
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها. ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج (مصغراً) العَوْفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها: أنتتِ عليّ كظهر أمي.
قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعاً) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال لها: حَرُمتتِ عليه، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال: «ما عندي في أمرككِ شيء»، فقالت: يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً. وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال: «حَرُمتتِ عليه». فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حَرُمتتِ عليه» هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.
وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح. وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت.
وروى الترمذي وأبو داود حديثاً في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهاراً موقناً برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك.
وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره. وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل.
و {قد} أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.
فتعيّن أن حرف {قد} هنا مستعمل في التوقع، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع. قال في «الكشاف»: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها ا ه.
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف {قد} في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب (إنَّ) في قوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [المؤمنون: 27] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد. ولهذا جزم الرضيّ في «شرح الكافية» بأن {قَد} لا بدّ فيها من معنى التحقيق. ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى.
والسماع في قوله: {سمع} معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول {قد} التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها.
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهاً بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، وتقدمت في قوله: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} في سورة [الأنفال: 6].
والاشتكاء: مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه، يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة. اشتكى، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص.
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة: أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74]، وقوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} [المؤمنون: 27] وهو من المسألة الملقبة في «أصول الفقه» بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب. فالتحاور حصول الجواب من جانبين، فاقتضت مراجعةً بين شخصين.
والسماع في قوله: {والله يسمع تحاوركما} مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.
وجملة {والله يسمع تحاوركما} في موضع الحال من ضمير {تجادلك}. وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور.
وجملة {الله سميع بصير} تذييل لجملة {والله يسمع تحاوركما} أي: أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
تتنزل جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم} وما يتم أحكامها منزلةَ البيان لجملة {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] الآية لأن فيها مخرجاً ممَّا لحق بالمجادِلة من ضُر بظهار زوجها، وإبطالاً له، ولها أيضاً موقع الاستئناف البياني لجملة {قد سمع الله} يثير سؤالاً في النفس أن تقول: فماذَا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يَظّهّرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله: يتَظهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {يَظَّاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها على أن أصله: يتظاهرون، فأدغمت التاء كما تقدم، وقرأ عاصم {يُظَاهِرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظَاهَر.
ولم يأت مصدره إلاّ على وزن الفِعال ووزن المفاعلة. يقال: صدر منه ظِهار ومُظاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظَهر، فقراءة نافع قد استُغني فيها عن مصدره بمصْدر مرادفه.
ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنتتِ عليَّ كظهر أمِّي. وكانَ هذا قولاً يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحها وبتّ عصمته. وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته: أنتتِ عليَّ كظهر أمي، يُريد بذلك أنه حرمها على نفسه. كما أن أُمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سَلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حينَ يقربها زوجها بالراحلة، وإثباتُ الظهر لها تخيّل للاستعارة، ثم تشبيهِ ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف. وجُعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أخصُّ أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: قربانككِ كقربان ظهرِ أُمي، أي اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حذف ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي «أنت عليّ كظهر أمّي» إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من التحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
قال المفسرون وأهل اللغة: كان الظهار طلاقاً في الجاهلية يقتضي تأبيد التحريم.
وأحسب أنه كان طلاقاً عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنّه كان معروفاً عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم. وحسبك أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب.
والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم، فإنهم كانوا قبل الإِسلام ممتزجين باليهود متخلّقين بعوائدهم، وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأتَه من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى:
{فأتوا حرثكم أنى شئتم} في سورة [البقرة: 223]. فلذلك جاء في هذه الصيغة لفظ الظَّهر، فجمعوا في هذه الصيغة تغليظاً من التحريم وهي أنها كأُمّه، بل كظهر أمه. فجاءت صيغة شنيعة فظيعة.
وأخذوا من صيغة أنت علي كظهر أمي أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ ظَهر فاشتقّوا منه الفعل بزِنَات متعددة، يقولون: ظاهر من امرأته، وظهّر مثل ضاعف وضعَّف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة. فيقولون: تَظاهر منها وتظَهر، وليس هذا من قبيل النحت نحو: بسمل، وهَلّل، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها.
والخطاب في قوله: منكم} يجوز أن يكون للمسلمين، فيكون ذكر هذا الوصف للتعميم بياناً لمدلول الصلة من قوله: {الذين يظّهّرون} لئلا يُتوهّم إرادة معيّن بالصلة.
و {مِن} بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر. وليس خصوصية لخَولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاَد.
وأما {مِن} في قوله: {من نسائهم} فابتدائية متعلقة ب {يظّهّرون} لتضمنه معنى البعد إذ هو قد كان طلاقاً والطلاق يبعد أحد الزوجين من الآخر، فاجتلب له حرف الابتداء. كما يقال: خرج من البلد.
وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاث من أدوات الربط من أفعال وحروف نحو: أنتتِ عليّ كظهر أمّي، وأنتتِ مِنّي مثل ظهر أمي، أو كوني لي كظهر أمي، أو نحو ذلك.
فأما إذا فُقِد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها. نحو: وجهُك عليّ كظهر أمي. أو كجَنب أمّي، أو كظهر جدتي، أو ابنتي، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة، أو إلحاقها بإحدى النساء من مَحارِمِه بقصد تحريم قربانها، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقواللِ أصحابه وجمهور الفقهاء، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدمَ المؤاخذة.
ولم يُشِر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذٍ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجرداً واضحاً.
والصور عديدة وليست الإِحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير.
وجملة {ما هن أمهاتهم} خبر عن {الذين}، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: أنت عليّ كظهر أمّي، أي لا تصير الزوج بذلك أمًّا لقائل تلك المقالة.
وهذا تمهيد لإِبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومةَ حقيقةٌ ثابتة لا تُصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء، كما قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]:
{ذلكم قولكم بأفواهكم ولذلك أعقب هنا بقوله: إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي فليست الزوجاتُ المظاهَرُ منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنتتِ عليّ كظهر أمي، فلا يحرمْن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثِّر إيجاده.
وجملة {إن أمهاتهم} الخ واقعة موقع التعليل لجملة {ما هن أمهاتهم}، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام. أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل.
وزيد صنيعهم ذَمّاً بقوله: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} توبيخاً لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر، أي قبيح لما فيه من تعريض حُرمة الأم لتخيُّلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عند ما يسمع قول المظاهر: أنتتِ عليّ كظهر أمّي. وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: «كظهر أمي».
وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أوّل من نطقَ بها كان مليئاً بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم: امصُصْ بَظْر أمك في المشاتمة، وهو أيضاً قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله. وقد قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]: {وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم}
وتأكيد الخبر بإنّ} واللاممِ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنُزلوا منزلة من يتردد في كونه منكراً أو زوراً، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعاً في شَرع قديم ولا في شريعة الإِسلام، وأنه شيء وضعَه أهل الجاهلية كما نبه عليه عَدُّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقد تقدم في سورة [الأحزاب: 4].
وبعد هذا التوبيخ عَطف عليه جملة وإن الله لعفو} كناية عن عدم مواخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرَى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحُرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في «اللُّباب» لقوله بعده: {وتلك حدود الله} [المجادلة: 4] أن إيقاع الظهار معصية، ولكونه معصية فسّر ابن عطية قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}. وبذلك أيضاً فسّر القرطبي قوله تعالى: {وتلك حدود الله}. وقال ابن الفرس: هو حرام لا يحلّ إيقاعه. ودَل على تحريمه ثلاثة أشياء:
أحدها: تكذيب الله تعالى من فعل ذلك.
الثاني: أنه سمّاه منكراً وزوراً، والزور الكذب وهو محرّم بإجماع.
الثالث: إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عنه ويغفر ولا يُعْفَى ويُغفر إلاّ على المذنبين.
وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة. ولا حجة في وصفه في الآية بزور، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة.
وعَدّ السبْكي في «جمع الجوامع» الظهارَ من جملة الكبائر وسلمه المحلي. والكاتبون قالوا: لأن الله سماه زوراً والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية، وفيه نظر فإنهم لم يَعدوا الكذب على الإِطلاق كبيرة. وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة.
وأعقب {لعفو} بقوله: {غفور} فقوله: {وإن الله لعفو غفور} في معنى: أن الله عفا عنهم وغفر لهم لأنه عفوّ غفور، يغفر هذا وما هو أشد.
والعفو: الكثير العفو، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم: الذي هو منكر وزور.
والغفور: الكثير الغفران، والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه، فذكر وصف {غفور} بعد وصف (عفوّ) تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما {منكراً} و{زوراً}، بشيْئين هما (عفوّ غفور).
وتأكيد الخبر في قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}.
وقوله: {وإن الله لعفو غفور} يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك.
وقد أَومَأ قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} إلى أن مراد الله من هذا الحكم التوسعة على الناس، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإِسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون. ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سدّ الذريعة، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور}.
وقد قال مالك في «المدونة»: لا يقبّل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعَر. قال الباجي في «المنتقى»: فمن أصحابنا من حمل ذلك على التحريم، ومنهم من حمله على الكراهة لئلا يدعوه إلى الجماع. وبه قال الشافعي وعبد الملك.
قلت: وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع. وقال مالك: لو تظاهر من أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولاً واحداً. وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما.
والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرآة التي يظاهر منها زوجها. وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرّماً على المظاهر زوجَه التي ظاهر منها.
وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجراً ليكفّ الناس عن هذا القول.
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لصاحبه: تعالى أَقامرْك فليتصدقْ " أي من جَرى ذلك على لسانه بعد أن حرم الله الميسر.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}
عطف على جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة، فيكون عطفاً على جملة الخبر من قوله: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2.]
و {ثمّ} عاطفة جملةَ {يعودون} على جملة {يظّهّرون}، وهي للتراخي الرتبي تعريضاً بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعدَ أن انقطع ذلك بالإِسلام. ولذلك علق بفعل {يعودون} ما يدل على قولهم لفظ الظهار.
والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله: الرجوع إلى المكان الذي غادره، وهو هنا عوْد مجازي.
ومعنى {يعودون لما قالوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهِر لا يَكون مظاهراً إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أُولى. وبهذا فسر الفراء. وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس: بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفواً عنه. غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادِلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأوس بن الصامت: «أعتق رقبة» كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار.
ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم، أي لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة. وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبُكير بن الأشج وأبا العالية. وفي «الموطأ» قال مالك في قول الله عز وجل: {والذين يظّهّرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} قال سمعت: أن تفسير ذلك أن يُظاهر الرجل من امرأته ثم يُجمع على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه.
وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليثثِ تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به.
وعليه فقد استعمل فعل {يعودون} في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عوداً بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسِيس معنى، فانتظم من هذا معنى: ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] أي إذا أردتم القيام، وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سَألت فاسأل الله وإذا استعَنْت فاستعنْ بالله ".
وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول: اتقي الله.
فإنه ابن عمك؟ فما برحتُ حتّى نزل القرآن. فقال: «يعتق رقبة». قالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين». قالت: إنه شيخ كبير ما بِه من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكيناً». قالت: ما عنده شيء يتصدق به. فأُتي ساعتئذٍ بعَرَق من تمر قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرَق آخر. قال: «قد أحسنتتِ اذهبي فأَطعمي بهما عنه ستّين مسكيناً وارجعي إلى ابننِ عمّك». قال أبو داود في هذا: إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره.
والمراد «بما قالوا» ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حَرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنتتِ عليّ كظهر أمي، لأن: أنت عليّ. في معنى: قربانك ونحوه عليّ كمِثله من ظهر أمي. ومنه قوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80]، أي مالاً وولداً في قوله تعالى: {وقال لأوتين مالاً وولداً} [مريم: 77]، وقوله: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} [آل عمران: 183] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ففعل القول في هذا وأمثاله ناصبُ لمفرد لوقوعه في خلاف جملة مقولة، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحْريم له. فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به. فالمعنى: ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم.
وفهم من قوله: {ثم يعودون لما قالوا} أن من لم يُرِد العود إلى امرأته لا يخلو حالهُ: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع علَيها طلاقاً آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقاً، وإما أن لا يريد طلاقاً ولا عوداً. فهذا قد صار ممتنعاً من معاشرة زوجه مضِرًّا بها فله حكم الإِيلاء الذي في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة: 226] الآية. وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي. ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال: «كنت امرأ أُصِيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يُتايع بي (بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله: (بي) زائدة للتأكيد) حتى أُصبح، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان». الحديث.
واللام في قوله: {لما قالوا} بمعنى (إلى) كقوله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5] ونظيره قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28]. وأحسب أن أصل اللام هو التعليل، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو:
{بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5]، وما يقع فيه حرف (إلى) من ذلك مجاز بتنزيل من يُفعل الفعل لأجله منزلةَ من يجيء الجائي إليه، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العَوْد فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجّز أو تضميننٍ يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} [الرعد: 2]، أي جَرْيُه المستمر لقصده أجلاً يبلغه. ومنه قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية.
وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} في سورة [الزمر: 5] أنه ليس مثل قوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} في سورة [لقمان: 29] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يَسلك هذه الطريقة إلا ضيّق العطن، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله: إلى أجل} معناه يبلغه، وقوله: {لأجل} يريد لإِدراك أجل تجعل الجري مختصاً بالإِدراك ا ه.
فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم، فيصير متعلَّق فعل {يعودون} مقدّراً يدل عليه الكلام، أي يعودون لما تركوه من العصمة، ويصير الفعل في معنى: يندَمون على الفراق.
وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلةً لما قصده من التحريم، وتأديباً له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع.
وبهذا يكون محمل قوله: {من قبل أن يتماسا} على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237].
ولذلك جعلت الكفارة عِتق رقبة لأنه يَفتدي بتلك الرقبة رقبةَ زوجه.
وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله: {ذلكم توعظون به}. واسم الإِشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرضُ الكفارة تنبيه لكم لتتفَادَوْا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في «جامع الترمذي» وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في «الأحكام».
فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهَر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتُب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجراً ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زناً.
وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة، وهو قول جمهور العلماء. وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين.
وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه.
وقوله: {والله بما تعملون خبير} تذييل لجملة {ذلكم توعظون به}، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}
رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكّها عن فكّ عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حَليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة.
وأعيد قيد {من قبل أن يتماسا} للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كاففٍ في العود إلى الاستمتاع.
{فمن لم يستطع}، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً عوضاً عن الصيام فالإِطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكيناً ألم الجوع عوضاً عما كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذّاته، وإنما حددت بستين مسكيناً إلحاقاً لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمداً بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيباً مناسباً.
وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعاماً فيحمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعارف في فعل طعم. فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين. وعن مالك رحمه الله في ذلك روايتان، إحداهما: أنه مُدّ واحد لكل مسكين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والثانية: أنه مُدَّان أو مَا يقرب من المدّين وهو مدّ بمدّ هشام (بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة) وقدرُه مدَّان إلا ثلثَ مدّ قال: قال أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال: نعم الشبع عندنا مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر (أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة). وقوله هذا يقتضي أن يكون الإِطعام في المدينة مدًّا بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدراً بمدَّين أو بمُدّ وثلثين، وقال: لو أطعم مدّاً ونصفَ مدّ أجزأه. فتعين أن تضعيف المقدار في الإِطعام مراعىً فيه معنى العقوبة على ما صنع، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس. قال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمدّ هشام في كفارة الظهار تغليظاً على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكراً من القول وزوراً فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة.
وقدّر أبو حنيفة الشبع بمدّين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم فلعه راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة، وقدّره الشافعي بمدّ واحد لكل مسكين قياساً على ما ثبت في السنة في كفارة الإِفطار وكفارة اليمين.
ولم يذكر مع الإِطعام قيدُ {من قبل أن يتماسا} اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزَّأ لمثل أيام الصيام. هذا قول جمهور الفقهاء.
وعن أبي حنيفة أن الإِطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسّا.
ثم إن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر، وهذا ما بيّنه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفّر. وهذا قول جمهور الفقهاء، وقال مجاهد: عليه كفّارتان.
وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير، وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته.
ولا يمَسّ امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثِم ووجب عليه إعادة الشهرين. وقال الشافعي: إذا كان الوطء ليلاً لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلاً للصوم، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر.
وأما كون آثماً بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى، فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعدَ فلا بدّ من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء اه.
والمسكين: الشديد الفقر، وتقدّم في سورة براءة.
والمظاهر إن كان قادراً على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفّر انقلب ظهارُه إيلاءً. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإِيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزاً عن خصال الكفارة كلها كان كالعاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحقّ على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه، وأنه يَعود إلى مسيس امرأته، وتبقى الكفارة ذنباً عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار.
{مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ}.
الإِشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكورُ لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيماناً كاملاً بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإِيمان بأعمال أهل الجاهلية، وهذا زيادة في تشنيع الظهار، وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصةِ في عدم الاعتداد به وفي الخلاص منه بالكفارة، لتيسير الإِيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإِشارة، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه وهو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً عِوضاً عن تحرير رقبة كان من عُلّل به تحريرُ رقبة منسحباً على الصيام والإِطعام، وما علّل به الصيام والإِطعام منسحباً على تحرير رقبة، فأفاد أن كلاّ من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكيناً مشتمل على كلتا العلّتين وهما: الموعظة والإِيمان بالله ورسوله.
والإِشارة في {وتلك حدود الله} إلى ما أشير إليه ب {ذلك}، وجيء له باسم إشارةِ التأنيث نظراً للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة [البقرة: 229].
وجملة وللكافرين عذاب أليم} تتميم لجملة {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}، أي: ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإِسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37]، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
{إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ}
لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتراز منهم.
والمحادَّة: المشاقَّة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديَين كأنّه في حَدّ مخالف لحدّ الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عُدْوَة الوادي لأن كلاً من المتعاديَين يشبه من هو من الآخر في عُدوة أخرى.
وقيل: اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلاً من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر.
والمراد بهم الذين يُحَادُون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسَلَ بدين الله فمحادته محادة لله.
والكبت: الخزي والإِذلالُ وفعل {كبتوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبَتون، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] ولأنه مُؤيِّدٌ بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب {إنّ} لأن الكلام لو كان إخباراً عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحاً قوله: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني الذين حادُّوا الله في غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {من قبلهم} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم.
{قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات}.
معترضة بين جملة {إن الذين يحادون الله ورسوله} وجملة {وللكافرين عذاب مهين} أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه.
{بينات وللكافرين عَذَابٌ}.
عطف على جملة {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة.
وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين.
ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإِهانة.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}
يجوز أن يكون {يوم} ظرفاً متعلقاً بالكون المقدّر في خبر المبتدأ من {للكافرين عذاب مهين} [المجادلة: 5.]
ويجوز أن يكون متعلقاً ب {مهين، ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به لفعل تقديره: اذكر تنويهاً بذلك اليوم وتهويلاً عليهم، وهذا كثير في أسماء الزمان التي وقعت في القرآن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة} في سورة [البقرة: 30].
وضمير الجمع عائد إلى الذين يحادون الله ورسوله} و{الذين من قبلهم} [المجادلة: 5]. ولذلك أتى بلفظ الشمول وهو {جميعاً} حالاً من الضمير.
وقوله: {فينبئهم بما عملوا} تهديد بفضح نفاقهم يوم البعث. وفيه كناية عن الجزاء على أعمالهم.
وجملة {أحصاه الله ونسوه} في موضع الحال من (ما عملوا).
والمقصود من الحال هو ما عطف عليها من قوله: {ونسوه} لأن ذلك محلّ العبرة. وبه تكون الحال مؤسسة لا مؤكدة لعاملها، وهو «ينبئهم»، أي علمه الله علماً مفصلاً من الآن، وهم نسوه، وذلك تسجيل عليهم بأنهم متهاونون بعظيم الأمر وذلك من الغرور، أي نسوه في الدنيا بَلْهَ الآخرة فإذا أُنبئوا به عجبوا قال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً} [الكهف: 49].
وجملة {والله على كل شيء شهيد} تذييل. والشهيد: العالم بالأمور المشاهدة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} [المجادلة: 6] إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضاً ليُرِيَ للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة، وهم وإن كانوا يظهرون الإِسلام يحِبّون أن تكون لهم خيفة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهَموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنمّ بنفاقه، فلا يُقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه. وكانوا إذا مرّ بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارّون لعلّ حدثاً حدث من مصيبة، وكان المسلمون يومئذٍ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهّمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدوّ أو عن هزيمة للمسلمين في السرايَا التي يَخرجون فيها، فنزلت هذه الآيات لإِشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون، وأنه مُطلع رسوله على دخيلتهم ليكفُّوا عن الكيد للمسلمين.
فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} الآية [المجادلة: 8].
و {ألم تر} من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يُرى وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول. والتقدير: ألم ترَ الله عالماً.
و {ما في السموات وما في الأرض} يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله: {والله على كل شيء شهيد} [المجادلة: 6] لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات.
وجملة {ما يكون من نجوى ثلاثة} إلى آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله: {إلا هو رابعهم}. وقوله: {إلا هو سادسهم} وقوله: {إلا هو معهم}، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجيّ معهم.
و {ما} نافية. و{يكون} مضارع (كان) التامة، و{من} زائدة في النفي لقصد العموم، و{نجوى} في معنى فاعل {يكون}.
وقرأ الجمهور {يكون} بياء الغائب لأن تأنيث {نجوى} غير حقيقي، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف {من} الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعياً لصورة تأنيث لفظه.
والنجوى: اسم مصدر ناجاهُ، إذا سارَّه. و{ثلاثة} مضاف إليه {نجوى}. أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم، ولا خمسة إلا هو كسادس لهم، ولا أدنى ولا أكثر إلاّ هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى {ثلاثة} وإلى {خمسة} وإلى {ذلك} و{أكثر}.
والمقصود من هذا الخبر الإِنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذي نزلت الآية بسببهم كانوا حلفاً بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود.
وفي «الكشاف» عن ابن عباس: نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو (بننِ عمير من ثقيف) وصفوان بن أمية (السلمي حليف بني أسد) كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أَترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً.
وقال الثالث: إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله. اه. ولم أرَ هذا في غير «الكشاف» ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدّوا في الصحابة وكأنَّ هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم} في سورة [فصلت: 22]. كما في صحيح البخاري} وبين هذه الآية. وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى إنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس.
والاستثناء في {إلا هو رابعهم} {إلا هو سادسهم} {إلا هو معهم} مفرع من أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى: {ما يكون} والجمل التي بعد حرف الاستثناء في مواضع أحوال. والتقدير: ما يكون من نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم.
وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء.
وقرأ الجمهور {ولا أكثر} بنصب {أكثر} عطفاً على لفظ {نجوى}. وقرأه يعقوب بالرفع عطفاً على محل {نجوى} لأنه مجرور بحرف جر زائد.
و (أينما) مركب من (أين) التي هي ظرف مكان و(ما) الزائدة. وأضيف (أين) إلى جملة {كانوا}، أي في أي مكان كانوا فيه، ونظيره قوله: {وهو معكم أينما كنتم} في سورة [الحديد: 4].
(وثمّ} للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالِمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة.
وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم.
وجملة {إن الله بكل شيء عليم} تذييل لجملة {ثم ينبئهم بما عملوا} فأغنت {إنّ} غناء فاء السببية كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير ***
وتأكيد الجملة ب {إن} للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدلّ على أن النهي عن التناجي كان سابقاً على نزول هذه الآية والآيات بعدها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}
{لَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول}.
إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى: {نهوا عن النجوى} مؤذناً بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة: نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا، فنزلت، فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفاً.
وإن كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} [المجادلة: 7] كما تقدم، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}، فالمراد ب {الذين نهوا عن النجوى} هم الذين عنوا بقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] الآية.
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين.
فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.
والاستفهام في قوله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} تَعجِيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه.
والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف {إلى}.
والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10].
ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة، قال الباجي في «المنتقى»: روي أن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بَدء الإِسلام، فلما فشا الإِسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه.
قال ابن العربي في «أحكام القرآن» عند قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} الآية [114] في سورة النساء: إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدهما: الإِخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه، والثاني: النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعدَ هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويَخُص به بعضهم بعضاً فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين اه.
وفي الموطأ} حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد " زاد في رواية مسلم " إلا بإذنه فإن ذلك يُحزنه "
واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة، وجمهور المالكية على أنه للتحريم، قال ابن العربي في «القبس»: فإن كان قوله مخافة أن يُحزنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد انحسم التأويل، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره. وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: لا يتناجى أربعة دون واحد. وأما تناجي الجماعة دون جماعة فإنه أيضاً مكروه أو محرم اه. وحكى النّووي الإِجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التِّين بحديث ابن مسعود قال: فأتيته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأٍ فساررته. وحديثُ عائِشة في قصة فاطمة دالّ على الجواز.
وقال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما.
وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما.
والقول في استعمال {ثم يعودون لما نهوا عنه} في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} [المجادلة: 3].
وكذلك القول في موقع {ثم} عاطفة الجملة.
وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا.
و «ما نهوا عنه» هو النجوى، فعدل عن الإِتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله: {حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم.
وقرأ الجمهور يتناجون} بصيغة التفاعل من نَاجى المزيد. وقرأه حمزة ورويس ويعقوب و{يَنْتَجُون} بصيغة الإِفتعال من نَجا الثلاثي المجرد أي سَارَّ غيره، والافتعال يَرِد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا.
والإِثم: المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام الكفر وذم المسلمين.
و {العدوان} بضم العين: الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين.
ومعصيةُ الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها.
والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نهوا عن النجوى} وقوله: {ومعصيت الرسول} دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهَى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين.
{الرسول وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ}.
بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يخفتون لفظ «السلام عليكم» لأنه شعار الإِسلام ولما فيه من جمع معنى السلامة يَعدلون عن ذلك ويقولون: أَنْعِم صباحاً، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية. نقله ابن عطية عن ابن عباس.
فمعنى {بما لم يحيك به الله}، بغير لفظ السلام، فإن الله حيّاه بذلك بخصوصه في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56]. وحيّاه به في عموم الأنبياء بقوله: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل: 59] وتحية الله هي التحية الكاملة.
وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السّامّ عليك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله: «وعليكم». فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير {جاءوك} على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر.
أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {رَاعِنا} [البقرة: 104] تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} [البقرة: 104] ولم يُرد منه نهي اليهود.
ومعنى {يقولون في أنفسهم يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا عن أنفسكم} [النور: 61]. وقوله: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} [النور: 12]، أي ظن بعضهم ببعض خيراً، أي يقول بعضهم لبعض.
ويجوز أن يكون المراد ب {أنفسهم} مجامعهم كقوله تعالى: {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} [النساء: 63]، أي قل لهم خالياً بهم ستراً عليهم من الافتضاح. وتقدم في سورة النساء [63] و{لولا} للتحضيض، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، أي يقولون ما معناه لو كان محمد نبيئاً لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمهِ {لولا يعذبنا الله} فإن {لولا} للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له.
وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة. وفي الحديث: «لا أحد أصبر على أذىً يسمعه من الله، يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا» وهذا من الغرور قال تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} [فصلت: 23]، ولذلك قال تعالى رداً على كلامهم {حسبهم جهنم} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب.
وأصل {يصلونها} يصْلَون بها، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن.
وقوله: {فبئس المصير} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإِيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال: {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41] ومنه ما حكاه الله عن المشركين {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] أي يأيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإِقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي.
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإِيمان إذا لَقُوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإِيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. ولذلك ضرب الله لهم مثلاً بالنور في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17] ثم قوله: {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} [البقرة: 20]. وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول}، ويكون قوله: {وتناجوا بالبر والتقوى} تنبيهاً على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة.
ويجوز أن تكون خطاباً للمؤمنين الخلّص بأنْ وجه الله الخطاب إليهم تعليماً لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضاً بالمنافقين، مثل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156]، ويكون المقصود من الكلام هو قوله: {وتناجوا بالبر والتقوى} تعليماً للمؤمنين.
والتقييد ب {إذا تناجيتم} يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقاً ولكنهم لما اعتادوا التناجي حُذروا من غوائله، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: «لا تتناجوا بالإِثم والعدوان». وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه وسلم «فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حَق الطريق».
وقرأ الجمهور {فلا تتناجوا} بصيغة التفاعل. وقرأه رويس عن يعقوب وحده {فلا تنتجُوا} بوزن تَنْتَهُوا.
والأمر من قوله: {وتناجوا بالبر} مستعمل في الإِباحة كما اقتضاه قوله تعالى: {إذا تناجيتم}.
والإِثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البرّ فهو ضد الإِثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين.
و {التقوى}: الامتثال، وتقدمت في قوله تعالى: {هدى للمتقين} في سورة [البقرة: 2].
وفي قوله: الذي إليه تحشرون} تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى: الذي إليه تحشرون فيجازيكم.
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلاً لتأكيد النهي عن النجوى.
والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة و{من} ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. وهذه العلة ليست قيداً في الحصر فإن للشيطان عللاً أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية.
وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: {وليس بضارهم شيئاً} ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو من قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42]
وقرأ نافع وحده {ليُحزن} بضم الياء وكسر الزاي فيكون {الذين آمنوا} مفعولاً. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزم فيكون {الذين آمنوا} فاعلاً وهما لغتان.
وجملة {وليس بضارهم} الخ معترضة.
وضمير الرفع المستتر في قوله: {بضارهم} عائد إلى {الشيطان}.
والمعنى: أن الشيطان لا يضرّ المؤمنين بالنجوى أكثر من أنه يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: {لن يضروكم إلى أذى} [آل عمران: 111] أو عائد إلى النجوى بتأويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضارّ المؤمنين لأن أكثره ناشئ عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.
وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: {إلا بإذن الله} استثناء من أحوال والباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون الله قدّر شيئاً من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإِذن أمر التكوين.
وانتصب {شيئاً} على المفعول المطلق، أي شيئاً من الضر.
ووقوع {شيئاً} وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضرّ من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها، والاستثناء في قوله تعالى: {إلا بإذن الله} من عموم {شيئاً} الواقع في سياق النفي، أي لا ضراً ملابساً لإِذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته.
واستعير الإِذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسوّل إليها. وهو معنى قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] فإذا خلى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد من المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين.
وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى في شأن الشيطان {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين} أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أحوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى.
ولهذا ذيل بقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} لأنهم إذا توكلوا على الله توكلاً حقاً بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3].
ويجوز أن يكون عموم {شيئاً} مراداً به الخصوص، أي ليس بضارّهم شيئاً مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل.
والمعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعاً فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله في نفس الآمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}
فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام.
ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخرت تلك عن آيات النجوى العامة إيذاناً بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في النجوى هو مسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، والإِيماءُ إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي.
وأيضاً قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف.
روي عن مقاتل أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصُفّة، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شَماس قد سُبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله: قم يا فلان بعَدد الواقفين من أهل بدر فشقّ ذلك على الذين أقيموا، وغمز المنافقون وقالوا: ما أُنْصِف هؤلاء، وقد أحبّوا القرب من نبيئهم فسَبَقوا إلى مجلسه فأنزل الله هذه الآية تطييباً لخاطر الذين أقيموا، وتعليماً للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، وواجببِ الاعتراف بمزية أهل المزايا، قال الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} [النساء: 32]، وقال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
والخطاب ب {يأيها الذين آمنوا} خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرَهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم
وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم.
والتفسح: التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذا أوجد له فُسحة في مكان، وفسُح المكان من باب كرُم إذا صار فسيحاً. ومادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة مع الجُلاّس.
وتعريف {المجلس} يجوز أن يكون تعريف العهد، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أي إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح على غيره والمجلس مكان الجلوس.
وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده والأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمّى بالروضة وهو ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته.
ويجوز أن يكون تعريف {المجلس} تعريف الجنس. وقوله: {يفسح الله لكم} مجزوم في جواب قوله: {فافسحوا}، وهو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة الله على الممتثل جزاءً على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره فضمير {لكم} عائد على {الذين آمنوا} باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة وإنما الجزاء للذين تعلق بهم الأمر تعلقاً إلزامياً.
وحذف متعلق {يفسح الله لكم} ليعم كل ما يتطلب الناس الإِفساح فيه بحقيقته ومجازه في الدنيا والآخرة من مكان ورزق أو جنة عرضها السماوات والأرض على حسب النيات، وتقديرُه الجزاء موكول إلى إرادة الله تعالى.
وحذف فاعل القول لظهوره، أي إذا قال لكم الرسول: تفسحوا فافسحوا، فإن الله يثيبكم على ذلك.
فالآية لا تدلّ إلاّ على الأمر بالتفسح إذا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يستفاد منها أن تفسح المسلمين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوباً أو ندباً لأنه من المكارمة والإِرفاق. فهو من مكملات واجب التحابّ بين المسلمين وإن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يُضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحابّ وفوائده، وذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة ومضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم والحديث وصفوففِ الصلاة. وذلك قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أنه مجلس خير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أحبكم إليّ ألْيَنُكم مناكب في الصلاة " قال مالك: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابرَ الدهر. يريد أن هذا الحكم وإن نزل في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب ومؤاساة، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية، وأراد مالك ب«نحوها» كل مجلس فيه أمر مهمّ في شؤون الدين فمن حق المسلمين أن يحرصوا على إعانة بعضهم بعضاً على حضوره. وهذا قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعلته هي التعاون على المصالح.
وأفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين.
وقد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذا كثر الزحام فيها.
وقرأ الجمهور {في المجلس} وقرأه عاصم بصيغة الجمع {في المجالس} وعلى كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد وكونها للجنس وأن يكون المقصود مجالس النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكررت أو ما يشمل جميع مجالس المسلمين، وعلى كلتا القراءتين يصح أن يكون الأمر في قوله تعالى: {فافسحوا} للوجوب أو للندب.
وقوله: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية عطف على {إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس}.
و {انشزوا} أمر من نَشَز إذا نهض من مكانه يقال: نَشُزَ يَنشِزُ من باب قَعد وضرَب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقرّ فيه ومنه نشوز المرأة من زوجها مجازاً عن بعدها عن مضجعها. والنشوز: أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص: من وجهٍ على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم وأن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا سيما وقد كان سبب النزول بنشوز، وهو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. ومن المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس وقتادة والحسن «إذا قيل انشزوا إلى الخير وإلى الصلاة فانشزوا».
وقال ابن زيد: إذا قيل انشزوا عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعوا فإن للنبيء صلى الله عليه وسلم حوائج، وكانوا إذا كانوا في بيته أحبّ كل واحد منهم أن يكون آخر عهده برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب النزول لا يخصص العام ولا يقيد المطلق.
وهذا الحكم إذا عسر التفسيح واشتد الزحام والتراصّ فإن لأصحاب المقاعد الحقّ المستقر في أن يستمرّوا قاعدين لا يقام أحد لغيره وذلك إذا كان المقوّم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأوّلية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة نفر لإِعطاء مقاعدهم للبدريين. ومنه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس، وأولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق، ونحو ذلك، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وللرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. وكان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سرين قام الغلام له منه.
وفي «الموطأ» عن مالك بن أبي عامر قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظِلُّ الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلّى الجمعة. فالطنفسة ونحوها حوز المكان لصاحب البساط.
فيجوز لأحد أن يأمر أحداً يبكر إلى المسجد فيأخذ مكاناً يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {انشزوا فانشزوا} بضم الشين فيهما. وقرأه الباقون بكسر الشين. وهما لغتان في مضارع نشز.
وقوله: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} جواب الأمر في قوله: {فانشزوا} فقد أجمع القراء على جزم فعل {يرفعْ} فهو جواب الأمر بهذا. وعد بالجزاء على الامتثال للأمر الشرعي فيما فيه أمر أو لما يقتضي الأمر من علّة يقاس بها على المأمور به أمثالُه مما فيه علة الحكم كما تقدم في قوله تعالى: {فافسحوا}.
ولما كان النشوز ارتفاعاً عن المكان الذي كان به كان جزاؤه من جنسه.
وتنكير {درجات} للإِشارة إلى أنواعها من درجات الدنيا ودرجات الآخرة.
وضمير {منكم} خطاب للذين نودوا ب {يأيها الذين آمنوا}.
و (من) تبعيضية، أي يرفع الله درجات الذين امتثلوا. وقرينة هذا التقدير هي جعل الفعل جزاء للأمر فإن الجزاء مسبب عما رتب عليه بقوله: {منكم} صفة للذين آمنوا. أي الذين آمنوا من المؤمنين والتغايُر بين معنى الوصف ومعنى الموصوف بتغاير المقدَّر وإن كان لفظ الوصف ولفظ الموصوف مترادفين في الظاهر. فآل الكلام إلى تقدير: يرفع الله الذين استجابوا للأمر بالنشوز إذا كانوا من المؤمنين، أي دون من يضمه المجلس من المنافقين. فكان مقتضى الظاهر أن يقال: يرفع الله الناشزين منكم فاستحضروا بالموصول بصلة الإِيمان لما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى علة رفع الدرجات لأجل امتثالهم أمرَ القائل {انشزوا} وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان لإِيمانهم وأن ذلك الامتثال من إيمانهم ليس لنفاق أو لصاحبه امتعاض.
وعطف «الذين أوتوا العلم منهم» عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا.
ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم.
ويجوز أن بعضاً من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته.
هذا تأويل نظم الآية الذي اقتضاه قوة إيجازه. وقد ذهب المفسرون في الإفصاح عن استفادة المعنى من هذا النظم البديع مذاهب كثيرة وما سلكناه أوضح منها.
وانتصب {درجات}، على أنه ظرف مكان يتعلق ب {يرفع} أي: يرفع الله الذين آمنوا رفعاً كائناً في درجات.
ويجوز أن يكون نائباً عن المفعول المطلق ل {يرفع} لأنها درجات من الرفع، أي مرافع.
والدرجات مستعارة للكرامة فإن الرفع في الآية رفعاً مجازياً، وهو التفضيل والكرامة وجيء للاستعارة بترشيحها بكون الرفع درجات. وهذا الترشيح هو أيضاً استعارة مثل الترشيح في قوله تعالى: {ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} [الرعد: 25] وهذا أحسن الترشيح. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى في سورة [الأنعام: 83] {نرفع درجات من نشاء.} وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من أهل التفسير: إن قوله: والذين أوتوا العلم درجات} كلام مستأنف وتَم الكلام عند قوله: {منكم} قال ابن عطية: ونصب بفعل مُضمر ولعله يعني: نُصب {درجات} بفعل هو الخبر عن المبتدأ، والتقدير: جعلهم.
وجملة {والله بما تعملون خبير} تذييل، أي الله عليم بأعمالكم ومختلف نياتكم من الامتثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُكلَمُ أحد في سبيل الله. والله أعلم بمن يكلَم في سبيله» الحديث.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة. والمناسبة هي قوله تعالى: {وتناجوا بالبر والتقوى} [المجادلة: 9]. فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرت عقب آي النجوى لاسْتيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم. وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة. فنقلت عن ابن عباس وقتادة وجابر بن زياد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقلّ الناس من النجوى. وكانت عبارات الأقدمين تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسمَ أسباب النزول، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سبباً واقتصر على قوله: نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقُوا.
والذي يظهر لي: أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به، وجعل سببها ووقتَها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعاً يومياً، وكان الفقراء أيامئذٍ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصُفّة ومعظم المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوماً فيوماً لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي مُعيَّن الفصول، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.
وعن ابن عباس: أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة، وظاهر قوله في الآية التي بعدها {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [المجادلة: 13] أن الزكاة حينئذٍ شَرْع مفرد معلوم، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمناً قليلاً، قيل: إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال: كان ساعة من نهار، أي أنها لم يدم العمل بها طويلاً إن كان الأمر مراداً به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قد نسخه قوله: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} [المجادلة: 13] الآية.
وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب. وفي تفسير القرطبي وأحكام ابن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا قد ألحَفُوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سنداً ومعنى، ومنافاتها مقصد الشريعة. وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة ما في «جامع الترمذي» عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " ما ترى ديناراً؟ قلت: لا يطيقونه، قال فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: فكم؟ قلت: شعيرة " قال الترمذي: أي وزن شعيرة من ذهب. قال: إنك لزهيد فنزلت: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} [المجادلة: 13] الآية. قال: «فبي خفف الله عن هذه الأمة». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه اه.
قلت: علي بن علقمة الأنماري قال البخاري: في حديثه نظر، ووثقه ابن حبان. وقال ابن الفرس: صححوا عن علي أنه قال: «ما عمل بها أحد غيري». وساق حديثاً.
ومحمل قول علي «فبي خفف الله عن هذه الأمة»، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءاً من أجزاء الدينار.
وفعل {ناجيتم} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله: {يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية. وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
والقرينة قوله: {فقدموا بين يدي نجواكم}.
والجمهور على أن الأمر في قوله: {فقدموا} للوجوب، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر، وبقوله: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب. ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال: إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة، وهو عن ابن عباس. وقال فريق: الأمر للندب وهو يناسب قول من قال: إن فرض الزكاة كان سابقاً على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطَل كلَّ حقّ كان واجباً في المال.
و {بين يدي نجواكم} معناه: قبل نجواكم بقليل، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه. شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس.
ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} وقد تقدم في سورة [البقرة: 255].
والإِشارة بذلك خير لكم} إلى التقديم المفهوم من «قدموا» على طريقة قوله:
{اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
وقوله: {ذلك خير لكم وأطهر} تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرغب فيها الراغبون.
و {خير} يجوز أن يكون اسم تفضيل، أصله: أَخْير وهو المزاوج لقوله: {وأطهر} أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تقديم صدقة، وإن كان في كلّ خير. كقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271].
ويجوز أن يكون اسماً على وزن فَعْل وهو مقابل الشَّر، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضى الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة.
وأما {أطهر} فهو اسم تفضيل لا محالة، أي أطْهر لكم بمعنى: أشد طهراً، والطهر هنا معنوي، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى: {تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. ومنه سميت الصدقة زكاة.
وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه.
وعذَر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرةَ التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته.
وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثاً بل لتحصيل علم من أمور الدين.
وأما قوله: {رحيم} فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعاراً له بأن رحمة الله تنفعه.
واتفق العلماء على أن حكم هذه الآية منسوخ.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
نزلت هذه الآية عقب التي قبلها: والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها. وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة، وقد قيل: لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولعل غيره لم يحتج إلى نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب.
فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشقّ عليهم ذلك أو ثقل عليهم.
والإِشفاق توقع حصول مالا يبتغيه ومفعول {أأشفقتم} هو {أن تقدموا} أي من أن تقدموا، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر.
قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية.
والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء.
ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية. وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضاً لم يفعل ذلك.
و (إذ) ظرفية مفيدة للتعليل، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة.
وفاء {فإذ لم تفعلوا} لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي.
وجملة {وتاب الله عليكم} معترضة، والواو اعتراضية. وما تتعلق به (إذ) محذوف دل عليه قوله: {وتاب الله عليكم} تقديره: خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاء {فأقيموا الصلاة} عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. أي فذلك لا تسامح فيه، قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل مما كلفوا به يعفون منه.
وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل {آتوا} مستعملاً في طلب الدوام مثل فعل {فأقيموا}.
واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد (إذْ) ومتعلَّقها كقوله تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فيسقولون هذا إفك قديم} في سورة [الأحقاف: 11]. {و إذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف} في سورة [الكهف: 16].
وجملة والله خبير بما تعملون} تذييل لجملة {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}
هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي تولّيهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك.
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا} [المجادلة: 5] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده.
والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7].
والاستفهام تعجيبي مثل قوله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} [المجادلة: 8].
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولَّوْا قوماً من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإِسلام والمسلمين.
وضمير {ما هم} يحتمل أن يعود إلى {الذين تولوا} وهم المنافقون فيكون جملة {ما هم منكم ولا منهم} حالاً من {الذين تولوا}، أي ما هم مسلمون ولا يهود. ويجوز أن يعود الضمير إلى {قوماً} وهم اليهود. فتكون جملة {ما هم منكم} صفة {قوماً} قوماً ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود.
وكذلك ضمير {ولا منهم} يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع. ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيراً للمعاني مع الإِيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قوماً أجانب عنهم على قوم هم أيضاً أجانب عنهم، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدّين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقاً، أي ما هم منكم أيها المسلمون، وهو المقصود. ويكون قوله: {ولا منهم} على هذا الاحتمال احتراساً وتتميماً لحكاية حالهم، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء مَن ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق.
{ويحلفون على الكذب} عطف على {تولوا} وجيء به مضارعاً للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه. والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين.
{وهم يعلمون} جملة في موضع الحال، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.
وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إذَا كشف لهم بعض مكائدهم، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} [التوبة: 56]، وقوله: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} [التوبة: 62] وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} [التوبة: 74].
قال السدِّي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل (بنون فباء موحدة فمثناة فوقية) كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع أخباره إلى اليهود ويسبّ النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ خبره أو أطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل.
وجملة {إنهم ساء ما كانوا يعملون} تعليل لإِعداد العذاب الشديد لهم، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالاً سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن به المضارع من قوله: {يعملون}.
وبين {يعملون}، و{يعلمون} الجناس المقلوب قَلْب بعض.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة: 14]، لأن ذلك يثير سؤال سائل أن يقول: ما ألجأهم إلى الحلف على الكذب، فأجيب بأن ذلك لقضاء مآربهم وزيادة مكرهم. ويجوز أن تجعل الجملة خبراً ثانياً لأن في قوله: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المجادلة: 15] وتكون داخلة في التعليل.
والجُنّة: الوقاية والسترة، من جَنّ، إذا استتر، أي وقاية من شعور المسلمين بهم ليتمكنوا من صدّ كثير ممن يريد الدخول في الإِسلام عن الدخول فيه لأنهم يختلقون أكذوبات ينسبونها إلى الإِسلام والمسلمين وذلك معنى التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فصدوا عن سبيل الله}.
و «صدُّوا» يجوز أن يكون متعدّياً، وحذف مفعوله لظهوره، أي فصدُّوا الناسَ عن سبيل الله، أي الإِسلام بالتثبيط وإلصاق التهم والنقائص بالدين. ويجوز أن يكون الفعل قاصراً، أي فصدّوا هُم عن سبيل الله ومجيء فعل «صدوا عن سبيل الله» ماضياً مفرعاً على {اتخذوا أيمانهم جنة} مع أن أيمانهم حصلت بعد أن صدوا عن سبيل الله على كلا المعنيين مراعى فيه التفريع الثاني وهو {فلهم عذاب مهين}.
وفُرع عليه {فلهم عذاب مهين} ليعلم أن ما اتخذوا من أيمانهم جُنّة سبب من أسباب العذاب يقتضي مضاعفة العذاب. وقد وصف العذاب أول مرة بشديد وهو الذي يجازون به على تولّيهم قوماً غَضِب الله عليهم وحلفهم على الكذب.
ووصف عذابهم ثانياً ب {مهين} لأنه جزاء على صَدّهم النّاس عن سبيل الله. وهذا معنى شديد العذاب لأجل عظيم الجرم كقوله تعالى: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النمل: 88].
فكان العذاب مناسباً للمقصدين في كفرهم وهو عذاب واحد فيه الوصفان. وكرر ذكره إبلاغاً في الإِنذار والوعيد فإنه مقام تكرير مع تحسينه باختلاف الوصفين.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}
مناسب لقوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 16] فكما لم تَقِهم أيمانهم العذابَ لم تُغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئاً يوم القيامة.
وكان المنافقون من أهل الثراء بالمدينة، وكان ثراؤهم من أسباب إعراضهم عن قبول الإِسلام لأنهم كانوا أهل سيادة فلم يرضوا أن يصيروا في طبقة عموم الناس. وكان عبد الله بنُ أُبيّ ابن سلول مهيّأً لأن يملكوه على المدينة قبيل إسلام الأنصار، فكانوا يفخرون على المسلمين بوفرة الأموال وكثرة العشائر وذلك في السنة الأولى من الهجرة، ومن ذلك قول عبدِ الله بن أُبيّ ابن سلول «لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذل» يريد بالأعز فريقه وبالأذل فريق المسلمين فآذنهم الله بأن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم مما توعدهم الله به من المذلة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61]. وإذا لم تغن عنهم من الله في الدنيا فإنها أجدر بأن لا تغني عنهم من عذاب الآخرة شيئاً، أي شيئاً قليلاً من الإِغناء.
وعن مقاتل: أنهم قالوا: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن. فوالله لنُنْصَرَنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت هذه الآية.
وإقحام حرف النفي في المعطوف على المنفي لتوكيد انتفاء الإِغناء.
ومعنى {من الله} من بأس الله أو من عذابه. وحذفُ مثل هذا كثير في الكلام. وتقديره ظاهر. ويلقب هذا الاستعمال عند علماء أصول الفقه بإضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهر أحوالها نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها.
وجملة {لن تغني عنهم أموالهم} الخ خبر ثالث أو ثان عن (إنّ) في قوله تعالى: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المجادلة: 15].
وجملة {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} في موضع العلة لِجملة {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً}، أي لأنهم أصحاب النار، أي حق عليهم أنهم أصحاب النار. وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه. إذ قد تقرر من قوله: {أعد الله لهم عذاباً شديداً} [المجادلة: 15] ومن قوله: {فلهم عذاب مهين} [المجادلة: 16] أنهم لا محيص لهم عن النار، فكيف تغني عنهم أموالهم وأولادهم شيئاً من عذاب النار. وهذا كقوله تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] أي ما أنت تنقذه من النار. فإن اسم الإِشارة في مثل هذا الموقع ينبه على أن المشار إليه صار جديراً بما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل الأخبار التي أخبر بها عنه قبل اسم الإِشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5].
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}
هذا متصل بقوله: {ويحلفون على الكذب} إلى قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 14- 16] وتقدم الكلام على نظير قوله: {يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا} [المجادلة: 6]. كما سبق آنفاً في هذه السورة، أي اذكر يوم يبعثهم الله.
وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23].
والتشبيه في قوله: {كما يحلفون لكم} في صفة الحلف، وهي قولهم: إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفاً على الكذب، وهم يعلمون، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية [الأنعام: 23] بقوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين.} ومعنى ويحسبون أنهم على شيء} يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئاً عظيماً، أي نافعاً.
و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه كقوله: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5].
وحذفت صفة شيء} لظهور معناها من المقام، أي على شيء نافع، كقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الكُهّان «ليسوا بشيء».
وهذا يقتضي توغّلَهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باققٍ في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثاً في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضاً يوم البعث. وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهاً لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر. وقد تبقى في النفوس الزكية خَلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى: {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} [الزخرف: 67 70]. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله: أو لستَ فيما شئتَ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسْرع وبذر فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثالَ الجبال. وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زَرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً لما فهمه الأعرابي "
وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُبعَث كل عبد على ما مَات عليه " قال عياض في «الإِكمال»: هو عام في كل حالة مات عليها المرء. قال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره. وشارب الخمر بقدحه ا ه. قلت: ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة.
وختم هذا الكلام بقوله تعالى: {ألا إنهم هم الكاذبون} وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله: {ويحلفون على الكذب} [المجادلة: 14]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: {إنهم هم الكاذبون} وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيداً لمفاد الحصر الادعائي، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذا الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرِّفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية.
والاستحواذ: الاستيلاء والغلب، وهو استفعال من حَاذ حَوذاً، إذا حاط شيئاً وصرَّفه كيف يريد. يقال: حَاذ العِير إذا جمعها وسَاقَها غالباً لها. فاشتقُّوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة، ولذلك لا يقال: استحوذ إلا في استيلاء العاقل لأنّه يتطلب وسائل استيلاء. ومثله استولَى. والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في: استجاب.
والأحوذي: القاهر للأمور الصعبة. وقالت عائشة: «كان عمر أحْوذياً نسيج وَحْدِهِ».
وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفاً لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فراراً من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكناً سكوناً ميتاً إثر حركة فيقلب مَدّة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يَقوم ويَبين وأَقام، فحق استحوذ أن يقال فيه: استحَاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي، وله نظائر قليلة منها: استنْوَق الجمل، وأَعْول، إذ رفع صوته. وأَغْيَمَت السماء واستَغْيَل الصبيّ، إذا شرب الغَيْل وهو لبن الحامل. وقال أبو زيد: التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله. وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ {استحاذ عليهم الشيطان}. وقال الجوهري: تصحيح هذا الباب كله مطرد. وقال في «التسهيل»: يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل: استنوق الجَمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس.
وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى: {قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} في سورة [النساء: 141]، فضُم هذا إلى ذاك.
والنسيان مراد منه لازمه وهو الإِضاعة وتركُ المنسي، لقوله تعالى: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126].
والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل. وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته، أي مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة. والذي لا يَتذكر شيئاً لا يتوجه إلى واجباته.
وجملة {أولئك حزب الشيطان} نتيجة وفذلكة لقول: {استحوذ عليهم الشيطان} فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه.
واسم الإِشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان.
وجملة {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة {أولئك حزب الشيطان}، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، ولذلك عُدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيهاً على أهمية مضمونها وأنه مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفاً.
وزيد هذا التحذير اهتماماً بتأكيد الخبر بحرف {إن} وبصيغة القصر، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإِنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة.
وإظهار كلمة {حزب الشيطان} دون ضميرهم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل به مستقلة بدلالتها.
وضمير الفصل أفاد القصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنه لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم.
وحزب المرء: أنصاره وجنده ومن يواليهِ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}
موقع هذه الآية بعد ما ذكر من أحوال المنافقين يشبه موقع آية {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} [المجادلة: 5]. فالذين يحادون الله ورسوله المتقدم ذكرهم المشركون المعلنون بالمحادّة. وأما المحادّون المذكورون في هذه الآية فهم المُسرُّون للمحادّة المتظاهرون بالمُوالاة، وهم المنافقون، فالجملة استئناف بياني بينت شيئاً من الخسران الذي قضى به على حزب الشيطان الذي هم في مقدمته. وبهذا تكتسب هذه الجملة معنى بدل البعض من مضمون جملة {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} [المجادلة: 19]، لأن الخسران يكون في الدنيا والآخرة، وخسران الدنيا أنواع أشدُّها على الناس المذلة والهزيمة، والمعنى: أن حزب الشيطان في الأذَلّين والمغلوبين.
واستحضارهم بصلة {إن الذين يحادون الله ورسوله} إظهار في مقام الإِضمار فمقتضى الظاهر أن يقال: إنهم في الأذلين فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إلى الموصولية لإِفادة مدلول الصلة أنهم أعداء لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإفادة الموصول تعليل الحكم الوارد بعده وهو كونهم أذلِّين لأنهم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعداء الله القادر على كل شيء فَعدوُّه لا يكون عزيزاً.
ومفاد حرف الظرفية أنهم كائنون في زمرة القوم الموصوفين بأنهم أذلُّون، أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلُّون، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال: أولئك هم الأذّلون.
واسم الإِشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإِشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإِشارة مثل {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وتقدم الكلام على {يحادون الله ورسوله} في أوائل هذه السورة [5].
وجملة كتب الله لأغلبن} علة لجملة {أولئك في الأذلين} أي لأن الله أراد أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم غالباً لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغلبها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادته وإرادة الله لا يغيّرها شيء، والإِرادة تجري على وفق العلم ومجموع توارد العلم والإِرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء. وهو المعبر عنه هنا ب {كتب الله} لأن الكتابة استعيرت لمعنى: قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإِخلال به فإنه يكتب لكِي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه.
فثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقواماً يحادُّونه بطريق برهاني.
فجملة {لأغلبن} مصوغة صيغة القول ترشيحاً لاستعارة {كتب} إلى معنى قضى وقدر. والمعنى: قضى مدلول هذه الجملة، أي قضى بالغلبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله. والمراد: الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد. وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.
وجملة {إن الله قوي عزيز} تعليل لجملة {لأغلبن} لأن الذي يغالب الغالب مغلوب. قال حسان:
زعمت سَخينةُ أنْ ستغلبُ ربّها *** وليُغْلَبَنّ مُغالب الغلاّب
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَآدُّونَ مَنْ}.
كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ورُويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها.
وافتتاح الكلام ب {لا تجد قوماً} يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها. فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم، من قبيل قولهم: لا أَرَيَنَّك هاهنا، أي لا تحضر هنا.
ومنه قوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] أراد بما لا يكون، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجوداً، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة. وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذٍ مكشوفاً والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة. فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستوراً في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر.
والمُوادّة أصلها: حصول المودّة في جانبين. والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ.
وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يقل الله هنا {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28]، لأن المودة من أحوال القلب فلا تُتَصور معها التقية، بخلاف قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلى قوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28].
وقولُه: {ولو كانوا آباءهم} إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.
ثم إن الذي يُحَادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوةٍ دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى:
{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 9] ولم يرخَّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} [آل عمران: 28].
وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شَرّه عن المسلمين، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8].
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 8] وأن لكل منهما حالتها.
ف {لو} وصلية وتقدم بيان معنى {لو} الوصلية عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره.
وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن أهل الإِيمان الكامل لا يوادُّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله بخرق سياج شريعته عمداً والاستخفاف بحرمات الإِسلام، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبئ عن ضُعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإِعراض عن أدلة الاعتقاد الحق، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإِسلامي الحق. فعن الثوري أنه قال: كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجَور. وعن مالك: لا تجالِسْ القدرية وعَادِهم في الله لقوله تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}.
وقال فقهاؤنا: يجوز أو يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة.
وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصفٌ من نوع المعنى ذي الحكم الثابت. وهذا يرجع إلى أنواع من الشبَه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه.
وقد استدل أيمة الأصول على حُجِّيّة الإِجماع بقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم}
[النساء: 115] مع أن مهيع الآية المحْتج بها إنما هو الخروج عن الإِسلام ولكنهم رأوا الخروجَ مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلِّهم فيه شَبه اتّباع غير سبيل المؤمنين.
{عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ}.
الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقاً وآنفاً، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذاباً شديداً ولهم عذاب مهين، وأنهم حزب الشيطان، وأنهم الخاسرون، مما يَستشرِف بعده السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك. وهم المؤمنون الذين لا يوادُّون من حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
وكتابة الإِيمان في القلوب نظير قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21]. وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره، أي هم المؤمنون حقاً الذين زين الله الإِيمان في قلوبهم فاتّبعوا كمالَه وسلكوا شُعبه.
والتأييد: التقوية والنصر. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} في سورة [البقرة: 87]، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإِتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه.
والروح هنا: ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره، وروحٌ من الله: عنايته ولطفه. ومعاني الروح في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} في سورة [الإِسراء: 85]، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها.
ورضَى الله عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مِثل الماضي في قوله: وأيدهم}، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه، وحاصل في المستقبل بنوال رضى الله عنهم ونوال نعيم الخلود.
وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله: {ويدخلهم جنات} فلأنه الأصل في الاستقبال. وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}.
وقوله: {أولئك حزب الله} إلى آخره كالقول في {أولئك حزب الشيطان} [المجادلة: 19]. وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم. وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإِسلام.
وشتان بين الحزبين. فالخسران لحزب الشيطان، والفلاح لحزب الله تعالى.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض.
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها.
والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد (1)، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها: {ما في السماوات والأرض وها هنا قال: ما في السموات وما في الأرض} لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو {ما} الموصولة التي صلتها قوله: {في السماوات والأرض. وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمنة الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم، وهي ما} الموصولة الثانية التي صلتها {في الأرض}، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} بفعل المضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)}
{هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاَِوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخرُجُواْ}.
يجوز أن تجعل جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا} إلى آخرها استئنافاً ابتدائياً لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره، ولِمَا يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإِخراج العجيب.
ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهل أحوالهما.
ويجوز أن تجعل مبينة لجملة {وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 1] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته.
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير.
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإِخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير.
ولذلك فَجملة {ما ظننتم أن يخرجوا} تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر.
وجملة {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} عطف على العلة، أي وهم ظنوا أن المسلمين لا يغلبونهم. وإنما لم يقل: وظنوا أن لا يُخرَجوا. مع أن الكلام على خروجهم، من قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا} فعدل عنه إلى {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن. والتقدير: وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم، أي ظنوا ظناً قوياً معتمدين على حصونهم.
والمراد ب {الذين كفروا من أهل الكتاب} بنو النضير (بوزن أمير) وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قُريظة، ويهودُ خَيبر، وكلهم من ذرية هَارون عليْه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة: الكاهنان لأن كل فريق منهما من ذرية هارون وهو كاهن الملة الإسرائيلية، والكهانة: حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه.
وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصَّروا في قتالهم وتوفي موسى قريباً من ذلك. فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحَا فقال لهم قومهم: أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قُرى حول يثرب (المدينة) وبنوا لأنفسهم حصُوناً وقرية سَموها الزَّهرة. وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائها في آخر تفسير الآية، وصاروا أهل زرع وأموال. وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عَادِيا، وكَعب بن الأشرف، وابن أبي الحُقَيق، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حِلف ومعاملة، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر.
ووسموا ب {الذين كفروا} لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسجيلاً عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وُصفوا ب {الذين كفروا} في قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89] إلى قوله: {عذاب مهين} في سورة [البقرة: 90].
وعليه فحرف من} في قوله: {من أهل الكتاب} بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود، فوصفوا ب {من أهل الكتاب} لئلا يظن أن المراد ب {الذين كفروا} المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيُظنّ أن الكلام وعيد.
وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكره جمهور أهل التفسير. أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاؤوا فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، ويقال: إن مصالحتهم كانت عقبَ وقعة بَدر لمَّا غلَب المسلمون المشركين لأنهم توسّموا أنه لا تهزم لهم راية، فلما غُلب المسلمون يوم أُحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر (كدأب اليهود في موالاة القوي) فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكباً إلى مكة فحَالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عوناً لهم على مقاتلة المسلمين، فلما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرَ محمدَ بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير.
وذكر ابن إسحاق سبباً آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عَمرو بن أمية الضَّمْري أسيراً عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل. فلما كان راجعاً إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلا مع عمرو بن أمية، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد قتلت قتيلين ولآدِيَنَّهُمَا»، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حِلف، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم.
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسيْر إليهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يَخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودسّ إليهم عبد الله بنُ أُبيّ ابنُ سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال: إنْ قاتلَكم المسلمون فنحن معكم ولننصُرنَّكم وإن أخرجتم لَنَخُرجَنّ معكم فَدَرِّبُوا على الأزقة (أي سُدُّوا منافذ بعضها لبعض ليكون كلّ درب منها صالحاً للمدافعة) وحصِّنوها، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أُبيّ ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويَحملَ كلّ ثلاثة أبيات منهم حِمْل بعير مما شاؤوا من متاعهم، فجعلوا يخرّبون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب.
فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن (أريحا) وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحِيرة.
واللام في قوله: {لأول الحشر} لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفاً لعمللٍ مثل قوله تعالى: {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24] أي من وقت حياتي. وقولهم: كتب ليوم كذا. وهي بمعنى (عند). فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم، وهذا إيماء إلى أن الله قَدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. فالتعريف في {الحشر} تعريف العهد.
والحشر: جمع ناس في مكان قال تعالى: {وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم} [الشعراء: 36- 37].
والمراد به هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها، أي جمْعهم للخروج، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تُجمع من متفرق ديار البلاد.
وليس المراد به: حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ «أول» لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه.
وعن الحسن: أنه حمل الآية على حشر القيامة وركّبوا على ذلك أوهاماً في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة «سورة بني النضير» وفي جعل هذا الإِخراج وقتاً لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته إذ قال:
«لا يبقى دينان في جزيرة العرب» وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب. وقيل: وُصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير، فإن اليهود أُجْلُوا من فلسطين مرتين مرة في زمن (بختنصر) ومرة في زمن (طيطس) سلطان الروم وسَلِم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب. فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير.
{يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ}.
أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم.
وكان اليهود يتخذون حصوناً يأوون إليها عندما يغزوهم العدوّ مثل حصون خيبر.
وكانت لبني النضير ستة حصون أسماؤها: الكُتيبة (بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية) والوَطِيح (بفتح الواو وكسر الطاء) والسُّلاَلم (بضم السين) والنَّطَاةُ (بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبهاء تأنيث آخرَه) والوَخْدَة (بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة) وشَقّ (بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف).
ونظم جملة {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} على هذا النظم دون أن يقال: وظَنُّوا أن حصونهم مانعتُهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد {مانعتهم} إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيراً إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومَنَعة، وأن مَنَعة حصونهم هي من شؤون عزتهم.
وفي تقديم {مانعتهم} وهو وصف على {حصونهم} وهو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل في مرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبراً عنه، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منَعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلاً باسم الفاعل وهو {مانعتهم} بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحاً. قال المرزوقي في شرح (باب النسب) قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة:
فإن لم يكن إلا مُعَرَّج ساعة *** قليلاً فإني نافع لي قليلها
يجوز أن يكون (قليلها) مبتدأ و(نافع) خبر مقدم عليه أي لقصد الاهتمام. والجملة في موضع خبر (إنّ) والتقدير: إني قليلها نافع لي.
{الله فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولى}.
تفريع على مجموع جملتي {ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب}.
وتركيب (أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) تمثيل، مُثِّل شأنُ الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عِدة وعُدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها.
وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده} [النور: 39].
والاحتساب: مبالغة في الحسبان، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنَعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.
والقذف: الرمي باليد بقوة. واستعير للحصول العاجل، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية [آل عمران: 151] {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب}
والمعنى: وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام. وقَذْفُ الرعب في قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله، وعطفُه على أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عطف خاص على عام للاهتمام.
والرعب}: شدة الخوف والفزع. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «نصرت بالرعب»، أي برعب أعداء الدين.
وجملة {يخربون بيوتهم} حال من الضمير المضاف إليه {قلوبهم} لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه.
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري.
والإِخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه. والخراب: تهدم البناء.
وقرأ الجمهور {يخربون} بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع: أَخرب. وقرأه أبو عمرو وحْده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع: خَرَّب. وهما بمعنى واحد. قال سيبويه: إن أفعلت وفَعَّلت يتعاقبان نحْو أخربته وخَرّبته، وأفرحته وفرّحته. يريد في أصل المعنى. وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين: أَنزل ونَزّل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلّوا بقعة تركها بنو النضير.
وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير.
فعطف {أيدي المؤمنين} على {بأيديهم} بحيث يصير متعلّقاً بفعل {يخربون} استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لمّا وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة.
فالمعنى: ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل {يخربون} على الحقيقة ووقع تعلق وتعليق {وأيدي المؤمنين} به على اعتبار المجاز العقلي، فالمجاز في التعليق الثاني.
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.
والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة. وقول «القاموس»: هي العجب قصور.
وتقدم في قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} في سورة [يوسف: 111].
والخطاب في قوله: يا أولي الأبصار} موجّه إلى غير معين. ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإِثبات حجّيّة القياس بناء على أنه من الاعتبار.
{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)}
{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا}.
جملة معترضة ناشئة عن جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 2]. فالواو اعتراضية، أي أخرجهم الله من قريتهم عقاباً لهم على كفرهم وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: {ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله} [الحشر: 4] ولو لم يعاقبهم الله بالجلاء لعاقبهم بالقَتل والأسر لأنهم استحقّوا العقاب. فلو لم يقذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا لعاقبهم بجوع الحصار وفتح ديارهم عنوة فعذبوا قتلاً وأسراً.
والمراد بالتعذيب: الألم المحسوس بالأبدان بالقتل والجرح والأسر والإِهانة وإلاّ فإن الإِخراج من الديار نكبة ومصيبة لكنها لا تدرك بالحس وإنما تدرك بالوجدان.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، تفيد امتناع جوابها لأجل وجود شرطها، أي وجود تقدير الله جلاءهم سبب لانتفاء تعذيب الله إياهم في الدنيا بعذاب آخر.
وإنما قدر الله لهم الجلاء دون التعذيب في الدنيا لمصلحة اقتضتها حكمته، وهي أن يأخذ المسلمون أرضهم وديارهم وحوائطهم دون إتلاف من نفوس المسلمين مما لا يخلو منه القتال لأن الله أراد استبقاء قوة المسلمين لما يستقبل من الفتوح، فليس تقدير الجلاء لهم لقصد اللطف بهم وكرامتهم وإن كانوا قد آثروه على الحرب.
ومعنى {كتب الله عليهم} قَدّر لهم تقديراً كالكتابة في تحقق مضمونه وكان مظهر هذا التقدير الإِلهي ما تلاحق بهم من النكبات من جلاء النضير ثم فتح قريظة ثم فتح خيبر.
والجلاء: الخروج من الوطن بنية عدم العود، قال زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفارٌ أو جَلاء
وأعلم أن {أنْ} الواقعة بعد {لولا} هنا مصدريةٌ لأن {أَنْ} الساكنة النون إذا لم تقع بعد فعل عِلم يقين أو ظن ولا بعد ما فيه معنى القول، فهي مصدرية وليست مخففة من الثقيلة.
{الدنيا وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابُ}.
عطف على جملة {ولولا أن كتب الله عليهم} الآية، أو على جملة {هو الذي أخرج الذين كفروا} [الحشر: 2]، وليس عطفاً على جواب {لولا} فإن عذاب النار حاقّ عليهم وليس منتفياً. والمقصود الاحتراس من توهم أنَّ الجلاء بَدل من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}
الإِشارة إلى جميع ما ذكر من إخراج الذين كفروا من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وتخريب بيوتهم، وإعداد العذاب لهم في الآخرة.
والباء للسببية وهي جَارَّة للمصدر المنسبك من (أنَّ) وجملتها.
والمشاقَّة: المخاصمة والعداوة قال تعالى: {ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم} [النحل: 27] وقد تقدم نظيره في أول الأنفال.
والمشاقّة كالمحادّة مشتقة من الاسم. وهو الشِقّ، كما اشتقت المحادّة من الحدّ، كما تقدم في أول سورة المجادلة. وتقدم في سورة النساء (35) {وإن خفتم شقاق بينهما}
وقد كان بنو النضير ناصبوا المسلمين العِدَاء بعد أن سكنوا المدينة وأَضْرَوْا المنافقين وعاهدوا مشركي أهل مكة كما علمت آنفاً.
وجملة ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} تذييل، أي شديد العقاب لكل من يشاققه من هؤلاء وغيرهم.
وعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم على اسم الجلالة في الجملة الأولى لقصر تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن طاعته طاعة لله لأنه إنما يدعو إلى ما أمره الله بتبليغه ولم يعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية استغناء بما علم من الجملة الأولى.
وأدغم القافان في {يشاق} لأن الإِدغام والإِظهار في مثله جائزان في العربية. وقرئ بهما في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه} في سورة البقرة (217). والفكّ لغة الحجاز، والإِدغام لغة بقية العرب.
وجملة فإن الله شديد العقاب} دليل جواب {من} الشرطية إذ التقدير: ومن يشاقِق الله فالله معاقبهم إنه شديد العقاب.
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}
استئناف ابتدائي أفضى به إلى المقصد من السورة عن أحكام أموال بني النضير وإشارة الآية إلى ما حدث في حصار بني النضير وذلك أنهم قبل أن يستسلموا اعتصموا بحصونهم فحاصرهم المسلمون وكانت حوائطهم خارج قريتهم وكانت الحوائط تسمى البُويرة (بضم الباء الموحدة وفتح الواو وهي تصغير بؤر بهمزة مضمومة بعد الباء فخففت واواً) عمد بعض المسلمين إلى قطع بعض نخيل النضير قيل بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وقيل بدون أمره ولكنه لم يغيره عليهم. فقيل كان ذلك ليوسعوا مكاناً لمُعسكرهم، وقيل لتخويف بني النضير ونكايتهم، وأمسك بعض الجيش عن قطع النخيل وقالوا: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقد ذكر أن النخلات التي قطعت ست نخلات أو نخلتان. فقالت اليهود: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر، وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: أن ما قطعوا من النخل أريد به مصلحة إلجاء العدوّ إلى الاستسلام وإلقاء الرعب في قلوبهم وإذلالِهم بأن يروا أكرم أموالهم عرضة للإِتلاف بأيدي المسلمين، وأن ما أبقي لم يقطع في بقائه مصلحة لأنه آيل إلى المسلمين فيما أفاء الله عليهم فكان في كلا القطع والإِبقاء مصلحة فتعارض المصلحتان فكان حكم الله تخيير المسلمين. والتصرف في وجوه المصالح يكون تابعاً لاختلاف الأحوال، فجعل الله القطع والإِبقاء كليهما بإذنه، أي مرضياً عنده، فأطلق الإِذن على الرضى على سبيل الكناية، أو أطلق إذن الله على إذن رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك ابتداء، ثم أمر بالكف عنه.
وكلام الأيمة غير واضح في إذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ابتداء وأظهر أقوالهم قول مجاهد: إن القطع والامتناع منه كان اختلافاً بين المسلمين، وأن الآية نزلت بتصديق من نهي عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإِثم. وفي ذلك قال حسان بن ثابت يتورك على المشركين بمكة إذ غلب المسلمون بني النضير أحلافهم ويتورك على بني النضير إذ لم ينصرهم أحلافهم المشركون من قريش:
تفاقد معشر نصرُوا قريشاً
وليس لهم ببلدتهم نصير *** وهان على سَراة بني لُؤيّ
حريقٌ بالبُوَيْرة مستطيرُ ***
يريد سراة أهل مكة وكلهم من بني لؤيّ بن غالب بن فهر، وفهر هو قريش أي لم ينقذوا أحلافهم لهوانهم عليهم.
وأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومئذٍ مشرك:
أدام الله ذلك من صنيع *** وحَرَّق في نواحيها السعير
ستعلم أيُّنا منها بنزْه *** وتعلم أيَّ أرضينا تضير
يريد أن التحريق وقع بنواحي مدينتكم فلا يضير إلا أرضكم ولا يضير أرضنا، فقوله: أدام الله ذلك من صنيع، تهكم.
ومن هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أن تحريق دار العدوّ وتخريبها وقطع ثمارها جائز إذا دعت إليه المصلحة المتعينة وهو قول مالك. وإتلافُ بعض المال لإِنقاذ باقيه مصلحة وقوله: {من لينة} بيان لما في قوله: {ما قطعتم}.
واللِّينة: النخلة ذات الثمر الطيّب تُطلق اسم اللينة على كل نخلة غيرِ العجوةِ والبرنيِّ في قول جمهور أهل المدينة وأيمة اللغة. وتمر اللِّينة يسمى اللَّوْن.
وإيثار {لينة} على نخلة لأنه أخف ولذلك لم يرد لفظ نخلة مفرداً في القرآن، وإنما ورد النخل اسم جمع.
قال أهل اللغة: ياء لينة أصلها واوٌ انقلبت ياء لوقوعها إثر كسرة ولم يذكروا سبب كسر أوله ويقال: لِونة وهو ظاهر.
وفي كتب السيرة يذكر أن بعض نخل بني النضير أحرقه المسلمون وقد تضمن ذلك شعر حسان ولم يذكر القرآن الحرق فلعل خبر الحرق مما أُرجف به فتناقله بعض الرواة، وجرى عليه شعر حسّان وشعر أبي سفيان بن الحارث، أو أن النخلات التي قطعت أحرقها الجيش للطبخ أو للدفء.
وجيء بالحال في قوله: {قائمة على أصولها} لتصوير هيئتها وحسنها. وفيه إيماء إلى أن ترك القطع أولى. وضمير {أصولها} عائد إلى {ما} الموصولة في قوله تعالى: {ما قطعتم} لأن مدلول {ما} هنا جمع وليس عائداً إلى {لينة} لأن اللّينة ليس لها عدة أصول بل لكل ليّنة أصل واحد.
وتعلق {على أصولها} ب {قائمة}. والمقصود: زيادة تصوير حسنها. والأصول: القواعد. والمراد هنا: سوق النخل قال تعالى: {أصلها ثابت وفرعها في السماء} [إبراهيم: 24]. ووصفها بأنها {قائمة على أصولها} هو بتقدير: قائمة فروعها على أصولها لظهور أن أصل النخلة بعضها.
والفاء من قوله: {فبإذن الله} مزيدة في خبر المبتدأ لأنه اسم موصول، واسم الموصول يعامل معاملة الشرط كثيراً إذا ضُمن معنى التسبب، وقد قرئ بالفاء وبدونها قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم} في سورة [الشورى: 30].
وعطف وليخزي الفاسقين} من عطف العلة على السبب وهو {فبإذن الله} لأن السبب في معنى العلة، ونظيره قوله تعالى: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين} الآية في [آل عمران: 166].
والمعنى: فقطعُ ما قطعتم من النخل وترك ما تركتم لأن الله أذن للمسلمين به لصلاح لهم فيه، وليخزي الفاسقين}، أي ليهين بني النضير فيروا كرائم أموالهم بعضها مخضود وبعضها بأيدي أعدائهم. فذلك عزة للمؤمنين وخزي للكافرين والمراد ب {الفاسقين} هنا: يهود النضير.
وعُدل عن الإتيان بضميرهم كما أتي بضمائرهم من قبل ومن بعد إلى التعبير عنهم بوصف {الفاسقين} لأن الوصف المشتق يؤذن بسبب ما اشتق منه في ثبوت الحكم، أي ليجزيهم لأجل الفسق.
والفسق: الكفر.
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}
يجوز أن يكون عطفاً على جملة {ما قطعتم من لينة} [الحشر: 5] الآية فتكون امتناناً وتكملة لمصارف أموال بني النضير.
ويجوز أن تكون عطفاً على مجموع ما تقدم عطفَ القصة على القصة والغرض على الغرض للانتقال إلى التعريف بمصير أموال بني النضير لئلا يختلف رجال المسلمين في قسمته. ولبيان أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة أموال بني النضير هو عدلٌ إن كانت الآية نزلت بعد القسمة وَمَا صْدَقُ {ما أفاء الله} هو ما تركوه من الأرض والنخل والنقض والحطب.
والفَيء معروف في اصطلاح الغزاة، ففعل أفاء أعطَى الفيء، فالفيء في الحروب والغارات ما يظفر به الجيْشُ من متاع عدوّهم وهو أعم من الغنيمة ولم يتحقق أيمة اللغة في أصل اشتقاقه فيكون الفيء بقتال ويكون بدون قتال، وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال.
وضمير {منهم} عائد إلى {الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 2] الواقع في أول السورة وهم بنو النضير. وقيل: أريد به الكفار، وأنه نزَّلَ في فيء فدك فهذا بعيد ومخالف للآثار.
وقوله: {فما أوجفتم عليه} خبر عن (ما) الموصولة قرن بالفاء لأن الموصول كالشرط لتضمنه معنى التسبب كما تقدم آنفاً في قوله: {فبإذن الله} [الحشر: 5].
وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال، مثل قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25]، ويفيد مع ذلك كناية بأن يقصد بالإِخبار عنه بأنهم لم يُوجفوا عليه لازمُ الخبر وهو أنه ليس لهم سبب حقَ فيه. والمعنى: فما هو من حقّكم، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصَب.
والإِيجاف: نوع من سَير الخيل. وهو سَير سريع بإِيقاع وأريد به الركض للإِغارة لأنه يكون سريعاً.
والركابُ: اسم جمع للإِبل التي تُرْكبُ. والمعنى: ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل.
وحرف (على) في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه} للتعليل، وليس لتعدية {أوجفتم} لأن معنى الإِيجاف لا يتعدى إلى الفيء بحرف الجر، أو متعلقٌ بمحذوف هو مصدر {أوجفتم}، أي إيجافاً لأجله.
و {مِن} في قوله: {من خيل} زائدة داخلة على النكرة في سياق النفي ومدخول {مِن} في معنى المفعول به ل {أوجفتم} أي ما سقتم خيلاً ولا ركاباً.
وقوله: {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} استدراك على النفي الذي في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه} لرفع توهم أنه لا حقّ فيه لأحد. والمراد: أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فالرسول أحق به. وهذا التركيب يفيد قصراً معنوياً كأنه قيل: فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم
وفي قوله تعالى: {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} إيجاز حذف لأن التقدير: ولكن الله سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والله يسلط رُسله على من يشاء وكان هذا بمنزلة التذييل لعمومه وهو دال على المقدر.
وعموم {من يشاء} لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين.
والمعنى: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم والله يسلط رسله على من يشاء. فأغنى التذييل عن المحذوف، أي فلا حقّ لكم فيه فيكون من مال الله يتصرّف فيه رسوله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده.
فتكون الآية تبييناً لما وقع في قسمة فيء بني النضير. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسمه على جميع الغُزاة ولكن قسمه على المهاجرين سواء كانوا مِمَّن غزوا معهُ أم لم يغزوا إذ لم يكن للمهاجرين أموالٌ. فأراد أن يكفيهم ويكفي الأنصار ما مَنحوه المهاجرين من النخيل. ولم يعط منه الأنصار إلا ثلاثة لشدة حاجتهم وهم أبو دَجانة (سِماك بن خزينة)، وسَهلُ بن حنيف، والحارث بن الصِّمَّة. وأعطى سعد بنَ معاذ سيفَ أبي الحُقيق، وكل ذلك تصرّف باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله جعل تلك الأموال له.
فإن كانت الآية نزلت بعد أن قسمت أموال النضير كانت بياناً بأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ، أمره الله به، أو جعله إليه، وإن كانت نزلت قبل القسمة، إذ روي أن سبب نزولها أن الجيش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخميس أموال بني النضير مثل غنائم بدر فنزلت هذه الآية، كانت الآية تشريعاً لاستحقاق هذه الأموال.
قال أبو بكر ابن العربي: «لا خلاف بين العلماء أن الآية الأولى خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه الآية الأولى من الآيتين المذكورتين في هذه السورة خاصة بأموال بني النضير، وعلى أنها خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. وبذلك قال عمر بن الخطاب بمحضر عثمان، وعبد الرحمان بن عوف، والزبير، وسعد، وهو قول مالك فيما روَى عنه ابن القاسم وابن وهب. قال: كانت أموال بني النضير صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمسها. واختُلف في القياس عليها كل مال لم يوجف عليه. قال ابن عطية: قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح الله على الأيمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة ا ه. وسيأتي تفسير ذلك في الآية بعدها.
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
{مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ}.
جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام، أي على الاستئناف الابتدائي، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها. ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموالَ بني النضير خاصة، وجعلوا الآية الثانية هذه إخباراً عن حكم الأَفيَاء التي حصلت عند فتح قرىً أخرى بعد غزوة بني النضير. مثل قريظة سنة خمس، وفَدككٍ سنة سبع، ونحوهما فعيّنته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضاً وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعْبير بقوله هنا: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} بعد أن قال في التي قبلها {وما أفاء الله على رسوله منهم} [الحشر: 6] فإن ضمير {منهم} راجع ل {الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 2] وهم بنو النضير لا محالة. وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت عقب الآية الأولى، ويجوز أن تكون نزلت بعد مدة فإن فتح القُرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين.
ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبياناً للآية التي قبلها، أي بياناً للإِجمال الواقع في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه من خيل} الآية [الحشر: 6]، لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإِعلام بأن أهل الجيْش لا حقّ لهم فيه، ولم تبين مستحقَّه وأشعر قولُه {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} [الحشر: 6] أنه مَالٌ لله تعالى يضعه حيث شاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بيّن الله له مستحقّيه من غير أهل الجيش. فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان. ولذلك فصلت.
وممن قال بهذا الشافعيّ وعليه جرى تفسير صاحب «الكشاف». ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يُخَمّس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمّسها بل ثبت ضدُّه، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكماً خاصاً، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة.
قال ابن الفرس: آية {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى}. وهذه الآية من المشكلات إذا نُظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم الآية} [الحشر: 6] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف، وبذلك فسّرها عُمر ولم يخالفه أحد.
وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر.
ومنهم من قال: إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين: واختلف الذاهبون إلى هذا: فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار (فتكون تخصيصاً لآية الأنفال) وإلى هذا ذهب مالك. والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة. ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اه.
والتعريف في قوله تعالى: {من أهل القرى} تعريف العهد وهي قرى معروفة عُدّت منها: قريظة، وفَدَك، وقرى عُرينة، واليُنْبُع، ووادي القُرى، والصفراء، فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحاً أو فَيئاً. والأكثر على أن فَدَك كانت مثل النضير.
ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بل مثله فيه أيمة المسلمين.
وتقييد الفيء بفيء القرى جَرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصَرون فيستسلمون ويعطُون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار، فأما النازلون بالبوادي فلا يُغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد {من أهل القرى} مفهوم عندنا، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف. فمذهب مالك أنه لا يخمَّس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمّس، وأما الأرضون فالخيار فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم.
وذهب الشافعي إلى أن جميع أموال الحرب مخمّسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمّس، وأما الأرضون فالتفويض فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء، وإن شاء أقرّ أهلها بها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم.
وهذه الآية اقتضت أن صنفاً مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيباً للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس، فقال جمع من العلماء: إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية. وقال جمع: هذه الآية نسخت آيةَ الأنفال.
وقال قتادة: كانت الغنائم في صدر الإِسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال، وبذلك قال زيد بن رومان: قال القرطبي ونحوه عن مالك ا ه. على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين.
إلا أن يقول قائل: إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديداً لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر، ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر. فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبالإِجماع.
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشُرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع. والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخاً لأنه يتضمن ناسخاً. وعن معمر أنه قال: بلغني أن هذه الآية أي آية {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} نزلت في أرض الخراج والجزْية.
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض. كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أنها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي، ومع ما فعله عُمر في سواد العراق، وقد عرفت موقع كل. وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10].
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة. وزعموا أنها منسوخة بآية الأنفال. وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيءُ والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانها في سورة الأنفال.
و {كي لا يكون دولة} الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكاً لأصناف كثيرة الأفراد، أي جعلناه مقسوماً على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دُولة بين الأغنياء من المسلمين، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهلَ الحاجة نصيب منه.
والمقصود من ذلك. إبطال ما كان معتاداً في العرب قبل الإِسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوّه دون قتال، والنشيطة، والفضول.
قال عبد الله بن عَنمة الضبّيّ يخاطب بِسطام بنَ قيس سيد بني شيبان وقائدَهم في أيامهم:
لك المِرباع منها والصفايا *** وحُكْمك والنشيطَةُ والفُضُول
فالمرباع: ربُع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.
والصفايا: النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش، وأما حُكمه فهو ما أعطاه العدوُّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.
والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.
والفُضُول: ما يبْقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغُزاة مثل بعيرٍ وفرس.
وقد أبطل الإِسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفاً إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.
وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دُولة بين الأمة الإِسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل المَوات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءاً معيناً مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل: القراض والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والرّكاز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميتُه «مقاصد الشريعة الإِسلامية».
والدُولة بضم الدال: ما يتداوله المتداولون. والتداول: التعاقب في التصرف في شيء. وخصها الاستعمال بتداول الأموال.
والدَولة بفتح الدال: النوبة في الغلبة والملك. ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال.
وقرأ الجمهور {كي لا يكون دولة} بنصب {دولةً} على أنه خبر {يكون}. واسم {يكون} ضمير عائد إلى ما أفاء الله، وقرأه هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر برفع {دولةٌ} على أنَّ {يكون} تامة و{دولةٌ} فاعله.
وقرأ الجمهور {يكون} بتحتية في أوله. وقرأه أبو جعفر {تكونَ} بمثناة فوقية جرياً على تأنيث فاعله. واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة (أي جعفر) في تاء {تكون} وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء.
والخطاب في قوله تعالى: {بين الأغنياء منكم} للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله: {ما ظننتم أن يخرجوا} [الحشر: 2] ثم قوله: {ما قطعتم من لينة} [الحشر: 5] وما بعده. وجعله ابن عطية خطاباً للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى.
والمراد ب {الأغنياء} الذين هم مظنة الغنى، وهم الغُزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال.
{مِنكُمْ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ}.
اعتراض ذيّل به حكم فَيْء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيْء النضير، والواو اعتراضية، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير.
والإِيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم، جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة: 63 و93] واستعير الأخذ أيضاً لقبول الأمر والرضى به والعمل.
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} وهو تتميم لنوعي التشريع. وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة. وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الله الواشمات والمستوشمات ". الحديث. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
والمعنى: واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}
بدل مما يصلح أن يكون بدلاً منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفاً قوله: {ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] بدل بعض من كل.
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعْنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتُصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم، فكأنه قيل: ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لِلفقراء منهم لا مطلقاً، يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير. ولإِفادة التأكيد.
وكثيراً ما يقترن البدل بمثل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي، وتقدم في قوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} في سورة [العقود: 114]. فبقي احتمال أن يكون قيداً {لذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7]، فيتعين أن يكون قوله: {للفقراء} إلى آخره مسوقاً لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها، فيقتضي هذا أن يُشترط الفقر في كل صنف من هذه الأصناف الأربعة، لأن مطلقها قد قُيّد بقيد عَقب إطلاق، والكلام بأواخره فليس يجري هنا الاختلاف في حمل المطلق على المقيد، ولا تجري الصور الأربع في حمل المطلق على المقيد من اتحاد حكمهما وجنسهما. ولذلك قال مالك وأبو حنيفة: لا يعطى ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة. وقال الشافعي وكثير من الفقهاء: يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبيء صلى الله عليه وسلم قال إمام الحرمين: أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، فاشتراطُها وعدمُ اعتبار القرابة يضارّه ويحَادّه.
قلت: هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حُرمت على ذوي القربى كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيْء والمغانم أنه لا يمتنع صرفه إليهم امتناعَ صرف الصدقات، ثم قال: لا تغترَّ بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفاً لهم فمن علّله بالحاجة فَوّت هذا المعنى اه.
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول، والبحث فيه يطول. ومحله مسائل الفقه والأصول.
ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة {للفقراء المهاجرين} ابتدائية على حذف المبتدأ. والتقدير: ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء، ومنهم من جعلها معطوفة بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل: فلله وللرسول، إلى آخره، ثم قيل: {للفقراء المهاجرين}.
فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيداً للجملة التي قبلها، وتنفتح طرائق أخرى في حمل المطلق على المقيد، والاختلاف في شروط الحمل، وهي طرائق واضحة للمتأمل، وعلى الوجه الأول يكون المعوّل.
ووُصِف المهاجرون بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيهاً على أن إعطاءهم مراعىً جبر مَا نكبوا به من ضياع الأموال والديار، ومراعىً فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكرّرُون نصرَ دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله: {أولئك هم الصادقون}.
واسم الإِشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما سبق اسمَ الإِشارة مِن الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلاً من الله ورضواناً ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يَشهد للإِخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاقّ وأذى وإضرار، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.
وجملة {هم الصادقون} مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأنَّ صدق غيرهم ليس صدقاً في جانب صدقهم.
وموقع قوله: {أولئك هم الصادقون} كموقع قوله: {وأولئك هم المفلحون} في سورة [البقرة: 5].
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
الأظهر أن {الذين} عطف على {المهاجرين} [الحشر: 8] أي والذين تبوّؤا الدار. والذين تبوّؤا الدار هم الأنصار.
والدّار تطلق على البلاد، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود {فأصبحوا في دَارهم جاثمين} [الأعراف: 78]، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.
والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار: يثرب، والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله: {يحبون من هاجر إليهم}.
والتبوُّء: اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله: {والإيمان} غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولاً لفعل تبوَّءوا، فتأوله المفسرون على وجهين: أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلاً فيكون فعل تبوأوا مستعملاً في حقيقته ومجازه.
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملاً مقدراً يدلّ عليه الكلام، تقديره: وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف:
علفتها تبناً وماءً بارداً ***
وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى:
يا ليت زوجَككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً
أي وممسكاً رمحاً وهو الذي درج عليه في «الكشاف». وقيل الواو للمعية. و{الإِيمانَ} مفعول معه.
وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قلّ قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعياً فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في «مُغني اللبيب» أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأول قوله تعالى: {فأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم} [يونس: 71]، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافاً للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى (مع). وقال عبد القاهر: منصوب بالواو.
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولاً للفعل، ألا ترى صحة قول القائل: استوى الماء والخشبةَ. وقولهم: سرْتُ والنيلَ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها.
وبذلك يتضح أن متعلق {من قبلهم} فعل {تبوؤا} بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.
وفي ذكر الدار (وهي المدينة) مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال: إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} الآية.
وجملة {يحبون من هاجر إليهم} حال من الذين تَبَوَّؤُوا الدار، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإِسلام إذ أحبوا المهاجرين، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في «الصحيح» من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن يَنزل له عن إحدى زوجتيه، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وقوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أريد بالوجدان الإِدراك العقلي، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر:
ولا ترى الضبّ بها ينجحر ***
والحاجة في الأصل: اسم مَصدرِ الحَوْج وهو الاحتياج، أي الافتقار إلى شيء، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهي هنا مجاز في المأْرب والمرادِ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} [غافر: 80]، أي لتبلغوا في السفر عليها المأْرب الذي تسافرون لأجله، وكقوله تعالى: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} [يوسف: 68] أي مأربا مُهمّا وقول النابغة:
أيامَ تخبرني نُعْمٌ وأَخْبِرُها *** ما أكتُم الناسَ من حاجِي وإسراري
وعليه فتكون (مِن) في قوله: {مما أوتوا} ابتدائية، أي مأرباً أو رغبة ناشئة من فَيْء أُعْطِيهُ المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.
و (ما أوتوا) هو فيء بني النضير.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {الذين تَبَوَّؤُا الدار}، وضمير {أوتوا} عائد إلى {من هاجر إليهم}، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى (مَنْ) بدون لفظها. وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربَين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل (ما) في قوله تعالى: {وعمروها أكثر مما عمروها} في سورة [الروم: 9]. وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سُليم على هَوازن:
عُدنا ولولا نَحنُ أحدَق جمعهم
بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا
(أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين).
والمعنى: أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيْء بني النضير.
ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات. ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بَلْهَ أن يتطلبوه.
وتكون (مِن) في قوله تعالى: مما أوتوا} للتعليل، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون، أو ابتدائية، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئِه المعتادة في الناس تبعاً للمنافسة والغبطة، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير: ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.
والإيثار: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.
والمعنى: يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختياراً منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فلذلك عقب به ولم يُذكر مفعول {يُؤثِرونَ} لدلالة قوله: {مما أوتوا} عليه.
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في «الصحيح» أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها.
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألاَ رجل يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله، فقام رجل من الأنصار (هو أبو طلحة) فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله لا تدَّخريه شيئاً، فقالت: والله ما عندي إلا قُوتُ الصِبية. قال: فإذا أراد الصبية العَشاء فنوِّميهم وتعالَي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تُري أنككِ تصلحينه فأطفئيه وأَرِيه أنَّا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف.
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير، قيل: نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.
وجملة {ولو كان بهم خصاصة} في موضع الحال.
و {لو} وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يُظنّ حصول الجواب عند حصولها. والتقدير: لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيُعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91].
والخصاصة: شدة الاحتياج.
وتذكير فعل كان} لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقياً، ولأنه فُصل بين {كان} واسمها بالمجرور. والباء للملابسة.
وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل، والواو اعتراضية، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح. وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
والشح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس بمَنْع ما هو لها، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جداً وقد أشار في «الكشاف» إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بَذْلُه وقد قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128] أي جعل الشح حاضراً معها لا يفارقها، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة «أن تصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمُل الغِنى» ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه. قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قائله:
يمارس نفساً بين جَنْبَيْه كَزَّةً *** إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلاً
فمن وقي شح نفسه، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه.
واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى.
ومن المفسرين من جعل {والذين تبوؤا الدار} ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظاً في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} [الحشر: 7] على قرى خاصة هي: قريظة. وفَدَك، وخيبر. والنفع، وعُرينة، ووادي القُرى، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئَها قال للأنصار: " إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا "؟ فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت آيةُ {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية [الحشر: 7].
ومنهم من قصر هذه الآية على فَيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه. وعلى هذا التفسير يكون عطف {والذين تبوؤا الدار} عطفَ جملةٍ على جملة، واسم الموصول مبتدأ وجملة {يحبون من هاجر إليهم} خبراً عن المبتدأ.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
عطف على {والذين تبوؤا الدار} [الحشر: 9] على التفسيرين المتقدمين؛ فأما على رأي من جعلوا {والذين تبوءوا الدار} [الحشر: 9] معطوفاً على {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] جعلوا {الذين جاؤوا من بعدهم} فريقاً من أهل القُرى، وهو غير المهاجرين والأنصار بلْ هو من جاء إلى الإِسلام بعد المهاجرين والأنصار، فضمير {من بعدهم} عائد إلى مجموع الفريقين.
والمجيء مستعمل للطروِّ والمصير إلى حالة تماثل حالهم، وهي حالة الإِسلام، فكأنهم أتوا إلى مكان لإِقامتهم، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذُكروا في قوله تعالى بعدَ ذكر المهاجرين والأنصار {والذين اتَّبعوهم بإحسان} [التوبة: 100] أي اتبعوهم في الإِيمان.
وإنما صيغ {جاءوا} بصيغة الماضي تغليباً لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غِفارة، ومُزينة، وأسلم، ومثل عبد الله بن سَلاَم، وسلمان الفارسي، فكأنه قيل: الذين جاؤوا ويجيئون، بدلالة لحن الخطاب. والمقصود من هذا: زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيْء بني النضير.
وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روى البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها (أي الفاتحين) كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وذكر القرطبي: أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ فلما غدَوا عليه قال: قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} (7، 8). قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله: والذين جاءوا من بعدهم} إلى قوله: {رؤوف رحيم} ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإِسلام إلا وقد دخل في ذلك اه.
وهذا ظاهر في الفيء، وأما ما فُتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سوادَ العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر، وهو ليس من غرضنا. ومحله كتب الفقه والحديث.
والفريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] كلاماً مستأنفاً، وجعل {يحبون من هاجر إليهم} [الحشر: 9] خبراً عن اسم الموصول، جعلوا قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} كذلك مستأنفاً.
ومن الذين جعلوا قوله: {والذين تبوءوا} [الحشر: 9] معطوفاً على {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] من جعل قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} مستأنفاً. ونسبه ابن الفرس في «أحكام القرآن» إلى الشافعي. ورأى أن الفيء إذا كان أرضاً فهو إلى تخيير الإِمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير.
وجملة {يقولون ربنا اغفر لنا} على التفسير المختار في موضع الحال من {الذين جاؤوا من بعدهم}.
والغلّ بكسر الغين: الحسد والبغض، أي سألوا الله أن يطَهر نفوسهم من الغلّ والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطُوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فُضّل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبيّن الله للذين جاؤا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم.
والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه.
وقد دلت الآية على أن حقاً على المسلمين أن يَذكروا سلفهم بخير، وأن حقاً عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم، قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيْء المسلمين، ثم قرأ {والذين جاءوا من بعدهم} الآية.
فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى: {يقولون ربنا اغفر لنا} الآية، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم.
وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعليّ حين تحاكما إلى عمر، فقال العباس: اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر. ومثل إقامة عمر حدّ القذف على أبي بَكرة.
وأما ما جرى بين عائشة وعليّ من النزاع والقتال وبين عليّ ومعاوية من القتال فإنما كان انتصاراً للحق في كلا رأيَي الجانبين وليس ذلك لغلّ أو تنقص، فهو كضرب القاضي أحداً تأديباً له فوجب إمساك غيرهم من التحَزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادِهم لتكافئ درجاتهم أو تقاربها. والظنِّ بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير، وإنما هي مسحَة من حمية الجاهلية نَخرت عضد الأمة المحمدية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)}
أعقب ذكر ما حلّ ببني النضير وما اتصل به من بيان أسبابه، ثم بياننِ مصارف فيْئهم وفَيْء ما يُفتح من القرى بعد ذلك، بذكر أحوال المنافقين مع بني النضير وتغريرهم بالوعود الكاذبة ليعلم المسلمون أن النفاق سجية في أولئك لا يتخلون عنه ولو في جانب قوم هم الذين يودُّون أن يظهروا على المسلمين.
والجملة استئناف ابتدائي والاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المنافقين فبني على نفي العلم بحالهم كناية عن التحريض على إيقاع هذا العلم كأنه يقول: تأمَّل الذين نافقوا في حال مقالتهم لإِخوانهم ولا تترك النظر في ذلك فإنه حال عجيب، وقد تقدم تفصيل معنى: {ألم تر} إلى كذا عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} في سورة [البقرة: 243].
وجملة يقولون} في موضع المفعول الثاني. والتقدير: ألم تَرَهم قائلين. وجيء بالفعل المضارع لقصد تكرر ذلك منهم، أي يقولون ذلك مؤكّدينه ومكرِّرينه لا على سبيل البداء أو الخاطر المعدول عنه.
و {الذين نافقوا} المخبر عنهم هنا هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمي منهم عبد الله بنُ أُبيّ ابنُ سلول، وعبد الله بن نبتَل، ورفاعة بن زيد، ورافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، ووديعة بن أبي قوتل، أو ابن قوقل، وسويد (لم يُنسب) وداعس (لم ينسب)، بَعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقولون لهم: اثبتوا في معاقلكم فإنَّا معكم.
والمراد بإخوانهم بنو النضير وإنما وصفهم بالإِخوة لهم لأنهم كانوا متّحدين في الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وليست هذه أخوة النسب فإن بني النضير من اليهود، والمنافقين الذين بَعثوا إليهم من بني عوف من عرب المدينة وأصلهم من الأزد.
وفي وصف إخوانهم ب {الذين كفروا} إيماء إلى أن جانب الأخوة بينهم هو الكفر إلا أن كفر المنافقين كفرُ الشرك وكفر إخوانهم كفر أهل الكتاب وهو الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
ولام {لئن أخرجتم} موطئة للقسم، أي قالوا لهم كلاماً مؤكداً بالقسم.
وإنما وعدوهم بالخروج معهم ليطمئنُّوا لنصرتهم فهو كناية عن النصر وإلاَّ فإنهم لا يرضون أن يفارقوا بلادهم.
وجملة {ولا نطيع فيكم أحداً} معطوفة على جملة {لئن أخرجتم} فهي من المقول لا من المقسَم عليه، وقد أُعريت عن المؤكد لأن بني النضير يعلمون أن المنافقين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين فكان المنافقون في غنية عن تحقيق هذا الخبر.
ومعنى {فيكم} في شأنكم، ويعرف هذا بقرينة المقام، أي في ضركم إذ لا يخطر بالبال أنهم لا يطيعُون من يَدعوهم إلى موالاة إخوانهم، ويقدر المضاف في مثل هذا بما يناسب المقام. ونظيره قوله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم،} [المائدة: 52] أي في الموالاة لهم. ومعنى {لننصرنكم} لنعيننكم في القتال. والنصر يطلق على الإِعانة على المعادي. وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك بعد ما أعلمه بما أقسموا عليه تطميناً لخاطره لأن الآية نزلت بعد إجْلاء بني النضير وقبل غزو قريظة لئلا يتوجس الرسول صلى الله عليه وسلم خِيفة من بأس المنافقين، وسمى الله الخبر شهادة لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)}
{لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}.
بيان لجملة {والله يشهد إنهم لكاذبون} [الحشر: 11].
واللام موطئة للقسم وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يضرّوه شيئاً لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.
وضمير {أخرجوا} و{قوتلوا} عائدان إلى {الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11]، أي الذين لم يخرجوا ولما يقاتلوا وهم قريظة وخيبر، أما بنو النضير فقد أُخْرِجُوا قبل نزول هذه السورة فهم غير معنيين بهذا الخبر المستقبل. والمعنى: لئن أخرج بقية اليهود في المستقبل لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا في المستقبل لا ينصرونهم. وقد سلك في هذا البيان طريق الإِطناب. فإن قوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} [الحشر: 11] جمع ما في هاتين الجملتين فجاء بيانه بطريقة الإِطناب لزيادة تقرير كذبهم.
{يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادبار ثُمَّ لاَ}.
ارتقاء في تكذيبهم على ما وعدوا به إخوانهم، والواو واو الحال وليست واو العطف.
وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله: {ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية} [المائدة: 6] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
وقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة: 226]، أي يريدون العود إلى ما امتنعوا منه بالإِيلاء. والمعنى: أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغَى فلو أرادوا نصرهم وتجهّزوا معهم لفرّوا عند الكريهة وهذا كقوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم} [التوبة: 47].
ويجوز أن يكون أطلق النصر على الإِعانة بالرجال والعتاد وهو من معاني النصر.
و {ثمّ} في قوله: {ثم لا ينصرون} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل فإن انتفاء النصر أعظم رتبة في تأييس أهل الكتاب من الانتفاع بإعانة المنافقين فهو أقوى من انهزام المنافقين إذا جاؤوا لإِعانة أهل الكتاب في القتال.
والنصر هنا بمعنى: الغلب.
وضمير {لا ينصرون} عائد إلى الذين كفروا من أهل الكتاب إذ الكلام جارٍ على وعد المنافقين بنصر أهل الكتاب.
والمقصود تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسسِ المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية.
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيد المسلمين إقداماً في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
والصدور مراد بها: النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور.
والرَّهبة: مصدر رهب، أي خاف.
وقوله: {في صدورهم} ل {رهبة} فهي رهبة أولئك.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {الذين نافقوا} [الحشر: 11] و{الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم.
وإسناد {أشَدّ} إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها. فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية.
و {من الله} هو المفضل عليه، وهو على حذف مضاف، أي من رهبة الله، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وَعل.
وهذا تركيب غريب النسج بديعه. والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال: لَرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله، فحُوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتماماً به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإِجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} [مريم: 4] دون: واشتعل شيبُ رأسي. وليتأتى حذف المضاف في تركيب {من الله}، إذ التقدير: من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلاً بلفظ {رهبة}، إذ لا يحسن أن يقال: لرهبتهم أشد من الله. وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية} في سورة [النساء: 77].
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله.
أما اليهود فلأنهم أهل دين فَهُم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة. وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه ربّ الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاءَ فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية. وهذا بشارة للنبيء والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإِشارة إلى أنها رهبة جدُّ خفيّة، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله على دخيلتهم فليس قوله: في صدورهم} وصفاً كاشفاً.
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثُنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوفَ للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقهُ فنجَوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين.
فالجملة معترضة بين البيان ومبيّنه.
والإِشارة بذلك إلى المذكور من قوله: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} واجتلاب اسم الإِشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته.
والباء للسببية والمجرورُ خبر عن اسم الإِشارة، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.
وإقحام لفظ {قوم} لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعاً وصار من مقومات قَوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
والفقه: فهم المعاني الخفية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} في سورة [النساء: 78]، وقوله: {انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون} في سورة [الأنعام: 65]، ذلك أنهم تَبِعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات.
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}
{لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} [الحشر: 13]، لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصّن لقتالهم إياهم، أي لا يقدرون على قتالكم إلاّ في هاته الأحوال والضمير المرفوع في {يقاتلونكم} عائد إلى {الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11].
وقوله: {جميعاً} يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً} [المائدة: 48] فيكون للشمول، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصنّة الخ.
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين، أي لا يقاتلونكم جيوشاً كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقبعون في قُراهم فيكون النفي منصّباً إلى هذا القيد، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم.
واستثناء {إلا في قرى} على الوجه الأول في {جميعاً} استثناء حقيقي من عموم الأحوال، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصّنة الخ. وهو على الوجه الثاني في {جميعاً} استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين.
وعلى كلا الاحتمالين فالكلام يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم، وإلا خائفين متَترِّسِينَ.
والمعنى: لا يهاجمونكم، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جُدر، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عُقر دارهم إلا ذلُّوا كما قال عَلِيّ رضي الله عنه: وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء.
و «الجُدُر» بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {جِدار} على الإِفراد، والمراد الجنس تساوي الجمع.
و {محصنة} ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق.
و {قُرىً} بالقصر جمع قرية، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فَعْلَة معتل اللام مثل قرية يجمع على فِعال بكسر الفاء ممدوداً مثل: ركوة وركاء، وشَكوة وشِكاء. ولم يسمع القصر إلا في كَوة بفتح الكاف لغة وكوى، وقَرية وقُرى ولذلك قال الفراء: قُرىً شاذ، يريد خارج عن القياس.
{جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ}.
استئناف بياني لأن الإِخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين.
فيجاب بأن بينهم بأساً شديداً وتدابراً، فهم لا يتفقون.
وافتتحت الجملة ب {بأسهم} للاهتمام بالإخبار عنه بأنه {بينهم}، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين، وفي تهكم.
ومعنى {بينهم} أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم، وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {رحماء بينهم} [الفتح: 29].
وجملة {تحسبهم جميعاً} إلى آخرها استئناف عن جملة {بأسهم بينهم شديد}. لأنه قد يسأل السائل: كيف ذلك ونحن نراهم متفقين؟ فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة إلا إلفة بينهم لأن بينهم إحَناً وعداوات فلا يتعاضدون.
والخطاب لغير معيّن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب ذلك. وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم. وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأياً متماثلاً في أصول مصالحهما المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرِّق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإِحن والعداوات.
والقلوب: العقول والأفكار، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة.
وشتَّى: جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فَعْلَى مثل قتيل وقَتلى، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد، والمعنى: أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم.
ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله {بأنهم قوم لا يعقلون} إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد: أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.
وأوثر هنا {لا يعقلون}. وفي الآية التي قبلها {لا يفقهون} [الحشر: 13] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوَهن والفتّ في ساعد الأمة معرفة «مشهورة» بين العقلاء. قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم:
وأن الحزامة أن تصرفوا *** لحَي سِوانا صدورَ الأسل
فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين.
وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلّة المقومة للقومية وقد ذكرته آنفاً.
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)}
خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه هذا الخبر، فالتقدير: مثلهم كمثل الذين من قبلهم قريباً، أي حال أهل الكتاب الموعود بنصر المنافقين كحال الذين مِن قبلهم قريباً.
والمراد: أن حالهم المركبة من التظاهر بالبأس مع إضمار الخوف من المسلمين، ومن التفرق بينهم وبين إخوانهم من أهل الكتاب، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، كَحال الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب وهم بنو النضير فإنهم أظهروا الاستعداد للحرب وأبَوا الجلاء، فلم يحاربوا إلا في قريتهم إذ حصنوها وقبعوا فيها حتى أعياهم الحصار فاضطُرّوا إلى الجلاء ولم ينفعهم المنافقون ولا إخوانهم من أهل الكتاب.
وعن مجاهد أن {الذين من قبلهم} المشركون يوم بدر.
و {مِنْ} زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
وانتصب {قريباً} على الظرفية متعلقاً بالكون المضمر في قوله: {كمثل}، أي كحاللِ كائن قريب، أو انتصب على الحال من {الذين} أي القوم القريب منهم، كقوله: {وما قوم لوط منكم بِبَعيد} [هود: 89].
والوبال أصله: وخامة المرعى المستلذ به للماشية يقال: كلأ وبيل، إذا كان مَرعى خَضِراً «حلواً» تهشّ إليه الإِبل فيحبطها ويمرضها أو يقتلها، فشبهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبِيل فهلكت وأُثبت الذوق على طريقة المكنية وتخييلها، فكان ذكر {ذاقوا} مع {وبال} إشارة إلى هذه الاستعارة.
و {أمرهم} شأنُهم وما دبّروه وحسبوا له حسابه وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم في الجلاء وترك الديار وما فيها، أي ذاقوا سوء أعمالهم في الدنيا.
وضمير {ولهم عذاب أليم} عائد إلى {الذين من قبلهم} أي زيادة على ما ذاقوه من عذاب الدنيا بالجلاء وما فيه من مشقة على الأنفس والأجساد لهم عذاب أليم في الآخرة على الكفر.
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}
هذا مثل آخر لمُمَثَّل آخر، وليس مثلاً منْضمًّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفاً عليه بالواو، أو ب (أو) كقوله تعالى {أو كصيّب من السماء} [البقرة: 19].
والوجه: أن هذا المثل متصل بقوله: {ولهم عذاب أليم} [الحشر: 15] كما يفصح عنه قوله في آخره: {فكان عاقبتهما أنهما في النار} الآية، أي مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معاً في النار.
فجملة {كمثل الشيطان} حال من ضمير {ولهم عذاب أليم} [الحشر: 15] أي في الآخرة.
والتعريف في {الشيطان} تعريف الجنس وكذلك تعريف «الإنسان». والمراد به الإنسان الكافر.
ولم تُرد في الآخرة حادثة معيَّنة من وسوسة الشيطان لإِنسان معيَّن في الدنيا، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول: {فلمّا كَفَرَ قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله: {قال إني بريء منك} أنه يقوله للإِنسان، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد. فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} في سورة [إبراهيم: 22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية. ذكرها ابن جرير والقرطبي وضَعَّف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالاً لما يقع من الشيطان للإِنسان كما مال إليه ابنُ كثير.
فالمعنى: إذ قال للإِنسان في الدنيا: اكفر، فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال الشيطان يوم القيامة: إني بريء منك}، أي قال كل شيطان لقرينه من الإِنس: {إنّي بريء منك} طمعاً في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.
ففي الآية إيجاز حذف حُذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط (لَمَّا) هي داخلة في الشرط إذ التقدير: فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان: {إني بريء منك} الخ. وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة [ق: 27]. {قال قرينه ربّنا ما أطغيته} الآية. وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
وقول: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} من تمام المثل. أي كان عاقبة الممثل بهما خسرانهما معاً. وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبّرا وكادا للمسلمين.
وجملة {وذلك جزاء الظالمين} تذييل، والإِشارة إلى ما يدل عليه {فكان عاقبتهما أنهما في النار} من معنى، فكانت عاقبتهما سوأى والعاقبة السّوأى جزاء جميع الظّالمين المعتدين على الله والمسلمين، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك تكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإِيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم. وكذلك موقف أنصارهم معهم، إلى الأمر بتقوى الله شكراً له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفَيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإِعداد للآخرة بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة.
وجملة {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}، عطف أمر على أمر آخر. وهي معترضة بين جملة {اتقوا الله} وجملة {إن الله خبير بما تعملون}. وذِكر {نفس} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر: وانظروا ما قدمتم، فعُدل عن الإِظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس.
وتنكير {نفس} يفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة: 6] وكقول الحريري:
يا أهلَ ذا المَغْنَى وُقيتم ضُرّا ***
(أي كل ضر).
وإنما لم يعرَّف بلام التعريف تنصيصاً على العموم لئلا يتوهم نفسٌ معهودة
وأطلق «غد» على الزمن المستقبل مجازاً لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغَد، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قرّاد بن أجدع:
فإن يَكُ صدْرُ هذا اليوم ولّى *** فإن غداً لناظره قريب
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ (غد) وأخواته قال زهير:
وأعْلَمُ عِلْم اليوممِ والأمسسِ قبلَه *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
يريد باليوم الزمن الحاضر، وبالأمس الزمن الماضي، وبالغد الزمن المستقبل.
وتنكير «غد» للتعظيم والتهويل، أي لغدٍ لا يعرف كنهه.
واللام في قوله: {لغدٍ} لام العلة، أي ما قدمتْه لأجل يوم القيامة، أي لأجل الانتفاع به.
والتقديم: مستعار للعمل الذي يُعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يَحلّ في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سَفر ليهيّء لهم ما يصلح أمرهم، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة. قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} [البقرة: 110] ويقال في ضده: أَخَّر، إذا ترك عمل شيء قال تعالى: {علمت نفس ما قدمت وأخرت}
[الأنفطار: 5].
وإعادة {واتقوا الله} ليبنَى عليه {إن الله خبير بما تعملون} فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}. وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفاً كقوله تعالى: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} [القيامة: 34، 35] وقوله: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 4]. وقول عدي بن زيد: «وألفَى قولها كذباً ومَيناً».
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد.
فجملة {إن الله خبير بما تعملون} تعليل للحث على تقوى الله وموقع {إنَّ} فيها موقع التعليل.
ويجوز أن يكون {اتقوا الله} المذكور أولاً مراداً به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} ويكون {اتقوا الله} المذكور ثانياً مراداً به الدوام على التقوى الأولى، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] ولذلك أردف بقوله: {إن الله خبير بما تعملون} أي بمقدار اجتهادكم في التقوى، وأردف بقوله: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر: 19] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلّدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلّدوا الإِسلام وأضاعوه قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67]. وفي قوله: {إن الله خبير بما تعملون} إظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتمّ استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}
بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العُدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيراً عن الإِعراض عن الدين والتغافل عن التقوى، وذلك يفضي إلى الفسوق. وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصوراً في صورة محسوسة هي صورة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.
وهذا الإِعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي تلبس به فريق ممن أظهروا الإِسلام في أول سنيّ الهجرة، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يُراد ب«الذين نسوا الله» المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدي الإِسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لأنه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال. وعبّر عنهم بالفاسقين قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} في سورة [براءة: 67]، فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.
ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام وكفروا بحمد.
فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} [البقرة: 40- 41].
وقد أطلق نسيانهم على الترك والإِعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائلَ صفاته ودلائلَ صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين.
ومعنى «أنساهم أنفسهم» أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإِسلامي فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صَلاحهم في الدنيا، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.
وأشعر فاء التسبب بأن إِنسَاء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله، أي لمَّا أعرضوا عن الهدى بكسبهم وإرادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى: {كالذين نسوا الله} دون أن يقال: نسُوهُ لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذي خلقهم وأرشدهم.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أولئك هم الفاسقون} قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأنّ فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.
واسم الإِشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.
والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالباً لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء، ومنه قيل: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فالفاسقون هم الآتون بفواحش السيئات ومساوئ الأعمال وأعظمها الإِشراك.
وجملة {أولئك هم الفاسقون} مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لبيان الإِبهام الذي أفاده قوله: {فأنساهم أنفسهم} كأن السامع سأل: ماذا كان أثر إنساء الله إياهم أنفسهم؟ فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حقّ عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم.
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
تذييل لجملة {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} [الحشر: 18] الخ. لأنّه جامع لخلاصة عاقبة الحالين: حال التقوى والاستعداد للآخرة، وحال نسيان ذلك وإهماله، ولكلا الفريقين عاقبة عمله. ويشمل الفريقين وأمثالهم.
والجملة أيضاً فذلكة لما قبلها من حال المتقين والذين نَسُوا الله ونُسُّوا أنفسهم لأن ذكر مثل هذا الكلام بعد ذكر أحوال المتحدَّث عنه يكون في الغالب للتعريض بذلك المتحدَّث عنه كقولك عندما ترى أحداً يؤذي الناس: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فمعنى الآية كناية عن كون المؤمنين هم أصحاب الجنة، وكون الذين نَسُوا الله هم أهل النار فتضمنت الآية وعداً للمتقين ووعيداً للفاسقين.
والمراد من نفي الاستواء في مثل هذا الكناية عن البون بين الشيئين.
وتعيين المفضل من الشيئين موكول إلى فهم السامع من قرينة المقام كما في قول السموأل:
فليس سواءً عالم وجهول ***
وقول أبي حزام غالب بن الحارث العكلي:
وأعلم أن تسليماً وتركاً *** للاَ متشابهان ولا سواء
ومنه قوله تعالى: {ليسوا سواء} بعد قوله: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} [آل عمران: 110] الآية. وقَبل قوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113]. وقد يردف بما يدل على جهة التفضيل كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا} [الحديد: 10]. وقوله هنا {أصحاب الجنة هم الفائزون}، وتقدم في قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} الآية (95) في سورة النساء.
وأما من ذهب من علماء الأصول إلى تعميم نحو لا يستوون من قوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18] فاستدلُّوا به على أن الفاسق لا يلِي ولاية النكاح، وهو استدلال الشافعية فليس ذلك بمرضي، وقد أباه الحنفية ووافقهم تاج الدين السبكي في غير «جمع الجوامع».
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله تعالى: {أصحاب الجنة هم الفائزون} قصر ادعائي لأن فوزهم أبدِيّ فاعتبر فوز غيرهم ببعض أمور الدنيا كالعدم.

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
لما حذّر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون، وتوعد الدين نَسُوا الله بالنار، وبيّن حالهم بأن الشيطان سوّل لهم الكفر. وكان القرآن دالاً على مسالك الخير ومحذّراً من مسالك الشر، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدبر فيه، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البيّن الذي لا يصرف الناسَ عنه إلا أهواؤهم ومكابرتهم، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم، ضَرب لهم هذا المثل تعجيباً من تصلبهم في الضلال.
وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرضضِ فَتح قُرى اليهود وما ينال المنافقين من جَرَّائِه من خسران في الدنيا والآخرة.
و {هذا القرآن} إشارة إلى المقدار الذي نَزل منه، وهو ما عرفوه وتلَوه وسمعوا تلاوته.
وفائدة الإِتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم. وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإِعراض عنه.
وهذا مثَلٌ ساقه الله تعالى كما دلّ عليه قوله: {وتلك الأمثال} الخ. وقد ضرب هذا مثلاً لقسوة الذين نَسُوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن.
والمراد بالجبل: حقيقته، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى {لَو} أن تجيء في الشروط المفروضة.
فالجبل: مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه. وإنزال القرآن مستعار للخطاب به. عبر عنه بالإِنزال على طريقة التبعية تشبيهاً لشرف الشيء بعلوّ المكان، ولإِبلاغه للغير بإنزال الشيء من علوّ.
والمعنى: لو كان المخاطب بالقرآن جَبلاً، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثراً ناشئاً من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن.
والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسُوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتّعظوا بمواعظه لاتَّعظ الجبل وتصدّع صخرهُ وتربه من شدة تأثره بخشية الله.
وضرَب التصدع مثلاً لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنْشَقَّ وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.
والخشوع: التطأطؤ والركوع، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.
والتصدع: التشقق، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى.
والخطاب في {لرأيته} لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية، وهي منفية لوقوعها جواباً لحرف {لو} الامتناعية.
والمعنى: لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع.
وجملة {وتلك الأمثال نضربها للناس} تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذُيّل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثلَ المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سُجّل عليهم عنادُهم ومكابرتهم، فالإِشارة بتلك إلى مجموع ما مرّ على أسماعهم من الأمثال الكثيرة، وتقديرُ الكلام: ضربنا هذا مثلاً، {وتلك الأمثال نضربها للناس}.
وضرب المثل سَوقه، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال: ضرب بيتاً، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً} ما في سورة [البقرة: 26].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)}
لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهرِ، أو صفاته العلية. وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته.
وكان مما حوته السورة الاعتبارُ بعظيم قدرة الله إذْ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرَهم على بني النضير ذلك النصرَ الخارق للعادة، وذِكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقُّوا الله ورسوله وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين نصروا الدّين، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير، والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته، عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته. وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادةً في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته، ولذلك ذُكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ مَا يليق به منها.
وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم به أصنامهم. وسنذكر مراجع هذه الأسماء إلى ما اشتملت عليه السورة فيما يأتي.
فضمير الغيبة الواقع في أول الجملة عائد إلى اسم الجلالة في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} [الحشر: 18]، و{هو} مبتدأ واسم الجلالة خبر عنه و{الذي} صفة لاسم الجلالة.
وكان مقتضى الظاهر الاقتصار على الضمير دون ذكر اسم الجلالة لأن المقصود الإِخبار عن الضمير ب {الذي لا إله إلا هو} وبما بعد ذلك من الصفات العلية، فالجمع بين الضمير وما يساوي معادَة اعتبار بأن اسم الجلالة يجمع صفات الكمال لأن أصله الإله ومدلول الإله يقتضي جميع صفات الكمال.
ويجوز أن يجعل الضمير ضمير الشأن ويكون الكلام استئنافاً قُصد منه تعليم المسلمين هذه الصفات ليتبَصَّرُوا فيها وللردّ على المشركين إشراكهم بصاحب هذه الصفات معه أصنافاً ليس لواحد منها شيء من مثل هذه الصفات، ولذلك ختمت طائفة منها بجملة {سبحان الله عما يشركون} [الحشر: 23]، لتكون ختاماً لهذه السورة الجليلة التي تضمنت منة عظيمة، وهي منة الفتح الواقع والفتح الميسّر في المستقبل، لا جرم أنه حقيق بأن يعرفوا جلائل صفاته التي لتعلقاتها آثار في الأحوال الحاصلة والتي ستحصل من هذه الفتوح وليعلمَ المشركون والكافرون من اليهود أنهم ما تعاقبت هزائمهم إلاّ من جرّاء كفرهم. ولما كان شأن هذه الصفات عظيماً ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و{الذي لا إله إلا هو} خبر.
والجملة خبر عن ضمير الشأن فيكون اسم الجلالة مبتدأ و{الذي لا إله إلا هو} خبراً والجملة خبراً عن ضمير الشأن.
وابتدئ في هذه الصفات العلية بصفة الوحدانية وهي مدلول {الذي لا إله إلا هو} وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات. ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي، وفاتحة آل عمران.
وثني بصفة {عالم الغيب} لأنها الصفة التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جميع الصفات إذ لا تتقوّم حقيقة العلم الواجب إلا بالصفات السَّلبية، وإذْ هو يقتضي الصفات المعنوية، وإنما ذكر من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه الذي فارق به علمُ الله تعالى علمَ غيره، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس تَوهُّم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في {الغيب والشهادة} للاستغراق. أي كل غيب وشهادة، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره. وهو علم الغيب والشهادة، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم. فالمقصود فيهما بمعنى اسم الفاعل، أي عالم ما ظهر للناس وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه.
والتعريف في {الغيب والشهادة} للاستغراق الحقيقي.
وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصَروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل، أمّا ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه. قال تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم إلى قوله: من الخاسرين} [فصلت: 22- 23].
وضمير {هو الرحمن الرحيم} ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجُزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه» وقد تقدم الكلام على {الرحمن الرحيم} في سورة [الفاتحة: 3].
ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه، فهو يرحم المحْتاجين إلى رحمته ويُهْمِل المعاندين إلى عقاب الآخرة، فهو رحمان بهم في الدنيا، وقد كثر إتباع اسم الجلالة بصفتي الرحمن الرحيم في القرآن كما في الفاتحة.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)}
{هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجَبّارُ المتُتَكَبِرُّ}.
القول في ضمير {هو} كالقول في نظيره في الجملة الأولى. وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية.
و {الملك}: الحاكِم في الناس، ولا مَلِك على الإِطلاق إلاّ الله تعالى وأما وصف غيره بالمَلِك فهو بالإِضافة إلى طائفة معيَّنة من الناس. وعُقب وصفا الرحمة بوصف {الملك} للإِشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة.
و {القدوس} بضم القاف في الأفصح، وقد تفتح القاف قال ابن جنّي: فَعُّول في الصفة قليل، وإنما هو في الأسماء مثل تَنُّور وسَفُّود وعَبُّود. وذكر سيبويه السَّبُّوح والقَدوس بالفتح، وقال ثعلب: لم يَرد فَعُّول بضم أوله إلا القُدوس والسُّبوح. وزاد غيره الذُّرُّوح، وهو ذُباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزنبور. ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند. وما عداهما مفتوح مثل سَفُّود وكَلُّوب. وتَنُّور وسَمُّور وشَبُّوط (صنف من الحوت) وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين.
وعقب ب {القدوس} وصف {الملك} للاحتراس إشارة إلى أنه مُنزه عن نقائص الملوك المعروفة من الغرور، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائص النفوس.
و {السلام} مصدر بمعنى المسالَمَة وُصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف، أي ذو السلام، أي السلامة، وهي أنه تعالى سالَمَ الخلقَ من الظلم والجور. وفي الحديث «إن الله هو السلام ومنه السّلام» وبهذا ظهر تعقيب وصف {الملك} بوصف {السلام} فإنه بعد أن عُقب ب {القدوس} للدلالة على نزاهة ذاته، عُقب ب {السلام} للدلالة على العدل في معاملته الخلق، وهذا احتراس أيضاً.
و {المؤمن} اسم فاعل من آمن الذي همزته للتعدية، أي جعل غيره آمناً.
فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات، إذ خلق نظام المخلوقات بعيداً عن الأخطار والمصائب، وإنما تَعْرِض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن أو تضاد أو تعارض مصالح، فيرجَع أقواها ويَدحض أدناها، وقد تأتي من جرّاء أفعال الناس.
وذكر وصف {المؤمن} عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهّم وصفه تعالى ب {الملك} أنه كالملوك المعروفين بالنقائص. فأفيد أولاً نزاهة ذاته بوصف {القدوس}، ونزاهة تصرفاته المغيَّبة عن الغدر والكَيد بوصف {المؤمن}، ونزاهةُ تصرفاته الظاهرةِ عن الجور والظلم بوصف {السلام}.
و {المهيمن}: الرقيب بلغة قريش، والحافظ في لغة بقية العرب.
واختلف في اشتقاقه فقيل: مشتق من أمَنَ الداخل عليه همزة التعدية فصار آمَن وأن وزن الوصففِ مُؤَيْمِن قلبت همزته هاء، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن، بحيث صار كالاسم الجامد. وصار معناه: رقب: (ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذين في المؤمن لمّا صار اسماً للرقيب والشاهد)، وهو قلب نادر مثل قلب همزة: أراق إلى الهاء فقالوا: هَراق، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفَعْلِل اسم فاعل من آمن مثل مُدحرج، فتصريفه مُؤَأْمِن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا: هراق.
وقيل: أصله هَيْمن بمعنى: رَقب، كذا في «لسان العرب» وعليه فالهاء أصلية ووزنه مُفَيْعل. وذَكره صاحب «القاموس» في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه. وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحاً بأن هاءه أصلها همزة. وعدل الراغب وصاحب «الأساس» عن ذكر. وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن.
وفي «المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» للغزالي {المهيمن} في حق الله: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه. والإِشرافُ، (أي الذي هو الإطلاع) يرجع إلى العلم، والاستيلاءُ يرجع إلى كمال القدرة، والحفظُ يرجع إلى الفعل. والجامعُ بين هذه المعاني اسمه {المهيمن} ولن يجتمع عَلَى ذلك الكمال والإِطلاققِ إلا الله تعالى، ولذلك قيل: إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة ا ه. وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإِسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها.
وتعقيب {المؤمن} ب {المهيمن} لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره، فأُعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم.
و {العزيز} الذي لا يُغلب ولا يُذلّه أحد، ولذلك فسر بالغالب.
و {الجبار}: القاهر المُكرِه غيره على الانفعال بفعله، فالله جبار كل مخلوق على الانفعال لما كوّنه عليه لا يستطيع مخلوق اجتياز ما حدّه له في خلقته فلا يستطيع الإِنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط، وكذلك هو جبّار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها.
وإذا وصف الإِنسان بالجبار كان وصف ذمّ لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى: {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} [القصص: 19]. فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره، وأمثلة المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم. قال الفراء: لم أسمع فَعَّالاً في أفعَلَ إلا جبّاراً ودَرَّاكاً. وكان القياس أن يقال: المجبر والمُدرك، وقيل: الجبار معناه المصلح من جبر الكَسر، إذَا أصلحه، فاشتقاقه لا نذرة فيه.
و {المتكبر}: الشديد الكبرياء، أي العظمة والجلالة. وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن.
ويقال: فلان يتظلم على الناس، أي يكثر ظلمهم.
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة {المهيمن} أن جميع ما ذكره آنفاً من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة {المهيمن} تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة {العزيز} ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء. وأتبعت بصفة {الجبار} الدالة على أنّه مسخر المخلوقات لإِرادته ثم صفة {المتكبر} الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت الصفات قبلها في جانب الإِطماع.
{المتكبر سبحان الله عَمَّا}.
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون. فضمير {يشركون} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
{هُوَ الله الخالق البارئ المصور}.
القول في ضمير {هو} المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقتها. فإن كان ضمير الغيبة ضميرَ شأن فالجملة بعده خبر عنه.
وجملة {الله الخالق} تفيد قصراً بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} [النحل: 20]، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17]، وإن كان عائداً على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و{الخالق} صفة.
و {الخالق}: اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه. وقد تقدم عند قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} الآية [49] في سورة آل عمران. ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجوداً. كقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38]. وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى {الخالق}.
قال في «الكشاف»: «المقدر لما يوجده». ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال: «لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق» ا ه. يشير إلى أن الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير. ويكون ذكر {البارئ} و{المصور} بعد {الخالق} تنبيهاً على أحوال خاصة في الخلق. قال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف: 11] على أحد التأويلين.
وقال الراغب: الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إيداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ا ه.
وقال أبو بكر ابن العربي في «عارضة الأحوذي» على «سنن الترمذي»: {الخالق}: المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها (فخلط بين المعنيين) ثم قال: فالخالق عام، والبارئ أخص منه، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب «الكشاف». وقال الغزالي في «المقصد الأسنى»: الخالق البارئ المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولاً، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانياً، وإلى التصوير بعد الإِيجاد ثالثاً، والله خالق من حيث أنه مقدِّر وبارئ من حيث إنه مخترع موجود، ومصور من حيث إنه مرتبٌ صور المخترعات أحسن ترتيب ا ه. فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.
و {البارئ} اسم فاعل من بَرَأَ مهموزاً. قال في «الكشاف» المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة ا ه. وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص. وفي الحديث
" من شر ما خلق وذرأ وبرأ " ومن كلام علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى: {أولئك هم شر البريئة أولئك هم خير البريئة} [البينة: 6، 7]. وقال الراغب: البريئة: الخلق.
وقال ابن العربي في «العارضة»: {البارئ}: خالق الناس من البرَى (مقصوراً) وهو التراب خاصاً بخلق جنس الإِنسان، وعليه يكون اسم البريئة خاصاً بالبشر في قوله تعالى: {أولئك هم شر البريئة أولئك هم خير البريئة.
وفسره ابن عطية بمعنى الخالق. وكذلك صاحب القاموس}. وفسره الغزالي بأنه الموجود المخترع، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في «الكشاف».
و {المصور}: مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية.
وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإِبداع الإلهي للإِنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإِيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإِنسان ثم بالتصّور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة} [الانفطار: 7، 8]، {الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6].
ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإِشارة إلى تصرفه في البشر بالإِيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقب بجملة {يسبح له ما في السموات والأرض}.
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحُسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفاً.
القسم الأول: يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافِهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين.
وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إله إلا هو} [الحشر: 23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإِشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يُغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإِسلام، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وما زادوهم غيرَ تتبيب} [هود: 101].
وصفة {عالم الغيب} [الحشر: 22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13] الآية.
وكذلك ذكر صفات «المَلِك، والعزيز، والجبار، والمتكبر»، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني: متعلق بما اجْتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السلام المؤمن} [الحشر: 23] لقوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالاً.
وكذلك صفتا
{الرحمان الرحيم} [الحشر: 22] لمناسبتهما لإِعطاء حظ في الفيء للضعفاء.
القسم الثالث: متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها، وهي صفات: «القدوس، المهيمن، الخالق، البارئ، المصور».
{المصور لَهُ الاسمآء}.
تذييل لما عُدّد من صفات الله تعالى، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفاً.
والمراد بالأسماء الصفات، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالأعلام على ذاته تعالى.
والمقصود: أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: {ثم عرضهم على الملائكة بعد قوله: وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، أي عرض المسميات على الملائكة.
وقد تقدم قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} في سورة [الأعراف: 180].
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والارض وَهُوَ العزيز الحكيم}.
جملة {يسبح له} الخ في موضع الحال من ضمير {له الأسماء الحسنى} يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد. فالدُهري أو الطبائعي إذا نوّه بنظام الكائنات وأعجب بانتساقها فإنما يسبح في الواقع للفاعل المختار وإن كان هو يدعوه دَهراً أو طبيعة، هذا إذا حمل التسبيح على معناه الحقيقي وهو التنزيه بالقول، فأما إن حمل على ما يشمل المعنيين الحقيقي والمجازي من دلالة على التنزيه ولو بلسان الحال. فالمعنى: أن ما ثبت له من صفات الخلق والإِمداد والقهر تدل عليه شواهد المخلوقات وانتظام وجودها.
وجملة {وهو العزيز الحكيم} عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق.
وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.
روى الترمذي بسند حسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يُصبح ثلاثَ مرّات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، وكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يُمسِيَ، وإن مات ذلك اليومَ مات شهيداً. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " فهذه فضيلة لهذه الآيات أخروية.
وروى الخطيب البغدادي في «تاريخه» بسنِده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف (راوي حمزة) فلما بلغت هذه الآية {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [الحشر: 21] إلى آخر السورة قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعْمش. فلما بلغتُ هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يَحيى بن وثاب، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا: ضع يدك على رأسك فإنّا قرأنا على عبد الله فلما بلغنا هذه الآية قال: ضعا أَيديكما على رؤوسكما، فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغتُ هذه الآية قال لي: ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إليَّ قال: ضعَ يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام.
والسام الموت. قلت: هذا حديث أغر مسلسل إلى جبريل عليه السلام.
وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن} [الحشر: 21] إلى آخر السورة: هي رُقية الصداع، فهذه مزية لهذه الآيات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)}
اتفق المفسرون وثبت في «صحيح الأحاديث» أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العُزّى من قريش. وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر.
وحاصل القصة مأخوذة مما في «صحيح الآثار» ومشهور السيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تجهّز قاصداً مكة. قيل لأجل العمرة عام الحديبية، وهو الأصح، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم، فقدمتْ أيامئذٍ من مكة إلى المدينة امرأة تسمّى سارة مولاةٌ لأبي عَمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقَالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي (تعني من قُتل من مواليها يوم بدر). وقد اشتدت بي الحاجة فقدمتُ عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وأعطوها وحملوها، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتاباً لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم، وآجرها على إبلاغه فخرجت، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث عليّاً والزبير والمقدادَ وأبا مرثد الغَنوي، وكانوا فرساناً. وقال: انطلقوا حتى تأتوا رَوضة خَاخخٍ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها. فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة. فقالوا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقالوا: لتخرجنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيّنَ الثّياب (يعنون أنهم يجردونها) فأخرجته من عقاصها، وفي رواية من حُجْزتها.
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب ما هذا؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله. فإني كنت امرأ ملصقاً في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمُون بها قرابتي (يريد أمه وإخوته)، ولم أفعله كُفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضىً بالكفر بعد الإِسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم صَدقَ. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضربْ عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقال: لا تقولوا لحاطب إلاّ خيراً فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} الآيات.
والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّن يوم الفتح أربعةً منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم
" خذوا منها الكتاب وخَلُّوا سبيلها "
وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيراً من إتيان مثل فعل حاطب.
والعدوّ: ذو العداوة، وهو فعول بمعنى فاعل من: عدا يعدو، مثل عفوّ. وأصله مصدر على وزن فعول مثل قَبول ونحوه من مصادر قليلة. ولكونه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع. قال تعالى: {فإنهم عدو لي} [الشعراء: 77]، وتقدم عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدو لكم} في سورة [النساء: 92].
والمعنى: لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء. والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصاراً لشركهم فعدُّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم. وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناواة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي. فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير: عدوّ ديني، أو رسولي.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة. وقد تقدم في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم} في سورة [النساء: 71]. ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر. فعومل هذا الفعل معاملة صيَّر. واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أتتخذ أصناماً إلهة} في سورة [الأنعام: 74].
وجملة تلقون إليهم بالمودة} في موضع الحال من ضمير {لا تتخذوا}، أو في موضع الصفة ل {أولياء} أو بيان لمعنى اتخاذهم أولياء.
ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير {لا تتخذوا} لأن جعلها حالاً يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة.
والإِلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض. واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في موقعه، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل. قال تعالى: {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} في سورة [النحل: 86].
والباء في بالمودة} لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله. وأصل الكلام: تلقون إليهم المودة، كقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وقوله: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم.
وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} وهي حال من ضمير {إليهم} أو من {عدوي}.
«وما جاءكم من الحق» هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإِيجاز مع ما في الصلة من الإِيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب.
وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلاّ فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون.
وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشئ عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم.
وفي ذلك أيضاً إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين.
وجملة {يخرجون الرسول وإياكم} حال من ضمير {كفروا}، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأنْ تؤمنوا بالله ربكم، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم. وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم. ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربِّكم على حدّ قوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 1 3] ثم قال: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6].
وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالاً من ضمير {وقد كفروا} كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملاً فظيعاً، فأريد استحضار صورة ذلك الإِخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له.
والإِخراج أريد به: الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على المسلمين وأذى لهم.
وأسند الإِخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين. وربما أغْرَوا به سفهاءهم، ولذلك فالإِخراج مجاز في أسبابه، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي.
وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم.
وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {أن تؤمنوا}، لإِفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبَّب لهم الخروج من بلادهم.
وقوله: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} شرط ذُيّل به النهي من قوله: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. وهذا مقام يستعمل في مثله الشرطُ بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما عُلق عَليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لِما قبله، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يُتوقع من السامع أن يحصل منه غيرُ مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مراداً بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركَّب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالباً. ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقاً بحصول مضمونه متحققاً صحة ما يقوله قبل الشرط.
كما ذكر في «الكشاف» في قوله تعالى: {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين} في سورة [الشعراء: 51]، في قراءة من قرأ إن كنا أول المؤمنين بكسر همزة (إنْ) وهي قراءة شاذة فتكون (إن) شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل (إذْ) أو لام التعليل.
وقد يَأتِي بمثل هذا الشرط مَن يُظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالَف مقتضاه كقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 41] إلى قوله: {إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا} [الأنفال: 41]، أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعيّنة من عند الله. ومنه كثير في القرآن إذا تتبعتَ مواقعه.
ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذاناً بأن الشرط محقق الحصول.
وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف.
ولذلك يجَاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ.
قال في «الكشاف» في قوله تعالى: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} في سورة [الفرقان: 42] و(لولا) في مثل هذا الكلام جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مَجرى التقييد للحكم المطلق. وقال هنا إن كنتم خرجتم} متعلق ب {لا تتخذوا} وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. اه. يعني أن فرقاً بين كلام النحويين وبين ما اختاره هُو مِنْ جَعْله متعلقاً ب {لا تتخذوا} فإنه جعل جواب الشرط غير منوي. قلت: فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب «دلائل الإِعجاز». وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو: اقبَل شفاعة فلان إنْ شَفِع عندك، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذَا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم.
وأداة الشرط في مثله تشبه {إنْ} الوصلية و(لو) الوصلية، ولذلك قال في «الكشاف» هنا: إن جملة {إن كنتم خرجتم} متعلقة ب {لا تتخذوا} يعني تعلقَ الحال بعاملها، أي والحال حالُ خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مَرضاتَه بناء على أن شرط {إن}. و(لو) الوصليّتين يعتبر حالاً. ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جنّي والزمخشري سوّغا خلوَّ الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما.
والمعنى: لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وأخرجوكم لأجل إيمانكم. إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فكيف تُوالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم.
والمراد بالخروج في قوله: {إن كنتم خرجتم} الخروج من مكة مهاجَرة إلى المدينة. فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة.
و {جهاداً}، و{ابتغاءَ مرضاتي} مصدران منصوبان على المفعول لأجله.
{مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ}.
يجوز أن تكون الجملة بياناً لجملة {تلقون إليهم بالمودة}، أو بدل اشتمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإِلقاء إليهم بالمودة. والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا.
والإِسرار: التحدث والإِخبار سراً.
ومفعول {تسرون} يجوز أن يكون محذوفاً يدل عليه السياق، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سراً.
وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإِسرار إليه تفظيعاً لها.
والباء في {بالمودة} للسببية، أي تخبرونهم سراً بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب.
ويجوز أن يكون {بالمودة} في محل المفعول لفعل {تسرون} والباءُ زائدةً لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
وجملةُ {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} في موضع الحال من ضمير {تسرون} أو مُعترضةٌ، والواو اعتراضية.
وهذا مناط التعجيب من فعل المعرَّض به وهو حَاطب بن أبي بلتعة. وتقديم الإِخفاء لأنه المناسب لقوله: {وأنا أعلم}. ولموافقته للقصة.
و {أعلم} اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله: {تسرون إليهم} فالتقدير: أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم.
والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة.
{أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ}.
عطف على جملة النهي في قوله تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، عُطف على النهي التوعدُ على عدم الانتهاء بأن من لم ينته عما نُهي عنه هو ضالّ عن الهُدَى.
وضمير الغيبة في {يفعله} عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل {لا تتخذوا عدوي} أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضلّ عن سواء السبيل.
و {سواء السبيل} مستعار لأعمال الصلاح والهُدَى لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة. والمراد به هنا ضلّ عن الإِسلام وضلّ عن الرشد.
و {مَن} شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله.
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
تفيد هذه الجملة معنى التعليل لمفاد قوله تعالى: {فقد ضل سواء السبيل} [الممتحنة: 1] باعتبار بعض ما أفادته الجملة، وهو الضلال عن الرشد، فإنه قد يخفى ويظنّ أن في تطلب مودّة العدوِّ فائدة، كما هو حال المنافقين المحكي في قوله تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 141]، فقد يُظن أن موالاتهم من الدهاء والحزم رَجاء نفعهم إن دالت لهم الدولة، فبيّن الله لهم خطأ هذا الظنّ، وأنهم إن استفادوا من مودتهم إياهم إطلاعاً على قوتهم فتأهبوا لهم وظفِروا بهم لم يكونوا ليرقبوا فيهم إلاَّ ولا ذِمّةً، وأنهم لو أخذوهم وتمكنوا منهم لكانوا أعداء لهم لأن الذي أضمر العداوة زمناً يعسر أن ينقلب ودوداً، وذلك لشدة الحنق على ما لَقُوا من المسلمين من إبطال دين الشرك وتحقير أهله وأصنامهم.
وفعل {يكونوا} مشعر بأن عداوتهم قديمة وأنها تستمر.
والبسط: مستعار للإِكثار لما شاع من تشبيه الكثير بالواسع والطويل، وتشبيه ضده وهو القبض بضد ذلك، فبسط اليد الإِكثار من عملها.
والمراد به هنا: عمل اليد الذي يضرّ مثل الضرب والتقييد والطعن، وعمل اللسان الذي يؤذي مثل الشتم والتهكم. ودلّ على ذلك قوله: {بالسوء}، فهو متعلق ب {يبسطوا} الذي مفعوله {أيديهم وألسنتهم}.
وجملة {وودوا لو تكفرون} حال من ضمير {يكونوا}، والواو واو الحال، أي وهم قد وَدُّوا مِن الآن أن تَكفروا فكيف لو يأسرونكم أَليس أهم شيء عندهم حينئذٍ أن يردُّوكم كفاراً، فجملة الحال دليل على معطوففٍ مقدّر على جواب الشرط كأنه قيل: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء إلى آخره، ويردوكم كفاراً، وليست جملة {وودوا لو تكفرون} معطوفة على جملة الجواب، لأن مَحبتهم أن يَكفر المسلمون محبة غير مقيدة بالشرط، ولذلك وقع فعل {وَدُّوا} ماضياً ولم يقع مضارعاً مثل الأفعال الثلاثة قبله {يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا} ليُعلم أنه ليس معطوفاً على جواب الشرط.
وهذا الوجه أحسن مما في كتاب «الإِيضاح» للقزويني في بحث تقييد المسند بالشرط، إذّ استظهر أن يكون {وودوا لو تكفرون} عطفاً على جملة {إن يثقفوكم}.
ونَظّره بجملة {ثم لا يُنصرون من قوله تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} في آل عمران (111). فإن المعطوف ب (ثُم) فيها عطفٌ على مجموع الشرط وفعله وجوابه لا على جملة فعل الشرط.
ولو} هنا مصدرية ففعل {تكفرون} مؤول بمصدر، أي ودُّوا كفركم.
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
تخلص من تبيين سوء عاقبة موالاة أعداء الدّين في الحياة الدنيا، إلى بيان سوء عاقبة تلك الموالاة في الآخرة، ومناسبة حسن التخلص قوله: {وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2] الدالّ على معنى: أن ودادَتهم كفركم من قبل أن يثقفوكم تنقلب إلى أن يكرهوكم على الكفر حين يثقفونكم، فلا تنفعكم ذوو أرحامكم مثل الأمهات والإِخوة الأشقاء، وللأمّ، ولا أولادكم، ولا تدفع عنكم عذاب الآخرة إن كانوا قد نفعوكم في الدنيا بصلة ذوي الأرحام ونصرة الأولاد.
فجملة {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن سؤال مفروض ممن يسمع جملة {ودُّوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2]، أي من حق ذلك أن يُسأل عن آثارِه لخطر أمرها.
وإذا كان ناشئاً عن كلام جرى مجرى التعليل لجملة {فقد ضل سواء السبيل} [الممتحنة: 1]، فهو أيضاً مفيد تعليلاً ثانياً بحسب المعنى، ولولا إرادة الاستئناف البياني لجاءت هذه الجملة معطوفة بالواو على التي قبلها، وزاد ذلك حسناً أن ما صدر من حاطب ابن أبي بلتعة مما عُدّ عليه هو موالاةٌ للعدوّ، وأنه اعتذر بأنه أراد أن يتخذ عند المشركين يداً يحمون بها قرابته (أي أمه وإخوته). ولذلك ابتدئ في نفي النفع بذكر الأرحام لموافقة قصة حاطب لأن الأم ذات رحم والإِخوة أبناؤها هم إخوته من رحمه.
وأما عطف {ولا أولادكم} فتتميم لشمول النهي قوماً لهم أبناء في مكة.
والمراد بالأرحام: ذوو الأرحام على حذف مضاف لظهور القرينة.
و {يوم القيامة} ظرف يتنازعه كلٌ من فعل {لن تنفعكم}، وفعل {يفصل بينكم}. إذ لا يلزم تقدم العاملين على المعمول المتنازع فيه إذا كان ظرفاً لأن الظروف تتقدم على عواملها وأن أبيت هذا التنازع فقل هو ظرف {تنفعكم} واجعل ل {يفصل بينكم} ظرفاً محذوفاً دلّ عليه المذكور.
والفصل هنا: التفريق، وليس المراد به القضاءَ. والمعنى: يوم القيامة يفرق بينكم وبين ذوي أرحامكم وأولادكم فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه} [عبس: 34 37].
والمعنى: أنهم لا ينفعونكم يوم القيامة فما لكم ترفضون حقّ الله مراعاةً لهم وهم يفرّون منكم يوم اشتداد الهول، خَطَّأ رأيهم في موالاة الكفار أولاً بما يرجع إلى حال مَن والوه. ثم خَطّاه ثانياً بما يرجع إلى حال من استعملوا الموالاة لأجلهم، وهو تقسيم حاصر إشارة إلى أن ما أقدم عليه حاطب مِن أي جهة نظر إليه يكون خطأ وباطلاً.
وقرأ الجمهور {يفصل بينكم} ببناء {يُفصَل} للمجهول مخففاً. وقرأه عاصم ويعقوب {يُفصِل} بالبناء الفاعل، وفاعله ضمير عائد إلى الله لعلمه من المقام، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يفصِّل} مشدد الصاد مكسورة مبنياً للفاعل مبالغةً في الفصل، والفاعل ضمير يعود إلى الله المعلوم من المقام.
وقرأه ابن عامر {يُفصَّل} بضم التحتية وتشديد الصاد مفتوحة مبنياً للنائب من فَصَّل المشدّد.
وجملة {والله بما تعملون بصير} وعيد ووعد.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا}.
صدر هذه الآية يفيد تأكيداً لمضمون جملة {إن يثقفوكم} [الممتحنة: 2] وجملة {لن تنفعكم أرحامكم} [الممتحنة: 3]، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوةَ الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ.
ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوَّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيراً لهم من ذلك، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإِيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة.
وافتتاح الكلام بكلمتي {قد كانت} لتأكيد الخبر، فإن {قد} مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإِنكار على المخاطب ولومه في الإِعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عُمر لابن عباس يوم طَعَنه غلامُ المغيرة: «قد كنتَ أنتَ وأبوك تُحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاجُ بالمدينة»، ومنه قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك} [ق: 22] توبيخاً على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث، وقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43] وقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21].
ويتعلق {لكم} بفعل «كان»، أو هو ظرف مستَقِرّ وقع موقع الحال من {أسوة حسنة}.
وإبراهيم عليه السلام مَثَل في اليقين بالله والغضب به، عَرف ذلك العرب واليهود والنصارى من الأمم، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأَراميين، ولعله بلغ إلى الهند. وقد قيل: إن اسم (بَرهما) معبودِ البراهة من الهنود مُحرف عن (اسم إبراهيم) وهو احتمال.
وعُطف {والذين معه} ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام.
والمراد ب {الذين معه} الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سَارَةُ وابن أخيه لوطٌ ولم يكن لإِبراهيم أبناء، فضمير {إذ قالوا} عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة.
و {إذْ} ظرف زمان بمعنى حينَ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن.
والمراد بالزمن: الأحوال الكائنة فيه، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة {قالوا لقومهم إنا برءآء منكم} الخ.
والإِسوة بكسر الهمزة وضمها: القُدوة التي يقتدَى بها في فعل ما. فوصفت في الآية ب {حسنة} وصفاً للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده.
وقرأ الجمهور {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأه عاصم بضمها. وتقدمت في قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} في سورة [الأحزاب: 21].
وحرف في} مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف.
ولذلك كان المعنى: قد كانَ لكم إبراهيمُ والذين معه أسوةً في حين قولهم لقومهم. فليس قوله: {إسوة حسنة في إبراهيم} من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي.
وفي الرَّحمان للضعفاء كاف
لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم.
و {برءآء} بهمزتين بوزن فُعَلاء جَمْع بريء مثل كَريم وكُرماء.
وبريء فعيل بمعنى فاعل من بَرِئ من شيء إذا خَلاَ منه سواءً بعد ملابسته أو بدون ملابسة.
والمراد هنا التبرؤ من مخالطتهم وملابستهم.. وعطف عليه {ومما تعبدون من دون الله} أي من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد بُرَءآء من عبادتها.
وجملة {كفرنا بكم} وما عطف عليها بيان لمعنى جملة {إنا برءآء}.
وضمير {بكم} عائد إلى مجموع المخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله، ويفسَّر الكفرُ بما يناسب المعطوف عليه والمعطوف، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير كفرهم بما يعبده قومهم.
وعُطف عليه {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً} وبدا معناه: ظهر ونشأ، أي أحدثنا معكم العداوة ظاهرةً لا مواربة فيها، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب. وهو أقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليَد لقلتهم وضعفهم بين قومهم.
و {العداوة} المعاملة بالسوء والاعتداءِ.
و {البغضاء}: نفرة النفس، والكراهيةُ وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا، فذِكرهما معاً هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم: حالة المعاملة بالعدوان، وحالة النفرة والكراهية، أي نُسِيءُ معاملتكم ونُضمر لكم الكراهية حتى تؤمنوا بالله وحده دون إشراك.
والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس، فالمؤتَسَى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضُّوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية.
{وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاَِبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن}.
الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة {لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة} [الممتحنة: 6]، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم: {إنا برءآء منكم} الخ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفقٌ بأبيه وهو يغاير التبرُّؤ منه، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله: {إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم} الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين.
قال في «الكشاف» في قوله تعالى: {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط} في سورة [الحجر: 58، 59]. أنه استثناء منقطع من قوم} لأن القوم موصوفون بالإِجرام فاختلَف لذلك الجنسان ا ه.
فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجباً اعتبار الاستثناء منقطعاً. وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطأ حاطب ابن أبي بلتعة، أي إن كنتم معتذرين فليكن عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تَوَدُّوا لهم مغفرةَ كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك}، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحلّ المودة والعناية فيزدادوا تعنتاً في كفرهم.
وحكاية قول إبراهيم لأبيه {وما أملك لك من الله من شيء} إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله.
والواو في {وما أملك لك من الله من شيء} يجوز أن تكون للحال أو للعطف. والمعنى متقارب، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل.
ومعنى الملك في قوله: {وما أملك} القدرة، وتقدم في قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئاً} في سورة [العقود: 17].
ومن شيء} عامّ للمغفرة المسؤولة وغيرها مما يريده الله به.
{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير}.
الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة {إلا قول إبراهيم} إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به، وبه يكون الكلام شديد الاتصال مع قوله: {لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة} [الممتحنة: 6].
ويحتمل أن يكون تعليماً للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته. وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه.
فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله: {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفينِ والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 78 82].
فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاحُ في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضرّ. وقد جمعها قول إبراهيم هناك {فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين}. وهذا جمعه قوله هنا {عليك توكلنا} {والذي يميتني ثم يحيين} جمعه قوله: {وإليك المصير} فإن المصير مَصيراننِ مصيرٌ بعد الحياة ومصير بعد البعث.
وقوله: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي} فإن وسيلة الطمع هي التوبة وقد تضمنها قوله: {وإليك أنبنا}.
وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يَصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه.
والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة [آل عمران: 159].
والإِنابة: التوبة، وتقدمت عند قوله تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} في سورة [هود: 75]، وعند قوله: {منيبين إليه} في سورة [الروم: 31].
وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإِفادة القصر، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة.
وإعادة النداء بقولهم: ربنا} إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث.
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.
الفتنة: اضطراب الحال وفساده، وهي اسم مصدر فتجيء بمعنى المصدر كقوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191] وتجيء وصفاً للمفتون والفاتن.
ومعنى جَعلهم فتنة للذين كفروا: جعلهم مفتونين يفتنُهم الذين كفروا، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون كما قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [البروج: 10] الخ. ويصدق أيضاً بأن تختل أمور دينهم بسبب الذين كفروا، أي بمحبتهم والتقرب منهم كقوله تعالى حكاية عن دعاء موسى {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} [الأعراف: 155].
وعلى الوجهين فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول. وتقدم في قوله تعالى: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} في سورة [يونس: 85].
واللام في للذين كفروا} على الوجهين للملك، أي مفتونين مسخرين لهم.
ويجوز عندي أن تكون {فتنة} مصدراً بمعنى اسم الفاعل، أي لا تجعلنا فاتنين، أي سبب فتنة للذين كفروا، فيكونَ كناية عن معنى لا تغلِّب الذين كفروا علينا واصرف عنا ما يكون به اختلال أمرنا وسوءِ الأحوال كيلا يكون شيء من ذلك فاتناً الذين كفروا، أي مقوياً فتنتهم فيُفْتَتَنُوا في دينهم، أي يزدادوا كفراً وهو فتنة في الدين، أي فيظنوا أنا على الباطل وأنهم على الحق، وقد تطلق الفتنة على ما يفضي إلى غرور في الدين كما في قوله تعالى: {بل هي فتنة} في سورة [الزمر: 49] وقوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} في سورة [الأنبياء: 111].
واللام على هذا الوجه لام التبليغ وهذه معان جمّة أفادتها الآية.
كَفَرُواْ واغفر لَنَا}.
أعقبوا دعواتهم التي تعود إلى إصلاح دينهم في الحياة الدنيا بطلب ما يصلح أمورهم في الحياة الآخرة وما يوجب رضى الله عنهم في الدنيا فإن رضاهُ يفضي إلى عنايته بهم بتسيير أمورهم في الحياتين. وللإِشعار بالمغايرة بين الدعوتين عطفت هذه الواو ولم تعطف التي قبلها.
{رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز}.
تعليل للدعوات كلها فإن التوكل والإِنابة والمصير تناسب صفة {العزيز} إذ مثله يعامِل بمثل ذلك، وطلبَ أن لا يجعلهم فتنة باختلاف معانيه يناسب صفة {الحكيم}، وكذلك طلب المغفرة لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يَجعلهم فتنة الكافرين وأن يغفر لهم رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم لما فيه من صلاحهم وقد جاؤوا سائلينه.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}
تكرير قوله آنفاً {قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم} [الممتحنة: 4] الخ، أعيد لتأكيد التحريض والحث على عدم إضاعة الائتساء بهم، وليبنى عليه قوله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر الخ.
وقُرن هذا التأكيد بلام القسم مبالغة في التأكيد. وإنما لم تتصل بفعل {كان} تاء تأنيث مع أن اسمها مؤنث اللفظ لأن تأنيث أسوة غير حقيقي، ولوقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه بالجار والمجرور.
والإِسوة هي التي تقدم ذكرها واختلاف القرّاء في همزتها في قوله: {قد كانت لكم إسوة حسنة}.
وقوله: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} بدل من ضمير الخطاب في قوله: {لكم} وهو شامل لجميع المخاطبين، لأن المخاطبين بضمير {لكم} المؤمنون في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] فليس ذكر {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} تخصيصاً لبعض المؤمنين ولكنه ذكر للتذكير بأن الإِيمان بالله واليوم الآخر يقتضي تأسيَهم بالمؤمنين السابقين وهم إبراهيم والذين معه.
وأعيد حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد أن الإِيمان يستلزم ذلك.
والقصد هو زيادة الحث على الائتساء بإبراهيم ومن معه، وليرتب عليه قوله: {ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد}، وهذا تحذير من العود لما نُهوا عنه.
ففعل {يتول} مضارع تولّى، فيجوز أن يكون ماضيه بمعنى الإِعراض، أي من لا يرجو الله واليوم الآخر ويعرض عن نهي الله فإن الله غنيّ عن امتثاله. ويجوز عندي أن يكون ماضيه من التولي بمعنى اتخاذ الوَلي، أي من يتخذ عدو الله أولياء فإن الله غنيّ عن ولايته كما في قوله تعالى: {ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} في سورة [العقود: 51].
وضمير الفصل في قوله: هو الغني} توكيد للحصر الذي أفاده تعريف الجزأين، وهو حصر ادعائي لعدم الاعتداد بغنى غيره ولا بحمده، أي هو الغني عن المتولين لأن النهي عما نهوا عنه إنما هو لفائدتهم لا يفيد الله شيئاً فهو الغني عن كل شيء.
وإتْباع {الغني} بوصف {الحميد} تتميم، أي الحميد لمن يمتثل أمره ولا يعرض عنه أو {الحميد} لمن لا يتخذ عدوه ولياً على نحو قوله تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}
اعتراض وهو استئناف متصل بما قبله من أول السورة خوطب به المؤمنون تسلية لهم على ما نُهوا عنه من مواصلة أقربائهم، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم آيلة إلى مودة بأن يُسلم المشركون من قرابة المؤمنين وقد حقق الله ذلك يوم فتح مكة بإسلام أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام.
قال ابن عباس: كان من هذه المودة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها بعد وفاة زوجها عبدِ الله بن جَحش بأرض الحبشة بعد أن تنصَّر زوجها فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لانت عريكة أبي سفيان وصرح بفضل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذلك الفحل لا يُقْدَع أنفه " (روي بدال بعد القاف يُقال: قَدع أنفَه. إذا ضرَب أنفه بالرّمح) وهذا تمثيل، كانوا إذا نزا فحل غير كريم على ناقة كريمة دفعوه عنها بضرب أنفه بالرمح لئلا يكون نَتاجها هَجيناً. وإذ تقدم أن هذه السورة نزلت عام فتح مكة وكان تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة في مدة مهاجرتها بالحبشة وتلك قبل فتح مكة كما صرح به ابن عطية وغيره. يعني فتكون آية {عسى الله أن يجعل بينكم} الخ نزلت قبل نزول أول السورة ثم ألحقت بالسورة.
وإما أن يكون كلام ابن عباس على وجه المثال لحصول المودة مع بعض المشركين، وحصولُ مثل تلك المودة يهيّئ صاحبه إلى الإِسلام واستبعد ابن عطية صحة ما روي عن ابن عباس.
و {عسى} فعل مقاربة وهو مستعمل هنا في رجاء المسلمين ذلك من الله أو مستعملة في الوعد مجردة عن الرجاء. قال في «الكشاف»: كما يقول المَلك في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك.
وضمير {منهم} عائد إلى العدوّ من قوله: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1].
وجملة {والله قدير} تذييل. والمعنى: أنه شديد القدرة على أن يغير الأحوال فيَصيرَ المشركون مؤمنين صادقين وتصيرون أوِدَّاء لهم.
وعطف على التذييل جملة {والله غفور رحيم}، أي يغفر لمن أنابوا إليه ويرحمهم فلا عجب أن يصيروا أودّاء لكم كما تصيرون أوداء لهم.
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}
استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وُصف بها العدوّ في قوله تعالى: {وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم} [الممتحنة: 1] وقوله: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} [الممتحنة: 2]، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء، استثنى الله أقواماً من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإِسلام.
فإن نظرنا إلى وصف العدوّ من قوله: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم} وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف {يخرجون الرسول وإياكم}، كان مضمون قوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} إلى آخره، بياناً لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لا كل صفة على حيالها.
وإن نظرنا إلى أن وصف العدوّ هو عدوّ الدين، أي مخالفة في نفسه مع ضميمة وصف {وقد كفروا بما جاءكم من الحق}، كان مضمون {لا ينهاكم الله} إلى آخره تخصيصاً للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم.
وأيَّاً ما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القومَ الذين لم يقاتلوا في الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم، واتصال هذه الآية بالآيات التّي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم هذه الآية أصناف وهم حلفاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل خُزاعة، وبني الحارث بن كعب بن عبد مناةَ بن كنانة، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون ظهوره على قريش، ومثل النساء والصبيان من المشركين، وقد جاءت قُتيلة (بالتصغير ويقال لها: قتلة، مكبراً) بنت عبد العُزى من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرةً ابنتها وقتيلة يومئذٍ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية (وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة) فسألت أسماءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصِل أمها؟ قال: «نعم صِلي أُمَّككِ»، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في شأنها.
وقوله: {أن تبروهم} بدل اشتمال من {الذين لم يقاتلوكم في الدين} الخ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في {أن تبروهم} يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم. فدخل في الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين نَفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب، والذينَ شملتهم أحكام هذه الآية كلّهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول.
والبرّ: حسن المعاملة والإِكرامُ. وهو يتعدى بحرف الجر، يقال: برّ به، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض.
والقسط: العدل. وضمن {تقسطوا} معنى تُفضوا فعدّي ب (إلى) وكان حقه أن يعدَّى باللام. على أن اللام و(إلى) يتعاقبان كثيراً في الكلام، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب، فإن معاملة أحد بمثل ما عامل به من العدل.
وجملة و{إن الله يحب المقسطين} تذييل، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم.
وعن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله تعالى: {لا ينهاكم الله} الآية قال: نسخها القتال، قال الطبري: لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإِسلام. اه.
ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإِحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم.
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
فذلك لما تقدم وحصْر لحكم الآية المتقدمة. وهي تؤذن بانتهاء الغرض المسوق له الكلام من أوله.
والقصر المستفاد من جملة {إنما ينهاكم الله} إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شكَّ في جواز صلة المشركين على الإِطلاق. والذين تحققت فيهم هذه الصفات يوم نزول الآية هم مشركو أهل مكة، و{أن تولوهم} بدل اشتمال من {الذين قاتلوكم}.
{ومن يتولهم} شرط، وجيء في جواب الشرط باسم الإِشارة لتمييز المشار إليهم زيادة في إيضاح الحكم.
والمظاهرة: المعاونة. وذلك أن أهل مكة فريقان، منهم من يأتي بالأسباب التي لا يحتمل المسلمون معها البقاء بمكة، ومنهم من يعين على ذلك ويغري عليه.
والقصر المستفاد من قوله: {فأولئك هم الظالمون} قصر ادعائي، أي أن ظلمهم لشدَّته ووقوعه بعد النهي الشديد والتنبيه على الأخطاء والعصيان ظلم لا يغفر لأنه اعتداء على حقوق الله وحقوق المسلمين وعلى حق الظالم نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ}.
لا خلاف في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمت أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية.
ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجاً لمشركة وتكون المسلمة زوجاً لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها.
وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ستّ مَجيء أبي جندل بن سهيل بن عَمرو يَرسُف في الحديد وكان مسلماً وكان موثقاً في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح «أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه» فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرتْ أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط هاربة من زوجها عَمرو بن العاص، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي، وجاءت أُميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشِّمْراخ وقيل: حسان بن الدحداحة. وطَلَبهُن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال: إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تَجف بعدُ، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أمَّ كلثوم بنت عقبة زيدُ بن حارثة. وتزوج سُبيعة عمر رضي الله عنه وتزوج أميمة سهلُ بن حنيف.
وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بعد سنين مشركاً ثم أسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
وقد اختلف: هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخاً لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح فيه بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملاً وكان النهيُ الذي في هذه الآية بياناً لذلك المجمل. وقد قيل: إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليّه من رجل أو امرأة يُرد إلى وليه.
فإذا صحّ ذلك كان صريحاً وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملاً لإِرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصّلح: إنما الشرط في الرجال لا في النساء فكانت هذه الآية تشريعاً للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذاناً للمشركين بأن شرطهم غير نص، وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجاً وتأييداً لرسول صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطّلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاوناً على إظهار الحق، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم.
والامتحان: الاختِبار. والمراد اختبار إيمانهن.
وجملة {الله أعلم بإيمانهن} معترضة، أي أن الله يعلم سرائرهنّ ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل.
ولذلك فرع على ما قبل الاعتراض قوله: {فإن علمتموهن مؤمنات} الخ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن. وهذا الالتحاق هو الذي سُمي المبايعة في قوله في الآية الآتية: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله} الآية [الممتحنة: 12].
وفي «صحيح البخاري» عن عائشة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} إلى قوله: {غفور رحيم} [الممتحنة: 12] وزاد ابن عباس فقال: كانت الممتحنة أن تستحْلف أنها ما خرجت بغضاً لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقاً لرجل منّا، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولّي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية. {فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}.
وموقع قوله: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} تحقيقاً لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر.
وإذ قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله: {يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات} إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذه من إليه تنفيذ أمُور المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به من مثل هذه الأمور العامة إلاّ على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور.
وإذ قد كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه في كلام الشارع منصرفاً إلى معنى الإِباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم.
ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خِطابات التكليف بأمور الإِسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلّق به مقصد الشريعة، ولذلك تعدّ المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة: خطاب الكفار بالفروع، مسألةً لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بَله التفريع عليها.
وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى: {لا هن حل لهم}. ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإِتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما. وذلك أن نقول: إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الزوج الكافر يقع على صورتين:
إحداهما: أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك هو ما ألح الكفار في طلبه لمّا جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.
والثانية: أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإِسلام بأن يخلى بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإِسلام إذا جاء يطلبها ومُنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة {لا هن حل لهم} إذ جعل فيها وصف حل خبراً عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحلّ وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإِسلام لهم.
وقدم {لا هن حل لهم} لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يَسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.
وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي {حل} المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهم حلّ لهم.
وعبّر عن الثانية بجملة {ولا هم يحلون لهن} فعُكس الإِخبار بالحل إذ جعل خبراً عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلَّل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهم لا يحلّ لهن أزواجهن الكافرون ولو بقي الزوج في بلاد الإِسلام.
ولهذا ذكرت الجملة الثانية {ولا هم يحلون لهن} كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لإِفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإِسلام خلافاً لأبي حنيفة إذ قال: إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.
ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال: {لا هن حل لهم} وهو الأصل كما علمت آنفاً أكد بجملة {ولا هم يحلون لهن} أي أن انتفاء الحلّ حاصل من كل جهة كما يقال: لست منك ولست مني.
ونظيره قوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} في سورة [البقرة: 187] تأكيداً لشدة التلبس والاتصال من كل جهة.
وفي الكلام محسّن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين حل} و{يحلون} اقتضاه المقام، وإنّما يُوفر حظّ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة.
{لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ}.
المراد ب {ما أنفقوا} ما أعْطَوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء أسلمن من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات. فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.
وقد سمّى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجوراً بقوله تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن.
والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.
أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ}.
وإنما قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} للتنبيه على خصوص قوله: {إذا آتيتموهن أجورهن} لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء.
{أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ}.
نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة، فطلق عمرُ امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما: قُرَيبة بنت أبي أمية، وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية.
والمراد بالكوافر: المشركات. وهنّ موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يُؤخذ حكم ذلك بالقياس.
قال ابن عطية: رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} أنه في الرجال والنسوان، فقلت له: النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة، فقال: وآيْش يمنع من هذا، أليس الناس يقولون: طائفَة كافرة، وفرقة كافرة، فبُهتُّ وقلتُ: هذا تأييد اه.
وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله: {ولا تمسكوا} فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم. ومن العجيب قول أبي علي: فبهتُ وقلتُ... الخ. وقرأ الجمهور {ولا تمسكوا} بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة. وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مُضارع مَسك بمعنى أمسك.
{الكوافر وَاسْھَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْھَلُواْ مَآ}.
عطف على قوله: {وآتوهم ما أنفقوا} وهو تتميم لحكمه، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررْنَ منهم مسلماتتٍ، فكذلك إذا فرت إليهم امرأةُ مسلم كافرة ولا قدرة لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاعَ مهرها إلى زوجها المسلممِ الذي فرّت منه وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمرُ للإِباحة.
وقوله: {وليسألوا ما أنفقوا} تكملة لقوله: {واسألوا ما أنفقتم} لإِفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله: {وليسألوا ما أنفقوا} لو أريد حكمهُ بمفرده لكان مغنياً عنه قوله: {وآتوهم ما أنفقوا}، فلما كُرر عَقب قوله: {واسألوا ما أنفقتم} علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا. فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة. وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية. قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو: «اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية. وقد زَل الفريقان» اه. وقد أشار إليه في «مغني اللبيب» ولم يرده. وقال المازري في «شرح البرهان»: «وأما قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإِعراب مختلفاً فإذا قال: وتشربَ اللبن بفتح الباء كان نهياً عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف (أَنْ) اه. وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة.
فأفاد قوله: {وليسألوا ما أنفقوا} أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرّون إليهم كان ذلك مخوِّلاً للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فرّوا من أزواجهم إلى المسلمين، كما يقال في الفقه: خيرتهُ تنفي ضررَه.
{أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ}.
أي هذا حكم الله، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر. قال الزُهري: لولا العهد لأمسك النساء ولم يُردّ إلى أزواجهم صداق. وجملة {يحكم بينكم} يجوز كونها حالاً من اسم الجلالة أو حالاً من {حكم الله} مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره: يحكمه بينكم، وأن تكون استئنافاً.
وقوله: {والله عليم حكيم} تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقّه.
وقد كانت هذه الأحكام التي في هذه الآيات من الترادّ في المهور شرعاً في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإِسلام خاصّاً بذلك الزمان بإجماع أهل العلم، قاله ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص.
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
عطف على جملة {واسألوا ما أنفقتم} [الممتحنة: 10] فإنها لما ترتب على نزولها إِباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاءِ بقين على الكفر بمكة واللاء فَرَرْنَ من المدينة والتحَقْنَ بأهل الكفر بمكة مهورَهم التي كانوا أَعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم.
روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادِّ بين الفريقين في قوله تعال: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 10].
فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} الآية.
وأصل الفوت: المفارقة والمباعدة، والتفاوت: المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رُويشد بن كثير الطائي أو عَمرو بن معد يكرب:
إن تُذنبوا ثم تأتِيني بقيتكم *** فمَا عَليَّ بذنب منكمُ فَوْت
أي فلا ضياع عليّ بما أذنبتم، أي فإنا كمن لم يضعْ له حق.
والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقَّبتم على أزواج الكفار وعقَّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحجزوا ذلك عن الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور مَن فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار. هذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية.
وعن ابن عباس والجمهور: الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين. وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة [[براءة: 7] {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله}
والوجه أن لا يُصار إلى الإِعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاءِ أتيْنَ إلى بلاد الإِسلام وصرن أزواجاً للمسلمين.
والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم}.
ولفظ {شيء} هنا مراد به: بعض {من أزواجكم} بيان ل {شيء}، وأريد ب {شيء} تحقير الزوجات اللاءِ أبَيْن الإِسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها.
وضمّن فعل {فاتكم} معنى الفرار فعدّي بحرف {إلى} أي فررن إلى الكفار.
و«عاقبتم» صيغة تفاعل من العُقْبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيرُه. وأصلها في ركوب الرواحل والدوابّ أن يركب أحد عُقْبَة وآخر عَقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهورَ نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه.
ففعل {ذهبت} مجاز مثل فعل {فاتكم} في معنى عدم القدرة عليهن.
والخطاب في قوله: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} وفي قوله: {فآتوا} خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضاً من المؤمنين.
والمعنى: فليعْط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم.
والذي يتولى الإِعطاء هنا هو كما قررنا في قوله: {آتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] أي يُدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم.
وأفاد لفظ {مثل} أن يكون المهرُ المعطى مساوِياً لما كان أعطاه زوج المرأة من قبلُ لا نقص فيه.
وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمْن وهن ثمان نساء: أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال: قُريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عُمر بن الخطاب، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عُمَر، وبَروع (بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها) بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشَهبة بنت غيلان وعبدةُ بنتُ عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وقيل تحت عَمرو بن عبد وهندٌ بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله.
وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قُريبَة وأمَّ جرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10].
والتذييل بقوله: {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإِخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف {الذي أنتم به مؤمنون} لأن الإِيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإِنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم.
والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} الآية [الممتحنة: 10]. وبيان لتفصيل آثاره. فكأنه يقول: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار وبَينُوا لهن شرائع الإِسلام. وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن: أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وسبيعة الأسلمية، وأميمة بنت بشر، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صحة للأخبار التي تقول: إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالآنف.
روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} إلى قوله: {غفور رحيم} فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: قد بايعتُككِ.
والمقتضى لهذه البيعة بعد الإِمتحان أنهن دخلن في الإِسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله: {إذا جاءك المؤمنات}، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10]. قال ابن عطية: كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا.
وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضاً. روى البخاري عن أم عطية قالت: بايَعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أن لا يشركن بالله شيئاً} الحديث.
وفيه عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبيء الله فكأني أنظر إليه حين يجلِّس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن} حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: أنتُنّ على ذلك فقالت امرأة منهنّ واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله. قال: «فتصدقن».
وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضاً. ففي «صحيح البخاري» عن عبادة بن الصامت قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا، وقرأ آية النساء (أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة) فمن وفَى منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شَيئاً فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له».
واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالاً ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك، وممن بايعته من النساء يومئذٍ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع.
وجملة {يبايعنك} يجوز أن تكون حالاً من {المؤمنات} على معنى: يُردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية. وجواب {إذا} {فبايعهن}.
ويجوز أن تكون جملة {يبايعنك} جواب {إذا}.
ومعنى {إذا جاءك المؤمنات}، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإِجمال، لا يعلمن أصولَ الإِسلام وبيّنه بقوله: {يبايعنك} فهو خبر مراد به الأمر، أي فليبايعنك وتكون جملة {فبايعهن} تفريعاً لجملة {يبايعنك} وليبنى عليها قوله: {واستغفر لهن الله}.
وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال. قال الأعرابي لما وَلدت زوجهُ بنتاً: والله ما هي بِنعْمَ الولدُ بَزّها بكاء ونَصرُها سرقة.
والمراد بقتل الأولاد أمران: أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإِجهاض.
وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كنّ يرضين به أو يَسكتن عليه.
والبهتان: الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه.
والافتراء: اختلاق الكذب، أي لا يختلقن أخباراً بأشياء لم تقع.
وقوله: {بين أيديهن وأرجلهن} يتعلق ب {يأتين}، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية، فالبهتان حقيقته: الإِخبار بالكذب وهو مصدر. ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
وحقيقة بين الأيدي والأرجل: أن يكون الكذب حاصلاً في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كَذب مواجهةً في وجه المكذوب عليه كقولها: يا فلانة زنيت مع فلان، أو سرقتتِ حلي فلانة. لتبهتها في ملأٍ من الناس، أو أنت بنت زِنا، أو نحو ذلك.
وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها، أو لئلا يرثه عصبته، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثتْ وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه. فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيداً لمعنى البهتان.
وإن كان البهتان مستعاراً للباطل الشبيه بالخبرِ البهتاننِ، كان {بين أيديهن وأرجلهن} محتملاً للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يحبسها، فذلك بين يديها أو يزني بها، وذلك بين أرجلها.
وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها.
ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال بمثلها. وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها.
وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله: {ولا يعصينك في معروف} والمعروف هو ما لا تنكره النفوس. والمراد هنا المعروف في الدين، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلتْ بريرة إذْ لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إرجاعها زوجَها مُغيثاً إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق.
وقد روي في «الصحيح» عن أمّ عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهنّ في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأةٌ يدها وقالت: أسعدَتْني فلانةُ أريد أن أَجزِيها. فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقتْ ورجعت فبايَعها. وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم تركه فاش فيهن.
وورد في أَخبار أنه نهاهن عن تَبرج الجاهلية وعن أن يُحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمان بن عوف: يا نبيء الله إن لنا أضيافاً وإنا نغيب، قال رسول الله: ليس أولئك عنيتُ. وعن ابن عباس: نهاهنّ عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور، أي من شؤون النياحة في الجاهلية.
وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لمَّا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء كانت هندٌ بنتُ عتبةَ زوجُ أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفاً من رسول الله أن يقتصَّ منها على شَقها بطن حمزة وإخراجِها كبدَه يوم أُحد. فلما قال: {على أن لا يشركن بالله شيئاً}، قالت هند: وكيف نَطمع أَن يَقبل منا شيئاً لم يقبله من الرجال. فلما قال: {ولا يسرقن}. قالت هند: والله إِني لأُصيب من مَاللِ أبي سفيان هَنات فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال: أبو سفيان: ما أصبتتِ من شيء فيما مضى وفيما غَبَر فهو لككِ حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَرَفها فدعاها فأتته فعاذت به، وقالت: فاعفُ عما سلف يا نبيء الله عفا الله عنك. فقال: {ولا يَزْنِينَ}. فقالت: أَوَ تزني الحُرّة. قال: {ولا يقتلن أولادهن}. فقالت هند: ربيْناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم. تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ولا يأتين ببهتان يفترينه}. فقالت: والله إن البهتان لأمرٌ قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: {ولا يعصينك في معروف}.
فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيَك في شيء.
فقوله: {ولا يعصينك في معروف} جامع لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإِسلام. وفي الحديث عن أم عطية قالت: كان من ذلك: أن لا ننوح. قالت: فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بدّ أن أَسعدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ آل فلان، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سَمَّتهم. وفي يوم معيّن.
وقوله: {فبايعهن} جواب {إذا} تفريع على {يبايعنك}، أي فأقبل منهنّ ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة.
{واستغفر لهن الله}، أي فيما فرط منهنّ في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك. ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل {استغفر}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}
بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين، جاء في خاتمتها الإِرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود، فالمراد بهم غير المشركين إذ شُبه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه.
وقد نعتهم الله بأنهم قوم غَضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم. فتكون هذه الآية مثلَ قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء} في سورة [العقود: 57].
ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذٍ بجوار المسلمين من أهل المدينة. وذكر الواحدي في أسباب النزول}: أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهودَ بأحوال المسلمين عن غفلة وقِلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم.
واليَأس: عدم توقع الشيء فإذا علق بذاتتٍ كان دالاً على عدم توقع وجودها. وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتمِلاً أن يراد به الإِعراضُ عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسُون منها، وهذا في معنى قوله تعالى في شأنهم: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} في سورة [البقرة: 86].
وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإِعراض وعدم التفكر في الأمر، شُبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعثثِ وفيه تشنيع المشبه، ومِن أصحاب القبور} على هذا الوجه متعلق ب {يئسوا}. و{الكفار}: المشركون.
ويجوز أن يكون {من أصحاب القبور} بياناً للكفار، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظّ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة. والمعنى كيأس الكفار الأمواتتِ، أي يأساً من الآخرة.
والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسوس بالمعقول.
وفي استعارة اليأس للإِعراض ضرب من المشاكلة أيضاً.
ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة. فالمعنى: قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى: {والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي} في سورة [العنكبوت: 23].
ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] فالقوم الذين غَضَب الله عليهم هم المشركون فإنهم وُصفوا بالعدوِّ لله والعدوُّ مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس. وجعل يأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث.
وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون {مِن} بيانية صفة للكفار، وليست متعلقة بفعل {يئس} فليس في لفظ {الكفار} إظهار في مقام الإِضمار وإلاّ لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بأن تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية. وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدُّوا حق تسبيح الله، لأن الله مستحق لأن يوفّى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوّهم.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {سبح لله} إلى {الحكيم} في أول سورة الحشر وسورة الحديد.
وفي إجراء وصف {العزيز} عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوّه فما كان لكم أن تَرهَبُوا أعداءه فتفرّوا منهم عند اللقاء.
وإجراء صفة {الحكيم} إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدوّ عبثاً ولا يخليهم يغلبونكم. وإن حملت على معنى المُحكِم للأمور فكذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)}
ناداهم بوصف الإِيمان تعريضاً بأن الإِيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعلُه قولَه في الوعد بالخير.
واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبْهم الذي هو مدلول {ما} الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه.
والتقدير: تقولون مَا لاَ تفعلون لأي سبب أو لأية علّة.
وتتعلق اللام بفعل {تقولون} المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام.
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضياً لله تعالى، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} في سورة البقرة (91). فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعداً وعَدوه ولم يفوا به. ويجوز أن يكون خبراً أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع. وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة.
وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح.
وتعقيب الآية بقوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} [الصف: 4] الخ. يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله. وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في «الكشاف».
وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإِيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإِيمان بالقلب ولا بالجسد. قال ابن زيد: هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وجملة {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} بيان لجملة {لم تقولون ما لا تفعلون} تصريحاً بالمعنى المكنَّى عنه بها.
وهو خبر عن كون قولهم: {ما لا تفعلون} أمراً كبيراً في جنس المقت.
والكِبَر: مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه.
و {أن تقولوا} فاعل {كبر}.
والمقت: البغض الشديد. وهو هنا بمعنى اسم المفعول.
وانتصب {مقتاً} على التمييز لِجهة الكبر. وهو تمييز نسبة.
والتقدير: كبر ممقوتاً قَولُكم ما لا تفعلونه.
ونُظِم هذا الكلام بطريقة الإِجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمِظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أُحد. ففيه وعيد على تجدد مثله، وزيد المقصود اهتماماً بأن وصف المقت بأنه عند الله، أي مقتٌ لا تسامح فيه.
وعدل عن جعل فاعل {كبر} ضمير القول بأن يقتصر على {كبر مقتاً عند الله} أو يقال: كبر ذلك مقتاً، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه، ولإِفادة التأكيد.
و {مَا} في قوله: {ما لا تفعلون} في الموضعين موصولة، وهي بمعنى لام العهد، أي الفعل الذي وَعدتم أن تفعلوه وهو أحبّ الأعمال إلى الله أو الجهادُ. 4 فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصودِ منه القُربة فيجب الوفاء به.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
هذا جواب على تمنيهم معرفةَ أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سَلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها.
والصف: عَدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصفِّ الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفّاً من رَجَّالة أو فرسان ثم يَقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات.
فالصفّ هنا: كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبّر.
وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكرّ وفّر. وانتصب {صفاً} على الحال بتأويل: صافّين، أو مصفوفين.
والمرصوص: المتلاصق بعضه ببعض. والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله: {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2].
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}
موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة. فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافاً ابتدائياً انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك، فيكون الكلام موجهاً إلى المنافقين، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} [الأحزاب: 57] الآية. وقوله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} [التوبة: 61] وقوله: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} [التوبة: 61].
وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول.
والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض. وهو المسمّى بعطف قصة على قصة.
ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلاً للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الديني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإِتيان بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى. وأشفقهم من أن يكون ذلك سبباً للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لمَّا آذوه.
وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه: عدم توخي طاعته ورضاه، فيكون ذلك مشيراً إلى ما حكاه الله عنه من قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} [المائدة: 21]، إلى قوله: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]. فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عَقِبَه {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [المائدة: 25].
وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} ناظراً إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله: {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [المائدة: 25] وقوله: {فلا تأس على القوم الفاسقين} [المائدة: 26].
فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}. ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيراً من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أُحُد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم.
وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أُحُد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا مكانهم «ولو تخطَّفَنا الطير» وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أُحُد.
والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} على النهي الذي في قوله: {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2] الآية.
ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس.
و {إذ} متعلقة بفعل محذوف تقديره: اذْكُر، وله نظائر كثيرة في القرآن، أي اذكر لهم أيضاً وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه.
وابتداء كلام موسى عليه السلام ب {يا قوم} تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بَلْهَ أن لا يؤذوه. ففي النداء بوصف {قوم} تمهيد للإِنكار في قوله: {لم تؤذونني}.
والاستفهام للإِنكار، أي إنكار أن يكون للإِذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون.
وقد جاءت جملة الحال من قوله: وقد تعلمون أني رسول الله} مصادفة المحلّ من الترقّي في الإِنكار.
و {قد} لتحقيق معنى الحالية، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته، وكما أكد علمهم ب {قَد} أكد حصول المعلوم ب (أنّ) المفتوحة، فحصل تأكيدان للرسالة. والمعنى: فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم.
والإِتيان بعد {قد} بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى. ولعله قد طرأ عليه ما يبطله، وهذا كالمضارع في قوله: {قد يعلم الله المعوقين منكم} في سورة [الأحزاب: 18].
والزيغ: الميل عن الحق، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغاً، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال.
وجملة والله لا يهدي القوم الفاسقين} تذييل، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوْه من أهل ذلك العموم.
وذُكر وصف {الفاسقين} جارياً على لفظ {القوم} للإِيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم. كما تقدم عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في [البقرة: 164].
فالمعنى: الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات.
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}
عطف على جملة {وإذ قال موسى لقومه} [الصف: 5] فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساوٍ له.
وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادُوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين، وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده.
ونادى عيسى قومه بعنوان {بني إسرائيل} دون {يا قوم} [الصف: 5] لأن بني إسرائيل بعد موسى اشتهروا بعنوان «بني إسرائيل» ولم يطلق عليهم عنوان: قوم موسى، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوماً بسببه وشريعته.
فأما عيسى فإنما كان مرسلاً بتأييد شريعة موسى، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدّقوه فلم يكونوا قوماً له خالصين.
وتقدم القول في معنى {مصدقاً لما بين يدي من التوراة} في أوائل سورة [آل عمران: 50] وفي أثناء سورة العقود.
والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتدأهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ، وأنها دائمة. ولذلك لما ابتدأهم بهذه الدعوة لم يزد عليها ما حكي عنه في سورة [آل عمران: 50] من قوله: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}، فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أوّل مرّة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك. فحينئذٍ أخبرهم بما أوحي إليه.
وكذلك شأن التشريع أن يُلقَى إلى الأمة تدريجاً كما في حديث عائشة في صحيح البخاري} أنها قالت: «إنما أُنزل أوّل ما أُنزل منه (أي القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإِسلام نزل الحلال والحرام، ولو أنزل أولَ شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا: لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعَب {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده» اه.
فمعنى قوله: {مصدقاً لما بين يدي من التوراة} في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة، أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة.
والتبشير: الإِخبار بحادث يسُرّ، وأطلق هنا على الإِخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة.
ووجه إيثار هذا اللفظ الإِشارة إلى ما وقع في الإِنجيل من وصف رسالة الرسول الموعود به بأنها بشارة الملكوت.
وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون لهذا المخلّص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى. فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية.
وفي الابتداء بها تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد صلى الله عليه وسلم
ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه فيكون انطباقها فاتحة لإِقبالهم على تلقّي دعوته، وإنما يعرفها حقّ معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]. وقال: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43].
وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول لموسى عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن إجابته دعاء موسى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون إلى قوله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157].
فلما أراد الله تعالى إعداد البشر لقبول رسالة هذا الرسول العظيم الموعود به صلى الله عليه وسلم استودعهم أشراطه وعلاماته على لسان كل رسول أرسله إلى الناس. قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 81- 82] أي أأخذتم إصري من أُممكم على الإِيمان بالرسول الذي يجيء مصدقاً للرسل. وقوله: {فاشهدوا} [آل عمران: 81]، أي على أُممكم وسيجيء من حكاية كلام عيسى في الإِنجيل ما يشرح هذه الشهادة.
وقال تعالى في خصوص ما لَقّنه إبراهيمَ عليه السلام {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} [البقرة: 129] الآية.
وأوصى به عيسى عليه السلام في هذه الآية وصية جامعة لما تقدمها من وصايا الأنبياء وأجملها إجمالاً على طريق الرمز. وهو أسلوب من أساليب أهل الحكمة والرسالة في غير بيان الشريعة، قال السّهروردي: في تلك حكمة الإِشراق «وكلمات الأوَّلين مرموزة» فقال قطب الدين الشيرازي في «شرحه»: «كانوا يرمزون في كلامهم إما تشحيذاً للخاطر باستكداد الفكر أو تشبهاً بالباري تعالى وأصحاببِ النواميس فيما أتوا به من الكتب المنزلة المرموزة لتكون أقرب إلى فهم الجمهور فينتفع الخواصّ بباطنها والعوام بظاهرها.
ا ه»، أي ليتوسمها أهل العلم من أهل الكتاب فيتحصل لهم من مجموع تفصيلها شمائل الرسول الموعود به ولا يلتبس عليهم بغيره ممن يدّعي ذلك كذباً. أو يدّعيه له طائفة من الناس كذباً أو اشتباهاً.
ولا يحمل قوله: {اسمه أحمد} على ما يتبادر من لفظ اسم من أنه العلَم المجهول للدلالة على ذات معيَّنة لتميزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم لأن هذا الحمل يمنع منه وأنه ليس بمطابق للواقع لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناسُ أحمد فلم يكن أحد يدعو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم باسم أحمد لا قبل نبوته ولا بعدها ولا يعْرف ذلك.
وأما ما وقع في «الموطأ» و«الصحيحين» عن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العَلَم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب. وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر ابن العربي في «العارضة» و«القَبس».
فالذي نُوقِن به أن محمل قوله: {اسمه أحمد} يجري على جميع ما تحمله جُزْءاً هذه الجملة من المعاني.
فأما لفظ «اسم» فأشهر استعماله في كلام العرب ثلاثة استعمالات:
أحدها: أن يكون بمعنى المسمّى. قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمّى. ونَسب ثعلب إلى سيبويه أن الاسم غير المسمّى (أي إذا أطلق لفظ اسم في الكلام فالمعنى به مسمّى ذلك الاسم) لكن جَزم ابن السيد البَطَلْيَوسي في كتابه الذي جعله في معاني الاسم هَل هو عين المسمى، أنه وقع في بعض مواضع من كتاب سيبويه أن الاسم هو المسمّى، ووقع في بعضها أنه غير المسمّى، فحمَله ابن السيد البطليوسي على أنهما إطلاقان، وليس ذلك باختلاف في كلام سيبويه، وتوقف أبو العباس ثعلب في ذلك فقال: ليس لي فيه قول. ولما في هذا الاستعمال من الاحتمال بطل الاستدلال به.
الاستعمال الثاني: أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير وأنشد ثعلب:
لأعظمها قدراً وأكرمِها أباً *** وأحسنِها وجْهاً وأعلَنها سُمَى
سُمىً لغة في اسم.
الاستعمال الثالث: أن يطلق على لفظ جُعل دالاً على ذات لتميَّز من كثير من أمثالها، وهذا هو العَلَم.
ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله: {اسمه أحمد} على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماه أحمد، وِذكْره أحْمد، وعَلَمه أحمَد، ولنحمل لفظ أحمد على ما لا يأباه واحد من استعمالاتتِ اسم الثلاثةِ إذا قُرن به وهو أن أَحْمد اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنياً به القوةُ فيم هو مشتق منه، أي الحمدِ وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملاً في قوةِ مفعولية الحَمد، أي حَمْد الناس إياه، وهذا مثل قولهم.
«العَود أحمد»، أي محمود كثيراً. فالوصف ب {أحمد} بالنسبة للمعنى الأول في اسم أن مسمّى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخُلقية والخَلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والغرضية.
ويصح اعتبار {أحمد} تفضيلاً حقيقياً في كلام عيسى عليه السّلام، أي مسماه أحمد مني، أي أفضل، أي في رسالته وشريعته. وعبارات الإِنجيل تشعر بهذا التفضيل، ففي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر «وأنا أطلب من الأب (أي من ربنا) فيعطيكم (فارقليط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. ثم قال: وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الأب (الله) باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم»، أي في جملة ما يعلِّمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم. وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعة المعبر عنها بقول الإِنجيل «ليثبت معكم إلى الأبد» وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله: «يعلمكم كل شيء».
والوصف ب {أحمد} على المعنى الثاني في الاسم. أن سُمعتَه وذِكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشدُّ ذكرٍ محمود وسمعةٍ محمودة.
وهذا معنى قوله في الحديث «أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة» وأن الله يبعثه مقاماً محموداً.
ووصف {أحمد} بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أنه اسمه العَلَم يكون بمعنى: أحمد، فإن لفظ محمَّد اسم مفعول من حَمَّد المضاعف الدال على كثرة حَمد الحامدين إياه كما قالوا: فلان ممَدَّح، إذا تكرر مدحُه من مادحين كثيرين.
فاسم «محمّد» يفيد معنى: المحمود حمداً كثيراً ورمز إليه بأحمد.
وهذه الكلمة الجامعة التي أوحى الله بها إلى عيسى عليه السّلام أراد الله بها أن تكون شعاراً لجماع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالاً بحسب ما تسمح اللغة بجمعه من معاني. ووُكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة.
جاء في إنجيل متَّى في الإِصحاح الرابع والعشرين قول عيسى «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيراً ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى»، ومعنى يكرز يدعو وينبئ، ومعنى يصير إلى المنتهى يتأخر إلى قرب الساعة.
وفي إنجيل يوحنّا في الإِصحاح الرابع عشر «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر يثبت معكم إلى الأبد». و(فارقليط) كلمة رومية، أي بوانية تطلق بمعنى المُدافع أو المسلي، أي الذي يأتي بما يدفع الأحزان والمصائب، أي يأتي رحمة، أي رسول مبشر، وكلمة آخر صريحة في أنه رسول مثل عيسى.
وفي الإصحاح الرابع عشر «والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل الذي أرسلني. وبهذا كَلّمتُكم وأنا عندكم (أي مدة وجودي بينكم)، وأما (الفارقليط) الروح القدسي الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته» (ومعنى «باسمي» أي بصفة الرسالة) لا أتكلم معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فِيَّ شيء ولكن ليفهم العالم أني أحبّ الأب وكما أوصاني الأبُ أفعل».
وفي الإِصحاح الخامس عشر منه «ومتى جاء الفارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روحُ الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي».
وفي هذه الأخبار إثبات أن هذا الرسول المبشر به تعمّ رسالته جميع الأمم في جميع الأرض، وأنه الخاتم، وأن لشريعته مُلكاً لقول إنجيل متَّى «هو يكرز ببشارة الملكوت» والملكوت هو الملك، وأن تعاليمه تتعلق بجميع الأشياء العارضة للناس، أي شريعته تتعلق أحكامها بجميع الأحوال البشرية، وجميعها مما تشمله الكلمة التي جاءت على لسان عيسى عليه السلام وهي كلمة {اسمه أحمد} فكانت من الرموز الإِلهية ولكونها مرادة لذلك ذكرها الله تعالى في القرآن تذكيراً وإعلاناً.
وذِكر القرآن تبشيرَ عيسى بمحمدٍ عليهما الصلاة والسّلام إدماج في خلال المقصود الذي هو تنظير ما أوذي به موسى من قومه وما أوذي به عيسى من قومه إدماجاً يؤيد به النبي صلى الله عليه وسلم ويثبّت فؤاده ويزيده تسلية. وفيها تخلص إلى أن ما لقيه من قومه نظيرَ ما لقيه عيسى من بني إسرائيل.
وقوله: {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} هو مناط الأذى.
فإن المتبادر أن يعود ضمير الرفع في قوله: {جاءهم} إلى عيسى، وأن يعود ضمير النصب إلى الذين خاطبهم عيسى. والتقدير: فكذبوه، فلما جاءهم بالمعجزات قالوا هذا سحر أو هُو ساحر.
ويحتمل أن يكون ضمير الرفع عائداً إلى رسول يأتي من بعدي. وضمير النصب عائداً إلى لفظ بني إسرائيل، أي بني إسرائيل غير الذين دعاهم عيسى عليه السلام من باب: عندي درهم ونصفه، أي نصف ما يسمّى بدرهم، أي فلما جاءهم الرسول الذي دعاه عيسى باسم أحمد بالبينات، أي دلائل انطباق الصفات الموعود بها قالوا هذا سحر أو هذا ساحر مبين فيكون هذا التركيب مبين من قبيل الكلام الموجه. وحصل أذاهم بهذا القول لكلا الرسولين.
فالجملة على هذا الاحتمال تُحمل على أنها اعتراض بين المتعاطفات وممهدة للتخلص إلى مذمة المشركين وغيرهم ممن لم يقبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء من قوله: {بعديَ}. وقرأه الباقون بسكونها. قال في «الكشاف»: واختار الخليل وسيبويه الفتح.
وقرأ الجمهور {هذا سحر} بكسر السين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {هذا ساحر} فعلى الأولى الإِشارة للبنات، وعلى الثانية الإِشارة إلى عيسى أو إلى الرسول.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)}
كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السّلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإِسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلاً لجواب الذين دعاهم عليه السّلام. فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود دعوة رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإِسلام فوصفوا بأنهم أظلم الناس تشنيعاً لحالهم.
فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عطف هذا الكلام بالوَاو ودون الفاء لأنه ليس مفرعاً على دعوة عيسى عليه السلام.
وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين.
والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله} إلى قوله: {ولو كره المشركون} [الصف: 8، 9] فهما فريقان.
والاستفهام ب {من أظلم} إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون مِن قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإمّا أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسْبِته إلى ما ليس فيه إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحراً، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإِنجيل مُثبتة صدق رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين}، فيعلم أنه ظلم مستمر.
وقد كان لجملة الحال {وهو يدعى إلى الإسلام} موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعَاضوا الشكر بالكفر.
وإنما جُعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولاً يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حُرمة هذه النسبة تقتضي أن يُقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإِعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير.
فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهم {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} في سورة [البقرة: 140]. وذلك افتراء.
وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91].
واسم {الإسلام} عَلم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يُدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف {أظلم}.
وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تأييس لهم من الإِقلاع عن هذا الظلم، أي أن الذين بلغوا هذا المبلغ من الظلم لا طمع في صلاحهم لتمكُن الكفرِ منهم حتى خالط سجاياهم وتقوّم مع قوميتهم، ولذلك أقحم لفظ {القوم} للدلالة على أن الظلم بلغ حدَّ أن صار من مقومات قَوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164]. وتقدم غير مرة.
وهذا يعم المخبر عنهم وأمثالهم الذين افتروا على عيسى، ففيها معنى التذييل.
وأسند نفي هديهم إلى الله تعالى لأن سبب انتفاء هذا الهدي عنهم أثر من آثار تكوين عقولهم ومداركهم على المكابرة بأسباب التكوين التي أودعها الله في نظام تكوّن الكائنات وتطورها من ارتباط المسببات بأسبابها مع التنبيه على أن الله لا يتدارك أكثرهم بعنايته، فمُغَيِّر فيهم بعض القوى المانعة لهم من الهدى غضباً عليهم إذ لم يخلفوا بدعوة تستحق التبصر بسبب نسبتها إلى جانب الله تعالى حتى يتميز لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يُدعون إلا الإِسلام لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء. فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإِسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتّلصّص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء.
فلاحت له ذُبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشُوا أن يُشعَّ نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطَفِئ، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم. والتقدير: يريدون عوق ظهور الإِسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس.
ثم إن ما تضمنه من المحاسن أنه قابِل لتفرقة التشبيه على أجزاء الهيئة، فاليَهود في حال إرادتهم عوق الإِسلام عن الظهور مشبَّهون بقوم يريدون إطفاء نور الإِسلام فشبه بمصباح. والمشركون مثلُهم وقد مُثّل حال أهل الكتاب بنظير هذا التمثيل في قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} إلى قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره} الآية في سورة [براءة: 30- 32]، ووصفهم القرآن بأنه سحر ونحو ذلك من تمويهاتهم، فشبه بنفخ النافخين على المصباح فكان لذكر بأفواههم} وقع عظيم في هذا التمثيل لأن الإِطفاء قد يكون بغير الأفواه مثل المروحة والكِير، وهم أرادوا إبطال آيات القرآن بزعم أنها من أقوال السحر.
وإضافة نور إلى اسم الجلالة إضافة تشريف، أي نوراً أوقده الله، أي أوجده وقدَّره فما ظنكم بكماله.
واللام من قوله: {ليطفئوا} تسمّى اللام الزائدة، وتفيد التأكيد. وأصلها لام التعليل، ذُكِرت علةُ فعل الإِرادة عوضاً عن مفعوله بتنزيل المفعول منزلة العلة.
والتقدير: يريدون إطفاء نور الله ليطفئوا. ويكثر وقوع هذه اللام بعد مادة الإِرادة ومادة الأمر. وقد سماها بعض أهل العربية: لام (أَنْ) لأن معنى (أَنْ) المصدرية ملازم لها. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة [النساء: 26]. فلذلك قيل: إن هذه اللام بعد فعل الإِرادة مزيدة للتأكيد.
وجملة والله متم نوره} معطوفة على جملة {يريدون} وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدِّين سيتم، أي يبلغ تمام الانتشار. وفي الحديث «والله لَيِتَمَّن هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنَعاء إلى حضرَموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإِتمام. والتمام: هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور: حصول أقوى شعاعه وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغشاه.
وجملة {ولو كره الكافرون} حالية و{لو} وصلية، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يُظَنُّ أن لا يحصل عند حصوله مضمونُ الجوَاب.
ولذلك يقدِّر المعربون قبله ما يدلّ على تقدير حصول ضد الشرط. فيقولون هذا إذا لم يكن كذا بل وإن كان كذا، وهو تقدير معنى لا تقدير حذف لأن مثل ذلك المحذوف لا يطرد في كل موقع فإنه لا يستقيم في مثل قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17]، إذ لا يقال: هذا إذا كنّا كاذبين، بل ولو كنا صادقين. وكذلك ما في هذه الآية لأن المعنى: والله متمّ نورَه على فرض كراهة الكافرين، ولما كانت كراهة الكافرين إتمام هذا النور محققةً كان سياقها في صورة الأمر المفروض تهكماً. وتقدم استعمال (لو) هذه عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91].
وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يُظنّ انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجوه المكر والخديعة والكيد والإِضرار.
وشمل لفظ الكافرون} جميع الكافرين بالإِسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين ويتجه على هذا أن يكون الاهتمام بذكر هؤلاء بعد {لو} الوصلية لأن المقام لإِبطال مرادهم إطفاء نور الله فإتمام الله نوره إبطال لمرادهم إطفاءَه. وسيرد بعد هذا ما يبطل مراد غيرهم من المعاندين وهم المشركون.
وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {متمٌ نورَه} بتنوين {متمٌ} ونصب {نورَه}. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف بدون تنوين وجَرّ {نورِه} على إضافة اسم الفاعل على مفعوله وكلاهما فصيح.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
هذا زيادة تحدِّ للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8]. وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله. فقد أفاد تعريفُ الجزأيْن في قوله: {هو الذي أرسل رسوله} قصراً إضافياً لقلببِ زَعْم الكافرين أن محمّداً صلى الله عليه وسلم أتى من قِبَللِ نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق. وأن شيئاً تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله.
وتعليل ذلك بقوله: {ليظهره على الدين كله} إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السّلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زماناً طويلاً حتى تنصَّر قسطنطينُ سلطانُ الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإِسلام على جميع الأديان عُلم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتمّ المراد.
والإِظهار: النصر ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي.
والتعريف في قوله: {على الدين} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام.
ويظهر أن لفظ {الدين} مستعمل في كلا معنييه: المعنى الحقيقي وهو الشريعة. والمعنى المجازي وهو أهل الدّين كما تقول: دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعاً وآداباً، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلاً دون جيل.
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقُّونهم في مدة ظهوره حتى يتمّ أمره ويستغني عمن ينصره.
وقد تمّ وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمماً كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأمّا الدين فلم يزل عالياً مشهوداً له من علماء الأمم المنصفين بأنه أفضل دين للبشر.
وخص المشركون بالذكر هنا إتماماً للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الدين على جميع الأديان. ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الدين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} إلى قوله: {كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 2 4]. فبعد أن ضربت لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2]، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة.
والظاهر أن الضمير المستتر في {أدلكم} عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين. ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي {وبشر المؤمنين} [الصف: 13].
والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال: هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة. وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في «المفتاح»، وهي غير منحصرة فيما ذكره.
وجيء بفعل {أدلكم} لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة.
وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة [البقرة: 16].
ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
وجملة تؤمنون بالله ورسوله} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويقُ الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة.
وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فِعْل {تؤمنون بالله} مع {وتجاهدون} مراد به تجمعون بين الإِيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويهاً بشأن الجهاد. وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإِيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإِيمان وشؤونه.
وأما {وتجاهدون} فإنه لإِرادة تجدّد الجهاد إذا استُنفِروا إليه.
ومجيء {يغفر} مجْزوماً تنبيه على أن {تؤمنون} {وتجاهدون} وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمرُ لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر. قاله المبرد والزمخشري.
وقال الفراء: جزم {يغفرْ} لأنه جواب {هل أدلكم}، أي لأن متعلق {أدلكم} هو التجارة المفسرة بالإِيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تتَّجرون بالإِيمان والجهاد يَغفرْ لكم ذنوبكم.
وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإِيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وامتثله.
وقرأ الجمهور {تنجيكم} بسكون النون وتخفيف الجيم. وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم، يقال: أنجاه ونَجّاه.
والإِشارة ب {ذلكم} إلى الإِيمان والجهاد بتأويل المذكور: خير.
و {خير} هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله: أخير ووزنه: أَفعل، بل هو اسم لضد الشر، ووزنه: فَعْل.
وجمع قوله: {خير} ما هو خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة.
وقوله: {إن كنتم تعلمون} تعريض لهم بالعتاب على تولّيهم يوم أُحُد بعد أن قالوا: لو نعلم أيَّ الأعمال أحب إلى الله لَعَمِلْنَاه، فندبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أُحُد، كما تقدم في أول السورة، فنزلوا منزلة من يُشَك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجَب العلم.
والمساكن الطيبة: هي القصور التي في الجنة، قال تعالى: {ويجعل لك قصوراً} [الفرقان: 10].
وإنما خُصّت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة الموقتة بمساكن أبدية. قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} إلى قوله: {ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] الآية.
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
{وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}.
عطف على جملة {يغفر لكم ويدخلكم} [الصف: 12] عطفَ الاسمية على الفعلية. وجيء بالاسمية لإِفادة الثبوت والتحقق. ف {أُخرى} مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {لكم} من قوله: {يغفر لكم}. والتقدير: أخرى لكم، ولك أن تجعل الخبر قوله: {نصر من الله}.
وجيء به وصفاً مؤنثاً بتأويل نعمة، أو فضيلة، أو خصلة مما يؤذن به قوله: {يغفر لكم ذنوبكم} [الصف: 12] إلى آخره من معنى النعمة والخصلة كقوله تعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها} في سورة [الفتح: 21]
ووصف أخرى بجملة {تحبونها} إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة. وهذا نظير قوله تعالى: {فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 144].
(و {نصر من الله} بدل من {أُخرى}، ويجوز أن يكون خبراً عن {أخرى}. والمراد به النصر العظيم، وهو نصر فتح مكة فإنه كان نصراً على أشد أعدائهم الذين فتنوهم وآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وألَّبوا عليهم العرب والأحزاب. وراموا تشويه سمعتهم، وقد انضم إليه نصر الدين بإسلام أولئك الذين كانوا من قبل أيمة الكفر ومساعير الفتنة، فأصبحوا مؤمنين إخواناً وصدق الله وعده بقوله: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} [الممتحنة: 7] وقوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران: 103].
وذكر اسم الجلالة يجوز أن يكون إظهاراً في مقام الإِضمار على احتمال أن يكون ضمير التكلم في قوله: {هل أدلكم} [الصف: 10] كلاماً من الله تعالى، ويجوز أن يكون جارياً على مقتضى الظاهر إن كان الخطاب أُمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير «قل».
ووصف الفتح ب {بقريب} تعجيل بالمسرة.
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الإِخبار بالغيب.
{قَرِيبٌ وَبَشِّرِ}.
يجوز أن تكون عطفاً على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى، عطفَ غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين. ولا يتأتى في هذه الجملة فرضُ عطف الإِنشاء على الإِخبار إذ ليس عطف جملة بل جملة على جملة على مجموع جُمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} الآية في أوائل سورة [البقرة: 25] وما بيَّنه من كلام السيد الشريف في حاشية الكشاف}.
وأما على احتمال أن يكون قوله: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم} إلى آخره مسوقاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: {هل أدلكم على تجارة} بتقدير قول محذوف، أي قل يأيها الذين آمنوا هل أدلكم، إلى آخره، فيكون الأمر في {وبشر} التفاتاً من قبيل التجريد. والمعنى: وأُبشّرُ المؤمنين.
وقد تقدم القول في عطف الإِنشاء على الإِخبار عند قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} في أوائل سورة [البقرة: 25].
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإِنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالاً ولا انقطاعاً لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} إلى قوله: {وتجاهدون في سبيل الله} [الصف: 10، 11] الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب، فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيراً بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم.
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله: {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [الصف: 11] الآية ووَعَدهم عليه بأن ينصرهم الله، فهذا النصر المأمور به هنا نصر دِين الله الذي آمنوا به بأن يبثّوه ويَثْبُتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهللِ الكتاب، قال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186] وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السّلام، فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دبّ إليه التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {كونوا أنصاراً لله} بتنوين {أنصاراً} وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون {أنصاراً} مراداً به دلالة اسم الفاعل المفيد للإِحداث، أي محدثين النصر، واللام للأجْل، أي لأجل الله، أي ناصرين له كما قال تعالى: {فلا ناصر لهم} [محمد: 13].
وقرأه الباقون بإضافة {أنصار} إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله: {من أنصاري}.
والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيهُ تمثيل، أي كونوا عند ما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له.
والتشبيه لقصد التنظير والتأسّي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدّين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب.
و (ما) مصدرية، أي كقول عيسى وقول الحواريين. وفيه حذف مضاف تقديره: لكوننِ قوللِ عيسى وقول الحواريين. فالتشبيه بمجموع الأمرين قول عيسى وجواب الحواريين لأن جواب الحواريين بمنزلة الكلام المفرع على دعوة عيسى وإنما تحذف الفاء في مثله من المقاولات والمحاورات للاختصار، كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].
وقول عيسى من أنصاري إلى الله} استفهام لاختبار انتدَابهم إلى نصر دين الله معه نظير قول طرفة:
إن القوم قالوا مَن فتىً خلت إنني *** عُنيت فلم أكسَل ولم أتبلد
وإضافة {أنصار} إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصارَ دعوته.
و {إلى الله} متعلق ب {أنصاري}. ومعنى {إلى} الانتهاء المجازي، أي متوجهين إلى الله، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجَد بهم إلى مكان مستنجِدهم لينصروه على من غلبه.
ففي حرف {إلى} استعارة تبعية، ولذلك كان الجواب المحكي عن الحواريين مطابقاً للاستفهام إذ قالوا: نحن أنصار الله، أي نحن ننصر الله على من حادّه وشاقَّه، أي ننصر دينه.
و {الحواريون: جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربَة عن الحبشية (حَواريا) وهو الصاحب الصفي، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعرّبة لكنه قال: إنها نبطية. ومعنى الحواري: الغسّال، كذا في الإِتقان}.
و {الحواريون}: اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثني عشر، ولا شك أنه كان معروفاً عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة. ولا يعرف هذا الاسم في الأناجيل.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام حواريَّهُ على التشبيه بأحد الحواريين فقال: «لكل نبيء حواري وحواري الزبير». وقد تقدم ذكر الحواريين في قوله تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار الله} في سورة [آل عمران: 52].
واعلم أن مقالة عيسى عليه السّلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحسّ منهم الكفر لمَّا دعاهم إلى الإِيمان به. أمّا مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالباً منهم نصرته لقوله تعالى: كما قال عيسى ابن مريم للحواريين} الآية، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين.
وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة {أنصارُ الله} [آل عمران: 52] إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم: {نحن أنصار الله} مفيداً للقصر لانعدام تعريف المسند. فأما هنَا فالأظهر أن كلمة {أنصار الله} اعتبرت لقباً للحواريين عَرَّفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه، ولذلك تكون إضافة {أنصار} إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفاً فصارت جملة {نحن أنصار الله} هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران.
ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند. وخصوصيةُ التعريف بالإِضافة. فكان إيجازاً في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول وبجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعُرِفوا بذلك وبحصر نصر الدين فيهم حصراً يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقيّة قومهم من بني إسرائيل.
وفرع على قول الحواريين {نحن أنصار} الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به، وطائفة كفرت بذلك وهذا التفريع يقتضي كلاماً مقدراً وهو فَنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل (لُوقَا) أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين.
والمقصود من قوله: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} التوطئة لقوله: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} والتأييد النصر والتقوية، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس.
وإنما قال: {فأيدنا الذين آمنوا} ولم يقل: فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومُثِّل بهم وأُلْقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم، وكان ممن قُتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس، أي الصخرة في ثباته في الله.
ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القدِّيس بطرس والحكمُ على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول: نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل. والمقصود نصر الدين.
والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أُمروا أن يكونوا أنصاراً لله بأن الله مؤيدهم على عدوّهم.
والعدوّ يطلق على الواحد والجمع، قال تعالى: {وهم لكم عدو} [الكهف: 50] وتقدم عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} في سورة [الممتحنة: 1].
والظاهرُ: هو الغالب، يقال: ظهر عليه، أي غلبه، وظهَر به أي غلب بسببه، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد. وهو الظَهْر الذي هو العمود الوسط من جسد الإِنسان والدَّواب لأن بالظهر قوة الحيوان. وهذا مثل فعل (عَضَد) مشتقاً من العضُد. و(أيد) مشتقاً من اليد ومن تصاريفه ظاهرَ عليه واستظهر وظَهير له قال تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4]. فمعنى {ظاهرين} أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire