{كهيعص (1)}
حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها. وقد تقدم القول في مجموع نظائرها. وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام.
والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفاً عليه، لأنّ الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات.
وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها.
وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب اسمَ الحرف الثاني وهو {ها بالإمالة. وفي رواية عن نافع وابن كثير (ها) بحركة بين الكسر والفتح. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي (يا) بالإمالة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر بإظهار دَال (صاد). وقرأ الباقون بإدغامه في ذال ذكر {رحمة ربك} [مريم: 2] وإنما لم يمد (ها) و(يا) مع أنّ القارئ إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالُها، واسمَا هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت.
واعلم أنك إن جريت على غير المختار في معاني فواتح السور، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر، وأما الأقوال التي خصت بعضها بمعان، فقيل في معنى {كهيعص} إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى: الكافي أو الكريم أو الكبير، والهاء من هادي، والياء من حكيم أو رحيم، والعين من العليم أو العظيم، والصاد من الصادق، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وقيل اسم من أسماء القرآن، أي بتسمية جديدة، وليس في ذلك حديث يعتمد.
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}
افتتاح كلام، فيتعيّن أن {ذِكْرُ} خبر مبتدأ محذوف، مثلُه شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين. والتقدير: هذا ذكر رحمة ربّك عبده. وهو بمعنى: اذكر. ويجوز أن يكون {ذِكْرُ} أصله مفعولاً مطلقاً نائباً عن عامله بمعنى الأمر، أي اذكر ذكراً، ثمّ حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حُول في قوله {الحمد لله} وقد تقدم في [سورة الفاتحة: 2]. ويرجحه عطف {واذكر في الكتاب مريم} [مريم: 16] ونظائرِه.
وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدوللِ عن الأسلوب المتعارف في الإخبار، وأصل الكلام: ذكر عبدنا زكرياء إذ نادى ربّه فقال: رب الخ... فرحمة ربّك، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه، مع ما في إضافة {ربّ إلى ضمير النبيء وإلى ضمير زكرياء من التنويه بهما.
وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شؤون آل بيت مريم وكافلها لأنّ في تلك الأحوال كلها تذكيراً برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه.
وزكرياء نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو زكرياء الثاني زوج خالة مريم، وليس له كتاب في أسفار التوراة. وأما الذي له كتاب فهو زكرياء بن برخيا الذي كان موجوداً في القرن السادس قبل المسيح. وقد مضت ترجمة زكرياء الثاني في سورة آل عمران ومضت قصّة دعائه هنالك.
و إذ نادى ربه} ظرف ل {رحمتِ}. أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت، أو بدل من {ذكر،} أي اذكر ذلك الوقت.
والنداء: أصله رفع الصوت بطلب الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان} في سورة آل عمران (193) وقوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} في [سورة الأعراف: 43]. ويطلق النداء كثيراً على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهراً. أي تضرعاً لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام: أن زكرياء قال: يا رب، بصوت خفي.
وإنما كان خفياً لأن زكرياء رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أنّ الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعاً وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالباً، فلعل يقين زكرياء كاف في تقوية التوجه، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفياً، لأنه نداء من يسمع الخفاء.
والمراد بالرحمة: استجابة دعائه، كما سيصرح به بقوله: {يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} [مريم: 7]. وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكرياء كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}
جملة {قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني} مبنية لجملة {نادى ربه} [مريم: 3]. وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: {فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيّاً}. وإنّما كان ذلك تمهيداً لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر.
ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضياً للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت. والخبران من قوله: {وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً} مستعملان مجازاً في لازم الإخبار، وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبَر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران.
والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه.
والتعريف في (العظَمُ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه.
وشبّه عموم الشّيب شعرَ رأسه أو غلَبَته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود، تشبيهاً مركباً تمثيلياً قابلاً لاعتبار التفريق في التشبيه، وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل {اشتَعَل}.
وأسند الاشتعال إلى الرأس، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلاّ بعد أن يعمّ اللّحية غالباً، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب، فلما جيء باسم الشيب تمييزاً لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال، مع إفادة تنكير {شَيباً} من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس.
ولِما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب «الكشاف» ووضحه صاحب «المفتاح» فانظُرهما.
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:
واشتعل المُبيضّ في مُسودهمثلَ اشتعال النّار في جزل الغضا ***
ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: «ماء ولا كصدّى».
والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض.
وجملة {لم أكن بدعائك رب شقياً} معترضة بين الجمل التمهيدية، والباء في قوله: {بدعائك} للمصاحبة.
والشقيّ: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفاً.
ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم: {عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً} [مريم: 48] أي عسى أن أكون سعيداً. أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هُريرة عن النبيء صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء، لم نعرف اسمه وهو إسلامي:
وكنت جليسَ قعقاع بن شَوْرولا يشقَى بقعقاع جليس ***
أي يسعد به جليسُه.
والمعنى: لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه.
وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه، وتوسلٌ إليه بما سلف له معه من الاستجابة.
روي أن محتاجاً سأل حاتماً الطائي أو مَعْنَ بن زائدةَ قائلاً: «أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا» فقال: «مرحباً بمن تَوسل بنا إلينا».
وجملة {وإني خفت الموالي من ورائي} عطف على جملة {واشتعل الرأس شيباً،} أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي. وما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح عن النبيء صلى الله عليه وسلم مرسلاً أنه قال: " يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله " فلعلّه خشي سوء معرفتهم بما يخلّفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعزّ على المؤمن تلاشيها، ولذلك قال: {يرثني ويرث من آل يعقوب} فإن نُفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.
فقوله {يَرِثُني} يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: " يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله "
والظواهر تؤذن بأن الأنبياء كانوا يُورَثون، قال تعالى: {وورث سليمان داوود} [النمل: 16]. وأما قول النبيء صلى الله عليه وسلم " نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركْنَا صدقةٌ " فإنما يريد به رسول الله نفسَه، كما حمله عليه عُمر في حديثه مع العبّاس وعليّ في «صحيح البخاري» إذ قال عمر: «يريد رسول الله بذلك نفسه»، فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك حكماً سابقاً كان مراد زكرياء إرث آثار النبوءة خاصة من الكتب المقدّسة وتقاييده عليها.
والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولى بمعنى الولي.
ومعنى: {من ورائي} من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء، كما قال النّابغة:
وليس وراء الله للمرء مطلب ***
أي بعد الله. فمعنى {من ورائي} من بعد حياتي.
و {من ورائي} في موضع الصفة ل {الموالي} أو الحال.
وامرأة زكرياء اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.
والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العُقر بفتح العين وضمها مع سكون القاف. وأتى بفعل (كان) للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.
ومعنى {مِنْ لَدنكَ} أنه من عند الله عندية خاصة، لأنّ المتكلّم يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسْباب ومسبباتها تبعاً لخلقها، فلما قال {من لدنك} دلّ على أنه سأل ولياً غير جارٍ أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له.
ويتعلّق {لِي} و{مِن لَّدُنكَ} بفعل {هَبْ}. وإنما قدم {لِي} على {مِن لدُنكَ} لأنه الأهم في غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.
و {يَرِثُني} قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل {وَلِيَّا}. وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله {هَبْ لِي} لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السببية.
و {ءَال يَعْقُوبَ} يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ {آل المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل؛ كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحْبار اليهودية كقوله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} [النساء: 54]، وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سننه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} [آل عمران: 68] وقولِه: {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 3]، مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.
ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي، وهو عمّ مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكرياء، أي ليس له أولاد فيكون ابنُ زكرياء وارثاً ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكرياء من ورائه.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}
مقول قول محذوف دلّ عليه السياق عقب الدعاء إيجازاً، أي قلنا يا زكرياء إلخ...
والتبشير: الوعد بالعطاء. وفي الحديث: «أنّه قال للأنصَار فأبشروا وأمّلوا»، وفي حديث وفد بني تميم: «اقبَلوا البشرى، فقالوا بشرتَنا فأعطنا».
ومعنى {اسْمُهُ يَحْيَى} سَمّهِ يحيى، فالكلام خبر مستعمل في الأمر.
والسميّ فسروه بالموافق في الاسم، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده. فعليه يكون هذا الإخبار سراً من الله أودعه زكرياء فلا يظن أنه قد يُسمّي أحد ابنَه يحيى فيما بين هذه البشارة وبين ازدياد الولد. وهذه منّة من الله وإكرام لزكرياء إذ جعل اسم ابنه مبتكراً، وللأسماء المبتكرة مزيّة قوّة تعريف المسمى لقلّة الاشتراك، إذ لا يكون مثله كثيراً مدّة وجوده، وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمّناً واستجادة.
وعندي: أن السّمِيّ هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف، فإن الاسم أصله في الاشتقاق (وسَم)، والسمة: أصلها وسمة، كما في قوله تعالى: {ليسمُّون الملائكَة تسمية الأنثى} [النجم: 27]، أي يصفونهم أنهم إناث، ومنه قوله الآتي: {هل تعلم له سمياً} [مريم: 65] أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه. وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه. والمعنى: أنه لم يجئ قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطي النبوءة وهو صبيّ، قال تعالى: {وآتيناه الحكم صبياً} [مريم: 12]، وجعل حصوراً ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمّه بعد العَقر، وبُعث مبشراً برسالة عيسى عليه السلام، ولم يكن هو رسولاً، وجعل اسمه العلم مبتكراً غير سابق من قبله. وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأنّ الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلّت، ولذلك قيل «المزيّة لا تقتضي الأفضليّة» وهي كلمة صدق.
وجملة {قَالَ رَبّ} جواب للبشارة.
و {أنى} استفهام مستعمل في التعجب، والتعجب مكنى به عن الشكر، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنّه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولداً ثمّ يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولداً من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر، وتقدّم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران.
وجملة {امرأتي عاقراً} حال من ياء التكلّم. وكرّر ذلك مع قوله في دعائه {وكَانَتتِ امرأتي عاقِراً}. وهو يقتضي أنّ زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عُنّةٌ ولا خصاء ولا اعتراض، لأنهم يحسبون الإنعَاظ والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العُقر.
وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إمّا لعلّة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة.
و {من} في قوله {من الكبر عُتِيّاً} للابتداء، وهو مجاز في معنى التعليل.
والكِبر: كثرة سني العمر، لأنه يقارنه ظهور قلّة النشاط واختلال نظام الجسم.
و {عُتِيّاً} مفعول {بَلَغْتُ}.
والبلوغ: مجاز في حلول الإبان، وجعل نفسه هنا بالغاً الكبر وفي آية آل عمران (40) قال: {وقد بلغني الكبر} لأن البلوغ لما كان مجازاً في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف.
والعُتيّ بضم العين في قراءة الجمهور مصدر عتا العود إذا يبس، وهو بوزن فعول أصله عُتُووٌ، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمّة ولكنهم لما استثقلوا توالي ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمّة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثْرَ كسرة فلما قلبت ياءً اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام، وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلاّ لدفع الالتباس بينه وبين العُتوّ الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر.
شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة المكنية، وإثباتُ وصف العُتي لها استعارة تخييلية.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}
فصلت جملة {قَالَ كذلك} لأنها جرت على طريقة المحاورة. وهي جواب عن تعجبه. والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله: {وكانَتِ امرأتي عاقِراً وقد بلغتُ مِن الكِبَر عُتِياً} [مريم: 8]. فضمير {قَالَ} عائد إلى الرب من قوله {قَالَ رَبّ أنَّى يكونُ لي غُلامٌ} [مريم: 8].
والإشارة في قوله {كذلك} إلى قول زكرياء {وكانت امرأتي عاقِراً وقَد بلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عُتِيّاً}. والجار والمجرور مفعول لفعل {قَالَ رَبُّكَ}، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدّر ربُّك، ففعلُ {قَالَ رَبُّكَ} مرادٌ به القول التكويني، أي التقديري، أي تعلّق الإرادة والقدرة. والمقصود من تقريره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله {عَلَيَّ هَيِنٌ}، فجملة {هُوَ عليَّ هَيِنٌ} استئناف بياني جواباً لسؤال ناشئ عن قوله {كَذَلِكَ} لأنّ تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يُبطل ذلك التعجب المقرّر، وذلك كونه هيّناً في جانب قدرة الله تعالى العظيمة.
ويجوز أن يكون المشار إليه بقوله {كَذلِكَ} هو القول المأخوذ من {قَالَ رَبُّكَ}، أي أن قولَ ربّك {هُوَ عليَّ هَيّنٌ} بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت، فيكون جارياً على طريقة التشبيه كقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وقد تقدم في سورة البقرة (143). وعلى هذا الاحتمال فجملة هُوَ عليَّ هَينٌ} تعليل لإبطال التعجب إبطالاً مستفاداً من قوله {كذلك قال ربّك}، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله {قَالَ ربّك} إلى التكلم في قوله {هُوَ عليَّ هَيّنٌ} التفاتاً. ومقتضى الظاهر: هو عليه هيّن.
والهيّن بتشديد الياء: السهل حصوله.
وجملة {وقَدْ خَلقتُكَ من قَبْلُ} على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله {هُوَ على هَيِنٌ}، أي إيجاد الغلام لك هيّن عليّ في حال كوني قد خلقتُك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجوداً، أي في حال كونه مماثلاً لخلقي إياك، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم.
ومعنى {ولَمْ تَكُ شَيْئاً}: لم تكن موجوداً.
وقرأ الجمهور {وقَدْ خَلَقْتُكَ} بتاء المتكلّم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: (وقد خلقناك) بنون العظمة.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}
أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام، لأنّ البشارة لم تعيّن زمناً، وقد يتأخر الموعود به لحكمة، فأراد زكرياء أن يعلم وقت الموعود به. وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به، ولذلك حذف متعلّق {ءَايَةً}. وإضافة {ءَايَتُكَ} على معنى اللاّم، أي آية لك، أي جعلنا علامة لك.
ومعنى {ألاَّ تُكَلِّم النَّاسَ} أن لا تقدر على الكلام، لأنّ ذلك هو المناسب لكونه آية من قِبَل الله تعالى. وليس المراد نهيَه عن كلام الناس، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية. وقد قدمنا تحقيق ذلك في سورة آل عمران.
وجعلت مدة انتفاء تكليمه الناس هنا ثلاث ليال، وجعلت في سورة آل عمران ثلاثة أيام فعلم أنّ المراد هنا ليال بأيامها وأنّ المراد في آل عمران أيام بلياليها.
وأُكد ذلك هنا بوصفها ب {سَوِيّاً} أي ثلاث ليال كاملة، أي بأيامها.
وسويّ: فعيل بمعنى مفعول، يستوي الوصف به الواحد والواحدة والمتعدد منهما.
وفسر أيضاً {سَوِيّاً} بأنه حال من ضمير المخاطب، أي حال كونك سوياً، أي بدون عاهة الخَرَس والبكَم، ولكنّها آية لك اقتضتها الحكمة التي بيّناها في سورة آل عمران. وعلى هذا فذكر الوصف لمجرد تأكيد الطمأنينة، وإلا فإن تأجيله بثلاث ليال كاف في الاطمئنان على انتفاء العاهة.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
الظاهر أن المعنى أنه خرج على قومه ليصلي على عادته، فكان في محرابه في صلاة خاصة ودعاء خفي، ثم خرج لصلاة الجماعة إذ هو الحبر الأعظم لهم.
وضمنخرج معنى طلع فعدي بعلى كقوله تعالى: {فخرج على قومه في زينته} [القصص: 79].
والمحراب: بيت أو محتجر يُخصص للعبادة الخاصة. قال الحريري: فمحرَابيَ أحْرَى بي.
والوحي: الإشارة بالعين أو بغيرها، والإيماء لإفادة معنى شأنُه أن يفاد بالكلام.
و (أن) تفسيرية. وجملة {سبّحوا بكرة وعشِيّاً} تفسير (لأَوْحى)، لأن (أوحى) فيه معنى القول دون حروفه.
وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكرياء لما لم يكلمهم قد نذر صمتاً فيقتدوا به فيصمتوا، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة، كما سيأتي في قوله تعالى: {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم: 26]. فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح؛ أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيئهم ابناً يرث علمه، ولعلهم كانوا علموا ترقبه استجابه دعوته، أو أنه أمرهم بذلك أمراً مبهماً يفسره عندما تزول حبْسة لسانه.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)}
مقول قول محذوف، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى، فلا محالة أنه صادر من قائل، ولا يناسب إلاّ أن يكون قولاً من الله تعالى، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته. والأظهر أنّ هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكرياء. فهذا ابتداء ذكر فضائل يحيى.
وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به. والسياق يدلّ عليه. والتقدير: قلنا يا يحيى خذ الكتاب.
والكتاب: التوراة لا محالة، إذ لم يكن ليحيى كتاب منزّل عليه.
والأخذ: مستعار للتفهم والتدبر، كما يقال: أخذت العلم عن فلان، لأنّ المعتني بالشيء يشبه الآخذ.
والقوة: المراد بها قوّة معنوية، وهي العزيمة والثّبات.
والباء للملابسة، أي أخذا ملابساً للثبات على الكتاب، أي على العمل به وحَمْل الأمّة على اتباعه، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها.
و {ءَاتيناه} عطف على جملة القول المحذوفة، أي قلنا: يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم.
والحُكم: اسم للحكمة. وقد تقدم معناها في قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} في سورة البقرة (269). والمراد بها النّبوءة، كما تقدم في قوله تعالى: {ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً} في سورة يوسف (22)، فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه. وقيل: الحكم هو الحكمة والفهم.
و صَبِيّاً} حال من الضمير المنصوب في {وءاتيناه}. وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد، كما أعطى نبيئه محمداً صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه. ويبعد أن يكون يحيى أُعطي النبوءة وهو صبي، لأن النبوءة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشُدّ. واتفق العلماء على أن يحيى أعطِي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير. ولعل الله لما أراد أن يكون شهيداً في مقتبل عمره باكره بالنبوءة.
والحَنان: الشفقة. ومن صفات الله تعالى الحنان. ومن كلام العرب: حنانيك، أي حناناً منك بعد حنان. وجُعل حنان يحيى من لَدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس.
والزكاة: زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث، كما في قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] أو أُريد بها البركة.
وتقي: فعيل بمعنى مُفعل، من اتّقى إذا اتّصف بالتقوى، وهي تجنب ما يخالف الدّين. وجيء في وصفه بالتقوى بفعل {كَانَ تَقِيّاً} للدلالة على تمكنه من الوصف.
وكذلك عطف بروره بوالديه على كونه تقياً للدلالة على تمكنه من هذا الوصف.
والبرور: الإكرام والسعي في الطاعة. والبَرّ بفتح الباء وصف على وزن المصدر، فالوصف به مبالغة. وأما البِر بكسر الباء فهو اسم مصدر لعدم جريه على القياس.
والجبّار: المستخف بحقوق الناس، كأنه مشتق من الجبر، وهو القسر والغصب. لأنّه يغصب حقوق النّاس.
والعصيّ: فعيل من أمثلة المبالغة، أي شديد العصيان، والمبالغة منصرفة إلى النفي لا إلى المنفيّ. أي لم يكن عاصياً بالمرة.
{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
الأظهر أنه عطف على {وءاتيناه الحكم صبياً} [مريم: 12] مخاطباً به المسلمون ليعلموا كرامة يحيى عند الله.
والسّلام: اسم للكلام الذي يفاتح به الزائر والراحل فيه ثناء أو دعاء. وسمي ذلك سلاماً لأنه يشتمل على الدعاء بالسلامة ولأنه يؤذن بأن الذي أقدم هو عليه مسالم له لا يخشى منه بأساً. فالمراد هنا سلام من الله عليه، وهو ثناء الله عليه، كقوله {سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58]. فإذا عرّف السلام باللام فالمراد به مثل المراد بالمنكّر أو مراد به العهد، أي سلام إليه، كما سيأتي في السلام على عيسى. فالمعنى: أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة.
وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداءِ أطوار: طور الورود على الدنيا، وطور الارتحال عنها، وطور الورود على الآخرة. وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال.
والمراد باليوم مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال.
وجيء بالفعل المضارع في {ويوم يموت} لاستحضار الحالة التي مات فيها، ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلاّ إجمالاً.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}
جملة {واذكر في الكتاب مريم} عطف على جملة {ذِكْرُ رحمتتِ ربِّكَ} [مريم: 2] عطف القصة على القصة فلا يراعى حُسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم. على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} مصدراً وقع بدلاً من فعله.
والمراد بالذكر: التّلاوة، أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك.
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها.
والكتاب: القرآن، لأنّ هذه القصة من جملة القرآن. وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة {في الكتاب} بعد كلمة {واذكر}. وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: " لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي "
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ {اذكر}. ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ {واذكرْ} في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور.
و {إذ ظرف متعلق باذكر} باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر، وليس متعلقاً به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى.
ويجوز أن يكون (إذ) مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلاً من (مريم)، أي اذكر زمن انتباذها مكاناً شرقياً. وقد تقدم مثله في قوله {ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه} [مريم: 2، 3].
والانتباذ: الانفراد والاعتزال، لأن النبذ: الإبعاد والطرح، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه، ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له.
وانتصب {مكاناً} على أنه مفعول {انتبذت} لتضمنه معنى حلت. ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام. والمعنى: ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي.
ونُكر المكان إبهاماً له لعدم تعلُّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالاً في المقصود من القصة. وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرقَ قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس. كما قال ابن عباس: «إني لأعلم خلققِ الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرقَ قبلة لقوله تعالى: {مكاناً شرقِيّاً}»، أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى. فذكر كون المكان شرقياً نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل.
واتخاذ الحجاب: جعل شيء يَحجب عن الناس. قيل: إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط.
والروح: الملك، لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلاَّ على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشراً.
والتمثل: تكلف المماثلة، أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة.
و {بَشَرَاً} حال من ضمير (تمثل)، وهو حال على معنى التشبيه البليغ.
والبشر: الإنسان. قال تعالى: {إني خالق بشراً من طين} [ص: 71]، أي خالق آدم عليه السلام.
والسويُّ: المُسَوّى، أي التام الخلق. وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة، وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت: {إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ إن كُنتَ تقِيَّاً}، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة.
وجملة {إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ} خبرية، ولذلك أكدت بحرف التأكيد. والمعنى: أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذاً لها منه، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هَمّ به. وهذه موعظة له.
وذكرها صفة (الرحمان) دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعراً عليها.
وقولها {إن كُنتَ تَقيّاً} تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتّقي ربّه.
ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته، وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التّقوى مستقرة فيه. وهذا أبلغ وعظٍ وتذكيرٍ وحثّ على العمل بتقواه.
والقصر في قوله: {إنَّما أنا رسولُ ربّكِ} قصر إضافي، أي لستُ بشراً، رداً على قولها: {إن كنت تقياً} المقتضي اعتقادها أنه بشر.
وقرأ الجمهور {لأَهَبَ} بهمزة المتكلم بعد لام العلّة. ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة. وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع {ليهب بياء الغائب، أي ليهب ربّك لك، مع أنها مكتوبة في المصحف بألف. وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء.
ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله، لأنها علمت أنّه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربّها في أمر لم تطقه، كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط، وكما راجعه محمد عليه الصلاة والسلام في فرض خمسين صلاة. ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرّاً عظيماً إذ هي مخطوبة لرجل ولم يَبْننِ بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف.
وقولها ولم أكُ بغيّاً} تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون، والمقصود منه تأكيد النفي فمفاد قولها {ولم أكُ بغيّاً} غير مفاد قولها {ولم يَمْسَسني بَشَر}، وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها {ولم يَمْسَسني بَشَر}.
وقولها {ولم يَمْسَسني بَشَر} أي لم يَبْننِ بي زوج، لأنها كانت مخطوبة ومراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى.
وأما قولها {ولَمْ أكُ بَغِياً} فهو نفي لأن تكون بغياً من قبل تلك الساعة، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك. فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب، والمعنى: ما كنت بغيّاً فيما مضى أفأعدّ بغياً فيما يستقبل.
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي، وفيما ذكرنا مخرج من مأزِقها، وليس كلام مريم مسوقاً مساق الاستبعاد مثل قول زكرياء {أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً} [مريم: 8] لاختلاف الحالين لأن حال زكرياء حال راغب في حصول الولد، وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله.
والبغِيّ: اسم للمرأة الزانية، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بَغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.
وجواب المَلَك معناه: أن الأمر كما قلت، نظير قوله في قصة زكرياء: {كذلك قال ربك هو علي هين،} وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.
وفي قوله {هو علي هين} توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضدّ قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدي الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده، لأنّ مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.
فضمير {هو علي هين} عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها {ولم يَمْسَسني بَشَر ولم أكُ بَغِياً}. فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكرياء اختلاف في المعنى.
والكلام في الموضعين على لسان المَلك من عند الله، ولكنه أسند في قصة زكرياء إلى الله لأن كلام المَلك كان تبليغَ وحي عن الله جواباً من الله عن مناجاة زكرياء، وأسند في هذه القصة إلى الملَك لأنه جواب عن خطابها إياه.
وقوله {ولنجعله} عطف على {فأرسلنا إليها روحنا} باعتبار ما في ذلك من قول الرُّوح لها {لأهب لك غلاماً زكياً،} أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها، وجعله آية للناس ورحمة كرامة للغلام، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم.
وجملة {وكان أمراً مقضياً} يجوز أن تكون من قول الملك، ويجوز أن تكون مستأنفة. وضمير {كان عائد إلى الوهْب المأخوذ من قوله لأهب لك غلاماً}.
وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها.
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}
الفاء للتفريع والتعقيب، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة.
والحمل: العلوق، يقال: حملت المرأة ولداً، وهو الأصل، قال تعالى: {حملته أمه كرهاً} [الأحقاف: 15]. ويقال: حملت به. وكأن الباء لتأكيد اللصوق، مثلها في {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. قال أبو كبير الهذلي:
حملت به في ليلة قرءودة *** كرهاً وعقد نطاقها لم يُحلَل
والانتباذ تقدم قريباً، وكذلك انتصاب {مكاناً} تقدم.
و {قَصِيّاً} بعيداً، أي بعيداً عن مكان أهلها. قيل: خرجت إلى البلاد المصرية فارّة من قومها أن يعزّروها وأعانها خطيبها يوسف النجّار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية. ولا يصح.
وفي إنجيل لوقا: أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوباً للحضور بقرية أهله لأن ملك البِلاد يجري إحصاء سكان البلاد، وهو ظاهر قوله تعالى: {فأتت به قومَها تحمله} [مريم: 27].
والفاء في قوله: {فَأَجَاءَها المَخَاضُ} للتعقيب العُرفي، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها.
و {أجَاءها معناه ألْجأها، وأصله جاء، عدي بالهمزة فقيل: أجاءه، أي جعله جائياً. ثم أطلق مجازاً على إلجاء شيء شيئاً إلى شيء، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء، ويضطره إلى المجيء إليه. قال الفراء: أصله من جئتُ وقد جعلته العرب إلْجاء. وفي المثل شرّ ما يُجيئك إلى مُخّة عرْقُوب. وقال زهير:
وجارٍ سارَ معتمداً إلينا *** أجَاءته المخافةُ والرجاء
والمَخاص بفتح الميم:} طَلق الحامل، وهو تحرك الجنين للخروج.
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد. وهو ما بين العروق والأغصان، أي إلى أصل نخلة استندت إليه.
وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها.
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية.
والمشار إليه في قولها {قبل هذا} هو الحمل. أرادتْ أن لا يُتطرق عِرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة. ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة.
وقرأ الجمهور {مِتّ بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم} في سورة آل عمران (157). وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل. وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل.
والنِسْيُ بكسر النون وسكون السين} في قراءة الجمهور: الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسى، ووزن فِعْل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيْد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل.
وذلك مثل الذبح في قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 107]، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذَبيح. والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنْسَاءً، ويقولون عند الارتحال: انظروا أنساءكم، أي الأشياء التي شأنكم أن تَنْسَوها.
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك.
وقرأه حمزة، وحفص، وخلف {نَسْياً بفتح النون وهو لغة في النِّسي، كالوتر والوتر، والجسر والجسر.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}
ضمير الرفع المستتر في (ناداها) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في {فحملته} [مريم: 22]، أي: ناداها المولود.
قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص، وأبو جعفر، وخلف، وروح عن يعقوب {مِنْ تَحتها} بكسر ميم (من) على أنها حرف ابتداء متعلّق ب (ناداها) وبجر {تَحتها}.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {مَنْ بفتح الميم على أنها اسم موصول، وفتح تَحْتَهَا} على أنه ظرف جعل صلة، والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها. وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما السلام.
وقَيْدُ {من تحتها} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويراً لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه.
و {أنَّ من قوله ألاَّ تَحْزَني} تفسيرية لفعل (ناداها).
وجملة {قَدْ جَعلَ رَبُّككِ تحتك سَرِيّاً} خبر مراد به التعليل لجملة {ألاَّ تحزني}، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.
السرّي: الجدول من الماء كالساقية، كثير الماء الجاري.
وهبَها الله طعاماً طيّباً وشراباً طيّباً كرامة لها يشهدها كل من يراها، وكان معها خطيبها يوسف النجار، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهداً بعصمتها وبراءتها مما يظن بها. فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده. وأما الرُطب فقيل كان الوقت شتاء، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة. وإنما أعطيت رُطباً دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}
فائدة قوله {وَهُزِي إليْككِ بِجِذْععِ النخلةوهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تساقط عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى} أن يكون إثمار الجذع اليابس رُطباً ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يُثمر الجذع اليابس رطباً. وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها.
والباء في {بِجِذْععِ النَّخْلَةِ} لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6] وقوله {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].
وضمن {وَهُزي} معنى قَرّبي أو أدني، فعُدي ب (إلى)، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يَدْنُ إليك ويَلِنْ بعد اليبس ويُسقط عليك رطباً.
والمعنى: أدني إلى نفسك جِذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحداً، وكلاهما ضميرُ معادٍ واحد، ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو {واضمم إليك جناحك} [القصص: 32]. فالضامّ والمضموم إليه واحد. وإنما منَع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلاّ في أفعال القلوب، وفي فعلي: عَدِم وفَقَد، لعدم سماع ذلك، لا لفساد المعنى، فلا يقاس على ذلك منع غيره.
والرطب: تمر لم يتم جفافه.
والجَنيّ: فعيل بمعنى مفعول، أي مجتنى، وهو كناية عن حَدثان سقوطه، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهداً بنخلته كان أطيب طعماً.
و {تَسَّاقط} قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام.
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف. و{رُطَبَاً} على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة.
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع سَاقَطَت النخلة تمرَها، مبالغة في أسقطت و{رُطَباً} مفعول به.
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائداً إلى {جِذْع النَّخْلةِ}.
وجملة {فَكُلِي} وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله {قد جعل ربك تحتك سرياً،} أي فأنت في بحبوحة عيش.
وقرّة العين: كناية عن السرور بطريق المضادة، لقولهم: سَخِنت عينه إذا كثر بكاؤه، فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب. وتقدم في قوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك} [القصص: 9]. وقرّة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود. وفي كونه قرّة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه.
وفتح القاف في {وقَرّي عيناً} لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً}.
هذا من بقية ما ناداها به عيسى، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل، تلقيناً من الله لمريم وإرشاداً لقطع المراجعة مع من يريدُ مجادلتها، فعلّمها أن تنذر صوماً يقارنه انقطاع عن الكلام، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة.
وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مُصمتة. ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة، ففي «الموطأ» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلسَ ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليُتم صيامه " وكان هذا الرجل يدعَى أبا إسرائيل.
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم، فقال لها: «إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي». وفي الحديث أن امرأة من أحْمَسَ حجّت مُصمتة، أي لا تتكلّم. فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مروه فليتكلّم»، وعمللِ أصحابه.
وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا، فدلّ على أنه غير قربة.
الثاني: أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله: عليّ نذر. وفي «الموطأ» عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك: ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.
الثالث: أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله: «إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ».
فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولاً أو فعلاً يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج، فيُحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 36 37]، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي.
وفي «البخاري»: عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيه فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي. قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ. وأمره أن يركب»، فلم ير له في المشي في الطواف قربة.
وفيه عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان رَبط يده إلى إنسان بِسِيَرٍ أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي بيده ثم قال: قده بيده».
وفي «مسند أحمد» عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاصي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان. فقال: ما بالهما؟ قالا: إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة، فقال: أطلقا أنفُسكما ليس هذا نذراً إنما النذر ما يبتغى به وجه الله " وقال: إسناده حسن.
الرابع: أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ: نهى رسول الله عن ذلك، ولذلك قال مالك في»الموطأ» عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس: «قال مالك: قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية».
ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حَرج على النفس كنذر صمت ساعة، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرْء مفسدة مثل القصاص والجَلد. ولذلك قال: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبْشاركم عليكم حرام " لأن شريعة الإسلام لا تُناط شرائعها إلاّ بجلب المصالح ودَرء المفاسد.
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في «الموطأ». ولذلك قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة»: «ومَن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه، وليستغفر الله»، فقوله: «وليستغفر الله» بناء على أنه أتى بنذره مخالفاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. ولو فعل أحد صمتاً بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراماً إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية.
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحماً على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة.
ومعنى {فقولي إني نَذَرْت للرحمنن صَوْماً} فانذري صوماً وإن لقيت من البشر أحداً فقولي: إنّي نذرت صوماً فحذفت جملة للقرينة. وقد جعل القول المتضمن إخباراً بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى: {قولوا آمنا بالله} [البقرة: 136]. وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلاّ في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها، ولذلك جاء في الحديث: " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب "
وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوماً مجازاً بقرينة قوله {فلن أُكلِمَ اليَوْمَ إنْسِيّاً}. فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوماً بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل، وإشارةً تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطاً بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حِين تُسأل بقرينة قوله تعالى:
{فأشارت إليه} [مريم: 29].
والنون في قوله {تَرَيِنَّ} نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة.
والإنْسِي: الإنسان، والياء فيه للنسب إلى الإنس، وهو اسم جمع إنسان، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل: ياء حَرْسي لواحد من الحرس. وهذا نكرة في سياق النفي يُفيد العموم، أي لن أكلم أحداً.
وعدل عن أحد إلى {إنسياً} للرّعي على فاصلة الياء، وليس ذلك احترازاً عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عندالمخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)}
دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها. وفي إنجيل لوقا: أنها بقيتْ في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوماً، وهي أيام التطهير من دم النّفاس، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيباً عرفياً مثل: تزوّج فوُلد له.
و {قَوْمَهَا}: أهل محلتها. وجملة {تَحْمِلُهُ} حال من تاء {أتت.} وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها.
وجملة {قالُوا يامَرْيَم} مستأنفة استئنافاً بيانياً. وقال قومها هذه المقالة توبيخاً لها.
وفَرِيّ: فعيل من فَرَى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدّي، وهو جاءٍ من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذباً. ومنه قوله تعالى: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} [الممتحنة: 12].
ومن أهل اللغة مَن قال: إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه، تفرقة بين أفرى وفَرى، وأن فرى المجرد للإصلاح.
والأخت: مؤنث الأخ، اسم يضاف إلى اسم آخر، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم: يا أخا العرب، كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه: «يا أخت بني فراس ما هذا؟»، فإذا لم يذكر لفظ (بني) مضافاً إلى اسم جد القبيلة كان مقدّراً، قال سهل بن مالك الفزاري:
يا أخت خير البدو والحضارة *** كيف تَرَيْن في فتى فزارة
يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.
فقوله تعالى: {يا أُخْتَ هارُونَ} يحتمل أن يكون على حقيقته، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحاً في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك، وهذا أظهر الوجهين. ففي «صحيح مسلم» وغيره عن المغيرة ابن شعبة قال: «بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تَقرؤون {ياأُخْتَ هارُونَ} ومُوسى قبلَ عيسى بكذا وكذا؟ قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمتُ على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم» اه. ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلاّ هارون الرسول أخا موسى.
ويحتمل أن معنى {ياأُخْتَ هارُونَ} أنها إحدى النساء من ذريّة هارون أخي موسى، كقول أبي بكر: يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي.
ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكرياء من فرقة أبِيّا وامرأتُه من بنات هارون واسمها إليصابات، وإليصابات زوجة زكرياء نسيبة مريم، أي ابنة عمّها، وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داوود خطأ.
ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز. وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة.
والسّوْء بفتح السين وسكون الواو: مصدر ساءه، إذا أضرّ به وأفسد بعض حاله، فإضافة اسممٍ إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له. فمعنى {امْرَأَ سَوْءٍ} رَجلَ عمل مفسد.
ومعنى البغي تقدّم قريباً. وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمّها، وخالفت سيرة أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغياً؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغياً فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها. وهم أرادوا ذمّها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مِثل أبويها.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}
أي أشارت إليه إشارة دلّت على أنها تُحيلهم عليه ليسألوه عن قصته، أو أشارت إلى أن يسمعوا منه الجواب عن توبيخهم إياها وقد فهموا ذلك من إشارتها.
ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكى حِوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولةً غير معطوفة.
والاستفهام: إنكار؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته، أي كيف نترقب منه الجواب أو كيف نلقي عليه السؤال، لأن الحالتين تقتضيان التكلم.
وزيادة فعل الكون في {مَن كَان في المَهدِ} للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا على مكالمته، وذلك مبالغة منهم في الإنكار، وتعجب من استخفافها بهم. ففعل (كان) زائد للتوكيد، ولذلك جاء بصيغة المضي لأن (كان) الزائدة تكون بصيغة الماضي غالباً.
وقوله {في المَهْدِ} خبر (مَن) الموصولة.
و {صَبِيّاً} حال من اسم الموصول.
و (المَهْدِ) فراش الصبي وما يمهد لوضعه.
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها، وهو طيّ يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه صلى الله عليه وسلم
والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوماً سيقولون: إنه ابن الله.
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدّر إيتاءه إياه، أي قدّر أن يوتيني الكتاب.
والكتاب: الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن. والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاءَ علم ما في التوراة كقوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] فيكون قوله {وجعلني نبيئاً} ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها.
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و{ءاتانِي الكِتَابَ}.
والمبارَك: الذي تُقارن البركةُ أحوالَه في أعماله ومحاورته ونحو ذلك، لأن المبارك اسم مفعول من باركه، إذا جعله ذا بركة، أو من بَارك فيه، إذا جعل البركة معه.
والبركة: الخير واليمن.
ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليُحلّ لهم بعض الذي حُرم عليهم وليدعوَهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم، فهذه أعظم بركة تقارنه. ومن بركته أن جعل الله حُلوله في المكان سبباً لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير، ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقُسَاة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة، ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشّارين فصاروا دُعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة.
وبهذا يظهر أن كونه مباركاً أعم من كونه نبيئاً عموماً وجهياً، فلم يكن في قوله {وجعلنبي نبيئاً} غُنية عن قوله {وجعلني مُبَاركاً}.
والتعميم الذي في قوله {أين مَا كُنتُ} تعميم للأمكنة، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده، بل هو حيثما حلّ تحلّ معه البركة.
والوصاية: الأمر المؤكد بعمل مستقبل، أي قدّر وصيتي بالصلاة والزكاة، أي أن يأمرني بهما أمراً مؤكداً مستمراً، فاستعمال صيغة المضي في {أوصاني} مثل استعمالها في قوله {ءاتَانِي الكِتَابَ}.
والزّكاة: الصدقة. والمراد: أن يصلّي ويزكّي. وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئنا صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وقرينة الخصوص قوله {مَا دُمْتُ حَيّاً} لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة، أي أن يصلي ويتصدّق في أوقات التمكن من ذلك، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات.
فالاستغراق المستفاد من قوله {مَا دُمْتُ حَيّاً} استغراقٌ عرفي مراد به الكثرة؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته، لأن سياق الكلام في أوصاف تميّز بها عيسى عليه السلام، ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة.
والبَرّ بفتح الباء: اسم بمعنى البار. وتقدم آنفاً. وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه، لأن برّ الوالدين كان ضعيفاً في بني إسرائيل يومئذ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البرّ بها.
والجبّار: المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم. وقد تقدم في سورة هود (59) قوله: {واتبعوا أمر كل جبار عنيد}
والشقيّ:} الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة، وهو ضدّ السعيد. وتقدّم عند قوله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد} في آخر سورة هود (105).
ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا.
وقوله والسَّلامُ عليَّ يَوْم وُلِدتُّ} إلى آخره، تنويه بكرامته عند الله، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربّه، والقول فيه تقدّم في آية ذكر يحيى.
وجيء بالسَّلامُ هنا معرّفاً باللام الدالة على الجنس مبالغة في تعلّق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه. وهذا مؤذن بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه {وسَلام عليه يومُ ولد} [مريم: 15]، وذلك هو الفرق بين المعرّف بلام الجنس وبين النكرة.
ويجوز جعل اللام للعهد، أي سلام إليه، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته. ومن هذا القبيل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56]، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».
ومؤذن أيضاً بتمهيد التّعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة، فقالوا: ولد من زنى، وقالوا: مات مصلوباً، وقالوا: يحشر مع الملاحدة والكفرة، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)}
اعتراض بين الجُمل المقولة في قوله: {قال إني عَبْدُ الله} [مريم: 30] مع قوله: {وإن الله ربي وربكم} [مريم: 36]، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود.
والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضاً بالرد على اليهود والنصارى جميعاً، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية، وكلاهما مخطئ مبطل، أي ذلك هو عيسى بالحق، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جُعلوا بمنزلة من لا يعرفونه فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته. والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييزُ ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية، أي تلك حقيقة عيسى عليه السلام وصفته.
و {قَوْلُ الحقّ} قرأهُ الجمهور بالرفع، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بالنصب؛ فأما الرفع فهو خبرٍ ثاننٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعِيسى أو بدل منه، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى.
ومعنى {قَولَ الحقّ} أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق، أي مَقول هو الحق وما خالفها باطل، أو أن عيسى عليه السلام هو قول الحق، أي مقول الحق، أي المكون من قول (كُن)، فيكون مصدراً بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
وجَوّز أبو علي الفارسي أن يكون نصب {قَولَ الحقّ} بتقدير: أحُقُّ قولَ الحق، أي هو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوباً، تقديره: أحُقّ قولَ الحق. ويجوز أن يكون {قَولَ الحقّ} مصدراً نائباً عن فعله، أي أقول قول الحق. وعلى هذين الوجهين يكون اعتراضاً. ويجوز أن يكون {قَولَ} مصدراً بمعنى الفاعل صفة لعِيسَى أو حالاً منه، أي قائل الحق إذ قال: {إنِّي عَبْدُ الله ءاتانِي الكِتابَ إلى قوله: {أُبْعثُ حَيّاً} [مريم: 30 33].
و {الَّذي فيهِ يمْتَرُونَ} صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن {عيسى ابنُ مريمَ} على ما يناسب الوجوه المتقدمة.
والامتراء: الشكّ، أي الذي فيه يشكون، أي يعتقدون اعتقاداً مَبناه الشك والخطأ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقه، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض.
وجملة {مَا كَانَ لله أنْ يتَّخِذْ من ولد} تقرير لمعنى العبودية، أو تفصيل لمضمون جملة {الذي فيه يمترون} فتكون بمنزلة بدل البعض أو الاشتمال منها، اكتفاءً بإبطال قول النصارى بأن عيسى ابن الله، لأنه أهم بالإبطال، إذ هو تقرير لعبودية عيسى وتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلال الألوهيّة من اتخاذ الولد ومن شائبة الشرك، ولأنه القول الناشيء عن الغلوّ في التقديس، فكان فيما ذكر من صفات المدح لعيسى ما قد يقوي شبهتهم فيه بخلاف قول اليهود فقد ظهر بطلانه بما عُدد لعيسى من صفات الخير.
وصيغة {ما كان لله أن يتّخذ} تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه لأنّ لام الجحود تفيد مبالغة النّفي، وأنه مما لا يلاقي وجود المنفي عنه، ولأن في قوله: {أن يتخذَ} إشارة إلى أنه لو كان له ولد لكان هو خَلَقَه، واتّخذه فلم يَعْدُ أن يكون من جملة مخلوقاته، فإثبات البنوّة له خُلْف من القَوْل.
وجملة {إذا قَضَى أمراً إنما يَقُولُ لهُ كُن فيَكُونُ} بيان لجملة {ما كان لله أن يتَّخِذ من ولدٍ}، لإبطال شبهة النصارى إذ جعلوا تكوين إنسان بأمر التكوين عن غير سبب معتاد دليلاً على أن المكوّن ابن لله تعالى، فأشارت الآية إلى أن هذا يقتضي أن تكون أصول الموجودات أبناء لله وإن كان ما يقتضيه لا يخرج عن الخضوع إلى أمر التكوين.
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}
يجوز أن يكون هذا بقيةً لكلام جرى على لسان عيسى تأييداً لبراءة أمّه وما بينهما اعتراض كما تقدم آنفاً.
والمعنى: تعميم ربوبية الله تعالى لكل الخلق.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب همزة {وأَنَّ} مفتوحة فخرجه الزمخشري أنه على تقدير لام التعليل، فإن كان من كلام عيسى فهو تعليل لقوله {فاعبدوهُ} على أنه مقدّم من تأخير للاهتمام بالعِلّة لكونها مقررة للمعلول ومثبته له على أسلوب قوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} [الجنّ: 18] ويكون قوله {فَاعبُدُوهُ} متفرعاً على قوله {إني عَبْدُ الله} [مريم: 30] بعد أن أُردف بما تعلّق به من أحوال نفسه.
ولما اشتمل مدخول لام التعليل على اسم الجلالة أضمر له فيما بعد. وتقدير النظم هكذا: فاعبدوا الله لأنه ربّي وربكم.
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله {بالصلاة والزكواة} [مريم: 31]، أي وأوصاني بأنّ الله ربّي وربكم، فيكون بحذف حرف الجر وهو مطرد مع (أنّ).
ويجوز أن يكون معطوفاً على {الحَقّ} من قوله {قَولَ الحَقّ} [مريم: 34] على وجه جعل {قَولَ} بمعنى قائل، أي قائل الحق وقائلُ إن الله ربّي وربّكم، فإن همزة {أنَّ} يجوز فتحها وكسرها بعد مادة القول.
وإن كان ممّا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأنْ يقوله كان بتقدير قول محذوف، أو عطفاً على {مَرْيَمَ} من قوله تعالى: {واذْكُر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16]، أي اذْكر يا محمد أن الله ربّي فكذلك، ويكون تفريع {فاعبدوه} على قوله: {مَا كانَ لله أن يتَّخِذَ من وَلدٍ سبحانه} [مريم: 35] إلى آخره...
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخَلف، ورَوْح عن يعقوب بكسر همزة {إنَّ}. ووجهها ظاهر على كلا الاحتمالين.
وجملة {هَذا صِراطٌ مسْتَقِيم} تذييل وفذلكة لما سبقه على اختلاف الوجوه. والإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف الوجوه.
والمراد بالصراط المستقيم اعتقاد الحق، شُبه بالصراط المستقيم على التشبيه البليغ، شُبه الاعتقاد الحق في كونه موصولاً إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله إلى المكان المقصود باطمئنان بال، وعُلم أن غير هذا كبنَيّات الطريق مَن سلكها ألقت به في المخاوف والمتالف كقوله {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153].
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)}
الفاء لتفريع الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم، أي حادَ عن الصراط المستقيم الأحزابُ فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلكوها، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافاً أصلياً، فسلك الأحزاب طرقاً أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء.
وقوله {مِن بينهم} متعلّق باخْتَلَفَ. و(من) حرف توكيد، أي اختلفوا بينهم.
والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين. وقد كان النصارى على قول واحد على التّوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة} في سورة النساء (171) أن الاختلاف انحلّ إلى ثلاثة مذاهب: المَلْكَانِيّة (وتسمى الجاثُلِيقيّة)؛ واليعقوبية، والنسطورية. وانشعبت من هذه الفرق عدّة فِرق ذكرها الشهرستاني، ومنها الاليانة، والبليارسية، والمقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية، إلى فرق أخرى. منها فرقة كانت في العرب تسمى الرّكوسية ورد ذكرها في الحديث: أن النبي قال لعدي بن حاتم: إنّك رَكُوسي. قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئة. وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية (البُرُوتِسْتان) أتباع (لوثير). وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية (كاثوليك)، واليعقوبية (أرثودوكس)، والاعتراضية (بُرُوتستان). ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغتراراً وسوءَ فهم في معنى لفظ (ابن) الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضاً أصحابه. وقد جاء في التوراة أيضاً أنتم أبناء الله. وفي إنجيل متي الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلههُ وربُّه، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذُيل بقوله فَوَيْلٌ للذين كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يوممٍ عَظِيمٍ}، فشمل قولُه (الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء المخبرَ عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم.
والمشهد صالح لمعان، وهو أن يكون مشتقاً من المشاهدة أو من الشهود، ثمّ إما أن يكون مصدراً ميمياً في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما، أي يوم فيه ذلك وغيره.
والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله، أي نفوا وحدانيته، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}
{أسمع بهم وأبصر} صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضاً عن تهديدهم، فتعيّن أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغاً يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبَصَر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} [البقرة: 175].
وجُوز أن يكون {أسمع بهم وأبصر} غير مستعمل في التعجب بل صادفَ أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعيّن بأن يَسمع ويُبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يُسمع وأن يُبصر. وهذا كناية عن التهديد.
وضمير الغائبين عائد إلى (الذين كفروا)، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام.
والاستدراك الذي أفاده قوله {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله {يوم يأتوننا} من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأفيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله {اليوم في ضلال مبين}.
والتعبير عنهم ب {الظالمون} إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
عقّب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم.
والضمير عائد إلى الظالمين، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله {وهم إ يؤمنون وقوله {وإلينا يرجعون} [مريم: 40].
وانتصب {يوم الحسرة على أنه مفعول خلَف عن المفعول الثاني لأنذرهم، لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة.
والحسرة: الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف. والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لِكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين.
واللام في الحسرة على هذا الوجه لام العهد الذهني، ويجوز أن يكون اللام عوضاً عن المضاف إليه، أي يوم حسرة الظالمين.
ومعنى قضى الأمر: تُمّم أمر الله بزجهم في العذاب فلا معقب له.
ويجوز أن يكون المراد بالأمر أمر الله بمجيء يوم القيامة، أي إذ حشروا. و(إذ) اسم زمان، بدل من يوم الحسرة.
وجملة وهم في غفلة حال من الأمر وهي حال سببية، إذ التقدير: إذ قضي أمرهم.
والغفلة: الذهول عن شيء شأنُه أن يعلم.
ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمرِ الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة، أي بهت. وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]، وهذا أليق بقوله: {وهم لا يؤمنون.
ومعنى وهم لا يؤمنون استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة. فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدلّ عليه المضارع من استمرار الفعل وقتاً فوقتاً استحضاراً لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها. والكلام موجّه إلى المشركين لإبلاغه إليهم.
وضمير {يرجعون عائد إلى من عليها وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في {وأنذرهم} [مريم: 39].
وحقيقة الإرث: مصير مال الميت إلى من يبقى بعده. وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك. فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كلّ بما يناسبه، فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركاً بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجلٍ معلوم، فصار الجميع في محض تصرف الله، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء.
وتأكيد جملة {إنا نحن نرث الأرض بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى.
وأما ضمير الفصل في قوله نحن نرث الأرض فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصاً، إذ لا يفيد ردّ اعتقادٍ مخالفٍ لذلك.
وظهر لي: أن مجيء ضمير الفصل بمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله {إنني أنا الله} في سورة طه (14)، وقوله: {وهم بالأخرة هم كافرون} في سورة يوسف (37).
وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفرّ لهم من الكون في قبضة الربّ الواحد الذي أشركوا بعبادته بعضَ ما على الأرض، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلاّ مما يرثه الله.
وبذلك كان موقع جملة وإلينا يرجعون بيّناً، فالتقديم مفيد القصر، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله: إنا نحن نرث الأرض.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}
قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين. وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبَا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلاناً باقياً، لبنائه له هيكلَ التوحيد وهو الكعبة، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة، وذُكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} [مريم: 37] إلى قوله: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} [مريم: 40]. ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.
وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.
وقد جرى سَرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوبِ سرد قصة مريم عليها السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.
وتقدم تفسير {واذكر في الكتاب} في أول قصة مريم (16).
والصديق بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف، مثل الملك الضّليل لقب امرئ القيس، وقولهم: رجل مِسيّك: أي شحيح، ومنه طعام حرّيف، ويقال: دليل خِرّيت، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز، مشتقاً من الخَرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره. وتقدم في قوله تعالى: {يوسف أيها الصديق} [يوسف: 46]. وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذراً للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذَبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها، كما في قول تأبّط شرّاً:
إني لمهد من ثنائي فقاصدبه لابن عم الصّدّق شُمس بن مالكوتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه.
وجملة {إنه كان صديقاً نبيا واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل، فإن (إذ) اسم زمان وقع بدلاً من إبراهيم، أي اذكر ذلك خصوصاً من أحوال إبراهيم فإنه أهمّ ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار.
والنبي: فعيل بمعنى مفعول، من أنبأه بالخبر. والمراد هنا أنه منبّأ من جانب الله تعالى بالوحي. والأكثر أن يكون النبي مرسلاً للتبليغ، وهو معنى شرعي، فالنبي فيه حقيقة عرفية. وتقدم في سورة البقرة (246) عند قوله: {إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً}، فدل ذلك على أن قوله لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام.
وقرأ الجمهور نبيا بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة.
وقرأه نافع وحده (نبيئاً) بهمزة آخره، وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن.
وقوله: إذ قال لأبيه الخ بدل اشتمال من (إبراهيم). و(إذ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن (إذ) ظرف متصرف على التحقيق. والمعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر.
وأبو إبراهيم هو (آزار) تقدم ذكره في سورة الأنعام.
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه.
قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 ه فقال:
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ، منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: ولا يغني عنك شيئاً، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً} [مريم: 43]، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا} [مريم: 45]، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه:
زعم المنجّم والطّبيب كلاهمالا تحشر الأجسام قلت: إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكماقال: وفي النداء بقوله: {يا أبت} أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله: {يا بني} [لقمان: 13 16] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: {يا بني اركب معنا} [هود: 42] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز». انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب «الكشاف»، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله: {لم تعبد، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
وأبت: أصله أبي، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضاً على غير قياس، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة. ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء، وخالفه الفراء فقال: ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (يأبتَ) بفتح التاء دون ألف بعدها، بنَاء على أنهم يقولون (يا أبتَا) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفاً وبقاء الفتحة.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}
إعادة ندائه بوصف الأبوّة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول. قال في «الكشاف»: «ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً، فلم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم ليست معك، وذلك عِلم الدلالة على الطريق السويّ، فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه» اه. ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه. وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة.
وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالِم بأن يُتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصّون مظانّ المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاءِ ما يضر، قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]
وفي قوله: {أهدك صراطاً سوياً استعارة مكنية؛ شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا، وإثبات الصراط السويّ قرينة التشبيه، وهو أيضاً استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود.
ويا أبت تقدّم الكلام على نظيره قريباً.
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}
إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني.
والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام؛ عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحاً عن فسادها وضلالها، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]، ففي الكلام إيجاز لأن معناه: لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس، وعبادتَها من وساوس الشيطان للذين سنّوا سنن عبادتها، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها، فمن عَبَد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالاً معلوماً.
وهذا كقوله تعالى: {وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} وتقدم في سورة النساء (117). وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده.
وجملة إن الشيطان كان للرحمان عصياً تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة. وذكر وصف عصياً الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل (كَانَ) للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة، أي بما يفضي إلى النقمة، ولذلك اختير وَصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيهاً على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع.
وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار، إذ لم يقل: إنه كان للرحمان عصيّاً، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه، ولزيادة التنفير من الشيطان، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيهاً إلى النفرة منه، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها. وتقدّم الكلام على يا أبت قريباً.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم.
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة.
والولي: الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحدة وأمرهما جميع؛ فكني بالولاية عن المقارنة في المصير.
والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يُثبت أمراً فيما هو من تصرف الله، وإبْقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلّص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان.
ومعنى: {فتكون للشيطان وليا فتكون في اتباع الشيطان في العذاب. وتقدّم الكلام على يا أبت قريباً.
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
فصلت جملة:... لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
والاستفهام للإنكار إنكاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم. وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه.
وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب، بعيد الفهم، شديد التصلّب في الكفر.
وجملة أراغب أنت جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طرداً لقواعد التركيب اللفظي، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانياً بعد الوصف فاعلاً سادّاً مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المُسند. فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثباتٍ المسند إليه، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أولاً والإتيان بالاسم ثانياً.
ولمّا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقةً في الأسماء، واعتباره مع ذلك متطلّباً فاعلاً، وجعلوا فاعله سادّاً مسدّ الخبر، فصار للتركيب شبهان. والتحقيقُ أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال: قُدم الخبر على المبتدأ في قوله: أراغب أنت عن آلهتي لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى اه. ولله دره، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دُرُّه. فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب.
والنداء في قوله يا إبراهيم تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه في غيبة عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم.
وجملة لئن لم تنته لأرجمنك مستأنفة.
واللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم.
والرجم: الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي. وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكماً في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم.
وجملة واهجرني مليا عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته.
والهجر: قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعاراً بتحقيره.
ومليا: طويلاً، وهو فعيل، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر. فمليّ مشتق من مصدر مُمات، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال: أملى له، إذا أطال له المدة، فيأتون بهمزة التعدية، فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أي هجراً مَليّاً، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء.
ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف، أي زماناً طويلاً، بناء على أن المَلا مقصوراً غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى: {وحملناه على ذات ألواح} [القمر: 13]، أي سفينة ذات ألواح.
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}
سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادرهُ به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته.
ومن حلم إبراهيم أن كانت متكارته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة.
والسلام: السلامة. و(على) للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفاً عند قوله {وسلام عليه يوم ولد} [مريم: 15].
وأظهر حرصه على هداه فقال {سأستغفر لك ربي، أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهياً من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114]. واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء: 86].
وجملة {سأستغفر لك ربي مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.
وجملة إنه كان بي حفيا تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذِ الإشراك.
والحَفيّ: الشديد البِر والإلطاف. وتقدم في سورة الأعراف (187) عند قوله: {يسألونك كأنك حفي عنها}
وجملة وأعتزلكم عطف على جملة سأستغفر لك ربي، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن، لأن المضارع غالب في الحال. أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى، وهو المحكي بقوله تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99]، وقد خرج من بَلد الكلدان عازماً على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى.
رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن، لأن بقية القوم هم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعاً، ولذلك قال له {وأعتزلكم.
وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى أبي إبراهيم وقومه تنزيلاً لهم منزلة الحضور في ذلك المجلس، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء، أو كان هذا المقال جرى بمحضر جماعة منهم.
وعُطف على ضمير القوم أصنامُهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلاناً بتغيير المنكر.
وعبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله ما تدعون من دون الله للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلّة اعتزاله إياهم وأصنامَهم: بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم.
والدعاء: العبادة، لأنها تستلزم دعاء المعبود.
وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعو الله احتراساً من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بيّن لهم أنه بعكس ذلك يدعو الله الذي لا يعبدونه.
وعبّر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربّه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.
وجملة وعسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً في موضع الحال من ضمير وأدعوا أي راجياً أن لا أكون بدعاء ربي شقياً. وتقدم معناه عند قوله {ولم أكن بدعائك رب شقياً} في هذه السورة (4). وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
طُوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازاً في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمراً إلاّ نفذ عزمه، واكتفاءً بذكر ما ترتّب عليه من جعل عزمه حدثاً واقعاً قد حصل جزاؤه عليه من ربّه، فإنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس بهم إذْ وهبه إسحاق ابنه، ويعقوب ابن ابنه، وجعلهما نبيئين. وحسبك بهذه مكرمة له عند ربّه.
وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضاً، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحاق، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومَه.
وإنما اقتُصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل: وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته، فهي قد اعتزلت قومها أيضاً إرضاء لربها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب؛ ولأن هذه الموهبة لما كانت كِفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهِبةَ من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب. أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيداً عن إبراهيم في مكة ليكون جارَ بيت الله. وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما.
وقد خصّ إسماعيل بالذكر استقلالاً عقب ذلك، ومِثلُه قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} [ص: 45] ثم قال: {واذكر إسماعيل} في سورة ص (48)، وقد قال في آية الصافات (99 101) {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم} إلى أن قال: وبشرناه بإسحاق نبيا م الصالحين فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله: إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ هو المراد بالغلام الحليم.
والمراد بالهبة هنا: تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سَكَن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها. وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة، أو أُريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيهاً بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه.
والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيداً وسُرّ به، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشرة سنة، وأن من يعقوب نشأت أمّة عظيمة.
وحرف (لما) حرف وجودٍ لوجودٍ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطه فتقتضي جملتين، والأكثر أن يكون وجود جوابها عند وجود شرطها، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية، أي التعليل دون توقيت، وذلك كما هنا.
وضمير لهم عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
و (من) في قوله {ومن ذريتهما محسن} [الصافات: 113] إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دلّ عليه {وهبنا، أي موهوباً من رحمتنا. وإما اسم بمعنى بَعض بتأويل، كما تقدم عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} في سورة البقرة (8). وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة (مِن) استعمالها اسماً كما أثبتوا ذلك لكلمات (الكاف) و(عن) و(على) لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه، كما قال التفتزاني في حاشية الكشاف، وأقرّه عبْد الحكيم. وعلى هذا تكون (مِن) في موضع نصب على المفعول به لفعل وهبنا، أي وهبنا لهم بعضَ رحمتنا، وهي النبوءة، لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم.
واللسان: مجاز في الذكر والثناء.
ووصف لسان بصدق وصفاً بالمصدر.
الصدق: بلوغ كمال نوعه، كما تقدم آنفاً، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل، ووصف بالعلوّ مجازاً لشرف ذلك الثناء.
وقد رتّب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيباً بديعاً إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف، ونعمة الآخرة وهي الرحمة، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين.
وتقدم اختلاف القراء في نبيئا عند ذكر إبراهيم عليه السلام.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}
أفضت مناسبة ذكر إبراهيم ويعقوب إلى أن يذكر موسى في هذا الموضع لأنه أشرف نبي من ذرية إسحاق ويعقوب.
والقول في جملة {واذكر وجملة إنه كان كالقول في نظيريهما في ذكر إبراهيم عدا أن الجملة هنا غير معترضة بل مجرد استئناف.
وقرأ الجمهور مخلصاً بكسر اللام من أخلص القاصر إذا كان الإخلاص صفته. والإخلاص في أمر ما: الإتيانُ به غير مشوب بتقصير ولا تفريط ولا هوادة، مشتق من الخلوص، وهو التمحض وعدم الخلط. والمراد هنا: الإخلاص فيما هو شأنه، وهو الرسالة بقرينة المقام.
وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بفتح اللام من أخلصه، إذا اصطفاه.
وخُص موسى بعنوان (المخلص) على الوجهين لأن ذلك مزيته، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون، وجادله مجادلة الأكفاء، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء (18، 19): {قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين} إلى قوله: قال أولو جئتك بشيء مبين. وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله: {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} [القصص: 17]، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته. ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه المَلك بالوحي، فكان مخلَصاً بذلك، أي مصطفى، لأن ذلك مزيته قال تعالى {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41].
والجمع بين وصف موسى لأنه رسول ونبيء. وعطف {نبيئاً على رسولاً مع أن الرسول بالمعنى الشرعي أخص من النبي، فلأن الرسول هو المرسلَ بوحي من الله ليبلغ إلى الناس فلا يكون الرسول إلا نبيئاً، وأما النبي فهو المنبّأ بوحي من الله وإن لم يؤمر بتبليغه، فإذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبيء وليس رسولاً، فالجمع بينهما هنا لتأكيد الوصف، إشارة إلى أن رسالته بلغت مبلغاً قوياً، فقوله نبيئاً تأكيد لوصف رسولاً.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ نبيئاً عند ذكر إبراهيم.
وجملة وناديناه عطف على جملة إنه كان مخلصاً فهي مثلها مستأنفة.
والنداء: الكلام الدال على طلب الإقبال، وأصله: جهر الصوت لإسماع البعيد، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازاً مرسَلاً، ومنه {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بُعد الصوت. ولم يسمع فعله إلاّ بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} في سورة البقرة (171)، وعند قوله: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان} في سورة آل عمران (193).
وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى. قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي}
في سورة الأعراف (144)، وتقدم تحقيق صفته هناك، وعند قوله تعالى: {حتى يسمع كلام اللَّه} في سورة براءة (6).
والطّور: الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر، ويقال له: طور سيناء.
وجانبه: ناحيته السفلى، ووصفه بالأيمن لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس، لأن جهة مشرق الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي.
والتقريب: أصله الجعل بمكان القرب، وهو الدنو وهو ضد البعد. وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي. فقوله: نَجِيّاً} حال من ضمير {موسى}، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب.
ونجّي: فعيل بمعنى مفعول من المناجاة. وهي المحادثة السرية؛ شُبّه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحداً ولا أطْلَع عليه أحداً بالمناجاة. وفعيل بمعنى مفعول، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة، مثل جليس ونديم ورضيع.
ومعنى هبة أخيه له: أن الله عزّزه به وأعانه به، إذ جعله نبيئاً وأمره أن يرافقه في الدعوة، لأن في لسان موسى حُبسة، وكان هارون فصيح اللسان، فكان يتكلم عن موسى بما يريد إبلاغه، وكان يستخلفه في مهمات الأمة. وإنما جعلت تلك الهبة من رحمة الله لأن الله رحم موسى إذ يسّر له أخاً فصيح اللسان، وأكمله بالإنباء حتى يعلم مراد موسى مما يبلغه عن الله تعالى. ولم يوصف هارون بأنه رسول إذ لم يرسله الله تعالى، وإنما جعله مبلّغاً عن موسى. وأما قوله تعالى: {فقولا إنا رسولا ربك} [طه: 47] فهو من التغليب.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}
خصّ إسماعيل بالذكر هنا تنبيهاً على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه إسحاق، لأن إسماعيل صار جدّ أمة مستقلة قبل أن يصير يعقوب جدّ أمة، ولأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكُه في بناء الكعبة. وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} في سورة البقرة (127).
وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خُلقاً في ذريته.
وأعظم وعْدٍ صدقَه وعدُه إياه إبراهيم بأن يجده صابراً على الذبح فقال {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102].
وجعله الله نبيئاً ورسولاً إلى قومه، وهم يومئذ لا يعدون أهله أمه وبنيه وأصهاره من جُرهم. فلذلك قال الله تعالى: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ثم إن أمة العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضاً، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشؤون الحنيفية ملة أبيه إبراهيم.
ورضى الله عنه: إنعامه عليه نعماً كثيرة، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته.
وتقدم اختلاف القراء في قراءة نبيئاً بالهمز أو بالياء المشددة.
وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبيء عند ذكر موسى عليه السلام آنفاً.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}
إدريس: اسم جعل علماً على جد أبي نوح، وهو المسمى في التوراة (أُخنُوخ). فنوح هو ابن لامك بن متُوشالح بن أُخنوخ، فلعل اسمه عند نسّابي العرب إدريس، أو أن القرآن سماه بذلك اسماً مشتقاً من الدرس لما سيأتي قريباً. واسمه (هرمس) عند اليونان، ويُزعم أنه كذلك يسمى عند المصريين القدماء، والصحيح أن اسمه عند المصريين (تُوت) أو (تحُوتي) أو (تهوتي) لهجات في النطق باسمه.
وذكر ابن العِبْري في «تاريخه»: «أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان (طريسمجيسطيس)، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم، لأنه كان يصف الله تعالى بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة» اه.
ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس، فلعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير.
وكان إدريس نبيئاً، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أُخنوخ مع الله». قيل: هو أول من وضع للبشر عمارة المدن، وقواعد العلم، وقواعد التربية، وأول من وضع الخط، وعلّم الحساب بالنجوم وقواعدَ سير الكواكب، وتركيب البسائط بالنّار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه، وأوّل من علم الناس الخياطة. فكان هو مبدأ من وضع العلوم، والحضارة، والنظم العقليّة.
فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنّه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجميّة، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية، كما منع إبليس من الصرف، وكما منع طالوت من الصرف.
وتقدّم اختلاف القراء في لفظ {نبيئاً عند ذكر إبراهيم.
وقوله ورفعناه مكاناً علياً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي. والمراد: رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن. وقال به أبو مسلم الأصفهاني. وقال جماعة: هو رفع حقيقي إلى السماء، وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله ولم يُوجد لأنّ الله أخذه»، وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه السلام. والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروْحنة جثته. ومما يذكر عنه أنّه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تَرَوْحَن، فرفع. وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات. ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه السلام في السماء وأنه لمّا سلّم عليه قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. فأخذ منه أنّ إدريس عليه السلام لم تكن له ولادةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتباراً بأخوّة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.
على أنّه يجوز أن يكون ذلك سهواً من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبدالله في «صحيح البخاري». وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جدّ أبيه. وذلك يدلّ على أنّه لم ير في قوله «مرحباً بالأخ الصالح» ما يُنافي أن يكون أباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله {ذكر رحمة ربك عبده زكرياء} [مريم: 2] إلى هنا. والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه.
والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله {أنعم الله عليهم} وقوله {وممّن هدينا واجتبينا}، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما. وتلك وإن كانت نعماً وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفاً لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه.
وقرأ الجمهور {من النّبييّن بياءين بعد الموحدة. وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة.
وجملة إذَا تتلى عَليهم ءَاياتُ الرَّحْمانِ} مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء.
والمراد به البكاء الناشئ عن انفعال النفس انفعالاً مختلطاً من التعظيم والخوف.
و {سُجداً جمع ساجد. وبُكيّاً جمع بَاك. والأول بوزن فُعّل مثل عُذَّل، والثاني وزنه فعُول جمع فاعل مثل قوم قعود، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي، فأصله: بُكُويٌ. فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء. وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله.
وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن، فهم سجدوا كثيراً عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا. وأثنت على سجودهم قصداً للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم.
وقد سجد النبي عند هذه الآية وسنّ ذلك لأمته.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}
فرع على الثناء عليهم اعتبارٌ وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخَلْف.
والخلْف بسكون اللام عقب السُوء، وبفتح اللام عقب الخير. وتقدم عند قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب} في سورة الأعراف (169).
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضاً إلى إبراهيم، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب. ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل.
ولفظ من بعدهم} يشمل طبقات وقروناً كثيرة، ليس قيداً لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين.
والإضاعة: مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العَرْض النفيس، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد. وتقدم قوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} في سورة الكهف (30).
والصلاة: عبادة الله وحده.
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماماً، قال تعالى: {قالوا لم نك من المصلّين} [المدثر: 43]. والشرك: اتباع للشّهوات، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل، وهؤلاء هم المقصود هنا، وغير المشركين كاليهود والنصارى فَرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ.
والغيّ: الضلال، ويطلق على الشرّ، كما أطلق ضده وهو الرشَد على الخير في قوله تعالى: {أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [الجنّ: 10] وقوله {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} [الجنّ: 21]. فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم، كقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} [الفرقان: 68] أي جزاء الآثام. وتقدم الغيّ في قوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي وقوله {وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً} كلاهما في سورة الأعراف (202و 146). وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة}.
وحرف (سوف) دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيراً لهم من الإصرار على ذلك.
وقوله {فأُولَئِكَ يدْخُلونَ الجنّة} جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيهاً لهم للترغيب في توبتهم من الكفر. وجيء بالمُضارع الدّال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يُمْطَلُون في الجزاء. والجنّة: عَلَم لدار الثواب والنّعيم. وفيها جنّات كثيرة كما ورد في الحديث: «أَو جَنَّةٌ واحدة هي إنّها لجنان كثيرة»
والظلم: هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل. كقوله {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً في سورة الكهف (33).
وشي: اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم.
وذكر شيئاً في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعاً لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان يظن أنّ سبق الكفر يَحط من حسن مصيرهم.
وجَنَّات} بدل من {الجنّة. جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال.
وعَدْن: الخلد والإقامة، أي جنات خلد ووصفها ب التي وعد الرحمان عباده} لزيادة تشريفها وتحسينها. وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان.
والغيب: مصدر غاب، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب.
وتقدم في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في أول البقرة (3).
والباء في بالغيب للظرفية، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم. أي في الأزل إذ خلقها لهم. قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم.
وجملة {إنه كان وعده مأتياً} تعليل لجملة {التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي يدخلون الجنة وعداً من الله واقعاً. وهذا تحقيق للبشارة.
والوعد: هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول. وهو من باب كَسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن. فالجنات لهم موعودة من ربهم.
والمأتِي: الذي يأتيه غيره. وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب، تشبيهاً لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه. وتشبيهاً للشيء المحصل بالمكان المقصود. ففي قوله {مأتِيّا تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأنّ المأتي لا بد له من آت.
وجملة لا يسْمعُونَ فيها لغْواً} حال من {عبَادَه}.
واللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، كما قال تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} [الغاشية: 11]، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم.
وقوله {إلاَّ سلاما} استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أي لكن تسمعون سلاماً. قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} [إبراهيم: 23] وقال {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} [الواقعة: 25، 26].
والرزق: الطعام.
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر. وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص.
والبُكرة: النصف الأول من النهار، والعَشي: النصف الأخير، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل.
وجملة {تلك الجنّة} مستأنفة ابتدائية. واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهاً بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهاً بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].
و {نورث} نجعل وارثاً، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث: انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة. واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها، تشبيهاً بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر.
وقرأ الجمور {نورث بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء، وقرأه رويس عن يعقوب: نوَرّث بفتح الواو تشديد الراء من وَرّثه المضاعف.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}
موقع هذه الآية هنا غريب. فقال جمهور المفسرين: إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل: " ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا " فنزلت: {ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية. أي إلى قوله {نَسِيَّاً}، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.
والمعنى: أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير: وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن.
ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن.
والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل، قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27].
و {نتنزل} مرادف ننزّل، وأصل التنزّل: تكلّف النزول، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف. قال تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها} [القدر: 4].
واللاّم في «له» للملك، وهو ملك التصرف.
والمراد ب {مَا بَينَ أيْدِينَا} ما هو أمامنا، وب {وَمَا خَلْفَنا:} ما هو وراءنا، وب {ومَا بَينَ ذَلِكَ:} ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات.
ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل {واسأل القرية} [يوسف: 82]، فيعمّ جميع الكائنات، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله {ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ}.
وجملة {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
و {نسِيّاً: صيغة مبالغة من نَسيَ، أي كثيرَ النسيان أو شديده.
والنسيان: الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله
{وما ربّك بظلام للعبيد} [فصّلت: 46] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره. وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به.
وجوز أبو مسلم وصاحب «الكشاف»: أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله {من كان تقياً} [مريم: 63]، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ، وهو تأويل حسن.
وعليه فكاف الخطاب في قوله {بأمر ربك} خطاب كلّ قائل لمخاطبه، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته.
وعليه فجملة {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنّة، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به.
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله {فاعْبُدْهُ} إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن: أن الملائكة لا يتصرفون إلاّ عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثمّ فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه.
وارتفع {رَبُّ السموات} على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر. وهذا الحذف سمّاه السكاكي بالحذف الذي اتّبِع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة:
سأشكر عَمْرَاً إنْ تراختْ منيتي *** أياديَ لم تُمنَنْ وإنْ هيَ جلّتِ
فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهرُ الشكوى إذا النعل زلّت
والسماوات: العوالم العلوية. والأرض: العالم السفلي، وما بينهما: الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات.
والخطاب في {فَاعبُدهُ واصْطَبِر} و{هَلْ تَعْلَمُ} للنبيء صلى الله عليه وسلم
وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك.
والاصطبار: شدّة الصبر على الأمر الشاق، لأنّ صيغة الافتعال تَرِد لإفادة قوّة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف (على) كما قال تعالى: {وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] ولكنه عدي هنا باللاّم لتضمينه معنى الثّبات. أي اثبت للعبادة، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: «هي أثقل صلاة على المنافقين» فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللاّم كما يقال: اثبت لعُدَاتك.
وجملة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها.
والسميّ هنا الأحسن أن يكون بمعنى المُسامي، أي المماثل في شؤونه كلها. فعن ابن عباس أنه فسّره بالنظير، مأخوذاً من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المُسمع. وكما سمي تعالى الحكيم، أي المُحكم للأمور، فالسميّ هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة.
والاستفهام إنكاري، أي لا مسامي لله تعالى، أي ليس من يساميه، أي يضاهيه، موجوداً.
وقيل السميّ: المماثل في الاسم. كقوله في ذكر يحيى {لم نجعل له من قبل سمياً} [مريم: 7]. والمعنى: لا تعلم له مماثلاً في اسمه الله، فإن المشركين لم يسموا شيئاً من أصنامهم الله باللاّم وإنّما يقولون للواحد منها إله، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلاً للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضاً.
وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره.
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)}
لما تضمن قوله {فاعبده واصطبر لعبادته} [مريم: 65] إبطالَ عقيدة الإشراك به ناسب الانتقالُ إلى إبطال أثر من آثار الشرك. وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى يتمّ انتقاض أصلي الكفر. فالواو عاطفة قصة على قصة، والإتيان بفعل {يَقول} مضارعاً لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار.
والمراد بالإنسان جَمع من الناس بقرينة قوله بعده {فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68]، فيراد من كانت هاته مقالتَه وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أوّل نزوله. ويجوز أن يكون وصفٌ حُذف، أي الإنسان الكافر، كما حذف الوصفُ في قوله تعالى: {يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79]، أي كلّ سفينة صالحة، فتكون كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامى: 3، 4]. وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] إلى قوله {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] فإن ذلك خطاب للمشركين. وقيل تعريف {الإنسان} للعهد لإنسان معين. فقيل، قائل هذا أُبَي بن خلف، وقيل: الوليد بن المغيرة.
والاستفهام في {أإذا ما متّ لسوف أخرج حياً} إنكار لتحقيق وقوع البعث، فلذلك أتي بالجملة المسلّطِ عليها الإنكار مقترنةً بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل.
ومتعلق {أُخرَجُ} محذوف أي أُخرج من القبر.
وقد دخلت لام الابتداء في قوله {لسَوفَ أُخرَجُ حيّاً} على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال، وذلك حجّة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال. ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال، وإن صمّم الزمخشري على منعه، وتأول ما هنا بأنّ اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء، وتأوله في قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] بتقدير مبتدأ محذوف، أي ولأنت سوف يعطيك ربّك فترضى، فلا تكون اللام داخلة على المضارع، وكلّ ذلك تكلّف لا مُلجئ إليه.
وجملة {أو لا يذكر الإنسان} معطوفة على جملة {يقول الإنسان}، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنّه لا يتذكّر أنا خلقناه من قبل وجوده.
والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول.
وقرأ الجمهور {أو لا يذْكُر بسكون الذال وضمّ الكاف من الذُكر بضم الذال. وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتَذكر فقلبت التاء الثانية ذالاً لقرب مخرجيهما.
والشيء: هو الموجود، أي إنا خلقناه ولم يك موجوداً.
و (قَبْلُ) من الأسماء الملازمة للإضافة. ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافاً إليه مجملاً ولم يراع له لفظ مخصوص تقدّم ذكره بنيت (قبلُ) على الضمّ، كقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 40].
والتقدير: إنا خلقناه من قبل كلّ حالة هو عليها، والتقدير في آية سورة الروم: لله الأمر من قبللِ كل حَدث ومِن بعده.
والمعنى: الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يَجرون في مداركهم على أحكام العادة، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجبُ وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة. ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها. وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواءً عليه الأمران.
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)}
الفاء تفريع على جملة {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل} [مريم: 67]، باعتبار ما تضمنته من التهديد. وواو القسم لتحقيق الوعيد. والقسم بالرب مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره.
وضمير {لنحشرنهم} عائد إلى {الإنسان} [مريم: 66] المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم، أي لنحشرن المشركين.
وعطف (الشياطين) على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة، فحشرهم مع الشياطين إنذار لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عندالناس كلهم. فلذلك عطف عليه جملة {ثم لنُحضِرنّهم حول جهنّم جثيّاً}، والضميرُ للجميع. وهذا إعداد آخر للتقريب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرّعب في قلوبهم. فحرف {ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد.
و جثيّاً} حال من ضمير {لنحضرنهم}، والجُثيّ: جمع جَاثثٍ. ووزنه فُعول مثل: قاعد وقُعود وجالس وجُلوس، وهو وزن سماعيّ في جمع فاعل. وتقدّم نظيره {خروا سجداً وبكياً} [مريم: 58]، فأصل جُثي جُثُور بواوَين لأن فعله واوي، يقال: جثا يَجثو إذا بَرك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل، فلمّا اجتمع في جثووٌ واوان استثقلا بعد ضمّة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء، فلمّا كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياءً للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبت الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي.
وقرى حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الجيم وهو كسر إتباع لحركة الثاء.
وهذا الجثو هو غير جثوّ الناس في الحشر المحكيّ بقوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} [الجاثية: 28] فإن ذلك جثوّ خضوع لله، وهذا الجثوّ حول جهنّم جثوّ مذلّة.
والقول في عطف جملة {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة} كالقول في جملة {ثمّ لنحضرنهم}. وهذه حالة أخرى من الرّعب أشدّ من اللتين قبلها وهي حالة تمييزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوّهم في الكفر.
والنزع: إخراج شيء من غيره، ومنه نزع الماء من البئر.
والشيعة: الطائفة التي شاعت أحداً، أي اتّبعته، فهي على رأي واحد. وتقدم في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} في سورة الحِجر (10). والمراد هنا شيع أهل الكفر، أي من كلّ شيعة منهم. أي ممن أحضرناهم حول جهنّم.
والعُتِيّ: العصيان والتجبّر، فهو مصدر بوزن فُعول مثل: خروج وجلوس، فقلبت الواو ياء. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر العين إتباعاً لحركة التاء كما تقدّم في جثياً.
والمعنى: لنميزنّ من كلّ فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو من تلك الشيعة أشدّ عصياناً لله وتجبّراً عليه.
وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأميّة بن خلف ونظرائهم.
و (أيّ) اسم موصول بمعنى (ما) و(من). والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم. وأصل التركيب: أيّهم هو أشدّ عتياً على الرحمان. وذكر صفة الرحمان هنا لتفظيع عتوّهم، لأنّ شديد الرّحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.
ولمّا كان هذا النّزع والتمييز مجملاً، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشدّ عصياناً، أعلم الله تعالى أنّه يعلم من هو أولى منهم بمقدار صُلي النّار فإنّها دركات متفاوتة.
والصُلْيُ: مصدر صَلِيَ النار كرضي، وهو مصدر سماعي بوزن فعول. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر الصاد اتباعاً لحركة اللاّم، كما تقدم في جثيّاً.
وحرفا الجر يتعلقان بأفعلي التفضيل.
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}
لمّا ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنّار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أنّ جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعاً لتوهم أنّ انتزاع من هو أشد على الرحمان عتياً هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب؛ بأن يحسبوا أنّ كبراءهم يكونون فداء لهم من النّار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النّار فإن الله أوجب على جميعهم النّار.
وهذه الجملة معترضة بين جملة {فوربك لنحشرنهم} [مريم: 68] الخ وجملة {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا} [مريم: 73] الخ...
فالخطاب في {وإن منكم} التفات عن الغيبة في قوله {لنحشرنّهم ولنحضرنّهم} [مريم: 68]؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرَف من ضمير الغيبة. ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها. وعن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ {وإن منهم. وكذلك قرأ عِكرمة وجماعة.
فالمعنى: وما منكم أحد ممن نُزع من كلّ شيعة وغيرِه إلاّ واردُ جهنّم حتماً قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزّة شِيعكم، أو تُلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النّار. وهذا نظير قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 42، 43]، أي الغاوين وغيرهم.
وحرف (إنْ) للنفي.
والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقاً مجازاً شائعاً، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يُعرف إلا أن يكون مجازاً غير مشهور فلا بد له من قرينة.
وجملة {ثمّ ننجي الذين اتّقوا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل.
و {ثمّ} للترتيب الرتبي تنويهاً بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جُثيّاً. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار. وذكر إنجاء المتقين: أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.
وجملة {ونذر الظالمين فيها جثياً} عطف على جملة {وإن منكم إلاّ واردها}. والظالمون: المشركون.
والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون.
ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي (نذر) استغناء عنه بماضي (ترك)، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} في سورة الأنعام (91).
فليس الخطاب في قوله وإن منكم إلاّ واردها} لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقاً واحداً، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله
{فوربك لنحشرنهم والشياطين} [مريم: 68] وقال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} [مريم: 85، 86]، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين.
فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 43] عقب قوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]. فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء.
وهذه الآية مثار إشكال ومحطّ قيل وقال؛ واتفق جميع المفسرين على أن المتّقين لا تنالهم نار جهنّم، واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير {منكُم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمَهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلّة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التّأويل، فمنهم من تأوّل الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بُعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المَورد لأنّ أصله من وُرود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلاّ لمعنى المصير إلى النّار كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} [الأنبياء: 98، 99] وقوله {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} [هود: 98] وقوله {ونسوق المجرمين إلى جهنم وِرداً} [مريم: 86]. على أن إيراد المؤمنين إلى النّار لا جدوى له فيكون عبثاً، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر ممّا سمّاه فوائد.
ومنهم من تأوّل ورود جهنّم بمرورالصراط، وهو جسر على جهنّم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سُرعة الاجتياز. وهذا أقل بُعداً من الذي قبله.
وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في «مسنده» والحكيمُ التّرمذي في «نوادر الأصول». وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال: «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون عنها بأعمالهم» الحديث في مرور الصراط.
ومن النّاس من لفق تعضيداً لذلك بالحديث الصحيح: أنه «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النّار إلاّ تَحلة القسم» فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى: {وإن منكم إلاَّ واردها} وهذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنّما معنى الحديث: إن من استحق عذاباً من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النّار إلاّ ولوجاً قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله «تحلة القسم» تمثيل.
ويروى عن بعض السلف روايات أنّهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية، من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة، وعن الحسن البصري، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل.
وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.
والحتم: أصله مصدر حتمه إذ جعله لازماً، وهو هنا بمعنى المفعول، أي محتوماً على الكافرين، والمقضي: المحكوم به. وجُثِيّ تقدم.
وقرأ الجمهور {ثمّ تنَجِّي} بِفَتح النون الثانية وتشديد الجيم، وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}
عطف على قوله {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم.
والتّلاوة: القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان} في البقرة (102)، وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} في أول الأنفال (2). كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون: لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمّد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه، قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53]، وقال تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11]. فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البيّنات: آيات القرآن، ومعنى كونها بيّنات: أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة.
واللاّم في قوله {للّذين آمنوا} يجوز كونها للتّعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل {قَالَ} لتعديته إلى متعلّقه، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين.
والاستفهام في قولهم {أيُّ الفريقين} تقريريّ.
وقرأ من عدا ابن كثير {مَقاماً} بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام، أطلق مجازاً على الحظ والرفعة، كما في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربّه جنتان} [الرحمن: 46]، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازاً في الظهور والمقدرة.
وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان، وهو مستعمل في الكون في الدنيا. والمعنى: خيرٌ حياةً.
وجملة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعاً وأجمل منهم منظراً. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم، وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب.
والأثاث: متاع البيوت الذي يُتزين به، و{رئياً} قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فِعْل بمعنى مفعول كذبِح، من الرؤية، أي أحسن مَرِئيّاً، أي منظراً وهيئة.
وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر «رِيّاً» بتشديد الياء بلا همزة إما على أنّه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى، وإما على أنّه من الرِيّ الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريّان من النّعيم. وأصله من الريّ ضد العطش، لأنّ الريّ يستعار للتنعم كما يستعار التلهّف للتألّم.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
هذا جواب قولهم {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نَدِيّاً} [مريم: 73]. لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم، لأنّ ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال. قال تعالى في شأن الأولين: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال في شأن الآخرين {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55، 56].
والمعنى: أن من كان منغمساً في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً.
واللاّم في قوله فليمدد له الرحمان مداً} لام الأمر أو الدعاء، استعملت مجازاً في لازم معنى الأمر، أي التحقيق، أي فسيمد له الرحمان مداً، أي إن ذلك واقع لا محالة على سنّة الله في إمهال الضُّلال، إعذاراً لهم، كما قال تعالى: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر: 37]، وتنبيهاً للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضُّلال حتى أنّ المؤمنين يَدْعُون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفّار.
فإن كان المقصود من {قُل} أن يقول النبي ذلك للكفّار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق، وإن كان المقصود أن يبلّغ النبيءُ ذلك عَن الله أنه قال ذلك فلامُ الأمر مجاز أيضاً وتجريد بحيث إنّ الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم.
والمدّ: حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازاً في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم: مدّ الله في عمرك.
و {مَدّاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المدّ الشديد، فيسينتهي ذلك.
و {حتى} لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها {حتى} لا لفظاً مفرداً. والتقدير: يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى.
وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدّلالة على الاستقبال لأنّ الاستقبال استفيد من الغاية.
و {إمّا} حرف تفصيل ل {ما يوعدون}، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، فإن كلّ واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما.
وانتصب لفظ {العذاب} على المفعولية ل {يَروْا. وحرف إما} غير عاطف، وهو معترض بين العامل ومعموله، كما في قول تأبّط شراً:
هما خطتّا إمّا إسارٍ ومِنّةٍ
وإما دممٍ والموت بالحر أجدر
بجرّ (إسار، ومنّة، ودم).
وقوله {شرّ مكاناً وأضعف جنداً} مقابل قولهم {خيرٌ مقاماً وأحسن نديّاً} [مريم: 73] فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل {خيرٌ نديّاً} ب {أضعفُ جنداً}.
وجملة {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} معطوفة على جملة {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدّاً} لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال، والاستمرار: الزيادة. فالمعنى على الاحتباك، أي فليمدد له الرحمان مداً فيزدَدْ ضلالاً، ويمدّ للذين اهتدوا فيزدادوا هدىً.
وجملة {والباقيات الصالحات خير} عطف على جملة {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}. وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى: {فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعفُ جنداً}، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزّة هو أقلّ مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين، إذ كان مآل الكفرة العذاب ومَآل المؤمنين السلامة من العذاب وبعدُ فللمؤمنين الثواب.
والباقيات الصالحات: صفتان لمحذوف معلوم من المقام، أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب. وقد تقدّم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف.
والمردّ، المرجع. والمراد به عاقبة الأمر.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}
تفريع على قوله {ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوفَ أخرج حياً} [مريم: 66] وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات. والمناسبة: أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه. وهو غرور إحالة البعث.
والآية تشير إلى قصة خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل السهمي. ففي «الصحيح»: أن خبّاباً كان يصنع السيوف في مكة، فعمل للعاصي بن وائل سَيفاً وكان ثمنه دَيناً على العاصي، وكان خبّاب قد أسلم، فجاء خبّاب يتقاضى دَينه من العاصي فقال له العاصي بن وائل: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمّد، فقال خبّاب (وقد غضب): لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثمّ يبعثك. قال العاصي: أو مبعوثٌ أنا بعد الموت؟ قال: نعم. قال (العاصي متهكماً): إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دَينَك». فنزلت هذه الآية في ذلك. فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا.
والاستفهام في {أفرأيت} مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر.
والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة. نُزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طرق العلم. وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله {لأُوتين مالاً وولداً}.
والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالماً بها.
والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يُرد به معيّن. ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
والآيات: القرآن، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها. ومن جملتها آيات البعث.
والوَلَد: اسم جَمْع لوَلَد المفرد، وكذلك قرأه الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي في هذه السورة في الألفاظ الأربعة «ووُلْد» بضمّ الواو وسكون اللام فهو جمع ولد، كأسد وأسد.
وجملة {أطلّع الغيب} جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدّين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله {أطلع الغيب} إنكاري وتعجيبي.
و {أطّلع} افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطْلَع بالتخفيف ومُطّلع بالتشديد. ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء، لأنّ الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من عُلّو، فالأصل أن فعل (اطّلع) قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى: {قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم} [الصافات: 54، 55]، فإذا ضُمن {اطّلع معنى أشرَف عُدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى: {لو اطَلعتَ عليهم لولّيتَ منهم فراراً} وتقدّم إجمالاً في سورة الكهف (18).
فانتصب الغيب} في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين. قال في «الكشاف»: «ولاختيار هذه الكلمة شأنٌ، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب» اه.
فالغيبُ: هو ما غاب عن الأبصار.
والمعنى: أأشرف على عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معَدّيْننِ له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولد عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنّه معطيه ذلك فأيقن بحصوله، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته، وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه.
ومتعلّق العهد محذوف يدلّ عليه السياق. تقديره: بأن يعطيه مالاً وولداً.
و {عند} ظرف مكان، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوبة بها تعاهُد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة. وقال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض
ما في المهارق الأهواءُ
ولعلّ في تعقيبه بقوله {سنكتب ما يقول} إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير.
واختير هنا من أسمائه {الرحمن}، لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، ولأن في ذكر هذا الاسم توركاً على المشركين الذين قالوا {وما الرحمن} [الفرقان: 60].
و {كَلاّ} حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلّم واحد، أو من كلام يحكى عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي} [الشعراء: 61، 62].
والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطَل بها، وقد تُقُدِّمَ على الكلام المبطَل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى: {كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح أسفر إنها لإحدى الكبر} [المدثر: 32 35] على أحد تأويلين، ولِما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النّفي، فهي نقيض إي وأجلْ ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق.
والمعنى: لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غرُوره، والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في ردّ كلام: كَلاّ، ويسكت.
ولكونها حرف ردع أفادت معنى تامّاً يحسن السكوت عليه. فلذلك جاز الوقف عليها عند الجمهور، ومنع المبرد الوقف عليها بناء على أنها لا بد أن تُتبع بكلام. وقال الفراء: مواقعها أربعة:
موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية.
وموقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله: {فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا} [الشعراء: 14، 15].
وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى: {كلا إنها تذكرة} [عبس: 11].
وموقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى:
{ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 4].
وكلام الفراءيبين أنّ الخلاف بين الجمهور وبين المبرد لفظي لأنّ الوقف أعم من السكوت التام.
وحرف التنفيس في قوله {سنكتب} لتحقيق أنّ ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} [يوسف: 98].
والمد في العذاب: الزيادة منه، كقوله: {فليمدد له الرحمان مداً} [مريم: 75].
و {ما يقول} في الموضعين إيجاز، لأنه لو حكي كلامه لطال. وهذا كقوله تعالى: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} [آل عمران: 183]، أي وبقربان تأكله النار، أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام، وما قاله من المال والولد، أي سنكتب جزاءَه ونهلكه فنرثه ما سمّاه من المال والولد، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه، إذ لا يعقل أن يورث عنه قولُه وكلامه. ف {ما يقول} بدل اشتمال من ضمير النصب في {نرثه}، إذ التقدير: ونرث ولده وماله.
والإرث: مستعمل مجازاً في السلب والأخذ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك. والمقصود: تذكيره بالموت، أو تهديده بقرب هلاكه.
ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله، فإن العاصي وَلدَ عمَرْاً الصحابي الجليل وهشاماً الصحابي الشهيد يوم أجنادين، فهنا بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونكاية وكمد للعاصي بن وائل.
والفرد: الذي ليس معه ما يصير به عدداً، إشارة إلى أنّه يحشر كافراً وحده دون ولده، ولا مال له، و{فرداً} حال.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}
عطف على جملة {ويقول الإنسان أإذا ما مت} [مريم: 66] فضمير {اتخذوا} عائد إلى الذين أشركوا لأنّ الكلام جرى على بعض منهم.
والاتخاذ: جعل الشخص الشيءَ لنفسه، فجعل الاتخاذ هنا الاعتقاد والعبادة. وفي فعل الاتخاذ إيماء إلى أن عقيدتهم في تلك الآلهة شيء مصطلح عليه مختلق لم يأمر الله به كما قال تعالى عن إبراهيم: {قال أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95].
وفي قوله {من دون الله} إيماء إلى أن الحق يقتضي أن يتّخذوا الله إلهاً، إذ بذلك تقرّر الاعتقاد الحق من مبدأ الخليقة، وعليه دلّت العقول الراجحة.
ومعنى {ليكون لهم عزاً} ليكونوا مُعزّين لهم، أي ناصرين، فأخبر عن الآلهة بالمصدر لتصوير اعتقاد المشركين في آلهتهم أنّهم نفس العزّ، أي إن مجرد الانتماء لها يكسبهم عزّاً.
وأجرى على الآلهة ضمير العاقل لأنّ المشركين الذين اتخذوهم توهموهم عقلاء مدبرين.
والضميران في قوله: {سيكفرون ويَكونون يجوز أن يَكونا عائدين إلى آلهة، أي سينكر الآلهةُ عبادةَ المشركين إيّاهم، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر، وستكون الآلهة ذُلاّ ضد العزّ.
والأظهر أن ضمير سيكفرون} عائد إلى المشركين، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله {واتخذوا من دون الله آلهة}. وفيه تمام المقابلة، أي بَعد أن تكلفوا جعلهم آلهةً لهم سيكفرون بعبادتهم، فالتعبير بفعل {سيكفرون} يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود، وأن ضمير {يكونون} للآلهة وفيه تشتيت الضمائر. ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يُرجع كلاً إلى ما يناسبه، كقول عباس بن مرداس:
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا
أي: وأحرز جَمْع المشركين ما جمّعه المسلمون من الغنائم.
ويجوز أن يكون ضميرا {سيكفرون ويكونون راجعين إلى المشركين. وأن حرف الاستقبال للحصول قريباً، أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضداً على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها، فهو بشارة للنبيء بأن دينه سيظهر على دين الكفر. وفي هذه المقابلة طباق مرتين.
والضد: اسم مصدر، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة. ومن الثاني تسمية العدو ضدّاً. ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}
استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم وآحادهم، وما جرّه إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مِتّ لسوف أخرج حياً} [مريم: 66]، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. وهي معترضة بين جملة {واتخذوا من دون الله آلهة} [مريم: 81] وجملة {يوم نحشر المتقين} [مريم: 85]. وأيضاً هي كالتذييل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تَستخلص أحوالهم، وتتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم.
والاستفهام في {ألم تر} تعجيبي، ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل. والمراد حصول ضده بحثّ المخاطب على الاهتمام بتحصيله، أي كيف لم تر ذلك، ونزّل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرثي المشاهد، فوقع التعجيب من مَرآه بقوله: ألم تر ذلك.
والأزُّ: الهزّ والاستفزاز الباطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها. شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح.
وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النبّوي المنقد من حبائلها، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي. وللإشارة إلى هذا المعنى عُدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله {على الكافرين}. وجعل {تؤزهم} حالاً مقيّداً للإرسال لأنّ الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوّة الإيمان وصلاح العمل، قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
وفرع على هذا الاستئناف وهذه التسلية قوله: {فلا تعجل عليهم} أي فلا تستعجل العذاب لهم إنما نُعدّ لهم عَدّاً، وعبر ب {تَعجل عليهم} معدى بحرف الاستعلاء إكراماً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن نزل منزلة الذي هلاكهم بيده. فنهى عن تعجيله بهلاكهم. وذلك إشارة إلى قبول دعائه عند ربّه، فلو دعا عليهم بالهلاك لأهلكهم الله كيلا يُردّ دعوة نبيئه صلى الله عليه وسلم لأنه يقال: عَجل على فلان بكذا، أي أسرع بتسليطه عليه، كما يقال: عجِل إليه إذا أسرع بالذهاب إليه كقوله: {وعجلت إليك ربّ لترضى} [طه: 84]، فاختلاف حروف تعدية فعل عجل ينبئ عن اختلاف المعنى المقصود بالتعجيل.
ولعل سبب الاختلاف بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {ولا تستعجل لهم} في سورة الأحقاف (35) أنّ المراد هنا استعجال الاستئصال والإهلاك وهو مقدّر كونه على يد النبي، فلذلك قيل هنا: فلا تعجل عليهم}، أي انتظر يومهم الموعود، وهو يوم بدر، ولذلك عقب بقوله: {إنّما نعدّ لهم عدّاً، أي نُنظرهم ونؤجلهم، وأنّ العذاب المقصود في سورة الأحقاف هو عذاب الآخرة لوقوعه في خلال الوعيد لهم بعذاب النار لقوله هنالك:
{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 34، 35].
والعدّ: الحساب.
و {إنّما} للقصر، أي ما نحن إلا نَعُدّ لهم، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً، أي نعد لهم ولسنا بناسين لهم كما يظنون، أو لسنا بتاركينهم من العذاب بل نؤخرهم إلى يوم موعود.
وأفادت جملة {إنما نعدّ لهم عدّاً} تعليل النهي عن التعجيل عليهم لأن {إنما} مركبة من (إنّ) و(ما) وإنّ تفيد التعليل كما تقدّم غير مرّة.
وقد استعمل العدّ مجازاً في قصر المدّة لأن الشيء القليل يُعدّ ويحسب. وفي هذا إنذار باقتراب استئصالهم.
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}
إتمام لإثبات قلة غَناء آلهتهم عنهم تبعاً لقوله: {ويكونون عليهم ضداً} [مريم: 82].
فجملة: {لا يملكون الشّفاعة} هو مبدأ الكلام، وهو بيان لجملة: {ويكونون عليهم ضداً}.
والظرف وما أضيف الظرف إليه إدماجٌ بينت به كرامة المؤمنين وإهانة الكافرين. وفي ضمنه زيادة بيان لجملة {ويكونون عليهم ضداً} بأنهم كانوا سبب سَوقهم إلى جهنم ورداً ومخالفتهم لحال المؤمنين في ذلك المشهد العظيم. فالظرف متعلّق ب {يملكون} وضمير {لا يملكون} عائد للآلهة. والمعنى: لا يقدرون على أن ينفعوا من اتخذوهم آلهة ليكونوا لهم عزّاً.
والحشر: الجمع مطلقاً، يكون في الخير كما هنا، وفي الشرّ كقوله: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 22، 23]، ولذلك أتبع فعل {نحشر} بقيد {وَفداً}، أي حَشْر الوفود إلى الملوك، فإن الوفود يكونون مُكرمين، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات، ولأعيان العرب وفادات سنويّة على ملوكهم وسادتهم، ولكلّ قبيلة وفادة، وفي المثل: «إن الشّقِيّ وافد البراجم». وقد اتّبع العرب هذه السنّة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه أشرف السادة. وسنةُ الوفود هي سنة تسع من الهجرة تلت فتحَ مكة بعموم الإسلام بلاد العرب.
وذكر صفة {الرَّحمان} هنا واضحة المناسبة للوفد.
والسوق: تسيير الأنعام قُدام رعاتها، يجعلونها أمَامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتفلّت عليهم، فالسوق: سير خوفٌ وحذر.
وقوله {ورداً} حال قصد منها التشبيه، فلذلك جاءت جامدة لأن معنى التشبيه يجعلها كالمشتق.
والوِرد بكسر الواو: أصله السير إلى الماء، وتسمى الأنعامُ الواردة وِرداً تسمية على حذف المضاف، أي ذات ورد، كما يسمى الماء الذي يرده القوم ورداً. قال تعالى: {وبئس الورد المورود} [هود: 98].
والاستثناء في {إلاّ من اتخذ عند الرحمان عهداً} استثناء منقطع، أي لكن يملك الشفاعة يومئذ من اتخذ عند الرحمان عهداً، أي من وعده الله بأن يشفع وهم الأنبياء والملائكة.
ومعنى {لا يملكون} لا يستطيعون، فإنّ المِلك يطلق على المقدرة والاستطاعة. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} في سورة العقود (76).
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}
عطف على جملة {ويقول الإنسان أإذا ما مت} [مريم: 66] أو على جملة {واتخذوا من دون الله آلهة} [مريم: 81] إتماماً لحكاية أقوالهم، وهو القول بأن لله ولداً، وهو قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقد تقدم في سورة النحل وغيرها؛ فصريح الكلام رد على المشركين، وكنايته تعريض بالنّصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفاً: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} [مريم: 35] الخ.
والضمير عائد إلى المشركين، فيفهم منه أنّ المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه، وإنما قالوا ذلك تأييداً لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم.
وذكر {الرّحمان} هنا حكاية لقولهم بالمعنى، وهم لا يذكرون اسم الرحمان ولا يُقرون به، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60]، فهم إنما يقولون: {اتخذ الله ولداً} كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف (4). فذكر الرحمن} هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه، فذكر اسم {الرحمان} لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه.
وفيه أيضاً إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمان اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله: {وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً}.
والخطاب في {لقد جئتم} للذين قالوا اتخذ الرحمان ولداً، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد، كما تقدم في قوله آنفاً: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] فلا يحسن تقدير: قل لقد جئتم.
وجملة {لقد جئتم شيئاً إدّاً} مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة {وقالوا اتّخذ الرحمان ولداً} من التشنيع والتفظيع.
وقرأ نافع والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث، وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعاً لضمير مؤنث متصل، وقرأ البقية: {تكاد} بالتاء المثناة الفوقية، وهو الوجه الآخر.
والتفطر: الانشقاق، والجمع بينه وبين {وتنشق الأرض} تفنّن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ. والخرور: السقوط.
ومن في قوله: {منه} للتعليل، والضمير المجرور بمن عائد إلى {شيئاً إداً}، أو إلى القول المستفاد من {قالوا اتخذ الرحمن ولداً.
والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيُغيّر كيانها.
وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص عن عاصم، والكسائي: يتفطرن بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، بتحتية بعدها نون، من الانفطار. والوجهان مطاوع فطَر المضاعف أو فطر المجرد، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال. ولعلّ محاولة التّفرقة بينهما كما في الكشاف} و«الشافية» لا يطرد، قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25]، وقال: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]، وقرئ في هذه الآية: {ينفطرون وينفطرن، والأصل توافق القرآتين في البلاغة.
والهدّ: هدم البناء. وانتصب هَدّاً} على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور، أي سقوط الهَدم، وهو أن يتساقط شظايا وقطعاً.
و {أن دَعوا للرحمان ولداً} متعلّق بكل مِن {يتفطرن، وتنشق، وتخرّ، وهو على حذف لام الجرّ قبل (أنْ) المصدريّة وهو حذف مطرّد.
والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله: منه}، وزيادةُ بياننٍ لمعادِ الضمير المجرور في قوله {منه} اعتناء ببيانه.
ومعنى {دَعَوا}: نسبوا، كقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5]، ومنه يقال: ادّعى إلى بني فلان، أي انتسب. قال بَشامة بن حَزْن النهشلي:
إنّا بني نَهشل لا نَدّعي لأب *** عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
وجملة {وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً} عطف على جملة: {وقالوا اتخذ الرحمان ولداً.
ومعنى ما ينبغي} ما يتأتّى، أو ما يجوز. وأصل الانبغاء: أنّه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلَب. ومعنى، مطاوعِته: التأثّر بما طُلب منه، أي استجابةُ الطلب.
نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في «كتاب سيبويه»: كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعُه على الانفعال كصَرف وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعَدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة» اه. فبان أن أصل معنى {ينبغي} يستجيب الطلب. ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى {ينبغي} مختلفاً بحسب المقام فيستعمل بمعنى: يتأتى، ويمكن، ويستقيم، ويليق، وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح.
والمعنى في هذه الآية: وما يجوز أن يتّخذ الرحمان ولداً، بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتّى لأنه مستحيل لا تتعلّق به القدرة، لا لأنّ الله عاجز عنه، ونحوُ قوله: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18] يفيد معنى: لا يستقيم لنا، أو لا يُخوّل لنا أن نتخذ أولياء غيرك، ونحو قوله: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} [يس: 40] يفيد معنى لا تسْتطيع. ونحو {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] يفيد معنى: أنه لا يليق به، ونحو: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35] يفيد معنى: لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه، وفرقٌ بين قولك: ينبغي لك أن لا تفعل هذا، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا، أي ما يجوز لِجلال الله أن يتخذ ولداً لأنّ جميع الموجودات غيرَ ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له. وذلك ينافي البُنوة لأن بُنوة الإله جزء من الإلهية، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: {قل إن كان للرّحمان ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]، أي لو كان له ولد لعبدتُه قبلكم.
ومعنى {آتي الرحمان عبداً}: الإتيان المجازي، وهو الإقرار والاعتراف، مثل: باء بكذا، أصله رجع، واستعمل بمعنى اعترَف.
و {عبداً} حال، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبداً.
ويجوز جعل {آتي الرحمان} بمعنى صائر إليه بعد الموت، ويكون المعنى أنّه يحيا عبداً ويحشر عبداً بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة.
وتكرير اسم {الرّحمان} في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله، والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه، ينافي ادعاء الولد له لأنّ الرحمان وصف يدلّ على عموم الرّحمة وتكثرها. ومعنى ذلك: أنّها شاملة لكل موجود، فذلك يقتضي أن كل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى، ولا يتقوم ذلك إلا بتحقق العبودية فيه. لأنه لو كان بعض الموجودات ابناً لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالبنوة مساوياً له في الإلهية المقتضية الغنى المطلقَ، ولأن اتخاذ الابن يتطلّبُ به متخذُه برّ الابن به ورحمته له، وذلك ينافي كون الله مفيض كلّ رحمة.
فذكر هذا الوصف عند قوله: {وقالوا اتخذ الرحمان ولداً} وقوله {أن دعوا للرحمان ولداً} تسجيل لغباوتهم.
وذكره عند قوله: {وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً} إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله.
وذكرُه عند قوله: {إلا آتي الرحمان عبداً} استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها.
وجملة {لقد أحصاهم} عطف على جملة {لقد جئتم شيئاً إدّاً}، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة. فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير {وقالوا اتخذ الرحمان ولداً} وما بعده. وليس عائداً على {من في السماوات والأرض}، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدّهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه.
ومعنى {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولداً، لأنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم للملائكة والجنّ ليكونوا شفعاءهم عند الله، فأيْأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفرداً لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة: {ويأتينا فرداً. وفي ذلك تعريض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيانَ الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}
يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أنّ هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين، فيكون حال إتيانهم غير حال انفرادٍ بل حال تأنس بعضهم ببعض.
ولمّا ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين، وكان ذلك مشعراً بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورّط فيه مَن يدفع عنه وينصره، وإشعار ذلك بأنّهم مغضوب عليهم، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين، وأنهم على العكس من حال المشركين، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودّة والتبجيل. فالمعنى: سيجعل لهم الرحمان أودّاء من الملائكة كما قال تعالى: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31]، ويجعل بين أنفسهم مودّة كما قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ} [الأعراف: 43].
وإيثارُ المصدر ليفي بعدّة متعلقات بالودّ. وفُسّر أيضاً جعل الودّ بأن الله يجعل لهم محبّة في قلوب أهل الخير. رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي. وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة.
وفُسر أيضاً بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى، فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]. هذا أظهر الوجوه في تفسير الودّ، وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}
إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.
فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور، كأنه قيل: بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلاّ للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم «لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك».
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله: {لقد أحصاهم وعدم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} [مريم: 94، 95]. ووعد المؤمنين بقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً} [مريم: 96]. والمفرّع هو مضمون {لِتُبَشر به} الخ {وتُنْذِر به} الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئتَ به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلاّ لذلك.
وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السيّاق مثل: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]. وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة، كقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 32].
واللّسان: اللّغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقوله: {وإنه لتنزيل رب العالميننزل به الروح الأمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 195]؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.
والباء للسببية أو المصاحبة.
وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّاً لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللّدُ: جمع ألدّ، وهو الأقوى في اللّدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح: " أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصِم " ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللّدد، قال بعضهم في رثاء البعض:
إن تحتَ الأحجار حزماً وعزماً *** وخصيماً ألدّ ذا مِغلاق
وقد حَسُن مقابلة المتقين بقوم لدّ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولَدَد.
وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، كما قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، وقوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101).
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}
لما ذكروا بالعناد والمكابرة أتبع بالتعريض بتهديدهم على ذلك بتذكيرهم بالأمم التي استأصلها الله لجبروتها وتعنّتها لتكون لهم قياساً ومثلاً. فالجملة معطوفة على جملة {فإنما يسرناه بلسانك} [مريم: 97] باعتبار ما تضمنته من بشارة المؤمنين ونذارة المعاندين، لأنّ في التعريض بالوعيد لهم نذارة لهم وبشارة للمؤمنين باقتراب إراحتهم من ضرّهم.
و {كم} خبرية عن كثرة العدد.
والقرن: الأمة والجيل. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمّة، وشاع تقديره بمائة سنة. و{من} بيانية، وما بعدها تمييز {كم}.
والاستفهام في {هل تُحسّ منهم من أحد} إنكاري، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تبعاً لقوله: {فإنما يسرناه بلسانك أي ما تُحسّ، أي ما تشعر بأحد منهم. والإحساس: الإدراك بالحس، أي لا ترى منهم أحداً.
والركز: الصوت الخفيّ، ويقال: الرز، وقد روي بهما قول لبيد:
وتَوَجّسَتْ رِكْزَ الأنيس فراعها *** عن ظهر عيب والأنيس سَقامُها
وهو كناية عن اضمحلالهم، كني باضمحلال لوازم الوجود عن اضمحلال وجودهم.
{طه (1)}
وهذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل آلم، ويس. ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى (طا) و(ها) كما رُسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة. وقرئا لجميع القراء كما قرئت بقية فواتح السور. فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقيل هما حرفان مقتضَبَان من كلمتي (طاهر) و(هاد) وأنهما على معنى النّداء بحذف حرف النداء.
وتقدم وجه المدّ في (طا) (ها) في أول سورة يونس. وقيل مقتضبان من فعل (طَأْ) أمراً من الوطء. ومن (ها) ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى الأرض. وفُسر بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره إذا قام في صلاة الليل قام على رِجْل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى. ولم يصح.
وقيل (طاها) كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية، ومعناها إنسان، وتكلمت بها قبيلة (عَك) أو (عُكْل) وأنشدوا ليزيد بن مهلهل:
إن السفاهة طاها من شمائلكم *** لا باركَ الله في القوممِ الملاعين
وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة (عَك) أو (عُكل) أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأنّ معناها في لغة: (عك) يا إنسان، أو يا رجل، وفي ما عداها: يا حبيبي، وقيل: هي اسم سمى الله به نبيئه صلى الله عليه وسلم وأنه على معنى النّداء، أو هو قسم به. وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم.
ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في «الشِّفاء». ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها. كقول من قال: هي أسماء للسور الواقعة فيها، ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة. وإنما غرّهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها. وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)}
افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك، أي تصيبه المشقّة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضاً بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادّكروا بالقرآن.
وفي هذه الفاتحة تمهيدٌ لما يرد من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالاضطلاع بأمر التبليغ، وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام وأن لا يكون مفرطاً في العزم كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض. وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويهاً بمن أنزل عليه وجاء به.
والشقاء: فرط التعب بعمل أو غمّ في النفس، قال النابغة:
إلاّ مقالةَ أقوام شَقِيت بهم *** كانت مقالتهم قَرعا على كبدي
وهمزة الشقاء مُنقلبة عن الواو. يقال: شَقاء وشَقاوة بفتح الشين وشِقوة بكسرها.
ووقوع فعل {أنْزَلْنَا} في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور. فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سبباً في شيء من الشقاء للرسول صلى الله عليه وسلم
وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف: 6].
ويجوز أن يكون المراد: ما أرسلناك لتخِيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.
وقوله {إلاَّ تَذْكِرَةً} استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله {تنزيلاً ممَّن خَلَق الأرضَ} الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل {أنْزَلنا} عامل في {لِتَشْقَى} بواسطة حرف الجرّ، وعامل في {تَذْكِرة} بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله: {لِتَشْقَى} حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعاً وتقع في كُلف لتصحيح النّظم.
وقال الواحدي في «أسباب النزول»: «قال مقاتل: قال أبو جهل والنضر بن الحارث (وزاد غير الواحدي: الوليد بن المغيرة، والمطعِم بنَ عديّ) للنبيء صلى الله عليه وسلم إنك لتشقى بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} الآية، وليس فيه سند.
والتذكرة: خطور المنسي بالذهن؛ فإن التوحيد مستقرّ في الفطرة والإشراك مناف لها، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملّة إبراهيم عليه.
و {من يخشى} هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدّين، وهو كل من يفكّر للنجاة في العاقبة، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العَربي الأصلي، ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي، وهو خوف الله، فيكون المراد من الفعل المآل، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيْسِير الله تعالى له التقوى، كقوله تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] أي الصائرين إلى التقوى.
و {تنزيلاً} حال من {القُرءَانَ} ثانية.
والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك.
والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقاً، ولذلك وُصف والسَّمَاوات بالعُلَى صفةً كاشفةً زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها. وأيضاً لمّا كان ذلك شأن مُنْزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئاً عظيماً، كقول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
و {الرحمن} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعاً للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي. ويجوز أن يكون مبتدأ. واختير وصف {الرحمن} لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60]. وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكراً على إحسانه بالرحمة البالغة.
وجملة {على العرش استوى} حال من {الرحمن}. أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.
والاستواء: الاستقرار، قال تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] الآية. وقال: {واستوت على الجوديّ} [هود: 44].
والعرش: عالم عظيم من العوالم العُليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها. وقيل غير ذلك، ويسمى: الكرسي أيضاً على الصحيح، وقيل: الكرسي غير العرش.
وأيّاً مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله: {ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى}.
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش. وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة.
وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة: أن ليس كمثله شيء.
وقيل: الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء. وأنشدوا قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق *** بغير سيف ودممٍ مُهْراق
وهو مولّد. ويحتمل أنه تمثيل كالآية. ولعلّه انتزعه من هذه الآية.
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} في سورة [الأعراف: 54]. وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية.
وفي تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة: واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة.
قيل لابن عرفة: عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها، فذكر النبي دليلٌ على عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال: هذا صعب ولكن تجاسرتُ على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك.
وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريراً وهو جملة: له ما في السمَّوات} الخ. فهي بيان لجملة {الرحمان على العرش استوى}. والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان.
وتقديم المجرور في قوله {له ما في السموات} للقصر، رداً على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض، وأن للجنّ اطلاعاً على الغيب، ولتقرير الردّ ذكرت أنحاء الكائنات، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
والثّرى: التراب. وما تحته: هو باطن الأرض كله.
وجملة {له ما في السَّموات} عطف على جملة {على العرششِ اسْتَوى}.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)}
عطف على جملة {له ما في السموات وما في الأرض} [طه: 6] لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلّت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته. وأصل النظم: ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول؛ فموقع قوله: {وإن تَجْهَر بالقَوْلِ} موقع الاعتراض بين جملة {يعلم السر وأخفى وجملة الله لا إله إلاّ هو. فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقاً له.
والمعنى: إنه يعلم السر وأخفى من السرّ في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى. وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة. وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي:
فأتت به حُوش الفؤاد مبطّنا *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجل
أي سُهُداً في كلّ وقت حين ينام غيره ممن هو هَوْجل. وقول بشامة بن حزن النهشلي:
إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم *** حَدّ الظُبات وصَلناها بأيدينا
وقول إبراهيم بن كُنيف النبهاني:
فإن تكن الأيام جَالت صروفها *** ببؤسَى ونُعمى والحوادث تفعل
فما ليَّنَتْ منا قناةً صَليبةً *** وما ذللتنا للّتي ليس تَجْمُل
وقول القطامِي:
فمن تكن الحضارة أعجبته *** فأيّ رجال بادية ترانا
فالخطاب في قوله وإنْ تَجْهَر} يجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعم غيره. ويجوز أن يكون لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب.
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة. ولمّا جاء القرآن مذكراً بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم. وفي «صحيح البخاري» عن عبدالله بن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقهُ قلوبِهم فقال أحدهم: أترون أنّ الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جَهَرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر: إنْ كان يسمع إذا جهرنا (أي وهو بعيد عنا) فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا قلوبكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} [فصلت: 22]. وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرتْ الآية الآنفة الذكر. وقال تعالى: {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} [هود: 5].
يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أنّ حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر.
وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} [الأعراف: 205] فيكون هذا مما نسخَه قوله تعالى: {فاصدَع بما تؤمر} [الحجر: 94]، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفاً.
والقول: مصدر، وهو تلفظ الإنسان بالكلام، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2] الآيات.
وجواب شرط {وإن تجهر بالقول} محذوف يدل عليه قوله: {فإنه يعلم السر وأخفى. والتقدير: فلا تشقّ على نفسك فإنّ الله يعلم السر وأخفى، أي فلا مزية للجهر به.
وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء، فقد ثبت في السُّنّة الجهر بالدعاء والذكر، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلاّ على معنى الإشارة.
وأخفى اسم تفضيل، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه، أي وأخفى من السر. والمراد بأخفى منه: ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
تذييل لما قبله لأنّ ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خَلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته.
واسم الجلالة خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير: هو الله، جرياً على ما تقدّم عند قوله تعالى: {الرحمن على العَرْشِ استوى} [طه: 5].
وجملة {لا إله إلاَّ هُو} حال من اسم الجلالة. وكذلك جملة {لهُ الأسماءُ الحسنى}.
والأسماء: الكلمات الدالة على الاتّصاف بحقائق. وهي بالنسبة إلى الله: إما علَم وهو اسم الجلالة خاصةً. وإما وصف مثل الرحمان والجبّار وبقية الأسماء الحسنى.
وتقديم المجرور في قوله {له الأسماءُ الحُسْنى} للاختصاص، أي لا لغيره لأنّ غيره إما أن يكون اسمه مجرداً من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام، وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والمِلك، وإما أن يكون الاتّصاف بها كَذباً لا حقيقة، كاتصاف البشر بالكِبْر، إذ ليس أهلاً للكبر والجبروت والعزّة.
ووصْف الأسمَاءُ بالحسنى لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس. وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة، وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلَم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنّه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنّه دال على الإله، وعُرّف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده، فكان جامعاً لمعنى وجوب الوجود، واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} في سورة الأعراف (180).
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)}
أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه بذكر قصة موسى عليه السلام ليتأسّى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب، وتسليةً له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء مَن سلَفَهم من المكذبين، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه} [طه: 99 101]. وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم {فاصبر على ما يقولون} [طه: 130] الآيات.
فجملة {وهل أتَاكَ حَدِيثُ موسى} عطف على جملة {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2]. الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريباً. وهذه القصة تقدّم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازاً وليس مستعملاً في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قُصت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم كان هذا أولَ قصصها عليه. وفي قوله: {إذ رأى ناراً زيادة في التشويق كما يأتي قريباً.
وأوثر حرف (هل) في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن (هل) في الاستفهام مثل (قَد) في الإخبار.
والحديث: الخبر، وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج، ويجمع على أحاديث على غير قياس. قال الفراء: واحِد الأحاديث أُحْدُوثة ثم جعلوه جمعاً للحديث اه. يعني استغنوا به عن صيغة فُعلاء.
وإذْ} ظرف للحديث. وقد تقدّم نظائره، وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقاً إلى استعلام كنه الخبر، لأن رؤية النار تحتمل أحوالاً كثيرة.
ورؤية النار تدلّ على أن ذلك كان بليل، وأنه كان بحاجة إلى النار؛ ولذلك فرع عليه: {فَقَالَ لأَهْله امْكُثُوا}... الخ.
والأهل: الزوج والأولاد. وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله {امكثوا. وفي سفر الخروج من التّوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر.
وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير أهلِه على الأصل. وقرأه حمزة وخلف: بضم الهاء، تبعاً لضمة همزة الوصل في امكثوا.
والإيناس: الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه.
وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة.
والقبَس: ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس، كالجَمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك. وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به. وقيل: اقتدح زَنده فَصَلَد، أي لم يقدح.
ومعنى أو أجدُ على النار هدى}: أو ألقَى عارفاً بالطريق قاصداً السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل. قيل: كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدّة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلاً.
و {أوْ} هنا للتخيير، لأنّ إتيانه بقبس أمر محقق، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير، وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصداً الطريق مثله فيصحبه.
وحرف {على} في قوله: {أو أجِدُ على النَّارِ هُدىً} مستعمل في الاستعلاء المجازي، أي شدّة القرب من النار قرباً أشبه الاستعلاء، وذلك أنّ مُشعِل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها. قال الأعشى:
وباتَ على النار النّدى والمحلّقُ *** وأراد بالهدى صاحب الهدى.
وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاماً إياه أنه سيجد عند تلك النار هُدى عظيماً، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم.
وإظهار النّار لموسى رمْز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزاً على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)}
بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوّق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه {إنِّي أنا ربُّكَ} علم أنّ المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن. ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأنّ موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.
وجملة {إنِّي أنا ربُّكَ} بيان لجملة {نُودِيَ}. وبهذا النداء علم موسى أنّ الكلام موجّه إليه من قِبَل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغيّر العوائد التي قررها في الأكوان إلاّ لإرادة الإعلام بأنّ له عناية خاصة بالمغيّر، فالله تعالى خلق أصواتاً خَلقاً غير معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد، ولا موجهة له بواسطة ملَك يتولى هو تبليغ الكلام لأنّ قوله {إنِّي أنا ربُّكَ} ظاهر في أنه لم يبلّغ إليه ذلك بواسطة الملائكة، فلذلك قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء: 164]، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى. والمرادُ التي تدلّ عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي. وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزّه عن الحروف والأصوات والتعلّق بالأسماع.
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه ربّ المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطِبه فإن شأن الرب الرفق بالمربوب.
وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) لتحقيقه لأجل غرابته دفعاً لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أني» بفتح الهمزة على حذف باء الجر. والتقدير: نودي بأني أنا ربّك. والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين.
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه.
والخلع: فصل شيء عن شيء كان متّصلاً به.
والنعلان: جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرِّجل ألم المشي على التّراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل.
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيماً منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي. وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت نعلاه من جلد حمارٍ ميّت " أقول: وفيه أيضاً زيادة خشوع. وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى: {إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ} فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد. وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكمٌ يقتضي نزع النعل عند الصلاة.
والواد: المَفْرج بين الجبال والتلاللِ. وأصله بياء في آخره. وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثُني لزمتْه الياء يقال: وادِيان ولا يقال وادَان.
وكذلك إذا أضيف يقال: بوادِيك ولا يقال بوادِك.
والمقدّس: المطهّر المنزّه. وتقدم في قوله تعالى: {ونُقدس لك} في أول البقرة (30). وتقديس الأمكنة يكون بما يحلّ فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قِبَل الله تعالى.
واختلف المفسرون في معنى طُوَىً} وهو بضم الطاء وبكسرها، ولم يقرأ في المشهور إلاّ بضم الطاء، فقيل: اسم لذلك المكان، وقيل: هو اسم مصدر مثل هُدى، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له: إنك بالواد المقدّس الذي طويتَه سَيراً، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد. وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعَدَ إلى أعلاه لتلقي الوحي. وقد قيل: إنّ موسى صَعِدَ أعلى الوادي. وقيل: هو بمعنى المقدس تقديسين، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين، ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4]. فالمعنى: المقدّس تقديساً شديداً. فاسم المصدر مفعول مطلق مبيّن للعدد، أي المقدّس تقديساً مضاعفاً.
والظاهر عندي: أنّ {طُوىً} اسم لصنف من الأودية يكون ضيقاً بمنزلة الثوب المطوي أو غائراً كالبئر المطوية، والبئر تسمى طَوِيّاً. وسمي وادٍ بظاهر مكة (ذا طوى) بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.
وقد اختلف في (طوى) هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو، مثل عُمر عن عامر.
وقرأ الجمهور {طوى بلا تنوين على منعه من الصرف. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منوّناً، لأنه اسم واد مذكّر.
وقوله وأنَا اخْتَرْتُكَ} أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم، لأنّ المقام ليس مقام إفادة التخصيص، أي الحصر نحو: أنا سعيت في حاجتك، وهو يعطي الجزيل. وموجِب التقوّي هو غرابة الخبر ومفاجأته به دفعاً لتطرّق الشك في نفسه.
والاختيار: تكلف طلب ما هو خير. واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير.
وفُرع على الإخبار باختياره أن أُمِر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلاّ اختياره لتلقي ما سيوحي الله.
والمراد: ما يوحى إليه حينئذ من الكلام، وأما ما يوحى إليه في مستقبل الأيام فكونه مأموراً باستماعه معلوم بالأحْرى.
وقرأ حمزة وحده {وأنّا اخترناك بضميري التعظيم.
واللام في لِمَا يُوحَى} للتقوية في تعدية فعل «استمع» إلى مفعوله، فيجوز أن تتعلق باخْتَرْتُكَ، أي اخترتك للوحي فاستمع، معترضاً بين الفعل والمتعلّق به. ويجوز أن يضمّن استمع معنى أصْغغِ.
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}
هذا ما يوحى المأمور باستماعه، فالجملة بدل من {ما يوحى} [طه: 13] بدلاً مطلقاً.
ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلَم الدالّ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علَماً عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيُخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربّهم.
وفي هذا إشارة إلى أنّ أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلّم كليمه اسمه، وهو الله.
وهذا الاسم هو علم الربّ في اللغة العربية. واسمه تعالى في اللغة العبرانية (يَهْوهْ) أو (أَهْيَهْ) المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس. وقد ذكر اسم الله في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة. ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.
ولفظ (أهْيَهْ) أو (يَهْوَهْ) قريب الحروف من كلمة إله في العربية.
ويقال: إن اسم الجلالة في العبرانية «لاَهُمْ». ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى؛ نزل منزلة الشاكّ لأن غرابة الخبر تعرّض السامع للشك فيه.
وتوسيط ضمير الفصل بقوله {إنَّني أنا الله} لزيادة تقوية الخبر، وليس بمفيد للقصر، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأنّ المتكلّم هو المسمى الله، فالحمل حمل مواطاة لا حملُ اشتقاق. وهو كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72].
وجملة {لا إله إلاَّ أنا} خبر ثان عن اسم (إنّ). والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى.
ثمّ فرع على ذلك الأمر بعبادته. والعبادة تجمع معنى العمل الدالّ على التعظيم من قول وفعل وإخلاصصٍ بالقلب. ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يُعبد.
وخصّ من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأنّ الصلاة تجمع أحوال العبادة. وإقامة الصلاة: إدامتها، أي عدم الغفلة عنها.
والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللّسان.
واللاّم في {لِذِكْرِي} للتّعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذْكُرني، لأنّ الصلاة تذكّر العبد بخالقه. إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته. ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأنّ المكلّف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرّف موسى حكمَة الصلاة مُجملةً وعرّفها محمداً صلى الله عليه وسلم مفصّلة.
ويجوز أن يكون اللام أيضاً للتوقيت، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلتُه لذِكري.
ويجوز أن يكون الذكر الذكرَ اللساني لأن ذكر اللسان يحرّك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراففِ بما له من الحق، أي الذي عيّنته لك. ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة، وفي الكلام حذف يعلم من السياق.
وجملة {إنَّ السَّاعة ءَاتِيَة} مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.
والساعة: علَم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.
وجملة {أكَادُ أُخْفِيهَا} في موضع الحال من الساعَةَ، أو معترضة بين جملة وعلّتها.
والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.
والمشهورُ في الاستعمال أن «كاد» تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء، فقوله تعالى: {كادُوا يكونون عليه لِبداً} [الجنّ: 19] يدلّ على أن كونهم لِبَداً غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.
ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله {أكاد أُخفيها} غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.
فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها.
وقيل: وقعت {أكَادُ} زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيداً للإخفاء. والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلاّ بغتة.
وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى {أُخْفِيها} بمعنى أظهرها، وقال: همزة {أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءَها. والخفاء: ثوب تلفّ فيه القِربة مستعار للستر.
فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال (كاد) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: {وما كادوا يفعلون} في سورة البقرة (71).
وقوله لتجزى} يتعلّق بآتِيَةٌ وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.
واللام في {لِتُجْزى كلُّ نَفْسٍ} متعلّق بآتِيَةٌ.
ومعنى {بِمَا تسعى} بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19).
وفُرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذيرُ من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغتراراً بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله أكاد أُخفيها} أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يُشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى: {فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً} [الإسراء: 51] وقال: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32].
وصيغ نهي موسى عن الصدّ عنها في صيغة نهي من لا يؤمن بالساعة عن أن يصدّ موسى عن الإيمان بها، مبالغة في نهي موسى عن أدنى شيء يحول بينه وبين الإيمان بالساعة، لأنه لما وجّه الكلام إليه وكان النّهي نهي غير المؤمن عن أن يصدّ موسى، عُلم أنّ المراد نهي موسى عن ملابسة صدّ الكافر عن الإيمان بالساعة، أي لا تكن ليّن الشكيمة لمن يصدك ولا تُصْغ إليه فيكون لينك له مجرئاً إياه على أن يصدك، فوقع النهي عن المسبب.
والمراد النهي عن السبب، وهذا الأسلوب من قبيل قولهم: لا أعرفنّك تفعل كذا ولا أرَينّك ههنا.
وزيادة {واتَّبَعَ هَواه} للإيماء بالصلة إلى تعليل الصدّ، أي لا داعي لهم للصدّ عن الإيمان بالساعة إلا اتّباع الهوى دون دليل ولا شبهة، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة كما أشار إليه قوله {لِتُجزى كلُّ نفسسٍ بما تَسعى}.
وفرع على النهي أنّه إن صُدّ عن الإيمان بالساعة رَدِيَ، أي هلك. والهلاك مستعار لأسْوأ الحال كما في قوله تعالى: {يهلكون أنفسهم} في سورة براءة (42).
والتفريع ناشئ عن ارتكاب المنهِي لا على النهي، ولذلك جيء بالتفريع بالفاء ولم يقع بالجزاء المجزوم، فلم يقل: تَرْدَ، لعدم صحة حلول (إنْ) مع (لا) عوضاً عن الجزاء، وذلك ضابط صحة جزم الجزاء بعد النّهي.
وقد جاء خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام بطريقة الاستدلال على كلّ حكممٍ، وأمرٍ أو نهي، فابتدئ بالإعلام بأنّ الذي يُكلمه هو الله، وأنه لا إله إلاّ هو، ثمّ فرع عليه الأمر في قوله فاعْبُدني وأقِممِ الصلاة لِذِكري}، ثم عقب بإثبات الساعة، وعلل بأنها لتجزى كلّ نفس بما تسعى، ثم فرع عليه النهي عن أن يصده عنها من لا يؤمن بها. ثم فرع على النهي أنه إن ارتكب ما نهي عنه هلك وخسر.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}
بقية ما نودي به موسى. والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالاً إلى محاورة أراد الله منها أن يُري موسى كيفية الاستدلال على المرسَل إليهم بالمعجزة العظيمة، وهي انقلاب العصا حيّة تأكل الحيات التي يظهرونها.
وإبراز انقلاب العصَا حيّةً في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى، ودفع الشكّ عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأنّ مشاهدَ الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتُدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حيّة لم يشك في أنّ تلك الحيّة هي التي كانت عصاه. فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه.
والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلّم معتاد ولا في صورة المعتاد، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك {لنريك من آياتنا الكبرى} [طه: 23].
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه. وبُنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله {بِيَمِينِكَ}، ووقع الظرف حالاً من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك؟.
ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جرياً على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلاّ والسائل يريد من سؤاله أمراً غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع: «أيُّ يوم هذا؟» سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. وفي رواية أنهم قالوا: «الله ورسوله أعلم، فقال: أليس يوم الجمعة؟...» إلى آخره.
فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه، وتوقع أن السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه. فقال: {هِيَ عَصَايَ}، بذكر المسند إليه، مع أنّ غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولاً عنه، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول: عصاي. فلما قال: {هِيَ عَصَايَ} كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار، كما يقول سائل لما رأى رجلاً يعرفه وآخر لا يعرفه: من هذا معك؟ فيقول: فلان، فإذا لقيَهما مرة أخرى وسأله: من هذا معك؟ أجابه: هو فلان، ولذلك عَقب موسى جوابَه ببيان الغرض من اتّخاذها لعلّه أن يكون هو قصد السائل فقال: {أتَوَكَّؤُا عليها وأَهُشُّ بها على غَنَمي ولِي فيها مَئَارِبُ أخرى}. ففصّل ثمّ أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتّى إذا استزاده بياناً زاده.
والباء في قوله {بِيَمِينِكَ} للظرفية أو الملابسة.
والتوكّؤ: الاعتماد على شيء من المتاع، والاتّكاء كذلك، فلا يقال: توكّأ على الحائط ولكن يقال: توكأ على وسادة، وتوكأ على عصا.
والهَشّ: الخَبْط، وهو ضرب الشجرة بعصاً ليتساقط ورقها، وأصله متعدّ إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع، ثمّ كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين (أهشّ) معنى أُسقط على غنمي الورق فتأكله، أو استعملت (على) بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم: هو وكيل على فلان.
ومَآرب: جمع مَأرُبة، مثلث الراء: الحاجة، أي أمور أحتاج إليها. وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس، وقد أفرد الجاحظ من كتاب «البيان والتبيين» باباً لمنافع العصا. ومن أمثال العرب: «هو خير من تفارق العصا». ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.
والظاهر أنّ قوله {مَئَارب أُخرى} حكاية لقول موسى بمماثله، فيكون إيجازاً بعد الإطناب، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا. ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه، أي عدّ منافع أخرى، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام.
والضمير المشترك في {قال ألقِها عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلّم الذي في قوله إنني أنا الله؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حواراً مع قول موسى: هي عصاي... إلخ.
وقوله أَلقِهَا} يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله {وما تلك بيمينك} مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه كالذي يجيء في قوله: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} [طه: 83].
والحيّة: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عضّ بنابيه قتل المعضوض، ويطلق على الذكر.
ووصف الحيّة بتسعى لإظهار أنّ الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد. والسعي: المشي الذي فيه شدّة، ولذلك خصّ غالباً بمشي الرجل دون المرأة.
وأعيد فعل {قَالَ خُذْهَا} بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة.
والسيرة في الأصل: هيئة السير، وأطلقت على العادة والطبيعة، وانتصب {سِيرَتَها} بنزع الخافض، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حيّة، أي سنعيدها عصاً كما كانت أول مرة.
والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أنّ العصا تطبعت بالانقلاب حيّة، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)}
هذه معجزة أخرى عَلمه الله إياها حتى إذا تحدّى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة. فهذا تمرين على معجزة ثانية مُتّحِد الغرض مع إلقاء العصا.
والجناح: العضد وما تحته إلى الإبط. أطلق عليه ذلك تشبيهاً بجناح الطائر.
والضمّ: الإلصاق، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكاً بها العصا. وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جِلدَ جناحه بأن يدخلها في جَيْب قميصه حتى تماس بَشرة جنبه، كما في آية سورة سليمان: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} [النّمل: 12]. جعل الله تغيّر لون جلد يده مماستها جناحه تشريفاً لأكثر ما يناسب من أجزاء جسمه بالفعل والانفعال.
و {بيضَاءَ} حال من ضمير {تَخْرُجُ}، و{مِنْ غيرِ سُوءٍ} حال من ضمير {بَيْضَاء}.
ومعنى {مِنْ غير سُوءٍ} من غير مَرض مثل البَرص والبَهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لونَ بقية بشرته. وانتصب {آيةً} على الحال من ضمير {تَخْرُجُ}.
والتعليل في قوله {لِنُريكَ مِن ءاياتنا الكُبْرى} راجع إلى قوله {تَخْرُجُ بَيْضَاءَ}، فاللام متعلّقة ب {تَخْرُجُ} لأنّه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء. وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها، ويجوز أن يتعلق {لِنُرِيكَ} بمحذوف دلّ عليه قوله {ألقها} وما تفرّع عليه. وقوله {واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} وما بعده، وتقدير المحذوف: فعلنا ذلك لنريك من آياتنا.
و {مِن ءاياتنا} في موضع المفعول الثاني ل {نريك، فتكون (مِن) فيه اسماً بمعنى بعض على رأي التفتزاني. وتقدّم عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} في سورة البقرة (8)، ويشير إليه كلام الكشاف} هنا.
و {الكبرى} صفة ل {ءاياتنا}. والكِبر: مستعار لقوّة الماهية. أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك.
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)}
لما أظهر الله لهُ الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيّد من الله تعالى، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يُدخل الرّوع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله، وقد جاء في الآيات الآتية: {قالا ربّنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 45، 46].
والذهاب المأمور به ذهاب خاص، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره، وإظهار المعجزات له، أو صرح له به وطوي ذكره هنا على طريقة الإيجاز، على أنّ التّعليل الواقع بعده ينبئ به.
فجملة {إنه طَغَى} تعليل للأمر بالذهاب إليه، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغييره عما هو عليه من عبادة غير الله. ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه، وإعطائه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة.
وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جرياً على طريقة المحاورات.
ورتّب موسى الأشياء المسؤولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه.
فالشرح، حقيقته: تقطيع ظاهر شيء ليّن. واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره أو توجب تردده في الإقدام على عمل ما تشبيهاً بتشريح اللحم بجامع التوسعة.
والقلب: يراد به في كلامهم والعقل. فالمعنى: أزل عن فكري الخوف ونحوه، مما يعترض الإنسان من عقبات تحول بينه وبين الانتفاع بإقدامه وعزامته، وذلك من العُسر، فسأل تيسير أمره، أي إزالة الموانع الحافّة بما كلف به.
والأمر هنا: الشأن، وإضافة (أمر) إلى ضمير المتكلم لإفادة مزيد اختصاصه به وهو أمر الرسالة كما في قوله الآتي {وأشْرِكه في أمْرِي}.
والتيسير: جعل الشيء يسيراً، أي ذا يسْر. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} في سورة البقرة (185).
ثم سأل سلامة آلة التبليغ وهو اللسان بأن يرزقه فصاحة التعبير والمقدرة على أداء مراده بأوضح عبارة، فشبه حُبسة اللسان بالعُقدة في الحبل أوالخيط ونحوهما لأنها تمنع سرعة استعماله.
والعُقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه، وهي بزنة فُعلة بمعنى مفعول كقُضة وغُرفة؛ أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرّحة، ويقال لها حُبْسة. يقال: عَقِد اللسان كفرح، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام. واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية.
وزيادة لِي} بعد {اشْرَحْ} وبعد {يسر} إطناب كما أشار إليه صاحب «المفتاح» لأنّ الكلام مفيد بدونه.
ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلّة، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي، وهي اللام الملقبة لامَ التبيين التي تفيد تقوية البيان، فإن قوله {صدري وأمري واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله لي فيهما زيادة بيان كقوله: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه.
وأمّا تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد.
ولم يأت بذلك مع قوله {واحْللْ عُقدةً مِن لِساني} لأنّ ذلك سؤال يرجع إلى تبليغ رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين.
وتنكير {عقدة} للتعظيم، أي عقدة شديدة.
و {مِن لِساني} صفة لعُقْدة. وعدل عن أن يقول: عقدة لساني، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة.
وفعل {يَفْقَهُوا} مجزوم في جواب الأمر على الطريقة المتّبعة في القرآن من جعل الشيء المطلوب بمنزلة الحاصل عقب الشرط كقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور: 30] أي إن نقل لهم غضّوا يغضوا، أي شأنهم الامتثال. والفقه: الفهم.
والوزير: فعيل بمعنى فاعل، من وَزار على غير قياس، مثل حكيم من أحكم، وهو مشتق من الأزْر، وهو المعونة، والمؤازرة كذلك، والكل مشتق من الأزر، أي الظهر، كما سيأتي قريباً، فحقه أن يكون أزيراً بالهمزة إلا أنّهم قلبوا همزته واواً حملاً على موازر الذي هو بمعناه الذي قلبت همزته واواً لانضمام ما قبلها. فلما كثر في الكلام قولهم: موازر ويوازر بالواو نطقوا بنظيره في المعنى بالواو بدون موجب للقلب إلاّ الحمل على النظير في النطق، أي اعتياد النطق بهمزته واواً، أي اجعَل معيناً من أهلي.
وخصّ هارون لفرط ثقته به ولأنه كان فصيح اللسان مقوالاً، فكونه من أهله مظنة النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخ الخاصّ لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي.
وجملة {اشْدُدْ به أَزْرِي} على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي {اشدد، وأشرك بيان لجملة اجْعَل لي وَزِيراً}. سأل الله أن يجعله معيناً له في أعماله، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكاً لموسى في أمره، أي أمر رسالته.
وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم بفتح الهمزة المقطوعة في «اشدُد» وبضم همزة «أشركه»، فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم {يفقهوا قولي.
و هارون} مفعول أول لفعل {اجْعَل}، قُدم عليه المفعول الثاني للاهتمام.
والشد: الإمساك بقوّة.
والأزر: أصله الظهر. ولما كان الظهر مجمع حركة الجسم وقوام استقامته أطلق اسمه على القُوّة إطلاقاً شائعاً يساوي الحقيقة فقيل الأزر للقوّة.
وقيل: آزره إذا أعانه وقوّاه. وسمي الإزار إزاراً لأنّه يشدّ به الظهر، وهو في الآية مراد به الظهر ليناسب الشدّ، فيكون الكلام تمثيلاً لهيئة المعين والمعان بهيئة مشدود الظهر بحزام ونحوه وشادّه.
وعلّل موسى عليه السلام سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبّحا الله كثيراً ويذكُرَا الله كثيراً. ووجه ذلك أنّ فيما سأله لنفسه تسهيلاً لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها، وذلك مظنة تكثيرها.
وأيضاً فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة ولم يكن لأخيه من قبل، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته، وذلك يبعث أخاه أيضاً على الدعوة. ودعوةُ كلّ منهما تشتمل على التعريف بصفات الله وتنزيهه فهي مشتملة على التسبيح، وفي الدعوة حثّ على العمل بوصايا الله تعالى عباده، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان والتّقوى، وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تَنِيَا في ذِكري} [طه: 42]، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيحهما وذكرهما الله.
وأيضاً في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة، إذ يمكن أن يقتسما العملَ الضروري لحياتهما فيقلّ زَمن اشتغالهما بالضروريات وتتوفّر الأوقات لأداء الرسالة. وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.
والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمُه بشدّة فرعون وطغيانه ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم، فعلم أنّ في دعوته فتنة للداعي فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة ليتوفّرا للتسبيح والذكر كثيراً.
وجملة {إنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده، أي لأنك تعلم حالي وحال أخي، وأنّي ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتاجان لذلك، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم، وأنه ما سأل سؤاله إلاّ بحسب ما بلغ إليه علمه.
وقوله {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} وعد له بالإجابة، وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه.
والسُؤْلُ بمعنى المسؤول. وهو وزن فُعْل بمعنى مفعول كالخُبز بمعنى المخبوز، والأكْل بمعنى المأكول. وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه، ولذلك لم يحك فيما بعد أنّه أقام هارون بمجادلة فرعون. ووقع في التّوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج: «فقال الرب لموسى أنت تتكلّم بكلّ ما أمرك به وهارون أخوك يكلّم فرعون».
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}
{
جملة ولقد مَنَنَّا عليْكَوَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ} معطوفة على جملة {قد أوتيتَ سُؤْلك} [طه: 36] لأنّ جملة {قد أوتيت سؤلك تتضمن منّة عليه، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه. فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّداً في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمد: {ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى} [الضحى: 5 8].
وتأكيد الخبر بلام القسم و(قد) لتحقيق الخبر، لأنّ موسى عليه السلام قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى: {قد أوتيت سؤلك} [طه: 36].
والمَرّة: فَعلة من المرور، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وهم بدأوكم أول مرة} في سورة براءة (13). وانتصاب مَرَّةً} هنا على المفعولية المطلقة لفعل {مَنَنَّا}، أي مرّة من المنّ. ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة.
و {إذْ} ظرف للمنّة.
والوحي، هنا: وحي الإلهام الصادق. وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى. وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.
و {ما يوحى} موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها. ومفيد تأكيد كونه إلهاماً من قبل الحق.
و {أنِ} تفسير لفعل {أوْحَيْنَا} لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى.
والقذف: أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت، تمثيلاً لهيئة المُخفى عمله، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه.
والتابوت: الصندوق. وتقدّم عند قوله تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} في سورة البقرة (248).
واليمّ: البحر، والمراد به نهر النّيل.
والساحل: الشاطئ، ولام الأمر في قوله فَلْيُلْقِهِ} دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة.
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشراً أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة. ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.
وجزم {يَأْخُذْهُ} في جواب الأمر على طريقة جزم قوله {يفقهوا قولي} [طه: 28] المتقدم آنفاً.
والعدوّ: فرعون، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية، وعدوّ موسى تقديراً في المستقبل، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى}
عطف على جملة {أوحينا أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليَمّ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولداً كما جاء في الآية الأخرى {وقالت امرأة فرعون قرّةُ عيننٍ لي ولك لا تقتلوه} [القصص: 9]؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط.
وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضعٌ باليد لا مقتضي له في العادة.
ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع، ألا ترى قول امرأة فرعون: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً} [القصص: 9] مع قولها: {قرّة عين لي ولك} [القصص: 9]، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولداً.
{
جملة ولتصنع على عينيوَلِتُصْنَعَ على عينى * إِذْ تمشى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فرجعناك إلى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك} عطف على جملة {إذ أوحينا إلى أمك الخ. جُعل الأمران إتماماً لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلاّ إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة. والتقدير: وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تُصنع على عيني.
والصنع: مستعار للتربية والتنمية، تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان.
وأخت موسى: مريم ابنة عمران. وفي التّوراة: أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج. وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد. وذلك سنة 1417 قبل المسيح.
وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ. وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني، أي وقلنا: لتصنع.
وقوله على عيني} (على) منه للاستعلاء المجازي، أي المصاحبة المتمكنة، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48].
والعَين: مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37]، وقول النابغة:
عهدتك ترعاني بعيننٍ بصيرة *** وتبعثُ حُراساً عليّ وناظِرا
ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته، وفصّلت في سورة القصص.
والاستفهام في {هَلْ أدُلُكُمْ} للعَرْض. وأرادت ب {مَن يَكْفُلُهُ} أمّه. فلذلك قال {فرجعناك إلى أُمِّكَ}.
وهذه منّة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها.
وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها. وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى. وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب {فرجعناك إلى أُمِّكَ} بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول: {هل أدلكم على من يكفله في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج.
جملة وقَتَلْتَوَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى * واصطنعتك لِنَفْسِى} عطف على جملة {ولقد منّنا عليك مرة أخرى لأنّ المذكور في جملة وقتلت نفساً} منّة أخرى ثالثة.
وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة، وهي قتل النّفس ليكون لقوله {فنجيناك} موقع عظيم من المنّة، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه.
وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص.
والغمّ: الحزن. والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم. ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك.
والفُتون: مصدر فَتن، كالخُروج، والثُبور، والشُكور، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو {فتنّاك، وتنكيرهُ للتعظيم، أي فتوناً قويّاً عظيماً.
والفتون كالفتنة: هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته. وتقدّم عند قوله تعالى: {والفتنة أشدّ من القتل} في سورة البقرة (191). ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر، فيكون في الشرّ وفي الخير. وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ. ويظهر أن التنوين في فتوناً للتقليل، وتكون جملة وفتناك فُتُوناً} كالاستدراك على قوله {فنجيناك مِنَ الغَمّ}، أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب} [القصص: 18] فذلك الفتون.
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى: {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب إلى قوله: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين} [القصص: 18 21].
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ. فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتاباً له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} [القصص: 15 16]. وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالاً يكسبونه، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام. ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله {فَلِبثْتَ سِنينَ في أهللِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى} فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168]، أي واختبرناك اختباراً، والاختبار: تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.
وأهل مدين: قوم شعيب. ومَدْيَن: اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علماً للمكان فمن ثمّ أضيف إليه (أهل). وقد تقدم في سورة الأعراف.
ومعنى {جئتَ} حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي.
و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.
والقدَر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل، قال النّابغة:
فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت *** يوماً وتوفيق أقدار لأقدار
أي موافقة ما كنتُ أرغبه.
فقوله {ثم جئت على قدر يا موسى} يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير.
فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه.
وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام. وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة إذْ كانت له قَدراً *** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر
ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة، وذلك جملة {واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الذي هو بمنزلة ردّ العجز على الصدر على قوله {ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك الآية، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 13] ومن قوله: {اذهب إلى فرعون إنّه طغى} [طه: 24].
والاصطناع: صنع الشيء باعتناء. واللام للأجْل، أي لأجْل نفسي. والكلام تمثيل لِهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئاً لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)}
رجوع إلى المقصد بعد المحاورة، فالجملة بيان لجملة: {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، أو هي استئناف بياني لأن قوله: {واصطنعتُك لنفسي} [طه: 41] يؤذن بأنه اختاره وأعدّه لأمر عظيم، لأنّ الحكيم لا يتّخذ شيئاً لنفسه إلاّ مريداً جعلَه مظهراً لحكمته، فيترقب المخاطب تعيينها، وقد أمره هنا بالذهاب إلى فرعون وأن يذهب أخوه معه. ومعنى ذلك أنه يبلّغ أخاه أن الله أمره بمرافقته، لأنّ هارون لم يكن حاضراً حين كلّم الله موسى في البقعة المباركة من الشجرة. ولأنه لم يكن الوقت وقت الشروع في الذهاب إلى فرعون، فتعيّن أن الأمر لطلب حصول الذهاب المستقبل عند الوصول إلى مصر بلد فرعون وعند لقائه أخاه هارون وإبلاغه أمر الله إياه، فقرينة عدم إرادة الفور هنا قائمة.
والباء للمصاحبة لقصد تطمين موسى بأنّه سيكون مصاحباً لآيات الله، أي الدلائل التي تدلّ على صدقه لدى فرعون.
ومعنى {ولاَ تَنِيَا} لا تضعُفا. يقال: ونَى ينِي ونَىً، أي ضعف في العمل، أي لا تننِ أنت وأبلغ هارون أن لا يني، فصيغة النهي مستعملة في حقيقتها ومجازها.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}
يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون. فيقتضي أن هارون كان حاضراً لهذا الخطاب، وهو ظاهر قوله بعده {قالا ربنا إننا نخاف} [طه: 45]، وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض «جاسان» حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب (طِيبة). قال في التّوراة في الإصحاح الرابع من سفر الخروج «وقال (أي الله) ها هو هارون خارجاً لاستقبالك فتكلمه أيضاً». وفيه أيضاً «وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله» أي جبل حُوريب، فيكون قد طُوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل (حوريب) في طريقِه إلى أرض مصر، ويكون قوله {قالا ربنا إننا نخاف} الخ، جواباً عن قول الله تعالى لهما: {اذهب إلى فرعون الخ. ويكون فصل جملة قالا ربنا إننا نخاف الخ لوقُوعها في أسلوب المحاورة.
ويجوز أن تكون جملة اذْهَبَا إلى فِرْعَونَ} بدلاً من جملة {اذْهَب أنتَ وأخوك} [طه: 42]، فيكون قوله {اذهبا أمراً لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب، وهذا أنسب لسياق الجُمل، وتكون جملة قالا ربنا إننا نخاف مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، وقد طوي ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية قالا ربنا إننا نخاف الخ. والتقدير: فذهب موسى ولقي أخاه هارون، وأبلغه أمر الله له بما أمره، فقالا ربّنا إننا نخاف الخ.
وجملة إنَّهُ طغى} تعليل للأمر بأن يذهبا إليه. فعُلم أنه لقصد كفّه عن طغيانه.
وفعل {طغى} رسم في المصحف آخره ألفاً مُمالة، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنّه من طَغِي مثل رَضي. ويجوز فيه الواو فيقال: يطغو مثل يدعو.
والقول الليّنُ: الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله.
فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّننِ.
واللين، حقيقة من صفات الأجسام، وهو: رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليّه، وضد الليّن الخشونة. ويستعار الليّن لسهولة المعاملة والصفح. وقال عمرو بن كلثوم:
فإن قناتنا يا عَمْرو أعيَت *** على الأعداءِ قبلَكَ أن تلينا
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وقال: {فبما رحمة من الله لِنتَ لهم} [آل عمران: 159]. ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تَزّكّى وأهديَك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 18، 19] وقوله: {والسلام على من اتبّع الهدى} [الكهف: 47]، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى.
فإذا لم ينفع اللين مع المدعوّ وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى عن موسى: {إنّا قد أوحي إلينا أن العَذاب على من كذّب وتولّى} [طه: 48].
والتّرجي المستفاد من (لعلّ) إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي، وإما أن يكون إعلاماً لموسى وفرعون بأن يرجوَا ذلك، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء: فلعلّه يصادفك تيْسير، وأنت لا تريد أنّك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب. وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرّة.
والتذكّر: من الذُّكر بضم الذال أي النظر، أي لعلّه ينظر نظر المتبصّر فيعرف الحق أو يخشى حلولَ العقاب به فيُطيع عن خشية لا عن تبصر. وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق، فالتذكر: أن يعرف أنه على الباطل، والخشيةُ: أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى.
وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام.
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}
فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفاً، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربّهما {قَالاَ رَبَّنا إنَّنا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يطغى}، لأنّ غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل، والأخذِ في التهيُّؤ له، ولذلك أُعيد أمرهما بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ}.
و {يَفْرُطَ} معناه يعجّل ويسبق، يقال: فَرط يفرُط من باب نصر. والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب. والمعنى: نخاف أن يعجّل بعِقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلُغه ونحجّه.
والطغيان: التظاهر بالتكبر. وتقدم آنفاً عند قوله {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [طه: 24]، أي نخاف أن يُخامره كبره فيعدّ ذكرنا إلهاً دونه تنقيصاً له وطعْناً في دعواه الإلهية فيطغى، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة. فذكر الطغيان بعد الفَرط إشارة إلى أنّهما لا يطيقان ذلك، فهو انتقال من الأشدّ إلى الأضعف لأن {نخاف يؤول إلى معنى النفي. وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك.
وحذف متعلّق يطغى} فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل. والتقدير: أو أن يطغى علينا. ويحتمل أن متعلّقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلّق آخر لكون التقسيم التقديري دليلاً عليه، لأنهما لما ذكر متعلّق {يفرط علينا وكان الفَرْط شاملاً لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بأو منظوراً فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه، أي أن يطغى على الله بالتنقيص كقوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] وقوله: {لعليّ اطّلِعُ إلى إله موسى} [القصص: 38]، فحذف متعلق {يطغى حينئذ لتنزيهه عن التصريح به في هذا المقام. والتقدير: أو أن يطغى عليك فيتصلّب في كفره ويعسر صرفه عنه. وفي التحرز من ذلك غيرة على جانب الله تعالى، وفيه أيضاً تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل، وتلك مفسدة في نظر الدّين. وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة.
قال الله لاَ تَخَافَا}، أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين، وهو نهي مكنى به عن نفي وقوع المنهي عنه.
وجملة {إنَّنِي مَعَكُمَا} تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي، والمعيّة معيّة حفظ.
و {أسْمَعُ وأرى} حالان من ضمير المتكلم، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا أدَعُ عمَلاً أو قولاً تخافانه.
ونزل فعلاَ {أسْمَعُ وأرى} منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود: أني لا يخفى عليّ شيء.
وفرع عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون.
والإتيان: الوُصول والحلول، أي فحُلاّ عنده، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته، فلذا أمِرا بإتيانه ودعوته.
وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره.
وفَعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة، كقولهم ناقة طروقَة الفَحل، وعدم المطابقة كقولهم: وَحشية خلوج، أي اختُلج ولدُها. وجاء الوجهان في نحو (رسول) وهما وجهان مستويان. ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء (16): {فأتِيا فرعون فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين} وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله.
وأدخل فاء التفريع على طَلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون؛ إما لأنّه سبقت إشاعَة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر. وتفريع ذلك على كونهما مرسلَيْن من الله ظاهر، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته.
وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصداً لأقصى الدعوة، لأنّ كون الله ربّهما معلوم من قولهما إنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} وكونه ربّ الناس معلوم بالأحْرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب.
والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة، لأنه كان يعُدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه.
وجملة {قَدْ جئناك بِآيَةٍ مِن رَبّك} فيها بيان لجملة {إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} فكانت الأولى إجمالاً والثانية بياناً. وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلَيْن من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق. وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها.
واقتصر على أنهما مصاحبان لآيةٍ إظهاراً لكونهما مستعدّيْن لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك. فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل، ولذلك حكي في سورة الأعراف (16) قول فرعون: {قال إن كنت جئت بآية فإت بها إن كنت من الصادقين} وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة، وقد تبعتها آيات أخرى.
والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه.
وأيضاً لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل. وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى.
والسّلام: السلامة والإكرام. وليس المراد به هنا التحيّة، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة. ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره: أسلمْ تَسْلَمْ.
و (على) للتمكّن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب.
وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى}، فقوله: {والسلام على من اتّبع الهدى} [طه: 47] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام.
وقوله {إنَّا قد أُوْحِيَ إلينا} تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ الرسالة على أتمّ وجه قبل ظهور رأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيهِ بتصريح توجيه الإنذار إليه. وهذا من أسلوب القول اللّين الذي أمرهما الله به.
وتعريف العَذَابَ تعريف الجنس، فالمعرّف بمنزلة النكرة، كأنّه قيل: إنّ عذاباً على من كذّب.
وإطلاق السّلام والعذاب دون تقييد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشارة والنذارة، قال تعالى في سورة النازعات (25، 26): {فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى} إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى.
وهذا كلّه كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون، كما يدلّ لذلك تعقيبه بقوله تعالى: {قال فمَن ربُّكما يا موسى} [طه: 49] على أسلوب حكاية المحاورات. وما ذكر من أول القصة إلى هنا لم يتقدّم في السور الماضية.
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}
هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون، ففي الآية حذف جمل دلّ عليها السياق قصداً للإيجاز. والتقدير: فأتَيَاه فقالا له ما أمِرا به، فقال: فمن ربّكما؟.
ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبَينّاها في سورة البقرة وغيرها.
ووجّه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثمّ خصّ موسى بالإقبال عليه بالنداء، لعلمه بأنّ موسى هو الأصل بالرسالة وأنّ هارون تابع له، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعيّن أن يكون فرعون عَلِمه من كيفيّة دخولهما عليه ومخاطبته، ولأنّ موسى كان معروفاً في بلاط فرعون لأنه ربيُّه أو رَبيّ أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دلّ عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء (18): {قال ألم نربّك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين} الآية. ولعلّ موسى هو الذي تولى الكلام وهارون يصدقه بالقول أو بالإشارة.
وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنّهما قالا له {إنّا رسولا ربّك} [طه: 47].
وأعرض عن أن يقول: فمن ربي؟ إلى قوله {فمن ربُّكما} إعراضاً عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربّه، أو أنه اعترف بأنّ له ربّاً. وتولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره.
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم {كل شيء}.
و {كُلَّ شَيْءٍ} مفعول أول ل {أعطى}. و{خَلْقَهُ} مفعوله الثاني.
والخلق: مصدر بمعنى الإيجاد. وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معاً.
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ، وهو الخَلق على شكل مخصوص، فهو بمعنى الجَعْل، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق.
ويجوز أن يكون {كُلَّ شَيْءٍ} مفعولاً ثانياً ل {أعطى} ومفعوله الأول {خَلْقَهُ}، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه، كقوله: {فأخرجنا به نبات كل شيء} [الأنعام: 99]. فتركيب الجملة صالح للمعنيين.
والاستغراق المستفاد من (كلّ) عُرفي، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق، مثل: ركب القوم دوابّهم.
والمعنى: تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ؟ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق.
و (ثُم) للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم، وأفاض عليهم النّعم، على حد قوله تعالى: {ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين} [البلد: 8 10] أي طريقي الخير والشرّ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة.
قال الزمخشري في «الكشاف»: «ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق».
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}
والبال: كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهمّ، ومصدره البالة بتخفيف اللاّم، قال تعالى: {كفّر عنهم سيّآتهم وأصلح بالهم} [محمد: 2]، أي حالهم. وفي الحديث " كل أمر ذي بال... " الخ، وتطلق على الرأي يقال: خطر كذا ببالي. ويقولون: ما ألقى له بالاً، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغيّة.
أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة. وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى {قالوا أجِئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} [يونس: 78].
ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى: هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى: {أنّ العذاب على من كذّب وتولّى} [طه: 48]، فإذا قال: إنّهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال: هم في سلام، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعراً بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء، فسأل: ما بال القرون الأولى؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
وقول موسى في جوابه {عِلْمُهَا عند رَبِّي فِي كتاب} صالحٌ للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولاً عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.
والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.
وإضافة {عِلْمُهَا} من إضافة المصدر إلى مفعوله. وضمير {عِلْمُها} عائد إلى {القُرُوننِ الأولى} لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.
وقوله {في كتاب} يحتمل أن يكون الكتاب مجازاً في تفصيل العلم تشبيهاً له بالأمور المكتوبة، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حِلِّزَة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ويؤكد هذا المعنى قوله {لاَّ يَضِلُّ رَبي ولا يَنسَى}.
والضلال: الخطأ في العلم، شبّه بخطأ الطريق. والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)}
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله: {فأخْرَجْنَا بهِ أزواجاً}. فقوله {الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَاداً} خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من {ربي} [طه: 52]، أي هو ربّ موسى.
وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهاداً فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقاً بالإلهية.
وقرأ الجمهور {مِهاداً بكسر الميم وألففٍ بعد الهاء وهو اسم بمعنى الممهُود مثل الفراش واللّباس. ويجوز أن يكون جمع مَهْد، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كِعاب جمعاً لكَعب. ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف مَهْداً بفتح الميم وسكون الهاء، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مَهدَه، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، ثمّ شاع ذلك فصار اسماً لما يمهد.
ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نُتوء فيها إلاّ نادراً يمكن تجنبه، كقوله: {والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سُبلاً فجاجاً} [نوح: 19، 20].
{وسَلَكَ} فعل مشتق من السُلوك والسّلْك الذي هو الدخول مجتازاً وقاطعاً. يقال: سلك طريقاً، أي دخله مجتازاً. ويستعمل مجازاً في السّير في الطريق تشبيهاً للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر. يقال: سلك طريقاً. فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعدياً بمعنى أسلك. وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال: أسلك المسمار في اللّوح، أي جعله سالكاً إياه، إلاّ أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى: {نسلكه عذاباً صعداً} [الجنّ: 17]. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولاً ثانياً يصير مجروراً ب (في) كقوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَر} [المدثر: 42] بمعنى أسلككم سقر. وقوله: {كذلك سلَكْنَاه في قلوب المجرمين} في سورة الشعراء (200)، وقوله {ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسَلَكه ينابيع في الأرض} في سورة الزمر (21). وقال الأعشى:
كما سلك السّكيّ في الباب فيْتَق *** أي أدخل المسمارَ في الباب نجارٌ، فصار فعل سلك يستعمل قاصراً ومتعدياً.
فأما قوله هنا وسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} فهو سَلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلاً، أي جعل سبلاً سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة. وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.
والمراد بالسبل: كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقاً يتابعُ الناس السير فيها.
ولما ذَكَر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء. وتلك منّة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير، ولذا لم يقل: وصببنا الماء على الأرض، كما في آية: {أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقّاً} [عبس: 25، 26]. وهذا إدماج بليغ.
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله: {فأخرجنا} التفات. وحسّنه هنا أنّه بعد أن حَجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يُخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثراً لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء} [الأنعام: 99]، وقوله: {ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتتٍ مختلفاً ألوانُها} [فاطر: 35]، وقوله: {أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بهجة} [النمل: 60] ومنها قوله في سورة الزخرف (11): {والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً} وقد نبّه إلى ذلك في الكشاف}، ولله درّه. ونظائره كثيرة في القرآن.
والأزواج: جمع زوج. وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد. فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجاً. ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان، قال تعالى: {فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين} [المؤمنون: 27]، وقال: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] وقال: {اسكن أنتَ وزوجُك الجنّة} [البقرة: 35]. ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانياً لآخر، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، قال تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تُنْبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون} [يس: 36]، ومنه قوله: {فأنبتنا فيها من كلّ زَوج كريم} [لقمان: 10]. وفي الحديث: «من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرتهُ حجبة الجنّة...» الحديثَ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة، ومثل الخَيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا، أي فأنبتنا به أنواعاً من نبات. وتقدّم في سورة الرعد.
والنّبات: مصدر سمي به النبات، فلكونه مصدراً في الأصل استوى فيه الواحد والجمع.
وشتّى: جمع شتيت بوزن فَعلى، مثل: مريض ومَرضى.
والشّتيت: المشتّت، أي المبعّد. وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.
والجملة الثانية {كُلُوا وارْعوا أنعامكُم} مقول قول محذوف هو حال من ضمير {فأخرجنا.
والتقدير: قائلين: كُلوا وارعوا أنعامكم. والأمر للإباحة مراد به المنّة. والتقدير: كلوا منها وارعوا أنعامكم منها. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع.
وفعل (رعى) يستعمل قاصراً ومتعدياً. يقال: رعت الدابةُ ورعاها صاحبها. وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر: الرّعي، ومصدر المتعدي: الرعاية. ومنه قول النّابغة:
رأيتكَ ترعاني بعين بصيرة *** والجملة الثالثة إنَّ في ذلك لآياتٍ لأُوْلِى النهى} معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أُشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفاً من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنّة بها على الإنسان لمن تأمل، جُمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة. وكلّ من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة.
وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين، لأنّهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النّهى، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلاّ لأنهم لم يَعُدوها آيات. لا جرم أنّ ذلك المذكور مشتمل على آيات جمّة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمّل والتفكّر، وينتبهون لها بالتذكير.
والنُهى: اسم جمع نُهْية بضم النون وسكون الهاء، أي العقل، سمي نُهية لأنّه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة، ولذلك أيضاً سمّي بالعقل وسمي بالحِجْر.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}
مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلاً على إمكان الخلق الثاني بعد الموت. والمناسبة متمكنة؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للنّاس من أحوالها، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيهاً بخروج النبات منها. وإخراج النّاس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض. قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً} [نوح: 17، 18].
وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني. وأما تقديم {وفِيهَا نُعِيدكُم} فللمزاوجة مع نظيريه.
ودل قوله تعالى: {وفِيهَا نُعيدُكُم} على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعيّة لمواراة الموتى سواء كان شَقّاً في الأرض أو لحْداً، لأن كليهما إعادة في الأرض؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنّار، أو إغراقهم في الماء، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض، فذلك مخالف لسنّة الله وفطرته. لأنّ الفطرة اقتضت أنّ الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها. وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتَل أحدُ ابني آدم أخَاه. كما قال تعالى في سورة العقود (31) {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض لِيُريَه كيف يُوارِي سوْأة أخيه قال يا ويْلَتَى أعجَزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوَارِيَ سوأة أخي} فجاءت الشرائع الإلهيّة بوجوب الدفن في الأرض.
والتّارة: المرة، وجمعها تارات. وأصل ألفها الواو. وقال ابن الأعرابي: أصل ألفها همزة فلمّا كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة. وقال بعضهم: ظهر الهمز في جمعها على فِعَل فقالوا: تِئَر بالهمز. ويظهر أنّها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه.
والإخراج: هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض، كما هو ظاهر قوله ومنها نُخْرِجُكُم}، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض. وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرّة الأولى، قال تعالى: {كما بدَأنا أوَّل خلق نُعيده} [الأنبياء: 104].
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}
رجوع إلى قصص موسى عليه السلام مع فرعون. وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سَوق ما جرى بين موسى وفرعون من المحاورة. فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة: {قال فمن ربكما يا موسى} [طه: 49] باعتبار ما يقدّر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصاراً، تقديره: فأتيَاهُ فقالاَ ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربّكما الخ. المعنى: فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى عليه السلام.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها، والواو اعتراضيّة.
وتأكيد الكلام بلام القسم و(قد) مستعمل في التعجيب من تصلّب فرعون في عناده، وقصد منها بيان شِدّته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تُجْد في إيمانه.
وأجملت وعُممت فلم تفصل، لأنّ المقصود هنا بيان شدّة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها.
وإراءة الله إياه الآيات: إظهارها له بحيث شاهدها.
وإضافة (آيات) إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفاً لآيات معهودة، فإن تعريف الجمع بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللاّم يكون للعهد ويكون للاستغراق، والمقصود هنا الأول، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى، وهي المذكورة في قوله تعالى: {في تسع آيات إلى فرعون وقومه} [النمل: 12]. وهي انقلاب العصا حيّة، وتبدّل لون اليد بيضاء، وسِنُو القحط، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والطوفان، وانفلاق البحر. وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعاً للظفر ببني إسرائيل.
وتأكيد الآيات بأداة التوكيد {كُلَّها} لزيادة التعجيب من عناده. ونظيره قوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها} في سورة القمر (41، 42).
وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة ولَقَدْ أريناهُ ءاياتنا} عطفاً على جملة {قال فمن ربكما يا موسى} [طه: 49]، وجملة {قال فمن ربكما بياناً لجملة فَكَذَّبَ وأبى}. فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخّراً عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى: {آياتِنَا كُلَّهَا.} وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيراً من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل: سني القحط، والدم، وانفلاق البحر. وهذا الحمل لا داعي إليه لأنّ العطف بالواو لا يقتضي ترتيباً.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)}
هذه الجملة متصلة بجملة {قال فما بال القرون الأولى} [طه: 51] وجواب موسى عنها. وافتتاحُها بفعل {قَالَ} وعدم عطفه لا يترك شكّاً في أن هذا من تمام المحاورة.
وقوله {أجِئتَنَا لِتُخْرِجَنَا من أرْضِنَا بِسِحْرِكَ} يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حَيّة، وانقلاب يَده بيضاء. وذلك ما سمّاه فرعون سِحراً. وقد صُرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما: {قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره...} الآية في سورة [الشعراء: 29- 35]. وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة {ولقد أريناه آياتنا كلها} [طه: 56] من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حيّة.
وإضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحراً.
وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيماً لشأنه. ومعنى إتيانه بالسحر: إحضار السحرة بين يديه، أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر، إذ السحر لا بد له من ساحر.
والمماثلة في قوله {مِثْلِهِ} مماثلة في جنس السحر لا في قوته.
وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه: أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياساً منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه، أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكاً عليهم وتخرجني من أرضي. فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم.
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملاً في الجماعة تغليباً، ونزّل فرعون نفسه واحداً منها. وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى {فأرسِلْ معنا بني إسرائيل} [طه: 47]، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك.
والاستفهام في {أجِئْتَنَا} إنكاري، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله، والقسم من أساليب إظهار الغضب.
واللام لام القسم، والنون لتوكيده. وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر.
وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره.
والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد، وهذا إيجاز في الكلام.
وقوله {مكاناً} بدل اشتمال من {موعداً} بأحد معنييه، لأنّ الفعل يقتضي مكاناً وزماناً فأبدل منه مكانُه.
وقوله {لا نُخْلِفُهُ} في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل {موعداً} باعتبار معناه المصدري. وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من (نخلفْه) على أن (لا) ناهية. والنهي تحذير من إخلافه.
و {سِوىً} قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأه عاصم، وحمزة، وابن عامر، ويعقوب، وخلف بضم السين وهما لغتان، فالكسر بوزن فِعَل، قال أبو عليّ: وزن فِعَل يقلُّ في الصفات، نحو: قوم عِدىً. وقال أبو عبيدة، وأبو حاتم، والنحاس: كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء: فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين. وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي:
وإن أبانا كانَ حلّ ببلدة *** سِوىً بين قيسسٍ قيس عيلان والفِزْر
(الفِزر: لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء).
والمعنى: قال مجاهد: إنه مكان نصف، وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة. وعن ابن زيد: المعنى مكاناً مستوياً، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين، أراد مكاناً منكشفاً للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة.
ثم تعيين الموعد غيرِ المخلَف يقتضي تعيين زمانه لا محالة، إذ لا يتصوّر الإخلاف إلاّ إذا كان للوعد وقت معيّن ومكان معيّن، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينةِ وأن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}.
فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكاناً معروفاً. ولعلّه كان بساحة قصر فرعون، لأنّهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم.
فقوله {يَوْمُ الزِّينَةِ} تعيين للوقت، وقوله {وأن يُحْشَرَ النَّاسُ} تعيين للمكان، وقوله {ضُحىً} تقييد لمطلق الوقت.
والضحى: وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها.
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط، وهو يوم كسر الخليج أوالخِلجان، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها.
وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطيّة، وذلك هو أول يوم من شهر (توت) القبطي، وهو (أيلول) بحسب التاريخ الإسكندري، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوماً، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوماً، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين (سبتمبر). وأول أيام شهر (توت) هو يوم النيروز عند الفرس، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس.
واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلَجُ له، فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثرَ مشاهِداً وأوضح رؤيةً.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)}
تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يُضععِ الوقت للتهيئة له.
والتولّي: الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقته، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيثُ يُرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عُرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات (22، 23) {ثم أدبر يسعى فحشر فنادى}
ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء.
وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره.
فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي. واستقصاء ترتيب الأمر، كقوله {فأجمعوا أمركم} [يونس: 71]، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} [الشعراء: 38].
والكَيْد: إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إن كيدي متين} في سورة الأعراف (183).
ومعنى ثُمَّ أتى} ثمّ حضر الموعدَ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معاً، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه.
وجملة {قَالَ لَهُم موسى} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله {ثُمَّ أتى} يثير سؤالاً في نفس السامع أن يقول: فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد. وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.
وضمير {لَهُم} عائد إلى معلوم من قوله {فلنأتينك بسحر مثله أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأنّ ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دلّ عليه قوله فَجَمعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى}، أي جمع رجال كيده.
والخطاب بقوله {وَيْلَكُمْ} يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون: إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجهاً به فرعون بل واجه به السحرةَ خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى: {فَجَمعَ كَيْدَهُ}، أي قال موسى لأهل كيد فرعون؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر، أغلظ القول زجراً له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييداً لمطلق الأمر بإلانة القول، كما أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} الآيات في سورة الحج (39)؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أنّ سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربّهم الأعلى وقالوا: {بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] رأى واجباً عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة.
ويجوز أن تكون كلمة {وَيْلَكُمْ} مستعملة في التعجب من حال غريبة، أي أعجبُ منكم وأحذركم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: «ويلُ أُمهُ مسعر حرب» فحكى تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد.
والويل: اسم للعذاب والشر، وليس له فعل.
وانتصب {وَيْلَكُمْ} إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء، أي الزموا ويلكم، أو احذروا ويلكم؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون: يا ويلنا، ويا ويلتنا. وتقدم عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة (79).
والإفتراء: اختلاق الكذب. والجمع بينه وبين كَذِباً} للتأكيد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).
والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيّلونه للناس من الشعوذة، ويقولون لهم: انظروا كيف تحرّك الحبل فصار ثعباناً، ونحو ذلك من توجيه التخيّلات بتمويه أنها حقائق، أو قولهم: ما نفعله تأييد من الله لنا، أو قولهم: إن موسى كاذب وساحر، أو قولهم: إن فرعون إلههم، أو آلهة فرعون آلهة. وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتاً.
وقرأ الجمهور فَيَسْحَتَكُم} بفتح الياء مضارع سَحَتَه: إذا استأصله، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلف، ورويسٌ عن يعقوب بضم الياء التحتية من أسحته، وهي لغة نجد وبني تميم، وكلتا اللغتين فصحى.
وجملة {وقَدْ خَابَ مَننِ افترى} في موضع الحال من ضمير {لا تَفْتَرُوا} وهي مسوقة مساق التعليل للنهي، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبلُ. بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلاً بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتَرَوْا لأجله.
و {منْ} الموصولة للعموم.
وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني.
وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله؛ ومن كان يعلم ذلك لا يُقدم عليه.
{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}
أي تفرع على موعظة موسى تنازُعهم الأمرَ بينهم، وهذا يؤذن بأن منهم من تركتْ فيه الموعظة بعضَ الأثر، ومنهم من خشي الانخذال، فلذلك دعا بعضهم بعضاً للتشاور فيما ذا يصنعون.
والتنازل: تفاعل من النزع، وهو الجَذْب من البئر، وجَذْب الثوب من الجسد، وهو مستعمل تمثيلاً في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب، فالتنازع: التخالف.
والنّجوى: الحديث السريّ، أي اختَلَوْا وتحادثوا سِرّاً ليَصدروا عن رأي لا يطّلع عليه غيرهم، فجَعْلُ النجوى معمولاً ل {أسَرّوا} يفيد المبالغة في الكتمان، كأنه قيل: أسرّوا سرّهم، كما يقال: شعر شاعر.
وزادهُ مبالغة قوله {بَيْنَهُم} المقتضي أنّ النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم.
وجملة {قَالُوا إنْ هذانن لساحران} بدل اشتمال من جملة {وأسَرُّوا النجوى}، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى: قال بعضهم: هذان لساحران، فقال جميعهم: نعم هذان لسَاحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها. وقال بعضهم لبعض: نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران.
واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله «هاذان» ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر. وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ (هذانِ) أكثر تواتراً بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة (إنّ) مشدّدة أو مخفّفة، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون (إنّ) ما عدا ابنَ كثير وحفصاً عن عاصم فهما قرءَا (إنْ) بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة.
وإن المصحف الإمام ما رسمُوه إلاّ اتّباعاً لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقرّاء أصحابه، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف، وما كتب في أصول المصاحف إلاّ من حفظ الكاتِبين، وما كُتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحُفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي.
فأما قراءة الجمهور {إنّ هذان لساحران بتشديد نون (إنّ) وبالألف في هذان وكذلك في لساحران، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة. وأظهرها أن تكون (إنّ) حرف جواب مثل: نعم وأجَل، وهو استعمال من استعمالات (إنّ)، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات:
ويقلْن شيب قد عَلا *** كَ وقد كبِرت فقلت إنّه
أي أجل أو نعم، والهاء في البيت هاءُ السّكْتتِ، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابي استجداه فلم يعطه، فقال الأعرابي: لعَن الله ناقة حملتني إليك. قال ابن الزّبير: إنّ وراكِبَها. وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في تفسيره}. وقال: عرضته على عالمينا وشيْخينا وأستاذيْنا محمد بن يزيد (يعني المبرد)، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد (يعني القاضي الشهير) فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا.
وقلت: لقد صدقا وحقّقا، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر.
وفي «التفسير الوجيز» للواحدي سأل إسماعيل القاضي (هو ابن إسحاق بن حمّاد) ابنَ كيسان عن هذه المسألة، فقال ابنُ كيسان: لما لم يظهر في المبهم إعرابٌ في الواحد ولا في الجمع (أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان) جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر. فقال له إسماعيل: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يُؤْنس به فقال له ابنُ كيسان: فليقل به القاضي حتى يؤنس به، فتبسم.
وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى: {إنّ هَذاننِ لسَاحِرانِ} حكايةً لمقال فريق من المتنازعين، وهو الفريق الذي قبِل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاماً سبقه.
ودخلت اللاّم على الخبر: إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير، ووجودُ اللاّم ينبئ بأن الجملة التي وقعت خبراً عن اسم الإشارة جملة قسميّة؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة.
ووجهت هذه القراءة أيضاً بجعل (إنّ) حرف توكيد وإعراببِ اسمها المثنّى جَرى على لغة كنانة وبِلْحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألفَ في أحوال الإعراب كلها، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس:
فأطرقَ إطراقَ الشُجاع ولو درى *** مساغاً لِنَأبَاهُ الشجاعُ لصمّما
وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون (إنْ) مسكنة على أنها مخففة (إنّ) المشددة. ووجه ذلك أن يكون اسم (إنْ) المخففة ضمير شأن محذوفاً على المشهور. وتكون اللاّم في {لساحران} اللاّم الفارقة بين (إنْ) المخففة وبين (إن) النافية.
وقرأ ابن كثير بسكون نون (إنْ) على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في «هذان» وبتشديد نون (هاذانّ).
وأما قراءة أبي عمرو وحده {إنَّ هذَيْن بتشديد نون (إنّ) وبالياء بعد ذال هذين. فقال القرطبي: هي مخالفة للمصحف. وأقل: ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجهاً مقبولاً في العربيّة.
ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود. فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة إن هاذان خطأ من كاتب المصحف، وروايتِهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفّان عن أبيه، وعن عروة بن الزبير عن عائشة، وليس في ذلك سند صحيح.
حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل، فإن المصحف ما كتب إلاّ بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفاً وعشرين سنة في أقطار الإسلام، وما كتبت المصاحف إلاّ من حفظ الحفّاظ، وما أخذ المسلمون القرآن إلاّ من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء، ولكان بمنزلة ما تُرك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة، والزكاة، والحياة، والرّبا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلاّ بألِفاتها.
وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف (إنّ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما.
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها: جئتكم من عندِ أسْحر النّاس، وهو في كتاب المغازي من صحيح البخاري}.
والقائلون: قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.
والخطاب في قوله {أن يُخْرِجَاكُم} لملئهم. ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى: {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} [طه: 57]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريداننِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.
والطريقة: السُّنّة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، بجامع الملازمة.
والمثلى: مؤنّث الأمثل. وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة، وهي حسن الحالة يقال: فلان أمثل قومِه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً.
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
والباء في {بطريقتكم} لتعدية فعل {يذهبا. والمعنى: يُذهبانها، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدّم عند قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} في سورة البقرة (17).
وقرأ الجمهور فأجمِعوا} بهمزة قطع وكسر الميم أمراً من: أجمع أمره، إذا جعله متفقاً عليه لا يختلف فيه.
وقرأ أبو عمرو {فاجمَعوا} بهمزة وصل وبفتح الميم أمراً من جمع، كقوله فيما مضى {فجَمَع كيْدَه} [طه: 60]. أطلق الجمع على التعاضد والتعاون، تشبيهاً للشيء المختلف بالمتفرّق، وهو مقابل قوله {فتنازعوا أمرهم}.
وسموا عملهم كيداً لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب، فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به.
والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى، وما أظهره الله على يديه من المعجزة، وأصبحوا متحيّرين في شأنه؛ فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له، وهو ما حكاه قوله تعالى: في آية سورة الشعراء (38 40):
{فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين}
ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيبُ لهم.
ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيّرون لذلك بَهاء الهيبة وحسن السمت وجلال المظهر. فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود، وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب. وقد فسر به فعل تنمّروا في قول ابن معد يكرب:
قوم إذا لبِسوا الحديد *** تنَمروا حَلَقاً وقَدّاً
وقيل: إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر. وثبت في التاريخ المستند للآثار أنّ كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور.
والصفّ: مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، أي صافّين أو مصفوفين، إذا ترتبوا واحد حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظراً، قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} [الصفّ: 4]. وكان جميع سحرة البلاد المصريّة قد أحضروا بأمر فرعون فكانوا عدداً كثيراً. فالصفّ هنا مراد به الجنس لا الواحدة، أي ثم ائتوا صفوفاً، فهو كقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} [النبأ: 38] وقال: {والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22].
وانتصب {صَفّاً} على الحال من فاعل {ائتُوا} والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم، لأنّ التناجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم {وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَننِ اسْتَعلَى}.
وجملة {وقَدْ أفلحَ اليومَ مَننِ استَعْلى} تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع. ف {استعلى} مبالغة في عَلا، أي علا صاحبَه وقهره، فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر.
وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبديّة وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)}
تقدمت هذه القصة ومعانيها في سورة الأعراف سوى أن الأوليّة هنا مصرّح بها في أحد الشقّين. فكانت صريحة في أن التخيير يتسلط على الأولية في الإلقاء، وسوى أنه صرّح هنا بأن السحر الذي ألقوْهُ كان بتخييل أن حبالهم وعصيّهم ثعابين تسعى لأنها لا يشبهها في شكلها من أنواع الحيوان سوى الحيات والثعابين.
والمفاجأة المستفادة من (إذا) دلّت على أنهم أعدّوها للإلقاء وكانوا يخشون أن يمرّ زمان تزول به خاصياتها فلذلك أسرعوا بإلقائها.
وقرأ الجمهور {يُخيّل بتحتيّة في أول الفعل على أن فاعله المصدر من قوله أنَّها تسعى}. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، ورَوحٌ عن يعقوب «تُخيّل» بفوقية في أوله على أنّ الفعل رافع لضمير {حِبَالُهُم وعِصِيُّهُم}، أي هي تخيل إليه.
و {أنَّها تسعى} بدل من الضمير المستتر بدل اشتمال.
وهذا التخييل الذي وجده موسى من سحر السحرة هو أثر عقاقير يُشرِبونها تلك الحبالَ والعصيّ، وتكون الحبال من صنف خاص، والعصيّ من أعواد خاصة فيها فاعلية لتلك العقاقير، فإذا لاقت شعاع الشمس اضطربت تلك العقاقير فتحركت الحبال والعصيّ. قيل: وضعوا فيها طِلاءَ الزئبق. وليس التخييل لموسى من تأثير السحر في نفسه لأنّ نفس الرسول لا تتأثر بالأوهام، ويجوز أن تتأثر بالمؤثرات التي يتأثر منها الجسد كالمرض، ولذلك وجب تأويل ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار الآحاد لا تنقض القواطع. وليس هذا محلّ ذكره وقد حققته في كتابي المسمّى «النظر الفسيح» على صحيح البخاري.
و {مِن} في قوله {مِن سِحْرِهِم} للسببيّة كما في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25].
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)}
أوجس: أضمر واستشعر. وانتصاب {خيفةً على المفعولية، أي وجد في نفسه. وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى: {نكرهم وأوجس منهم خيفة} في سورة هود (70).
و خِيفَةً} اسم هيئة من الخوف، أريد به مطلق المصدر، وأصله خِوْفة، فقلبت الواو ياء لوقوعها أثر كسرة.
وزيادة {فِي نَفْسِهِ} هنا للإشارة إلى أنها خيفةُ تفكُّر لم يظهر أثرها على ملامحه. وإنما خاف موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعباناً، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدّة فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومدّه لما تكون له العاقبة فخشي ذلك. وهذا مقام الخوف، وهو مقام جَليل مِثلُه مقام النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إذ قال: {اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللّهم إن شئت لم تُعبد في الأرض}
والدليل على هذا قوله تعالى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إنَّكَ أنْتَ الأعلى} فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقويةُ تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في {الأعلى} دليل على أن ما خامره من الخوف إنّما هو خوف ظهور السحرة عند العامة ولو في وقت ما. وهو وإن كان موقناً بأن الله ينجز له ما أرسله لأجله لكنه لا مانع من أن يستدرج الله الكفرة مدّة قليلة لإظهار ثبات إيمان المؤمنين، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم {لا يَغُرنك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].
وعبّر عن العصا ب {مَا} الموصولة تذكيراً له بيوم التكليم إذ قال له: {وما تلك بيمينك يا موسى} [طه: 17] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ، ولذلك لم يقل له: وألق عصاك.
والتلقّف: الابتلاع. وقرأه الجمهور بجزم {تلقّفْ في جواب قوله وَأَلْقِ}. وقرأه ابن ذكوان برفع {تلقّف على الاستئناف.
وقرأ الجمهور تلَقّف بفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأه حفص بسكون اللاّم وفتح القاف من لقِف كفرِح.
وجملة إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحر} مستأنفة ابتدائية، وهي مرَكبّة من (إنّ) و(مَا) الموصولة. و{كيد ساحر} خبر (إنّ). والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه. وكتب (إنما) في المصحف موصولة (إنّ) ب (ما) الموصولة كما توصل ب (ما) الكافّة في نحو {إنما حرّم عليكم الميتة} [البقرة: 173] ولم يكن المتقدمون يتوخّون الفروق في رسم الخط.
وقرأ الجمهور {كيد ساحر بألف بعد السين. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف كيد سِحر بكسر السين.
وجملة ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى} من تمام الجملة التي قبلها، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير {إنَّمَا صَنَعُوا}، أي لا يَنجحُ الساحر حيث كان، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثّر بها. وتعريف {الساحر تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف، أي لا يفلح بها كلّ ساحر.
واختير فعل أتى} دون نحو: حيث كانَ، أو حَيث حلّ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة.
وتعميم {حَيْثُ أتى} لعموم الأمكنة التي يحضرها، أي بسحره.
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها. وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
الفاء عاطفة على محذوف يدلّ عليه قوله {وألق ما في يمينك} [طه: 69]. والتقدير: فألقى فتلقفت ما صنعوا، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63].
والإلقاء: الطرح على الأرض. وأسند الفعل إلى المجهول لأنّهم لا ملقي لهم إلاّ أنفسهم، فكأنّه قيل: فألقوا أنفسهم سُجّداً، فإنّ سجودهم كان إعلاناً باعترافهم أنّ موسى مرسل من الله. ويجوز أن يكون سجودهم تعظيماً لله تعالى.
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيماً له.
ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون، جعلوه مقدمة لقولهم {ءَامَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} حذراً من بطشه.
وسُجّد: جمع ساجد.
وجملة {قَالُوا} يصح أن تَكون في موضع الحال، أي ألقَوْا قائلين. ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة {فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنّهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنّهم أيمّة السحر فعلموا أنّه آية من عند الله.
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أرباباً يعبدونها ويعبدها فرعون.
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف (121، 122): {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره، لأنّ الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه ربّ هذين الرجلين؛ فحكي كلامهم بما يدلّ على ذلك؛ ألا ترى أنه حكي في سورة الأعراف (121) قول السحرة {قالوا آمنا برب العالمين}، ولم يحك ذلك هنا، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.
ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي، إذ وقع في الآية الأخرى {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} [الشعراء: 47، 48]. ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة، فيكون صدر منهم قولان، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتباراً بكبر سنّه، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتباراً بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.
ويقال: آمن له، أي حصل عنده الإيمانُ لأجله. كما يقال: آمن به، أي حصل الإيمان عنده بسببه. وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأنّ آمنه بمعنى صَدقه، ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق إلاّ بأحد هذين الحرفين.
وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وروحٌ عن يعقوب {ءامنتم بهمزة واحدة بعدها مَدّة وهي المدّة الناشئة عن تسهيل الهمزة الأصلية في فعل آمن، على أنّ الكلام استفهام.
وقرأه ورش من طريق الأصفهاني، وابنُ كثير، وحفص عن عاصم، ورويسٌ عن يعقوب بهمزة واحدة على أنّ الكلام خبر، فهو خبر مستعمل في التوبيخ.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بهمزتين على الاستفهام أيضاً.
ولما رأى فرعون إيمان السحرة تغيّظ ورام عقابهم ولكنه علم أنّ العقاب على الإيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفّي من الذين آمنوا علّة إعلانهم الإيمان قبل استئذانِ فرعون، فعدّ ذلك جرأة عليه، وأوهم أنّهم لو استأذنوه لأذن لهم، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤوا مع موسى من قبلُ فأظهروا العجز عند مناظرته. ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأنّ موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالاً للشكّ على نفوس الذين شاهدوا الآيات. وهذه شِنْشِنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر. ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
وضمير لَهُ} عائد إلى موسى مثل ضمير {إنه لكبيركُم.
ومعنى قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم} قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به. يقال: أذِن له، إذ أباح له شيئاً.
والتقطيع: شدّة القطع. ومرجع المبالغة إلى الكيفية، وهي ما وصفه بقوله {مِن خِلاف} أي مختلفة؛ بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين، أي تقطع اليد ثمّ الرجلُ من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى. والظاهر: أنّ القطع على هذه الكيفية كان شعاراً لقطع المجرمين، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدّة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعاً.
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطّل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جرّاء قطع يَد ثمّ رجل من جهة واحدة، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.
و (من) في قوله {مِنْ خلاف} للابتداء، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع. والمجرور في موضع الحال، وقد تقدّم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.
والتصليب: مبالغة في الصلب. والصلب: ربط الجسم على عود مُنتصب أو دَقُّهُ عليه بمسامير، وتقدم عند قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه} في سورة النساء (157). والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضاً بشدّة الدقّ على الأعواد.
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيهاً لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.
والجذوع: جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [مريم: 25]. وتعدية فعل {ولأُصلّبَنَّكُم} بحرف (في) مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يُشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف (في) استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلَّق معنى (في) لمتعلَّق معنى (على).
وأيّنا: استفهام عن مشتركيْن في شدّة التعذيب. وفعل {لتعلمُن معلق عن العمل لوقوع الاستفهام في آخره. وأراد بالمشتركين نفسَه وربّ موسى سبحانه لأنه علم من قولهم {آمنا برب هارون وموسى} [الشعراء: 47] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون {ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} [طه: 61]، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حُذرتموه. وهذا من غروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله {أينا أشدّ عذاباً وأبقى بقولهم والله خير وأبقى} [طه: 73]، أي خير منك وأبقى عملاً من عملك، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق.
والإيثار: التفضيل. وتقدّم في قوله تعالى: {لقد آثرك الله علينا} في سورة يوسف (91). والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى، وبذلك يلتئم عطف {والذي فَطَرنا}، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر {الذي فطرنا عن ما جَاءَنَا مِنَ البينات} لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله، ولأنّ فيه تعريضاً بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله {فَاقْضضِ مَا أنتَ قَاضٍ} مستعملة في التسوية، لأن {ما أنت قاض} مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلببِ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه، فلا نطلب منك خلاصاً منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل (والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.
وانتصب {هذه الحياة} على النيابة عن المفعول فيه، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها.
والقصر المستفاد من (إنما) قصر موصوف على صفة، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، فهو قصر حقيقيّ.
وجملة {إنَّا آمَنَّا بِرَبنا} في محلّ العلّة لما تضمنه كلامهم.
ومعنى {وما أكْرَهْتَنَا عليْهِ مِنَ السِّحْرِ} أنه أكرههم على تحدّيهم موسى بسحرهم فعلموا أن فعلهم باطل وخطيئة لأنّه استعمل لإبطال إلهيّة الله، فبذلك كان مستوجباً طلب المغفرة.
وجملة {والله خَيْرٌ وأبقى} في موضع الحال، أو معترضة في آخر الكلام للتذييل. والمعنى: أنّ الله خير لنا بأن نؤثره منك، والمراد: رضى الله، وهو أبقى منك، أي جزاؤه في الخير والشرّ أبقى من جزائك فلا يهولنا قولك {ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} [طه: 71]، فذلك مقابلة لوعيده مقابلة تامة.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}
هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصّة خروج بني إسرائيل، ساقها الله موعظة وتأييداً لمقالة المؤمنين من قوم فرعون. وقيل: هي من كلام أولئك المؤمنين. ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصّة.
والمجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية والفعل الخبيث. والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر، كقوله تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} [المطففين: 29].
واللام في {لَهُ جَهَنَّمَ} لامُ الاستحقاق، أي هو صائر إليها لا محالة، ويكون عذابه متجدّداً فيها؛ فلا هو ميت لأنّه يُحِس بالعذاب ولا هو حيّ لأنه في حَالةٍ الموتُ أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت، وهو كقول عبّاس بن مرداس:
وقد كنتُ في الحرب ذَا تُدْرَإٍ *** فلم أُعْطَ شيئاً ولم أُمنع
وليس هذا من قبيل قوله {إنها بقرة لا فارض ولا بكر} [البقرة: 68] ولا قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} [النور: 35].
وأما خلود غير الكافرين في النّار من أهل الكبائر فإن قوله {لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} جعلها غير مشمولة لهذه الآية. ولها أدلّة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي. ونازَعَنَا فيها المعتزلة والخوارج. وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {فأولئك لهم الدرجات} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسمَ الإشارة.
وتقدم معنى {عَدْن} وتفسير {تجري من تحتها الأنهار} في قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة (72).
والتزكّي: التطهر من المعاصي.
(77) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى}
افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم. وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصاً طويت بين ذكر القصتين، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهّم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتُوهم أن الأمر بالخروج وقع موالياً لانتهاء مَحْضَر السحرة، مع أن بين ذلك قصصاً كثيرة ذُكرت في سورة الأعراف وغيرها، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما همّ بإطلاق بني إسرائيل للخروج. ثمّ نكَل إلى أن أذن لهم بأخَرَة فخرجوا ثمّ ندم على ذلك فأتبعهم.
فجملة {ولقَدْ أوْحَيْنَا إلى موسى} ابتدائية، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.
و {اسْرِ أمرٌ من السُرَى بضم السين وفتح الراء وتقدّم في سورة الإسراء أنه يقال: سَرَى وأسرى. وإنما أمره الله بذلك تجنّباً لنكول فرعون عليهم. والإضافة في قوله بِعِبَادي} لتشريفهم وتقريبهم والإيماءِ إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسُوا عبيداً لفرعون.
والضرب: هنا بمعنى الجَعْل كقولهم: ضَرَب الذهبَ دنانير. وفي الحديث: " واضربوا إليّ معكم بسهم "، وليس هو كقوله {أن اضْرِب بعصاك البحر} [الشعراء: 63] لأنّ الضرب هنالك متعد إلى البحر وهنا نصَب طريقا.
واليَبَس بفتح المثناة والموحدة. ويقال: بسكون الموحدة: وصف بمعنى اليابس. وأصله مصدر كالعَدَم والعُدْم، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا: ناقة يَبَس إذا جفّ لبنها.
و {لا تخافُ مرفوع في قراءة الجمهور، وعدٌ لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم، فهو خبر مراد به البُشرى. والجملة في موضع الحال.
وقرأ حمزة وحده لا تَخَفْ على جواب الأمر الذي في قوله فاضرب، وكلمة تَخَفْ} مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون «المحذوفَ».
وأما قوله {وَلاَ تخشى} فالإجماع على قراءته بألف في آخره. فوجه قراءة حمزة فيها مع أنّه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف {فأضلونا السبيلا} [الأحزاب: 67] وألف {وتظنون بالله الظُنونا} [الأحزاب: 10]، أو أن تكون الواو في قوله {ولا تخشى للاستئناف لا للعطف.
و الدّرَك بفتحتين اسم مصدر الإدراك، أي لا تخاف أن يدركك فرعون.
والخشية: شدّة الخوف. وحذف مفعوله لإفادة العموم، أي لا تخشى شيئاً، وهو عامّ مراد به الخصوص، أي لا تخشى شيئاً مما يخشى من العدوّ ولا من الغرق.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}
الفاء فصيحة عاطفة على مقدر يدلّ عليه الكلام السابق، أي فسرى بهم فأتبعهم فرعون، فإن فرعون بعد أن رأى آيات غضب الله عليه وعلى قومه وأيقن أنّ ذلك كله تأييد لموسى أذن لموسى وهارون أن يخرجا بني إسرائيل، وكان إذْن فرعون قد حصل ليلاً لحدوث موتان عظيم في القبط في ليلة الشهر السابع من أشهر القبط وهو شهر (برمهات) وهو الذي اتّخذه اليهود رأس سنتهم بإذن من الله وسمّوه (تِسّرِي) فخرجوا من مدينة (رعمسيس) قاصدين شاطئ البحر الأحمر. وندم فرعون على إطلاقهم فأراد أن يلحقهم ليرجعهم إلى مدينته، وخرج في مركبته ومعه ستمائة مركبة مختارة ومركبات أخرى تحمل جيشه.
وأتْبَع: مرادفع تَبِع. والباء في {بجُنُودِهِ} للمصاحبة.
واليمّ: البحر. وغشيانه إياهم: تغطيته جُثَثَهم، أي فغرِقوا.
وقوله {مَا غَشِيَهُمْ} يفيد ما أفاده قوله {فَغَشِيَهُم مِنَ اليَمّ} إذ من المعلوم أنهم غشيهم غاششٍ، فتعيّن أن المقصود منه التهويل، أي بلغ من هول ذلك الغرق أنّه لا يستطاع وصفه. قال في «الكشاف»: «هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة». وهذا الجزء من القصة تقدم في سورة يونس.
وجملة {وأضلّ فرعونُ قومه} في موضع الحال من الضمير في {غَشِيَهُمْ}. والإضلال: الإيقاع في الضلال، وهو خطأ الطريق الموصّل. ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعَمَل ما فيه ضرّ وهو المراد هنا. والمعنى: أنّ فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بثّ فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام.
وعَطْفُ {وما هدى} على {أضلّ}: إما من عطف الأعمّ على الأخص لأنّ عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال؛ وإما أن يكون تأكيداً لفظياً بالمرادف مؤكداً لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله {وما هدى تأكيداً لأضلّ} بالمرادف كقوله تعالى: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] وقول الأعشى:
حفاة لا نعال لنا ***» من قوله:
إمّا تَرَيْنَا حُفَاةً لا نِعال لنا *** إنّا كذلككِ ما نحفَى وننتعل
وفي «الكشاف»: إن نكتة ذكر {وما هدى} التهكم بفرعون في قوله {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد اه. يعني أن في قوله وما هدى} تلميحاً إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر (29): {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وما في هذه من قوله {بطريقتكم المثلى} [طه: 63]، أي هي هَدْي، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضياً إلى التلميح إلى القصة كما في قول مُهلهل:
لو كُشِف المقابر عن كُليب *** فخُبّر بالذّنائب أيُّ زير
يشير إلى قول كُليب له على وجه الملامة: أنتَ زِير نساء.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}
هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفاً في قوله تعالى: {إنه من يأت ربه مجرماً} الآية. وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً لهم بنعم أخرى.
وقُدّمت عليها النعمة العظيمة، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة.
وقرأ الجمهور {قد أنجيناكم وواعدناكم بنون العظمة. وقرأهما حمزة، والكسائي، وخلف قد أنجيتكم ووعدتكم بتاء المتكلّم.
وذكّرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله وواعدناكم جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ}. والمواعدة: اتّعاد من جانبين، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة، وامتثالُ موسى لذلك وعدٌ من جانبه، فتم معنى المواعدة، كما قال تعالى في سورة البقرة (52): {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة}
ويظهر أنّ الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح 19 من سفر الخروج: في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برّية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل. وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الربّ من الجبل قائلاً: هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النّسور، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة... إلخ.
وذكر الطور تقدم في سورة البقرة.
وجانب الطور: سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرقَ الشمس، وإلاّ فليس للجبل يمين وشمال معيّنان، وإنما تعرَّف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجُعل محلّ المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص (30): {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وقال فيها وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44] فهو جانب غربي، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل، وهو الذي آنس موسى منه ناراً.
وانتصب {جَانِبَ الطُّورِ} على الظرفية المكانية لأنّه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم.
ومفعول المواعدة محذوف، تقديره: المناجاة.
وتعدية {واعدناكم} إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الذين اختارهم من قومه باعتبار أنّ المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحاً للأمّة فكانت المواعدة مع أولئك كالمواعدة مع جميع الأمّة.
وقرأ الجميع {ونزَّلنا عليكم الخ؛ فباعتبار قراءة حمزة، والكسائي، وخلف قد أنجيتكم وواعدتكم بتاء المفرد تكون قراءة وأنزلنا بنون العظمة قريباً من الالتفات وليس عينه، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلّم.
والسلوَى تقدم في سورة البقرة. وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح 16 من سفر الخروج.
وجملة كُلُوا} مقولٌ محذوف. تقديره: وقلنا أو قائلين. وتقدم نظيره في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {ما رزقناكم بنون العظمة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ما رزقتكم بتاء المفرد.
والطغيان: أشدّ الكِبر.
ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق: النهي عن ترك الشكر عليه وقلّة الاكتراث بعبادة المُنعِم.
وحرف (في) الظرفيّة استعارةٌ تبعية؛ شبه ملابسة الطغيان للنّعمة بحلول الطغيان فيها تشبيهاً للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعَم عليه على طريقة المكنية، وحرف الظرفية قرينتها.
والحلول: النزول والإقامة بالمكان؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم.
وقرأ الجمهور فيحِلّ عليكم بكسر الحاء وقرأوا ومن يحلِل عليه غضبي بكسر اللاّم الأولى على أنهما فعلا حَلّ الدّيْن يقال: حلّ الديْن إذا آن أجل أدائه. وقرأه الكسائي بالضمّ في الفعلين على أنّه من حلّ بالمكان يحُلّ إذا نزل به. كذا في الكشاف} ولم يتعقبوه.
وهذا مما أهمله ابن مالك في «لامية الأفعال»، ولم يستدركه شارحها بَحْرَق اليمني في «الشرح الكبير». ووقع في «المصباح» ما يخالفه ولا يعوّل عليه. وظاهر «القاموس» أن حلّ بمعنى نزل يستعمل قاصراً ومتعدياً، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك.
وهوَى: سقط من علوّ، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده، كما قالوا: هوت أمّه، دعاء عليه، وكما يقال: ويل أمّه، ومنه: {فأمه هاوية} [القارعة: 9]، فأريد هويّ مخصوص، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد.
وجملة {وإنّي لغَفَّارٌ} إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح. ومعنى {تَابَ}: ندم على كفره وآمن وعمل صالحاً.
وقوله {ثُمَّ اهتدى} (ثم) فيه للتراخي في الرتبة؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث. ومعنى {اهتدى: استمرّ على الهدى وثبت عليه، فهو كقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 13].
والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنّه لن يبرئ إبراء».
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)}
عطفٌ على جملة {اسْرِ بعبادي} [طه: 77] الواقعة تفسيراً لفعل {أوحينا إلى موسى} [طه: 77]، فقوله {ومَا أعْجَلَكَ عَن قومِكَ} هو مما أوحى الله به إلى موسى. والتقدير: وأنْ: ما أعجلك الخ. وهو إشارة إلى ما وقع لهم أيام مناجاة موسى في الطور في الشهر الثالث لخروجهم من مصر. وهذا الجزء من القصة لم يذكر في سورة الأعراف.
والإعجال: جعْل الشيء عاجلاً.
والاستفهام مستعمل في اللّوْم. والذي يؤخذ من كلام المفسرين وتشير إليه الآية: أنّ موسى تعجّل مفارقة قَومه ليحضر إلى المناجاة قبل الإبّان الذي عيّنه الله له، اجتهاداً منه ورغبة في تلقي الشريعة حسبما وعده الله قبل أن يحيط بنو إسرائيل بجبل الطور، ولم يراع في ذلك إلا السبق إلى ما فيه خير لنفسه ولقومه، فلامه الله على أن غفل عن مراعاة ما يحفّ بذلك من ابتعاده عن قومه قبل أن يوصيهم الله بالمحافظة على العهد ويحذّرهم مكر من يتوسّم فيه مكراً، فكان في ذلك بمنزلة أبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً فركع ودَبّ إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ»
وقريبٌ من تصرّف موسى عليه السلام أخذُ المجتهد بالدليل الذي له معارض دون علم بمعارضة، وكان ذلك سبب افتتان قومه بصنع صنم يعبدونه.
وليس في كتاب التّوراة ما يشير إلى أكثر من صنع بني إسرائيل العجل من ذهب اتخذوه إلهاً في مدّة مغيب موسى، وأن سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 91].
وقوله هنا {هُمْ أُوْلاءِ على أَثَرِي} يدل على أنّهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة.
واعتذر عن تعجّله بأنه عجّل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه، فقوله تعالى: {فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} فيه ضرب من المَلام على التعجل بأنّه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وُقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير.
والأثَر بفتحتين: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدَم أو حافر أو خفّ. ويقال: إثْر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب. فمعنى قولهم: جاء على إثره، جاء موالياً له بقرب مجيئه، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام مَن مشى قبله قبل أن يتغيّر ذلك الأثرُ بأقدام أخرى، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره.
والمعنى: هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي، أي موالون لي في الوصول. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدَمِي»
، تقديره: يحشرون سائرين على آثار قدمي.
وقرأ الجمهور {على أَثرِي} بفتحتين. وقرأه رويس عن يعقوب بكسر الهمزة وسكون الثاء.
واستعمل تركيب {هُمْ أُوَلاءِ} مجرّداً عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافاً لقوله في سورة النساء (109): {ها أنتم هؤلاء جادلتم}، وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة، نحو قول عبد بني الحسحاس:
هَا أنا دُون الحبيببِ يا وَجع *** وتقدّم عند قوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبونهم} في سورة آل عمران (119).
وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مُقدّره وخالقُ أسبابه البعيدة. وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله {وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.
و {السَّامِرِيُّ} يظهر أن ياءه ياء نسبة، وأن تعريفه باللاّم للعهد. فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر؛ فالسامريّ نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سَامِر، وقد كان من الأسماء القديمة (شُومر) و(شامر) وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب. وفي «أنوار التنزيل»: «السامريّ نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة» اه. أخذنا من كلام البيضاوي أن السامريّ منسوب إلى قبيلة وأما قوله «من بني إسرائيل» فليس بصحيح. لأنّ السامرة أمّة من سكان فلسطين في جهة نَابلس في عهد الدولة الروميّة (البيزنطية) وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثمّ امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود. فليس هو منسوباً إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأنّ مدينة السامرة بناها الملك (عَمْري) ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح. وجعلها قصبة مملكته، وسماها (شوميرون) لأنّه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه (شَامر) بوَزْنتَين من الفضة، فعُرّبت في العربية إلى سامرة، وكان اليهود يَعُدونها مدينة كفر وجور، لأنّ (عمري) بانيها وابنه (آخاب) قد أفسدا ديانة التّوراة وعبدا الأصنام الكنعانية. وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام.
ويحتمل أن يكون السامريّ نسباً إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر، كما قال بعض أهل التفسير، فيكون فتى قبطياً اندس في بني إسرائيل لتعلّقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم. وعن سعيد بن جبير: كان السامريّ من أهل (كرمان)، وهذا يقرّب أن يكون السامريّ تعريبَ كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب.
ويجوز أن تكون الياء من السامريّ غير ياء نسب بل حرفاً من اسم مثل: ياء عليّ وكرسيّ، فيكون اسماً أصلياً أو منقولاً في العبرانية، وتكون اللاّم في أوّله زائدة.
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطاً من القصة: أن السامريّ اسمه موسى بن ظَفَر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خَاله، وأنه كفَر بدين موسى بعد أن كان مؤمناً به، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئزّ النفس منها.
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضاً السامرة، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهوديّة في أصول الدّين، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلاّ من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنيّة على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخّص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصْهار ملوكهم، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم.
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلّة كبرى، إذ زعموا أنّ هارون صنع العجل لهم لمّا قالوا له: «اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنَع لهم عجلاً من ذهب». وأحسب أنّ هذا من آثار تلاشي التّوراة الأصلية بعد الأسر البابلي، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة. ومما نقطع به أنّ هارون معصوم من ذلك لأنه رسول.
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)}
الغضب: انفعال للنفس وهيجان ينشأ عن إدراك ما يسوؤها ويسخطها دون خوف، والوصف منه غَضبان.
والأسف: انفعال للنفس ينشأ من إدراك ما يحزنها وما تكرهه مع انكسار الخاطر. والوصف منه أسِف. وقد اجتمع الانفعالان في نفس موسى لأنه يسوؤه وقوع ذلك في أمته وهو لا يخافهم، فانفعاله المتعلّق بحالهم غضب، وهو أيضاً يحزنه وقوع ذلك وهو في مناجاة الله تعالى التي كان يأمل أن تكون سبب رضى الله عن قومه فإذا بهم أتوا بما لا يرضي الله فقد انكسر خاطره بين يديه ربّه.
وهذا ابتداء وصف قيام موسى في جماعة قومه وفيهم هارون وفيهم السامريّ، وهو يقرع أسماعهم بزواجر وعظه، فابتدأ بخطاب قومه كلهم، وقد علم أن هارون لا يكون مشايعاً لهم، فلذلك ابتدأ بخطاب قومه ثمّ وجّه الخطاب إلى هارون بقوله {قال يا هارون ما منعك} [طه: 92].
وجملة {قَالَ ياقومم أَلَم} مستأنفة بيانية.
وافتتاح الخطاب ب {ياقوم} تمهيدٌ لِلّوم لأن انجرار الأذى للرجل من قومه أحق في توجيه الملام عليهم، وذلك قوله {فَأَخْلَفْتُم مَوْعِدِي}.
والاستفهام في {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} إنكاري؛ نزِّلوا منزلة من زعم أن الله لم يعدهم وعداً حسناً لأنّهم أجروا أعمالهم على حال من يزعم ذلك فأنكر عليهم زعمهم. ويجوز أن يكون تقريرياً، وشأنه أن يكون على فرض النّفي كما تقدم غير مرّة.
والوعْدُ الحسن هو: وعده مُوسى بإنزال التّوارة، ومواعدته ثلاثين ليلةً للمناجاة، وقد أعلمهم بذلك، فهو وعد لقومه لأنّ ذلك لصلاحهم، ولأنّ الله وعدهم بأن يكون ناصراً لهم على عدوّهم وهادياً لهم في طريقهم، وهو المحكي في قوله {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه: 80].
والاستفهام في {أفَطَالَ عَلَيْكُم العَهدُ} مُفرّع على قوله {ألَمْ يَعِدكُم رَبُّكُمْ}، وهو استفهام إنكاري، أي ليس العهد بوعد الله إياكم بعيداً. والمراد بطول العهد طول المدّة، أي بُعدها، أي لم يبعد زمن وعد ربّكم إياكم حتى يكون لكم يأس من الوفاء فتكفروا وتكذّبوا مَن بلغكم الوعد وتعبدوا رباً غير الذي دعاكم إليه مَن بلغكم الوعد فتكون لكم شبهة عذر في الإعْراض عن عبادة الله ونسيان عهده.
والعهد: معرفة الشيء وتذكّره، وهو مصدر يجوز أن يكون أطلق على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق، أي طال المعهود لكم وبعُد زمنه حتى نسيتموه وعملتم بخلافه. ويجوز أن يبقى على أصل المصدر وهو عهدهم الله على الامتثال والعمل بالشريعة. وتقدم في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} وقوله {وأوفوا بعهدي} في [سورة البقرة: 27 و40].
و {أَم} إضراب إبطالي. والاستفهام المقدّر بعد {أَمْ} في قوله {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم} [طه: 86] إنكاري أيضاً، إذ التقدير: بل أردتم أن يحل عليكم غضب، فلا يكون كفركم إذن إلا إلقاءً بأنفسكم في غضب الله كحال من يحب أن يحِل عليه غضب من الله.
ففي قوله {أَرَدْتُمْ أن يَحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّكُمْ} استعارة تمثيلية، إذ شبه حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بدون داع إلى ذلك بحال من يحبّ حلول غضب الله عليه؛ إذ الحب لا سبب له.
وقوله {فَأَخْلَفْتُم مَوْعِدِي} تفريع على الاستفهام الإنكاري الثاني. ومعنى {مَوْعِدِي} هو وعد الله على لسانه، فإضافته إلى ضميره لأنه الواسطة فيه.
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)}
{قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا}
وقعت جملة {قَالُوا} غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جواباً عن كلام موسى عليه السلام. وضمير {قَالُوا} عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم، تصدّوا مجيبين عن القوم كلّهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.
وقوله {بمَلْكنا قرأه نافع، وعاصم، وأبو جعفر بفتح الميم. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر الميم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بضم الميم. وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة، ومعناها: بإرادتنا واختيارنا، أي لإخلاف موعدك، أي ما تجرّأنا ولكن غرّهم السامريّ وغلبهم دهماء القوم. وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.
والاستداك راجع إلى ما أفاده نفيُ أن يكون إخلافهم العهدَ عن قصد للضلال. والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حُصول المقصود من التنصّل من تبعة نكث العهد.
ومحل الاستدراك هو قوله فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} وما قبله تمهيد له، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غُلبوا على رأيهم بتضليل السامريّ. فأُدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما مُوّه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب {حُمّلنا بضمّ الحاء وتشديد الميم مكسورة، أي حَمّلنَا منْ حَمّلَنا، أو حَمّلْنا أنفسنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي، ورَوحٌ عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة.
والأوزار: الأثقال. والزينة: الحلي والمصوغ. وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كلّ واحد من جاره القبطي حَلياً فضةً وذهباً وأثاثاً، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج. والمعنى: أنهم خشُوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.
والقذف: الإلقاء. وأُريد به هنا الإلقاء في نار السامريّ للصوغ، كما يومئ إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج. فهذا حكاية جوابهم لموسى عليه السلام مجملاً مختصراً شأنَ المعتذر بعذر وَاهٍ أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.
ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادراً من قائل الكلام المفرّع عليه. والمعنى: فمثلَ قذفنا زينةَ القوم، أي في النّار، ألقى السامريّ شيئاً من زينة القوم فأخرج لهم عجلاً. والمقصود من هذا التشبيه التخلّصُ إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.
وضميرا الغيبة في قوله فَأَخْرَجَ لَهُمْفَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ} وقوله: {فَقَالُوا} عائدان إلى غير المتكلمين.
علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير {فأخرج لهم} التفاتاً قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك.
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم، فيكون اعتراضاً وإخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة. وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار.
والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلاً جسداً. فإنّ فعل (ألقى) يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.
والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حياً أم لا؛ لقوله تعالى: {وألْقينا على كرسيه جسداً} [ص: 34]. قيل: هو شِق طفل ولدتْه إحدى نسائه كما ورد في الحديث. قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب. وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب.
والإخْراج: إظهار ما كان محجوباً. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه.
والخُوار: صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفاً بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.
وصنع لهم السامريّ صنماً على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل «ايبيس»، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خواراً، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم {هذا إلهكم وإله موسى، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنّه أفضل من العجل (إيبيس). وإذ قد كانوا يثبتون إلهاً محجوباً عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة. وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم.
وتفريع {فَنَسِى} يحتمل أن يكون تفريعاً على {فقال هذا إلهكم تفريعَ علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامريّ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي؛ أو تفريعَ معلول على علّة، أي قال ذلك، فكان قوله سبباً في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ.
والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} [طه: 126] وقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5].
وعلى هذا يكون قوله {فَنَسِيَ} من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله {أفلا يرون} [طه: 89] ويكون اعتراضاً. وجعله جمع من المفسرين عائداً إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.
والنسيان: يكون مستعملاً مجازاً في الغفلة.
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}
يجوز أن يكون اعتراضاً وليس من حكاية كلام القوم، فهو معترض بين جملة {فكذلك ألقى السامريّ} [طه: 87] وجملة {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن} [طه: 92، 93] الخ، فتكون الفاء لتفريع كلاممِ متكلممٍ على كلام غيره، أي لتفريع الإخبار لا لتفريع المخبر به، والمخبِر متعدد. ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدّوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.
والاستفهام: إنكاري، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جَرْيهم على موجَب البصر، فأُنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره، أي كيف يدّعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعاً ولا ضراً.
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملةً في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم، ولا سيما بالنسبة لجملة {ولاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراً ولا نَفْعاً} فإن ذلك لا يُرى بالبصر بخلاف {لا يرجع إليهم قولاً. ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلّم وانتفاءِ عدم نفعهم وضرهم، لأنّ الإنكار مسلّط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملكَ لهم ضرّاً ونفعاً.
ومعنى يَرْجِعُ} يَرُدّ، أي يجيب القول، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يَدْعُونه ويُثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يَعِدهم باستجابة، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقّى طِلبة أن يجيب. ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضرّ، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدّو أو مرض. فهم قد شاهدوا عدم غنائه عنهم، ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأنّ حاله مما يُرى.
ولامَ {لَهُمْ} متعلّق ب {يَمْلِكُ} الذي هو في معنى يستطيع كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} في سورة العقود. (76).
وقدم الضرّ على النفع قطعاً لعُذرهم في اعتقاد إلهيته، لأن عذر الخائف من الضرّ أقوى من عذر الراغب في النفع.
و (أنْ) في قوله ألاَّ يَرْجِعُ} مخفّفة من (أنّ) المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر، ف {يرجعُ مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة. وليست (أنْ) مصدرية لأن (أن) المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}
الجملة في موضع الحال من ضمير {أفلا يرون} [طه: 89] على كلا الاحتمالين، أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة، بأنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامريّ، وأن ربّهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعاً فضلاً عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعيّة.
وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنَع لهم العِجل، وأنه لم ينكر عليهم عبادته. وغاية الأمر أنه كان يستهزئ بهم في نفسه، وذلك إفك عظيم في كتابهم.
والمضاف إليه (قبلُ) محذوف دل عليه المقام، أي من قبللِ أن يرجعَ إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه ب {يا قوم تمهيد لمقام النصيحة.
ومعنى إنَّمَا فُتِنْتُم بِه}: ما هو إلاّ فتنة لكم وليس ربّاً، وإن ربّكم الرحمان الذي يرحمكم في سائر الأحوال، فأجابوه بأنّهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرّح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربّهم.
ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب، ثمّ دعاهم إلى معرفة الرب الحق، ثمّ دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولاً بينهم، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع، فما كان منهم إلاّ التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جواباً جازماً.
و {عَلَيهِ} متعلّق ب {عاكفين} قدم على متعلقه لتقوية الحكم، أو أرادوا: لن نبرح نخصه بالعكوف لا نعكف على غيره.
والعكوف: الملازمة بقصد القربة والتعبد، وكان عبَدة الأصنام يَلزمونها ويطوفون بها.
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}
انتقل موسى من محاورة قومه إلى محاورة أخيه، فجملة {قَالَ ياهارون} تابعة لجملة {قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً} [طه: 86]، ولجملة {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} [طاه: 87] وقد وجدت مناسبة لحكاية خطابه هارون بعد أن وقع الفصْل بين أجزاء الحكاية بالجمل المعترضة التي منها جملة {ولقد قال لهم هارون من قبل} [طه: 90] الخ فهو استطراد في خلال الحكاية للإشعار بعذر هارون كما تقدم. ويحتمل أن تكون عطفاً على جملة {ولقد قال لهم هارون} الخ على احتمال كون تلك من حكاية كلام قوم موسى.
علم موسى أن هارون مخصوص من قومه بأنّه لم يعبد العجل، إذ لا يجوز عليه ذلك لأنّ الرسالة تقتضي العصمة، فلذلك خصه بخطاب يناسب حاله بعد أن خاطب عموم الأمة بالخطاب الماضي. وهذا خطاب التوبيخ والتهديد على بقائه بين عبدة الصنم.
والاستفهام في قوله {مَا مَنَعَكَ} إنكاري، أي لا مانع لك من اللحاق بي، لأنه أقامه خليفة عنه فيهم فلما لم يمتثلوا أمره كان عليه أن يرد الخلافة إلى من استخلفه.
و {إذْ رأيْتَهُم} متعلق ب {مَنَعَكَ}. و(أنْ) مصدرية، و(لا) حرف نفي. وهي مؤذنة بفعل محذوف يناسب معنى النفي. والمصدر الذي تقتضيه (أن) هو مفعول الفعل المحذوف. وأما مفعول {مَنَعَكَ} فمحذوف يدلّ عليه {مَنَعَكَ} ويدل عليه المذكور.
والتقدير: ما منَعك أن تتبعني واضطرّك إلى أنْ لا تتبعني، فيكون في الكلام شِبه احتباك. والمقصود تأكيدُ وتشديدُ التوبيخ بإنكار أن يكون لهارونَ مانع حينئذ من اللحاق بموسى ومقتض لعدم اللحاق بموسى، كما يقال: وُجد السبب وانتفَى المانع.
ونظيره قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} في سورة الأعراف (12) فارجعْ إليه.
والاستفهام في قوله أفَعَصَيْتَ أمري} مفرع على الإنكار، فهو إنكار ثان على مخالفة أمره، مشوب بتقرير للتهديد.
وقوله في الجواب {يا ابن أم} نداء لقصد الترقيق والاستشفاع. وهو مؤذن بأن موسى حين وبّخه أخذ بِشَعرِ لحية هارون، ويشعر بأنه يجذبه إليه ليلطمه، وقد صرح به في الأعراف (50) بقوله تعالى: {وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه}
وقرأ الجمهور يا ابن أمَّ بفتح الميم. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بكسر الميم وأصله: يا ابن أمّي، فحذفت ياء المتكلم تخفيفاً، وهو حذف مخصوص بالنداء. والقراءتان وجهان في حذف ياء المتكلّم المضاف إليها لفظ أمّ ولفظ (عَمّ) في النداء.
وعطف الرأس على اللحية لأنّ أخذه من لحيته أشد ألماً وأنكى في الإذلال.
وابنُ الأم: الأخ. وعدل عن (يا أخي) إلى (ابن أم) لأن ذكر الأم تذكير بأقوى أواصر الأخوّة، وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاععِ من لبان واحد.
واللِحية بكسر اللاّم ويجوز فتح اللاّم في لغة الحجاز اسم للشعر النابت بالوجه على موضع اللحيين والذقْن، وقد أجمع القراء على كسر اللاّم من لِحيتي}.
واعتذر هارون عن بقائه بين القوم بقوله {إني خشيت أن تقول فرقتَ، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوْماً وتحميلاً لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور فيقع انشقاق بين القوم وربما اقتتلوا فرأى من المصلحة أن يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون، ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقاً لقول موسى له {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} في سورة الأعراف (142). وهو الذي أشار إليه هنا بقوله ولَمْ تَرْقُب قَوْلي}، فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه.
وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمّة فرجّح الثانية، وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يُستدرك فواتُها الوقتيُّ برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى، بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.
وتضمن هذا قوله {إنِّي خَشِيتُ أن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرائيلَ ولَمْ تَرْقُب قَوْلِي}، وكان اجتهاده ذلك مرجوحاً لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع، كما بيناه في كتاب «أصول نظام الاجتماع الإسلامي». ولذلك لم يكن موسى خَافياً عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعملُ بها كما بينته في كتاب «مقاصد الشريعة».
وفي قوله تعالى: {بين بَني} جناس، وطرد وعكس.
وهذا بعض ما اعتذر به هارون، وحكي عنه في سورة الأعراف (150) أنه اعتذر بقوله {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.}
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)}
التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامريّ الذي كان سبباً في إضلال القوم، فالجملة ناشئة عن قول القوم {فكذلك ألقى السامريّ فأخرج لهم عجلاً} [طه: 88] الخ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلاً بالدّين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل: إن السامريّ لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القِبط أو من كِرمان فاندسّ في بني إسرائيل. ولما كان موسى مبعوثاً لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل، كان اتّباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمراً غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغّب فيه لما فيه من الاهتداء، فلذلك لم يعنفه موسى لأنّ الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.
ومعنى {ما خطبك} ما طَلبك، أي ماذا تخطب، أي تطلب، فهو مصدر. قال ابن عطية: «وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المَكاره، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالى: {فما خَطبكم أيها المرسلون} [الذاريات: 31]، فالمعنى: ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.
وقوله {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه} إلى قوله {فَنَبَذْتُهَا} إن حُملت كلمات (بَصُرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة، وأثر، ونبذتها) على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يُبصروه، أي نظرت ما لم ينظروه، بناء على أن بَصُرت، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين، إلا أن بصُر بالشيء حقيقته صار بصيراً به أو بصيراً بسببه، أي شديد الإبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنّه صيغ من فَعُل بضم العين الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية، قال تعالى: {فبصرت به عن جنب} في سورة القصص (11).
ولما كان المعنى هنا جليّاً عن أمر مرئيّ تعيّن حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصُر الدال على قوّة الإبصار إلى معنى العِلم القويّ بعلاقة الإطلاق عن التقييد، كما في قوله تعالى: {فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]، وكما سميت المعرفة الراسخة بَصيرة في قوله {أدعوا إلى الله على بصيرة} [يوسف: 108]. وحكى في «لسان العرب» عن اللحياني: إنه لبصير بالأشياء، أي عالم بها، وبصرت بالشيء: علمته. وجعل منه قوله تعالى: {بصرت بما لم يبصروا به، وكذلك فسرها الأخفش في نقل لسان العرب} وأثبته الزجاج. فالمعنى: علمتُ ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، كما جعله في «الكشاف» أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان: إما جعل بصُرت مجازاً، وإما جعله حقيقة.
وقرأ الجمهور {يبصروا بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفوقية على أنه خطاب لموسى ومن معه.
والقَبضة: بفتح القاف الواحدة: من القَبض، وهو غلق الراحة على شيء، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول، وضد القبض: البسط.
والنبذ: إلقاء ما في اليد.
والأثر: حقيقته: ما يتركه الماشي من صورة قَدَمِه في الرمل أو التراب. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {قال هم أولاء على أثري} [طه: 84].
وعلى حمل هذه الكلمات على حقائقها يتعين صرف الرسول عن المعنى المشهور، فيتعين حمله على جبريل فإنه رسول من الله إلى الأنبياء. فقال جمهور المفسرين: المراد بالرسول جبريل، ورووا قصة قالوا: إن السامري فتنهُ الله، فأراه الله جبريل راكباً فرساً فوطئ حافر الفرس مكاناً فإذا هو مخضَرّ بالنبات. فعلم السامري أن أثر جبريل إذا ألقي في جماد صار حياً، فأخذ قَبضة من ذلك التراب وصنَع عجلاً وألقى القبضة عليه فصار جسداً، أي حياً، له خوار كخوار العجل، فعبر عن ذلك الإلقاء بالنبذ. وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنّة وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين.
فإذا صُرفت هذه الكلمات الستُّ إلى معان مجازية كان {بصُرت بمعنى علمتُ واهتديت، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحِيل الذي أوجد به خُوار العجل، وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان نبذت} بمعنى أهملت ونقضت، أي كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها بالكفر. وبذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف وهو مَن أوحي إليه بشرع من الله وأُمر بتبليغه.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى. والمعنى: أنه اعترف أمام موسى بصنعِهِ العجل واعترف بأنه جَهِل فَضَلّ، واعتذر بأن ذلك سوّلته له نفسه.
وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على تفسير الجمهور واختاره الفخر.
والتسويل: تزيين ما ليس بزين.
والتشبيه في قوله {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} تشبيه الشيء بنفسه، كقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} [البقرة: 143]، أي كذلك التسويل سولت لي نفسي، أي تسويلاً لا يقبل التعريفَ بأكثر من ذلك.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)}
لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب، مثل الذين قال الله تعالى فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97]، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام، مثل الذي قاتل قتالاً شديداً مع المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إنه من أهل النّار "، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.
فقوله {فَاذْهَبْ} الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة، ويجوز أن يكون كلمة زجر، كقوله تعالى: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنّم جزاؤكم} [الإسراء: 63]، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في «كتابه» ولم يعزه:
فاليوم قَرّبْتَ تهجونا وتشتمنا *** فاذْهَبْ فما وبك لأيام من عجب
ويجوز أن يكون مراداً به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء «الحماسة»:
فإن كنتَ سيدنا سُدْتَنا *** وإن كنت للخَال فاذْهَب فَخَلْ
أما قوله {فَإنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أن تَقُولَ لا مِساس وإنَّ لكَ مَوْعِداً لَن تُخْلفَهُ} فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حَظه في حياته أن يقول لا مِساس، أي سلبه الله الأُنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوساً ووسواساً وتوحشاً، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس، عائشاً وحده لا يترك أحداً يقترب منه، فإذا لقيه إنسان قال له: لا مساس، يخشى أن يمسه، أي لا تمسني ولا أمسك، أو أراد لا اقتراب مني، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله {ولا تمسوها بسوء} [هود: 64]، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة، أي مقاربة بيننا، فكان يقول ذلك، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.
ومِساس بكسر الميم في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّهُ بمعنى مسه، و(لا) نافية للجنس، و{مساس اسمها مبني على الفتح.
وقوله وإنَّ لكَ مَوعِداً} اللام في {لَكَ} استعارة تهكمية، كقوله تعالى: {وإن أسأتم لها} [الإسراء: 7] أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعداً له، أي موعد الحشر والعذاببِ، فالموعد مصدر، أي وعد لا يخلف {وعد الله لا يخلف الله وعده} [الروم: 6]. وهنا توعُّد بعذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {لن تُخلَفه بفتح اللاّم مبنيّاً للمجهول للعلم بفاعله، وهو الله تعالى، أي لا يؤخره الله عنك، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخْلَف وهمزته للوجدان. يقال: أخلف الوعد إذا وجده مُخْلَفاً، وإما على جعل السامريّ هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه، وذلك على طريق التهكم تبعاً للتهكم الذي أفاده لام الملك.
وبعد أن أوعد موسى السامريّ بيّن له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهيّة لأنّه معرّض للامتهان والعَجز، فقال: وانْظُر إلى إلهك الَّذِي ظَلتَ عليهِ عاكِفاً لنُحرِقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ في الْيَممِ نَسْفاً}. فجعَل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بيّن لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات.
وأضاف الإله إلى ضمير السامريّ تهكماً بالسامريّ وتحقيراً له، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدلّ عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه.
وقوله {ظلتَ} بفتح الظاء في القراءات المشهورة، وأصله: ظَلَلْتَ: حذفت منه اللام الأولى تخفيفاً من توالي اللاميْن وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس.
وفعل (ظلّ) من أخوات (كان). وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النّهار، وهو هنا مجاز في معنى (دام) بعلاقة الإطلاق بناء على أنّ غالب الأعمال يكون في النّهار.
والعكوف: ملازمة العبادة وتقدم آنفاً. وتقديم المجرور في قوله {عَلَيْهِ عَاكِفَاً} للتخصيص، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره، أي دون الله تعالى.
وقرأ الجمهور {لنُحرِّقنَّه} بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة. والتحريق: الإحراق الشديد، أي لنحرقنه إحراقاً لا يدع له شكلاً. وأراد به أن يذيبه بالنّار حتى يفسد شكله ويصير قِطَعاً.
وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر {لنُحْرِقنه بضم النّون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء. وقرأه ابن وَردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء لأنّه يقال: أحرقه وحرّقه.
والنسف: تفريقٌ وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب.
وأراد باليمّ البحر الأحمر المسمى بحر القلزم، والمسمى في التوراة: بحْرَ سُوف، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور.
و (ثم) للتّراخي الرتبي، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له.
وأكد ننسِفَنّه بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنّه إله.
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}
هذه الجملة من حكاية كلام موسى عليه السلام فموقعها موقع التذييل لوعظه، وقد التفت من خطاب السامري إلى خطاب الأمّة إعراضاً عن خطابه تحقيراً له، وقصداً لتنبيههم على خطئهم، وتعليمهم صفات الإله الحق، واقتصر منها على الوحدانية وعموم العلم لأن الوحدانية تجمع جميع الصفات، كما قرر في دلالة كلمة التوحيد عليها في كتب علم الكلام.
وأما عموم العلم فهو إشارة إلى علم الله تعالى بجميع الكائنات الشاملة لأعمالهم ليرقبوه في خاصتهم.
واستعير فعل {وَسِعَ} لمعنى الإحاطة التامة، لأن الإناء الواسع يحيط بأكثر أشياء مما هو دونه.
وانتصب {عِلْماً} على أنه تمييز نسبة السعةِ إلى الله تعالى، فيؤول المعنى: وسع علمه كل شيء بحيث لا يضيق علمه عن شيء، أي لا يقصر عن الاطلاع على أخفى الأشياء، كما أفاده لفظ (كل) المفيد للعموم. وتقدم قريب منه عند قوله {وسع كرسيه السموات والأرض} في سورة البقرة (255).
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}
جملة مستأنفة تذييلية أفادت التنويه بقصّة رسالة موسى وما عقبها من الأعمال التي جرت مع بني إسرائيل ابتداء من قوله {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً} [طه: 9، 10]، أي مثل هذا القصص نقصّ عليك من أنباء القرون الماضية. والإشارة راجعة إلى القصة المذكورة.
والمراد بقوله {نَقُصُّ} قَصصنا، وإنما صيغ المضارع لاستحضار الحالة الحسنة في ذلك القصص.
والتشبيه راجع إلى تشبيهها بنفسها كناية عن كونها إذا أريد تشبيهها وتقريبها بما هو أعرف منها في بابها لم يجد مُريد ذلك طريقاً لنفسه في التشبيه إلا أن يشبهها بنفسها، لأنها لا يفوقها غيرها في بابها حتى تقرَّب به، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143)، ونظائره كثيرة في القرآن.
و (مِن) في قوله مِنْ أنْبَاءِ ما قَدْ سَبَقَ} تبعيضية، هي صفة لمحذوف تقديره: قصصاً من أنباء ما قد سبق. ولك أن تجعل (من) اسماً بمعنى بعض، فتكون مفعول {نقصّ.
والأنباء: الأخبار. و(ما) الموصولة ما صدقها الأزمان، لأنّ الأخبار تضاف إلى أزمانها، كقولهم: أخبار أيام العرب، والقرون الوسطى. وهي كلها من حقها في الموصولية أن تعرف ب (ما) الغالبة في غير العاقل. ومعلوم أن المقصود ما فيها من أحوال الأمم، فلو عرفت ب (مَن) الغالبة في العقلاء لصح ذلك وكل ذلك واسع.
وقوله وقَدْ ءاتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} إيماء إلى أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطْع حصة الزمان ولا إيناس السامعين بالحديث إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لبصائر المشركين من العرب إلى موضع الاعتبار من هذه القصة، وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها. فللإيماء إلى هذا قال تعالى: {وقد آتيناك من لدنّا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وِزراً خالدين فيه.
وتنكير ذِكراً} للتعظيم، أي آتيناك كتاباً عظيماً. وقوله {مِن لَّدُنَّا} توكيد لمعنى {ءاتيناك} وتنويه بشأن القرآن بأنه عطية كانت مخزونة عند الله فخص بها خير عباده.
والوِزر: الإثم. وجعل محمولاً تمثيل لملاقاة المشقة من جراء الإثم، أي من العقاب عنه. فهنا مضاف مُقدر وقرينته الحال في قوله {خالدين فِيهَا}، وهو حال من اسم الموصول أو الضمير المنصوب بحرف التوكيد، وما صدقهما، متّحد وإنما اختلف بالإفراد والجمع رعياً لِلَفظ (مَن) مرةً ولمدلولها مرة. وهو الجمع المعرضون. فقال {من أعرَض ثم قال خَالدين.
وجملة وسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} حال ثانية، أي ومسوئين به. و(سَاء) هنا هو أحد أفعال الذم مثل (بئس). وفاعل {ساء ضمير مستتر مُبهم يفسره التمييز الذي بعده وهو حِملاً. والحِمل بكسر الحاء اسم بمعنى المَحمول كالذِّبح بمعنى المذبوح. والمخصوص بالذم محذوف لدلالة لفظ وِزراً عليه. والتقدير: وساء لهم حملاً وِزرهم، وحذف المخصوص في أفعال المدح والذم شائع كقوله تعالى: {ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب} [ص: 30] أي سليمان هو الأواب.
واللاّم في قوله {وسَآءَ لَهُمْ} لام التبيين. وهي مبيّنة للمفعول في المعنى، لأن أصل الكلام: ساءهم الحِمل، فجيء باللام لزيادة تبيين تعلق الذم بحمله، فاللاّم لبيان الذين تعلّق بهم سوء الحِمل.
والحِمل بكسر الحاء المحمول مثل الذبح.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}
{يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ} بدل من {يومَ القيامة} [طه: 101] في قوله {وسَاءَ لهم يوم القيامة حملاً} [طه: 101]، وهو اعتراض بين جملة {وقد ءَاتيناك من لدُنَّا ذِكراً} [طه: 99] وما تبعها وبين جملة {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً} [طه: 113]، تخلّص لذكر البعث والتذكير به والنذارةِ بما يحصل للمجرمين يومئذ.
والصُور: قَرن عظيم يُجعل في داخله سِداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة خرج منه صوت قوي، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب. وتقدم عند قوله تعالى: {قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73).
وقرأ الجمهور يُنفخ بياء الغيبة مبنياً للمجهول، أي ينفخ نافخ، وهو الملك الموكل بذلك. وقرأه أبو عمرو وحده ننفخ بنون العظمة وضم الفاء وإسناد النفخ إلى الله مجاز عقلي باعتبار أنّه الآمر به، مثل: بنى الأمير القلعة.
والمجرمون: المشركون والكفرة.
والزرق: جمع أزرق، وهو الذي لونه الزُّرقة. والزرقة: لون كلون السماء إثر الغروب، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرقُ نارٍ. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله يوم {تبيض وجود وتسود وجوه} [آل عمران: 106]، وقيل: المراد لون عيونهم، فقيل: لأنّ زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدّة زرقة العين لأنّه لون غير معتاد، فيكون كقول بشّار:
وللبخيل على أمواله عِلل *** زُرْق العُيون عليها أوْجه سُودُ
وقيل: المراد بالزُّرق العُمْي، لأن العمى يلوّن العين بزرقة. وهو محتمل في بيت بشّار أيضاً.
والتخافت: الكلام الخفي من خوف ونحوه. وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108].
وجملة {إن لَّبِثْتُم إلاَّ عَشْراً} مبيّنة لجملة {يتخافتون}، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتاً ورفاتاً فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر.
ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلاّ عشرَ ليال فلم يصيروا رفاتاً، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا بردّ الأرواح إلى الأجساد. فالمراد باللبث: المكث في القبور، كقوله تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} في سورة المؤمنين (112، 113)، وقوله {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} في سورة الروم (55).
و (إذ) ظرف، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقةً. والأمثل: الأرجح الأفضل. والمَثالة: الفضل، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز.
والطريقة: الحالة والسنّة والرأي، والمراد هنا الرأي، وتقدم في قوله {ويذهبا بطريقتكم المثلى} [طه: 63] في هذه السورة، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل {إن لبثتم إلا يوماً} بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس.
والذي أراه: أنه يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعاً بعد طول المكث في الأرض طولاً تتلاشى فيه أجزاء الأجسام، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم {إن لبثتم إلا عشراً}، فكان ذلك القول عذراً لأن عشر الليالي تتغيّر في مثلها الأجسام. فكان الذي قال {إن لبثتم إلا يوماً} أقرب إلى رواج الاعتذار. فالمراد: أنه الأمثل من بينهم في المعاذير، وليس المراد أنه مصيب.
وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور، فلما كان كلا التقديرين متوغّلاً في الغلظ مؤذناً بجهل المقدّرين واستِبهام الأمر عليهم دالاً على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قَضّى الأزمانَ الطويلة والأممَ العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة، فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقلِّ قَدْر أوغل في الغلط فعُبر عنه ب {أمْثَلُهُم طَرِيقَةً} تهكماً به وبهم معاً إذ استوى الجميع في الخطأ.
وجملة {نحنُ أعلَمُ بما يَقُولُونَ} معترضة بين فعل {يتخافتون وظرفِية إذْ يَقُولُ أمْثَلُهُم}، أي إنهم يقولون ذلك سراً ونحن أعلم به وإننا نخبر عن قولهم يومئذ خبر العليم الصادق.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}
لما جرى ذكر البعث ووصف ما سينكشف للذين أنكروه من خطئهم في شبهتهم بتعذر إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها ذكرت أيضاً شبهة من شبهاتهم كانوا يسألون بها النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت لا سؤال استهداء، فكانوا يحيلون انقضاء هذا العالم ويقولون: فأيْن تكون هذه الجبال التي نراها. وروي أنّ رجلاً من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم أهل جبال لأن موطنهم الطائف وفيه جبل كَرَى. وسواء كان سؤالهم استهزاء أم استرشاداً، فقد أنبأهم الله بمصير الجبال إبطالاً لشبهتهم وتعليماً للمؤمنين. قال القرطبي: «جاء هنا (أي قوله {فَقُلْ يَنسِفُهَا}) بفاء وكل سؤال في القرآن «قل» (أي كل جواب في لفظ منه مادة سؤال) بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم أنّهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ا. ه».
وأكد {ينسفها نسفاً} لإثبات أنه حقيقة لا استعارة. فتقدير الكلام: ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً... إلى آخره، وننسف الجبال نسفاً، فقل ذلك للذين يسألونك عن الجبال.
والنسف: تفريق وإذراء، وتقدم آنفاً.
والقاع: الأرض السهلة.
والصفصف: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها.
ومعنى {يذرها قاعاً صفصفاً} أنها تندك في مواضعها وتسوى مع الأرض حتى تصير في مستوى أرضها، وذلك يحصل بزلزال أو نحوه، قال تعالى: {إذا رُجّت الأرض رجّاً وبُسّت الجبال بسّاً فكانت هباء منبثّاً} [الواقعة: 4 6].
وجملة {لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً} حال مؤكدة لمعنى {قَاعاً صَفصفاً} لزيادة تصوير حالة فيزيد تهويلها. والخطاب في {لا ترى فيها عوجاً} لغير معين يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم سائليه.
والعوج بكسر العين وفتح الواو: ضد الاستقامة، ويقال: بفتح العين والواو كذلك فهما مترادفان على الصحيح من أقوال أيمة اللّغة. وهو ما جزم به عمرو واختاره المرزوقي في «شرح الفصيح». وقال جماعة: مكسورُ العين يجري على الأجسام غير المنتصبة كالأرض وعلى الأشياء المعنوية كالدين. ومفتوحُ العين يوصف به الأشياء المنتصبة كالحائط والعصا، وهو ظاهر ما في «لسان العرب» عن الأزهري. وقال فريق: مكسور العين توصف به المعاني، ومفتوح العين توصف به الأعيان. وهذا أضعف الأقوال. وهو منقول عن ابن دريد في «الجمهرة» وتبعه في «الكشاف» هنا، وكأنه مال إلى ما فيه من التفرقة في الاستعمال، وذلك من الدقائق التي يميل إليها المحققون. ولم يعرج عليه صاحب «القاموس»، وتعسف صاحب «الكشاف» تأويل الآية على اعتباره خلافاً لظاهرها. وهو يقتضي عدم صحة إطلاقه في كل موضع. وتقدم هذا اللّفظ في أول سورة الكهف فانظره.
والأمْت: النتوء اليسير، أي لا ترى فيها وهدة ولا نتوءاً ما.
والمعنى: لا ترى في مكان فسْقها عوجاً ولا أمتاً.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}
جملة {يتبعون الدّاعي} في معنى المفرعة على جملة {يَنسِفُهَا} [طه: 105]. و{يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق ب {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}. وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم، وليكون تقديمه قائماً مقام العَطف في الوصل، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.
والداعي، قيل: هو المَلك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه. وقيل: الداعي الرسول، أي يتبع كلّ قوم رسولهم.
و {عِوَجَ لَهُ} حال من {الدَّاعِيَ}. واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجْل، أي لا عوج لأجل الداعي، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صَوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يرَاد بالعوج الباطل تعريضاً بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العِوج كقولهم {إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً} [الفرقان: 8]، ونحو ذلك من أكاذيبهم، كما عُرض بهم في قوله تعالى: {الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} [الكهف: 1].
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العِوج.
وبيْن قوله {لا ترى فيها عوجاً} [طه: 107] وقوله {لا عِوَج له} مراعاة النظير، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال {فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 14] كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.
والخشوع: الخضوع، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع؛ فمظهر الخشوع في الصوت: الإسرار به، فلذلك فرع عليه قوله {فلا تسمع إلاّ همساً}.
والهمس: الصوت الخفيّ.
والخطاب بقوله {لا ترى فيها عوجاً وقوله فلا تسمع إلا همساً خطاب لغير معين، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.
وجملة وخَشَعَتتِ الأصوَاتُ} في موضع الحال من ضمير {يتّبعون وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره، وهذا الخشوع من هول المقام.
وجملة يومئذ لا تنفع الشفاعة} كجملة {يومئذ يتبعون الداعي} في معنى التفريع على {وخشعت الأصوات للرحمن}، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلاّ همساً ولا يجرؤون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلاّ بإذنه، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.
واستثناء {مَن أذِنَ لهُ الرحمن} من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعاً، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلاً، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.
واللاّم في {أذِنَ لهُ} لام تعدية فِعل {أَذِنَ}، مثل قوله {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} [الأعراف: 123]. وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم «فيقال لي: سلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشفّع»
وقوله {ورضِيَ له قولاً} عائد إلى {مَن أذن له الرّحمان وهو الشافع. واللاّم الداخلة على ذلك الضمير لام التّعليل، أي رضي الرحمانُ قولَ الشّافع لأجل الشافع، أي إكراماً له كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته، فصار الإذن بالشّفاعة وقبولُها عنواناً على كرامة الشافع عند الله تعالى.
والمجرور متعلق بفعل {رضي}. وانتصب {قولاً على المفعولية لفعل رضي لأن رضي هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.
وجملة يعلَمُ ما بينَ أيديهِم وما خلفهم} مستأنفة بيانية لجواب سؤال من قد يسأل بيان ما يوجب رضى الله عن العبد الذي يأذن بالشفاعة فيه. فبُيّن بياناً إجمالياً بأن الإذن بذلك يجري على ما يقتضيه عِلم الله بسائر العبيد وبأعمالهم الظاهرة، فعبر عن الأعمال الظاهرة بما بَيْن أيديهم لأنّ شأن ما بين الأيدي أن يكون واضحاً، وعبر عن السرائر بما خلفهم لأنّ شأن ما يجعل خلف المرء أن يكون محجوباً. وقد تقدم ذلك في آية الكرسي، فهو كناية عن الظاهرات والخفيات، أي فيأذن لمن أراد تشريفه من عباده المقربين بأن يشفع في طوائف مثل ما ورد في الحديث «يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال حبّة من إيمان»، أو بأن يشفع في حالة خاصة مثل ما ورد في حديث الشفاعة العظمى في الموقف لجميع الناس بتعجيل حسابهم.
وجملة {ولاَ يُحِيطُونَ بهِ عِلْماً} تذييل للتعليم بعظمة علم الله تعالى وضآلة علم البشر، نظير ما وقع في آية الكرسي.
وجملة {وعَنَتتِ الوجوهُ للِحَيّ القيُّوم} معطوفة على جملة {وخَشَعَتتِ الأصواتُ للراحمان}، أي ظهر الخضوع في الأصوات والعناء في الوجوه.
والعناء: الذلة، وأصله الأسر، والعاني: الأسير. ولما كان الأسير ترهقه ذلة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه على سبيل المجاز العقلي، والجملة كلها تمثيل لحال المجرمين الذين الكلام عليهم من قوله {ونحشر المجرمين يومئذ رزْقاً} [طه: 102]، فاللاّم في {الوجوه عوض عن المضاف إليه، أي وجوههم، كقوله تعالى: {فإن الجحيم هي المأوى} [النازعات: 39] أي لهم. وأما وجوه أهل الطاعات فهي وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة.
ويجوز أن يجعل التعريف في {الوجوه على العموم، ويراد بعنت خضعت، أي خضع جميع الناس إجلالاً لله تعالى.
والحيُّ: الذي ثبت له وصف الحياة، وهي كيفية حاصلة لأرقَى الموجودات، وهي قوّة للموجود بها بقاء ذاته وحصول إدراكه أبداً أوْ إلى أمد مّا. والحياة الحقيقية هي حياة الله تعالى لأنّها ذاتية غير مسبوقة بضدها ولا منتهية.
والقيوم: القائم بتدبير النّاس، مبالغة في القَيّم، أي الذي لا يفوته تدْبير شيء من الأمور.
وتقدم {الحي القيوم} في سورة البقرة (255).
وجملة وقد خَابَ من حَمَلَ ظُلْماً}؛ إما معترضة في آخر الكلام تفيد التعليل إن جُعل التعريف في {الوجوه عوضاً عن المضاف إليه، أي وجوه المجرمين. والمعنى: إذ قد خاب كلّ من حمل ظلماً؛ وإما احتراس لبيان اختلاف عاقبة عناء الوجوه، فمن حمل ظلماً فقد خاب يومئذ واستمر عناؤه، ومن عمل صالحاً عاد عليه ذلك الخوف بالأمن والفرح. والظلم: ظلم النفس.
وجملة ومَن يعمل من الصالحاتت وهو مؤمنٌ} الخ: شرطية مفيدة قسيم مضمون جملة {وقَدْ خَابَ من حَمَل ظُلماً}. وصيغ هذا القسيم في صيغة الشرط تحقيقاً للوعد، و{فلا يخاف جواب الشرط، واقترانه بالفاء علامة على أن الجملة غير صالحة لموالاة أداة الشرط، فتعين؛ إما أن تكون (لا) التي فيها ناهية، وإما أن يكون الكلام على نيّة الاستئناف. والتقدير: فهو لا يخاف.
وقرأ الجمهور فلا يخاف بصيغة المرفوع بإثبات ألف بعد الخاء، على أن الجملة استئناف غير مقصود بها الجزاء، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر لأنه مؤمن ويعمل الصالحات. وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم بحذف الألف بعد الخاء، على أن الكلام نهي مستعمل في الانتفاء. وكتبت في المصحف بدون ألف فاحتملت القراءتين. وأشار الطيبي إلى أن الجمهور توافق قوله تعالى: وقد خاب من حمل ظلماً في أن كلتا الجملتين خبرية. وقراءة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من الظلم والهضم، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية.
ومعنى لا يخاف ظلماً} لا يخاف جزاء الظالمين لأنّه آمن منه بإيمانه وعمله الصالحات.
والهضم: النقص، أي لا ينقصون من جزائهم الذي وُعدوا به شيئاً كقوله {وإنّا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص} [هود: 109].
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى النقص الشديد كما في قوله {ولم تَظْلم منه شيئاً} [الكهف: 33]، أي لا يخاف إحباط عمله، وعليه يكون الهضم بمعنى النقص الخفيف، وعطفه على الظلم على هذا التفسير احتراس.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}
عطف على جملة {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} [طه: 99]، والغرض واحد، وهو التنويه بالقرآن. فابتدئ بالتنويه به جزئياً بالتنويه بقصصه، ثمّ عطف عليه التنويه به كليّاً على طريقة تشبه التذييل لما في قوله {أنزلناه قرآناً عربياً} من معنى عموم ما فيه.
والإشارة ب {كذلك} نحوُ الإشارة في قوله {كذلك نقص عليك}، أي كما سمعته لا يُبين بأوضح من ذلك.
و {قرآناً} حال من الضمير المنصوب في {أنزلناه}. وقرآن تسمية بالمصدر. والمراد المقروء، أي المتلو، وصار القرآن علماً بالغلبة على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ معينة متعبّداً بتلاوتها يعجز الإتيان بمثل سورة منها. وسمي قرآناً لأنه نظم على أسلوب تسهل تلاوته. ولوحظ هنا المعنى الاشتقاقي قبل الغلبة وهو ما تفيده مادة قرأ من يسر تلاوته؛ وما ذلك إلاّ لفصاحة تأليفه وتناسب حروفه. والتنكير يفيد الكمال، أي أكمل ما يقرأ.
و {عربياً} صفة {قرآناً}. وهذا وصف يفيد المدح، لأنّ اللغة العربية أبلغ اللّغات وأحسنها فصاحة وانسجاماً. وفيه تعريض بالامتنان على العرب، وتحميق للمشركين منهم حيث أعرضوا عنه وكذبوا به، قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10].
والتصريف: التنويع والتفنين. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون} في سورة الأنعام (46)، وقوله {ولقد صرفنا} في هذا القرآن ليذكروا في سورة الإسراء (41).
وذكر الوعيد هنا للتهديد، ولمناسبة قوله قبله {وقد خاب من حمل ظلماً} [طه: 111].
والتقوى: الخوف. وهي تستعمل كناية عن الطاعة لله، أي فَعلْنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر، أي يُحدث لهم القرآن تذكراً ونظراً فيما يحق عليهم أن يختاروه لأنفسهم.
وعبر ب {يحدث} إيماء إلى أن الذكر ليس من شأنهم قبل نزول القرآن، فالقرآن أوجد فيهم ذكراً لم يكن من قبل، قال ذو الرمة:
ولما جرت في الجزل جرياً كأنه *** سنا الفجر أحدثنا لخالقها شُكراً
و (لعل) للرجاء، أي إن حال القرآن أن يقرّب الناس من التقوى والتذكر، بحيث يمثَّل شأن من أنزله وأمر بما فيه بحال من يرجو فيلفظ بالحرف الموضوع لإنشاء الرجاء. فحرف (لعل) استعارة تبعية تنبئ عن تمثيلية مكنية، وقد مضى معنى (لعل) في القرآن عند قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} في سورة البقرة (21).
وجملة فتعالى الله الملك الحق} معترضة بين جملة {وكذلك أنزلناه} وبين جملة {ولا تعجل بالقرآن}. وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن، وتلقين لشكره على ما بيّن لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً} إلى آخرها...
والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كلّ ذلك ناشئ عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة.
وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن مُلك غيره من المتَسَميّن بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى: {الملك يومئذ الحق للرحمان} [الفرقان: 26]. وفي الحديث: " فيقول الله أنا الملِكُ أيْنَ ملوك الأرض "، أي أحضروهم هل تجدون منهم من ينازع في ذلك، كقول الخليفة معاوية حين خطب في المدينة «يا أهل المدينة أين علماؤكم».
والجمع بين اسم الجلالة واسمه (المَلِك) إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحَقّان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال، وهو الدال على انحصار الإلهيّة وكمالها.
ثمّ أتبع ب (الحق) للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلاّ بما هو مقتضَى الحكمة.
والحق: الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره، وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف.
وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضاً إلى أن القرآن قانون ذلك الملك، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة.
وجملة {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس. فلمّا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صلاح الأمّة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عَقِب سماع تلك الآيات رغبةٌ أو طِلْبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعاً بعِظة الناس وصلاحهم، فعلمه الله أن يكِل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العامَّ.
ومعنى {من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك، أي ما نُفذ إنزاله فإنه هو المناسب. فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر عليهما السلام " ودَدنا أن موسى صبَر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما "
ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته. فعن ابن عبّاس: كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل حرصاً على الحفظ وخشية من النسيان فأنزل الله {ولا تعجل بالقرآن الآية. وهذا كما قال ابن عبّاس في قوله تعالى: {لا تُحرّكْ به لسانك لتعجلَ به} [القيامة: 16] كما في «صحيح البخاري». وعلى هذين التأويلين يكون المراد بقضاء وحيه إتمامه وانتهاؤه، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول.
وعن مجاهد وقتادة أن معناه: لا تعجل بقراءة ما أُنزل إليك لأصحابك ولا تُمْلِه عليهم حتى تتبين لك معانيه.
وعلى هذا التأويل يكون قضاء الوحي تمام معانيه. وعلى كلا التفسيرين يجري اعتبار موقع قوله {وقل رب زدني علماً.
وقرأ الجمهور يُقضى بتحتية في أوله مبنياً للنائب، ورفع وحيُه على أنه نائب الفاعل. وقرأه يعقوب بنون العظمة وكسر الضاد وبفتحة على آخر نقضي وبنصب وحيَه.
وعطف جملة وقل رب زدني علماً} يشير إلى أن المنهي عنه استعجال مخصوص وأن الباعث على الاستعجال محمود. وفيه تلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتبع نهيه عن التعجل الذي يرغبه بالإذن له بسؤال الزيادة من العلم، فإن ذلك مجمع كل زيادة سواء كانت بإنزال القرآن أم بغيره من الوحي والإلهام إلى الاجتهاد تشريعاً وفهماً، إيماء إلى أن رغبته في التعجل رغبة صالحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بَكر حين دخل المسجد فوجد النبي راكعاً فلم يلبث أن يصل إلى الصف بل ركع ودَبّ إلى الصف راكعاً فقال له: «زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ».
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}
لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفاً عند قوله {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} [طه: 99، 100] فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريباً عند قوله {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} [طه: 114]؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرّض له به الشيطان، تحقيقاً لفائدة قوله {وقل رب زدني علماً} [طه: 114]. فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ.
والكلام معطوف على جملة {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق}. وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهاً على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله، كما قال فيها {ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد} [طه: 86]، وفي قصة آدم تفريطاً في العهد أيضاً. وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى {وكذلك سولت لي نفسي} [طه: 96] وقال في هذه {فوسوس إليه الشيطان} [طه: 120]. وفي أن في القصتين نسياناً لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى {فَنَسِيَ} [طه: 16] وقال في هذه القصة {فنسي ولم نجد له عزماً}.
وعليه فقوله {من قبلُ} حُذف ما أضيف إليه (قبلُ). وتقديره: من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر، فإن بناء (قبلُ) على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه. والذي ذكر: إما عهد موسى الذي في قوله تعالى: {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 13] وقوله {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} [طه: 16]؛ وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفاً، وهو ما في قوله {أفطال عليكم العهد} [طه: 86] الآية.
والمراد بالعهد إلى آدم: العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها.
والنسيان: أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمداً، كقوله في قصة السامري {فَنَسي}، فيكون عصياناً، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} الآية، وقد مضت في سورة الأعراف (20، 21). وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقوله {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} [طه: 117] الآية.
والعزم: الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه. وتقدم قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} في سورة البقرة (227). والمراد هنا: العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال، قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159]، وقال {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف: 35]، وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وموسى، وداوود، وعيسى عليهم السلام.
واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلاً لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)}
هذا بيان لجملة {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} [طه: 115] إلى آخرها، فكان مقتضى الظاهر أن لا يكون معطوفاً بالواو بل أن يكون مفصولاً، فوقوع هذه الجملة معطوفة اهتمام بها لتكون قصة مستقلة فتلفت إليها أذهان السامعين. فتكون الواو عاطفة قصة آدم على قصة موسى عطفاً على قوله {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً} [طه: 10]، ويكون التقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وتكون جملة {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} تذييلاً لقصة هارون مع السامريّ وقوله {من قبل} أي من قبل هارون. والمعنى: أنّ هارون لم يكن له عزم في الحفاظ على ما عهد إليه موسى. وانتهت القصة بذلك التذييل، ثمّ عطف على قصة موسى قصة آدم تبعاً لقوله {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} [طه: 99].
{فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}
فَقُلْنَا ياھادم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى}
قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء الشيطان من السجود تقدمت في سورة البقرة وسورة الأعراف، فلنقتصر على بيان ما اختصت به هاته السورة من الأفانين والتراكيب.
فقوله {إن هذا} إشارة إلى الشيطان إشارةً مراداً منها التحقير، كما حكى الله في سورة الأنبياء (36) من قول المشركين {أهذا الذي يذكر آلهتكم}، وفي سورة الأعراف (22) إن الشيطان لكما عدو عبر عنه باسمه.
وقوله عدوٌّ لكَ ولِزَوجِكَ} هو كقوله في الأعراف (22): {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} فذكرت عداوته لهما جملة هنالك وذكرت تفصيلاً هنا، فابتدئ في ذكر متعلّق عداوته بآدم لأنّ آدم هو منشأ عداوة الشيطان لحسده، ثم أتّبع بذكر زوجه لأنّ عداوته إياها تبع لعداوته آدم زوجها، وكانت عداوته متعلّقة بكليهما لاتحاد علّة العداوة، وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من علم الأسماء الذي هو عنوان الفكر الموصل إلى الهدى وعنوان التعبير عن الضمير الموصل للإرشاد، وكل ذلك مما يبطل عمل الشيطان ويشق عليه في استهوائهما واستهواء ذريتهما، ولأنّ الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضيل على آدم فحنق لما أمر بالسجود لآدم.
قوله فَلا يُخرجَنَّكُما من الجنَّةِفَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} تفريع على الإخبار بعداوة إبليس له ولزوجه: بأن نُهيا نهي تحذير عن أن يتسبب إبليس في خروجهما من الجنة، لأنّ العدوّ لا يروقه صلاح حال عدوه. ووقع النهي في صورة نهي عن عمل هو من أعمال الشيطان لا مِنْ أعمال آدم كناية عن نهي آدم عن التأثر بوسائل إخراجهما من الجنّة، كما يقال: لا أعرفنّك تفعل كذا، كناية عن: لا تفعل، أي لا تفعل كذا حتى أعرفه منك، وليس المراد النهي عن أن يبلغ إلى المتكلّم خبر فعل المخاطب.
وأسند ترتب الشقاء إلى آدم خاصة دون زوجه إيجازاً، لأنّ في شقاء أحد الزوجين شقاء الآخر لتلازمهما في الكون مع الإيماء إلى أنّ شقاء الذكر أصل شقاء المرأة، مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وجملة {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} تعليل للشقاء المترتب على الخروج من الجنّة المنهي عنه، لأنه لما كان ممتعاً في الجنة برفاهية العيش من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جوّ مناسب للمزاج كان الخروج منها مقتضياً فقدان ذلك.
و {تضحى} مضارع ضَحِيَ: كرضي، إذا أصابه حر الشمس في وقت الضحى، ومصدره الضحو، وحر الشمس في ذلك الوقت هو مبدأ شدته، والمعنى: لا يصيبك ما ينافر مزاجك، فالاقتصار على انتفاء الضحو هنا اكتفاء، أي ولا تصردَ، وآدم لم يعرف الجوع والعَرى والظمأ والضحْو بالوجدان، وإنما عرفها بحقائقها ضِمن تعليمه الأسماء كلّها كما تقدّم في سورة البقرة.
وجُمع له في هذا الخبر أصولُ كفاف الإنسان في معيشته إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلة، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعاراً بخصائص المكوّن في مقوماته، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار اللبن على الخَمر فقيل له: لو اخترت الخمر لغَوَتْ أمّتك.
وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله {ألا تجوع فيها ولا تعرى، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله لا تظمأ فيها ولا تضحى} لمناسبة بين الجوع والعَرى، في أن الجوع خلوّ باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام، وأن العري خلوّ ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد؛ ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر. فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما، إذ جَمْعُ النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.
ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبيّة طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيّب المتنبي ذكرها المعري في «معجز أحمد» شرحه على «ديوان أبي الطيّب» إجمالاً، وبسطها الواحدي في «شرحه على الديوان». وهي: أن أبا الطيّب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها:
على قَدر أهل العزم تأتي العزائم *** قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف الدولة والروممِ في ثغر الحَدَث:
وقفتَ ما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردَى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً *** ووجهك وضّاح وثَغرك باسم
فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك فلما أنشده هذين البيتين، قال له سيف الدولة: إن صدريْ البيتين لا يلائماننِ عجُزَيْهما وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف *** ووجهُك وضّاح وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة *** كأنك في جفن الردى وهو نائم
وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبَطَّنْ كاعباً ذاتَ خَلْخال
ولم أسْبَأ الزقّ الرويَّ ولم أقل *** لخيليَ كُرّي كَرّة بعد إجفال
ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثّاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سِباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيّب: أدام الله عزّ الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلمُ منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفةَ الحائك لأن البزاز لا يعرف إلاّ جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزليّة إلى الثوبية.
وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت أتبعتُه بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوساً وعينه من أن تكون باكية قلت:
ووجهك وضّاح وثغرك باسم *** لأجمع بين الأضداد في المعنى.
ومعنى هذا أن امرؤ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيّب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.
وجعلت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة تحذيراً منها لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم {وإنك لا تظمأ} بكسر همزة (إنّ) عطفاً للجملة على الجملة. وقرأ الباقون {وأنك بفتح الهمزة عطفاً على ألاّ تجوع عطف المفرد على المفرد، أي إن لك نفي الجوع والعري ونفي الظّمأ والضَحْو.
وقد حصل تأكيد الجميع على القراءتين ب (إن) وبأختها، وبين الأسلوبين تفنّن.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}
قوله {فوسوس إليه الشيطان} تقدم مثله في الأعراف. والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدّة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حسده الشيطان واشتد حسده.
وتعدية فعل (وسوس) هنا بحرف (إلى) وباللام في سورة الأعراف (20) {فوسوس لهما الشيطان} باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلّم، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف، فتعديته بحرف (إلى) هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه، وتعديته باللاّم في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما.
وجملة {قَالَ يَا آدَمِ} [طه: 117] بيان لجملة {فوسوس لهما الشيطان}. وهذه الآية مثال للجملة المبيّنة لغيرها في علم المعاني.
وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي؛ إما بألفاظ نطق بها الشيطان سراً لآدم لئلا يطّلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان، فيكونُ إطلاق القول عليه حقيقة؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا، فيكون إطلاق القول عليه مجازاً باعتبار المشابهة.
و {هَلْ أدُلُّكَ} استفهام مستعمل في العَرض، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته.
والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه.
والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنّة، ولم يُذكر النهي عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة. وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف (20) {قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلّد، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة.
والدلالة: الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها.
وسماها هنا شجرة الخلد} بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يُقبِل عليها، ثم عيّنها له عقب ذلك بما أنبأ به قوله تعالى: {فأكلا منها} [طه: 121].
وقد أفصح هذا عن استقرار محبّة الحياة في جبلة البشر.
والمُلك: التحرر من حكم الغير، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرّف فيها غير مأمور لآمر.
واستعمل البِلى مجازاً في الانتهاء، لأنّ الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
تفريع على ما قبله وثمّ جملة محذوفة دل عليها العرض، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه.
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة. وتقدم معنى {فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} في سورة الأعراف (22).
وقوله وعصى آدم ربه} عطف على {فأكلا منها}، أي أكلا معاً، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة. وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6].
والغواية: ضدّ الرشد، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل، وإثبات العصيان لآدم دليل على أنه لم يكن يومئذ نبيئاً، ولأنّه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك، فالعصيان والغواية يومئذ: الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمرَ كبيرها، وإنما كان شنيعاً لأنّه عصيان أمر الله. !
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لِمنعها، لأنّ ذلك العالَم لم يكن عالَم تكليف.
وجملة {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} معترضة بين جملة {وعصى آدم} وجملة {قال اهبطا منها جميعاً}، لأن الاجتباء والتوبة عليه كانا بعد أن عوقب آدم وزوجه بالخروج من الجنة كما في سورة البقرة، وهو المناسب لترتب الإخراج من الجنة على المعصية دون أن يترتب على التوبة.
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل ببيان مآل آدم إلى صلاح.
والاجتباء: الاصطفاء. وتقدم عند قوله تعالى: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} في الأنعام (87)، وقوله {اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} في النحل (121).
والهداية: الإرشاد إلى النفع. والمراد بها إذا ذكرت مع الاجتباء في القرآن النبوءة كما في هذه الآيات الثلاث.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}
{
استئناف بياني، لأنّ الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالاً عن جزاء ذلك. وضمير قالقَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} عائد إلى {ربه} [طه: 121] من قوله {وعصى آدم ربه} والخطاب لآدم وإبليس.
والأمر في {اهبطا} أمر تكوين، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض إلاّ بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى.
و {جميعاً} يظهر أنه اسم لمعنى كل أفرادِ ما يوصف بجميع، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل: فريق، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره، قال تعالى: {فكيدوني جميعاً} [هود: 55] ونصبه على الحال، وهو هنا حال من ضمير {اهبطا.
وجملة بعضكم لبعض عدوٌّ} حال ثانية من ضمير {اهْبِطَا}. فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها.
والخطاب في قوله {بَعْضُكُم} خطاب لآدم وإبليس. وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان.
{
تفريع جملة فإمَّا يأتينَّكم مني هُدىً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتنى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كذلك أَتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بھايات رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ وأبقى} على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباءٌ بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنّهم أُودِعوا في عالَم خليط خيره بشرّه، وحقائقه بأوهامه، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان مُعَدّاً له من أصل تركيبه.
والخطاب في قوله {يَأتِيَنَّكُم} لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعاراً له بأنه سيكون منه جماعة، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم، فلا يكلفه الله باتباع الهدى، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثاً ينزه عنه فعل الحكيم تعالى. وليس هذا مثلَ أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقَن بأنهم لا يؤمنون، ولم يرد في السنّة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين، وأما الحديث الذي رواه الدارَقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجنّ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي ولكن الله أعانني فأسْلَمَ» فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير، والمراد بالقرين: شيطان قرين، والمراد بالهدى: الإرشاد إلى الخير.
وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي، وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشريّة حتى قال كثير من علماء الإسلام: إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور. وإنه لذلك لم يُعذر أهل الشرك في مُدد الفِتر التي لم تجئ فيها رسل للأمم. وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام، وحررناها في «رسالة النسب النبوي».
وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأوليْن في سورة البقرة.
وأما قوله {فلا يضل} فمعناه: أنه إذا اتبع الهُدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن يعتريه شيء من ضلال، وهذا مأخوذ من دلالة الفِعل في حيّز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحْوال أخرى. وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غَفلات، أو تعارض أدلة، أو انفعال بعادات مستقرة، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلبَ مرضاتهم. وهذا سقراط وهو سيّد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد ربّ الحكمة. وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علاّم الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى، وأيدهم الله، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء، وكوّنهم تكويناً خاصاً مناسباً لما سبق في علمه من مراده منهم، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء، ولا يخافون في الله لومة لائم. وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات.
والشقاء المنفي في قوله {ولا يشقى هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة.
ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى}، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حَاله في الدنيا والآخرة، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة، أي مدّة الحياة.
والضنك: مصدر ضَنُك، من باب كَرُم ضناكة وضنكاً، ولكونه مصدراً لم يتغيّر لفظه باختلاف موصوفه، فوصف به هنا {معيشة وهي مؤنث. والضنك: الضيق، يقال: مكان ضنك، أي ضيق. ويستعمل مجازاً في عسر الأمور في الحياة، قال عنترة:
إن يلحقوا أكرُر وإن يستلحموا *** أشدد وإن نَزلوا بضَنْك أنْزِلِ
أي بمنزل ضنك، أي فيه عسر على نازله. وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله. والمعنى: أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسَه غير مطمئنة.
وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلاً لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك العمى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته، فأعمى الأول مجاز وأعمى الثاني حقيقة.
وجملة قال رب لم حشرتني أعمى} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
وجملة {قال كذلك أتتك} الخ واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف.
وفي هذه الآية دليل على أنّ الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك، فكان ذلك مستقراً في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام: بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب، وقال جماعة من أهل السنّة والمعتزلة قاطبة: إنّ معرفة الله واجبة بالعقل، ولا شك أنّ المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم.
والإشارة في {كذلك أتتك آياتنا} راجعة إلى العمى المضمن في قوله {لم حشرتني أعمى}، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك، وكنت تُعرض عن النظر في الآيات حين تُدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاءً وفاقاً.
وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات، وأن تقدير الأول: ونحشره يوم القيامة أعمى ونَنْساه، أي نُقصيه من رحمتنا. وتقدير الثاني والثالث: قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وعميتَ عنها فكذلك اليوم تنسى وتُحْشَر أعمى.
والنسيان في الموضعين مستعمل كناية أو استعارة في الحرمان من حظوظ الرحمة.
وجملة {وكذلك نجزي من أسرف} الخ تذييل، يجوز أن تكون من حكاية ما يخاطب الله به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها التوبيخ له والتنكيل، فالواوُ عاطفةٌ الجملةَ على التي قبلها. ويجوز أن تكون تذييلاً للقصّة وليست من الخطاب المخاطب به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها موعظة السامعين ليحذروا من أن يصيروا إلى مثل ذلك المصير. فالواو اعتراضية لأن التذييل اعتراض في آخر الكلام، والواو الاعتراضية راجعة إلى الواو العاطفة إلاّ أنها عاطفة مجموع كلام على مجموع كلام آخر لا على بعض الكلام المعطوف عليه.
والمعنى: ومثل ذلك الجزاء نجزي من أسرف، أي كفر ولم يؤمن بآيات ربّه.
فالإسراف: الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبهما.
والمشار إليه بقوله {وكذلك} هو مضمون قوله {فإن له معيشة ضنكاً}، أي وكذلك نجزي في الدنيا الذين أسرفوا ولم يؤمنوا بالآيات.
وأعقبه بقوله {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}، وهذا يجوز أن يكون تذييلاً للقصة وليس من حكاية خطاب الله للذي حشره يوم القيامة أعمى. فالمراد بعذاب الآخرة مقابل عذاب الدنيا المفاد من قوله {فإن له معيشة ضنكاً} الآية، والواو اعتراضية. ويجوز أن تكون الجملة من حكاية خطاب الله للذي يحشره أعمى، فالمراد بعذاب الآخرة العذاب الذي وقع فيه المخاطب، أي أشد من عذاب الدنيا وأبقى منه لأنّه أطول مدة.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)}
تفريع على الوعيد المتقدم في قوله تعالى: {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه} [طه: 127]. جعل الاستفهام الإنكاري التعجيبي مفرعاً على الإخبار بالجزاء بالمعيشة الضنك لمن أعرض عن توحيد الله لأنه سبب عليه لا محالة، تعجيباً من حال غفلة المخاطبين المشركين عما حلّ بالأمم المماثلة لهم في الإشراك والإعراض عن كتب الله وآيات الرسل.
فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى معروف من مقام التعريض بالتحذير والإنذار بقرينة قوله {يمشون في مساكنهم}، فإنه لا يصلح إلا أن يكون حالاً لقوم أحياء يومئذ.
والهداية هنا مستعارة للإرشاد إلى الأمور العقلية بتنزيل العقلي منزلة الحسيّ، فيؤول معناها إلى معنى التبيين، ولذلك عُدي فعلها باللاّم، كما في قوله تعالى: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} في سورة الأعراف (100).
وجملة كم أهلكنا قبلهم من القرون} معلّقة فعل {يهدِ عن العمل في المفعول لوجود اسم الاستفهام بعدها، أي ألم يرشدهم إلى جواب كم أهلكنا قبلهم} أي كثرة إهلاكنا القرون. وفاعل {يهد ضمير دل عليه السياق وهو ضمير الجلالة، والمعنى: أفلم يهد الله لهم جواب كم أهلكنا}. ويجوز أن يكون الفاعل مضمون جملة {كم أهلكنا}. والمعنى: أفلم يُبيّن لهم هذا السؤال، على أن مفعول {يهدِ محذوف تنزيلاً للفعل منزلة اللازم، أي يحصل لهم التبيين.
وجملة يمشون في مساكنهم} حال من الضمير المجرور باللاّم، لأنّ عدم التبيين في تلك الحالة أشد غرابة وأحرى بالتعجيب.
والمراد بالقرون: عاد وثمود. فقد كان العرب يمرون بمساكن عاد في رحلاتهم إلى اليمن ونجران وما جاورها، وبمساكن ثمود في رحلاتهم إلى الشام. وقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بديار ثمود في مسيرهم إلى تبوك.
وجملة {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} في موضع التعليل للإنكار والتعجيب من حال غفلتهم عن هلاك تلك القرون. فحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وللإيذان بالتعليل.
والنُهى بضم النُون والقصر جمع نُهْيَة بضم النون وسكون الهاء: اسم العقل. وقد يستعمل النُهى مفرداً بمعنى العقل. وفي هذا تعريض بالذين لم يهتدوا بتلك الآيات بأنهم عديمو العقول، كقوله {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44].
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}
جملة {ولوْلاَ كلِمَةٌ} عطف على جملة {أفلم يهد لهم} [طه: 128] باعتبار ما فيها من التحذير والتهديد والعبرة بالقرون الماضية، وبأنهم جديرون بأن يحل بهم مثل ما حل بأولئك. فلما كانوا قد غرّتهم أنفسهم بتكذيب الوعيد لِما رأوا من تأخر نزول العذاب بهم فكانوا يقولون {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [سبأ: 29] عقب وعيدهم بالتنبيه على ما يزيل غرورهم بأن سبب التأخير كلمةٌ سبقت من الله بذلك لحِكَم يعلمها. وهذا في معنى قوله {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون} [سبأ: 29، 30].
والكلمة: مستعملة هنا فيما شأنه أن تدل عليه الكلمات اللفظية من المعاني، وهو المسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي الراجع إلى علم الله تعالى بما سيبرزه للناس من أمر التكوين أو أمرِ التشريع، أو الوعظ. وتقدّم قوله تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} في سورة هود (110).
فالكلمة هنا مراد بها: ما عَلمه الله من تأجيل حلول العذاب بهم، فالله تعالى بحكمته أنظر قريشاً فلم يعجل لهم العذاب لأنه أراد أن ينشر الإسلام بمن يؤمن منهم وبذريّاتهم. وفي ذلك كرامة للنبيء محمد بتيسير أسباب بقاء شرعه وانتشاره لأنه الشريعة الخاتمة. وخصّ الله منهم بعذاب السيف والأسر من كانوا أشداء في التكذيب والإعراض حكمة منه تعالى، كما قال: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 33 34].
واللِزام بكسر اللام: مصدر لاَزَم: كالخصام، استعمل مصدراً لفعل لَزِم الثاني لقصد المبالغة في قوة المعنى كأنه حاصل من عدة ناس. ويجوز أن يكون وزن فِعال بمعنى فاعل، مثل لزاز في قول لبيد:
منا لزاز كريهة جذّامها *** وسِداد في قول العَرَجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا *** ليوم كريهة وسِدادِ ثَغْر
أي: لكان الإهلاك الشديد لازماً لهم.
فانتصب لزاماً على أنه خبر (كانَ)، واسمُها ضمير راجع إلى الإهلاك المستفاد من {كم أهلكنا} (128)، أي لكان الإهلاك الذي أُهلك مثله مَن قبلهم من القرون، وهو الاستيصال، لازماً لهم.
{وأجل مسمى} عطف على {كلمة} والتقدير: ولولا كلمة وأجلٌ مسمّى يقع عنده الهلاك لكان إهلاكهم لزاماً. والمراد بالأجل: ما سيُكشف لهم من حلول العذاب: إما في الدنيا بأن حل برجال منهم وهو عذاب البطشة الكبرى يومَ بدر؛ وإما في الآخرة وهو ما سيحل بمن ماتوا كفّاراً منهم. وفي معناه قوله تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً} [الفرقان: 77].
ويظهر أنه شاع في عصر الصحابة تأويل اسم اللزام أنه عذاب توعد الله به مشركي قريش. وقيل: هو عذاب يوم بدر. ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود قال: «خمس قد مضين: الدخان، والقمرُ، والرّومُ، والبطشة، واللِزام {فسوف يكون لزاماً.
يريد بذلك إبطال أن يكون اللِزام مترقباً في آخر الدنيا. وليس في القرآن ما يحوج إلى تأويل اللِزام بهذا كما علمت.
وفرع على ذلك أمر رسول الله بالصبر على ما يقولون من التكذيب وبالوعيد لتأخير نزوله بهم. والمعنى: فلا تستعجل لهم العذاب واصبر على تكذيبهم ونحوه الشامل له الموصول في قوله ما يقولون}.
وأمره بأن يقبل على مزاولة تزكية نفسه وتزكية أهله بالصلاة، والإعراض عما متع الله الكفّار برفاهية العيش، ووعده بأن العاقبة للمتقين.
فالتسبيح هنا مستعمل في الصلاة لاشتمالها على تسبيح الله وتنزيهه.
والباء في قوله {بحمد ربك} للملابسة، وهي ملابسة الفاعل لفعله، أي سبّحْ حامداً ربّك، فموقع المجرور موقع الحال.
والأوقات المذكورة هي أوقات الصلوات، وهي وقت الصبح قبل طلوع الشمس، ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل المراد صلاة العصر. وأما الظهر فهي قوله: {وأطراف النهار} كما سيأتي.
و {منْ} في قوله {من آناء الليل} ابتدائية متعلّقة بفعل (فسبح). وذلك وقتا المغرب والعشاء. وهذا كله من المجمل الذي بيّنته السنّة المتواترة.
وأدخلت الفاء على {فسبح} لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم «ففيهما فجاهد»، أي الأبوين، وقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} وقد تقدم في سورة الإسراء (79).
ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه.
وآناء الليل: ساعاته. وهو جمع إنْي بكسر الهمزة وسكون النون وياء في آخره. ويقال: إنو بواو في آخره. ويقال: إنىً بألف في آخره مقصوراً ويقال: أناء بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره وجَمْع ذلك على آناء بوزن أفْعال.
وقوله وأطراف النهار} بالنصب عطف على قوله {قبل طلوع الشمس}، وطرف الشيء منتهاه. قيل: المراد أول النهار وآخره، وهما وقتا الصبح والمغرب، فيكون من عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض، كقوله {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]. وقيل: المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق، وهو بلوغ سيرها وسْط الأفق المعبر عنه بالزوال، وهما طرفان طرفُ النهاية وطرف الزوال، وهو انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس، كما قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114]. وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معاً لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر وتلك حصة دقيقة.
وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف، كما قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار فالجمع في قوله وأطراف النهار} من إطلاق اسم الجمع على المثنى، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس، كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4].
والذي حسّنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله {ومن آناء الليل فسبح}.
وقرأ الجمهور {لعلّك تَرضى بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل، أي رجاءً لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضَى به نفسُك.
ويجوز أن يكون المعنى: لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقاً بك وبأمتك. ويبيّنه قوله: وجعلت قرّة عيني في الصلاة.
وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم تُرضى بضم التاء أي يرضيك ربّك، وهو محتمل للمعنيين.
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}
أُعقب أمره بالصبر على ما يقولونه بنهيه عن الإعجاب بما يَنْعَم به من تَنعّم من المشركين بأموال وبنين في حين كفرهم بالله بأن ذلك لحِكَم يعلمها الله تعالى، منها إقامة الحجّة عليهم، كما قال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} المؤمنون: 55، 56).
وذكر الأزواج هنا لدلالته على العَائلات والبيوت، أي إلى ما متعناهم وأزواجَهم به من المتع؛ فكلّ زوج ممتّع بمتعة في زوجه مما يحسن في نظر كل من محاسن قرينه وما يقارن ذلك من محاسن مشتركة بين الزوجين كالبنين والرياش والمنازل والخدم.
ومدّ العينين: مستعمل في إطالة النظر للتعجيب لا للإعجاب، شبه ذلك بمد اليد لتناول شيء مشتهى. وقد تقدم نظيره في آخر سورة الحِجْر.
والزَهرة بفتح الزاي وسكون الهاء: واحدة الزهْر، وهو نَوْر الشجر والنباتتِ. وتستعار للزينة المعجِبة المبهتة، لأن منظر الزّهرة يزين النبات ويُعجب الناظر، فزهرة الحياة: زينة الحياة، أي زينة أمور الحياة من اللّباس والأنعام والجنان والنساء والبنين، كقوله تعالى: {فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} [القصص: 60].
وانتصب {زهرة الحياة الدنيا} على الحال من اسم الموصول في قوله {ما متعنا به أزواجاً منهم. وقرأ الجمهور زهْرة بسكون الهاء. وقرأه يعقوب بفتح الهاء وهي لغة.
لنفتنهم} متعلق ب {متعنا}. و(في) للظرفية المجازية، أي ليحصل فتنتهم في خلاله، ففي كلّ صنف من ذلك المتاع فتنة مناسبة له. واللاّم للعلّة المجازية التي هي عاقبة الشيء، مثل قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 68].
وإنما متّعهم الله بزهرة الدنيا لأسباب كثيرة متسلسلة عن نُظُم الاجتماع فكانت لهم فتنة في دينهم، فجُعل الحاصلُ بمنزلة الباعث.
والفتنة: اضطراب النفس وتبلبل البال من خوف أو توقع أو التواء الأمور، وكانوا لا يخلُون من ذلك، فَلشركهم يقذف الله في قلوبهم الغم والتوقع، وفتنتُهم في الآخرة ظاهرة. فالظرفية هنا كالتي في قول سبَرة بن عَمرو الفَقْعسي:
نُحابي بها أكفَاءَنا ونُهينها *** ونشرب في أثمانها ونقامر
وقوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} في سورة النساء (5).
وجملة ورزق ربك خير وأبقى} تذييل، لأن قوله {ولا تمدن عينيك} إلى آخره يفيد أن ما يبدو للناظر من حسن شارتهم مشوب ومبطّن بفتنة في النفس وشقاء في العيش وعقاب عليه في الآخرة، فذيل بأن الرزق الميسّر من الله للمؤمنين خير من ذلك وأبقى في الدنيا ومنفعته باقية في الآخرة لما يقارنه في الدنيا من الشكر.
فإضافة {رزق ربك} إضافة تشريف، وإلا فإن الرزق كلّه من الله، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفرانهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك.
و {خير} تفضيل، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها. فمنها: خير لصاحبه في العاجل شرّ عليه في الآجل، ومنها خير مشوب بشرور وفتن، وخير صَاف من ذلك، ومنها ملائم ملاءَمَةً قوية، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب السيّئة والفتن كالمقرون بالقناعة، فتفضيل الخيرية جاء مجملاً يظهر بالتدبر.
{وأبقى} تفضيل على ما مُتّع به الكافرون لأنّ في رزق الكافرين بقاءً، وهو أيضاً يظهر بقاؤه بالتدبّر فيما يحف به وعواقبه.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)}
ذِكر الأهل هنا مقابل لذِكر الأزواج في قوله {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} [طه: 131] فإن من أهل الرجل أزواجَه، أي مِتْعَتُك ومتعةُ أهلك الصلاةُ فلا تلفتوا إلى زَخَارف الدنيا. وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه.
ومن آثار العمل بهذه الآية في السنّة ما في «صحيح البخاري»: أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبياً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادماً من السبي فلم تجده. فأخبرت عائشةُ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعليّ مضجعَهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولِعَليّ: " ألا أُخبِركُما بخير لكما مما سألتما تسبّحان وتحمدان وتكبران دُبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين فذلك خير لكما من خادم "
وأمَر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصْطبر على الصلاة. والاصطبار: الانحباس، مطاوع صبره، إذا حبسه، وهو مستعمل مجازاً في إكثاره من الصلاة في النوافل. قال تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} [المزمل: 1] الآيات، وقال {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79].
وجملة {لا نسألك رزقاً} معترضة بين التي قبلها وبين جملة {نحن نرزقك} جعلت تمهيداً لهاته الأخيرة.
والسؤال: الطلب التكليفي، أي ما كلفناك إلاّ بالعبادة، لأنّ العبادة شكر لله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاءً آخر. وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش. وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 56 58]، فجملة {نحن نرزقك} مبيّنة لجملة {ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131]. والمعنى: أنّ رزق ربّك خير وهو مسوق إليك.
والمقصود من هذا الخطاب ابتداءً هو النبي صلى الله عليه وسلم ويشمل أهلَه والمؤمنين لأنّ المعلّل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين.
وجملة {والعاقبة للتقوى} عطف على جملة {لا نسألك رزقاً} المعلّل بها أمره بالاصطبار للصلاة، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة.
وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير. فالمعنى: أنّ التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
واللام للملك تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة لأنّ شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة. وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضاً للتقوى.
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم، أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى. فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل.
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}
رجوع إلى التنويه بشأن القرآن، وبأنه أعظم المعجزات. وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً} [طه: 113].
والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله {فاصبر على ما يقولون} [طه: 130] فجيء هنا بشِنَع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله {فاصبر على ما يقولون. فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا: لولا يأتينا بآية من عند ربّه فنؤمن برسالته، كما قال تعالى: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5].
ولولا حرف تحضيض. وجملة {أو لَمْ تأْتِهِم بيِّنَةُ ما في الصُّحففِ الأُولى} في موضع الحال، والواو للحال، أي قالوا ذلك في حال أنّهم أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى. فالاستفهام إنكاري، أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية.
والبيّنة: الحجة.
و {الصحف الأولى: كتب الأنبياء السابقين، كقوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18 19].
والصحف: جمع صحيفة. وهي قطعة من ورَق أو كاغَدَ أو خرقة يكتب فيها. ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب.
ووجه اختيار {الصحف هنا على الكُتب أن في كلّ صحيفة من الكتب علماً، وأن جميعه حَواه القرآن، فكان كلّ جزء من القرآن آية ودليلاً.
وهذه البيّنة هي محمد وكتابُه القرآن، لأنّ الرسول موعود به في الكتب السالفة، ولأنّ في القرآن تصديقاً لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع. وقد جاء به رسول أميّ ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها، قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]، وكانوا لا يحققون كثيراً منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة.
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز، وهو ما قامت به الحجّة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالاً. وهذا مثل قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة} [البينة: 12].
وقرأ نافع، وحفص، وابن جماز عن أبي جعفر {تأتِهم بتاء المضارع للمؤنث. وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأنّ تأنيث بيّنة غير حقيقي، وأصل الإسناد التذكير لأنّ التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام.
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)}
الذي يظهر أن جملة {ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله} معطوفة على جملة {أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى} [طه: 133]، وأنّ المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنّهم ضالّون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوه متوقفاً على أن يأتيهم بآية من ربّه، لأنّ ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بيّن قد حَجَبتْ عن إدراك فساده العادَات واشتغال البال بشؤون دين الشرك، فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلاّ بعد أن أرسل إليهم رسولاً يوقظ عقولهم. فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه، فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سُلّم لهم جدلاً أن ما جاءهم من البيّنة ليس هو بآية، فقد بطل عذرهم من أصله، وهو قولهم {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك}. وهذا كقوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 156]. فالضمير في قوله {من قبله} عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه، أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بيّنة، أو على إتيان البيّنة المأخوذ من {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133].
وفي هذه الآية دليل على أنّ الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى، وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر، وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولاً، وأنّ قريشاً كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم
ومعنى {لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً}: أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض، لأنّ الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة.
و (لولا) حرف تحضيض، مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنّه قد فات وقت الإرسال، فالتقدير: هلاّ كنت أرسلت إلينا رسولاً وانتصب {فنتبع} على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى.
والذل: الهوان. والخزي: الافتضاح، أي الذل بالعذاب. والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام {ولا تخزني يوم يبعثون} [الشعراء: 87].
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}
جواب عن قولهم {لولا يأتينا بآية من ربه} [طه: 133] وما بينهما اعتراض. والمعنى: كل فريق متربص فأنتم تتربصون بالإيمان، أي تؤخرون الإيمان إلى أن تأتيكم آية من ربّي، ونحن نتربص أن يأتيكم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وتفرع عليه جملة {فتربصوا. ومادة الفعل المأمور به مستعملة في الدوام بالقرينة، نحو {يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136]، أي فداوموا على تربصكم.
وصيغة الأمر فيه مستعملة في الإنذار، ويسمى المتاركة، أي نترككم وتربصَكم لأنا مؤمنون بسوء مصيركم. وفي معناه قوله تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30]. وفي ما يقرب من هذا جاء قوله {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} [التوبة: 52].
وتنوين {كلّ تنوين عوض عن المضاف إليه المفهوم من المقام، كقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي:
كلّ له نِية في بُغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والتربص: الانتظار. تفعّل من الربْص، وهو انتظار حصول حدث من خير أو شرّ، وقد تقدّم في سورة براءة.
وفرع على المتاركة إعلامهم بأنهم يعلمون في المستقبل مَن مِن الفريقين أصحاب الصراط المستقيم ومن هم المهتدون. وهذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون، لأنّ مثل هذا الكلام لا يقوله في مقام المحاجّة والمتاركة إلا الموقن بأنه المحق. وفِعل (تعلمون) معلق عن العمل لوجود الاستفهام.
والصراط: الطريق. وهو مستعار هنا للدّين والاعتقاد، كقوله {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
والسوي: فعيل بمعنى مفعول، أي الصراط المسَوّى، وهو مشتق من التسوية.
والمعنى: يحتمل أنهم يعلمون ذلك في الدنيا عند انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، فيكون الذين يعلمون ذلك مَن يبقى من الكفار المخاطبين حين نزول الآية سواء ممن لم يسلموا مثل أبي جهل، وصناديد المشركين الذين شاهدوا نصر الدين يوم بَدر، أو من أسلموا مثل أبي سفيان، وخالد بن الوليد. ومن شاهدوا عزّة الإسلام. ويحتمل أنهم يعلمون ذلك في الآخرة عِلم اليقين.
وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجَة وانطواء بساط المقارعة.
ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنّها تنظر إلى فاتحة السورة. وهي قوله {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى} [طه: 2]، لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلّغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاجَ صدره أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire