{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}
افتتحت السورة كما تفتتح العهودُ وصكوك العقود بأدَلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم: هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثّقين: باع أو وكّل أو تزوّج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائِل والمواثيق ونحوها.
وتنكير {براءة} تنكير التنويع، وموقع {براءة} مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أنّ هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدّم في قوله تعالى: {المص كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 1، 2].
والمجروران في قوله: {من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم} في موضع الخبر، لأنّه المقصود من الفائِدة أي: البراءة صدرت من الله ورسوله.
و {من} ابتدائية، و{إلى} للانتهاء لما أفاده حرف {من} من معنى الابتداء. والمعنى أنّ هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغاً إلى الذين عاهدتم من المشركين.
والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفعُ التبِعة. ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويُعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المخلف، كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبِعات التي كانت بحيثُ تنشأ عن إخلاف العهد، فلذلك كان لفظ {براءة} هنا مفيداً معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهَدون حِذرهم. وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما، كما فعل ابن الدُّغُنَّه في ردّ جوار أبي بكر عن قريش، وما فعل عثمان بن مظعون في ردّ جوار الوليد بن المغيرة إيّاه قائلاً: «رضيتُ بجوار ربّي ولا أريد أن أستجير غيره». وقال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] أي: ولا تخنهم لظنّك أنّهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم.
ولمّا كان الجانب، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله، جعلت هذه البراءة صادرة من الله، لأنّه الآذن بها، ومن رسوله، لأنّه المباشر لها. وجُعل ذلك منهَّى إلى المعاهدين من المشركين، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصالُه ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدراً.
والخطاب في قوله: {عاهدتم} للمؤمنين. فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها.
واعلم أنّ العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة، فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عَهد الحديبية: أن لا يُصَدّ أحد عن البيت إذا جاء، وأن لا يُخاف أحد في الشهر الحرام، وقد كان معظم قبائل العرب داخلاً في عقد قريش الواقع في الحديبية؛ لأنّ قريشاً كانوا يومئذٍ زعماء جميع العرب، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ: أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمَن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية.
وهذا العهد، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين، فقد كان عَديلُهُ لازماً لفائِدة المشركين على المسلمين، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحْلافهم.
وكان بين المسلمين وبعض قبائِل المشركين عهود؛ كما أشارت إليه سورة النساء (90) في قوله تعالى: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} الآية، وكما أشارت إليه هذه السورة (4) في قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} الآية.
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن، وبعضها كان لأجل قد انقضى، وبعضها لم ينقض أجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجّلاً إلى عَشر سنين في بعض الأقوال وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال، ولم تنقض على بعضها، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار، وكان بعض تلك العهود مؤجلاً إلى أجل لم يتمّ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين، فقد ذُكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غُلبوا فنقض كثير من المشركين العهد، وممّن نقض العهد بعضُ خزاعة، وبنُو مُدلِج، وبنو خزيمة أو جَذِيمة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حِذرهم، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعدُ: {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} [التوبة: 3].
وإنّما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين: للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين، في وقت عدم استجماع قوتهم، وأزمانَ كانت بقية قوةٍ للمشركين، وإلاّ فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهداً لأنّ مصلحة الدين تكون أقْوَمُ إذا شّدد المسلمون على أعدائه، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن اللَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد، فلا تبعة على المسلمين في نبذه، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين، على أنّ في الكلام احتباكاً، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر من الله ورسوله، فصار الكلام في قوَّة براءة من الله ورسوله ومنكم، إلى الذين عاهد الله ورسولُه وعاهدتم.
فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله: {إلى الذين عاهدتم من المشركين}. فالتعريف بالموصولية هنا، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد، ثم بيّن بعضها بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} [التوبة: 4] الآية.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}
{فَسِيحُواْ فِى الارض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
الفاء للتفريع على معنى البراءة، لأنّها لمّا أمر الله بالإذان بها كانت إعلاماً للمشركين، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات. فالتقدير: فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة.
ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم، أي فقل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
والسياحة حقيقتها السير في الأرض. ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعاً على البراءة من العهد، ومقرّراً لحرمة الأشهر الحرام، علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض، وليس هو سيرهم في أرض قومهم، دلّ على ذلك إطلاق السياحة وإطلاق الأرض، فكان المعنى: فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض.
وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة، ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية، وهي: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم. وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق: وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم: هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر، فيكون قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] (أي من ذلك العام) تنهيةً لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم، وذلك نهاية المحرّم.
وقيل: الأشهر الأربعةُ هي المعروفة عندهم في جميع قبائِل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورَجب، أي فلم يبق للمشركين أمْنٌ إلاّ في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم، ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى: البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم. وحكى السهيلي في «الروض الأنف» أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام، وأنّه جعل ذلك أجلاً لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام.
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم، وبأنّ ما دون تلك الأشهر حَرب بين المسلمين والمشركين، وسيقع التصريح بذلك.
{واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين}.
عطف على {فسيحوا} داخل في حكم التفريع، لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احْتراساً من تطرّق الغرور، وتهديداً بأنّ لا يطمئنوا من أنْ يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم، وإن قبعوا في ديارهم.
وافتتاح الكلام ب {واعلموا} للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه، والتدبر فيه، كقوله:
{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة الأنفال (24)، وقد تقدّم التنبيه عليه.
والمُعجز اسم فاعل، من أعجز فلاناً إذا جعَله عاجزاً عن عمل مَّا، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائِت، الخارج عن قدرة أحد، فالمعنى: أنّكم غير خارجين عن قدرة الله، ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس.
وعُطف قوله: وأن الله مخزي الكافرين} على قوله: {أنكم غير معجزي الله} فهو داخل في عمل {واعلموا} فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفاً.
وكان ذكر {الكافرين} إخراجاً على خلاف مقتضى الظاهر: لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول: وإنّ الله مخزيكم، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سبيبة الكفر في الخزي.
والإخزاء: الإذلال. والخزي بكسر الخاء الذلّ والهوان، أي مقدّر للكافرين الإذلال: بالقتل، والأسر، وعذاب الآخرة، ما داموا متلبّسين بوصف الكفر.
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر أَنَّ الله برئ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ}.
عطف على جملة {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1] وموقع لفظ {أذان} كموقع لفظ {براءة} [التوبة: 1] في التقدير، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأنّ عهدهم انتقض.
والأذانُ اسم مصدر آذنه، إذا أعلمه بإعلان، مثل العطاء بمعنى الإعطاء، والأمان بمعنى الإيمان، فهو بمعنى الإيذان.
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دُون المسلمين، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة، فلا يكون إلاّ من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة، لئلا يكونوا غادرين، كما قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يَهُمّ الناس كلّهم.
ويوم الحجّ الأكبر: قيل هو يوم عرفة، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد، وهذا يروى عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وفي الحديث: «الحج عرفة»
وقيل: هو يوم النحر، لأنّ الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذْ كانت الحُمْس يقفون بالمزدلفة، ويقف بقية الناس بعرفة، وكانوا جميعاً يحضرون منى يوم النحرِ، فكان ذلك الاجتماع الأكبرَ، ونسَب ابنُ عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد، وهذا قول علي، وابن عمر، وابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس أيضاً، وابن أبي أوفى، والزهري، ورواه ابن وهب عن مالك، قال مالك: لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنّه اليوم الذي تُرمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرَك الحج.
وأقول: إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة. فأما يوم منى فيوم عيدهم.
و {الأكبر} بالجرّ نعت للحجّ، باعتبار تجزئته إلى أعمال، فوُصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفاً قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه.
وهذا الكلام إنشاءٌ لهذا الأذان، موقّتاً بيوم الحجّ الأكبر، فيؤوّل إلى معنى الأمر، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين.
والمراد ب {الناس} جميع الناس الذين ضمّهم الموسم، ومن يبلغه ذلك منهم: مؤمنهم ومشركهم، لأنّ هذا الأذان ممَّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك، إذ كان حكمه يلزم الفريقين.
وقوله: {أن الله بريء من المشركين} يتعلّق ب {أذان} بحذف حرف الجرّ وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله:
{براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1] فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهَدين وغيرهم، تقريراً لعدم غدر المسلمين، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين.
وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال: وأذان إلى الناس بذلك، أو بها، أو بالبراءة، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه، ففيهم الذكّي والغبي، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم.
وعُطف {ورسوله} بالرفع، عند القرّاء كلّهم: لأنّه من عطف الجملة، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره: ورسولُه بريءٌ من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله:
ومن يكُ أمسَى بالمدينةِ رحله *** فإنّي وقيّارٌ بها لغريب
برفع (قيار) لأنّه أراد أن يجعل غربة جمله المسمّى «قياراً» غربة أخرى غير تابعة لغربته.
وممّا يجب التنبيه له: ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة {ورسوله} بالجرّ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن، وكيف يتصور جرّ {ورسوله} ولا عامل بمقتضي جرّه، ولكنّها ذات قصة طريفة: أنّ أعرابياً سمع رجلاً قرأ {أن الله بريء من المشركين ورسوله} بجرّ ورسولِه فقال الأعرابي: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء. وإنّما أراد التورّكَ على القارئ، فلبَّبَه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءتَه فعندها أمر عمر بتعلّم العربية، وروي أيضاً أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي. فكان ذلك سبب وضع النحو، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو.
وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر، موافياً الموسم ليؤذِّن ببراءة، فأذن بها علي يوم النحر بمنى، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض. ولعلّ قوله: «أو أربعين آية» شكّ من الراوي، فما ورد في رواية النسائي، أي عن جابر: أنّ علياً قرأ على الناس بَراءة حتّى ختمها، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئِذ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة.
وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق، لأنه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن يَنقض أحد عهدَه مع مَن عاهده إلاّ بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذراً في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم.
وروي: أنّ علياً بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته. وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي «سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلاّ الطعن والضرب».
التفريع على جملة: {أن الله بريء من المشركين}، فيتفرّع على ذلك حالتان: حالة التوبة، وحالة التولي.
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة، والمعنى: فإنْ آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير. والمراد بالتولي: الإعراض عن الإيمان. وأريد بفعل {تولّيتم} معنى الاستمرار، أي: إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله، وأوشكتم على العذاب.
وجملة: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} معطوفة على جملة: {وأذن من الله ورسوله} لما تتضمنّه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنّه قيل: فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال: وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.
و (البشارة) أصلها الإخبار بما فيه مسرّة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكّم، كما تقدّم في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} في سورة آل عمران (21).
والعذاب الأليم: هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفَيء الأموال، كما قال تعالى: {وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26] فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال، أي: أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدلّ عليه قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] الآية.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
استثناء من المشركين في قوله: {أن الله بريء من المشركين} [التوبة: 3]، ومن {الذين كفروا} في قوله: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} [التوبة: 3] لأنّ شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعُها ممّا يصلح لِذلك الاستثناء، فهو استثناء لهؤلاء: من حكم نقض العهد، ومن حُكم الإنذار بالقتال، المترتّببِ على النقض، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم.
والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة، وقد بين مدلول الاستثناء قوله: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}.
وحرف (ثم) في قوله: {ثم لم ينقصوكم شيئاً} للتراخي الرتبي، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول.
والنقصُ لِشيء إزالة بعضه، والمراد: أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه. وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ (ثُمَّ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة، أي بُعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه، بُعد كمال وارتفاع شأن. فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به.
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين، ووفّوا به على أتمّ وجه، فلم يكيدوا المسلمين بكيد، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سِرًّا، فهؤلاء أمِر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها. ومن هؤلاء: بنو ضَمره، وحَيَّان من بني كنانة: هم بنو جذيمة، وبنو الدِّيل. ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية.
وقد علم من هذا: أنّ الذين أمَر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك، وهم قوم نقصُوا ممّا عاهدوا عليه، أي كَادوا، وغدروا سرّاً، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة.
ومن هؤلاء: قريظة أمَدُّوا المشركين غير مرّة، وبنو بَكر، عَدَوْا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعُبِّر عن فعلهم ذلك بالنقصصِ لأنّهم لم ينقضوا العهد علناً، ولاَ أبطلوه، ولكنهم أخلُّوا به، ممّا استطاعوا أن يَكيدوا ويمكروا، ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه.
وذكر كلمة {شيئاً} للمبالغة في نفي الانتقاص، لأنّ كلمة «شيء» نكرة عامّة، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود، كما تقدّم في قوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} في سورة البقرة (113).
والمظاهرة: المعاونة، يجوز أن يكون فعلها مشتقّاً من الاسم الجامد وهو الظهر، أي صُلب الإنسان أو البعيرِ، لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل، يقال: بعير ظهير، أي قوي على الرحلة، مُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه، فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره، فمن ثَمّ جاءت صيغة المفاعلة، ومثله المعاضدة مشتقّة من العَضد، والمساعدة من الساعد، والتأييد من اليد، والمكاتفة مشتقّة من الكتف، وكلّها أعضاء العمل.
ويجوز أن يكون فعله مشتقّاً من الظهور، وهو مصدر ضدّ الخفاء، لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس، فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء، ولذلك يعدى بحرف (على) للاستعلاء المجازي، قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه} [التحريم: 4] وقال {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة} [التوبة: 8] وقال {ليظهره على الدين كله} [الفتح: 28] وقال {والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4] أي معين.
والفاء في قوله: {فأتموا} تفريع على ما أفاده استثناء قوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} إلخ، وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد.
والمدّة: الأجل، مشتقّة من المَدّ لأنّ الأجل مَدّ في زمن العمل، أي تطويل، ولذلك يقولون: مَاد القُوم غيرَهم، إذا أجَّلوا الحربَ إلى أمد، وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهَدين لأنّها منعقدة معهم، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين، ولكن رجّح هنا جانبهم، لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به، إذ صار المسلمون أقوى منهم، وأقدر على حربهم.
وجملة: {إن الله يحب المتقين} تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوَى، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به، لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى.
ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حُرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام.
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}.
تفريع على قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2] فإن كان المراد في الآية المعطوففِ عليها بالأربعة الأشهر أربعةً تبتدئ من وقت نزول براءة كان قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} تفريعاً مراداً منه زيادة قيد على قيد الظرف من قول: {أربعة أشهر} [التوبة: 2] أي: فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2]، وإن كانت الأربعة الأشهر مراداً بها الأشهر الحرم كان قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} تصريحاً بمفهوم الإذن بالأمن أربعةَ أشهر، المقتضي أنّه لا أمْن بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فهو على حدّ قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]، بعد قوله {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1] فيكون تأجيلاً لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر، ثم تحذيراً من خرق حرمة شهر رجب، وكذلك يستمرّ الحال في كلّ عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى: {منها أربعة حرم... فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36].
وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ. وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان، أي إزالته. ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة.
والحرم جمع حرام وهو سماعي لأنّ فُعُلا بضم الفاء والعيْن إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد. وحرام صفة. وقال الرضي في باب الجمع من «شرح الشافية» إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} في سورة البقرة (194). وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب.
وانسلاخها انقضاء المدّة المتتابعة منها، وقد بَقيت حرمتها ما بَقي من المشركين قبيلة، لمصلحة الفريقين، فلما آمن جميع العرب بَطل حكم حُرمة الأشهر الحرم، لأنّ حُرمةَ المحارم الإسلامية أغنت عنها.
والأمر في فاقتلوا المشركين} للإذن والإباحة باعتبار كلّ واحد من المأمورات على حدة، أي فقد أُذن لكل في قتلهم، وفي أخذهم، وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} [التوبة: 12] والمقصود هنا: أن حرمة العهد قد زالت.
وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنّهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة. وقد عمّت الآية جميع المشركين وعمّت البقاع إلا ما خصصته الأدلّة من الكتاب والسنة.
والأخذ: الأسر.
والحصر: المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين.
والقعود مجاز في الثبات في المكان، والملازمةِ له، لأن القعود ثبوت شديد وطويل.
فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرقّ العدوّ المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعُدته.
والمرصد مكان الرَصْد. والرصْد: المراقبة وتتبع النظر.
و {كلّ} مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيراً للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيؤول معنى {كل} هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة:
بها كُل ذيَّال وخنساءَ ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
وانتصب {كل مرصد} إمَّا على المفعول به بتضمين {اقعدوا} معنى (الزموا) كقوله تعالى: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]، وإمّا على التشبيه بالظرف لأنّه من حقّ فعل القعود أن يَتعدّى إليه ب (في) الظرفية فشبّه بالظرف وحذفت (في) للتّوسّع.
وتقدم ذكر (كلّ) عند قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة الأنعام (25).
تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم}.
والتوبة عن الشرك هي الإيمان، أي فإن آمنوا إيماناً صادقاً، بأن أقاموا الصلاة الدالّةَ إقامتُها على أنّ صاحبها لم يكن كاذباً في إيمانه، وبأن آتوا الزكاة الدالَّ إيتاؤُها على أنّهم مؤمنون حقّاً، لأنّ بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بُذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كفّ القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالة على أنّ الصلاة والزكاة جزء من الإيمان.
وحقيقة {خلوا سبيلهم} اتركوا طريقهم الذي يمرّون به، أي اتركوا لهم كلّ طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قَادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنّهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11].
وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلاً في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم، يقال: خَلّ سبيلي، أي دعني وشأني، كما قال جرير:
خَلّ السبيلَ لمن يبنِي المنارَ به *** وأبرز ببَرْزَةَ حيث اضطرّك القدَر
وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله: {واقعدوا لهم كل مرصد}.
وجملة: {إن الله غفور رحيم} تذييل أريد به حثّ المسلمين على عدم التعرّض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدممِ مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم، لأنّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فَرَطَ منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عمّا مضى.
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
عطف على جملة: {فإن تابوا} [التوبة: 5] لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] لتخصيص عمومه، أي إلاّ مشركاً استجارك لمصلحة للسِفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام. وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أنّ الشأن أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين.
وجيء بحرف {إنْ} التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أنّ هذا شرط فَرْضيّ؛ لكيلا يزعم المشركون أنّهم لم يتمكّنوا من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيتّخذوه عذراً للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.
ووقع في «تفسير الفخر» أنّه نقل عن ابن عبّاس قال: إنّ رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نُقتل. فقال علي: لاَ إنّ الله تعالى قال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره}. أي فأمنه حتّى يسمع كلام الله، وهذا لا يعارض ما رأيناه من أنّ الشرط في قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} الخ، شرط فرضي فإنّه يقتضي أنّ مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أنّ هذا المروي لم أقف عليه.
وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس، لأنّ النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي إذا لم تُبنَ على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد، فكان ذكر {أحد} في سياق الشرط تنصيصاً على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا.
و {أحد} أصله «واحد» لأنّ همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنّه واحد، كما استعمل له «فَرد» في اصطلاح العلوم، فمعنى {أحد من المشركين} مشرك.
وتقديم {أحد} على {استجارك} للاهتمام بالمسند إليه، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن.
وساغ الابتداء بالنكرة لأنّ المراد النوع، أو لأنّ الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ، لأن وقوع الخبر فعلاً مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية، فيعلم أنّ الفاعل مقدّم من تأخير لغرض مّا. ولذلك شاع عند النحاة أنّه فاعل بفعل مقدر، وإنّما هو تقدير اعتبارٍ. ولعلّ المقصود من التنصيص على إفادة العموم، ومن تقديم {أحد من المشركين} على الفعل، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى الله عليه وسلم ودخولِه بلاد الإسلام مصلحة، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد، لئلاّ تحمِل خيانتُهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا}
[المائدة: 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تَخُن من خانك "
والاستجارة: طلب الجوار، وهو الكون بالقرب، وقد استعمل مجازاً شائعاً في الأمن، لأنّ المرء لا يستقر بمكان إلاّ إذا كان آمناً، فمن ثم سمّوا المؤمِّن جاراً، والحليفَ جاراً، وصار فعل أجَار بمعنى أمَّن، ولا يطلق بمعنى جعَلَ شخصاً جاراً له. والمعنى: إنْ أحد من المشركين استأمنك فأمنه.
ولم يبيّن سبب الاستجارة، لأنّ ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنّه لا يستجير أحد إلاّ لغرض صحيح.
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعِه القرآن، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر، لما هو معروف من شأن النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على هدي الناس، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى الله عليه وسلم فدلّت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازاً، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهمّ، أو طلب الدخول في الإسلام، أو عرض الإسلام عليه، فإذا سمع كلام الله فقد تمّت أغراض إقامته لأنَّ بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتّى يعيد إرشاده، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.
وكلام الله: القرآن، أضيف إلى اسم الجلالة لأنّه كلام أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي.
ولذلك أعقبه بحرف المهلة {ثم أبلغه مأمنه} للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدّة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتماماً بإبلاغه مأمنه.
ومعنى {أبلغه مأمنه} أمهله ولا تُهجه حتّى يبلغ مأمنه، فلمّا كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سبباً في بلوغه مأمنه، جعل التأمين إبلاغاً فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمّن أمر المسلمين بأن لا يتعرّضوا له بسوء حتّى يبلغ بلاده التي يأمن فيها. وليس المراد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتكلّف ترحيله ويبعث من يبلغه، فالمعنى: اتركه يبلغ مأمنه، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه: «أبلعْني ريقي»، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلعُ ريقي ثم أكلّمك، قال الزمخشري: قلت لبعض أشياخي: «أبلعْني ريقي فقال قد أبلعْتك الرافدين» يعني دجلة والفرات.
و (المأمن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمْنَه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء.
وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنّه مكان الأمن الخاصّ به، فيعلم أنّه مقرّه الأصلي، بخلاف دار الجوار فإنّها مأمن عارض لا يُضاف إلى المُجار.
وجملة: {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، أي: أمَرْنا بذلك بسبب أنّهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة: {فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} أي لا تؤاخذهم في مدّة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنّهم قوم لا يعلمون وهذه مذمّة لهم بأنّ مثلهم لا يقام له وزن وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنّهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى، فكان اسم الإشارة أصلحَ طُرق التعريف في هذا المقام، جمعاً للمعاني المقصودة، وأوجزَه.
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك، وأنّ سبب ذلك الغضّ الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جُعلوا قوماً لا يعلمون دون أن يقال بأنّهم لا يعلمون: للإشارة إلى أنّ نفي العلم مطّرد فيهم، فيشير إلى أنّ سبب اطّراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم، في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأنّ عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجراً صَنعه وهو يعلم أنّه لا يُغني عنه.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}
استئناف بياني، نشأ عن قوله: {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1] ثم عن قوله: {أن الله بريء من المشركين} [التوبة: 3] وعن قوله {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] التي كانت تدرجاً في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة، لأنّ ذلك يثير سؤالاً في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجّب من هذه البراءة، ويسأل عن سببها، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك، وأنّه أمران: بُعد ما بين العقائد، وسبق الغدر.
والاستفهام ب {كيف}: إنكاري إنكاراً لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل {يكون} مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله} [النساء: 136] كما دلّ عليه قوله بعده {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}. وليس ذلك إنكاراً على وقوع العهد، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله، وسمّاه الله فتحاً في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1] وسمّي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [الفتح: 4].
والمعنى: أنّ الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك، فكيف يمكن اتّفاق أهليهما، أي فما كان العهد المنعقد مَعهم إلاّ أمراً موقّتاً بمصلحة. ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علّة الإنكار على دوام العهد معهم.
وهذا يؤيّد ما فسّرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله، وإسنادِ العهد إلى ضمير المسلمين، في قوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم} [التوبة: 1].
ومعنى {عند} الاستقرار المجازي، بمعنى الدوام أي إنّما هو عهد موقّت، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية، إذْ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة.
واستثناء {إلا الذين عاهدتم}، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام ب {كيف يكون للمشركين عهد}، أي لا يكون عهد المشركين إلا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام.
والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام: هم بنو ضمرة، وبنو جذيمة بن الدّيل، من كنانة؛ وبنو بكر من كنانة.
فالموصول هنا للعهد، وهم أخصّ من الذين مضى فيهم قوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} [التوبة: 4].
والمقصود من تخصيصهم بالذكر: التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعّين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم، زيادة على دخولهم في الصلح الأعمّ، ولم ينقضوا عهدهم، ولا ظاهروا عدوّا على المسلمين، إلى وقت نزول براءة.
على أنّ معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنّة النكث لأنّ المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرّد، كما قال تعالى: {إنّهم لا أيمان لهم} [التوبة: 12].
وليس المراد كُلَّ من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهّمه المتوهّم، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مأذوناً بأن يعاهد فريقاً آخر منهم.
وقوله: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} تفريع على الاستثناء. فالتقدير: إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، أي ما داموا مستقيمين لكم. والظاهر أنّ استثناء هؤلاء؛ لأنّ لعهدهم حرمة زائِدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة.
و {مَا} ظرفية مضمّنة معنى الشرط، والفاء الداخلة على فاء التفريع. والفاء الواقعة في قوله: {فاستقيموا لهم} فاء جواب الشرط، وأصل ذلك أنّ الظرف والمجرور إذا قدّم على متعلّقه قد يُشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه، ومنه قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية، لأنّه قد سبقها العطف بالواو، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم " كمَا تكونوا يولّ عليكم " بجزم الفعلين، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول «ألك أبوان» قال: نعم قال: «ففيهما فجاهد» في روايته بفاءَيْن.
والاستقامة: حقيقتها عدم الاعوجاج، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحبّ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال، لأنّ سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج، فكذلك يطلق على ضدّه الاستقامة.
وجملة: {إن الله يحب المتقين} تعليل للأمر بالاستقامة. وموقع {إنّ} أولها، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن {إنّ} في مثل هذا تغني غناء فاء، وقد أنبأ ذلك، التعليل، أنّ الاستقامة لهم من التقوى وإلاّ لم تكن مناسبة للإخبار بأنّ الله يحبّ المتّقين. عقب الأمر بالاستقامة لهم، وهذا من الإيجاز. ولأنّ في الاستقامة لهم حفظاً للعهد الذي هو من قبيل اليمين.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.
و {كيف} هذه مؤكدة ل {كيف} [التوبة: 7] التي في الآية قبلها، فهي معترضة بين الجملتين وجملة: {وإن يظهروا عليكم} إلخ يجوز أن تكون جملة حالية، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة {كيف يكون للمشركين عهد} [التوبة: 7] إخباراً عن دخائلهم.
وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار، لا مجرّدُ قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته، ابتداء، لأنّهم ليسوا أهلاً لذلك، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة. وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة. فجملة: {وإن يظهروا عليكم} معطوفة على جملة {كيف يكون للمشركين عهد} [التوبة: 7].
وضمير {يظهروا} عائد إلى المشركين في قوله: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله} [التوبة: 7] ومعنى {وإن يظهروا} إن ينتصروا. وتقدّم بيان هذا الفعل آنفاً عند قوله تعالى: {ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4]. والمعنى: لو انتصر المشركون، بعد ضعفهم، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سبباً في قوتكم، لنقضوا العهد. وضمير {عليكم} خطاب للمؤمنين.
ومعنى {لا يرقبوا} لا يوفوا ولا يراعوا، يقال: رقَب الشيء، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة، ومنه سمّي الرقيب، وسمّي المرْقَبَ مكان الحراسة، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يَره وصرف نظره عنه.
والإلّ: الحلف والعهد؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة. وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه.
والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى، يقال: في ذمّتي كذا، أي ألتزم به وأحفظه.
استئناف ابتدائي، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم، كيداً ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة. من يسمع كلاماً فيأباه.
والإباية: الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى.
وجملة: {وأكثرهم فاسقون} في موضع الحال من واو الجماعة في {يرضونكم} مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف، مع ذلك، بالخروج عن مهيع المروءة والرُّجلة، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية. فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر.
{اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)}
موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالإخبار. وهذه الآية وصفَ القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة: من الاشتراء بآيات الله ثمناً قليلاً، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آيةٍ أخرى نزلت بعدها لأنّ نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتّى دخلوا في دين الله أفواجاً، سنةَ الوفود وما بعدها، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقُوا على الشرك من العرب، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجّته، ولكنه بقُوا على الشرك لمنافع يجتنونها من عوائِد قومهم: من غارات يشنّها بعضهم على بعض، ومحبّة الأحواللِ الجاهلية من خمر وميسر وزنى، وغير ذلك من المَذمات واللذّات الفائدة، وذلك شيء قليل «آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة. فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مِثل مال بأيديهم، بذلوه وفرّطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة، فلذلك مُثّل حالهم بحال من اشترى شيئاً بشيء، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة (16).
والمراد ب«الآيات» الدلائل، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله: {بآيات الله} باء التعويض. وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوّض يملكه غيره، فجعلت آيات الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتّباع هواهم.
والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولاً لا مقتنى جارٍ على طريق الاستعارة تشبيهاً لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصُل من فعل {اشتروا} ومن لفظ {ثمناً} استعارتان باعتبارين.
وجملة: {فصدوا عن سبيله} مفرّعة على جملة {اشتروا بآيات الله} لأنّ إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبّب عليه أن يصدّوا الناس عن اتّباع الإسلام، فمثّل حالهم بحال من يصدّ الناس عن السير في طريق تبلّغ إلى المقصود.
ومفعول {صدّوا} محذوف لقصد العموم، أي: صدّوا كل قاصد.
وجملة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} ابتدائية أيضاً، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالإخبار، وأنّها لا ينبغي أن تعطف في الكلام، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها.
وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم.
و {ساء} من أفعال الذم، من باب بئس، و{ما كانوا يعملون} مخصوص بالذم.
وعبّر عن عملهم ب {كَانوا يعملون} للإشارة إلى أنّه دأب لهم ومتكرّر منهم.
{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}
{لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.
يجوز أن تكون هذه الجملة بدلَ اشتمال من جملة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [التوبة: 9] لأنّ انتفاء مراعاة الإلّ والذمّة مع المؤمنين ممّا يشتمل عليه سوء عملهم، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتُدئ به للاهتمام بمضمون الجملة. وقد أفادت معنى أعمّ وأوسع ممّا أفاده قوله: {وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة} [التوبة: 8] لأنّ إطلاق الحكم عن التقييد بشرط {إن يظهروا عليكم} [التوبة: 8] يَفيد أنّ عدم مراعاتهم حقّ الحلف والعهد خُلُق متأصّل فيهم، سواء كانوا أقويّاء أم مستضعفين، وإنّ ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم. والإلّ والذمّة تقدّما قريباً.
عطف على جملة: {لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة} لمناسبة أنّ إثبات الاعتداء العظيم لهم، نشأ عن الحقد، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين، لا لشيء إلاّ لأنّهم مؤمنون كقوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [البروج: 8].
والقَصر إمّا أن يكون للمبالغة في اعتدائهم، لأنّه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم، ولم يُلحقوا بهم ضرّ مع تمكّنهم منه، وإمّا أن يكون قصر قلب، أي: هم المعتدون لا أنتمْ لأنّهم بَدَأوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الدِّيل من بكر بن وائِل ممّا كان سبباً في غزوة الفتح.
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وءاتوا الزكواة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين}.
تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدّة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد مَحو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون إلى قوله المعتدون} [التوبة: 9، 10] تنبيهاً لهم على أنّ تداركهم أمرهم هين عليهم، وفرّع على التوبة أنّهم يصيرون إخواناً للمؤمنين. ولمّا كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سبباً للأخوّة مع المؤمنين، بخلاف مقام قوله قبله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5] حيث إنّ المعقّب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصّد لهم، فناسب أن يفرّع على توبتهم عدم التعرّض لهم بسوء. وقد حصل من مجموع الآيتين أنّ توبتهم توجب أمنهم وأخُوّتهم.
ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانياً لأنّها أخصّ الفائدتين من توبتهم، فكانت هذه الآية مؤكّدة لأختها في أصل الحكم.
وقوله: {فإخوانكم} خبر لمحذوف أي: فَهم إخوانكم. وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية: للدلالة على أنّ إيمانهم يقتضي ثبات الأخوّة ودوامَها، تنبيهاً على أنّهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوّة الدينية.
والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز، وأطلقت الأخوّة هنا على المودّة والصداقة.
والظرفية في قوله: {في الدين} مجازية: تشبيهاً للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكّن من الإسلام وأنّه يَجُبُّ ما قبله.
اعتراض وتذييل، والواو اعتراضية، ومناسبة موقعه عقب قوله: {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} [التوبة: 9] أنّه تضمّن أنّهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحّتها كقوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} [الجاثية: 23]، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح، فكان قوله: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} جامعاً للحالين، دالاً على أنّ الآيات المذكورة آنفاً في قوله: {اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} [التوبة: 9] آيات واضحة مفصّلة، وأنّ عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنّها إنّما يهتدي بها قوم يعلمون، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون. ويفهم منه أنّهم إن اشتروا بها ثمناً قليلاً فليسوا من قوم يعلمون، فنُزّل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم، وهو العمل بالعلم، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وحُذف مفعول {يعلمون} لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذ أريد به: لقوم ذوي علم وعقل.
وعطف هذا التذييل على جملة: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} لأنّه به أعلق، لأنّهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين، فصاروا من قوم يعلمون، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصّلة.
ومعنى التفصيل تقدّم في قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} من سورة الأنعام (55).
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}
لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله: {أن الله بريء من المشركين إلى قوله {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} [التوبة: 3] وإنّما كان ذلك لإبطانهم الغدر، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم} [التوبة: 4] الآيات، والذين يستجيبون عَطَف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد، ويعلنون بما يسخطُ المسلمين من قولهم، وهذا حال مضادّ لحال قوله: {وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} [التوبة: 8].
والنكث تقدّم عند قوله تعالى: {فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون} في الأعراف (135).
وعبَر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعاً للنكث، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا.
وزيد قوله: من بعد عهدهم} زيادة في تسجيل شناعة نكثهم: بتذكير أنّه غدْر لعهد، وحنث باليمين.
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محددٍ كالرمح، ويستعمل مجازاً بمعنى الثلب. والنسبة إلى النقص، بتشبيه عِرض المرء، الذي كان ملتئما غير منقوص، بالجسد السليم. فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شُبّه بالجِلد الذي أفسِد التحامُه.
والأمر، هنا: للوجوب، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّاً عن حرمة الدين، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه.
و {أئِمّة} جمع إمام، وهو ما يجعل قدوة في عمل يُعمل على مثاله، أو على مثال عمله، قال تعالى: {ونجعلهم أئمة} [القصص: 5] أي مقتدى بهم، وقال لبيد:
ولكلّ قوم سنة وإمامها ***
والإمام المثال الذي يصنع على شكله، أو قدره، مصنوع، فأئمّة الكفر، هنا: الذين بلغوا الغاية فيه، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر.
والمراد بأئِمّة الكفر: المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يُقل: فقاتلوهم، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر، وهي أنّهم قدوة لغيرهم، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون، فكان الناقضون أئِمّة للباقين.
وجملة: {إنهم لا أيمان لهم} تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم، فغدروا، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله، فلا يكونُ لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم.
ونفي الأيمان لَهم: نفي للماهية الحقّ لليمين، وهي قصد تعظيمه والوفاء به، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ أخواصّها وهو العمل بما اقتضته.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب.
{أيّمة} بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء. وقرأ البقية: بتحقيق الهمزتين. وقرأ هشام عن عامر، وأبو جعفر: بمَدّ بين الهمزتين.
وقرأ الجمهور {لا أيمان لهم} بفتح همزة {أيمان} على أنّه جمع يمين. وقرأه ابن عامر بكسر الهمزة، أي ليسوا بمؤمنين، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع.
وعطف {وطعنوا في دينكم} عطف قسيم على قسيمه، فالواو فيه بمعنى (أو). فإنّه إذا حصل أحد هذين الفعلين: الذين هما نكث الأيمان، والطعن في الدين، كان حصول أحدهما موجباً لقتالهم، أي دون مصالحة، ولا عهد، ولا هُدنة بعد ذلك.
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بأنّ ذلك الطعن كان من دأبهم في مدّة المعاهدة، فأريد صدّهم عن العَود إليه. ولم أقف على أنّه كان مشروطاً على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام، في غير هذه الآية، فكانَ هذا شرطاً عليهم من بعد، لأنّ المسلمين أصبحوا في قوة.
وقوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} أمر للوجوب.
وجملة {لعلهم ينتهون} يجوز أن تكون تعليلاً للجملة {فقاتلوا أئمة الكفر} أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا، وظاهر أنّ القتال يُفني كثيراً منهم، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ولم يذكر متعلِّق فعل {ينتهون} ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد، لأنّ عهدهم لا يقبل بعدَ أن نكثوا لقول الله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم}، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين، لأنّه إن كان طعنهم في ديننا حاصلاً في مدّة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه، وإن كان بعدَ أن تضع الحرب أوزارها فإنّه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم، فتعيّن أنّ المراد: لعلهم ينتهون عن الكفر.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ابتدائياً لا اتّصال لها بجملة {وإن نكثوا أيمانهم} الآية، بل ناشئة عن قوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة إلى قوله {أئمة الكفر} [التوبة: 5 12].
والمعنى: المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون، وقد تحقّق ذلك فإنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وبعدَ حُنين، ولم يقع نكث بعد ذلك، ودخل المشركون في الإسلام أفواجاً في سنة الوفود.
{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم، وأسرهم، وحصارهم، وسدّ مسالك النجدة في وجوههم، بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى قوله كل مرصد} [التوبة: 5]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم، وهي قوله: {كيف يكون للمشركين عهد} [التوبة: 7] وقوله: {كيف وإن يظهروا عليكم} [التوبة: 8] وقولُه {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} [التوبة: 8] وقولُه: {وأكثرهم فاسقون} [التوبة: 8] وقولُه: {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} [التوبة: 9] وقولُه: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} [التوبة: 10] وقولُه: {وأولئك هم المعتدون} [التوبة: 10] وقولُه: {إنهم لا أيمان لهم} [التوبة: 12].
فكانت جملة {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} تحذيراً من التراخي في مبادرتهم بالقتال.
ولفظ {ألا} يحتمل أن يكون مجموع حرفين: هما همزة الاستفهام، و(لا) النافيةُ، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحْضيض، مثل قوله تعالى: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور: 22]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً، على انتفاء مقاتلة المشركين في المستقبل، وهو ما ذهب إليه البيضاوي، فيكون دفعاً لأن يَتوهَّم المسلمون حُرمة لتلك العهود. ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب «الكشّاف»، تقريراً على النفي تنزيلاً لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في «الكشاف»: ومعناه الحضّ على القتال على سبيل المبالغة، وفي «مغني اللبيب» أن {ألا التي للاستفهام عن النفي تختصّ بالدخول على الجملة الاسمية، وسلّمه شارحاه، ولا يخفى أنّ كلام الكشاف} ينادي على خلافه.
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون {ألا} حرفاً واحداً للتحْضيض فهو تحْضيض على القتال. وجَعَل في «المغني» هذه الآية مثالاً لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعلّ موجب هذا التفنّن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيراً من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لمّا أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنّة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسُمعة النصر، وفي قوله عقبه {أتخشونهم} ما يزيد هذا وضوحاً.
أمّا نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدّم عند قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} [التوبة: 4] وقوله {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم} [التوبة: 4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدّم.
وأمّا همّهم بإخراج الرسول فظاهره أنّه همٌّ حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها لأن إخراجه من مكّة أمر قد مضى منذ سنين، ولأنّ إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أنّ همّهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبّه المسلمين إليه.
وهو أنّهم لمّا نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهّموا أنفسهم منصورين وأنّهم إن انتصروا أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة.
و (الهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرّد الهمّ بإخراج الرسول تدلّ على أنّهم لم يخرجوه، وإلاّ لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهمّ به، كما في قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا} [التوبة: 40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلاّ لِمَا حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: همّوا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوْه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله سوء ما همّوا به، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية، فالوجه عندي: أنّ المعنيَّ بالذين هَمّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين، فنكثوا العهد سنة ثمان، يوم فتح مكة، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح، والغدر بالنَّبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين، وأن يأتوهم وهم غارون، فيكونوا هم وقريش ألباً واحداً على المسلمين، فيُخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا، وفضح دخيلتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وأمره بقتالهم ونبذِ عهدهم في سنة تسع، ولا ندري أقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم (وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر) سبباً في إسلامهم وتوبة الله عليهم، تحقيقاً للرجاء الذي في قوله: {لعلهم ينتهون} [التوبة: 12] ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد، وأمدّوا قريشاً بالعدد، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذٍ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم، وأغضى النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يؤاخذهم بغدْرهم، وبقي على مراعاة ذلك العهد، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية، وذلك قوله: {وهم بدوءكم أول مرة} أي كانوا البادئين بالنكث، وذلك أنّ قريشاً انتصروا لأحلافهم من كنانة، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين.
و {أول مرة} نَصْب على المصدرية. وإضافة {أول} إلى {مرة} من إضافة الصفة إلى الموصوف. والتقدير: مرة أولى والمرّة الوَحدة من حدث يحدث، فمعنى {بدءوكم أول مرة} بدأوكم أوّل بدء بالنكث، أي بَدْءا أولَ؛ فالمَرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام، كما هنا، وقد يفسّره اللفظ.
و {أوّل} اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير، وإن كان موصوفه مؤنّثاً لفظاً، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال: ثاني مرة وثالث مرّة.
والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه، وأنّه لا تسامح فيه.
وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام: إمّا إخراجه من مكة منهزماً بعدَ أن دخلها ظافراً، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام.
وجملة {أتخشونهم} بدل اشتمال من جملة {ألا تقاتلون} فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم، فالتقدير: أينتفي قتالكم إيّاهم لَخشيكم إياهم، وهذا زيادة في التحريض على قتالهم.
وفُرّع على هذا التقرير جملة {فالله أحق أن تخشوه} أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحقّ أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأنّ الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردّد في نجاح الامتثال له.
وجيء بالشرط المتعلّق بالمستقبل، مع أنّه لا شكّ فيه، لقصد إثارة همّتهم الدينية فيبرهنوا على أنّهم مؤمنون حقّا يقدمون خشية الله على خشية الناس.
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
{قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} [التوبة: 12] وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا.
وجُزم {يعذبهم} وما عطف عليه في جواب الأمر. وفي جعله جواباً وجزاءً أنّ الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحلّ إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كلّ فائدة منها الغرض الأهمّ فصرح به وجعل ما عداه حاصلاً بطريق الكناية.
الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين.
الثانية: خزي المشركين وهو يستلزم عِزّة المسلمين.
الثالثة: نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم.
الرابعة: شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلّهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
الخامسة: إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلّهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم، فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
والتعذيب تعذيب القتل والجراحة. وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفاً للمسلمين.
والإخزاء: الإذلال، وتقدّم في البقرة. وهو هنا الإذلال بالأسر.
والنصرُ حصول عاقبة القتال المرجوّة. وتقدّم في أول البقرة.
والشفاء: زوال المرض ومعالجة زواله. أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد، كما استعير ضدّه وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10] قال قيس بن زهير:
شَفيت النفسَ من حَمَل بننِ يَدّر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفاني
وإضافة ال {صدور} إلى {قوم مؤمنين} دون ضمير المخاطبين يدلّ على أنّ الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفةٌ من المؤمنين المخاطبين بالقتال، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم، ولكنّهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم، وكانوا يودّون أن يؤذَن لهم بقتالهم، فلمّا أمر الله بنقض عهود المشركين سُرّوا بذلك وفرحوا، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذيرِ من التهاون فيه. فعن مجاهد، والسدّي أنّ القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة، الذين اعتدوا عليهم بالقتال، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه، الملحوح عليهم الأمر بالقتال.
وعَطْفُ فعل {ويذهب غيظ قلوبهم} على فعل {ويشف صدور قوم مؤمنين}، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساوياً لشفاء الصدور، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية، مع بيان متعلّق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَاصْدق مع اختلاف المفهوم، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرّة والانشراح بالنصر، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ، وتحرّق الحقد. وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين: شفاء صدورهم من عدوهم، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم.
والغيظ: الغضب المشوب بإرادة الانتقام، وتقدّم في قوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة آل عمران (119).
جملة ابتدائية مستأنفة، لأنّه ابتداء كلام ليس ممّا يترتب على الأمر بالقتال، بل لذكر من لم يُقتَلوا، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعاً، فدلّ هذا النظم على أنّها راجعة إلى قوم آخرين، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا، ولم يُقتلوا، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده. وتوبة الله عليهم: هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخّر. وإنّما لم تفصل الجملة: للإشارة إلى أنّ مضمونها من بقية أحوال المشركين، فناسب انتظامها مع ما قبلها. فقد تاب الله على أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو (ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة).
والتذييل بجُملة {والله عليم حكيم} لإفادة أنّ الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنّه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنّه يقبل توبة من تاب إليه تكثيراً للصلاح.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
{أم} منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر.
والكلام بعد {أم} المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً، فقوله: {حسبتم} في قوة (أحسبتم) والاستفهام المقدّر إنكاري.
والخطاب للمسلمين، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام.
وحسبتم: ظننتم. ومصدر حسب، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء.
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه، أي: أن يترككم الله، فحُذف فاعل الترك لظهوره.
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق: من حال أو مجرور، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه، كقوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2] ومثل قول عنترة:
فتركتُه جَزَر السباع ينُشنَه ***
وقول كبشة بنت معد يكرب، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن:
وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم ***
وحذف متعلِّق {تتركوا} في الآية: لدلالة السَياق عليه، أي أن تتركوا دون جهاد، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة.
والمعنى: كيف تحسبون أن تتركوا، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله.
وجملة {ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم} إلخ في موضع الحال من ضمير {تتركوا} أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد، وحصول تثاقل من تثاقلوا، وحصول ترك الجهاد من التاركين.
و {لمّا} حرف للنفي، وهي أخت (لم). وقد تقدّم بيانها، والفرق بينها وبين (لم) عند قوله تعالى: {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [البقرة: 214] وقوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} في سورة آل عمران} (142).
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا: علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} في سورة آل عمران (142).
و (الوليجة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي الدخيلة، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها، فكأنّه يُولجها، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر، والمراد بها هنا: ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين، لأنّ تنكير وليجة} في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها.
و {من دون الله} متعلّق ب {وليجة} في موضع الحال المبيّنة.
و {من} ابتدائية، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين.
وجملة {والله خبير بما تعملون} تذييل لإنكار ذلك الحسبان، أي: لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} [التوبة: 1] ولِمَا اتّصَل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق: أنْ لا يَحُج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. وهو توطئة لقوله: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].
وتركيب (ما كان لهم أن يفعلوا) يدلّ على أنّهم بُعداء من ذلك، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة} في سورة آل عمران (79)، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات.
ومَساجد الله} مواضع عبادته بالسجود والركوع: المراد المسجدُ الحرام وما يتبعه من المسعى، وعرفةُ، والمشعرُ الحرام، والجَمَرات، والمَنْحر من منى.
وعمْر المساجد: العبادةُ فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة، فعَمْرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين، ومن ذلك اشتقّت العُمرة، والمعنى: ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله. وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين: إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله.
وقد جاء الحال في قوله: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} مبيِّناً لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله، وهو حال من ضمير {يعمروا} فبين عامل الضمير وهو {يعمروا} الداخلُ في حكم الانتفاء، أي: انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده.
والمراد بالكفر: الكفر بالله، أي بوحدانيته، فالكفر مرادف للشرك، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابِه مساجد الله، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره، وأقام إبراهيم عليه السلام أوّل مسجد وهو الكعبة عنواناً على التوحيد، وإعلاناً به، كما تقدّم في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في سورة آل عمران (96)، فهذه أوّل درجة من الحرمان. ثم كونُ كفرهم حاصلاً باعترافهم به موجبٌ لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة، وللبراءة من استحقاقها، وهذه درجة ثانية من الحرمان.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك، مثل قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، ومثل سجودهم للأصنام، وطوافهم بها، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولَها وعلى سطحها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بإفراد مسجد الله} أي المسجد الحرام وهو المقصود، أو التعريف بالإضافة للجنس. وقرأ الباقون: {مسَاجد الله}، فيعمّ المسجد الحرام وما عددناه معه آنفاً.
وجملة {أولئك حبطت أعمالهم} ابتداءُ ذم لهم، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] بعد قوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] الآية.
و {حبطت} بطلت، وقد تقدّم في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} في سورة البقرة (217).
وتقديم في النار} على {خالدون} للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه.
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
موقع جملة {إنما يعمر مساجد الله} الاستئناف البياني، لأنّ جملة: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [التوبة: 17] لمّا اقتضت إقصَاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالاً في نفوس السامعين أن يتطلّبوا من هم الأحقّاء بأن يعمروا المساجد، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائِل.
ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فِرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43، 44] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين.
واستغني عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدلّ عليه من آثار شريعته: وهو الإيمان باليوم الآخر، وإقامُ الصلاة: وإيتاء الزكاة.
وقصر خشيتهم على التعلّق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنّهم لا يخافون شيئاً غير الله فإنّهم قد يخافون الأسَد ويخافون العدوّ، ولكن معناه إذا تردّد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدّموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفاً {أتخشونهم فاللَّهُ أحق أن تخشوه} [التوبة: 13]، فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين.
وهذا من خصائص المؤمنين: فأمّا المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم، وأمّا أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كَلمِه ومجاراة أهواء العامّة، وقد ذكَّرهم الله بقوله: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44].
وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خُلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها. ووجه هذا الرجاء أنّهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خُلُقا لهم فيكونوا من أهله، ولذلك قال: {أن يكونوا من المهتدين} ولم يقل أن يكونوا مهتدين.
وفي هذا حثّ على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها.
والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقّوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عُدّت لهم.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سَوَّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها: أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملاً من الأعمال الخاصّة به، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساوٍ للقيام بأفضل أعمال الإسلام.
وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية: ما رواه الطبري، والواحدي، عن النعمان بن بشير، قال: كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم «ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلاَّ أنْ أسقي الحاج»؛ وقال آخر «بل عمارة المسجد الحرام» وقال آخر «بل الجهاد في سبيل الله خير ممّا قلتم» فزجرهم عمر بن الخطاب وقال: «لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صُلِّيَتْ الجمعة دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفيتُه فيما اختلفتم فيه» قال: فأنزل الله تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقد روي أنّه سرى هذا التوهّم إلى بعض المسلمين، فروي أنّ العباس رام أن يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائِر؛ وأنّ عثمان بنَ طلحة رام مثل ذلك، للقيام بحجابة البيت. وروى الطبري، والواحدي: أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر، وأن علياً عَيَّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم، فقال العباس: «ما لكم لا تذكرون محاسننا إنّا لنَعْمُر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج» فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الآية.
والاستفهام للإنكار.
و (السقاية) صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.
وكذلك (العمارة) صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا: غير ما في قوله: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [التوبة: 17] وقوله: {إنما يعمر مساجد الله} [التوبة: 18] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.
وتعريف الحاج تعريف الجنس.
وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة.
وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدّي العلامة الوزير وهي: الدّيَات والحَملات، السِّفارة، الراية، الرّفادة، المشُورة، الأعنة والقبة، الحكُومة وأموالُ الآلهة، الأيْسار.
فأما الديات والحَمالات: فجمع دِيَة وهي عوض دم القتيللِ خطأ أو عمداً إذا صولح عليه؛ وجمع حَمالة بفتح الحاء المهملة وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم، وكانت لبني تَيْم بن مُرَّةَ بن كعب. ومُرّة جدّ قصَي، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق.
وأمّا السِفارة بكسر السين وفتحها فهي السعي بالصلح بين القبائِل. والقائم بها يسمّى سفيراً. وكانت لبني عدي بن كعب أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب.
وأمّا الراية، وتسمّى: العُقاب بضم العين لأنّها تخفق فوق الجيش كالعُقاب، فهي راية جَيش قريش. وكانت لبني أمية، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب.
وأمّا الرّفادة: فهي أموال تخرجها قريش إكراماً للحجيج فيطعمونهم جميعَ أيّام الموسم يشترون الجُزُر والطعام والزبيب للنبيذ وكانت لبني نوفل بن عبد مناف، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل.
وأمّا المَشُورَة: فهي ولاية دار النَّدْوة وكانت لبني أسد بن عبد العُزّى بن قصيّ. وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زَمْعَة.
وأمّا الأعنّة والقُبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم. وهم أبناء عم قُصَي، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد.
وأمّا الحُكومة وأموالُ الآلاهة ولم أقف على حقيقتها فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام. وأمّا تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع. فكانت لبني سهم وهم أبناء عمّ لقصي. وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم.
وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جُمح وهم أبناء عمّ لقُصي، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أميةَ بننِ خَلَف.
وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب، عدا السدانة والسقاية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع «ألا إنّ كل مأثُرة من مآثر الجاهلية تحت قَدَمَيَّ هاتين إلاّ سِقاية الحاج وسَدانة البيت»
وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة: الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء فلمّا كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعَوا للحرب، ثم تداعَوا للصلح، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأحدثت مناصب لبعضضٍ من قريش غيرِ أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا.
وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدَّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان، بل ذِكر الإيمان إدماج، للإيماء إلى أنّ الجهاد أثَرُ الإيمان، وهو ملازم للإيمان، فلا يجوز للمُؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام. وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جَعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان، بل لَجعلوها أعظم. وإنّما توهّموا أنهما عملان يَعْدِلاننِ الجهاد، وفي الشغل بهما عذر للتخلّف عن الجهاد، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين.
وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبّه به، على أنّ العملين ومَن عملهما لا يساويان العملَين الآخرين ومَن عملهما. فوقع احتباك في طرفي التشبيه، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وجعلتم سقاية الحاجّ وعمّار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله. ولما ذكرت التسوية في قوله: {لا يستوون عند الله} أسندت إلى ضمير العاملين، دون الأعمال: لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات.
وجملة {لا يستوون} مستأنفة استئنافاً بيانياً: لبيان ما يُسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله: {أجعلتم} الآية.
وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل لجملة {أجعلتم سقاية الحاج} إلخ، وموقعهُ هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنْزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذٍ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يُرَد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه. وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.
فالوجه عندي في موقع جملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أنّ موقعها الاعتراض بين جملة {أجعلتم سقاية الحاج} وجملة {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا} [التوبة: 20] إلخ.
والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاماً بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل، وأنّ شُعَبَه المتولّدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلاّ إذا كان مع الإيمان، وخاصّة الجهاد.
وفيه إيماء إلى أنّه: لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيششِ الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طَلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.
فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس: من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين} واضح: أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرععِ بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك: فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازاً باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه مَن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.
وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.
والمعنى: والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.
ونسب إلى ابن وردان أنّه روي عن أبي جعفر أنّه قرأ: {سُقَاةَ الحاج} بضم السين جمع الساقي وقرأ {وعَمَرَة} بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر وقد اختلف فيها عن ابن وَردان.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
هذه الجملة مبيّنة لنفي الاستواء الذي في جملة {لا يستون عند الله} [التوبة: 19] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله: {كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} [التوبة: 19] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.
و (الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة.
والمهاجَرة: ترك الموطن والحلولُ ببلد آخر، وهي مشتقّة من الهجر وهو الترك، واشتقّت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها في عرف الشرع هجرة خاصّة: وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشمل هجرةَ مَن هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نية الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.
والمفضل عليه محذوف لظهوره: أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم.
والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} في سورة البقرة (228). وقوله: {لهم درجات عند ربّهم} في أوائل الأنفال (4). وهي في كلّ ذلك مستعارة لرفع المقدار. وعند الله} إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأنّ أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.
وجملة {وأولئك هم الفائزون} معطوفة على {أعظم درجة} أي: أعظم وهم أصحاب الفوز. وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادّعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتّى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يُعَدّ كالمعدوم.
والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزّتهم: وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
بيان للدرجة العظيمة التي في قوله: {أعظم درجة عند الله} [التوبة: 20] فتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرّة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم. ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.
والتبشير: الإخبار بخير يحصل للمخبَر لم يكن عالماً به.
فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع، المفيد للتجدّد، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم، لأنّ تجدّد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوماً للمبشَّر (بفتح الشين) وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلاً للحاصل.
وكون المسند إليه لفظ الربّ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية: لأنّ معنى الربوبية يَرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.
وتقدّمت الرحمة في قوله: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1].
والرضوان بكسر الراء وبضمها: الرضا الكامل الشديد، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغُفران والشُكران والعِصيان.
والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواععِ النعيم فيها.
والنعيم: ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة، وهو أخصّ من النِعمة، قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} [الإنفطار: 13] وقال: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر: 8].
والمقيم المستمرّ، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار.
والتنكير في {برحمة، ورضوان، وجنات، ونعيم} للتعظيم، بقرينة المقام، وقرينة قوله {منه} وقرينة كون تلك مبشرّاً بها.
وجملة {إن الله عنده أجر عظيم} تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأنّ مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيرَه، وفي هذا التذييل إفادة أنّ ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربّهم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه «ما عَلى من دُعي من جميع تلك الأبواب من ضَرورة».
والأجرُ: العوض المعطى على عمل، وتقدّم في قوله: {إذا آتيتموهن أجورهن} في سورة العقود (5).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}
استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم، فإنّه لمّا كان أوّل السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر، لا جرم تهيّأ المتامُ لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان: المنافقينَ من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب؛ ممّن عُرفوا بذلك، أو لم يعرفوا وأطْلَعَ الله عليهم نبيَئه صلى الله عليه وسلم وحذّر المؤمنين المطّلعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم ومخالطتهم، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنّهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصاً، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم، ولذلك افتتح الخطاب {يأيها الذين آمنوا} إشعاراً بأنّ ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضَيات الإيمان وشِعاره.
وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} [التوبة: 90] وقوله {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} [التوبة: 101] ونظائرهما من الآيات.
روى الطبري عن مجاهد، والواحدي عن الكلبي أنّهم لمّا أمِروا بالهجرة وقال العبّاس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا حاجب الكعبة، فلا نهاجر، تعلّق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا «أتضيّعوننا» فَرَقُّوا لهم وجلسوا معهم، فنزلت هذه الآية.
ومعنى {استحبوا الكفر} أحبّوه حبّاً متمكّناً. فالسين والتاء للتأكيد، مثل ما في استقام واستبشر.
حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبّوا الكفر على الإيمان، في ظاهر أمرهم أو باطنه، إذا اطّلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذَكَر من صفاتهم في هذه السورة، وجعل التحذير من أولئك بخصوص كونهم آباء وإخواناً تنبيهاً على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أنّ مَن دونهم أولى بحكم النهي. ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنّهم تابعون فلا يقعدون بعدَ متبوعيهم.
وقوله: {فأولئك هم الظالمون} أريد به الظالمون أنفسَهم لأنّهم وقعوا فيما نهاهم الله، فاستحقّوا العقاب فظلموا أنفسهم بِتسبّب العذاب لها، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مراداً به الشرك. وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أنّ ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم. ويجوز أن يكون هم {الظالمون} عائِداً إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله: {ومن يتولهم} أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبّوا الكفر على الإيمان، والمعنى ومن يتولّهم فقد تولّى الظالمين فيكون الظلم على هذا مراداً به الشرك، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء، وللتنبيه على أنّ جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباببِ المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيَحول تعلّقُهم بها بينَهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام، فلذلك ذكر الأبناءُ هنا لأنّ التعلّق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان، وذُكر غيرهم من قريب القرابة أيضاً.
وابتداء الخطاب ب {قُل} يشير إلى غِلَظِه والتوبيخ به.
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين: المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو {إنْ} ويفهم منه أنّ المسترسلين في ذلك المُلابِسينَ له هم أهل النفاق، فهم المعرَّض لهم بالتهديد في قوله: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وقد جمعت هذه الآية أصنافاً من العلاقات وذويها، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضاً إذا اختلفوا في الدين، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله. وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو. فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تَجُرُّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمِن دحضها وإرضاء ربّه.
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب {أحب} لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مُسبّباً على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير.
وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم: تنويهاً بشأنه، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف، جَعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعضُ المسلمين.
و (العَشيرة) الأقارب الأدْنَوْن، وكَأنه مشتقّ من العِشْرة وهي الخلطة والصحبة.
وقرأ الجمهور {وعشيرتكم} بصيغة المفرد وقرأه أبو بكر عن عاصم {وعشيراتكم جمع عشيرة ووجهه: أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة، وعن أبي الحسن الأخفش: إنّما تَجمعَ العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عَشيرات، وهذه دعوى منه، والقراءة رواية فهي تَدفَع دَعواه.
والاقتراف: الاكتساب، وهو مشتقّ من قارف إذا قارَب الشيء.
والكساد، قلّة التبايع وهو ضدّ الرَّولج والنَّفاق، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد.
وجُعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد: لأنّ تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف، فإيثار هذه الأشياء على مَحبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر، وإلى القعود عن الجهاد.
والتربّص: الانتظار، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ. وهو المراد بقوله: حتى يأتي الله بأمره} أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبّة الأقارب والأموال والمساكين، على محبّة الله ورسوله والجهادِ.
والأمر: اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدَّدين كلّ مذهب محتمل، فأمر الله: يحتمل أن يكون العذَابَ أو القتل أو نحوهما، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح.
وجملة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تذييل، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية.
وأكّد الكلام ب {قد} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.
و {مواطن}: جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.
و {يومَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {في مواطن} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نصركم} والتقدير: ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكاننٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين.
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.
و {حُنين} اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفاً، وبين هوازن وثقيف وألفاً فهما، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضباً لهزيمة قريش ولفتح مكة، وكان على هوازن مالك بن عوف، أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد يَالِيل بن عمرو الثقفي، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون: لن نغلب اليومَ من قلّة، ووثقوا بالنصر لقوّتهم، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتاباً إلهياً على نسيانهم التوكّل على الله في النصر، واعتمادهم على كثرتهم، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين «لن نغلب من قلّة» ساءهُ ذلك، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل: إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم، وكانت هوازن قوماً رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وتفرّقوا في الوادي، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس: يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي، فاجتمع إليه مائة، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الآن حَمِي الوطيس» فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم.
فذلك قوله تعالى: {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً.
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله: {بما رحبت} استعير {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه.
فالباء للملابسة، و{ما} مصدرية، والتقدير: ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها: أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم:
ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها *** من الضيق في عينيْه كفة حابل
قال الأعلم «أي من الزعر» هو مأخوذ من قول الآخر:
كأنَّ فجاج الأرض وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفّة حابل
وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى {وضاقت عليكم اورض بما رحبت} لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال: أي لشدّة الحال وصعوبتها.
وموقع {ثُم} في قوله: {ثم وليتم مدبرين} موقع التراخي الرتبي، أي: وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين.
والتولّي: الرجوع، و{مدبرين} حال: إمّا مؤكّدة لمعنى {وليتم} أو أريد بها إدبار أخص من التولّي، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب، ويكون للفرّ في حِيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً.
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}
عطف على قوله: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} [التوبة: 25].
و {ثم} دالّة على التراخي الرتبي فإنّ نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين، على أنّ التراخي الزمني مراد؛ تنزيلاً لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدّتها، فإن أزمان الشدّة تخيّل طويلة وإن قَصُرت.
والسكينة: الثبات واطمئنان النفس وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248)، وتعليقها بإنزال الله، وإضافتها إلى ضميره: تنويه بشأنها وبركتها، وإشارة إلى أنّها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدّمات ظاهرة، وإنّما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أُنُفاً كرامةً لنبيئه وإجابة لندائِه الناسَ، ولذلك قدّم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.
وإعادة حرف على} بعد حرف العطف: تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين: فسكينة الرسول عليه الصلاة والسلام سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.
والجنود جمع جند. والجند اسم جَمع لا واحد له من لفظه، وهو الجماعة المهيّئة للحرب، وواحدهُ بياء النسب: جُندي، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249). وقد يطلق الجند على الأمّة العظيمة ذات القوة، كما في قوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود} في سورة البروج (17، 18) والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكّلون بهزيمة المشركين كما دلّ عليه فعل أنزل، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذلك قال: لم تروها} ولكون الملائكة ملائكةَ النصر أطلق عليها اسم الجنود.
وتعذيبه الذين كفروا: هو تعذيب القتل والأسر والسبي.
والإشارة ب {وذلك جزاء الكافرين} إلى العذاب المأخوذ من {عَذَّب.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
{ثم} للتراخي الرتبي، عطف على جملة {ثم أنزل الله سكينته على رسوله إلى قوله وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26]. وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنّهم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، وسألوه أن يردّ إليهم سبيهم وغنائمهم، فذلك أكبر منّة في نصر المسلمين إذْ أصبح الجندُ العدوُّ لهم مسلمين معهم، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم.
والمعنى: ثم تاب الله عليهم، أي على الذين أسلموا منهم فقوله: {يتوب الله من بعد ذلك} دليل المعطوف بثُم ولذلك أتى بالمضارع في قوله: {يتوب الله} دون الفعل الماضي: لأنّ المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم، للإشارة إلى إفادة تجدّد التوبة على كلّ من تاب إلى الله لا يختصّ بها هوازن فتوبته على هوازن قد عَرفها المسلمون، فأعلموا بأنّ الله يعامل بمثل ذلك كلّ من ندم وتاب، فالمعنى: ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء.
وجملة: {والله غفور رحيم} تذييل للكلام لإفادة أنّ المغفرة من شأنه تعالى، وأنّه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
{ياأيها الذين ءامنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}.
استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [التوبة: 17] الآية، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه: وهي أنّهم نجس، فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكُفر، فليسوا أهلاً لتعمير المسجد المبني للتوحيد، وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته.
و {نجس} صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية.
والنجاسة المعنوية: هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّراً متجنَّباً من الناس فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبّساً بالصفة التي جعلته كذلك، فالمشرك نجَس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفاً مطيّباً لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذرَ الجسد ملطخاً بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر، ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم. والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير، ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه، وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا.
وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا.
والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة، فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام، وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصَلوا في الموسم، والرجوع إلى آفاقهم متفاوت «فأريد من العام موسم الحجّ، وإلاّ فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2].
وإضافة (العام) إلى ضمير (هم) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب:
فإن كان أعجبكم عامكم *** فعودوا إلى مصر في القابل
وصيغة الحصر في قوله: {إنما المشركون نجس} لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية.
ووصف (العام) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه.
وقوله: {فلا يقربوا المسجد} ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام. ومواجهةُ المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام. جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جُعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب: «لا أرينّك ههنا» فليس النهي للمشركين على ظاهره.
والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك، ولذلك لمّا نزلت «براءة» أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادَى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر. فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ. ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
عطف على جملة النهي. والمقصود من هذه الجملة: وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدُون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين.
والعَيْلة: الاحتياج والفقر أي إنْ خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائِل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك. وقد أغناهم الله بأن هَدى للإسلام أهل تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن، فأسلموا عقب ذلك، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والمِيرة، وأسلم أيضاً أهل جُدَّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها، فحملوا الطعام إلى مكة، وأسلم أهل صنعاء من اليمن، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها.
وقوله: {إن شاء} يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء.
وقوله: {إن الله عليم حكيم} تعليل لقوله: {وإن خفتم عيلة} أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائِل، فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركاً منفعتكم فقَدر غناكم عنهم بوسائل أخرى عَلِمَها وأحكم تدبيرها.
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً، واستقلّ أمره بالمدينة، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها.
ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم. ففي «صحيح البخاري» عن عمر بن الخطاب أنّه قال: «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال: افتح افتح. فقلت: أجَاء الغسّاني. قال: بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث.
فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام.
وعن مجاهد: أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك.
و {مِن} بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها.
وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر، وتحريمُ ما حرم الله، والتديُّنُ بدين الحقّ. ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء.
وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا:
{يد الله مغلولة} [المائدة: 64]. وقال كثير منهم: {عزيز ابن الله} [التوبة: 30].
وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء: كقولهم: {لن تمسسّنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر. وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات.
والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين.
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة {ولا يدينون دين الحق}.
وأمّا قوله: {الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله {ورسوله} فإدماج. فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمممِ المعروففِ من العالم يومئذٍ، فقد كانت الروم نصارى، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم.
ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى:
{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 63 68] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى، والتعويل في مثل هذا على القرائن.
وقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} بيان لأقرب صلة منه وهي صلة {ولا يدينون دين الحق} والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه. وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم، وإنّما دانوا بما حرفوا منه، ومَا أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون} [آل عمران: 81 83].
وقوله: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله}. بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل، فيفيد قوله: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً. والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك.
والمراد (برسوله) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم.
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
و {حتّى} غاية للقتال، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية.
وضمير {يعطوا} عائِد إلى {الذين أوتوا الكتاب}.
والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض، بنيتْ على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا، فلذلك كان الظاهر. هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة (كِزْيَت) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في «مفردات القرآن». ولم يذكروها في «مُعَرَّب القرآن» لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية.
وقوله: {عن يد} تأكيد لمعنى {يعطوا} للتنصيص على الإعطاء و{عن} فيه للمجاوزة. أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها، ومحلّ المجرور الحال من الجزية. والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب «أعطى بيده» إذا انقاد.
وجملة {وهم صاغرون} حال من ضمير يعطوا.
والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً. إذا ذلّ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله} في سورة الأنعام (124)، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد: والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام. وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب. وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب، دون مشركي العرب: لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم} [التوبة: 5] وقوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم} [التوبة: 11] وقوله {ويتوب الله على من يشاء} [التوبة: 15]. ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}
عطف على جملة {ولا يدينون دين الحق} [التوبة: 29] والتقدير: ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله، ويقول النصارى منهم: المسيح ابن الله، تشنيعاً على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين.
وعزيز: اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية (عِزْرا) بكسر العين المهملة بن (سرايا) من سبط اللاويين، كان حافظاً للتوراة. وقد تفضّل عليه (كورش) ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه، وذلك في سنة 451 قبل المسيح، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله، غُلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم كثير من عامّتهم. وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138].
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعاً لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيباً فيه.
قرأ الجمهور {عزيرُ} ممنوعاً من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب: بالتنوين على اعتباره عربياً بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من «دلائل الإعجاز»، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري.
وأمّا قول النصارس ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور. وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} في سورة البقرة (87). وعند قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45).
والإشارة بذلك} إلى القول المستفاد من {قالت اليهود وقالت النصارى}. والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.
و {بأفواههم} حال من القول، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذباً كقوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 5]. وفي هذا أيضاً إلزام لهم بهذا القول، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم.
والمضاهاة: المشابهة، وإسنادها إلى القائلين: على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام، أي يضاهي قولُهم.
و {الذين كفروا من قبل} هم المشركون: من العرب، ومن اليونان، وغيرهم، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر، وأمّا كونهم من قبللِ اليهود: فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم.
وجملة {قاتلهم الله} دعاء مستعمل في التعجيب، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء: أي قتلهم الله قتلاً شديداً. وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب.
وجملة {أنى يؤفكون} مستأنفة. والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان، ومعنى {يؤفكون} يُصرفون. يقال: أفَكَه يأفِكه إذا صرفه، قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 9] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق، وقد تقدّم ذلك غير مرة.
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
الجملة تقرير لمضمون جملة {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ليُبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً} إلخ، فوزان هذه الجملة وزان جملة {اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148] بعد جملة {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار} [الأعراف: 148]. والضمير لليهود والنصارى.
والأحبار جمع حَبَر بفتح الحاء وهو العالِم من علماء اليهود.
الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنّما خص الحَبر بعالمِ اليهود لأنّ عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين وخصّ الراهب بعظيم دين النصرانية لأنّ دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة.
ومعنى اتّخاذهم هؤلاء أرباباً أنّ اليهود ادّعوا لبعضهم بنوةَ الله تعالى وذلك تأليه، وأنّ النصارى أشدّ منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملّتهم مثل صورة مريم، وصور الحواريين، وصورة يحيى بن زكرياء، والسجود من شعار الربوبية، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله.
وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقْوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة أنّه من الدين، فكانوا يعتقدون أنّ أحبارهم ورهبانهم يحلّلون ما حرم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عدياً بنَ حاتم لمّا وفد عليه قُبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} وقال عدي: لسنا نعبدهم فقال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم» فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنّهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإنّ الأمّة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره، ومعنى اتّخاذهم أرباباً من دون الله أنّهم اتّخذوهم أرباباً دون أن يفردوا الله بالوحدانية، وتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر.
وجملة {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً} في موضع الحال من ضمير {اتخذوا أحبارهم}، وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنّهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأنّ وصايا كتب الملّتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية.
وجملة {لا إله إلّا هو} صفة ثانية ل {إلهاً واحداً}.
وجملة {سبحانه عما يشركون} مستأنفة لقصد التنزيه والتبرّئ ممّا افتروا على الله تعالى، ولذلك سمي ذلك إشراكاً.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة، والتألّب على مناواة الدين، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم، فالضمير في قوله: {يريدون} عائد إلى {الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه، أو هبوب رياح، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر.
والنور: الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى: {نوراً وهدى للناس} في سورة الأنعام (91). والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة. والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من بيحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه. والمثال المشهور للتمثيل الصالححِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار:
كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رؤوسنا *** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه
ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالاً، بخلاف بيت بشّار، كما يظهر بالتأمّل.
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.
والإباء والإباية: الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعللٍ وهو يمتنع منه، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله.
والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة، كأنّه قال: ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره، ذَلك أنّ فعل (أبَى) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله: يريدون أن يطفئوا نور الله}. فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه. وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل «كَرِهْت إلاّ أخَاك».
وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم، ولم يُجأْ به في سورة الصف (8) إذ قال: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره} لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق.
وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليل منهم} في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة (249): أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير فشربوا} على اعتبار تضمين {شربوا} معنى، فلم يطعموه إلاّ قليل، ميلاً مع معنى الكلام.
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل: ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره.
و {لو} في {ولو كره الكافرون} اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً. والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله. وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
بيان لجملة {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32] بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين، فلا يريد إزالته، ولا يجعل تقديره باطلاً وعبثاً. وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين.
وفي قوله: {هو الذي أرسل رسوله} صيغة قصر، أي هو لا غيره أرسَلَ رسوله بهذا النور، فكيف يَترُك معانديه يطفئونه.
واجتلاب اسم الموصول: للإيماء إلى أنّ مضمون الصلة علّة للجملة التي بُنيت عليها هذه الجملةُ وهي جملة: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32].
وعبّر عن الإسلام {بالهدى ودين الحق} تنويهاً بفضله، وتعريضاً بأنّ ما هم عليه ليس بهدى ولا حقّ.
وفعل الإظهار إذا عُدّي ب {على} كان مضمَّنا معنى النصر، أو التفضيل، أي لينصره على الأديان كلّها، أي ليكون أشرف الأديان وأغلَبها، ومنه المظاهرة أي المناصرة، وقد تقدّم ذكرها آنفاً عند قوله: {ولم يظاهروا عليكم أحداً} [التوبة: 4].
فالإسلام كان أشرفَ الأديان: لأنّ معجزة صدقه القرآن، وهو معجزة تُدرك بالعقل، ويستوي في إدراك إعجازِها جميع العصور، ولِخُلّو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى، وخلي عن وضع التكاليف الشاقّة، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم، وقد فصّلت ذلك في الكتاب الذي سمّيْته «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».
وظهور الإسلام على الدين كلّه حصل في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلّقوا بها، وما صلحت بعضُ أمورهم إلاّ فيما حاكَوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان.
و {لو} في {ولو كره المشركون} وصلية مثل التي في نظيرتها. وذكر المشركون هنا لأنّ ظهور دين الإسلام أشدّ حسرة عليهم من كلّ أمّة، لأنّهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعَوا الأمم للتألّب عليه واستنصروا بهم فلَم يغنوا عنهم شيئاً، ولأنّ أتمّ مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها، وزالت منها جميع الأديَان الأخرى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يَبقى دينان في جزيرة العرب " فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محلّ المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كلّه كما يظهر بالتأمّل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.
استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيراً لهم في نفوسهم، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين: مثللِ عُزير، بين للمسلمين أنّ كثيراً من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالئ الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب.
وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته.
وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفاً.
وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلاَم ومُخَيْرِيق.
والباطل ضدّ الحقّ، أي يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل، أي أكلاً لا مبرّر له، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى: {وتأكلون التراث أكلا لما} [الفجر: 19] وقال {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} في سورة البقرة (188) وقد تقدّم، وكذلك الباطل تقدّم هنالك.
والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحببِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات.
وسبيل الله طريقهُ استعير لدينه الموصّل إليه، أي إلى رضاه، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس، وإغراءُ الناس بالإعراض عن ذلك. فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد ويعلِّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ.
والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين: اعتباراً بأنّه مضاعف متعدّ، ولذلك لم يجئ في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً} في سورة الأعراف (45).
جملة معطوفة على جملة {يأيها الذين آمنوا إن كثيراً} والمناسبة بين الجمْلتين: أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلاً لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئاً من العذاب.
وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة: فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92] وقد ورد في «السيرة» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} ولا شكّ أنّهم من المنافقين.
والكَنز بفتح الكاف مصدر كنز إذا ادّخر مالاً، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يُخزن، من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بِمعنى المخلوق.
و {سبيل الله} هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا.
فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قوماً بأعيانهم.
ومعنى {ولا ينفقونها في سبيل الله} انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة: إمّا وجوباً مستمرّاً كالزكاة، وإمّا وجوباً عارضاً كالنفقة في الحجّ الواجببِ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل.
والضمير المؤنّث في قوله: {ينفقونها} عائد إلى الذهب والفضة.
والوعيد منوط بالكَنز وعدممِ الإنفاق، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل {سبيل الله} بالصدقات الواجبة، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.
ووقع في «الموطأ» أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعّد عليه في آية {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآيةِ ما هو؟ فقال: هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كَنزُك "
فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموماً.
وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ، فقال بتحريم كَنز المال، وكأنّه تأول {ولا ينفقونها} على معنى ما يسمّى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول: بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية: وهو أمير الشام، في خلافة عثمان: إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذرّ: نزلت فيهم وفينا، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولاً لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاويةُ إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذَر الفتنةَ في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله.
والفاء في قوله: {فبشرهم} داخلة على خبر الموصول، لتنزيل الموصول منزلة الشرط، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر، فضمير الجمع عائد إلى {الذين} ويجوز كون الضمير عائداً إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون. والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أنْ ذَكَر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكَر الكانزين، أمر رسوله بأن يُنذر جميعهم بالعذاب، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره: إذا علمتَ أحوالهم هذه فبشّرهم، والتبشير مستعار للوعيد على طَريقة التهكّم.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
انتصب {يوم يحمى} على الظرفية لِ {عذاب} [التوبة: 34]، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون. وضمير {عليها عائد إلى الذهب والفضة} [التوبة: 34] بتأويلهما بالدنانير والدراهم، أو عائد إلى {أمْوالَ الناس} [التوبة: 34] و{الذهبَ والفضةَ} [التوبة: 34]، إن كان الضمير في قوله: {فبشرهم} [التوبة: 34] عائداً إلى {الأحبار والرهبان والذين يكنزون} [التوبة: 34].
والحَمْيُ شدّة الحرارة. يقال: حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه.
والضمير المجرور بعلَى عائد إلى {الذهب والفضة} [التوبة: 34] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل، فكأنّه قيل: يوم يحمي الحَامون عليها، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره: إذ هو النار التي تُحمى، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله: {في نار جهنم} فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار. وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيباً بديعاً من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز.
والكَيُّ: أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل.
والجِباه: جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس.
والجنُوب: جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.
والظُّهور: جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.
والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناففٍ من الآلام.
وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلاً لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم.
وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في «الموطأ» و«الصحيحين» أنّه يمثّل له ماله شُجاعاً أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول: «أنا مالك أنا كنزلك» وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد، ومن عصَر إلى عصر.
وجملة {هذا ما كنزتم لأنفسكم} مقول قول محذوف، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن، والإشارة إلى المحمي، وزيادة قوله: {لأنفسكم} للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب، وهو لا يفعل شيئاً لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة، بما كان أضعافاً مضاعفة من ألم العذاب وجملة {فذوقوا ما كنتم تكنزون} توبيخ وتنديم.
والفاء في {فذوقوا} لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى.
والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق، وتقدم عند قوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} في سورة العقود (95).
وما كنتم تكنزون} مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام: أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون.
وعُبِّر بالموصولية في قوله: {ما كنتم تكنزون} للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.
والمقصود: ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها.
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ.
والمراد بالشهور: الشهور القمرية بقرينة المقام، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخخِ الحوادث الماضية، بمجرّد المشاهدة، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض. قال تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية، وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي. فألْهم الله البشر، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم، أن اتّخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأن جعلوه مستنداً إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاماً مطرداً. وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق} [يونس: 5]، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليومُ والليلة، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالاً إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل.
وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً فسمّوا تلك المدّة عاماً، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعاً للغلط، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}.
فمعنى قوله: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً}: أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً.
و {عند الله} معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول ل {عدّة} أو حال من {عدّة} و{في كتاب الله} صفة ل {اثنا عشر شهراً}.
ومعنى {في كتاب الله} في تقديره، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله: {كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145] أي قدرا محدّداً، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] ولذلك قال هنا {يوم خلق السماوات والأرض} ف {يومَ} ظرف ل {كتاب الله} بمعنى التقدير الخاصّ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء، منذُ كونِه هلالاً، إلى رُبعه الأول، إلى البدر، إلى الربُع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض.
ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتُدئ منه العد من أوقات الفصول، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية.
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً.
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ، ألا ترى قول لبيد:
حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً *** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية.
وقرأ الجمهور {اثنا عشر} بفتح شين {عشر} وقرأه أبو جعفر {اثنا عْشَرَ} بسكون عين {عشر} مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعاً.
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم: ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَباً، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها، وهي قضاعة. وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: {منها أربعة حرم} «ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان»
وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحجّ، كما قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام} [المائدة: 97].
واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل، الواقعة فيه، أو المقارِنة له. فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو بإطْلاع على مراده، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات، أو مضاعفةِ الحسنات، كما قال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام " والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدَّرها، فأشبهت الأمور الكونيه، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية: لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس.
{ذلك الدين القيم}.
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور: من عدّةِ الشهور الاثني عشر، وعدّة الأشهر الحرم. أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة.
والدين: النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به، أي يعامَلون بقوانينه. وتقدّم عند قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} في سورة آل عمران (19)، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30].
فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه {في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}.
وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله: {ذلك الدين القيم}، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية.
وجملة: {ذلك الدين القيم} معترضة بين جملة {إن عدة الشهور} وجملة {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}.
{فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}.
تفريع على {منها أربعة حرم} فإنّها، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها.
فالضمير المجرور ب {في} عائد إلى الأربعة الحرم: لأنّها أقرب مذكور، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها، وإلاّ لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هُنّ كما قال هنا {فيهن} إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل (ها) يعاملان معاملة الواحد كما قال: {منها أربعة حرم} ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث، وقال الكسائي: إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي «خلون» وفيما فوقها «خَلَت». وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده: فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين {فيها} و{فيهن} وأنّ الاختلاف بينهما في الآيةِ تفنُّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب، فكان ظلماً للنفس قال تعالى:
{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله} [النساء: 64] الآية وقال: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} [النساء: 110].
والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله: {فلا تظلموا} أي لا يظلم كلّ واحد نفسه. ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي: أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة، فإن لم يكن أحد متلبّساً بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهياً عنها، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجراً، ونظيره قوله تعالى: {ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره.
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور: 61]، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية، وكقوله: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام} [المائدة: 97] وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيداً لمنطوق قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2] ولمفهوم قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وهي مقيّدة بقوله: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7] وقوله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياماً من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أوّلَ مرّة، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود.
والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة: فقال ابن المسيّب، وابن شهاب، وقتادة، وعطاء الخراساني حَرَّمت الآية القتالَ في الأشهر الحرم ثم نُسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم، حتّى يعُمّ جميع بلاد العرب حكمُ الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضَرببِ الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود.
وقال عطاء بن أبي رباح: يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلاّ أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية.
{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}.
أحسب أنّ موقع هذه الآية موقعُ الاحتراس من ظنّ أنّ النهيِ عن انتهاء الأشهر الحرم يَقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله: {كما يقاتلونكم كافة} فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن هم بَادَأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين.
و {كافّة} كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة (كلّ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكَّد من أفراد وتثنية وجمع، ولا من تذكير وتأنيث، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد، ومحلّها نصب على الحال من المؤكَّد بها، فهي في الأول تأكيد لقوله {المشركين} وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات، أي كلّ فِرق المشركين، فكلّ فريق وُجد في حالة مَّا، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال، فالمسلمون مأمورون بقتاله، فمن ذلك: كلّ فريق يكون كذلك في الأشهر الحُرُم، وكلّ فريق يكون كذلك في الحَرَم.
والكاف في {كما يقاتلونكم} أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198].
وجملة {واعلموا أن الله مع المتقين} تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل، وليست معية عِلم، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين.
وابتدئت الجملةُ ب {اعلموا} للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] الآية، بحيث يجب أن يعلموه ويَعوه.
والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين، لئلا يكون ذكر جملة {واعلموا أن الله مع المتقين} غريباً عن السياق، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجازٌ يفيد أنّهم حينئذٍ من المتّقين، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى، وأنّ المشركين حينئذٍ هم المعتدون على حرمة الأشهر، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله} [التوبة: 36] الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه.
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله: {كيف نذير} [الملك: 17]، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز، أي أخّر، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور. وبذلك قرأه جمهور العشرة. وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله: {إنما نحن فتنة} [البقرة: 102].
والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه.
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء.
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ. وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم (ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا). وهو الملقب بالقَلَمَّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في «جمهرة ابن حزم» وقد ذكره صاحب «القاموس» وابن عطية. قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير (كذا ولعلّه سري) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة. وفي ابن عطية خلاف ذلك قال: انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبدِ فقيم فنسأ لهم الشهور. ثم خلفه ابنه عبّاد. ثم ابنه قُلَع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلامُ قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسُّككِ بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب. وفي «تفسير القرطبي» عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عَمْرو بن لُحَي (أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة).
وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة.
قال ابن حزم: كلّ من صارت إليه هذه المرتبة (أي مرتبة النسيء) كان يسمّى القلمس. وقال القرطبي: كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه. وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول: اللهم إنّي ناسئ الشهور وواضعُها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب. اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى. وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يُعاب ولا يجاب. ولا مرد لما يقول فيقولون أنْسئنا شهراً، أي أخِّرْ عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيُحل لهم المحرّم وينادي: ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسَمّوه صفراً فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفراً فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاءً ثم كذلك.
وقال السهيلي في «الروض الأنف» إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري، تحرياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته ونسَب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي، وأحسب أنّه اشتباه.
وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم.
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة.
وصيغة القصر في قوله: {إنما النسئ زيادة في الكفر} تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين.
ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمّونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل.
وحرف {في} المفيد الظرفية متعلّق «بزيادة» لأنّ الزيادة تتعدّى بفي {يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر: 1] فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف: إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، أي صلاتكم. على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً.
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف، أي زيادة في أحوال أهل الكفر، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76]. وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف.
وجملة {يضل به الذين كفروا} خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد.
وجملة {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} بيان لسبب كونه ضلالاً.
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى، ومواطأة عدّة ما حرم الله.
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في «تفسير الطبري» عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته.
وقرأ الجمهور {يضل} بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم، وحمزةُ، والكسائي وخلَف، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم.
والتنكير والوحدة في قوله: {عاماً} في الموضعين للنوعية، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام، فهو كالوحدة في قول الشاعر:
يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ***
وليس المراد أنّ ذلك يوماً غبّ يوم، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاماً غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين. ونظيرُه قول أبي الطيّب:
فيوماً بخيل تطْرُد الرومَ عنهم *** ويوماً بجُود تَطرد الفقرَ والجَدْبا
(يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب) وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابةِ الفقر والجدب بلادَهم، ولذلك فسّره المعري في كتاب «مُعْجِز أحمد» بأنْ قال: «فإنّ قَصَدَهم الرومُ طَرَدْتَهم بخيلك وإن نازَلَهم فقر وجدب كشفتَه عنهم بجُودك وإفضالك».
وقد أبقي الكلام مجملاً لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين.
ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} بقوله: {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة.
والموطأة الموافقة، وهي مفاعلة عن الوَطئ شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق (في) وطيء الأرجل ومن هذا قولهم (وقوع الحافر على الحافر).
و {عِدّة ما حرم الله} هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة.
وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه: {فيحلوا ما حرم الله} فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال. فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود.
وتوجيه عطف {فيحلوا} على مجرور لام التعليل في قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8].
والإتيان بالموصول في قوله: {عدة ما حرم الله} دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً. ففيه تعريض بالتهكّم بهم.
والإظهار في قوله: {فيحلوا ما حرم الله} دون أن يقال فيُحلوه، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى.
وجملة {زين لهم سوء أعمالهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً: لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَّلأُوه فقيل: لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح.
والتزيين التحسين، أي جعلُ شيء زيْناً، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس. وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} في سورة البقرة (212). وقوله: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} في سورة الأنعام (108).
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها.
وجملة والله لا يهدي القوم الكافرين} عطف على جملة {زين لهم سوء أعمالهم} فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب، حتّى يقلعوا عن ضلالهم، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق، الذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية.
والإظهار في مقام الإضمار بقوله: {القوم الكافرين} لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم، أي: هذا شأن الله مع جميع الكافرين.
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ.
وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض»، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطئ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية: «لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] وبقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 29 35] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة. فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلّف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد.
فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنّه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسّرين، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت {إذا} مستعملة ظرفاً للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة: 11] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد} [التوبة: 92] الآية، فإنّ قوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} [النساء: 75] صالح لإفادَة ذلك، وتحذيرٌ من العودة إليه، لأنّ قوله: {إلاَّ تنفروا} و{إلاّ تنصروه} و{انفروا خفافاً} مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات.
وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش: أنّ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتاباً على تكاسللٍ وتثاقللٍ ظهرا على بعض الناس، فكانت {إذا} ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً} [التوبة: 39] تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في «السيرة» وما ترجّح في نزول هذه السورة.
و {مَا} في قوله: و{ما لكم} اسم استفهام إنكاري، والمعنى: أي شيء، و{لكم خبر عن الاستفهام أي: أي شيء ثَبت لكم.
وإذا} ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى: أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه: انفروا، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ.
وجملة {اثاقلتم} في موضع الحال من ضمير الجماعة، وتلك الحالة هي محل الإنكار، أي: ما لكم متثاقلين. يقال: ما لكَ فعلت كذا، وما لك تَفعل كذا كقوله: {ما لكم لا تناصرون} [الصافات: 25]، وما لك فاعِلاً، كقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88].
والنَّفْر: الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمرٍ يحدث، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب، ومصدره حينئذٍ النفير.
وسبيل الله: الجهاد، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله، أي إلى رضاه.
و {اثَّاقلتم} أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلباً للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه.
(والتثاقل) تكلّف الثقل، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض.
والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل، وعُسرَ انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازاً مرسلاً، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم.
وعُدّي التثاقل ب {إلى} لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها.
والأرض ما يمشي عليه الناس.
ومجموع قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير.
وقوله: {إلى الأرض} كلام موجه بديع: لأنّ تباطؤهم عن الغزو، وتطلّبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم.
والاستفهام في {أرضيتم بالحياة الدنيا} إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.
و {مِنْ} في {من الآخرة} للبدل: أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة. ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة: منافعهما، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.
واختير فعل {رَضيتم} دون نحو آثرتم أو فضّلتم: مبالغة في الإنكار، لأن فعل (رضي بكذا) يدلّ على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار «فشرب حتّى رضيت».
والمَتاع: اسم مصدر تمتّع، فهو الالتذاذ والتنعّم، كقوله: {متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس: 32] ووصفه ب {قليل} بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه.
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.
وحرف {في} من قوله: {في الآخرة} دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني {في} كما في «التسهيل» و«المغني»، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من «الكشاف» ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو «الكشّاف»، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد (26)
{وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق (مِن) الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعماللِ حرف الظرفية، وليس معنى موضوعاً له حرف (في).
{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ}
هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق، لأنّ اللوم وقع على تثاقل حصل، ولمّا كان التثاقل مفضياً إلى التخلّف عن القتال، صرّح بالوعيد والتهديد أن يعودوا لمثل ذلك التثاقل، فهو متعلّق بالمستقبل كما هو مقتضَى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيداً فقد اقتضى أنّ خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجب على أعيَانهم كلّهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض، أي تعيّن الوجوب عليهم، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام، وأن يكون بسبب كثرة العدوّ الذي استُنفروا لقتاله، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأنّ جيش العدوّ مثلَيْ عدد جيش الملسمين. وعن ابن عباس أنّ هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية.
وهذا بناء على أنّ المراد بالعذاب الأليم في قوله: {يعذبكم عذاباً أليماً} هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفِه بالأليم، وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله: {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52] فلا يكون في الآية حجّة على كون ذلك الجهاد واجباً على الأعيان، ولكنّ الله توعّدهم، إن لم يمتثلوا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا، فيكون الكلام تهديداً لا وعيداً. وقد يرجح هذا الوجه بأنّه قرن بعواقب دنيوية في قوله: {ويستبدل قوماً غيركم}. والعقوبات الدنيوية مصائب تترتّب على إهمال أسباب النجاح وبخاصّة ترك الانتصاح بنصائح الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أصابهم يوم أُحد، فالمقصود تهديدهم بأنّهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدوّ في ديارهم فاستأصلوهم وأتى الله بقوم غيرهم.
والأليم المؤلم، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [لقمان: 2]، وقول عمرو بن معد يكرب:
أمِنْ ريْحانَةَ الداعي السَّميع ***
أي المُسمع.
وكتب في المصاحف {إلا} من قوله: {إلا تنفروا} بهمزة بعدها لامْ ألف على كيفية النطق بها مدغمة، والقياسُ أن يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف.
والضمير المسْتتر في {يعذبكم} عائد إلى الله لتقدّمه في قوله: {في سبيل الله} [التوبة: 38]. وتنكير {قوماً} للنوعية إذ لا تعيّن لهؤلاء القوم ضرورةَ أنّه معلَّقٌ على شرط عدم النفير وهم قد نَفَروا لمّا استُنفروا إلاّ عدداً غيرَ كثير وهم المخلّفون.
و {يستبدل} يبدل، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضاً كقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] أي ويستبدل بكم غيركم.
والضمير في {تضروه} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يعذبكم} والواو للحال: أي يعذّبكم ويستبدل قوماً غيركم في حال أن لا تضرّوا الله شيئاً بقُعودكم، أي يصبكم الضرّ ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضرّ، فصار الكلام في قوة الحصر، كأنّه قيل: إلاّ تنفروا لا تضرّوا إلاّ أنفسكم.
وجملة {والله على كل شيء قدير} تذييل للكلام لأنّه يحقّق مضمونَ لحاق الضرّ بهم لأنّه قدير عليهم في جملة كلّ شيء، وعدم لحاق الضرّ به لأنّه قدير على كلّ شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضرّ.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِى الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}.
استئناف بياني لقوله: {ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير} [التوبة: 39] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرّاً بالله ورسولِه، يثير في نفس السامع سؤالاً عن حصول النصر بدون نصير، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئاً.
والضمير المنصوب ب {تنصروه} عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر، لأنّه واضح من المقام.
وجملة {فقد نصره الله} جواب للشرط، جعلت جواباً له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف: فإنّ مضمون {فقد نصره الله} قد حصل في الماضي فلا يكون جواباً للشرط الموضوع للمستقبل، فالتقدير: إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه. وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} الآية.
ويتعلّق {إذ أخرجه} ب {نَصَره} أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجراً. وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30]، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلاً، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم.
كتب في المصاحف {إلاَّ} من قوله: {إلا تنصروه} بهمزة بعدها لام ألف، على كيفية النطق بها مدغمةً، والقياس أن تكتب (إنْ لا) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان: (إنْ) الشرطية و(لا) النافية، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها، ومثل ذلك كتب {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض} في سورة الأنفال (73). وهم كتبوا قوله: {بل ران} في سورة المطففين (14) بلام بعد الباء وراء بعدها، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها.
وقد أثار رسم إلا تنصروه} بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ {إلاّ} هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في «مغني اللبيب»: «تنبيه ليس من أقسام (إلاّ)، (إلاّ) التي في نحو {إلا تنصروه فقد نصره الله} وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و(لا) النافية، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في «شرح التسهيل» من أقسام إلاّ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على «المغني» ولا الشمني.
وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب «الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب» «وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي «التسهيل» أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال». وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على «المغني» «ليس ما في «شرح التسهيل» نصّاً في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج ب (إلاّ) وقال «واحترزتُ عن (إلا) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية، أي فلا إخراج فيها». وقلت عبارة متن «التسهيل» «المستثنى هو المخرج تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها»، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على «تسهيله»، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله: «إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها «إنْ لا» نقله صاحب «لسان العرب». وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه.
و {ثانيَ اثنين} حال من ضمير النصب في {أخرجه}، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى {مِن}، أي ثانياً مِن اثنين، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: بتواتر الخبر، وإجماع المسلمين كلّهم. ولكون الثاني معلوماً للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره، وأيضاً لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد.
و {إذْ} التي في قوله: {إذ هما في الغار} بدل من {إذ} التي في قوله: {إذ أخرجه} فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج، باعتبار الخروج، والكونُ في الغار.
والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ.
والغار الثقب في التراب أو الصخر.
و {إذْ} المضافة إلى جملة {يقول} بدل من {إذ} المضافة إلى جملة {هما في الغار} بدل اشتمال.
والصاحب هو {ثاني اثنين} وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب: المتّصف بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101). وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرّة، أو يرجعوه إلى مكة.
والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون: {قال لا تخافا إنني معكما} [طه: 46] وقوله {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12].
{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار، وأنّها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لا تحزن إن الله معنا} بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحِين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل {نصره} على الترتيب المتقدّم، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} إلى أبي بكر، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في {أيّده} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أنّ المقام لذكر ثباتتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فأنزل الله} مفرّعاً على {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً.
والسكينة: اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقّة من السكون، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248).
والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ، وقد تقدّم عند قوله تعالى {وأيدناه بروح القدس} في سورة البقرة (87).
والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249)، وتقدّم آنفاً في هذه السورة.
ثم جوز أن تكون جملة وأيده بجنود} معطوفة على جملة {فأنزل الله سكينته عليه} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أخرجه والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} [التوبة: 26].
(والكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] (أي أبقى التبرئ من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم) وقال {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} [البقرة: 124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] أي بأمر عجيب، أو بولد عجيب، وقال {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} [الأنعام: 115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتّفاقهم، وجَمع الله كلمة المسلمين، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر.
ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وكلمة الله هي العليا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل.
وجملة {وكلمة الله هي العليا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.
ومعنى جعلها كذلك: أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله.
وقرأ يعقوب، وحده {وكلمةَ الله} بنصب (كلمة) عطفاً على {كلمة الذين كفروا السفلى} فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره.
وجملة {والله عزيز حكيم} تذييل لمضمون الجملتين: لأنّ العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد. وقد قدّمنا أنّ الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عامَّاً لكلّ قادر على الغزو: لأنّها كانت في زمن مشقّة، وكان المغزُوُّ عدوّاً عظيماً، فالضمير في {انفروا} عام للذين استُنفروا فتثاقلوا، وإنّما استُنفِر القادرون، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو، فلا يقتضي هذا الأمر توجّه وجوب النفير على كلّ مسلم في كلّ غزوة، ولا على المسلم العاجز لعمىً أو زَمانة أو مرض، وإنّما يجري العمل في كلّ غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير. وفي الحديث: " وإذا استنفرتم فانْفِروا "
و {خفافا} جمع خفيف وهو صفة مشبّهة من الخفّة، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة، فيكون سهْلَ التنقّل سهل الحمل. والثقال ضدّ ذلك. وتقدّم الثقل آنفاً عند قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38].
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدةِ، قال قُريط بن أنيف العنبري:
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طَاروا إليه زَرَافَات ووُحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب:
ثِقال إذا لاقَوْا خِفاف إذا دُعوا ***
وتستعار الخفّة لقلّة العدد، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط: «زَرافات ووُحدانا».
وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبّت في الهجوم. وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح، والثقل لضدّ ذلك. وتستعار الخفّة لقلّة العيال، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيراً، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال. قال النابغة:
على عارفاتتٍ للطِّعان عوابِسٍ *** بهِنَّ كلوم بين داممٍ وجالب
إذ استُنزلوا عنهنّ للضَّرب ارقلوا *** إلى الموت ارْقالَ الجمال المصَاعب
وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع {خفافاً وثقالاً} حالاً من فاعل {انفروا}، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو)، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال.
والمجاهدة: المغالبة للعدوّ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاققٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح، مجاز بعلاقة السببية.
وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معاً وجبا عليه، ومن لم يستطع إلاّ واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما.
وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملاً.
والإشارة ب {ذلكم} إلى الجهاد المستفاد من {وجاهدوا}.
وإبهام {خير} لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه. وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلاً للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى اعمال النظر والعلم.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلّفوا واستأذن كثير منهم في التخلّف واعتلُّوا بعلل كاذبة، وهو ناشئ عن قوله: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38].
وانتُقل من الخطاب إلى الغيبة لأنّ المتحدّث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} [التوبة: 45]. ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم.
والعَرَض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدّم في قوله تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى} في سورة الأعراف (169) وقوله: {تريدون عرض الدنيا} في سورة الأنفال (67) والمراد به الغنيمة.
والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهْل حصولُه. وقاصدا} أي وَسطاً في المسافة غير بعيد. واسم كان محذوف دلّ عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضاً قريباً، والسفر سفراً متوسّطاً، أو: لو كان ما تدعوهم إليه عَرضاً قريباً وسفراً.
والشُّقة بضمّ الشين المسافة الطويلة.
وتعدية {بعدت} بحرف (على) لتضمّنه معنى ثقلت، ولذلك حسن الجمع بين فعل {بعدت} وفاعله {الشقة} مع تقارب معنييهما، فكأنّه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنّه شُقّة، فثقل عليهم السفر، فجاء الكلام موجزاً.
وقوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يؤذن بأنّ الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك، فإنّ حلفهم إنّما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ظانٌ كذبَهم في أعذارهم.
والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم.
وجملة لخرجنا معكم} جواب {لو}.
والخروج الانتقال من المقرّ إلى مكان آخر قريب أو بعيد ويعدّى إلى المكان المقصود ب (إلى)، وإلى المكان المتروك ب (مِن)، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو. وتقييده بالمعية إشعار بأنّ أمر الغزو لا يهمّهم ابتداءً، وأنّهم إنّما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم خروج الناصر لغيره، تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان، إذا كانوا قاصدين نصرهم.
وجملة {يهلكون أنفسهم} حال، أي يحلفون مُهلكين أنفسهم، أي موقعينَها في الهُلْك. والهُلْك: الفناء والموتُ، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المُناسب هنا، أي يتسبّبون في ضرّ أنفسهم بالأيمان الكاذبة، وهو ضرّ الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي هذه الآية دلالة على أنّ تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ويؤيّده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عُمر، وتعمّدوا الكذب، فأصابهم مطر فدخلوا غاراً في جبل فانهجم عَليهم الغار فماتوا جميعاً.
وجملة {والله يعلم إنهم لكاذبون} حال، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم، لأنّ الله يعلم كذبهم، أي ويُطلِع رسوله على كذبهم، فما جنوا من الحلف إلاّ هلاك أنفسهم.
وجملة {إنهم لكاذبون} سدّت مسدّ مفعولي {يعلم.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
استأذن فريق من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخلّفوا عن الغزوة، منهم عبد الله بنُ أبَيْ ابن سَلُول، والجِدّ بن قَيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعة وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه حملا للناس على الصدق، إذ كان ظاهر حالهم الإيمان، وعلماً بأنّ المعتذرين إذا ألجئوا إلى الخروج لا يغنون شيئاً، كما قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} [التوبة: 47] فعاتب الله نبيئه صلى الله عليه وسلم في أنْ أذن لهم، لأنّه لو لم يأذن لهم لقعدوا، فيكون ذلك دليلاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على نفاقهم وكذبهم في دعوى الإيمان، كما قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [محمد: 30].
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنّه غرض أنف.
وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعِتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفّة موجِب العتاب لأنّه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عَفْواً ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيّئاتُ المقرَّبين.
وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلّة إيماء إلى أنّه ما أذن لهم إلاّ لسبب تَأوَّلَه ورجَا منه الصلاح على الجلمة بحيث يُسْأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطّف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكِر نفسه كالسائِل عن العلّة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأنّ ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلّق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم
وحذف متعلِّق {أذنت} لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف.
و {حتَّى} غاية لفعل {أذنت} لأنّه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضيَ للإذن لهم إلى أن يتبيّن الصادق من الكاذب.
وفي زيادة {لك} بعد قوله: {يتبين} زيادة ملاطفة بأنّ العتاب ما كان إلاّ عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم، وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون. فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون.
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وموقع التعليل لجملة {لم أذنت لهم} [التوبة: 43] أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد.
والمعنى: إنّ شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجهاد، فأمّا أهل الأعذار: كالعُمي، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا الذين تخلّفوا من المؤمنين فقد تخلّفوا ولم يستأذنوا في التخلّف، لأنّهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه.
والاستئذان: طلب الإذن، أي في إباحة عمل وترك ضدّه، لأنّ شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادّين.
والاستئذان يُعدّى ب (في). فقوله: {أن يجاهدوا} في محلّ جرّ ب (في) المحذوفة، وحذف الجارّ مع {أنْ} مطّرد شائع.
ولمّا كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادّين، كما قلنا، جازَ أن يقال: استأذنتُ في كذا واستأذنت في ترك كذا. وإنّما يُذكر غالباً مع فعل الاستئذان الأمر الذي يَرغَب المستأذنُ الإذنَ فيه دون ضدّه وإن كان ذكر كليهما صحيحاً.
ولمّا كانَ شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنّهم يجاهدون دون استئذان، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرّج عليها المفسّرون وتكلّفوا في إقامة نظم الآية.
وجملة {والله عليم بالمتقين} معترضة لفائدة التنبيه على أنّ الله مطّلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتّقين كما تقدّم في قوله في سورة البقرة (2، 3) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب.}
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن تبرئة المؤمنين من أن يستأذنوا في الجهاد: ببيان الذين شأنهم الاستئذان في هذا الشأن، وأنّهم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في باطن أمرهم لأنّ انتفاء إيمانهم ينفي رجاءهم في ثواب الجهاد، فلذلك لا يُعرضون أنفسهم له.
وأفادت {إنما} القصر. ولمّا كان القصر يفيد مُفاد خبرين بإثبات شيء ونفي ضدّه كانت صيغة القصر هنا دالّة باعتبار أحدِ مُفَادَيها على تأكيد جملة {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 44] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكّدة لولا أنّ المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين، فالكلام إطناب لقصد التنويه، والتنويه من مقامات الإطناب.
وحُذف متعلِّق {يستأذنك} هنا لظهوره ممّا قبله ممّا يؤذِن به فعل الاستئذان في قوله: {لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا} [التوبة: 44] والتقدير: إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا، ولذلك حذف متعلّق يستأذنك هنا.
والسامع البليغ يقدر لكلّ كلام ما يناسب إرادة المتكلّم البليغ، وكلّ على منواله ينسج.
وعَطف {وارتابت قلوبهم} على الصلة وهي {لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} يدل على أنّ المراد بالارتياب الإرتياب في ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع، على تقدير ظهور أمر الإسلام، وأبطنوا الكفر حفاظاً على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملّتهم، كما قال الله تعالى فيهم: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 141].
ولعلّ أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنّهم لكفرهم ما كانوا يقدّرون أنّ المسلمين يغلبون الروم، هذا هو الوجه في تفسير قوله: {وارتابت قلوبهم} كما آذن به قوله: {فهم في ريبهم يترددون}.
وجيء في قوله: {لا يؤمنون} بصيغة المضارع للدلالة على تجدّد نفي إيمانهم، وفي {وارتابت قلوبهم} بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم، ولما كان الارتياب ملازماً لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يَصير بمنزلة أن يقال: الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم.
وفرّع قوله: {فهم في ريبهم يترددون} على {وارتابت قلوبهم} تفريع المسبب على السبب: لأنّ الارتياب هو الشكّ في الأمر بسبب التردّد في تحصيله، فلتردّدهم لم يصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعصيان لاستنفاره، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكاً يصلح للأمرين، وهو مسلك الاستئذان في القعود، فالاستئذان مسبّب على التردّد، والتّردد مسبّب على الارتياب وقد دلّ هذا على أنّ المقصود من صلة الموصول في قوله: {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر}.
هو قوله: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}. لأنّه المنتج لانحصار الاستئذان فيهم.
و {في ريبهم} ظرف مستقِرّ، خبر عن ضمير الجماعة، والظرفية مجازية مفيدة إحاطة الريب بهم، أي تمكّنه من نفوسهم، وليس قوله: {في ريبهم} متعلّقاً ب {يترددون}.
والتردّد حقيقته ذهابٌ ورجوع متكرر إلى محلّ واحد، وهو هنا تمثيل لحال المتحيّر بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجععِ. وقريب منه قولهم: يُقدّم رِجْلاً ويؤخر أخرى.
والمعنى: أنّهم لم يعزموا على الخروج إلى الغزو. وفي هذه الآية تصريح للمنافقين بأنّهم كافرون، وأنّ الله أطْلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على كفرهم، لأنّ أمر استئذانهم في التخلّف قد عرفه الناس.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}
عطف على جملة {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45] لأنّ معنى المعطوف عليها: أنّهم لم يريدوا الخروج إلى الغزو، وهذا استدلال على عدم إرادتهم الخروج إذ لو أرادوه لأعدّوا له عُدّته. وهذا تكذيب لزعمهم أنّهم تهيّأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود لأنّ عدم إعدادهم العُدّة للجهاد دلّ على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو.
والعُدّة بضم العين: ما يُحتاج إليه من الأشياء، كالسلاح للمحارب، والزاد للمسافر، مشتقّة من الإعداد وهو التهيئة.
والخروج تقدّم آنفاً.
والاستدراك في قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم} استدراك على ما دلّ عليه شرط {لو} من فرض إرادتهم الخروج تأكيد الانتفاء وقوعه بإثبات ضدّه، وعبّر عن ضدّ الخروج بتثبيط الله إياهم لأنّه في السبب الإلهي ضدّ الخروج فعبّر به عن مسبّبه، واستعمال الاستدراك كذلك بعد {لو} استعمال معروف في كلامهم كقول أبَيّ بن سُلْمَى الضَّبِّي:
فلو طار ذُو حافرٍ قَبْلَها *** لطارتْ ولكِنَّه لم يَطِرْ
وقول الغَطَمَّششِ الضبي:
أخِلاَّيَ لو غَيْرُ الحِمام أصابكم *** عَتِبْتُ ولكن ما على الموت مَعْتَب
إلاَّ أنّ استدراك ضدّ الشرط في الآية كان بذكر ما يساوي الضدّ: وهو تثبيط الله إيّاهم، توفيراً لفائدة الاستدراك ببيان سبب الأمر المستدَرك، وجعل هذا السبب مفرّعاً على علّته: وهي أنّ الله كره انبعاثهم، فصيغ الاستدراك بذكر علّته اهتماماً بها، وتنبيهاً على أنّ عدم إرادتهم الخروج كان حرماناً من الله إيّاهم، وعناية بالمسلمين فجاء الكلام بنسج بديع وحصل التأكيد مع فوائد زائدة.
وكراهة الله انبعاثهم مفسّرة في الآية بعدها بقوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} [التوبة: 47].
والانبعاث: مطاوع بعثَه إذا أرسله.
والتثبيط: إزالة العزم. وتثبيط الله إيّاهم: أن خلق فيهم الكسل وضعف العزيمة على الغزو.
والقعود: مستعمل في ترك الغزو تشبيهاً للترك بالجلوس.
والقول: الذي في {وقيل اقعدوا} قول أمر التكوين: أي كُوّن فيهم القعود عن الغزو.
وزيادة قوله: {مع القاعدين} مذمّة لهم: لأنّ القاعدين هم الذين شأنهم القعود عن الغزو، وهم الضعفاء من صبيان ونساء كالعُمي والزمنى.
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
استئناف بياني لجملة {كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة: 46] لبيان الحكمة من كراهية الله انبعاثَهم، وهي إرادة الله سلامة المسلمين من أضرار وجود هؤلاء بينهم، لأنّهم كانوا يضمرون المكر للمسلمين فيخرجون مرغمين، ولا فائدة في جيش يغزو بدون اعتقاد أنّه على الحقّ، وتعدية فعل (الخروج) بفي شائعة في الخروج مع الجيش.
والزيادة: التوفير.
وحذف مفعول {زادوكم} لدلالة الخروج عليه، أي ما زادوكم قوة أو شيئاً ممّا تفيد زيادته في الغزو نصراً على العدوّ، ثم استُثني من المفعول المحذوف الخبالُ على طريقة التهكّم بتأكيد الشيء بما يشبه ضده فإنّ الخبال في الحرب بعض من عدم الزيادة في قوة الجيش، بل هو أشدّ عدماً للزيادة، ولكنّه ادّعي أنّه من نوع الزيادة في فوائد الحرب، وأنّه يجب استثناؤه من ذلك النفي، على طريقة التهكّم.
والخبال: الفساد، وتفكّك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
وحقيقة {أوضعوا} أسرعوا سير الرِّكاب. يقال: وضع البعيرُ وضعاً، إذا أسرع ويقال: أوضعتُ بعيري، أي سيّرته سيراً سريعاً. وهذا الفعل مختصّ بسير الإبل فلذلك يُنزَّل فعل أوضع منزلة القاصر لأنّ مفعوله معلوم من مادّة فعله. وهو هنا تمثيل لحالة المنافقين حين يبذلون جهدهم لإيقاع التخاذل والخوف بين رجال الجيش، وإلقاء الأخبار الكاذبة عن قوّة العدوّ، بحال من يُجهد بعيره بالسير لإبلاغ خبر مهمّ أو إيصال تجارة لسوق، وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5] وقوله: {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان} [المائدة: 62]. وأصله قولهم: يسعى لكذا، إلاّ أنّه لمّا شاع إطلاق السعي في الحرص على الشيء خفيت ملاحظة تمثيل الحالة عند إطلاقه لكثرة الاستعمال فلذلك اختير هنا ذكر الإيضاع لعزّة هذا المعنى، ولما فيه من الصلاحية لتفكيك الهيئة بأن يُشبه الفاتنون بالرَّكب، ووسائلُ الفتنة بالرواحل.
وفي ذكر {خلالكم} ما يصلح لتشبيه استقرائهم الجماعات والأفراد بتغلغل الرواحل في خلال الطرق والشعاب.
والخلال: جمع خَلَل بالتحريك. وهو الفرجة بين شيئين واستعير هنا لمعنى بينَكم تشبيهاً لجماعات الجيش بالأجزاء المتفرّقة.
وكتب كلمة {ولاَ أوضعوا} في المصحف بألف بعد همزة أوضعوا التي في اللام ألف بحيث وقع بعد اللام ألفان فأشبهت اللامُ ألف لا النافية لفعل {أوضعوا} ولا ينطق بالألف الثانية في القراءة فلا يقع التباس في ألفاظ الآية. قال الزجاج: وإنّما وقعوا في ذلك لأنّ الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفاً. وتبعه الزمخشري، وقال ابن عطية: «يحتمل أن تُمطل حركة اللام فتحدث ألف بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقيل: ذلك لخشونة هجاء الأوّلين»، يعني لعدم تهذيب الرسم عند الأقدمين من العرب. قال الزمخشري: ومثلَ ذلك كتبوا
{لا اذبحنّه} في سورة النمل (21) قلت: وكتبوا {لأعذّبنه} [النمل: 21] بلام ألف لا غير وهي بلصق كلمة {أوْ لأذبحنّه} [النمل: 21]، ولا في نحو {وإذاً لاتخذوك خليلاً} [الإسراء: 73] فلا أراهم كتبوا ألفاً بعد اللام ألف فيما كتبوها فيه إلاّ لمقصد، ولعلّهم أرادوا التنبيه على أنّ الهمزة مفتوحة وعلى أنّها همزة قطع.
وجملة {يبغونكم الفتنة} في موضع الحال من ضمير {ولو أرادوا الخروج} [التوبة: 46] العائد على الذين لا يؤمنون بالله في قوله تعالى: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45] المرادِ بهم المنافقون كما تقدّم.
وبغى يتعدّى إلى مفعول واحد لأنّه بمعنى طلب، وتقدّم في قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون} في سورة آل عمران (83). وعدّي يبغونكم} إلى ضمير المخاطبين هنا على طريقة نزع الخافض، وأصله يبغون لكم الفتنة. وهو استعمال شائع في فعل بغي بمعنى طلب.
والفتنة: اختلال الأمور وفساد الرأي، وتقدّمت في قوله: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} في سورة المائدة (71).
وقوله: وفيكم سماعون لهم} أي في جماعة المسلمين، أي من بين المسلمين {سماعون لهم} فيجوز أن يكون هؤلاء السماعون مسلمين يصدقون ما يسمعونه من المنافقين. ويجوز أن يكون السماعون منافقين مبثوثين بين المسلمين.
وهذه الجملة اعتراض للتنبيه على أنّ بغيهم الفتنةَ أشدّ خطراً على المسلمين لأنّ في المسلمين فريقاً تنطلي عليهم حيلهم، وهؤلاء هم سذج المسلمين الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثّرون ولا يبلُغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ.
وجاء {سماعون} بصيغة المبالغة للدلالة على أنّ استماعهم تامّ وهو الاستماع الذي يقارنه اعتقاد ما يُسمع كقوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} [المائدة: 41] وعن الحسن، ومجاهد، وابن زيد: معنى {سماعون لهم}، أي جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجهور المفسّرين: معناه وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، قال النحاس الاغلب أن معنى سماع يسمع الكلام ومثله {سماعون للكذب} [المائدة: 41]. وأمّا من يَقبل ما يسمعه فلا يكاد يقال فيه إلاّ سَامع مثل قائِل.
وجيء بحرف (في) من قوله: {وفيكم سماعون لهم} الدالّ على الظرفية دون حرف (من) فلم يقل ومنكم سمّاعون لهم أو ومنهم سماعون، لئلا يتوهّم تخصيص السماعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر لأنّ المقصود أنّ السماعين لهم فريقان فريق من المؤمنين وفريق من المنافقين أنفسهم مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة وهم الأكثر فكان اجتلاب حرف (في) إيفاء بحقّ هذا الإيجاز البديع ولأنّ ذلك هو الملائم لمحملي لفظ {سماعون} فقد حصلت به فائدتان.
وجملة {والله عليم بالظالمين} تذييل قصد منه إعلام المسلمين بأنّ الله يعلم أحوال المنافقين الظالمين ليكونوا منهم على حذر، وليتوسّموا فيهم ما وسمهم القرآن به، وليعلموا أنّ الاستماع لهم هو ضرب من الظلم.
والظلم هنا الكفر والشرك {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
الجملة تعليل لقوله: {يبغونكم الفتنة} [التوبة: 47] لأنّها دليل بأنّ ذلك ديدن لهم من قبل، إذ ابتغوا الفتنة للمسلمين وذلك يومَ أحد إذ انخزل عبد الله بن أبي ابنُ سلول ومن معه من المنافقين بعد أن وصلوا إلى أحد، وكانوا ثُلث الجيش قصدوا إلقاء الخوف في نفوس المسلمين حين يرون انخزال بعض جيشهم وقال ابن جريج: الذين ابتغوا الفتنة اثنا عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتِكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم
و {قلّبوا} بتشديد اللام مضاعف قلب المخفف، والمضاعفة للدلالة على قوة الفعل. * فيجوز أن يكون من قلَب الشيء إذا تأمل باطنه وظاهره ليطّلع على دقائق صفاته فتكون المبالغة راجعة إلى الكمّ أي كثرة التقليب، أي ترددوا آراءهم وأعملوا المكائد والحيل للإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويجوز أن يكون {قلبوا} من قلب بمعنى فتّش وبحث، استعير التقليب للبحث والتفتيش لمشابهة التفتيش للتقليب في الإحاطة بحال الشيء كقوله تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} [الكهف: 42] فيكون المعنى، أنّهم بحثوا وتجسَّسوا للاطّلاع على شأن المسلمين وإخبار العدوّ به.
واللام في قوله: {لك} على هذين الوجهين لام العلّة، أي لأجلك وهو مجمل يبيّنهُ قوله: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} [التوبة: 48]. فالمعنى اتّبعوا فتنة تظهر منك، أي في أحوالك وفي أحوال المسلمين.
ويجوز أن يكون {قلبوا} مبالغة في قَلَب الأمر إذا أخفى ما كان ظاهراً منه وأبدَى ما كان خفيّاً، كقولهم: قَلب له ظهر المِجَن. وتعديته باللام في قوله {لك} ظاهرة.
و {الأمور} جمع أمر، وهو اسم مبهم مثل شيء كما في قول الموصلي:
ولكن مقاديرٌ جرتْ وأمور ***
والألف واللام فيه للجنس، أي أموراً تعرفون بعضها ولا تعرفون بعضاً.
و {حتى} غاية لتقليبهم الأمور.
ومجِيء الحقّ حصوله واستقراره والمراد بذلك زوال ضعف المسلمين وانكشاف أمر المنافقين.
والمراد بظهور أمر الله نصر المسلمين بفتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً وذلك يكرهه المنافقون.
الظهور والغلبة والنصر.
و {أمر الله} دينه، أي فلمّا جاء الحقّ وظهر أمر الله علموا أنّ فتنتهم لا تضرّ المسلمين، فلذلك لم يروا فائدة في الخروج معهم إلى غزوة تبوك فاعتذروا عن الخروج من أول الأمر.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45]، وقيل: قال جماعة منهم: ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية. وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذننٍ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنّ الجِدّ بن قيس قال: يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي، فأذن لهم. ولعلّ كلَّ ذلك كان.
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {ألا في الفتنة سقطوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {ولا تفتنى} كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس. وتقدّم بيان {الفتنة} قريباً.
والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة: شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هُوّة على حيننِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب «على الخبير سقطتَ».
وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة.
وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل.
وجملة {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر. والكفر يستحقّ جهنّم.
وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات. والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45].
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لمحيطة بالكافرين} إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}
تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لجملة {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45]، وما بين الجملتين استدلال على كذبهم في ما اعتذروا به وأظهروا الاستيذان لأجله، وبُيِّن هنا أن تردّدهم هو أنّهم يخشون ظهور أمر المسلمين، فلذلك لا يصارحونهم بالإعراض ويودّون خيبة المؤمنين، فلذلك لا يحبّون الخروج معهم.
والحسنة: الحَادثة التي تحسُن لمن حلَّت به واعترتْه. والمراد بها هنا النصر والغنيمة.
والمصيبة مشتقّة من أصاب بمعنى حَلَّ ونال وصادف، وخصت المصيبة في اللغة بالحادثة التي تعتري الإنسان فتسُوءه وتُحزنه. ولذلك عبّر عنها بالسيئة في قوله تعالى، في سورة آل عمران (120): {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} والمراد بها الهزيمة في الموضعين، وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} في سورة الأعراف (95).
وقولهم: قد أخذنا أمرنا من قبل} ابتهاج منهم بمصادفة أعمالهم ما فيه سلامتهم فيزعمون أنّ يقظَتهم وحزمهم قد صادفا المحَز، إذ احتاطوا له قبل الوقوع في الضرّ.
والأخذُ حقيقته التناول، وهو هنا مستعار للاستعداد والتلافي.
والأمر الحال المهمّ صاحبه، أي: قد استعددنا لما يهمّنا فلم نقع في المصِيبة.
والتولّي حقيقته الرجوع، وتقدم في قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض} في سورة البقرة (205). وهو هنا تمثيل لحالهم في تخلّصهم من المصيبة، التي قد كانت تحل بهم لو خرجوا مع المسلمين، بحال من أشرفوا على خطر ثم سلموا منه ورجعوا فارحين مسرورين بسلامتهم وبإصابة أعدائهم.
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}
تلقين جواب لقولهم: {قد أخذنا أمرنا من قبل} [التوبة: 50] المنبئ عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض كما تدلّ عليه تعدية فعل {كتب} باللام المؤذنة بأنّه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا الجواب هو أن العدوّ يفرح بمصاب عدوّه لأنّه ينكد عدوّه ويُحزنه، فإذا علموا أنّ النبي لا يحزَن لما أصابه زال فرحهم.
وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق: وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم، كما قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} [آل عمران: 139، 140]. وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضى ربّهم لأنهم واثقون بأنّ الله يريد نصر دينه.
وجملة {هو مولانا} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، ولنا الرجاء بأنّه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العَاجل أو الآجل، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي.
وجملة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {قل} فهي من كلام الله تعالى خبراً في معنى الأمر، أي قل ذلك ولا تتوكّلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء، أي اعتمدوا على فضله عليكم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {لن يصيبنا} أي قل ذلك لهم، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكّلون إلا على الله، أي يؤمنون بأنّه مؤيّدهم، وليس تأييدهم بإعانتكم، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها. والفاء الداخلة على {فليتوكل المؤمنون} فاء تدلّ على محذوف مفرّع عليه اقتضاه تقديم المعمول، أي على الله فليتوكّل المؤمنون.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}
تتنزّل هذه الجملة منزلة البيان لِما تضمّنته جملة {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} [التوبة: 51] الآية، ولذلك لم تعطف عليها، والمبيّن هو إجمالُ {ما كتب الله لنا هو مولانا} [التوبة: 51] كما تقدّم.
والمعنى لا تنتظرون من حالنا إلاّ حسنة عاجلة أو حسنة آجلة فأمّا نحن فننتظر من حالكم أن يعذبكم الله في الآخرة بعذاب النار، أو في الدنيا بعذاب على غير أيدينا من عذاب الله في الدنيا: كالجوع والخوف، أو بعذاببٍ بأيدينا، وهو عذاب القتل، إذا أذن الله بحربكم، كما في قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} [الأحزاب: 60] الآية.
والاستفهام مستعمل في النفي بقرينة الاستثناء. ومعنى الكلام توبيخ لهم وتخطئة لتربّصهم لأنّهم يتربّصون بالمسلمين أن يقتلوا، ويغفلون عن احتمال أن ينصروا فكان المعنى: لا تتربّصون بنا إلا أن نقتل أو نغلِب وذلك إحدى الحسنين.
والتربص: انتظار حصول شيء مرغوب حصوله، وأكثر استعماله. أن يكون انتظارَ حصول شيء لغير المنتظِر (بكسر الظاء) ولذلك كثرت تعدية فعل التربّص بالباء لأن المتربّص ينتظر شيئاً مصاحباً لآخرِ هو الذي لأجله الانتظار. وأمّا قوله: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فقد نزلت {أنفسهن} منزلة المغاير للمبالغة في وجوب التربّص، ولذلك قال في «الكشّاف»: «في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربّص وزيادة بعث». وقد تقدم ذلك هنالك، وأمّا قوله: {للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر} [البقرة: 226] فهو على أصل الاستعمال لأنّه تربّص بأزواجهم.
وجملة {ونحن نتربص بكم} معطوفة على جملة الاستفهام عَطف الخبر على الإنشاء: بل على خبر في صورة الإنشاء، فهي من مقول القول وليس فيها معنى الاستفهام. والمعنى: وجود البون بين الفريقين في عاقبة الحرب في حالي الغلبة والهزيمة.
وجعلت جملة {ونحن نتربص} اسميةً فلم يقل ونتربّص بكم بخلاف الجملة المعطوف عليها: لإفادة تقوية التربّص، وكناية عن تقوية حصول المتربَّص لأن تقوية التربّص تفيد قوة الرجاء في حصول المتربَّص فتفيد قوّة حصوله وهو المكنّى عنه.
وتفرّع على جملة {هل تربصون بنا} جملة {فتربصوا إنا معكم متربصون} لأنّه إذا كان تربّص كلّ من الفريقين مسفراً عن إحدى الحالتين المذكورتين كان فريق المؤمنين أرضى الفريقين بالمتَّربِّصين لأنّ فيهما نفعه وضرّ عدوّه.
والأمر في قوله: {تربّصوا} للتحْضيض المجازي المفيد قلّة الإكتراث بتربّصهم كقول طَريف بن تميم العنبري:
فتوسَّمُوني إنَّني أنَا ذلكُم *** شَاكِي سِلاحي في الحوادث مُعْلَم
وجملة {إنا معكم متربصون} تهديد للمخاطبين والمعية هنا: معية في التّربص، أو في زمانه، وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنّها كالعلّة للحضّ.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}
ابتداء كلام هو جواب عن قول بعض المستأذنين منهم في التخلّف «وأنا أعينك بمالي». روي أنّ قائل ذلك هو الجدّ بن قيس، أحد بني سَلِمة، الذي نزل فيه قوله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} [التوبة: 49] كما تقدّم، وكان منافقا. وكأنّهم قالوا ذلك مع شدّة شُحِّهم لأنّهم ظنّوا أنّ ذلك يرضي النبي صلى الله عليه وسلم عن قعودهم عن الجهاد.
وقوله: {طوعاً أو كرهاً} أي بمال تبذلونه عوضاً عن الغزو، أو بمال تنفقونه طوعاً مع خروجكم إلى الغزو، فقوله: {طوعاً} إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنّهم لا ينفقون إلاّ كرهاً لقوله تعالى بعد هذا: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54].
والأمر في {أنفقوا} للتسوية أي: أنفقوا أو لا تنفقوا، كما دلّت عليه {أوْ} في قوله {طوعاً أو كرهاً} وهو في معنى الخبر الشرطيّ لأنّه في قوة أن يقال: لن يتقبّل منكم إن أنفقتم طوعاً أو أنفقتم كَرهاً، ألا ترى أنّه قد يَجيء بعد أمثاله الشرطُ في معناه كقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80].
والكَره أشدّ الإلزام، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأوْلى، وانتصب {طوعاً أو كرهاً} على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير: إنفاقَ طَوع أو إنفاقَ كَره. ونائت فاعل يتقبّل: هو {منكم} أي لا يتقبّل منكم شيء وليس المقدّرُ الإنفاقَ المأخوذَ من {أنفقوا} بل المقصود العموم.
وجملة {إنكم كنتم قوماً فاسقين} في موضع العلّة لنفي التقبّل، ولذلك وقعت فيها (إنَّ) المفيدة لِمعنى فاء التعليل، لأنّ الكافر لا يتقبّل منه عمل البرّ. والمراد بالفاسقين: الكافرون، ولذلك أعقب بقوله: {وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54]. وإنّما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنّهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فكانوا كالمائِلين عن الإسلام إلى الكفر. والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم، فلعلّهم كانوا يحسبون أنّ الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من شكّهم في أمر الدين، فتوهّموا أنّهم يعملون أعمالاً تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويَبقون على دينهم فلا يتعرّضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداً} [مريم: 77] إذْ حسب أنّه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صَدَق إخبار الرسول بالبعث.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
عطف على جملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} [التوبة: 53] لأنّ هذا بيان للتعليل لعدم قبول نفقاتهم بزيادة ذكر سببين آخريْن مانعين من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر والفسوق. وهما: أنّهم لا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى، وأنّهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون. والكفر وإن كان وحده كافياً في عدم القبول، إلاّ أنْ ذكر هذين السببين إشارة إلى تمكّن الكفر من قلوبهم وإلى مذمّتهم بالنفاق الدالّ على الجبن والتردّد. فذكر الكفر بيان لذكر الفسوق، وذكر التكاسل عن الصلاة لإظهار أنّهم متهاونون بأعظم عبادة فكيف يكون إنفاقهم عن إخلاص ورغبة. وذكر الكراهية في الإنفاق لإظهار عدم الإخلاص في هذه الخصلة المتحدّث عنها.
وقرأ حمزة والكسائي: {أن يُقبل منهم} بالمثناة التحتية لأنّ جمع غير المؤنّث الحقيقي يجوز فيه التذكير وضدّه.
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}
تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طُمَأنِينَة بال، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئاً من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا.
فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد تعليم الأمّة.
ومعنى هذه الآية: أنّ الله كشف سرّاً من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في نفوسهم شحّاً وحرصاً على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم، فهم في كَبَد من جمعها. وفي خوف عليها من النقصان، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة، وتمّ مراده. وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقاً، إلاّ أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر. ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم، إذ الخلق السيّء يدعو بعضه بعضاً، فإنّ الكفر خُلق سيّء فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح، والنفاق يبعث عليه الخلقُ السيّء من الجُبن والبخل، ليتقّي صاحبه المخاطر، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام: مثل حنظلة: ابن أبي عامر الملقّببِ غَسيلَ الملائكة، وعبد الله بننِ عبدِ الله بننِ أُبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما.
ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس، عُطف الأولاد بإعادة حرف النفي بَعْد العاطف، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد.
واللام في {ليعذّبهم} للتعليل: تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة، وأصل فعل الإرادة أن يعدَّى بنفسه كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] ويعدّى غالباً باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة النساء (26) وقول كُثيّرِ:
أريدُ لأنْسَى حُبَّها فكأنما *** تَمَثَّلُ لِي ليلَى بكلّ مكان
وربما عَدَّوه باللام وكَي مبالغةً في التعليل كقول قيس بن عُبادة:
أردتُ لكيما يعلمَ الناس أنّها *** سراويلُ قيس والوفُود شهود
وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وبعضُ القرّاء سمّاها (لام أنْ) بفتح الهمزة وتقدم عند قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة النساء (26).
فقوله: في الحياة الدنيا} متعلّق ب {يعذبهم} ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف {وتزهق} على {ليعذبهم} باعتبار كونه أراده الله لهم عندما رزقهم الأموال والأولاد فيعلم منه: أنّه أراد موتهم على الكفر، فيستغرق التعذيبُ بأموالهم وأولادهم حياتَهم كلّها، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ.
وجملة: {وهم كافرون} في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً.
والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100] أي استحسنت مرأى وفرة عدده.
و (الزهوق) الخروج بشدّة وضيق، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة.
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقَسم على أنّهم من المؤمنين.
فمعنى: {إنهم لمنكم} أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين، كانَ التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان، بقرينة القَسَم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم.
والفَرَق: الخوف الشديد.
واختيار صيغة المضارع في قوله: {ويحلفون} وقوله: {يفرقون} للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم.
ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحُذف المستدرك استغناء بأداة الإستدراك، وذُكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هم أنّهم يفرَقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.
وحذف متعلّق {يفرقون} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61].
وقوله: {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضاً وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجُبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46] وقول مساور بن هند في ذمّ بني أسد:
زَعَمتُم أنَّ إخوتكم قُريش *** لهم إلْفٌ وليس لكم إلاف
أولئك أومِنُوا جُوعاً وخوفاً *** وقد جَاعَتْ بنو أسد وخافوا
فيكون توجيهاً بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخُلق مانع من المواصلة والموافقة.
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
بيان لجملة: {ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة: 56].
والمَلجأ: مكان اللَّجإ، وهو الإيواء والاعتصام.
والمغارات: جمع مغارة، وهي الغار المتّسع الذي يستطيع الإنسان الولوج فيه، ولذلك اشتقّ لها المفعل: الدالّ على مكان الفعل، من غَارَ الشيء إذا دخل في الأرض. والمُدَّخَل مُفْتَعَل اسم مكان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول. قلبت تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال، كما أبدلت في ادَّان، وبذلك قرأه الجمهور. وقرأ يعقوب وحده {أو مدخلاً} بفتح الميم وسكون الدال اسم مكان من دخل.
ومعنى {لولوا إليه} لانصرفوا إلى أحد المذكورات وأصل ولَّى أعرض ولمّا كان الإعراض يقتضي جهتين: جهة يُنصرف عنها، وجهة يُنصرف إليها، كانت تعديته بأحد الحرفين تعيّن المراد.
والجموح: حقيقته النفور، واستعمل هنا تمثيلاً للسرعة مع الخوف.
والمعنى: أنهم لخوفهم من الخروج إلى الغزو لو وجدوا مكاناً ممّا يختفي فيه المختفي فلا يشعر به الناس لقصدوه مسرعين خشية أن يعزم عليهم الخروج إلى الغزو.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}
عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى: {أشحة عليكم} [الأحزاب: 19] وقال {أشحة على الخير} [الأحزاب: 19] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها تُوزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يُلقونها في أحاديثهم، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم.
روي أنّ أبا الجَوَّاظ، من المنافقين، طَعَن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أمواللِ الصدقات بعضَ ضعفاء الأعراب رعاء الغنم، إعانة لهم، وتأليفاً لقلوبهم، فقال: ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
وعن أبي سعيد الخدري: أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم اعدل، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع، فلعل السبب تكرّر، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب.
واللّمز القدح والتعييب، مضارعه من باب يضرب، وبه قرأ الجمهور، ومن باب ينصرُ، وبه قرأ يعقوب وحده.
وأدخلت {في} على الصدقات، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها: لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها.
ثم إنّ قوله: {فإن أعطوا منها رضوا} يحتمل: أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور، أي إن أعطي اللامزون، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير {منهم} أي: فإن أعطي المنافقون رضي اللاَّمزون، وإن أعطي غيرهم سخطوا، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلاّ على فقرائهم ولذلك كره أبو الجَواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات.
ولم يُذكر متعلّق {رضوا}، لأنّ المراد صاروا راضين، أي عنك.
ودلّت {إذا} الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}
جملة معطوفة على جملة: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58] باعتبار ما تفرّع عليها من قوله: {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58] عطفاً ينبئ عن الحالة المحمودة، بعد ذكر الحالة المذمومة.
وجواب {لو} محذوف دلّ عليه المعطوف عليه، وتقديره: لكان ذلك خيراً لهم.
والإيتاء: الإعطاء، وحقيقته إعطاء الذوات ويطلق مجازاً على تعيين المواهب كما في {وآتاه الله الملك والحكمة} [البقرة: 251] وفي {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة: 54].
وقوله: {ما آتاهم الله} من هذا القبيل، أي ما عيّنه لهم، أي لِجماعتهم من الصدقات بنوطها بأوصاف تحقّقت فيهم كقوله: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60] الآية.
وإيتاء الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاؤه المال لمن يرى أن يعطيه ممّا جعل الله له التصرّف فيه، مثل النفَل في المغانم، والسلَب، والجوائز، والصلات، ونحو ذلك، ومنه إعطاؤه من جعل الله لهم الحقّ في الصدقات.
ويجوز أن يكون إيتاء الله عين إيتاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإنّما ذكر إيتاء الله للإشارة إلى أنّ ما عينه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما عيّنه الله لهم، كما في قوله: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} أي ما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم وقوله: {قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1].
وحسب: اسم بمعنى الكافي، والكفاية تستعمل بمعنى الاجتزاء، وتستعمل بمعنى ولي مهمّ المكفي، كما في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله} وهي هنا من المعنى الأول.
ورضي إذا تعدّى إلى المفعول دلّ على اختيارِ المرضيّ، وإذا عدّي بالباء دلّ على أنّه صار راضياً بسبب ما دخلت عليه الباء، كقوله: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38]. وإذا عدّي ب (عن) فمعناه أنّه تجاوز عن تقصيره أو عن ذنبه {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 96].
فالقول هنا مراد به الكلام مع الاعتقاد، فهو كناية عن اللازم مع جواز إرادة الملزوم، فإذا أضمروا ذلك في أنفسهم فذلك من الحالة الممدوحة ولكن لمّا وقع هذا الكلام في مقابلة حكاية اللَّمز في الصدقات، واللَّمز يكون بالكلام دلالة على الكراهية، جعل ما يدلّ على الرضا من الكلام كناية عن الرضى.
وجملة {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} بيان لجملة {حسبنا الله} لأنّ كفاية المهمّ تقتضي تعهّد المكفي بالعوائد ودفع الحاجة، والإيتاءُ فيه بمعنى إعطاء الذوات.
والفضل زيادة الخير والمنافع {إن الله لذو فضل على الناس} [غافر: 61] والفضل هنا المعطَى: من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، بقرينة من التبعيضية، ولو جعلت {من} ابتدائية لصحّت إرادة معنى المصدر.
وجملة {إنا إلى الله راغبون} تعليل. أي لأنّنا راغبون فضله.
وتقديم المجرور لإفادة القصر، أي إلى الله راغبون لا إلى غيره، والكلام على حذف مضاف، تقديره: إنّا راغبون إلى ما عيّنه الله لنا لا نطلب إعطاء ما ليس من حقّنا.
والرغبة الطلب بتأدب.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
هذه الآية اعتراض بين جملة: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58] وجملة {ومنهم الذين يؤذون النبي} [التوبة: 61] الآية. وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات.
والمقصود من أداة الحصر: أن ليس شيء من الصدقات بمستحقّ للذين لَمَزوا في الصدقات، وحَصْر الصدقات في كونها مستحقّة للأصناف المذكورة في هذه الآية، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم.
وأمّا انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معاً إلاّ على طريقة استعمال المشترك في معنييه.
والفقير صفة مشبّهة أي المتّصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضدّه الغني. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} في سورة النساء (135).
والمسكين ذو المسكنة، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر، ولا شكّ أنّ ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنّما النظر فيما إذا جُمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل: هو من قبيل التأكيد، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي، وقيل: يراد بكلّ من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة: الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجاً لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلّة. والمسكين المحتاج احتياجاً يُلجئه إلى الضراعة والمذلّة، ونسب هذا إلى مالك، وأبي حنيفة، وابن عباس، والزهري، وابن السكّيت، ويونسَ بن حبيب؛ فالمسكين أشدّ حاجة لأنّ الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمّل ألم الخصاصة، والأكثرُ إنمّا يكون ذلك من شدّة الحاجة على نفس المحتاج. وقد تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وبذي القربى واليتامى والمساكين} في سورة النساء (36).
والعاملين عليها} معناه العاملون لأجلها، أي لأجل الصدقات فحرف (على) للتعليل كما في قوله: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] أي لأجل هدايته إيّاكم. ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف (على) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكّن، أي العاملين لأجلها عملاً قوياً لأنّ السعاة يتجشّمون مشقّةً وعملاً عظيماً، ولعلّ الإشعار بذلك لقصد الإيمان إلى أنّ علّة استحقاقهم مركّبة من أمرين: كون عملهم لفائدة الصدقة، وكونه شاقّاً، ويجوز أن تكون (على) دالَّة على الاستعلاء المجازي، وهو استعلاء التصرف كما يقال: هو عامل على المدينة، أي العاملين للنبيء أو للخليفة على الصدقات أي متمكّنين من العمل فيها.
وممّن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حَمَل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هُذيل.
{والمؤلفة قلوبهم} هم الذين تؤلّف، أي تُؤنَّس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا في الإسلام بحدثان عهدٍ، أو من الذين يرغَّبون في الدخول في الإسلام، لأنّهم قاربوا أن يُسلموا.
والتأليف: إيجاد الألفة وهي التأنّس.
فالقلوب بمعنى النفوس. وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية.
وللمؤلّفة قلوبهم أحوال: فمنهم من كان حديثَ عهد بالإسلام، وعرف ضعف حينئذٍ في إسلامه، مثل: أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، من مسلمة الفتح؛ ومنهم من هم كفار أشدّاء، مثل: عامر بن الطفيل، ومنهم من هم كفار، وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل: صفوان بن أمية. فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام، وقد بلغ عدد من عدّهم ابن العربي في «الأحكام» من المؤلفة قلوبهم: تسعة وثلاثين رجلاً، قال ابن العربي: وعدّ منهم أبُو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاويةَ بن أبي سفيان، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه.
و {الرقاب} العبيد جمع رقَبة وتطلق على العبد. قال تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92].
و {في} للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير «فكّ الرقاب» لأنّ الظرفية جَعلت الرقاب كأنّها وُضعت الأموالُ في جماعتها، ولم يجرّ باللاّم لئلا يتوهّم أنّ الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات، ولكن تُبذل تلك الأموال في عتق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة، أو فداءِ أسرى مسلمين، لأنّ الأسرى عبيد لمن أسَّروهم، وقد مضى في سورة البقرة (177) قوله: {والسائلين وفي الرقاب والغارمين} المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يُرْزأ دائنوهم شيئاً من أموالهم، أو يُرْزأ المدينون ما بقي لهم من مَال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أمواللٍ من الصدقات في ذلك رحمةٌ للدائن والمدين.
و {سبيل الله} الجهاد، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور، كلّ ذلك برّاً وبحراً.
و {ابن السبيل} الغريب بغَير قومه، أضيف إلى {السبيل} بمعنى الطريق: لأنّه أولده الطريق الذي أتى به، ولم يكن مولوداً في القوم، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل.
ولفقهاء الأمّة في الأحكام المستمدّة من هذه الآية طرائق جمّة، وأفهام مهمّة، ينبغي أن نلمّ بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة، وإنّ معانيَها لأوفرُ ممّا تفي به المقالة.
فأمّا ما يتعلّق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله: {للفقراء} على معنى الملك أو الإستحقاق، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقّين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كلّ صنف مقداراً من الصدقات، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كلّ صنف من مقدارها، والذي عليه جمهور العلماء أنّه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف، بل التوزيع موكول لاجتهاد وُلاَة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعلي، وحذيفةَ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة.
وعن مالك أنّ ذلك ممّا أجمع عليه الصحابة، قال ابن عبد البر: ولا نعلم مخالفاً في ذلك من الصحابة، وعن حذيفة. إنّما ذكر الله هذه الأصناف لتُعرف وأيّ صنف أعطيْت منها أجزأك. قال الطبري: الصدقة لسدّ خلّة المسلمين أو لسدّ خلّة الإسلام، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم. قلت وهذا الذي اختاره حذّاق النظّار من العلماء، مثل ابن العربي، وفخر الدين الرازي.
وذهب عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي: إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكلّ صنف ثُمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف. واتّفقوا على أنّه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف.
وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف، وتحديد صفاتها: فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنّه موكول إلى العرف، وأنّ الخصاصة متفاوتة وقد تقدّم آنفاً. واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيراً، واتّفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يُعدَّاننِ مالاً يرفع عن صاحبه وصف الفقر.
وأمّا القدرة على التكسّب، فقيل: لا يعدّ القادر عليه فقيراً ولا يستحقّ الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن خويز منداد، ويحيى بن عُمر من المالكية... ورويت في ذلك أحاديث رواها الدارقطني، والترمذي، وأبو داود. وقيل: إذا كان قوياً ولا مال له جاز له أخذ الصدقة، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي. والكيا الطبري من الشافعية.
وأمّا العاملون عليها فهم يتعيّنون بتعيين الأمير، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة. وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وأمّا المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها. فأمّا الصدقات فلهم حقّ فيها بنصّ القرآن، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم واستمرّ عطاؤهم في خلافة أبي بكر، وزمننٍ من خلافة عمر، وكانوا يعطَون بالاجتهاد، ولم يكونوا يعيِّنون لهم ثُمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر. وإنّما بناؤها على أنّه إذا تعطّل المصرف فلِمَن يردّ سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أنّ نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم. وعن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل: إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي، ولا شكّ أن عمر قَطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجوداً، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتْباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم، ومِن العلماء من جعل فعل عمر وسكوتَ الصحابة عليه إجماعاً سكوتياً فجعلوا ذلك ناسخاً لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفاً وقال كثير من العلماء: هم باقون إذا وُجدوا فإنّ الإمام ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي: «الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا».
أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أنّ عدم إعطائهم في زمن عمر لأجْل عزة الإسلام، وهذا هو الذي صحّحه المتأخّرون. قال ابن الحاجب في «المختصر» «والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم». وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره.
وأمّا الرقاب فالجمهور على أنّ معنى {وفي الرقاب} في شراء الرقيق للعتق، ودفع ما على المكاتب من مال تحصُل به حريته، وهو رواية المدنيين عن مالك، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصُل به حريته، وروي عن مالك من رواية غير المدنيين عنه. وقيل: لا تعطى إلاّ في إعانة المكاتب على نجومه، دون العتق، وهو قول الليث، والنخعي، والشافعي. واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب، فقيل: لا يجوز، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك. وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصحّ من المذهب، وهو لابن عبد الحكم، وابن حبيب، خلافاً لأصبغ، من المالكية.
وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلاّ أن يتوبوا. والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يُعدّ من الغارمين عند ابن حبيب، خلافاً لابن الموّاز.
وسبيل الله لم يُختلف أنّ الغزو هو المقصود، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو، وإن كانوا أغنياء في بلدهم، وأمّا الغزاة الأغنيَاء في بلد الغزو فالجمهور أنّهم يعطَون. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يعطون. والحق أنّ سبيل الله يشمل شراء العُدّة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتيه، ومجانيق، وللحُملان، ولبناء الحصون، وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدوّ، قاله محمد بن عبد الحكم من المالكية ولم يُذكر أنّ له مخالفاً، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أنّ قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور.
وذهب بعض السلف أنّ الحجّ من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات، وروي عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق. وهذا اجتهاد وتأويل، قال ابن العربي: «وما جاء أثرٌ قطّ بإعطاء الزكاة في الحجّ».
وأما ابن السبيل فلم يُختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنّه مراد ولو وجد من يسلفه، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحتَ منّة. واختلف في الغني: فالجمهور قالوا: لا يعطى؛ وهو قول مالك، وقال الشافعي وأصبغ: يعطى ولو كان غنياً في بلد غربتِه.
وقوله: {فريضة من الله} منصوب على أنّه مصدر مؤكِّد لمصدر محذوف يدلّ عليه قوله: {إنما الصدقات} لأنّه يفيد معنى فَرضَ اللَّهُ أو أوجبَ، فأكّد بفريضة من لفظ المقدّر ومعناه.
والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده.
وجملة {والله عليم حكيم} تذييل إمّا أفاده الحصر ب {إنّما} في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} إلخ، أي: والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء، أيْ أنّه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام، والحكيممِ الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها. والواو اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحقّقين.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين: وهو تعلّلهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحَذر، وما يطَّلعون عليه من فلتات نفاقهم، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّه يُصدّق القالَة فيهم، ويتّهمهم بما يبلغه عنهم ممّا هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشكّ في نفوس المسلمين في كمالات نبيئهم عليه الصلاة والسلام.
والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأنّ قبله {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58] فكان مقتضى الظاهر أن يقال: «ومنهم الذين يؤذونك» فعُدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلاّ بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه.
وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عُدّ من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك: الجُلاَسُ بن سُويد، قبل توبته، ونَبْتَل بن الحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن ثابت. فمنهم من قال: إن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن شرّ من الحمير، وقال بعضهم: نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنّا ما قلنا فيقبل قولنا.
والأذَى: الإضرار الخفيف، وأكثر ما يطلق على الضرّ بالقول والدسائس، ومنه قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} وقد تقدّم في سورة آل عمران (111)، وعند قوله تعالى: {وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} في سورة الأنعام (34).
ومضمون جملة: ويقولون هو أذن} عطفُ خاصّ على عامّ، لأنّ قولهم ذلك هو من الأذى.
والأذن الجارحة التي بها حاسّة السمع. ومعنى {هو أذن} الإخبار عنه بأنّه آلة سمع.
والإخبار ب {هو أذن} من صيغ التشبيه البليغ، أي كالأذن في تلقّي المسموعات لا يردّ منها شيئاً، وهو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود. روي أنّ قائل هذا هو نَبْتَل بن الحارث أحد المنافقين.
وجملة: {قل أذن خير لكم} جملة {قل} مستأنفة استينافاً ابتدائياً، على طريقة المقاولة والمحاورة، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظةً لهم، وكمداً لمقاصدهم، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يَحمِل فيه المخاطَبُ كلامَ المتكلّم على غير ما يريده، تنبيهاً له على أنّه الأولى بأن يراد، وقد مضى عند قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] ومنه ما جَرَى بين الحجّاج والقبعثرَى إذ قال له الحجاج متوعّدا إيّاه «لأحْمِلَنَّك على الأدهْم (أراد لألْزِمنَّك القَيْد لا تفارقه) فقال القبعثري: «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فصرف مراده إلى أنّه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفَرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم.
وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يعقّبه بالردّ والزجر، كما أعقب ما قبله من قوله: {ومنهم من يقول ائذن لي} [التوبة: 49]. إلى هنا بل أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول، حتّى لا يبقى للمحكي أثر، وهذا من لطائف القرآن.
ومعنى {أذن خير} أنّه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم، فقبولهُ ما يسمعه ينفعكم ولا يضرّكم فهذا أذن في الخبر، أي في سماعه والمعاملة به وليَس أذناً في الشر.
وهذا الكلام إبطال لأن يكون {أذن} بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإنّ الوصف بالأذن لا يختصّ بمن يقبل الكلام المفضي إلى شرّ بل هو أعمّ، فلذلك صحّ تخصيصه هنا بما فيه خير. وهذا إعمال في غير المراد منه. وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين، فلا يُشكلْ عليك بأنّ وصف {أذن} إذا كان مقصوداً به الذّم كيف يضاف إلى الخير، لأنّ محلّ الذمّ في هذا الوصف هو قبول كلّ ما يسمع ممّا يترتّب عليه شرّ أو خير، بدون تمييز، لأنّ ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله ومعاملاته، فأمّا إذا كان صاحبه لا يقبل إلاّ الخير، ويرفض ما هو شرّ من القول، فقد صار الوصف نافعاً، لأنّ صاحبه التزم أن لا يقبل إلاّ الخير، وأن يحمل الناس عليه. هذا تحقيق معنى المقابلة، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير، فأمّا حملهُ على غير هذا المعنى فيصيّره إلى أنّه من طريقة القول بالموجَب على وجه التنازل وإرخاء العنان، أي هو أذن كما قلتم وَقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرُّؤكم ممّا يبلغه عنكم، وهذا ليس بالرشيق لأنّ ما كان خيراً لهم قد يكون شرّاً لغيرهم.
وقرأ نافع وحده {أذْن} بسكون الذال فيهما وقرأ الباقون بضمّ الذال فيهما.
وجملة {يؤمن بالله} تمهيد لقوله بعده {ويؤمن للمؤمنين} إذ هو المقصود من الجواب لتمحّضه للخير وبعده عن الشرّ بأنّه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو، والصفح، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وبأنْ لا يؤاخذ أحد إلاّ ببيّنة، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلُغ إليه لأنّه لا يعامل إلاّ بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنّة والتهمة.
والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه، يقال: آمن لفلان بمعنى صدَّقه، ولذلك عدّي باللام دون الباء كما في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17] فتصديقه إيّاهم لأنّهم صادقون لا يكذبون، لأنّ الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب، فكما أنّ الرسول لا يؤاخذ أحداً بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين، فقوله: {ويؤمن للمؤمنين} ثناء عليه بذلك يتضمّن الأمر به، فهو ضدّ قوله:
{يأيها الذين آمنو إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6].
وعطف جملة {ورحمة} على جملتي {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثرٌ لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتّى يَتمكن من الإيمان مَن وفّقه الله للإيمان منهم، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سَبْققِ السيففِ العذل، فالمراد من الإيمان في قوله: {آمنوا} الإيمان بالفعل، لا التظاهر بالإيمان، كما فَسّر به المفسّرون، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر، وهم المنافقون.
وقرأ حمزة بجرّ {ورحمةٍ} عطفاً على خير، أي أذن رحمةٍ، والمآل واحد.
وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريَين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير، بالترغيب والترهيب، فرغَّبَهم في الإيمان ليكفِّروا عن سيّئاتهم الفارطة، ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا. وفي ذكر النبي بوصف {رسول الله} إيماء إلى استحقاق مُؤذيه العذاب الأليم، فهو من تعليق الحكم بالمشتقّ المؤذن بالعلية.
وفي الموصول إيماء إلى أنّ علّة العذاب هي الإيذاء، فالعلةُ مركبة.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم.
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمَان الكاذبة، فلا تغرّهم أيمانهم، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي.
والمراد: الحلف الكاذب، بقرينة قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها، على أنّه قد عُلِم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون} [التوبة: 42].
فكاف الخطاب للمسلمين، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّئي، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك، فلذلك قال الله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي أحقّ منكم بأن يرضوهما، وسيأتي تعليل أحقّيّة الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيممِ رسوله، وإرضاءُ الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه.
وإنّما أفرد الضمير في قوله: {أن يرضوه} مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: واللَّهُ أحقّ أن يرضوه ورسولُه كذلك، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذفُ الخبر إيجاز. ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين، ومنه قول ضابئ بن الحارث:
ومَن يك أمسَى بالمدينة رَحْلُه *** فإنِّي وقيَّارٌ بهَا لَغَرِيب
التقدير: فإنّي لغريبٌ وقيارٌ بها غَريب أيضاً. لأنّ إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما.
والضمير المنصوب في {يرضوه} عائد إلى اسم الجلالة، لأنّه الأهمّ في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ألا ترى أنّ بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق (إنّ) الكائنة في الجملة الأولى، دون الجملة الثانية، وهذا الاستعمال هو الغالب.
وشرط {إن كانوا مؤمنين}، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان. وفيه أيضاً تسجيل عليهم، إن أعادوا مثل صنيعهم، بأنّهم كافرون باللَّه ورسوله، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
هذه الجملة تتنزل من جملة {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] منزلة التعليل، لأنّ العاقل لا يرضى لنفسه عملاً يَؤول به إلى مثل هذا العذاب، فلا يُقدم على ذلك إلاّ مَن لاَ يعلم أنّ من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيئ.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع، لأنّ عدم علمهم بذلك محقّق بِضرورة أنّهم كافرون بالرسول، وبأنّ رضى الله عند رضاه ولكن لمّا كان عدم علمهم بذلك غريباً لوجود الدلائل المقتضية أنّه ممّا يحقّ أن يعلموه، كان حال عدم العلم به حالاً منكراً. وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهمّ، كقوله في هذه السورة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة: 104] وقوله: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} [التوبة: 78] وقول مَوْيَال بن جهم المذحجي، أو مبشر بن هذيل الفزاري:
ألَمْ تعلَمي يا عَمْرَككِ اللَّهَ أنّني *** كريمٌ على حينَ الكرامُ قليل
فكأنّه قيل: فلْيعلموا أنّه من يُحادد الله الخ.
والضمير المنصوب ب {أنّه} ضمير الشأن، وفسّر الضمير بجملة {من يحادد الله} إلى آخرها.
والمعنى: ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم.
وفكّ الدَّالان من {يحادد} ولم يُدغما لأنّه وقع مجزوماً فجاز فيه الفَكّ والإدغام، والفكّ أشهر وأكثر في القرآن، وهو لغة أهل الحجاز، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله: {ومن يشاق الله} في سورة الحشر (4) في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم.
والمحادَّة: المُعاداة والمخالفة.
والفاء في فأن له نار جهنم} لربط جواب شرط {مَن}.
وأعيدت {أنَّ} في الجواب لتوكيد {أنَّ} المذكورة قبلَ الشرط توكيداً لفظياً، فإنّها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيراً لضمير الشأن، كان حكم {أنَّ} سارياً في الجملتين بحيث لو لم تذكر في الجواب لعُلِم أنّ فيه معناها، فلمّا ذكرت كان ذكرها توكيداً لها، ولا ضيرَ في الفصل بين التأكيد والمؤكَّد بجملة الشرط، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرففٍ، إذ لا مانع من ذلك، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ثم إن ربك للذين عملوا السوءَ بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [النحل: 119] وقول الحماسي، وهو أحد الأعراب:
وإنَّ امرءاً دامت مواثيق عهده *** على مثل هذا إنَّه لكريم
و {جهنّم} تقدّم ذكرها عند قوله تعالى: {فحسبه جهنم وبئس المهاد} في سورة البقرة (206).
والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره. والمقصود من الإشارة: تمييزه ليتقرّر معناه في ذهن السامع.
والخزي} الذلّ والهوان، وتقدّم عند قوله تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} في سورة البقرة (85).
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله: {يحلفون بالله لكم} [التوبة: 62] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية. وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني «هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره. وفي قوله: {استهزءوا} دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلاّ مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل {يحذر} فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله: {قل استهزءوا} إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل {يحذر} إلى معنى: يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائِب المجاز. وتأوّل الزجاج الآية بأنّ {يحذر} خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر. وعلى تأويله تكون جملة {قل استهزءوا} استئنافاً ابتدائياً لا علاقة لها بجملة {يحذر المنافقون}. ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر.
وضميراً {عليهم} و{تنبئهم} يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها. وتكون (على) بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185].
وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية {تنبئهم} إلى ضمير المنافقين: على نزع الخافض، أي تنبيء عنهم، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم.
ويجوز أن يكون تاء {تنبئهم} تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي: تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} في محلّ الصفة ل {سورة} والرابط محذوف تقديره: تنبّئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} استطراد.
ويجوز أن يعود الضميراننِ للمسلمين، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير {قلوبهم} الذي هو للمنافقين لا محالة، لأنّ المعنى يَرُدُّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه.
واختيرت صيغة المضارع في {يحذر} لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48] وقوله: {يجاد لنا في قوم لوط} [هود: 74].
والسورة: طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب.
والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نَبَّأ الخبر، وتقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
والاستهزاء: تقدّم في قوله: {إنما نحن مستهزئون} في أول البقرة (14).
والإخراج: مستعمل في الإظهار مجازاً، والمعنى: أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور: مثل سورةِ المنافقين، وهذه السورةِ سورةِ براءة، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى: ومنهم، ومنهم، ومنهم.
والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله: ما تحذرون} دون أن يقال: إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم: لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة واففٍ بالأمرين: إظهارِ سرائرهم، وكونه في سورة تنزِل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص (80) {ونرثه ما يقول} بعد قوله: {وقال لأوتين مالا وولداً} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
الظاهر أنّها معطوفة على جملة: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} [التوبة: 62] أو على جملة {ومنهم الذين يؤذون النبي} [التوبة: 61]، فيكون المراد بجملة: {يحلفون بالله لكم} [التوبة: 62] أنّهم يحلفون إن لم تسألهم. فالحلف الصادر منهم حلف على الأعمّ من براءتهم من النفاق والطعن، وجواب السؤال عن أمور خاصّة يُتهمون بها جواب يراد منه أنّ ما صدر منهم ليس من جنس ما يُتّهمون به، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنّه خوض ولعب، يريدون أنّه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكادُّ عملاً شاقّاً من الراحة بالمزح واللعب. وروي أنّ المقصود من هذه الآية: أنّ ركباً من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقاً، منهم: وديعةُ بن ثابت العَوْفي، ومخشي بن حُمَيِّر الأشجعي، حليف بني سَلِمة، وقفوا على عَقَبَة في الطريق ينظرون جيش المسلمين فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا «إنّما كنّا نخوض ونلعب».
وعندي أنّ هذا لا يتّجه لأنّ صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعمّ، ممّا يسألون عنه في المستقبل، إخباراً بما سيجيبون، فهم يسألون عمّا يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14] لأنّهم كانوا كثيري الإنفراد عن مجالس المسلمين. وحذف متعلّق السؤال لظهوره من قرينة قوله: {إنما كنا نخوض ونلعب}. والتقدير: ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة. ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول، وأنّه لمَّا سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية.
والقصر للتعيين: أي ما تحدثْنا إلاّ في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى.
والخوض: تقدّم في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} في سورة الأنعام (68).
واللعب تقدّم في قوله: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} في الأنعام (32)، ولمّا كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله: كنتم تستهزءون} فلمّا كان اعتذارهم مبهماً ردّ عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون}، على نحو قوله تعالى: {فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة} [الإسراء: 51].
والاستفهام إنكاري توبيخي. وتقديم المعمول وهو {أبالله} على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنّهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الردّ عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب، فاعلمهم بأنّ لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلاّ استهزاء بالله وآياته ورسوله لا بغير أولئك، فقصْر الاستهزاء على تعلّقه بمن ذكر اقتضى أنّ الاستهزاء واقع لا محالة لأنّ القصر قيد في الخبر الفعلي، فيقتضي وقوعَ الفعل، على ما قرّره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل: أنَا سعيتُ في حاجتك وأنّه يؤكّد بنحو: وحدي، أوْ لا غيري، وأنّه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيري، أي ولا يقال: أنا سعيت في حاجتك وغيري، وكذلك هنا لا يصحّ أن يفهم أبالله كنتم تستهزِئون أم لَمْ تكونوا مستهزئين.
والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم: لأنّهم استهزأوا برسوله وبدينه، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه.
{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم}.
لمّا كان قولهم: {إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65] اعتذاراً عن مناجاتهم، أي إظهاراً للعذر الذي تناجَوا من أجله، وأنّه ما يحتاجه المتعَب: من الارتياح إلى المزح والحديثثِ في غير الجدّ، فلمّا كشف الله أمر استهزائهم، أردفه بإظهار قلّة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبّسوا بما هو أشنع وأكبر ممّا اعتذروا عنه، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان. فإن الله لمّا أظهر نفاقهم. كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة {لا تعتذروا} من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله، وهي ارتقاء في توبيخهم، فهي متضمّنة توكيداً لمضمون جملة {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} [التوبة: 65]، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنّهم تلبّسوا بما هو أشدّ وهو الكفر، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها، على أنّ شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأنّ التوبيخ يقتضي التعْداد، فتقع الجمل الموبَّخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد، اثنان، فالمعنى لا حاجة بكم للإعتذار عن التناجي فإنّكم قد عُرفتم بما هو أعظم وأشنع.
والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وجملة: {قد كفرتم بعد إيمانكم} في موضع العلّة من جملة: {لا تعتذروا} تعليلاً للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وقوله: {قد كفرتم} يدلّ على وقوع الكفر في الماضي، أي قبل الاستهزاء، وذلك أنّه قد عُرف كفرهم من قبل. والمراد بإسناد الإيمان إليهم: إظهارُ الإيمان، وإلاّ فَهُم لم يؤمنوا إيماناً صادقاً. والمراد بإيمانهم: إظهارهم الإيمان، لا وقوع حقيقته. وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة، أي بعد إيمان هو من شأنكم، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى الآتي {وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] وهذا من لطائف القرآن.
{إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}.
جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيراً له بإمكان تدارك حاله.
ولمّا كان حال المنافقين عجيباً كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة، فأنبأهم أنّ طائفة منهم قد يُعفى عنها إذا طلبت سبب العفو: بإخلاص الإيمان، وأنّ طائفة تَبْقى في حالة العذاب، والمقام دالّ على أنّ ذلك لا يكون عبثاً ولا ترجيحاً بدون مُرجّح، فما هو إلاّ أنّ طائفة مرجّوة الإيمان، فيغفر عمّا قدّمته من النفاق، وأخرى تصرّ على النفاق حتّى الموت، فتصير إلى العذاب. والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دلَّ عليه المقام وضوحاً من قوله: {نسوا الله فنسيهم إلى قوله عذاب مقيم} [التوبة: 67، 68]. وقوله بعد ذلك: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا والآخرة}
[التوبة: 74].
وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية، وذكر المفسّرون من هذه الطائفة مخشيَّا بن حُمَيِّر الأشجعي لمّا سمع هذه الآية تاب من النفاق، وحسن إسلامه، فعدّ من الصحابة، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه، وقد قيل: إنّه المقصود «بالطائفة» دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم " مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسّمهم.
والباء في {بأنهم كانوا مجرمين} للسببية، والمجرم الكافر.
وقرأ الجمهور {يُعفَ وتُعذبْ} ببناء الفعلين إلى النائب، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب {طائفة} الثاني.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}
يظهر أن تكون هذه الآية احتراساً عن أن يظنّ المنافقون أنّ العفو المفروض لطائفة منهم هو عفو ينال فريقاً منهم باقين على نفاقهم، فعقب ذلك ببيان أنّ النفاق حالة واحدة وأنّ أصحابه سواء، ليعلم بذلك أن افتراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلاّ إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاءِ على النفاق، إلى ما أفادته الآية أيضاً من إيضاح بعض أحوال النفاق وآثاره الدالّة على استحقاق العذاب، ففصل هاته الجملة عن التي قبلها: إمّا لأنّها كالبيان للطائفة المستحقّة العذاب، وإمّا أن تكون استئنافاً ابتدائياً في حكم الاعتراض كما سيأتي عند قوله تعالى: {كالذين من قبلكم} [التوبة: 69] وإمّا أن تكون اعتراضاً هي والتي بعدها بين الجملة المتقدمة وبين جملة {كالذين من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوة} [التوبة: 69] كما سيأتي هنالك.
وزيد في هذه الآية ذكر {المنافقات} تنصيصاً على تسوية الأحكام لجميع المتّصفين بالنفاق: ذكورهم وإناثهم، كيلا يخطر بالبال أن العفو يصادف نساءهم، والمؤاخذة خاصّة بذُكرَانِهم، ليعلم الناس أنّ لنساء المنافقين حظّا من مشاركة رجالهنّ في النفاق فيحذروهنّ.
و {مِنْ} في قوله: {بعضهم من بعض} اتّصالية دالّة على معنى اتّصال شيء بشيء وهو تبعيض مجازي معناه الوصلة والولاية، ولم يطلق على ذلك اسم الولاية كما أطلق على اتّصال المؤمنين بعضهم ببعض في قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] لما سيأتي هنالك.
وقد شمل قوله: {بعضهم من بعض} جميع المنافقين والمنافقات، لأنّ كلّ فرد هو بعض من الجميع، فإذا كان كلّ بعض متّصلاً ببعض آخر، عُلم أنّهم سواء في الأحوال.
وجملة {يأمرون بالمنكر} مبيِّنة لمعنى الاتّصال والاستواءِ في الأحوال.
والمنكر: المعاصي لأنّها ينكرها الإسلام.
والمعروف: ضدّها، لأنّ الدين يعرفه، أي يرضاه، وقد تقدّما في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} في سورة آل عمران (104).
وقبض الأيدي: كناية عن الشحّ، وهو وصف ذمّ لدلالته على القسوة، لأنّ المراد الشحّ على الفقراء.
والنسيانُ منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثاللِ ما أمر به، لأنّ الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرَض عنه.
ونسيان الله إيَّاهم مُشاكلة أي حرمانه إياهم ممّا أعدَّ للمؤمنين، لأنّ ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ.
وجملة: إن المنافقين هم الفاسقون} فذلكة للتي قبلها فلذلك فصلت لأنّها كالبيان الجامع.
وصيغة القصر في {إن المنافقين هم الفاسقون} قصر ادّعائي للمبالغة لأنّهم لمّا بلغوا النهاية في الفسوق جعل غيرهم كمن ليس بفاسق.
والإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إن المنافقين} لزيادة تقريرهم في الذهن لهذا الحكم. ولتكون الجملة مستقلّة حتّى تكون كالمثل.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}
هذه الجملة إمّا استئنافٌ بياني ناشيء عن قوله: {إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67]، وإمّا مبيِّنَةٌ لجملة {فنسيهم} [التوبة: 67] لأنّ الخلود في جهنم واللعنَ بَيَان للمرادِ من نسيان الله إيّاهم.
والوعد أعمّ من الوعيد، فهو يطلق على الإخبار بالتزام المخبِر للمخبَر بشيء في المستقبل نافع أو ضار أو لا نفع فيه ولا ضرّ {هذا ما وعد الرحمن} [يس: 52]. والوعيد خاصّ بالضارّ.
وفعل المضي هنا: إمّا للإخبار عن وعيد تقدّم وعَدَه الله المنافقين والمنافقات تذكيراً به لزيادة تحقيقه وإمّا لصوغ الوعيد في الصيغة التي تنشأ بها العُقود مثل (بعت ووهبت) إشعاراً بأنّه وعيد لا يتخلّف مثل العقد والالتزام.
والإظهار في مقام الإضمار لتقرير المحكوم عليه في ذهن السامع حتى يتمكّن اتّصافهم بالحكم.
وزيادة ذِكر {الكفار} هنا للدلالة على أنّ المنافقين ليسوا بأهون حالاً من المشركين إذ قد جمع الكفر الفريقين.
ومعنى {هي حسبهم} أنّها ملازمة لهم. وأصل حَسْب أنّه بمعنى الكافي، ولمَّا كان الكافي يلازمه المكفي كني به هنا عن الملازمة، ويجوز أن يكون {حسب} على أصله ويكون ذكره في هذا المقام تهكماً بهم، كأنّهم طلبوا النعيم، فقيل: حسبهم نار جهنم.
واللعن: الإبعاد عن الرحمة والتحقير والغضب.
والعذاب المقيم: إن كان المراد به عذاب جهنّم فهو تأكيد لقوله: {خالدين فيها هي حسبهم} لدفع احتمال إطلاق الخلود على طول المدّة، وتأكيد للكناية في قوله: {هي حسبهم} وإن كان المراد به عذاباً آخر تعيّن أنّه عذاب في الدنيا وهي عذاب الخزي والمذلّة بين الناس.
وفي هذه الآية زيادة تقرير لاستحقاق المنافقين العذاب، وأنّهم الطائفة التي تعذب إذا بقُوا على نفاقهم، فتعيّن أنّ الطائفة المعفو عنها هم الذين يؤمنون منهم.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
قيل هذا الخطاب التفات، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة، وأن يحقّ عليهم الخسران.
فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر، أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب:
حتّى إذا الكلاَّب قال لها *** كاليوممِ مطلوباً ولا طالِبا
أراد: لم أر كاليوم، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت.
وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} [التوبة: 65] الآية. فيكون ما بينهما اعتراضاً بقوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار.
والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة.
و {أشَدّ} معناه أقوى، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15] أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال {أشد} كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالى: {علمه شديد القوى} [النجم: 5].
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة: منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحللِ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت.
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع.
والاستمتاع: التمتّع، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} في سورة الأعراف (24).
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع.
والخلاق: الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق} في سورة البقرة (200).
وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم} على {كانوا أشد}: لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي.
وتفرَّع {فاستمتعتم بخلاقكم} على ما أفاده حرف الكاف بقوله: {كالذين من قبلكم} من معنى التشبيه، ولذلك لم تعطف جملة {فاستمتعتم} بواو العطف، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة: {فاستمتعوا بخلاقهم} لولا قصد الموعظة بالفريقين: المشبّهِ بهم، والمشبّهين، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله: {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ولم يذكر قبله {فاستمتعوا بخلاقهم} لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين.
ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله: {وخضتم كالذي خاضوا}.
وقوله: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} تأكيد للتشبيه الواقع في قوله: {كالذين من قبلكم} إلى قوله فاستمتعتم بخلاقكم للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه، من بين الحالة المشبهةِ والحالةِ المشبه بها، هو محلّ الموعظة والتذكير، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج، فقدّم قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} وأتى بقوله: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مؤكِّداً له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير، ليتأتى التأكيد، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة، قبل إيقاع التشبيه، أشدّ تمكيناً لمعنى المشابهة عند السامع.
وقوله: {كالذي خاضوا} تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله: {ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له. أي: وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك، فأنتم وهم سواء، فيوشك أن يَحيق بكم ما حاق بهم، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما.
و {الذي} اسم موصول، مفرد، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد ب {الذي}: تأويله بالفريق أو الجَمْع، ويجوز أن يكون {الذي} هنا أصله الذين فخُفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هُم القومُ كلُّ القوممِ يا أمَّ خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّاً بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية، ونحاة الكوفة يجوزّونه ولو لم تطل الصلة، كما في الآية، وقد ادّعى الفرّاء: أنّ {الذي} يكون موصولاً حرفياً مؤوّلاً بالمصدر، واستشهد له بهذه الآية، وهو ضعيف.
ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم، فقال تعالى: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم.
والخوض: تقدّمت الحوالة على معرفته آنفاً.
والحبط: الزوال والبطلان، وتقدّم في قوله تعالى: {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} في سورة البقرة (217).
والمراد بأعمالهم: ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه: من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما، ومعنى حبْطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم، كقوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80] أي في الدنيا {ويأتينا فرداً} [مريم: 80] أي في الآخرة لا مال له ولا ولد، كقوله: {ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} [الحاقة: 28، 29].
وفي هذا كلّه تذكرة للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنْ لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم.
ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلاً خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله: {وأولئك هم الخاسرون} قصراً مقصوداً به المبالغة.
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع.
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}
عاد الكلام على المنافقين: فضمير {ألم يأتهم} و{من قبلهم} عائدَاننِ إلى المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65]، أو الضميرُ في قوله: {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68].
والاستفهام موجه للمخاطب تقريراً عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنّهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.
والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} وقد تقدّم في سورة العقود (41)، شُبْه حصول الخبر عند المخبَر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم: بلغَه الخبر، قال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} في سورة الأنعام (19).
والنبأ: الخبر وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} في سورة الأعراف (59).
ونوح: تقدّم ذكره عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} في سورة آل عمران (33).
وعاد: تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً} في سورة الأعراف (65).
وكذلك ثمود. وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدّم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} في سورة البقرة (124).
وإضافة أصحاب} إلى {مَدْيَنَ} باعتبار إطلاق اسم مَدْيَن على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أنّ مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} [الأعراف: 85] كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة. وقد تقدّم ذكر مَدين عند قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} في الأعراف (85).
والمؤتفكات} عطف على {أصحاب مدين}، أي نَبَأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة: اسم فاعللٍ من الائْتِفَاك وهو الانقلابُ. أي القرى التي انقلبت والمراد بها: قرى صغيرة كانت مساكنَ قوم لوط وهي: سدوم، وعمورة، وأدَمَة، وصِبْوِيم وكانت قرى متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها. وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.
وجملة: {أتتهم رسلهم} تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله: {نبأ الذين من قبلهم} أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحقّ.
وجملة {فما كان الله ليظلمهم} تفريع على جملة {أتتهم رسلهم}، والمفرّع هو مجموع الجملة إلى قوله: {يظلمون} لأنّ الذي تفرّع على إتيان الرسل: أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصمّ الآذان عن الحقّ، فأخذهم الله بذلك، ولكن نُظِم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذا ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماماً بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتّى جُعل ذلك كأنّه هو المفرّع وجعل المفرّع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.
ونُفِي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} من سورة العقود (6).
وأثبت ظُلمُهم أنفُسَهم لهم بأبلغ وجه إذْ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدالّ على تمكّن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدّد والتكرّر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
هذه تقابل قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] لبيان أنّ الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين.
فالجملة معطوفة على جملة: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض.
وقوله: {بعضهم أولياء بعض} مقابل قوله: في المنافقين {بعضهم من بعض} [التوبة: 67]. وعبّر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنّهم أولياء بعضضٍ للإشارة إلى أنّ اللحمة الجامعة بينهم هي وَلاية الإسلام، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلّداً للآخر ولا تابعاً له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأنّ بَعضَهم ناشئ من بعض في مذامّهم.
وزيد في وصف المؤمنين هنا {يقيمون الصلاة} تنويهاً بأنّ الصلاة هي أعظم المعروف.
وقوله: {ويؤتون الزكاة} مقابل قوله في المنافقين {ويقبضون أيديهم} [التوبة: 67].
وقوله {ويطيعون الله ورسوله} مقابل قوله في المنافقين {نسوا الله} [التوبة: 67] لأنّ الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضدّ النسيان.
وقوله: {أولئك سيرحمهم الله} مقابل قوله في المنافقين {فنسيهم} [التوبة: 67].
والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد (قد) مع الماضي كقوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5].
والإشارةُ للدلالة على أنّ ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياءَ به من أجللِ الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة.
وجملة: {إن الله عزيز حكيم} تعليل لجملة {سيرحمهم الله} أي: أنّه تعالى لعزّته ينفع أولياءه وأنّه لحكمته يضع الجزاء لمستحقّه.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
موقع هذه الجملة بعد قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]، كموقع جملة: {وعد الله المنافقين والمنافقات} [التوبة: 68] بعد قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] الآية. وهي أيضاً كالاستئناف البياني الناشئ عن قوله: {أولئك سيرحمهم الله} [التوبة: 71] مثل قوله في الآية السابقة {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} [التوبة: 21] الآية.
وفعل المضي في قوله: {وعد الله} إمّا لأنّه إخبار عن وَعد تقدّم في آي القرآن قُصد من الإخبار به التذكيرُ به لتحقيقه، وإمّا أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صِيَغ العقود مثل بِعتُ وتَصدّقتُ، لكون تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا يَتخلّف. وقد تقدّم نظيره آنفاً في قوله: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} [التوبة: 68].
والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال: وعَدهم الله: لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكّن تعلّق الفعل بهم فضلَ تمكّن في ذهن السامع.
وتقدّم الكلام على نحو قوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار} عند قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} في سورة البقرة (25).
وعطفُ ومساكن طيبة في جنات عدن} على {جنات} للدلالة على أن لهم في الجنّات قصوراً ومساكن طيّبة، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله: {ولهم فيها أزواج مطهرة} [البقرة: 25].
و (العدن): الخلد والاستقرار المستمرّ، فجنّات عدن هي الجنات المذكورة قبلُ، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنّن في التعبير والتنويه بالجنّات، ولذلك لم يقل: ومساكن طيبة فيها.
وجملة: {ورضوان من الله أكبر} معطوفة على جملة {وعد الله المؤمنين}. والرضوان بكسر الراء ويجوز ضمها. وكسرُ الراء لغة أهل الحجاز، وضمّها لغة تميم. وقرأه الجمهور بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمّ الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون. وهو مصدر كالرضى وزيادة الألف والنون فيه تدلّ على قوته، كالغُفران والشكران.
والتنكير في {رضوان} للتنويع، يدلّ على جنس الرضوان، وإنّما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسّل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإنّ رضوان الله تعالى عَظيم.
و {أكبرُ} تفضيل لم يذكر معه المفضَّل عليه لظهوره من المقام، أي أكبر من الجنّات لأنّ رضوان الله أصل لجميع الخيرات. وفيه دليل على أنّ السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية.
و {ذلك} إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنّات والمساكن وصفاتهما والرضواننِ الإلهي.
والقصر في {هو الفوز العظيم} قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
لمّا أشعر قوله تعالى في الآية السابقة {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68]. بأنّ لهم عذابين عذاباً أخروياً وهو نار جهنم، تعيَّن أنّ العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل، فلمّا أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة، أمر نبيئَهُ بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب (60، 61) في قوله: {ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدّة ما كُشفت فيه دخيلتُهم بما تكرّر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله بجهادهم. والجهاد القتال لنصر الدين، وتقدّم في قوله تعالى: {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم} في سورة العقود (54).
وقُرن المنافقون هنا بالكفار: تنبيهاً على أنّ سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقّق في المنافقين، فجهادهم كجهاد الكفار، ولأنّ الله لمّا قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} [التوبة: 68] وأومأ قوله هنالك بأنّ لهم عذاباً آخرَ، لا جرم جَمعَهم عند شرع هذا العذاب الآخرِ لهم.
فالجهاد المأمور للفريقين مختلف، ولفظ (الجهاد) مستعمل في حقيقتِه ومجازه. وفائدة القرن بين الكفّار والمنافقين في الجهاد: إلقاء الرعب في قلوبهم، فإنّ كلّ واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامَلَ معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضداً شوكتَهم.
وأمّا جهادهم بالفعل فمتعذر، لأنّهم غير مظهرين الكفر، ولذلك تأوّل أكثر المفسّرين الجهادَ بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجّة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها، وكان غالبُ من أقيم عليه الحدّ في عهد النبوءة من المنافقين. وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم. وحملها الزجّاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود، ولكنّهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى.
وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعاً لشأفتهم من بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلمهم ويعرّفهم لحذيفةَ بن اليَمان، وكان المسلمون يعرفون منهم مَن تكرّرت بوادر أحواله، وفلتات مقاله. وإنّما كان النبي ممسكاً عن قتلهم سَدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعُمر: «لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه» لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يَبْلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعتْه القبائل وتحقّقه المسلم والكافر، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق.
والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين، وقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئةَ المسلمين لِجهاد كلّ قوم ينقضون عُرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته، وما ذلك إلاّ نفاقٌ من قادَتهم اتَّبعه دَهماؤهم، ولعلّ هذه الآية كانت سبباً في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصِهم الإيمانَ كما ورد في قصّة الجُلَاس بن سُويد. وكان قد كفَى الله شرّ متولّي كِبْر النفاق عبدِ اللَّه بننِ أبي بننِ سَلول بموته فكان كلّ ذلك كافياً عن إعمال الأمرِ بجهادهم في هذه الآية {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25].
وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالةً بيّنة، وإن لم يكن أعلن الكفر.
{واغلظ عليهم} أمر بأنْ يكون غليظاً معهم. والغلظة يأتي معناها عند قوله: {وليجدوا فيكم غلظة} في هذه السورة (123).
وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لأنّه جُبل على الرحمة فأمر بأن يتخلّى عن جبلّته في حقّ الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل.
وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفارِ المؤلّفةِ قلوبهم على الإسلام وإنّما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثاً.
وجملة: وبئس المصير} تذييل. وتقدّم نظيره مرات. والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان، أي يرجع إليه.
والمصير المكان الذي يصير إليه المرء، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار، والجمع بينهما هنا تفنّن.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نقموا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
لمّا كان معظم ما أخِذ على المنافقين هو كلماتٍ دالّةً على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نُقِل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة، عُقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصلٌ كاذب وأن لا ثِقة بحَلفهم، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم. فجملة {يحلفون} مستأنفة استئنافاً بيانياً يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم فِي حلفهم.
وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله: {ولقد قالوا كلمة الكفر} وما بعده، وأن ذلك إنّما أخَّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء، وأتِي بالمقصود في صورة جملة حاليَّة. ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيَّد. ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضِهم عهد الإسلام، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتُصر على إثبات مقابله وهو {ولقد قالوا كلمة الكفر}، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به.
وأيّاً ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف.
ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله: {ولقد قالوا كلمة الكفر}.
وأكَّد صدور كلمة الكفر منهم، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها، بصيغة القَسم ليكون تكذيب قولهم مساوياً لقولهم في التأكيد.
وكلمةُ الكفر الكلام الدالّ عليه، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاماً جامعاً موجَزاً كما في قوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 8] وفي الحديث: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»
فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله. فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين. فعن قتادة: لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم.
وقيل: المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير، ومجاهد، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال: لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته، فحلف بالله ما قال ذلك، وقيل: بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله:
{يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ} [المنافقون: 8] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك.
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمععٍ كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا. وقد فعله واحد، أو باعتبار قوللِ واحدٍ وسماع البقية فجُعلوا مشاركين في التبعة كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً وإنّما قتله واحد من القبيلة، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه. وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه.
وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله: {وكفروا بعد إسلامهم} فكذلك.
ومعنى {بعد إسلامهم} بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66].
والهَمّ: نيَّة الفعل سواء فُعل أم لم يفعل.
ونوال الشيء حصوله، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يترصّدوا له في عَقبة بالطريق تحتها واددٍ فإذا اعتلاها ليْلاً يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً وقد أخذَ عَمَّار بن يَاسِر بخطام راحلته يقودها. وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا.
وجملة: {وما نقموا} عطف على {ولقد قالوا} أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلاممِ المدينةَ شيئاً يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة.
والنقْم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا} في سورة الأعراف (126).
وقوله: إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} استثناء تهكّمي. وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب
ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمَه الخبري ونحوَه فيذكر شيئاً هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه.
وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمْن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروبٌ تفانَوا فيها قُبيل الهجرة وهي حروب بعاث.
والفضل: الزيادة في البذل والسخاء. و{مِن} ابتدائية. وفي جعل الإغناء من الفضل كنايةٌ عن وفرة الشيء المغنَى به لأنّ ذا الفضللِ يعطي الجَزل.
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر.
(74) {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والاخرة وَمَا لَهُمْ فِى الارض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
التفريع على قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغِلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار، فرّع على ذلك الإخبارَ بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنَّ تدارك أمرهم في مكنتهم، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم.
والتوبة هي إخلاصهم الأيمانَ. والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين، والضمير في {يك} عائد إلى مصدر {يتوبوا} وهو التوبُ.
والتولّي: الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة. والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر، وفي الآخرة عذاب النار.
وجيء بفعل {يك} في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خيرٌ لهم لتأكيد وقوع الخَيْر عند التوبة، والإيماءِ إلى أنّه لا يحصل الخير إلاّ عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك.
وحَذف نون «يكن» للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسَّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله: {وإن تك حسنة يضاعفها} في سورة النساء (40).
وجملة: وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} عطف على جملة {يعذبهم الله} الخ فتكون جواباً ثانياً للشرط، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة. لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعاً للجملة المعطوف عليها.
والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم مِن القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلاّ من لا يعبأ بهم عَدداً وعُدداً، والمراد نفي الولي النافع كما هو مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيراً فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه. وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهاراً للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان، وقد قيل: إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته. ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجئ فيه قصة كما تقدّم آنفاً.
وجملة {لنصدقن} بيان لجملة {عاهد الله} وفعل {لنصدقن} أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف.
والإعراض: إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربّهم.
و {أعقبهم نفاقاً} جعل نفَاقاً عَقب ذلك أي إثْرَه ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق.
والضمير المستتر في أعْقَبهم للمذكور من أحوالهم، أو للبخل المأخوذ من بَخلوا، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله {من عاهد الله} أي جَعل فعلهم ذلك سبباً في بقاء النفاق في قلوبهم إلى مَوتهم، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق. وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتِّبا ماتَ على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عُدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شَهد بدراً، وقيل: هما آخران غيرهما وافقا في الاسم. فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله «نافَق حنظلة». وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بَيَّن له أنّ ما توهّمه ليس كما توهّمه، فيكون المعنى أنّهم أسلموا وبقُوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومئ إلى هذا تنكير {نفاقاً} المفيد أنّه نفاق جديد وإلاّ فقد ذُكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلاً لهم عقب فعلهم هذا.
واللقاء مصادفة الشيءِ شيئاً في مكان واحد. فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنّه يومُ لقاء الله للحساب، أو إلى يوم الموت لأنّ الموت لقاء الله كما في الحديث " من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه "
، وفسّره بأنّه محبّة تعرض للمؤمن عند الاحتضار. وقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين: إنّ اللقاء يقتضي الرؤية، فاستدلّ على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} من سورة الأحزاب (44) فنقَض عليهم الجُبَّائي بقول: إلى يوم يلقونه} في هذه الآية فإنّ الاتّفاق على أنّ المنافقين لا يَرون الله. وقد تصدّى الفخر لإبطال النقض بما يصيّر الاستدلال ضعيفاً، والحقّ أنّ اللقاء لا يستلزم الرؤية. وقد ذكر في «نفح الطيب» في ترجمة أبي بكر بن العربي قصةً في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية.
والباء للسببية أو للتعليل، أي بسبب إخلافهم وعد ربّهم وكذبهم.
وعبّر عن كذبهم بصيغة {كانوا يكذبون} لدلالة كان على أنّ الكذب كائن فيهم ومتمكّن منهم ودلالة المضارع على تكرّره وتجدّده.
وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من إحداث الأفعال الذميمة فإنّها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكّناً من النفس بطبيعة التولّد الذي هو ناموس الوجود.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}
استئناف لأجل التقرير. والكلامُ تقرير للمخاطَب عنهم لأنّ كونهم عالمين بذلك معروف لدى كلّ سامع. والسر ما يخفيه المرء من كلام وما يضمر في نفسه فلا يُطلع عليه الناس وتقدم في قوله {سراً وعلانية} في سورة البقرة (274).
والنجوى: المحادثة بخفاء أي يعلم ما يضمرونه في أنفسهم وما يتحادثون به حديثَ سر لئلا يطلع عليه غيرهم.
وإنّما عطفت النجوى على السرّ مع أنّه أعمّ منها لينبئهم باطّلاعه على ما يتناجَون به من الكيد والطعن.
ثم عَمّم ذلك بقوله: وأن الله علام الغيوب} أي قوي علمُه لجميع الغيوب.
والغيوب: جمع غيب وهو ما خفي وغاب عن العيان. وتقدّم قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} في سورة البقرة (3).
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)}
استئناف ابتدائي، نزلت بسبب حادث حدث في مدّة نزول السورة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وجاء عَاصم بن عَدِي بأوسققٍ كثيرة من تمر، وجاء أبو عَقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أعطَى عبدُ الرحمن وعاصم إلاّ رياءً وأحَبَّ أبو عَقيل أن يُذكِّر بنفسه ليُعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية.
فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة {سخر الله منهم.
واللمز: الطعن. وتقدّم في هذه السورة في قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58]. وقرأه يعقوب بضمّ الميم كما قرأ قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58].
و {المُطّوّعين} أصله المُتَطَوّعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
و {في} للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبَّب.
وعُطف الذين لا يجدون إلاّ جهدهم على المطوعين وهم منهم، اهتماماً بشأنهم والجُهد بضمّ الجيم الطاقة. وأطلقت الطاقة على مسبّبها الناشئ عنها.
وحُذف مفعول {يجدون} لظهوره من قوله: {الصدقات} أي لا يجدون ما يتصدّقون به إلاّ جهدهم.
والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدّقون به إلاّ طاقتهم، أي جُهد أبدانهم. أو يكونُ وجَدَ هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة، أي غنىً فلا يقدر له مفعول، أي الذين لا مال لهم إلاّ جُهدهم وهذا أحسن.
وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنّها تقوم مقام المال.
وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل.
والسخرية: الاستهزاء. يقال: سخر منه، أي حصلت السخرية له من كذا، فمن اتّصالية.
واختير المضارع في يلمزون ويسخَرون للدلالة على التكرر.
وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسَّنتْه المشاكلة لفعلهم، والمعنى أنّ الله عامَلَهم معاملةً تُشبه سخرية الساخر، على طريقة التمثيل، وذلك في أنْ أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمناً ثم أمْرِه بفضحهم.
ويجوز أن يكون إطلاق سَخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل، أي احتقرهم ولعنهم ولمّا كان كلّ ذلك حاصلاً من قبل عبّر عنه بالماضي في {سخر الله منهم
وجملة: ولهم عذاب أليم} عطف على الخبر، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة.
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}
هذا استئناف ابتدائي ليس متصلاً بالكلام السابق، وإنّما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم، وفي الآية ما يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لهم.
روى المفسّرون عن ابن عباس أنّه لمّا نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله: {سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} [التوبة: 79]. قال فريق منهم: استغفر لنا يا رسول الله، أي ممّن صدر منه عمل وبِّخُوا عليه في القرآن دون تصريح بأنّ فاعله منافق فوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستغفر للذين سألوه. وقال الحسن: كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه، ويقولون: إن أردْنا إلاّ الحسنى. وذلك في معنى الاستغفار، أي طلب مَحْومَا عُدّ عليهم أنّه ذنب، يريدون أنّه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم. وعن الأصمّ أنّ عبد الله بنَ أُبي بن سَلول لمّا ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكّر الناس له من كلّ جهة لقيه رجل من قومه فقال له: ارجع إلى رسول الله يستغفر لك، فقال: ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي. فنزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين (5، 6): {وإذا قيل لهم تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَوَوْا رُؤُوسَهم ورأيتَهم يَصُدُّون وهم مستكبرون سواءٌ عليهم أسْتَغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفر لهم لَن يغفرَ الله لهم} يعني فتكون هذه الآية مؤكّدةً لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعاً بين الروايات.
وعن الشعبي، وعروة، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة أنّ عبد الله بن أُبَيْ بن سلول مرض فسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي أن يستغفر له ففعل. فنزلت. فقال النبي إنّ الله قد رخَّص لي فسأزيدُ على السبعين فنزلت {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} [المنافقون: 6].
والذي يظهر لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أوحي إليه بآية سورة المنافقين، وفيها أنّ استغفاره وعدمه سواء في حقّهم. تأوَّلَ ذلك على الاستغفار غيرِ المؤكّد وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدّره من اعْتراضهم عن الإيماننِ أن يستغفر للمنافقين استغفاراً مكرّراً مؤكّداً عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه تعالى فيهديهم إلى الإيمان الحقّ. بما أنّ مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجرّ إلى تعلّق هديه بقلوبهم بأقلّ سبب، فيكون نزول هذه الآية تأيِيساً من رضى الله عنهم، أي عن البقية الباقية منهم تأييساً لهم ولمن كان على شاكلتهم ممّن اطّلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنّهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار، فالآية تأييس من غير تعيين.
وصيغة الأمر في قوله: {استغفر} مستعملة في معنى التسوية المراد منها لازمها وهو عدم الحذر من الأمر المباح، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي تَرد صيغة الأمر لإفادتها كثيراً، وعدَّ علماءُ أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثّلوه بقوله تعالى:
{اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16].
فأمَّا قوله: {أو لا تستغفر لهم} فموقعه غريب ولم يُعْنَ المفسّرون والمعرِبون ببيانه فإنّ كونه بعد {لا} مجزوماً يجعله في صورة النهي، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة. فلا يتأتّى منه معنىً يعادل معنى التسوية التي استُعمل فيها الأمر. ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر
وتأويل الآية:
إمّا أن تكون {لا} نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفاً على فعل الأمر فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره الأخفش من البصريين، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص، شيخ أبي حيّان، وهو الحقّ لأنّه لو كان مبنياً للزم حالةً واحدةً، ولأنّ أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظاً في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهّم.
ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنّه لا وجه لِجزم الفعل لو كان كذلك، لا سيما والأمر مؤول بالخبر، ثم إنّ ما أفاده حرف التخيير قد دلّ على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما.
وإمّا أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنّها قارنت الأمر الدالّ على إرادة التسوية ويكون المعنى: أمرك بالاستغفار لهم ونهيُك عنه سواء، وذلك كناية عن كون الآمِر والناهي ليس بمغيِّر مراده فيهم سواء فُعل المأمور أو فُعل المنهي ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف. والتقدير: نقول لك: استغفر لهم، أو نقول لا تستغفر لهم.
و {سبعين مرة} غير مراد به المقدارُ من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة. قال «الكشاف»: «السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر». ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين غُفر له لزدت " وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب. وأمّا ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وسأزيد على السبعين " فهو توهم من الراوي لمنافاته روايةَ عمرَ بن الخطاب، وروايةُ عمَر أرجح لأنّه صاحب القصّة، ولأنّ تلك الزيادة لم تُرو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي.
وانتصب {سبعين مرة} على المفعولية المطلقة لبيان العدد. وتقدّم الكلام على لفظ مرّة عند قوله تعالى: {وهم بدأوكم أول مرة} في هذه السورة (13).
وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم اللَّهُ نفاقهم وأعلم نبيئَه عليه الصلاة والسلام بهم. وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغتراراً بظاهر حالهم. وكان النبي يُجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامّة المسلمين، والقرآن ينعتهم بسيماهم كيلا يطمئنّ لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم، فبذلك قُضي حقّ المصالح كلّها.
ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] لأنّ المشركين كفرُهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحاً، وكُفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفزة لهم منوطاً بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول عليه الصلاة والسلام ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاماً بباطن حاله الذي اقتضت حكمةُ الشريعة عدمَ كشفه. وقال في أبي طالب: «لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك» فلمّا نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأنّ صلاة الجنازة من الاستغفار ولمّا مات عبدُ الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين بعد نزول هذه الآية وسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فصلّى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبيء صلى الله عليه وسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه، قال له على سبيل الرد «إنّما خَيّرني الله»، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى، ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وكذلك في لفظ عدد {سبعين مرة} استقصاء لمظنّة الرحمة على نحو ما أصّلناه في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا التفسير.
والإشارةُ في قوله: {ذلك بأنهم كفروا} لانتفاء الغفران المستفاد من قوله: {فلن يغفر الله لهم}.
والباء للسببية، وكفرهم بالله هو الشرك. وكفرهم برسوله جحدهم رسالته صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عليه كافر.
ومعنى {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أنّ الله لا يُقَدّر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم، أي بُعدهِم عن التأمّل في أدلّة النبوءة، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طُبع على قلبه فلا يقبل الهُدى فمعنى {لا يهدي} لا يخلق الهُدى في قلوبهم.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
استئناف ابتدائي. وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلّفين خصوص من تخلّف عن غزوة تبوك من المنافقين.
ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أنّ فرحهم بتخلّفهم قد قَوِي لمّا استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنّوا أنّهم استغفلوه فقضَوا مأربهم ثم حصَّلوا الاستغفار ظنّاً منهم بأنّ معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور.
فالمخلَّفون هم الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذِن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلّفين بصيغة اسم المفعول لأنّ النبي خلَّفهم، وفيه إيماء إلى أنّه ما أذن لهم في التخلّف إلاّ لعلمه بفساد قلوبهم، وأنّهم لا يغنون عن المسلمين شيئاً كما قال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} [التوبة: 47].
وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنّهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلّف نكداً عليهم ونغصاً كما وقع للثلاثة الذين خلّفوا فتاب الله عليهم.
والمَقْعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم.
و {خِلاَف} لغة في خَلْف. يقال: أقام خلاف الحي بمعنى بَعدهم، أي ظعنوا ولم يظعن. ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خَلْف أنّه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلّهم للغزو. ولذلك جعله بعضُ المفسّرين منصوباً على المفعول له، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول.
وكراهيتُهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأنّ الله أمر بذلك في الآية المتقدمة {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41] الآية، ولكونها خصلةً أخرى جُعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أنّ فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد.
وقولُهم: {لا تنفروا في الحر} خطابُ بعضهم بعضاً وكانت غزوة تبوك في وقت الحرّ حين طابت الظلال.
وجملة: {قل نار جهنم أشد حراً} مستأنفة ابتدائية خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام.
وكونُ نار جهنّم أشدّ حرّاً من حرّ القيظ أمر معلوم لا يتعلّق الغرض بالإخبار عنه. فتعيّن أنّ الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضاً بتجهيلهم لأنّهم حذروا من حرّ قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حرّ أشدّ. فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنّم لأجل قعودهم عن الغزو في الحرّ، وفيه كناية عُرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنّم.
وجملة: {لو كانوا يفقهون} تتميم، للتجهيل والتذكير، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى، ولكنّهم لا يفقهون، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة، إذا ليس المراد لو كانوا يفقهون أنّ نار جهنم أشدّ حرّاً لأنّه لا يخفى عليهم ولو كانوا يفقهون أنّهم صائرون إلى النار ولكنّهم لا يفقهون ذلك.
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
تفريع كلام على الكلام السابق مِن ذِكر فَرحهم، ومِن إفادة قوله: {قل نار جهنم أشد حراً} [التوبة: 81] من التعريض بأنّهم أهلها وصائرون إليها.
والضحك هنا كناية عن الفرح أو أريد ضحكهم فرحاً لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي صلى الله عليه وسلم إذْ أذن لهم بالتّخلّف.
والبكاء: كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعاً إذ جعلا من أمر الله أو هو أمر تكوين مثل قوله: {فقال لهم الله موتوا} [البقرة: 243] والمعنى أنّ فرحهم زائل وأنّ بكاءهم دائم.
والضحك: كيفية في الفم تتمدّد منها الشفتان وربّما أسفرتا عن الأسنان وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجّب من الحُسن.
والبكاءُ: كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف. ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب.
وقوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل لأنّه سلب نعمة بنقمة عظيمة.
وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه لأنّه أشمل مع الإيجاز.
وفي ذكر فعل الكَون، وصيغة المضارع في {يكسبون} ما تقدّم في قوله: {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [التوبة: 70].
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}
الفاء للتفريع على ما آذن به قوله: {قل نار جهنم أشد حراً} [التوبة: 81] إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم.
وفعل رجع يكون قاصراً ومتعدّياً مرادفاً لأرجع. وهو هنا متعدّ، أي أرجعك الله.
وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلّفين على وجه الإيجاز لأنّ المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدّث عنها بقرينة قوله: {فاستئذنوك للخروج} ولمّا كان المقصود بيان معاملته مع طائفة، اختُصر الكلام، فقيل: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم}، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسّرين وجعلوه الإرجاع من سفَر تبوك مع أنّ السورة كلّها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي، أي تكرّر الخوض معهم مرّة أخرى.
والطائفة: الجماعة وتقدّمت في قوله تعالى: {يغشى طائفة منكم} في سورة آل عمران (154). أو قوله: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102).
والمراد بالطّائفة هنا جماعة من المخلّفين دل عليها قوله: فاستئذنوك للخروج} أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعاً في الغنيمة أو نحو ذلك. ويجوز أن يكون طائفة من المخلّفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو. وعلى الوجهين يحتملُ أنّ منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرّد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا وآمنوا.
وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين.
والجمع بين النفي ب {لن} وبين كلمة {أبداً} تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين.
وجملة: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ، أي إنّكم تحبّون القعود وترضون به فقد زدتُكم منه.
وفعل: {رضيتم} يدلّ على أنّ ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس حتّى أطلق على ارتكابه فعل رَضِي المشعرُ بالمحاولة والمراوضة. جُعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتّى يرضيها كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] وقد تقدّم ذلك.
وانتصب {أول مرة} هنا على الظرفية لأنّ المرّة هنا لمّا كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان. وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم، بخلاف انتصابها في قوله: {وهم بدأوكم أول مرة} [التوبة: 13] وفي قوله: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 80] كما تقدّم. و{أول مرة} هي غزوة تبوك التي تخلّفوا عنها.
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأنّ في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية.
والفاء في {فاقعدوا} تفريع على {إنكم رضيتم بالقعود}، أي لمَّا اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنّكم تحبّون التخلّف.
و {الخالفين} جمع خالف وهو الذي يخلُف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك.
من لا غناء له في الحرب. فكونهم مع الخالفين تعيير لهم.
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}
لمّا انقضى الكلام على الاستغفار للمنافقين الناشئ، عن الاعتذار والحلف الكاذبيْن وكان الإعلام بأن الله لا يغفر لهم مشوباً بصورة التخيير في الاستغفار لهم، وكان ذلك يبقي شيئاً من طمعهم في الانتفاع بالاستغفار لأنهم يحسبون المعاملة الربانية تجري على ظواهر الأعمال والألفاظِ كما قدمناه في قوله: {فرح المخلفون} [التوبة: 81]، تهيَّأ الحال للتصريح بالنهي عن الاستغفار لهم والصلاةِ على موتاهم، فإنّ الصلاة على الميت استغفار.
فجملة {ولا تصل} عطف على جملة {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80] عطفَ كلام مراد إلحاقه بكلام آخر لأنّ القرآن ينزل مراعىً فيه مواقع وضع الآي.
وضمير {منهم} عائد إلى المنافقين الذين عُرفوا بسيماهم وأعمالهم الماضية الذكر.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري والترمذي من حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب قال: «لما مات عبد الله بنُ أبَيّ بن سَلُول دُعِي له رسول الله ليصلي عليه، فلمّا قام رسول الله وثَبْتُ إليه فقلت: يا رسول الله أتصلّي على ابن أُبيّ وقد قال يومَ كذَا وكذا، كذا وكذا أعَدّدُ عليه قولَه، فتبسّم رسول الله وقال: " أخِّرْ عنّي يا عمرُ " فلمّا أكثرت عليه قال: " إنّي خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها " قال: فصلى عليه رسول الله ثم انصرف فلم يمكث إلاّ يسيراً حتّى نزلتْ الآيتان من براءة {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} إلى قوله: {وهم فاسقون} قال: فعجبت بعدُ من جُرْأتِي على رسول الله واللَّهُ ورسوله أعلم اه». وفي رواية أخرى فلم يصل رسول الله على أحد منهم بعد هذه الآية حتى قُبض صلى الله عليه وسلم وإنّما صلّى عليه وأعطاه قميصه ليكفّن فيه إكراماً لابنه عبدِ الله وتأليفاً للخزرج.
وقوله: {منهم} صفة {أحدٍ}. وجملة {مات} صفة ثانية ل {أحد}.
ومعنى {ولا تقم على قبره} لا تقفْ عليه عند دفنه لأنّ المشاركة في دفن المسلم حقّ على المسلم على الكفاية كالصلاة عليه فتركُ النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم وحضور دفنهم إعلان بكفر من ترك ذلك له.
وجملة: {إنهم كفروا بالله ورسوله} تعليلية ولذلك لم تعطف وقد أغنى وجود (إنَّ) في أولها عن فاء التفريع كما هو الاستعمال.
والفسق مراد به الكفر فالتعبير ب {فاسقون} عوض (كافرون) مجرّد تفنّن. والأحسن أن يفسّر الفسق هنا بالخروج عن الإيمان بعد التلبّس به، أي بصورة الإيمان فيكون المراد من الفسق معنى أشنعَ من الكفر.
وضمائر {إنهم كفروا وماتوا وهم فاسقون} عائد إلى {أحدٍ} لأنّه عام لكونه نكرة في سياق النهي والنهي كالنفي. وأمّا وصفه بالإفراد في قوله {مات} فجرى على لفظ الموصوف لأنّ أصل الصفة مطابقة الموصوف.
{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}
الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون، أي لا تعجبكم، والجملة معطوفة على جملة النهي عن الصلاة عليهم.
ومناسبة ذكر هذا الكلام هنا أنّه لما ذُكر ما يدلّ على شقاوتهم في الحياة الآخرة كان ذلك قد يثير في نفوس الناس أنّ المنافقين حصلوا سعادة الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد وخسروا الآخرة. وربما كان في ذلك حيرة لبعض المسلمين أن يقولوا: كيف مَنَّ الله عليهم بالأموال والأولادِ وهم أعداؤه وبُغضاء نبيئه. وربما كان في ذلك أيضاً مسلاة لهم بين المسلمين، فأعلم الله المسلمين أنّ تلك الأموال والأولاد وإن كانت في صورة النعمة فهي لهم نقمة وعذاب، وأنّ الله عذّبهم بها في الدنيا بأن سلبهم طمأنينة البال عليها لأنّهم لما اكتسبوا عداوة الرسول والمسلمين كانوا يحذرون أن يُغريَ اللَّهُ رسوله بهم فيستأصلهم، كما قال: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61]، ثم جعل ذلك مستمراً إلى موتهم على الكفر الذي يصيرون به إلى العذاب الأبدي.
وقد تقدّم نظير هذه الآية في هذه السورة عند ذكر شحّهم بالنفقة في قوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} [التوبة: 53] الآيتين، فأفيد هنالك عدم انتفاعهم بأموالهم وأنّها عذاب عليهم في الدنيا، ثم أعيدت الآية بغالب ألفاظها هنا تأكيداً للمعنى الذي اشتملت عليه إبلاغاً في نفي الفتنة والحيرة عن الناس.
ولكن هذه الآية خالفت السابقة بأمور:
أحدها: أنّ هذه جاء العطف في أولها بالواو والأخرى عطفت بالفاء. ومناسبة التفريع هنالك تقدّم بيانها، ومناسبَة عدم التفريع هنا أنّ معنى الآية هذه ليس مفرّعاً على معنى الجملة المعطوف عليها ولكن بينهما مناسبة فقط.
ثانيها: أنّ هذه الآية عطف فيها الأولادُ على الأموال بدون إعادة حرف النفي، وفي الآية السالفة أعيدت (لا) النافية، ووجه ذلك أنّ ذكر الأولاد في الآية السالفة لمجرد التكملة والاستطراد إذ المقام مقام ذمّ أموالهم إذ لم ينتفعوا بها فلمّا كان ذكر الأولاد تكملة كان شبيهاً بالأمر المستقلّ فأعيد حرف النفي في عطفه، بخلاف مقام هذه الآية فإنّ أموالهم وأولادهم معاً مقصود تحقيرهما في نظر المسلمين.
ثالثها: أنّه جاء هنا قوله: {إنما يريد الله أن يعذبهم} بإظهار {أن} دون لام، وفي الآية السالفة {إنما يريد الله ليعذبهم} [التوبة: 55] بذكر لام التعليل وحذف (أن) بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} إلى قوله {والله يريد أن يتوب عليكم} في سورة النساء (26، 27). وحذف حرف الجرّ مع (أنْ) كثير. وهنالك قدرت أنْ بعد اللام وتقدير (أن) بعد اللام كثير.
ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنّن على أنّ تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة، وقيل: تفيد التعليل. وسمّاها بعض أهل اللغة (لامَ أنْ)، وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} في سورة النساء (26).
رابعها:} أنّه جاء في هذه الآية {أن يعذّبهم بها في الدنيا} وجاء في الآية السالفة {في الحياة الدنيا} [التوبة: 55] ونكتة ذلك أنّ الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة. وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} [التوبة: 84] فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثاً.
وبقية تفسير هذه الآية كتفسير سالفتها
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)}
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتِبها في القبول. دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقاً وتخذيلا للمسلمين، ابتداء من قوله: {يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] ثم قوله: {لو كان عرضاً قريباً} [التوبة: 42] وكلّ ذلك مقصود به المنافقون.
ولأجل كون هذه الآية غرضاً جديداً ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد. والمراد بها هذه السورة، أي سورة براءة، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92] فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة.
وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله: {استأذنك أولوا الطول منهم}.
والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفاً وقبيل هذا.
ولمّا كانت السورةُ ألفاظاً وأقوالاً صحّ بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله: {أن آمنوا بالله} تفسير للسورة و{أنْ} فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبهُ بدل البعض من الكلّ.
وليس المراد لفظ {آمنوا} وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله: {يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} [التوبة: 38] الآيات وقوله: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [التوبة: 44].
والطَّوْل: السعة في المال قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء: 25] وقد تقدّم. والاقتصار على الطّول يدلّ على أنّ أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن. فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادراً ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدلّ عليه قوله بعدُ {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91].
والمراد بأولِي الطول أمثال عبد الله بن أبَيّ بن سَلول، ومعتّب بن قشير، والجِدّ بن قيس.
وعطف {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} على {استئذنك} لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود. وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأنّ الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأنْ ابتُدئ ب {ذَرْنا} المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة. وبأن يكونوا تبعاً للقاعدين الذين فيهم العُجَّز والضعفاء والجبناء، لما تؤذن به كلمة {مع} من الإلحاق والتبعية.
وقد تقدّم أن (ذَرْ) أمر من فعل ممات وهو (وَذَرَ) استغنَوا عنه بمرادفه وهو (تَرك) في قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً} في سورة الأنعام (70).
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}
استئناف قصد منه التعجيب من دناءة نفوسهم وقلّة رجلتهم بأنّهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا تبعاً للنساء. وفي اختيار فعل {رضوا} إشعار بأنّ ما تلبسوا به من الحال من شأنه أن يتردّد العاقل في قبوله كما تقدّم في قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] وقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} [التوبة: 83].
والخوالف: جمع خالفة وهي المرأة التي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها فإن سافرت معه فهي الظعينة، أي رضوا بالبقاء مع النساء.
والطبع تمثيل لحال قلوبهم في عدم قبول الهدى بالإناء أو الكتاب المختوم. والطبع مرادف الختم. وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} في سورة البقرة (7). وأسند الطبع إلى المجهول إمّا للعلم بفاعله وهو الله، وإمّا للإشارة إلى أنّهم خلقوا كذلك وجبلوا عليه وفرع على الطبع انعدام علمهم بالأمور التي يختصّ بعلمها أهل الأفهام، وهو العلم المعبّر عنه بالفقه، أي إدراك الأشياء الخفيّة، أي فآثروا نعمة الدعة على سُمعة الشجاعة وعلى ثواب الجهاد إذ لم يدركوا إلاّ المحسوسات فلذلك لم يكونوا فاقهين وذلك أصل جميع المَضار في الداريْن.
وجيء في إسناد نفي الفقاهة عنهم بالمسند الفعلي للدلالة على تقوّي الخبر وتحقيق نسبته إلى المخبر عنهم وتمكّنه منهم.
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)}
افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأنّ مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلاً وتفريعاً. فلمّا كان قعود المنافقين عن الجهاد مسبباً على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون على الضدّ من ذلك. وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأنّ تعلّقهم به واتّباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرِهم، فقيل: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا}.
وقوله: {بأموالهم وأنفسهم} مقابل قوله: {استأذنك أولُوا الطَّوْل منهم} [التوبة: 86].
وقوله: {وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} مقابل قوله: {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [التوبة: 87] كما تقدّم.
وفي حرففِ الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسولَ كقوله: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89].
وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالهم وأنفسكم} [التوبة: 41].
وفي قوله: {والذين آمنوا معه} تعريض بأنّ الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين.
و {معه} في موضع الحال من {الذين} لتدلّ على أنّهم أتباع له في كلّ حال وفي كلّ أمر، فإيمانهم معه لأنّهم آمنوا به عند دعوته إيّاهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه، وفيه إشارة إلى أنّ الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته.
وعُطفت جملة: {وأولئك لهم الخيرات} على جملة {جاهدوا} ولم تُفصل مع جواز الفصل ليُدَلّ بالعطف على أنّها خبر عن الذين آمنوا، أي على أنّها من أوصافهم وأحوالهم لأنّ تلك أدلّ على تمكّن مضمونها فيهم من أن يُؤتى بها مستأنفة كأنّها إخبار مستأنف.
والإتيان باسم الإشارة لإفادة أنّ استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم.
والخيرات: جمع خَيْر على غير قياس. فهو ممّا جاء عَلى صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامَته مثل سرادقات وحمَّامات.
وجعله كثير من اللغويين جمع (خَيْرَة) بتخفيف الياء مُخفّف (خَيِّرة) المشدّد الياء التي هي أنثى (خَيِّر)، أو هي مؤنّث (خَيْر) المخفّف الياء الذي هو بمعنى أخْير. وإنّما أنّثوا وصف المرأة منه لأنّهم لم يريدوا به التفضيل، وعلى هذا كلّه يكون خيرات هنا مؤولاً بالخصال الخيّرة، وكلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر. والمراد منافع الدنيا والآخرة. فاللام فيه للاستغراق. والقول في {وأولئك هم المفلحون كالقول في نظيره في أول سورة البقرة.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}
استئناف بياني لجواب سؤال ينشأ عن الإخبار ب {وأولئك لهم الخيرات} [التوبة: 88].
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والتهمّم بشأنهم. وتقدّم القول في نظير هذه الآية في قوله قبلُ {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} [التوبة: 72] الآية.
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}
عُطِفت جملة: وجاء المعذرونوَجَآءَ المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ} على جملة {استأذنك أولوا الطول منهم} [التوبة: 86]، وما بينهما اعتراض، فالمراد بالمعذّرين فريق من المؤمنين الصادقين من الأعراب، كما تدلّ عليه المقابلة بقوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله}. وعلى هذا المعنى فسَّر ابن عبّاس، ومجاهد، وكثير. وجعلوا من هؤلاء غفاراً، وخالفهم قتادة فجعلهم المعتذرين كَذِباً، وهم بَنو عامر رهطُ عامرٍ بن الطُفيل، قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم إن خرجْنا معك أغارت أعراب طيء على بيوتنا. ومن المعذّرين الكاذبين أسَد، وغَطَفان.
وعلى الوجهين في التفسير يختلف التقدير في قوله: {المعذورون} فإن كانوا المحقين في العذر فتقدير {المعذرون} أنّ أصله المعتذرون، من اعتذر أدغمت التاء في الذال لتقارب المخرجين لقصد التخفيف، كما أدغمت التاء في الصاد في قوله: {وهم يخصمون} [يس: 49]، أي يختصمون.
وإن كانوا الكاذبين في عذرهم فتقدير المعذرون: أنّه اسم فاعل من عَذَّر بمعنى تكلّف العذر فعن ابن عباس: لعن الله المعذرين. قال الأزهري: ذهب إلى أنّهم الذين يعتذرون بلا عُذر فكأن الأمر عنده أنّ المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً وهو لا عُذر له اه. وقال شارح «ديوان النابغة» عند قول النابغة:
وَدّعْ أمامة والتوديع تَعْذير *** أي لاَ يجد عُذراً غير التوديع.
ويجوز أن يكون اختيار صيغة المعذّرين من لطائف القرآن لتشمل الذين صدقوا في العذر والذين كذبوا فيه.
والاعتذار افتعال من باب ما استعمل فيه مادة الافتعال للتكلّف في الفعل والتصرّف مثل الاكتساب والاختلاق. وليس لهذا المزيد فعل مجرّد بمعناه وإنّما المجرد هو عَذَر بمعنى قبل العذر. والعذر البيّنة والحالة التي يتنصل المحتج بها من تبعة أو مَلام عند من يعتذر إليه.
وقرأ يعقوب {المعذِرون} بسكون العين وتخفيف الذال، من أعذر إذا بالغ في الاعتذار.
والأعراب اسم جمع يقال في الواحد: أعرابي بياء النسب نسبة إلى اسم الجمع كما يقال مَجوسي لواحد المجوس. وصيغة الأعراب من صيغ الجموع ولكنّه لم يكن جمعاً لأنّه لا واحد له من لفظ جمعه فلذلك جعل اسمَ جمع. وهم سكان البادية.
وأمّا قوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} فهم الذين أعلنوا بالعصيان في أمر الخروج إلى الغزو من الأعراب أيضاً كما يُنبئ عنه السياق، أي قعدوا دون اعتذار. فالقعود هو عدم الخروج إلى الغزو. وعلم أنّ المراد القعود دون اعتذار من مقابلته بقوله: {وجاء المعذرون من الأعراب}.
وجملة: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} عطف على جملة: {وجاء المعذرون من الأعراب} وهذا فريق آخر من الأعراب خليط من مسلمين ومنافقين {كذبوا} بالتخفيف، أي كانوا كاذبين، والمراد أنّهم كذبوا في الإيمان الذي أظهروه من قبلُ، ويحتمل أنّهم كذبوا في وعدهم النصر ثم قعدوا دون اعتذار بحيث لم يكن تخلّفهم مترقّباً لأنّ الذين اعتذروا قد علم النبي عليه الصلاة والسلام أنّهم غير خارجين معه بخلاف الآخرين فكانوا محسوبين في جملة الجيش. وتخلّفُهم أشدّ إضرار لأنّه قد يَفُلّ من حِدّة كثير من الغزاة.
وجملة: {سيصيب الذين كفروا} مستأنفة لابتداءِ وعيد.
وضمير {منهم} يعود إلى المذكورين فهو شامل للذين كذبوا الله ورسوله ولمن كان عذره ناشئاً عن نفاق وكذب.
وتنكير عذاب للتهويل والمراد به عذاب جهنّم.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}
استئناف بياني لجواب سؤال مقدّر ينشأ عن تهويل القعود عن الغزو وما توجّه إلى المخلّفين من الوعيد. استيفاءً لأقسام المخلّفين من ملوم ومعذور من الأعراب أو من غيرهم.
وإعادة حرف النفي في عطف الضعفاء والمرضى لتوكيد نفي المؤاخذة عن كلّ فريق بخصوصه.
والضعفاء: جمع ضعيف وهو الذي به الضعف وهو وهن القوة البدنية من غير مرض.
والمرضَى: جمع مريض وهو الذي به مرض. والمرض تغيّر النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج، ومن المرض المزمنُ كالعمى والزمانة وتقدم في قوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} في سورة النساء (43).
والحرج: الضِيق ويراد به ضيق التكليف، أي النهي.
والنصح: العمل النافع للمنصوح وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} في سورة الأعراف (79) وتقدّم وجه تعديته باللام وأطلق هنا على الإيمان والسعي في مرضاة الله ورسوله والامتثال والسعي لما ينفع المسلمين، فإنّ ذلك يشبه فعل الموالي الناصح لمنصوحه.
وجملة: ما على المحسنين من سبيل} واقعة موقع التعليل لنفي الحرج عنهم وهذه الجملة نُظِمت نَظْم الأمثال. فقوله: {ما على المحسنين من سبيل} دليل على علّة محذوفة. والمعنى ليس على الضعفاء ولا على من عُطف عليهم حرج إذا نصحوا لله ورسوله لأنّهم محسنون غير مسيئين وما على المحسنين من سبيل، أي مؤاخذة أو معاقبة والمحسنون الذين فَعلوا الإحسان وهو ما فيه النفع التامّ.
والسبيل: أصله الطريق ويطلق على وسائل وأسباب المؤاخذة باللوم والعقاب لأنّ تلك الوسائل تشبه الطريق الذي يصل منه طالب الحقّ إلى مكان المحقوق، ولمراعاة هذا الإطلاق جُعل حرف الاستعلاء في الخبر عن السبيل دون حرف الغاية. ونظيره قوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء: 34] وقوله: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} كلاهما في سورة النساء (90). فدخل في المحسنين هؤلاء الذين نصحوا لله ورسوله. وليس ذلك من وضع المظهر موضع المضمر لأنّ هذا مرمَى آخر هو أسمى وأبعد غاية.
ومِنْ} مؤكّدة لشمول النفي لكلّ سبيل.
وجملة {والله غفور رحيم} تذييل والواو اعتراضية، أي شديد المغفرة ومن مغفرته أن لم يؤاخذ أهل الأعذار بالقعود عن الجهاد. شديد الرحمة بالناس ومن رحمته أن لم يكلّف أهل الأعذار ما يَشق عليهم.
{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}
عطف على {الضعفاء والمرضى} [التوبة: 91] وإعادة حرف النفي بعد العاطف للنكتة المتقدّمة هنالك.
والحَمل يطلق على إعطاء ما يُحمل عليه، أي إذا أتوك لتعطيهم الحُمولة، أي ما يركبونه ويحملون عليه سلاحهم ومُؤَنهم من الإبل.
وجملة: {فلت لا أجد} إلخ إمّا حال من ضمير المخاطب في {أتوك} وإمّا بدل اشتمال من فعل {أتوك} لأن إتيانهم لأجل الحمل يشتمل على إجابة، وعلى منع.
وجملة {تولوا} جواب {إذا} والمجموع صلة الذين.
والتولّي الرجوع. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ما ولاهم عن قبلتهم} [البقرة: 142] وقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض} في سورة البقرة (205).
والفيض والفيضان: خروج الماء ونحوه من قراره ووعائه، ويسند إلى المائع حقيقة. وكثيراً ما يسند إلى وعاء المائع، فيقال: فاض الوادي، وفاض الإناء. ومنه فاضت العين دمعاً وهو أبلغ من فاض دمعها، لأنّ العين جعلت كأنّها كلّها دمع فائض، فقوله: تفيض من الدمع} جرى على هذا الأسلوب.
و {من} لبيان ما منه الفيض. والمجرور بها في معنى التمييز. وقد تقدّم في قوله تعالى: {ترى أعينهم تفيض من الدمع} في سورة المائدة (83).
وحَزَناً} نصب على المفعول لأجله، و{أن لا يجدوا ما يُنفقون} مجرور بلام جرّ محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل: فيهم من غير الأنصار واختلف أيضاً في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولُقّبوا بالبكّائين لأنّهم بكَوا لمّا لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُملان حزناً على حرمانهم من الجهاد. وقيل: نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى الله عليه وسلم فحلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا: استغفلْنا رسولَ الله يمينَه لا نفلح أبداً، فرجعوا وأخبروه فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإنّي والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ كفَّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير» والظاهر أنّ هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأنّ الأشعريين قد حملهم النبي عليه الصلاة والسلام وعن مجاهد أنّهم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قيل: إنّه نزل فيهم قوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 99] الآية.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}
لما نفت الآيتان السابقتان أن يكون سبيلٌ على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعدُ {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} [التوبة: 94]، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نُفي أن يكون عليهم سبيل.
وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق، أي لا سبيل عقاببٍ إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء. والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله} [التوبة: 86] الآية.
والسبيل: حقيقته الطريق. ومرّ في قوله: {مَا على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91]. وقوله: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يَتوصل بها من هي له إلى تنفيذ المؤاخذة في الغير. ولذلك عُدّي بحرف (على) المفيد لمعنى الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول (على). فكان هذا التركيب استعارةً مكنية رُمز إليها بما هو من مُلائمات المشبه به وهو حرف (على). وفيه استعارة تبعية.
والتعريف باللام في قوله: {إنما السبيل} تعريف العهد، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنونك وهم أغنياء. ونظير هذا قوله تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} في سورة الشورى (42). فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب.
والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف. وقد سبقت آية {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} من سورة النساء (90)، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية.
وجملة: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء. وقد تقدم القول في نظيره آنفاً.
وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة {وطُبع على قلوبهم} [التوبة: 87] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية، ولأجل هذا المعنى فرع عليه {فهم لا يعلمون} لنفي أصل العلم عنهم، أي يكادون أن يساووا العجماوات.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}
استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصراً على الذين يستأذنون في التخلف فإن الإذن لهم يُغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب، فضمير {يعتذرون} عائد إلى أقرب معاد وهو قوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} [التوبة: 90] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلاً مضارعاً لإفادة التجدد والتكرير.
و {إذا} هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر عند الرجوع.
والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين. والنهي في قوله: {لا تعتذروا} مستعمل في التأييس.
وجملة: {لن نؤمن} في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار، يقال: آمن له إذا صدقه. وقد تقدم في هذه السورة (61) قوله تعالى: {ويؤمن للمؤمنين}
وجملة: قد نبأنا الله من أخباركم} تعليل لنفي تصديقهم، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم، فالإبهام في المفعول الثاني ل {نبأنا} الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه.
و {مِن} اسم بمعنى بعض، أو هي صفة لمحذوف تقديره: قد نبأنا الله اليقين من أخباركم.
وجملة: {وسيرى الله عملكم} عطف على جملة {لا تعتذروا}، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخيرَ للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم. وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا.
فالإخبار برُؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من الدوام على حالهم. والمراد: تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم، ولذلك أردف بقوله: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}، أي تصيرون بعد الموت إلى الله. فالرد بمعنى الإرجاع، كما في قوله تعالى: {ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق} في سورة الأنعام (62).
والرد: الإرجاع. والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر. ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيهاً برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه.
والغيب: ما غاب عن علم الناس. والشهادة: المشاهدة. واللام في الغيب} و{الشهادة} للاستغراق، أي كل غيب وكل شهادة.
والعدول عن أن يقال: لم تردون إليه، أي إلى الله، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا أنه لا يخفى على الله شيء.
والإنباء: الإخبار. وما كنتم تعملون: علم كل عمل عملوه.
واستعمل {فينبئكم بما كنتم تعملون} في لازم معناه، وهو المجازاة على كل ما عملوه، أي فتجدونه عالماً بكل ما عملتموه. وهو كناية؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم مَلك يوم الدين بكل ما عملوه.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)}
الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم. ومعناها ناشئ عن مضمون جملة {لن نؤمن لكم} [التوبة: 94] تنبيهاً على أنهم لا يرعَوُون عن الكذب ومخادعة المسلمين، فإذا قيل لهم {لن نؤمن لكم} [التوبة: 94] حلفوا على أنهم صادقون ترويجاً لخداعهم: وهذا إخبار بما سيلاقِي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
و {إذا} هنا ظرف للزمن الماضي. وحذف المحلوف عليه لظهوره، ولتقدم نظيره في قوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} [التوبة: 42] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في قوله {انقلبتم على أعقابكم} في آل عمران (144).
وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم، أي عن عتابهم وتقريعهم، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطييب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملّص من مسبة العتاب ولَذْعِه. ولذلك قال في الآيتين الأخريين {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} [التوبة: 62] {يحلفون لكم لترضَوا عنهم} [التوبة: 96] لأنّ ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يُعرض المسلمون عنهم.
وأدخل حرف (عن) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم. ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله: {فأعرضوا عنهم}، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً.
وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنّه أجيبت طِلبته حتى إذا تأمّل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأساً لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملةَ المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أو من القول بالموجَب.
وجملة: {إنهم رجس} تعليل للأمر بالإعراض. ووقوع (إنّ) في أولها مؤذن بمعنى التعليل.
والرجس: الخبث. والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس. فهو رجس معنوي. كقوله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90].
والمأوى: المصير والمرجع.
و {جزاء} حال من {جهنم}، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} [التوبة: 95] لأنهم إذا حلفوا لأجل أن يعرض عنهم المسلمون فلا يلوموهم، فإن ذلك يتضمن طلبهم رضى المسلمين.
وقد فرّع الله على ذلك أنه إن رضي المسلمون عنهم وأعرضوا عن لومهم فإن الله لا يرضى عن المنافقين. وهذا تحذير للمسلمين من الرضى عن المنافقين بطريق الكناية إذ قد علم المسلمون أن ما لا يُرضي الله لا يكون للمسلمين أن يرضوا به.
والقوم الفاسقون هم هؤلاء المنافقون. والعدول عن الإتيان بضمير (هم) إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحلّ إلى: فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)}
استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب. فلما تقضَّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب. وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه، وهو لفظ (الأعراب) للاهتمام به من هذه الجهة، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيراً.
و (أشد) و(أجدر) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر، أي كفار ومنافقي المدينة. وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين.
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة. ومنافقوهم أشد نفاقاً من منافقي المدينة. وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعدِ عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفوراً. ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي، وكان يدعى الإسلام، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قَسمَه قال ذو الخويصرة مواجهاً النبي صلى الله عليه وسلم «اعدل» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك ومَن يعدل إن لم أعْدِل "
فإن الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام، وهُم لبعدهم عن مشاهدة أنوار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباحَ مساءَ أجهلُ بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي تؤثّر سُمّوا في النفوس البشرية، وإتقاناً في وضع الأشياء في مواضعها، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأضيع للتراث العلمي والخلقي؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذرّ لما عزم على سكنى الربذة: تَعَهَّد المدينةَ كيلا ترتَدَّ أعرابياً.
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به.
ويجوز أن يكون {أشد} و{أجدر} مسلوبَيْ المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفِين بهما على طريقة قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف: 33]. فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك، من غير إرادة أنهم أشد كفراً ونفاقاً من كفار أهل المدينة ومنافقيها.
وعلى كلا الوجهين فإن {كفراً ونفاقاً} منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف {أشد}. سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن.
والأجدر: الأحق. والجَدارة: الأولوية. وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع (أن) المصدرية.
والحدود: المقادير والفواصل بين الأشياء. والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها.
وفي هذا الوصف يَظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة. وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، فزيادة قيد (على ما هي عليه) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات.
وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم، أي عليم بهم وبغيرهم، وحكيم في تمييز مراتبهم.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله. وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفاً من الغزو أو حباً للمحمدة وسلوكاً في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم. وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافاً مَّا في أحوال المقسّم، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه.
فقوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً} هو في التقسيم كقوله: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 99]. ومعنى {يتخذ} يَعُد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل. والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة برداً. ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} [النحل: 91] فكذلك {يَتخذ} هنا.
والمَغرم: ما يدفع من المال قهراً وظُلماً، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية. ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام:
فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعياً *** هَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض
أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلاً عن الزكاة.
والتربص: الانتظار. والدوائر: جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} في سورة العقود (52).
والباء للسببية كقوله تعالى: {نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف. والتقدير: ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سبباً لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر. وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب.
وجملة: {عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فُصلت. والدعاء من الله على خلقه: تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده. وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين} في سورة البقرة (89).
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين. وإضافة دائرة} إلى {السوء} من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم: عِشاءُ الآخِرة. إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق:
فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس. والسَّوء بفتح السين المصدر، وبضمها الاسم. وقد قرأ الجمهور بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين. والمعنى واحد.
وجملة: {والله سميع عليم} تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}
هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله: {الأعراب أشد كفراً ونفاقاً} [التوبة: 97] وقوله {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرماً} [التوبة: 97]. قيل: هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92] الآية كما تقدم. ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني هو ابن مغفل. والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك. وتقدم قريباً معنى {يتخذ}.
و {قربات} بضم القاف وضم الراء: جمع قربة بسكون الراء. وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقرباً عند الله. وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب. قال تعالى: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب} [الإسراء: 57]. ف {قربات} هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت ب {عند} الدالة على مكان الدنو. و(عند) مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله. قال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 54، 55].
و {وصلوات الرسول} دعواته. وأصل الصلاة الدعاء. وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالاً لما أمره الله بقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة: 103]. وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبي أوْفَى»
ويجوز عطف {صلوات الرسول} على اسم الجلالة معمولاً ل {عند}، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقرباً كائناً في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهاً للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سبباً لدعاء الرسول لهم. فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين. ويجوز أن يكون {وصلوات الرسول} عطفاً على {قربات عند الله}، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول. أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى: {وصل عليهم} [التوبة: 103].
وجملة: {ألا إنها قربة لهم} مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه. وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم (إنَّ) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات. واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول. وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه. وتنكير {قربة} لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.
وجملة: {سيدخلهم الله في رحمته} واقعة موقع البيان لجملة {إنها قربة لهم}، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة. والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته. والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته. وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيراً ما يقال: دخل الجنة. قال تعالى: {وادخلي جنتي} [الفجر: 30].
وجملة: {إن الله غفور رحيم} تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم. وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.
وقرأ الجمهور {قرْبة} بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}
عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.
فالجملة عطف على جملة: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً} [التوبة: 98].
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدراً. وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله: {والأنصار} للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين. وفي «أحكام ابن العربي» ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي: أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض {الأنصار}. و{من} للتبعيض لا للبيان.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد.
وقرأ الجمهور {والأنصار} بالخفض عطفاً على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب {والأنصارُ} بالرفع، فيكون عطفاً على وصف {السابقون} ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان، أي آمنوا بعد السابقين: ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.
والإحسان: هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى:
{لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض} [الأحزاب: 60] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.
وجملة: {رضي الله عنهم} خبر عن {السابقون}. وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار.
وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.
وثبتت (مِن) في مصحف مَكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}
كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.
وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم.
وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت. و(مِن) في قوله {وممن حولكم} للتبعيض و(مِن) في قوله: {من الأعراب} لبيان (مَن) الموصولة.
و (مِن) في قوله: {ومن أهل المدينة} اسم بمعنى بعض. و{مردوا} وخبر عنه، أو تجعل (مِن) تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف، تقديره: ومن أهل المدينة جماعة مردوا، كما في قوله تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} في سورة النساء (46). ومعنى مرد على الأمر مَرِن عليه ودَرِب به، ومنه الشيطان المارد، أي في الشيطنة.
وأشير بقوله: لا تعلمهم نحن نعلمهم} إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يُطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبلُ. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمُون، فالمقصود هو قوله: {لا تعلمهم}.
وجملة {نحن نعلمهم} مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف. وفيه أيضاً تمهيد لقوله بعده {سنعذبهم مرتين}.
وجملة: {سنعذبهم مرتين} استيناف بياني للجواب عن سؤال يثيره قوله: {نحن نعلمهم}، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم. فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدمُ علم الرسول عليه الصلاة والسلام بهم. والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده {ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجوهاً لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] أي تأمل تأملاً متكرراً. ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذاباً شديداً متكرراً مضاعفاً، كقوله تعالى: {يضاعَف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
والعذاب العظيم: هو عذاب جهنم في الآخرة.
{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}
الأظهر أن جملة: {وءاخرون اعترفوا} عطف على جملة: {وممن حولكم} [التوبة: 101]، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة آخرون أذْنبوا بالتخلف فاعترفوا {اعترفوا بذنوبهم} بذنوبهم بالتقصير. فقوله: إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيّئ.
وكان من هؤلاء جماعة منهم الجِد بن قيس، وكردم، وأرس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لُبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سوارى المسجد النبوي أياماً حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم.
والاعتراف: افتعال من عَرف. وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه، ولا يُتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود.
وخلطهم العمل الصالح والسيّئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش.
وقوله: {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما. ويقال: خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط، والتركيبان متساويان في المعنى، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح.
وعسى: فعل رجاء. وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو، وأن الله قد تاب عليهم؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه.
ومعنى: {أن يتوب عليهم} أي يقبل توبتهم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} في سورة البقرة (37).
وجملة: إن الله غفور رحيم} تذييل مناسب للمقام.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملاً على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يُمكن تَدَارُكه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال، فالانفاقُ العظيم على غزوة تُبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حلّ بمال المسلمين.
فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها. وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا، فقال لهم: لم أومر بأن آخذ من أموالكم. حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم صدقاتهم، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم.
والتاء في {تطهّرهم} تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظراً لقوله: {خذ}، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة. وأيّاماً كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي.
والتزكية: جعل الشيء زكياً، أي كثير الخيرات. فقوله: {تطهرهم} إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله: {تزكيهم} إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.
والصلاة عليهم: الدعاء لهم. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {وصلوات الرسول} [التوبة: 99]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول: اللهم صل على آل فلان. كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يُسْأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدِق. والصلاة من الله الرحمة، ومن النبي الدعاء.
وجملة: {إن صلواتك سكن لهم} تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم، أي سبب سَكَن لهم، أي خير. فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل.
والسكن: بفتحتين ما يُسكَن إليه، أي يُطمأن إليه ويُرتاح به. وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي، وهو سكون النفس، أي سلامتها من الخوف ونحوه، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة، ولذلك سمي ذلك قلقاً لأن القلق كثرة التحرك. وقال تعالى: {وجاعل الليل سكناً} [الأنعام: 96] وقال: {والله جعل لكم من بيوتكم سكَناً} [النحل: 80]، ومن أسماء الزوجة السكن، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحاً وسكوناً إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب، كما قال تعالى: {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45]، والطاعة اطمئنان ويقين، كما قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}
[الرعد: 28].
وجملة: {والله سميع عليم} تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم. والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء. وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه. وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيراً عظيماً وصلاحاً في الأمور.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب {صلواتِك} بصيغة الجمع. وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صلاتك} بصيغة الإفراد. والقراءتان سواء، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام. فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103] مشيراً إلى ذلك، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله: {اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102] وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] كانت جملة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة} استينافاً بيانياً ناشئاً عن التعليل بقوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103]، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا، فيكون الاستفهام تقريراً مشوباً بتعجيببٍ من ترددهم في قبول توبتهم. والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه، ويكون ضمير {يعلموا} عائداً إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله: {والله سميع عليم} [التوبة: 103]، وكانت جملة: {ألم يعلموا} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها، وكان ضمير {ألم يعلموا} عائداً إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة، وكان الاستفهام إنكارياً.
ونُزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقةً، وكان الكلام أيضاً مسوقاً للتحْضيض.
وقوله: {وأن الله هو التواب الرحيم} عطف على {أن الله هو يقبل التوبة}، تنبيهاً على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العُلى أنه التواب الرحيم، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين، الرحيم لعباده، ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب {التواب} ب {الرحيم} في غاية المناسبة.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
عطف على جملة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة} [التوبة: 104] الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا، أي بعد قبول التوبة، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما قُبلت توبتهم كان حقاً عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يَلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود، ولذلك كان حذف مفعول {اعملوا} لأجل التعويل على القرينة، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح. والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية. وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.
وتفريع {فسيرى الله عملكم} زيادة في التحْضيض. وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى. وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: «هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
وعطف {ورسوله} على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم.
وعطف {المؤمنون} أيضاً لأنهم شهداء الله في أرضه ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حضيرة جماعة الصحابة فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار. وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه شزراً ويرونه قد جاء نكراً.
والرؤية المسندة إلى الله تعالى رؤية مجازية. وهي تعلق العلم بالواقعات سواء كانت ذواتتٍ مبصَراتتٍ أم كانت أحداثاً مسموعات ومعاني مدرَكات، وكذلك الرؤية المسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المعنى المجزى لقوله: {عملكم}.
وجملة: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} من جملة المقول. وهو وعد ووعيد معاً على حسب الأعمال، ولذلك جاء فيه {بما كنتم تعملون} وقد تقدم القول في نظيره آنفاً.
{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين. والمراد بهؤلاء من بقي من المخلَّفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفاً إلى أن يقضي الله بما يشاء. وهؤلاء نفر ثلاثة، هم: كعب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك. ولم يكن تخلفهم نفاقاً ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق. وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصَدَقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله. وفي تلك المدة نزلت هذه الآية {ثم تاب الله عليهم} [المائدة: 71]. وأنزل فيهم قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله {وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117 119].
وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في «صحيح البخاري». على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها. وقد جوز المفسرون عود ضمير {ألم يعلموا} [التوبة: 104] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما.
وقوله: {هو يقبل التوبة} [التوبة: 104] (هو) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر. و{عن عباده} [التوبة: 104] متعلقة ب {يقبل} لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها.
فكأنه قيل: يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده. وكان حق تعدية فعل (يقبل) أن يكون بحرف (من). ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال: لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز.
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد بِ {عباده} جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان.
والآية دليل على قبول التوبة قطعاً إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية. وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل. ومختلفٌ فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. مقبولة قطعاً. ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق. وادعى الإمام في «المعالم» الإجماعَ عليه وهي أولى بالقبول. وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري: إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه. وكأنَّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحاً.
وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفيةٍ أركانها وشروطها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} الآية في سورة النساء (17).
والأخذ في قوله: {ويأخذ الصدقات} [التوبة: 104] مستعمل في معنى القبول، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذاً حقيقياً، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مرجَوْن} بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجَاه بالألف، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره، فيقال في مضارعه المخفف: أرجيته بالياء، كقوله: {تُرجي من تشاء منهن} [الأحزاب: 51] بالياء، فأصل مُرجَون مُرْجَيُون. وقرأ البقية {مُرجَئُون} بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرئ {ترْجيءُ من تشاء} [الأحزاب: 51]. واللام في قوله: {لأمر الله} للتعليل، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم. وفيه حذف مضاف، تقديره: لأجل انتظار أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء.
وجملة: {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} بيان لجملة: {وآخرون مُرجَون} باعتبار متعلق خبرها وهو {لأمر الله}، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم، وإما توبته عليهم. ويفهم من قوله {يتوب عليهم} أنهم تابوا.
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذٍ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير. وذنبهم هو التخلف عن النفير العام، كما تقدم عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] الآية. وقبول التوبة عما مضى فضل من الله.
و {إما} حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء. ومعناها قريب من معنى (أو) التي للتخيير، إلا أن (إما) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو، و(أو) لا تدخل إلا على ثاني الاسمين. وكان التساوي بين الأمرين مع (إما) أظهر منه مع (أو) لأن (أو) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} في سورة الأعراف (115).
ويعذبهم ويتوب عليهم} فعلان في معنى المصدر حذفت (أن) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم: «تسمعُ بالمعيدي خير من أن تراه» لأن موقع ما بعد (إما) للاسم نحو {إما العذاب وإما الساعة} [مريم: 75] و{وإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً} [الكهف: 86].
وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم.
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر. ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله. وقرأها البقية بواو العطف في أولها، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها. وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد.
وقوله {الذين} مبتدأ وخبره جملة: {لا تقم فيه أبداً} كما قاله الكسائي. والرابط هو الضمير المجرور من قوله: {لا تقم فيه} لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ، إذ التقدير: لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً، أو في مسجدهم، كما قدره الكسائي. ومن أعربوا {أفمن أسس بنيانه} [التوبة: 109] خبراً فقد بعدوا عن المعنى.
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي. كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية. وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين. ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة. ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة. فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم، فبنوه بجانب مسجد قباء، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك. وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً.
والضرار: مصدر ضار مبالغة في ضر، أي ضِراراً لأهل الإسلام. والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء.
والإرصاد: التهيئة. والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ، فقوله: {من قبلُ} إشارة إلى ذلك، أي من قبل بناء المسجد.
وجملة: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} معترضة، أو في موضع الحال. والحسنى: الخير.
وجملة: {والله يشهد إنهم لكاذبون} معترضة.
وجملة: {لا تقم فيه أبداً} هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمْنا. والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام.
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يُمْناً وبَركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غُنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين. فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه. وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى. وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشياً مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه»، ففعلوا. وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السَّقف، والجذوععِ التي تجعل له أعمدة.
وقوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم.
وفيه أيضاً دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع، فقوله: {أحقُّ} وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقاً بصلاته فيه أصلاً.
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهراً في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقاً بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه {أسس على التقوى} أن هذا أسس على ضدها.
وثبت في «صحيح مسلم» وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال: «هو مسجدكم هذا». يعني المسجد النبوي بالمدينة. وثبت في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء. وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم، لقوله: {فيه رجالٌ}.
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى: {لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم} المسجد الذي هذه صفته لا مسجداً واحداً معيناً، فيكون هذا الوصف كلياً انحصر في فَردين المسجدِ النبوي ومسجدِ قُباء، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجدِ الضرار كانَ ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مَسجدهم، ومن مطاعنهم أيضاً، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين. وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبَه.
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام. وذلك ما انتزعه السهيلي في «الروض الأنف» في فصل تأسيس مسجدِ قباء إذ قال: «وفي قوله سبحانه: {من أول يوم} (وقد علم أنه ليس أولَ الأيام كلها ولا أضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عَام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل».
وجملة: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء. وجاء الضمير مفرداً مراعاة للفظ (مَسجد) الذي هو جنس، كالإفراد في قوله تعالى: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران: 119]. وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك.
وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} فقال: " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطُهور فما طُهوركم؟ قالوا: إنَّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: هو ذلك فعليكموه "، فهذا يعم الأنصار كلهم. ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضاً من الأنصار، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار.
وأطلقت المحبة في قوله: {يحبون} كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئاً ممكناً يعمله لا محالة. فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقرباً إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خُلقاً لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم.
وجملة: {والله يحب المطهرين} تذييل. وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقاً يحبه الله تعالى. وكفى بذلك تنويهاً بزكاء أنفسهم.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
تفريع على قوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسَّس على التقوى بالصلاة فيه.
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقاً بالصلاة فيه بعد النهي، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مَقصدَ وَاضعيه رواجاً بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم.
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير. والاستفهام تقريري.
والتأسيس: بناءُ الأساس، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص.
والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغُفران والكفران، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء. ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة. وهو هنا مطلق على المفعول، أي المبني. وما صدق (من) صاحبُ البناء ومستحقه، فإضافة البنيان إلى ضمير (مَن) إضافة على معنى اللام. وشُبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء، فاستعير له فعل {أسس} في الموضعين.
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية، ورُمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء. وفُهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفاً جُرُف هار، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرْف جُرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية. وحرف الاستعلاء ترشيح.
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المُؤسس على شفَا جُرف هارَ بساكنه في هوّة. وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه. فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها. ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه. فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يُذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذُكر في مقابله عُلم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة، كما دلت عليه المقابلة، وأن البنيان الثاني لم يَحصل غرضُ بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد، وكان عدم ثباته مفضياً بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك.
والشَّفا بفتح الشين وبالقصر: حرف البئر وحرف الحفرة.
والجُرف بضمتين: جانب الوادي وجانب الهُوة.
وهارٍ: اسم مشتق من هَارَ البناءُ إذا تصدع، فقيل: أصله هَوَر بفتحتين كما قالوا خَلَف في خالف. وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفاً. وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم: شاكي السلاح، أصله شائِك. ورجل صاتٌ عالي الصوت أصله صائتٌ. ويدل لذلك قولهم: انهار ولم يقولوا انهرى. وهَرٍ مبالغةً في هَار.
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل {أسس} في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع {بنيانُه} في الموضعين. وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب {بنيانَه} في الموضعين.
وقرأ الجمهور {جُرُف} بضم الراء. وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفٌ بسكون الراء.
وجملة: {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم.
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
جملة: {لا يزال بنيانهم} يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.
ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن {الذين اتخذوا مسجداً ضراراً} [التوبة: 107] كأنه قيل: لا تقم فيه ولا يزال ريبةً في قلوبهم، ويكون إظهار لفظ {بنيانهم} لزيادة إيضاحه. والرابط هو ضمير {قلوبهم}.
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعلهُ اللّهُ سبباً لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم.
وجَعل البنيان ريبةً مبالغة كالوصف بالمصدر. والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم. والريبة: الشك، فإن النفاق شك في الدين، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين.
وقوله: {إلا أن تقطع قلوبهم} استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط} [الأعراف: 40]، أي يبقى ريبة أبداً إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة.
وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق. وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {تُقطع} بضم التاء. وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {تَقطَّعَ} بفتح التاء على أن أصله تتقطع. وقرأ يعقوب {إلى أن تقطع} بحرف (إلى) التي للانتهاء.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.
وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى: {مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.
وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله: {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن}، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.
والاشتراء: مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله: {وعداً عليه حقاً} بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.
ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في {بأن لهم الجنة} لمشابهة هذا الوعد الثمنَ. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.
والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به}.
ويكون معنى قوله: {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل} ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل إلى قوله {ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29].
ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله: {في التوراة والإنجيل}، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل {يقاتلون} مستعملاً في حقيقته ومجازه.
واللام في {لهم الجنة} للملك والاستحْقاق.
والمجرور مصدر، والتقدير: بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلاً كان هذا البيع من جنس السلم.
وجملة: {يقاتلون في سبيل الله} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول: كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم؟ فكان جوابه {يقاتلون في سبيل الله} الخ.
قال الطيبي: «فقوله {يقاتلون} بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سَلَم، ومن ثَم قيل {بأن لهم الجنة} ولم يقل بالجنة. وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله: {وعداً عليه حقاً}، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة. ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن» اه. وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلاً عكس ما فسرنا به آنفاً.
وقوله: {فيَقتُلُون ويُقتلون} تفريع على {يُقاتلون}، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين. وقرأ الجمهور {فيَقتلون} بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس. وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.
و {وَعدا} منصوب على المفعولية المطلقة من {اشترى}، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل. و{حقاً} صفة {وعْداً}. و{عليه} ظرف لغو متعلق ب {حقاً}، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.
وقوله: {في التوراة} حال من {وعداً}. والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوباً في التوارة والإنجيل والقرآن.
وجملة: {ومن أوفى بعهده من الله} في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله: {وعداً عليه حقاً}، أي وعداً حقاً عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملاً للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال: ومن أوفى بعهده من الله إنكاراً عليه.
و {أوفى} اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.
و {مِن} تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبويه، أي للابتداء المجازي. وذُكر اسم الجلالة عوضاً عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال. والعهد: الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد.
وتفرع على كون الوعد حقاً على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة. وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهاراً لاغتباطهم به.
ووصفه بالموصول وصلته {الذي بايعتم به} تأكيداً لمعنى {بيعكم}، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.
وجملة: {وذلك هو الفوز العظيم} تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه. وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف ب {العظيم} المفيد للأهمية.
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين} [التوبة: 111] فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى.
ف {التائبون} مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراففِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه} [التوبة: 117] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} [التوبة: 74] بعد قوله: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] الآية المتقدمة آنفاً. وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهو {المؤمنين} [التوبة: 111].
و {العابدون}: المؤدّون لما أوجب الله عليهم.
و {الحامدون}: المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له.
و {السائحون}: مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعاً. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج.
و {الراكعون الساجدون}: هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود.
و {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر}: الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله: {الراكعون الساجدون} ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر {الراكعون الساجدون} علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {وخر راكعاً وأناب} [ص: 24]، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]. ولما جاء بعده {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما {الراكعون الساجدون} فالواو هنا كالتي في قوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} [التوبة: 112].
و {الحافظون لحدود الله}: صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.
وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر. فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة البقرة (229). ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف. وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف.
وقال جمع من العلماء: إن الواو في قوله: والناهون عن المنكر} واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن، وسمَّوها واوَ الثَّمانية. قال ابن عطية: ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]. وأنكرها أبو علي الفارسي. وقال ابن هشام في «مغني اللبيب» «وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا: ستة سبعة وثمانية، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلُّوا بآيات إحداها: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه {سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]. ثم قال: الثانية آيةُ الزمر (71) إذ قيل: {فُتحت} في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة، {وفتحت} [الزمر: 73] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية. ثم قال: الثالثة: {والناهون عن المنكر} فإنه الوصف الثامن. ثم قال: والرابعة: {وأبكاراً} في آية التحريم (5) ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي... وأما قول الثعلبي: أن منها الواو في قوله تعالى: {سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً} [الحاقة: 7] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه. وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض.
وقال ابن عطية «وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة، فهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو» اه.
وقال القرطبي: هي لغة قريش.
وأقول: كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً، وتوجيهاً ونقضاً. والوجه عندي أنه استعمال ثابت، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها. ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة.
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى: {وفُتحت أبوابها} [الزمر: 73]. فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية. وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر {حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73].
وجملة: {وبشر المؤمنين} عطف على جملة {إن الله اشترى من المؤمنين} [التوبة: 111] عطفَ إنشاء على خبر. ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوففِ عليه العمل به فأشبه الأمر. والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي. فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة: 111].
والبشارة تقدمت مراراً.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80] فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار، وهو حصول الغفران، فبقي للتخيير غَرض آخر وهو حُسن القَول لمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله، مثل قصة عبد الله بننِ عبد الله بننِ أبَيْ، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن دَرَّج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال. ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراضضِ من هم أهل لحسن القول وغلبةِ الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يَغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين، فنهَى اللّهُ النبي صلى الله عليه وسلم ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعاً في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معاً عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبيء صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80].
وروى الترمذي والنسائي عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، إلى قوله تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114]. قال الترمذي: حديث حسن.
وقال ابن العربي في «العارضة»: هو أضعف ما رُوي في هذا الباب. وأما ما روي في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء. فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل.
وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار، كما تقدم عند قوله تعالى: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} في آخر سورة العقود (116).
ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها.
وزيادة ولو كانوا أولي قربى} للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة، كما هو مفاد (لو) الوصلية، أي فَأوْلى إن لم يكونوا أولي قربى. وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء: 86]. ولذلك عقَّبه بقوله: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114] الخ.
وقد تقدم الكلام على (لو) الاتصالية عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} في سورة آل عمران (91).
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
معطوفة على جملة {ما كان للنبيء} [التوبة: 113] الخ. وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله: {ولو كانوا أولي قربى} [التوبة: 113] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل. وهذه من مسألة (أن شرع من قبلنا شرع لنا) فلا جرم ما كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضاً بين الآيتين، فلذلك تصدّى القرآن للجواب عنه. وقد تقدم آنفاً ما روي أن هذه سبب نزول الآية.
والموعدة: اسم للوعد. والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له. فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه متردداً في عبادة الأصنام لما قال له: {واهجرني ملياً} [مريم: 46] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له، وإما بعد أن مات على الشرك.
والتبرؤ: تفعل من برئ من كذا إذا تنزه عنه، فالتبرؤ مبالغة في البراءة.
وجملة: {إن إبراهيم لأواه حليم} استئنافٌ ثَناءٌ على إبراهيم. و{أواه} فُسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.
ولفظ {أواه} مثالُ مبالغة: الذي يكثر قول أوّهْ بلغاته الثلاثَ عشرة التي عدها في «القاموس»، وأشهَرُها أوَّهْ بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في «شرح التسهيل»: وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف ب {أواه} كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يُوصف به من ليس به وَجع. والفعل المشتق منه (أواه) حقهُ أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي. وقد اختلف في استعمال فعللٍ ثلاثي له، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.
وإتباع (لأواه) بوصف (حليم) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.
والحليم: صاحب الحلم. والحلم بكسر الحاء: صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الأمور، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال:
حليم إذا ما الحلم زين أهله *** مع الحلم في عين العدو مهيب
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}
عطف على جملة: {وما كان استغفار إبراهيم} [التوبة: 114] لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له، وإعانة له إن كان الله يريده، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له. ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله: {من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] وقولِه: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة: 114]. وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي. فهذا من باب {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43].
وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً.
ومعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي يتجنبوها. فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام: {فلا تسألننِ ما ليس لك به علم} [هود: 46] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل.
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً.
وجملة {إن الله بكل شيء عليم} تذييل مناسب للجملة السابقة، ووقوع {إن} في أولها يفيد معنى التفريع. والتعليل مضمون للجملة السابقة، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق.
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}
تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله: {إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115]، ولذلك فُصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليماً بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضى إلى إضاعة شؤونها.
فافتتاح الجملة ب (إن) مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن (إن) لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل.
ومعنى الملك: التصرف والتدبير. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَلِك يوم الدين} [الفاتحة: 4].
وزيادة جملتي: {يحيي ويميت} لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره.
وعطف جملة: {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم، ولإعْلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرهم. وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم.
وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى: {قل أغير الله أتخذ ولياً} في أول سورة الأنعام (14).
والنصير: الناصر. وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} في سورة البقرة (48).
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية.
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى {تاب} عليه: غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه، كقوله تعالى: {علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل: 20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل.
ووصف المهاجرون والأنصار ب {الذين اتبعوه} للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة.
ومعنى {اتبعوه} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي.
والساعة: الحصة من الزمن.
والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله: {من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم} أي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق ب {اتبعوه} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
و {كاد} من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.
وقرأ الجمهور {تَزيغ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ: الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا} في سورة آل عمران (8).
وجملة؛ ثم تاب عليهم} عطف على جملة {لقد تاب الله} أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون {ثم} على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله {عليهم} لل {فريق}. وجوز كثير من المفسرين أن تكون {ثم} للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيداً لجملة {تاب الله}، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.
وجملة: {إنه بهم رءوف رحيم} تعليل لما قبلها على التفسيرين.
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
{وعلى الثلاثة} معطوف {على النبي} [التوبة: 117] بإعادة حرف الجر لبُعد المعطوف عليه، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله: {فرح المخلفون بمقعدهم} [التوبة: 81] الآية، والذين ذكروا في قوله: {وجاء المعذرون} [التوبة: 90] الآية.
والتعريف في {الثلاثة} تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس، وهم: كَعب بن مالك من بني سَلِمَة، ومُرارة بن الربيع العَمْري من بني عَمرو بن عَوْف، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم. ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة. وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» طويل أغر وقد ذكره البغوي في «تفسيره».
و {خلفوا} بتشديد اللام مضاعف خَلَف المخفف الذي هو فعل قاصر، معناه أنه وراء غيره، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء. والمقصود بَقي وراء غيره. يقال: خَلَف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشيء يَخْلُف بضم اللام في المضارع، فمعنى {خُلِّفوا} خَلّفهم مُخَلِّف، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم. فيجوز أن يكون {خلفوا} بمعنى خلَّفوا أنفسهم على طريقة التجريد. ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفاً مجازياً استعير لتأخير البت في شأنهم، أي الذين خُلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين. فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء. وبهذا التفسير فَسره كعب بن مالك في حديثه المروي في «الصحيح» فقال: وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا عن الغزو وإنما تخليفُه إياناً وإرجاؤه أمرنا عَمَّن حَلَف له واعتذر إليه فقُبل منه. اه.
يعني ليس المعنى أنهم خَلَّفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلَّفهم أحد، أي جعلهم خَلْفاً وهو تخليف مجازي، أي لم يُقض فيهم. وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى.
وبناء فعل {خلفوا} للنائب على ظاهره، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم.
وتعليق التخليف بضمير {الثلاثة} من باب تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: تعليقه بحاللٍ من أحوالها يعلم من السياق، مثلُ {حُرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
وهذا الذي فَسَّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت} لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيققِ أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف، وليس غايةً لتخلفهم عن الغزو، لأن تخلفهم لا انتهاء له.
وضيق الأرض: استعارة، أي حتى كانت الأرض كالضَّيقة عليهم، أي عندهم. وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم. فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح:
مَلأتُ عليه الأرض حتى كأنها *** من الضيق في عينيه كِفَّة حَابل
وقوله: {بما رحبت} حال من {الأرض}. والباء للملابسة، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة. و{ما} مصدرية.
{ورحُبت} اتسعت، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة.
وضيق أنفسهم: استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق. ولذلك يقال للمحزون: ضاق صدره، وللمسرور: شُرح صدره.
والظن مستعمل في اليقين والجَزممِ، وهو من معانيه الحقيقية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} في سورة البقرة (46) وعند قوله تعالى: {وإنّا لنظنك من الكاذبين} في سورة الأعراف (66)، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يُوحي به إلى رسوله، أي التجأوا إلى الله دون غيره. وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه.
وقوله: ثم تاب عليهم} عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده.
و {ثُم} هنا للمهلة والتراخي الزمَني وليست للتراخي الرتبي، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق، وهو مغن عن جواب (إذا) لأنه يفيد معناه، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية، وباعتبار المعطوف دال على الجواب.
واللام في {ليتوبوا} للتعليل، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب، أي ليدوموا على التوبة، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر.
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوبته عليهم. وجملة {إن الله هو التواب الرحيم} تذييل مفيد للامتنان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد. ففي «صحيح البخاري» من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال: «فوالله ما أعلم أحداً... أبْلاه الله في صدق الحديث أحسنَ مما أبْلاني ما تعمدتُ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً وأنزل الله على رسوله {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله {وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117 119] اه. فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم، وذِكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذباً فغضب الله عليهم، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة.
والأمر ب {كونوا مع الصادقين} أبلغ في التخلق بالصدق من نحو: اصدقوا. ونظيره {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. وكذلك جَعله بعد (من) التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 43] ومنه قوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67].
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته.
والذين هم حول المدينة من الأعراب هم: مُزينة، وأشجع، وغِفار، وجُهينة، وأسلم.
وصيغة {ما كان لأهل المدينة} خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا.
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ} الخ.
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب. وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. وقال قتادة وجماعة: هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو مُحكم غير منسوخ. وبذلك جزم ابن بَطال من المالكية. قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد: كان هذا حكماً عاماً في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122] فصار وجوب الجهاد على الكفاية. وقال ابن عطية: هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخُروج. واختاره فخر الدين.
والتخلف: البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قوله: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} [التوبة: 81].
والرغبة تُعدّى بحرف (في) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتُعدى بحرف (عن) فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} [البقرة: 130] وهي هنا معداة ب (عن). أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه.
والباء في قوله: {بأنفسهم} للملابسة وهي في موضع الحال. نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة. وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبساً بها. وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز.
قال في «الكشاف»: «أمروا أن يُلَقُّوا أنفسَهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علماً بأنها أعَز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له» اه.
وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.
والإشارة ب {ذلك} إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتاً لهم، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله.
والباء في {بأنهم} للسببية. والظَّمأ: العطش، والنصَب: التعب، والمخمصة: الجوع. وتقدم في قوله: {فمن اضطر في مخمصة} في سورة العقود (3).
والوطء: الدوس بالأرجل. والمَوْطئ: مصدر ميمي للوطء. والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعاراً لإذلال العدو وغلبته وإبادته، كقول الحارث بن وَعْلة الذُهْلي من شعراء الحماسة:
ووطئتَنَا وَطئاً على حنق *** وَطْء المُقَيّد نابِتَ الهَرْم
وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم.
والنيل: مصدر (ينالون). يقال: نال منه إذا أصابه برزء. وبذلك لا يقدَّر له مفعول. وحرف (من) مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية. ورزءُ العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم.
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. فجملة: كتب لهم به عمل صالح} في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد. والضمير في (به) عائد على (نصَب) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفرداً على المتعاطفات ب (أو) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحد منه. ومعنى: {كتب لهم به عمل صالح} أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح، أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملاً صالحاً وإن لم يقصِد به عاملوه تقرباً إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها. وذلك بأن جعل لهم عليها ثواباً كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة.
وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين}. ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} بوجه الإيجاز.
{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
عطف على جملة {لا يصيبهم ظمأ}، وهو انتقال من عداد الكُلف التي تصدر عنهم بلا قصد في سبيل الله إلى بعض الكلف التي لا تخلو عن استشعار من تحِل بهم بأنهم لقُوها في سبيل الله، فالنفقة في سبيل الله لا تكون إلا عن قصد يتذكر به المنفق أنه يسعى إلى ما هو وسيلة لِنصر الدين، والنفقةُ الكبيرة أدخل في القصد، فلذلك نبه عليها وعلى النفقة الصغيرة ليعلم بذكر الكبيرة حكم النفقة الصغيرة لأن العلة في الكبيرة أظهر وكان هذا الإطناب في عد مناقبهم في الغزو لتصوير ما بذلوه في سبيل الله.
وقطع الوادي: هو اجتيازه. وحقيقة القطع: تفريق أجزاء الجسم. وأطلق على الاجْتياز على وجه الاستعارة.
والوادي: المنفرج يكون بين جبال أو إكام فيكون منفذاً لسيول المياه، ولذلك اشتق من ودى بمعنى سال. وقطع الوادي أثناءَ السير من شأنه أن يتذكر السائرون بسببه أنهم سائرون إلى غرض مَّا لأنه يجدد حالة في السير لم تكن من قبل. ومن أجل ذلك نُدب الحجيجُ إلى تجديد التلبية عندما يصعدون شرفاً أو ينزلون وادياً أو يلاقون رفاقاً.
والضمير في {كُتب} عائد إلى {عمل صالح} [التوبة: 120]. ولام التعليل متعلقة ب (كتب)، أي كتب الله لهم صالحاً ليجزيهم عن أحسن أعمالهم.
ولما كان هذا جزاء عن عملهم المذكور علم أن عملهم هذا من أحسن أعمالهم.
وانتصب {أحسنَ} على نزع الخافض، أي عن أحسننِ ما كانوا يعملون أو بأحسن ما كانوا يعملون كقوله تعالى: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدَهم من فضله} [النور: 38] وأما قوله: {ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص: 25] فالظاهر أنه من غير هذا القبيل وأن (أجر) مفعول مطلق.
وفي ذكر {كانوا} والإتيان بخبرها مضارعاً إفادةُ أن مثل هذا العمل كان ديدنهم.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو. وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلاً حتى تقلص، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المُدن التي فتحوها ووكَلوا أمر الدولة إليهم.
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقاً من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يُذكر عقبها نَفْر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} [التوبة: 120] الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشئ عن قوله: {مالكم إذا قيل لكم انفروا} [التوبة: 38] ثم عن قوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا} [التوبة: 120] الخ. ومعنى {أن يتخلفوا} هو أن لا ينفروا، فناسب أن يذكر بعده {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
والمراد بالنفير في قوله: {لينفروا} وقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم.
فضمير {ليتفقهوا في الدين} يجوز أن يعود على قوله: {المؤمنون}، أي ليتفقه المؤمنون.
والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر، كما اقتضاه قوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}، فهو عام مراد به الخصوص.
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوممٍ من الكلام من قوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين، فأعيد الضمير على (طائفة) بصيغة الجمع نظراً إلى معنى طائفة، كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] على تأويل اقتتل جمعهم.
ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله: {لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} نفْراً آخر غير النفر في سبيل الله، وهو النفر للتفقه في الدين، وتكون إعادةُ فعل (ينفروا) و(نَفَر) من الاستخدام بقرينة قوله: {ليتفقهوا في الدين} فيكون الضمير في قوله: {ليتفقهوا} عائداً إلى {طائفة} ويكون قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} تمهيداً لقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}.
وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين. والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة.
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي كونه نهياً جازماً يقتضي التحريم. وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجباً لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجباً لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضاً، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو. وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل (انفروا)، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير (انفروا).
ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوباً على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب. وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عدداً من الذين يبقون للتفقه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء. ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة.
ولولا: حرف تحْضيض.
والفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن؛ فالقبيلة فرقة، وأهل البلاد الواحدة فرقة.
والطائفة: الجماعة، ولا تتقيد بعدد. وتقدم عند قوله: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102).
وتنكير {طائفة} مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية. وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية.
والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ. فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله: {لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه.
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين. وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح «مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين»، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم.
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد.
والإنذار: الإخبار بما يتوقع منه شر. والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة. ومنه النذير. وتقدم في قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} في سورة البقرة (119)، فالإنذار هو الموعظة، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم، لأن التخلية مقدمة على التحْلية، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده. ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطإ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين.
وحذف مفعول يحذرون} للتعميم، أي يحذرون ما يُحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات. واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
كان جميع بلاد العرب خلَص للإسلام قبل حجة الوداع، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقرّ نصارى العرب، وكانوا تحت حكم الروم، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وُضعت الجزية على أيْلَةَ وبُصرى، وكانت تلك الغزوة إرهاباً للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلَّما استقر بلد للإسلام وكان تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة. ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس.
فالجملةُ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك.
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب. ولعل في قوله: {واعلموا أن الله مع المتقين} إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى {وسيجْزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].
والغلظة بكسر الغين: الشدة الحسية والخشونة، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة، كقوله: {واغلظ عليهم} [التوبة: 73]. قال في «الكشاف»: وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر. اه.
قلت: والمقصد من ذلك إلقاءُ الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين.
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم. وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة. وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلظة بحيث تظهر وتَنال العدو فيحِس بها، كقوله تعالى لموسى: {فلا يَصدَّنَّك عنها من لا يؤمن بها} [طه: 16]. وإنما وقعت هذه المبالغة لِما عليه العدو من القوة، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم، وهم أصحاب عَدد وعُدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة.
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظُهر على كفرهم وهم أشد قرباً من المؤمنين في المدينة. وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: {يأيها النبيءُ جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم} [التوبة: 73].
وجملة: {واعلموا أن الله مع المتقين} تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد.
وافتتحت الجملة ب {اعلموا} للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} في سورة الأنفال (41). والمعية هنا معية النصر والتأييد، كقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]. وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}
عطف على قوله: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّول منهم} [التوبة: 86] وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات.
وهذه الآية زيدت فيها (ما) عَقب (إذا) وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى (إذَا) وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقاً بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه.
ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله} [التوبة: 86]. ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والإعجاز ببلاغتها. فالمراد إذا أنزلت سورة مَّا من القرآن. وضمير {فمنهم} عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض}، ولما في قوله قبل هذا: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة: 123] من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض.
وقولهم: {أيكم زادته هذه إيماناً} خطاب بعضهم لبعض على سبيل التهكم بالمؤمنين وبالقرآن، لأن بعض آيات القرآن مصرحة بأن القرآن يزيد المؤمنين إيماناً قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} [الأنفال: 2]. ولعل المسلمين كانوا إذا سمعوا القرآن قالوا: قد ازددنا إيماناً، كقول معاذ بن جبل للأسود بن هلال: اجلس بنا نُؤمن ساعة، يعني بمذاكرة القرآن وأمور الدين (رواه البخاري في كتاب الإيمان).
ولما كان الاستفهام في قولهم: {أيّكم} للاستهزاء كان متضمناً معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيماناً توهماً منهم بأن ما لا يزيدهم إيماناً لا يزيد غيرهم إيماناً، يقيسون على أحوال قلوبهم.
والفاء في قوله: {فأما الذين آمنوا} للتفريع على حكاية استفهامهم بحملهِ على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه. وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن تكون السورة تزيد أحداً إيماناً قياساً على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثرَ من الزيادة، وهو حصول البشر لهم.
وارتُقِيَ في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفياً عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقِسم الأول المؤمنون زادتهم إيماناً وأكسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون.
فالوجه أن تكون جملة {وهم يستبشرون} معطوفة على جملة: {فزادتهم إيماناً} وأن تكون جملة: {وماتوا وهم كافرون} معطوفة على جملة: {فزادتهم رجساً} لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة. أما جملة: {وهم كافرون} فهي حال من ضمير {ماتوا}.
وقوبل قوله: {وهم يستبشرون} في جانب المؤمنين بقوله: {وماتوا وهم كافرون} في جانب المنافقين تحسيناً بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجُعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى.
هذا وجه نظم الآية على هذا النسج من البلاغة والبديع، وقد أغفل فيما رأيت من التفاسير، فمنها ما سكت عن بيانه. ومنها ما نُشرت فيه معاني المفردات وترك جانب نظم الكلام.
والاستبشار: أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى: {يستبشرون بنعمة من الله} في آل عمران (171)، وتقدم آنفاً في قوله: {فاستبشروا ببيعكم} [التوبة: 111].
والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس.
والرجس: هنا الكفر. وأصله الشيء الخبيث. كما تقدم عند قوله تعالى: {رجس من عمل الشيطان} في سورة العقود (90). وقوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} في سورة الأنعام (125).
والمرض في القلوب تقدم في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} في سورة البقرة (10).
وتعدية زادتهم} ب {إلى)} لأن زاد قد ضمن معنى الضم.
ومعنى قوله: {فأما الذين آمنوا} الخ مثل معنى قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82].
{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}
عطف على جملة {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] إلى آخره فهي من تمام التفصيل.
وقدّمت همزة الاستفهام على حرف العطف على طريقة تصدير أدوات الاستفهام. والتصدير للتنبيه على أن الجملة في غرض الاستفهام.
والاستفهام هنا إنكار وتعجيب لعدم رؤيتهم فتنتهم فلا تعقبها توبتهم ولا تذكّرهم أمر ربهم. والغرض من هذا الإنكار هو الاستدلال على ما تقدم من ازدياد كفر المنافقين وتمكنه كلما نزلت سورة من القرآن بإيراد دليل واضح يُنَزَّلُ منزلة المحسوس المرئيّ حتى يَتوجه الإنكار على من لا يراه.
والفتنة: اختلال نظام الحالة المعتادة للناس واضطرابُ أمرهم، مثل الأمراض المنتشرة، والتقاتل، واستمرار الخوف. وقد تقدم ذكرها عند قوله: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191] وقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} في سورة البقرة (193).
فمعنى أنهم يفتنون} أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يُعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ اللّهِ الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى، بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبيء صلى الله عليه وسلم فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم، فعلِموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق.
ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم، أو متالف تصيب أموالهم، أو جوائح تصيب ثمارهم، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين.
وقرأ الجمهور {أولا يَرون} بالمثناة التحتية. وقرأ حمزة ويعقوب {أولا ترون} بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين، فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته مَا لا يخفى.
و {ثم} للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه، فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب، وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب. ولو كانت (ثم) للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم.
وأتي بجملة {ولا هم يذكرون} مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل: ولا يذكرون، قصداً لإفادة التقوي، أي انتفاء تذكرهم محقق.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
عطف على جملة: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124] والظاهر أن المقصود عطف جملة: {نظر بعضهم إلى بعض} على جملة: {فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124]. وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده {أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم.
وموجب زيادة (ما) بعد (إذا) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه.
ونظَرُ بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذٍ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية، وهي (إذا). فتعين أن يكون نظرُ بعضهم إلى بعض حاصلاً وقت نزول السورة. ويدل لذلك أيضاً قوله: {ثُم انصرفوا} أي عن ذلك المجلس. ويدل أيضاً على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام. وقد قال تعالى في الآية السابقة: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} [التوبة: 64]. ويدل أيضاً على أنهم كاتمون تعجُّبَهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام. فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام.
وجملة: {هل يراكم من أحد} بيان لجملة {نظر بعضهم إلى بعض} لأن النظر تفاهموا به فيما هو سِرّ بينهم؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي، ففي هذا النظم إيجازُ حذف بديعٌ دلت عليه القرينة. والتقدير: وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحةُ أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطْلع نبيه عليه الصلاة والسلام على دخيلة أمرهم.
وزيادة جملة: {ثم انصرفوا} لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرةً ولا قُرباً من الإيمان، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة. وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وجملة: {صرف الله قلوبهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما أفاده قوله: {ثم انصرفوا} من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سَبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحُرموا الانتفاع بأبلغ واعظ.
وكان ذلك عقاباً لهم بسبب أنهم {قوم لا يفقهون}، أي لا يفهمون الدلائل، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا.
وجعل جماعة من المفسرين قولَه: {صرف الله قلوبهم} دعاء عليهم، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم، ولأنه يأباه تسْبيبه بقوله: {بأنهم قوم لا يفقهون}.
وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيراً يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراهاً لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، وأمْراً للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه. وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسْرة.
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصهُ على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولِهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفاً رحيماً بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيباً للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن. فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها.
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة.
فالخطاب بقوله: {جاءكم} وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام. والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب {بالمؤمنين رءوف رحيم} وسيجيء أن المقصود العرب.
وافتتاحها بحرفَيْ التأكيد وهما اللام و(قد) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولاً من الله، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزَّلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء، ولأن في هذا التأكيد تسجيلاً عليهم مراداً به الإيماء إلى اقتراب الرحيل، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه، وهو تسجيل منه على المؤمنين، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين. على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى: {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 15] وكقوله تعالى: {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار.
والمجيء: مستعمل مجازاً في الخطاب بالدعوة إلى الدين. شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر.
وهو استعمال شائع في القرآن.
والأنفس: جمع نفْس، وهي الذات. ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق. يقال: هو قريشي من أنفسهم، ويقال: القريشي مولاهم أو حليفهم، فمعنى {من أنفسكم} من صميم نسبكم، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذٍ لا يَعدون العربَ ومن حالفهم وتولاهم مثلَ سلمانَ الفارسي وبلاللٍ الحبشي، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم، وفيه أيضاً تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] أي يبقى منه لكم ذكر حسن.
والعزيز: الغالب. والعزة: الغلبة. يقال عزّه إذا غلبه. ومنه {وعزني في الخطاب} [ص: 23]، فإذا عُدي بعلى دل على معنى الثقل والشدة على النفس. قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه:
فقلتُ له يعزُّ عليَّ أني *** قتلت مناسبي جلداً وقهراً
و {ما} مصدرية. و{عنتم}: تعبتم. والعنت: التعب، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم. وهذا كقوله: {لعلّك باخِع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] وذكرُ هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خُلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة. ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب. ثم إن ذلك يومئ إلى أن شرعه جاء مناسباً لخُلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع (ما) المصدرية السابكة للمصدر نكتة. وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى، وذلك بما لقوه من قتْل قومهم، ومن الأسر في الغزوات، ومن قوارع الوعيد والتهديد في القرآن. فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيراً إلى عنتتٍ معيَّن ولا إلى عنت وقع لأن المصدر لا زمَان له بل كان محتملاً أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه، ولكن مجيء المصدر منسبكاً من الفعل الماضي يجعله مصدراً مقيداً بالحصول في الماضي، ألا ترى أنك تقدره هكذا: عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيهاً على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم.
والحرص: شدة الرغبة في الشيء والجشعُ إليه. ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فُهم من مقام التشريع، فيقدر: على إيمانكم أو هَدْيكم.
والرؤوف: الشديد الرأفة. والرحيم: الشديد الرحمة، لأنهما صيغتا مبالغة، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو {بالمؤمنين}.
والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءُوف به. يقال: رؤوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمُهما مختلفة. وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم} في سورة البقرة (143) والرحمة في سورة الفاتحة (3).
وتقديم المتعلِّق على عامليه المتنازِعَيْنه في قوله: بالمؤمنين رءوف رحيم} للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتيْ رأفته ورحمته بهم. وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم، ولا يقال: بهم رؤوف رحيم.
والفاء في قوله: {فإن تولوا} للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه. وقد دل الشرط على مقابله لأن {فإن تولوا} يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان.
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتماداً على قرينة حرف التفريع فقيل له: {فإن تولوا فقل حسبي الله}. والتقدير: فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله. فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم.
والتولي: الإعراض والإدبار: وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد.
والحسْب: الكافي، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق. وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى.
ومعنى الأمر بأن يقول: {حسبي الله} أن يقول ذلك قولاً ناشئاً عن عقد القلب عليه، أي فاعلم أن حسبك الله وقُل حسبي الله، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به، ولأن في هذا القول إبلاغاً للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم.
والتوكل: التفويض. وهو مبالغة في وَكَل.
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعيْنِها ولم يؤمَر بمجرد التوكل كما أمر في قوله: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} [النمل: 79]. ولا أخبر بأن الله حسبه مجردَ إخبار كما في قوله: {فإن حسبك الله} [الأنفال: 62].
وجملة: {لا إله إلا هو} مستأنفة للثناء، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية.
وعطفت عليها جملة: {وهو رب العرش العظيم} للثناء بعظيم القدرة لأن من كان رباً للعرش العظيم ثبت أنه قدير، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات، ولذلك وصف بالعظيم، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش، فهو مجرور.
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذارِ للناس، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان.
وفيهما أيضاً إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله: {لقد جاءكم} يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي، لأن لكل وارد قفولاً، ولكل طالع أفولاً. وقد روي عن أبَيْ بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهداً بالله عز وجل، أي آخرُ ما نزل من القرآن. وقيل: إن آخر القرآن نزولاً آية الكلالة خاتمةُ سورة النساء. وقيل آخره نزولاً قوله: {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} من سورة البقرة (281).
في صحيح البخاري} من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد: «حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} إلى آخرهما. ومن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري. ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما (فإن زيداً اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما. فلما أمْلاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكّر زيد لفظهما وتذكّرهما مَن سمعهما من الصحابة حين قرأوهما، كيف وقد قال أبَيّ بن كعب: إنهما آخر ما أنزل، فلفظهما ثابت بالإجماع، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصراً على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire