأويله‏:‏ إنّ عطف ‏{‏ورافعك إلي‏}‏ على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود‏:‏ ‏"‏ ويمكث ‏(‏أي عيسى‏)‏ أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون ‏"‏ والوجه أن يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني متوفيك‏}‏ على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أنّ ذلك يقوم مقام البعض، وأنّ قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جَمْع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة‏.‏ ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان‏.‏
والتطهير في قوله‏:‏ ‏{‏ومطهرك‏}‏ مجازي بمعنى العصمة والتنزيه؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له‏.‏
وحذف متعلق «كفروا» لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق‏.‏
والفوقية في قوله‏:‏ ‏{‏فوق الذين كفروا‏}‏ بمعنى الظهور والانتصار، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏
والمراد بالذين اتبعوه‏:‏ الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك، إلى أن نُسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم
وجملة ‏{‏ثم إليّ مرجعكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا‏}‏ إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاءِ اللَّهِ متّبِعي عيسى والكافرين به‏.‏
وثم للتراخي الرتبي؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، أعظمُ درجةً وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا‏.‏
والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى، وأنّ ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به‏.‏
ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني‏.‏
والمَرْجععِ مصدر ميمي معناه الرجوع‏.‏ وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي، فيجوز أن يكون المرادُ به البعثَ للحساب بعد الموت، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير، ويجوز أن يكون مراداً به انتهاء إمهال الله إياهم في أجللٍ أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا‏.‏
ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله‏:‏ ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة‏}‏ وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإما الذين كفروا فأعذبهم‏}‏ إلى قوله ‏{‏فنوفيهم أجورهم‏}‏ تفصيل لما أجمل في قوله ‏{‏فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والأخرة‏}‏ المقصود من هذا الوعيدِ هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حَيز تفصيل الضمائر من قوله‏:‏ ‏{‏فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ وإنما يكون ذلك في الآخرة، فذُكِر عذاب الدنيا هنا إدماج‏.‏ فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه، وإن كان كلاماً من الله في القرآن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمونَ، صح أن يكون مراداً منه أيضاً التعريض بالمشركين في ظلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم عن مكابرة منهم وحسد‏.‏ وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله‏:‏ قل إن كنتم تحبون الله في هذه السورة‏.‏
وجملة ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏أعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة‏}‏ أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى‏.‏
واعلم أنّ قوله فأعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين‏:‏
فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا‏:‏ من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاءُ الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وَجَد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر‏.‏
وأما عذاب الآخرة‏:‏ فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد، كما قال‏:‏ ‏{‏وما هم بخارجين من النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثاننٍ لجملة ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً‏}‏ بصريح معناها، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييلٌ لجملة ‏{‏وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ إلى آخرها، بكناية معناها؛ لأنّ انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافياً‏.‏
ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلَموا أنفسهم بكفرهم وظلَمَ النصارى الله بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابناً للَّه تعالى، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم‏.‏
وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية، والتشريد في الأقطار، وكونهم يعيشون تبعاً للناس، وعذاب الآخرة هو جهنم‏.‏ ومعنى ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ أنهم لا يجدون ناصراً يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفَر به وأسند ‏{‏فنوفيهم‏}‏ إلى نون العظمة تنبيهاً على عظمة مفعول هذا الفاعل؛ إذ العظيم يعطى عظيماً‏.‏ والتقدير ‏{‏فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة‏}‏ بدليل مقابله في ضدّهم من قوله‏:‏ ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة‏}‏ وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة‏:‏ منها رضا اللَّهِ عنهم، وبَركاته معهم، والحياة الطيبة، وحسن الذكر‏.‏ وجملة ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ تذييل، وفيها اكتفاء‏:‏ أي ويحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ فنوفيهم بالنون وقرأه حفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب، فيوفيهم بياء الغائب على الالتفات‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏
‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏
تذييل‏:‏ فإنّ الآياتتِ والذكر أعمّ من الذي تُلي هنا، واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏ وتذكير اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالكلام أو بالمذكورِ‏.‏ وجملة نتلوه حال من اسم الإشارة على حدّ ‏{‏وهذا بَعْلي شيخاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ وهو استعمال عربي فصيح وإن خالف في صحة مجيء الحال من اسم الإشارة بعض النحاة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من الآيات‏}‏ خبر ‏{‏ذلك‏}‏ أيّ إنّ تلاوة ذلك عليك من آيات صدقك في دعوى الرسالة؛ فإنك لم تكن تعلمَ ذلك، وهو ذِكر وموعظة للناس، وهذا أحسن من جعل نتلوه خبراً عن المبتدأ، ومن وجوه أخرى‏.‏ والحكيم بمعنى المُحكَم، أو هو مجاز عقلي أي الحكيم عالمُه أو تاليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏
‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏
استئناف بياني‏:‏ بُيّن به مَا نشأ من الأوهام، عند النصارى، عن وصف عيسى بأنه كلمة من الله، فَضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت‏.‏ وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تألِيهِ عيسى، وردّ مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بإلاهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمةٍ من الله وليس له أب، فقالوا‏:‏ هو ابن الله، فأراهم الله أنّ آدم أوْلَى بأن يُدّعَى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلاهاً مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدمَ‏.‏
ومحل التمثيل كون كليهما خُلق من دون أب، ويزيد آدمُ بكونه من دون أم أيضاً، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله‏:‏ ‏{‏خلقه من تراب‏}‏ الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب‏.‏ وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم شيئاً في كونه خلْقاً غيرَ معتاد، لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجباً للمسيحَ نسبةَ خاصة عند الله وهي البُنوة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ نفس الأمر والواقع‏.‏
والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى؛ إذ قد علِم الكلُّ أنّ عيسى لم يُخلق من تراب، فمحل التشبيه قوله‏:‏ ‏{‏ثم قال له كن فيكون‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏خلقه‏}‏ وما عطف عليها مُبيِّنة لجملة كمثل آدم‏.‏
وثم للتراخي الرتبي فإنّ تكوينه بأمر ‏{‏كن‏}‏ أرفع رتبة من خلقه من تراب، وهو أسبق في الوجود والتّكوين المشار إليه بكن‏:‏ هو تكوينه على الصفة المقصودة، ولذلك لم يقل‏:‏ كَوّنه من تراب ولم يقل‏:‏ قال له كُن من تراب ثم أحياه، بل قال خلقه ثم قال له كن‏.‏ وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حياً ذا روح ليعلم السامعون أنّ التكوين ليس بصنع يد، ولا نحتتٍ بآلة، ولكنه بإرادةٍ وتَعَلققِ قدرةٍ وتسخيرِ الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكوّن وكلّ ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز، فبتلك الكلمة كان آدمُ أيضاً كلمةً من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنّه لم يقع احتياج إلى ذلك لِفوات زمانه‏.‏
وإنما قال‏:‏ ‏{‏فيكون‏}‏ ولم يقل فكَان لاستحضار صورة تَكَوُّنِه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلاّ على هذا المعنى، مثل قوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الذي أرسل الرياح فتثير سَحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ وحمله على غير هذا هنا لا وجه له‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الحق من ربك‏}‏ خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي هذا الحق‏.‏ ومن ربك حال من الحق‏.‏ والخطاب في ‏{‏فلا تكن من الممترين‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود التعريض بغيره، والمعرَّض بهم هنا هم النصارى الممترُون الذين امتروا في الإلاهية بسبب تحقق أن لاَ أبَ لِعيسى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏
‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏الحق من ربك فلا تكن من الممترين‏}‏ لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات‏:‏ أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة‏.‏ ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة، وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا‏.‏
و ‏{‏تعالوا‏}‏ اسم فعل لطلب القدوم، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عاللٍ تشريفاً للمدعُو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني‏:‏
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْككِ الهُمُومَ تَعَالِي
فقد لحَّنوه فيه‏.‏
ومعنى ‏{‏تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم‏}‏ ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره، والمقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏ثم نبتهل‏}‏ إلى آخره‏.‏
و ‏(‏ثم‏)‏ هنا للتراخي الرتبي‏.‏
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول‏.‏
ومعنى ‏{‏فنجعل لعنت الله‏}‏ فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين‏.‏ وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا‏.‏ روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب‏:‏ نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي‏.‏
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم‏.‏
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء‏:‏ لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب «أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله» وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة‏.‏
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم‏.‏
والنساء‏:‏ الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساء النبسي لستُنّ كأحدٍ من النساء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونساء المؤمنين‏}‏ وقال النابغة‏:‏
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة‏.‏
والابتهال افتعال من البهل، وهو اللعن، يقال‏:‏ بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى‏:‏
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً *** تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فنجعل لعنت الله على الكاذبين‏}‏‏.‏
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق‏.‏ وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها‏.‏ وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة‏.‏ ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏
‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏إن هذا لهو القصص الحق‏}‏ وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏الكاذبين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق‏.‏
واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى‏.‏
والضمير في قوله لَهو القصصُ ضمير فصل، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادَها ضمير الفصل؛ لأنّ اللام وَحدها مفيدة تقوية الخبر وَضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تَقُصُّه كتُب النصارى وعَقائِدهم‏.‏
والقصَص بفتح القاف والصاد اسم لما يُقَص، يقال‏:‏ قَصّ الخبر قَصّاً إذا أخبر به، والقَصُّ أخص من الإخبار؛ فإنّ القص إخبار بخبرٍ فيه طولٌ وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يُخبر بها قِصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقُصها القُصّاص، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قَصّاص بفتح القاف‏.‏ فالقصصُ اسم لما يُقص‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص وقيل‏:‏ هو اسم مصدر وليس هو مصدراً، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين، فالقصّ بالإدغام مصدر، والقصص بالفَكّ اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص‏.‏
وقوله‏:‏ وما من إله إلا الله‏}‏ تأكيد لحقيَّة هذا القصص‏.‏ ودخلت من الزائدة بعد حرف نفي تنصيصاً على قصد النفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد، ونفي الشريك بالصراحة، ودلالةِ المطابقة، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله، فيوهم أنه قد يكون إلاَ هَان أو أكثر في شقّ آخر، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن الله لهو العزيز الحكيم‏}‏ فيه ما في قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو القصص الحق‏}‏ فأفاد تقوية الخَبر عَن الله تعالى بالعزّة والحكم، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذِلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضاً إبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتَاجَاً لإنقاذه من أيدي الظالمين‏.‏
وجملة ‏{‏فإن تولوا الله عليم بالمفسدين‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ وهذا تسجيل عليهم إذ نكصوا عن المباهلة، وقد علم بذلك أنهم قصدوا المكابرة ولم يتطلبوا الحق، رُوي أنهم لما أبوا المباهلة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فإن أبيتم فأسلموا ‏"‏ فأبوا فقال‏:‏ ‏"‏ فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد ‏"‏ فأبوا فقال لهم‏:‏ ‏"‏ فإني أنبذ إليكم على سواء ‏"‏ أي أترك لكم العهد الذي بيننا فقالوا‏:‏ «ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكنا نصالحك على ألاّ تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حُلة حمراء ألْفاً في صفر وألْفَاً في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد» وطلبوا منه أن يبعث معهم رجُلاً أميناً يحكم بينهم فقال‏:‏ لأبعثنّ معكم أميناً حَقَّ أميننٍ فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولم أقف على ما دعاهم إلى طلب أمين ولا على مقدار المدة التي مكث فيها أبو عبيدة بينهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏
رجُوع إلى المجادلة، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة، بعَثَ عليه الحرصُ على إيمانهم، وإشارة إلى شيءٍ من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلاممِ الوجه لله كما تقدم بيانه‏.‏ وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلاً وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية‏.‏ فجملة ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ بمنزلة التأكيد لجملة ‏{‏فقل تعالوا ندع أبناءنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم‏.‏ ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام، ولذلك لم تعطف هذه الجملة‏.‏ والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى‏:‏ لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّاً وعبدوه مع الله‏.‏
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل‏:‏ جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده‏.‏ وتقدم الكلام على ‏(‏تعالوا‏)‏ قريباً‏.‏
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏‏.‏
وسواء هنا اسم مصدر الاستواء، قيل بمعنى العدل، وقيل بمعنى قصدٍ لا شطط فيها، وهذان يكونان من قولهم‏:‏ مكان سَواء وسِوَى وسَوى بمعنى متوسّط قال تعالى‏:‏ ‏{‏فرءاه في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن‏.‏ وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث، وصف به ‏{‏كلمة‏}‏، وهو لفظ مؤنث، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه‏.‏
و ‏{‏ألا نعبد‏}‏ بدل من ‏{‏كلمة‏}‏، وقال جماعة‏:‏ هو بدل من سَواء، وردّه ابن هشام، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب، واعترضه الدمامييني وغيره‏.‏
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى؛ لأنّ سَواء وصف لِكلمة وألاّ نعبد لو جعل بدلاً من سواء ءال إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به‏.‏
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام‏:‏ وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولذلك جاء بعده‏:‏ ‏{‏فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏
ويستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ألا نعبد إلا الله‏}‏ إلى آخره، التعريضُ بالذين عبدوا المسيح كُلِّهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ جيء في هذا الشرط بحرف إنْ لأنّ التولِّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضاً، وذلك من مواقع ‏(‏إن‏)‏ الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يُؤيَس من إسلامهم فأعرِضوا عنهم، وأمسكوا أنتم بإسلامكم، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم‏.‏ ومعنى هذا الإشهاد التسْجيل عليهم لئلاّ يُظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire