{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذَرين، فإن المراد بالناس مشركو مكة، والاقتراب مبالغة في القرب، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة، وهي هيئة المغير والمُعَجِّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفاً للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم، فالكلام تمثيل.
والمراد من الحساب إما يوم الحساب، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم " بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين " أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوْا جَزاء أعمالهم، وذلك من الحساب. وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى: {إنْ حسابهم إلاّ على ربي} [الشعراء: 113] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضاً فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
واللام في قوله {للناس} إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله {حسابهم} لأن تقديره: حسابٌ لهم. والضمير عائد إلى {الناس} فصار قوله {للناس} مساوياً للضمير الذي أضيف إليه (حساب) فكأنه قيل: اقترب حساب للناس لهم فكانَ تأكيداً لفظياً، وكما تقول: أزف للحي رَحيلُهم، أصله أزف الرحيلُ للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلُهم، ومنه قول العرب: لا أبَا لك، أصله لا أباكَ، فكانت لام (لك) مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام. قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني
مُلاق لا أباك تخوّفيني
وأصل النظم: اقترب للناس الحساب. وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعُرِّف {الناس} تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين، ولِما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يُكنَّى عنهم بالناس كثيراً في القرآن، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل: اقترب حساب للناس الحساب، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه. ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام، ويجوز أن تكون اللام بمعنى (من) أو بمعنى (إلى) متعلقة ب {اقترب} فيكون المجرور ظرفاً لغواً، وعن ابن مالك أنه مَثّل لانتهاء الغاية بقولهم: «تقربت منك».
وجملة {وهم في غفلة معرضون} حال من {الناس،} أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم. والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.
والغفلة: الذهول عن الشيء وعن طرق علمه، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وإن كنا عن دراستهم لغافلين} في سورة [الأنعام: 156]، وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} في [سورة الأعراف: 146].
والإعراض: صرف العقل عن الاشتغال بالشيء. وتقدم في قوله: {فأعرض عنهم وعظهم} في سورة [النساء: 63]، وقوله: {فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} في سورة [الأنعام: 68].
ودلت (في) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم. والمعنى: أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلاً عنه، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به. فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً}.
جملة مبينة لجملة {وهم في غفلة معرضون} [الأنبياء: 1] لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيراً لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} في سورة [البقرة: 171].
والذكر: القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.
والمحدَث: الجديد. أي الجديد نزوله متكرراً، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكراً واحداً فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذراً كانوا ساعتئذ في غفلة، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صداً.
ونظير هذا قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين} في سورة [الشعراء: 5]، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم.
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} في سورة [النساء: 164].
وجملة {استمعوه} حال من ضمير النصب في {يأتيهم} وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.
وجملة {وهم يلعبون} حال لازمة من ضمير الرفع في {استمعوه} مقيّدة لجملة {استمعوه} لأن جملة {استمعوه} حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلاّ لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادةُ لِقطع معذرتهم المستفاد من قوله {مُحْدَث} كما علمت.
و {لاهية قلوبهم} حال من المبتدأ في جملة {وهم يلعبون} وهي احتراس لجملة {استمعوه أي استماعاً لا وعي معه.
وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}
جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفاً على جملة {اقترب للناس حسابهم} [الأنبياء: 1] إلى آخرها، لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.
وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى {للناس وليست جملة وأسروا النجوى} عطفاً على جملة {استمعوه وهم يلعبون} لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لِما يأتيهم من ذكر.
و {الذين ظلموا} بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى، ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.
وجملة {هل هذا إلا بشر مثلكم} بدل من {النجوى} لأن ذلك هو ما تناجوا به، فهو بدل مطابق.
وليست هي كجملة {قالوا إنّ هذاننِ لساحران من جملة فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى} في سورة [طه: 6263] فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.
ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلَوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجَوْهم بذلك ليُدخلوا الشك في قلوبهم.
والنجوى: المحادثة الخفية. والإسرار: هو الكتمان والكلام الخفي جداً. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} في سورة [براءة: 78]، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولاً ل {أسروا} في قوله تعالى {وأسروا النجوى في} [سورة طه: 62]، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.
والاستفهام في قوله {هل هذا إلا بشر مثلكم} إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم.
وكذلك الاستفهام في قوله {أفتأتون بالسحر} إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.
والمعنى: أنه لما كان بشراً مثلكم فما تصديقكم لنُبُوءته إلا من أثر سحرٍ سحَرَكم به فتأتون السحر بتصديقكم بما يَدعوكم إليه.
وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى الله عليه وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتياناً، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحراً فنَهوا من ناجَوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} في سورة [فصلت: 26].
وقوله {وأنتم تبصرون} في موضع الحال، أي تأتون السحر وبصركم سليم، وأرادوا به العلم البديهي، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علِم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر، فالتعريف في {القول} للاستغراق، وبذلك كان هذا تذييلاً، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله {وهو السميع العليم}.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة الأمر، وقرأ حمزة والكسائي، وحفص، وخلف {قال} بصيغة الماضي، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة، أي قال الرسول لهم، حكى الله ما قاله الرسول لهم، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور {قل ربي يعلم القول} لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.
وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس. وأما قوله في سورة [الفرقان: 6] {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار، وكان قول الذين كفروا: {إن هذا إلا إفك افتراه} [الفرقان: 4] صادراً منهم تارة جهراً وتارة سراً فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم. ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}
{بل} الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3] إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين، وهو زعمهم أنّ ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها، فضمير {قالوا} لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.
و {بل} الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن. والمعنى: بل افتراه واختلقه من غير أحلام، أي هو كلام مكذوب.
ثم انتقلوا فقالوا {هو شاعر} أي كلامه شعر، فحرف (بل) الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن. وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل: الباطل لَجْلَج، أي ملتبس متردّد فيه.
ويجوز أن تكون (بل) الثانية والثالثة مثل (بل) الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم. والتقدير: بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالاً.
والأضغاث: جمع ضغث بكسر الضاد، وهو الحزمة من أعواد أو عُشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقاً كما في سورة يوسف (44) {قالوا أضغاث أحلام} أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.
وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.
ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاءُ بأنها سَحْر أروجَ في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة. وقديماً قال آل فرعون في معجزات موسى: إنها سحر، بخلاف آية إعجاز القرآن.
ودخلت لام الأمر على فعل الغايب لمعنى إبلاغ الأمر إليه، أي فقولوا له: ائتنا بآية، والتشبيه في قوله {كما أرسل الأولون} في موضع الحال من ضمير {يأتنا} أي حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب. قال النابغة:
وقد خِفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِل من ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وَعِل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون، أي به.
{مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}
استئناف ابتدائي جواباً على قولهم {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتُم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم. وهذا كقوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} في سورة [الإسراء: 59].
وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها.
و (ما) نافية. و(من) في قوله تعالى {من قرية} مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف (ما).
ومتعلق {آمنت} محذوف دل عليه السياق، أي ما آمنت بالآيات قرية.
وجملة {أهلكناها} صفة ل {قرية،} وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضاً يترقبون الإهلاك.
وذُكرت القرية هنا مراداً بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم، فلذلك قيل {أهلكناها} دون (أهلكناهم) كما في سورة [الكهف: 59] {وتلك القرى أهلكناهم} وفرعت جملة {أفهم يؤمنون} على جملة {ما آمنت قبلهم من قرية} مقترنة باستفهام الإنكار، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالاً في قولهم {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5] وهذا أخذ لهم بلازم قولهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)}
عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3] إذا أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى، فبيّن خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشراً وأن الرسالة ليست إلا وحياً من الله لمن اختاره من البشر.
وقوله {إلا رجالاً} يقتضي أن ليس في النساء رسلاً وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أختتِ موسى ومريمَ أم عيسى. ثم عرّض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.
وجملة {فاسألوا أهل الذكر} الخ معترضة بين الجمل المتعاطفة.
وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفاتٌ، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجُعلوا فيه معبّراً عنهم بضمائر الغيبة، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غُيِّر الكلام إلى الخطاب تسجِيلاً عليهم وتقريعاً لهم بتجهيلهم.
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)}
الجسد: الجسم الذي لا حياة فيه، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أيمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلاً جسدا} [طه: 88]. وقد تقدم هناك، ومنه قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً} [ص: 34]. قيل هو شِق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه، أي ما جعلناهم أجراماً غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام، وهذا رد لما يقولونه {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] مع قولهم هنا {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3].
وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7]، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجساداً بلا أرواح، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله: {وما كانوا خالدين} فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالاً بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة، لقطع معاذير الضالين، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة {وما كانوا خالدين}.
وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة {ما كانوا} تحقيقاً لتمكن عدم الخلود منهم.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}
{ثم} عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى: وأهَمُّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشيرُ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الله صادِقُه وعده من النصر، والإنذارُ لمَن ماثَل أقوامَ الرسل الأولين.
والمراد بالوعد وعدم النصرَ على المكذبين بقرينة قوله تعالى {فأنجيناهم} المُؤذننِ بأنه وعد عذاببٍ لأقوامهم، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]. وفي هذا تقريع للمشركين، أي إنْ كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثلَ ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى: {قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين في سورة} [يونس: 102] وانتصب الوعد ب {صدقناهم} على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال: صدقناهم في الوعد، لأن (صدَق) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل «صَدقَني سِنَّ بَكْرِه»
والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى {من نشاء} احتباك، والتقدير: فأنجيناهم ومَن شئنا ونُنْجِي رسولنا ومن نشاء منكم، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية مَن آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان، ولذلك لم يقل: ونهلك المسرفين، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.
والمسرفون: المفْرِطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}
استئناف جوابٌ عن قولهم {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون، وتجهيلاً لألبابهم التي لم تُدرك عِظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقاً، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عَمُوا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم} [الأنبياء: 23] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.
ولقصد هذا الإيقاظ صُدِّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل {أنزلنا} بحرف (إلى) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب «إلى» هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظراً إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال: لقد أنزلنا لكم.
وتنكير {كتاباً} للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين: كونه كتاب هدى، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مُدَانِيه.
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح، ويطلق على السمعة والصيت كقوله {ذكر رحمة ربك عبده زكرياء} [مريم: 2]. وقد أوثر هذا المصدر هنا وجُعل معرفاً بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاماً موجهاً فيصح قصد المعنيين معاً من كلمة (الذكر) بأن مجيء القرآن مشتملاً على أعظم الهدى، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم، ومجيئه بلغتهم، وفي قومهم، وبواسطة واحد منهم، سمعةٌ عظيمة لهم كما قال تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] وقال {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم} [البقرة: 151].
وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين. وفي «تفسير الطبري» هنا قال جماعة: معنى «فيه ذكركم» أنه الشرَف، أي فيه شرفكم. وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور، وقد فُسر بمثل ذلك قوله تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44].
وعلى المعنيين يكون لِتفريع قوله تعالى {أفلا تعقلون} أحسنُ موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد يُنكَر عليه سوء عقله، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفاً.
وأيضاً فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرففِ التحقيق قال تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} في سورة [العنكبوت: 51]، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)}
عطف على قوله {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} [الأنبياء: 6] أو على قوله تعالى {وأهلكنا المسرفين}، وهو تعريض بالتهديد.
ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صَدَق رُسُلَه وعْدَه وهو خبر يفيد ابتداءً التنويه بشأن الرسل ونصرَهم وبشأن الذين آمنوا بهم. وفيه تعريض بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعاً لذلك، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصففِ ما حل بهم ليكون ذلك مقصوداً بذاته ابتداءً اهتماماً به ليَقرع أسماعهم، فهو تعريض بإنذار المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة، وأن الله يُنشئ بعدهم أُمّة مؤمنة كقوله تعالى {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} في سورة [إبراهيم: 19].
و (كم) اسم، له حقّ صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يُستفهَم عنه، والتقدير: قصمنا كثيراً من القرى ف (كم) هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل {قصمنا}.
وفي (كم) الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماءٌ إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم، فيَعلم المشركون التهديد بأن ذلك حالٌّ بهم لا محالة بحكم العموم، وأن هذا ليس مراداً به قرية معينة، فما روي عن ابن عباس: أن المراد بالقرية (حَضوراء) بفتح الحاء مدينة باليمن قتلوا نبيئاً اسمه شُعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم. فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية، والتقدير: قصمنا كثيراً. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في سورة [الأنعام: 6].
وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين}.
ووجه اختيار لفظ {قرية} هنا نظير ما قدمناه آنفاً في قوله تعالى {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} [الأنبياء: 6].
وحرف (مِن) في قوله تعالى {من قرية} لبيان الجنس، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام (كم).
والقصْم: الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع. واستعير للاستيصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ.
وجملة {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} معترضة بين جملة {وكم قصمنا من قرية} وجملة {فلما أحسوا بأسنا} الخ. فجملة {فلما أحسوا بأسنا} الخ تفريع على جملة {وكم قصمنا من قرية}.
وضمير {منها} عائد إلى {قرية}.
والإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
والبأس: شدة الألم والعذاب. وحرف (مِن) في قوله منها يركضون} يجوز أن يكون للابتداء، أي خارجين منها، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل (يركضون) معنى (يهربون)، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بدّ من تقدير مضاف، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية.
وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.
والركض: سرعة سير الفرس، وأصله الضرب بالرّجل فيسمى به العدو، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرّجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيهاً لسرعة سيرهم بركض الأفراس.
و {منها} ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.
ودخلت (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويراً لشدة الفزع. وليست (إذا) الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط، و(إذا) الفجائية قد تكون رابطة للجواب خَلفاً من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه.
وجملة {لا تركضوا} معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم الحاضرين المشاهَدين في وقت حكاية قصتهم، ترشيحاً لمِا اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة وهذا كقول مَالك بن الرّيب:
دعَاني الهوى من أهل وُدي وجيرتِي *** بذِي الطبَسيْن فالتفتُّ ورائيا
أي لما دعاه الهوى، أي ذكّره أحبابَه وهو غازٍ بذي الطّبسين التفتَ وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعياً وراءه.
وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة {فلما أحسوا بأسنا} وبين جملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين}.
ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب. وهذا ما فسر به المفسرون ويبعده استبعادُ أن يكون ذلك واقعاً عند كل عذاب أصيبت به كل قرية. وأياً ما كان فالكلام تهكم بهم.
والإتراف: إعطاء الترف، وهو النعيم ورفه العيش، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم.
وقوله تعالى {لعلكم تسألون} من جملة التهكم. وذكر المفسرون في معنى {تُسألون} احتمالات ستة. أظهرها: أن المعنى: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدَم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك، وفي هذا تكملة للتهكم.
وجملة {قالوا يا ويلنا} إن جَعَلْتَ جملة {لا تركضوا} معترضة على ما قررتُه آنفاً تكون هذه مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة {إذا هم منها يركضون} كأن سائلاً سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزِع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيُقرون بظلمهم ويُنشئون التلهف والتندم بقولهم {يا ويلنا إنا كنا ظالمين}.
وإن جَعَلتَ جملة {لا تركضوا} مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} جواباً لقول من قال لهم {لا تركضوا} على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيّناه غير مرة، أي قالوا: قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى: {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} في سورة [الملك: 11].
{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}
تفريع على جملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} [الأنبياء: 14]، فاسم {تلك} إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى {قالوا يا ويلنا} [الأنبياء: 14]، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يَدعون بها على أنفسهم.
وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه} [الأنبياء: 13] لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر، بخلاف الكلام المسوق جواباً فإنه لا داعي إلى إعادته.
والمعنى: فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم.
وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى {دعواهم فيها سبحانك اللهم} في [سورة يونس: 10]. أي فما زال يُكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفّوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد، أي أهلكناهم.
وحرف {حتى} مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى {فما زالت تلك دعواهم}.
والحصيد: فعيل بمعنى مفعول، أي المحصود، وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا.
والحَصد: جَزُّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد. وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد.
والخامد: اسم فاعل من خَمدت النار تخمُد بضم الميم إذا زال لهيبها.
شُبهوا بزرع حُصِد، أي بعد أن كان قائماً على سوقه خضرا، فهو يتضمن قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة، كما شبه بالزرع في قوله تعالى: {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع} في سورة [الفتح: 29]. ويقال للناشئ: أنبته الله نباتاً حسناً، قال تعالى: {وأنبتها نباتاً حسناً} في سورة [آل عمران: 37]. فللإشارة إلى الشبهين شَبَه البهجة وشبَه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحَصيد.
وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} في سورة [المائدة: 64]، وقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في سورة [البقرة: 17]. فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافاً للعلاَّمتين التفتزاني والجرجاني في «شرحيهما للمفتاح» مُتمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى {جعلناهم،} فجَعَلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهب قوتُها وحذف المشبهُ بهما ورُمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان {حصيداً} وصفاً في المعنى للضمير المنصوب في {جعلناهم،} فالحصيد هنا وصف ليس منزلاً منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى {وحَبّ الحصيد} [ق: 9]، وبذلك لم يكن قوله تعالى {حصيداً} من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى {خامدين} الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه. وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف.
وانتصب {حصيداً خامدين} على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجَعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر، فإن مفعولي (جعل) أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفاً لأولهما كما هو ظاهر.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)}
كثير في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نُظمها وسُننها وفِطَرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مُجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة [الحجر: 85] {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقد بيّنا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.
وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبساً بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عَمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاءَ ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقاً.
فلذلك كثر أن تُعقب الآياتُ المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكُر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} في آخر سورة [المؤمنين: 115]، وقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} آخر [الحجر: 85]، وقوله تعالى: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} في سورة [ص: 2628]، وقوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} في سورة [الدخان: 3740]، وقوله تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون} في سورة [الأحقاف: 3] إلى غير هذه من الآيات.
فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلَكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قِوامه، فإذا كانت تلك سنةَ الله في خلق العوالم ظَرفِها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياةً آخِرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.
ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.
وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} الآيات ختام سورة [آل عمران: 190191].
ولأجل هذا اطرد أوْ كادَ أن يطرد ذكر لفظ {وما بينهما} بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه هو نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعباً منظوراً فيه إلى رد اعتقاد معتقدٍ ذلك ولكنه بني على النفي أخذاً لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعباً.
واللعبُ: العمل أو القول الذي لا يُقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر. وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل: «لا بد للعاقل من حَمْقة يعيش بها». ويرادفه العبث واللهو، وضده: الجد. واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحقّ أيضاً.
وانتصب {لاعبين} على الحال من ضمير {خلَقْنا} وهي حال لازمة إذ لا يستقيم المعنى بدونها.
وجملة {لو أردنا أن نتخذ لهواً} مقررة لمعنى جملة {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} تقريراً بالاستدلال على مضمون الجملة، وتعليلاً لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لَعباً، أي عبثاً بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلاً في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصاً بالله تعالى إذ جعَل سكانها عباداً له مخلصين، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو {لَدُن} مضافاً إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى من {لدنا}، أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عَالم الغيب الذي هو أشد اختصاصاً بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين.
فالظرفية المفادة من {لدن} ظرفية مجازية. وإضافة {لدن} إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى {رزقا من لدنا} في سورة [القصص: 57]، وقوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة} في سورة [آل عمران: 8]، أي لو أردنا أن نتخذ لهواً لما كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخد شيئاً للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.
وجملة {إن كنا فاعلين} إن جعلت (إن) شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب (لو) وهو جملة {لاتخذناه} فيكون تكريراً للتلازم؛ وإن جعلت (إن) حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من (لو)، أي ما كنا فاعلين لهواً.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
(بل) للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخَلق لعباً إضرابَ إبطال وارتقاء، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهيةً للباطل بَلْهَ أن نعمل عملاً هو باطل ولعب.
والقذف، حقيقته: رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زَجْر أو إعداممٍ أو تكوين ما يغلب، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء يأتي عليه ليتلفه أو يشتته، فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجَد في عقولهم إدراكاً للتمييز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل، قال تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} في سورة الأنفال (12).
والدمغ: كَسْر الجسم الصُلب الأجوف، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل، وهو استعارة أيضاً حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالتِه كما يزيل القذف الجسم المقذوف، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطلَ عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابيا} إلى قوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} في سورة الرعد (17).
والزاهق: المنفلت من موضعه والهالك، وفِعله كسمع وضرب، والمصدر الزهوق. وتقدم في قوله تعالى: {وتَزْهَقَ أنفسُهم وهم كافرون} في سورة براءة (55) وقوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقاً} في سورة الإسراء (81).
وعندما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} إلى قوله تعالى: {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 3 5]. وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر. خُتم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى: {ولكم الويل مما تصفون}، أي مما تصفون به محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن.
والويل: كلمة دعاء بسوء. وفيها في القرآن توجيه لأن الوَيْل اسم للعذاب.
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}
عطف على جملة {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدّنا} [الأنبياء: 17] مبيِّنةٌ أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقياممِ بما خلقوا لأجله، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن.
فاللام في {وله} للملك، والمجرور باللام خبر مقدم. و{من في السموات} مبتدأ، وتقديم المجرور للاختصاص، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد رداً على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.
و {من في السماوات والأرض} يعم العقلاء وغيرهم وغُلِّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.
وقوله تعالى {ومن عنده} يجوز أن يكون معطوفاً على {من في السماوات والأرض} فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة {لا يستكبرون عن عبادته} حالاً من المعطوف عليه.
ويجوز أن يكون {مَنْ عنده} مبتدأ وجملة {لا يستكبرون عن عبادته} خبراً.
وما صدَق (مَن) جماعة كما دل عليه قوله تعالى {لا يستكبرون} بصيغة الجمع.
{ومن عنده} هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.
وعلى كلا الوجهين في موقع جملة {لا يستكبرون عن عبادته} يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون.
والاستحسار: مصدر كالحُسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاسيخار، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقلَ ذلك العمل، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرجَ مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسوراً ضعيفاً. وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.
وجملة {يسبحون الليل والنهار} بيان لجملة {ولا يستحسرون} لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يَعيَا منه.
والليل والنهار: ظرفان. والأصل في الظرف أن يستوعبَه الواقع فيه، أي يسبحون في جميع الليل والنهار.
وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.
والفتور: الانقطاع عن الفعل.
{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
(أم) هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطفَ إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك، انتقالاً من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص، الذي في قوله تعالى: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده} [الأنبياء: 19] كما تقدم، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضاً بين جملة {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20] وجملة {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23]. وليس إضرابُ الانتقال بمقتضضٍ عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه.
و (أم) تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق مساق الاستفهام وهو استفهام إنكاري، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.
وضمير {اتخذوا} عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتاً عن ضمير {ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء: 18]، ويجوز أن يكون متناسقاً مع ضمائر {بل قالوا أضغاث أحلام} [الأنبياء: 5] وما بعده.
ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين، وإظهار لأفن رأيهم، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالَم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضاً بأن ما كان مثلَ ذلك لا يستحق أن يكون معبوداً، كما قال إبراهيم عليه السلام: {أتعبدون ما تنحتون} في [الصافات: 95].
وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى: {ومن عنده} [الأنبياء: 19] لأن المراد أهل السماء، وجملة {هم ينشرون} صفة ثانية ل {آلهة}.
واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة. والمراد: إنْشار الأموات، أي بعثُهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سَوْق المعلوم مساق غَيره المسمى بتجاهل العارف، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه، أي أن الأوْلى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأنّ وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإنْ نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت، والمشركون لم يدّعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نُزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعاً في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة [النحل: 21] في ذكر الآلهة: {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون.}
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)}
جملة مبينة للإنكار الذي في قوله تعالى {أم اتخذوا آلهة} [الأنبياء: 21] ولذلك فصلت ولم تعطف.
وضمير المثنى عائد إلى {السموات والأرض} [الأنبياء: 19] من قوله تعالى: {وله من في السموات والأرض} [الأنبياء: 19] أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها مِلكاً لله وعباداً له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامهما الذي خُلقتا به.
وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج «لبيكَ لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه ومَا ملك» وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أيمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء.
وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله هو خالق السماوات والأرض، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} في سورة [الزمر: 38]، وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} في سورة الزخرف (9). فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك، ولكنها منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.
والفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء. ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيهما. فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة. ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجرَ والزرع، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.
ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفاً بصفات الإلهية المعروفةِ آثارها، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقُدَر لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إراداتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثاً للاستغناء بواحد منهم، ولأنه إذا حصل كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثريْن على مؤثّر واحد وهو محال لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد. فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافاً بالأنواع، أو بالأحوال، أو بالبقاع، فالإله الذي لا تنفذ إرادته في بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره.
ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم فكل يغار على ما في سُلطانه.
فثبت أنّ التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوثَ الخلاف.
ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم، وكان مقتضياً تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه، تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يُهلك كلَّ ما هو تحت سلطانه فلا يزال يَفْسُد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى: {وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} في سورة المؤمنون (91).
فلا جرم دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامهما في متعدد العصور والأحوال على أنّ إلهَها واحد غير متعدد.
فأما لو فُرض التفاوت في حقيقة الإلهية فإن ذلك يقتضي رُجحان بعض الآلهة على بعض، وهو أدخل في اقتضاء الفساد إذ تصير الغلبة للأقوى منهم فيجعل الكل تحت كلاكله ويَفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حَوزته فيكون الفساد أسرع.
وهذا الاستدلال باعتبارِ كونه مسوقاً لإبطال تعدّدِ خاص، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمِين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشّر أو أحدهما للنور والآخر للظلمة هو دليل قطعي.
وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسمّوه برهان التمانع، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتزاني في «شرح النسفية». وقال في «المقاصد»: «وفي بعضها ضعف لا يخفى».
وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العُرف وهو قياس إقناعي.
ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة، أي يمنعَ بعضهم بعضاً من تنفيذ مراده، والخوض فيه مَقامُنا غنيٌّ عنه.
والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجة عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلاً قطعياً لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى {وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} وسيجيء في سورة المؤمنون (91).
وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب «المواقف».
الأولى: طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة. وتقريرها: أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة، فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعل إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر بفتح المثلثة واحدٍ وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد. وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مُرجح لاستوائهما في الصفة والموصوف بها، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة.
ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور:
أحدها أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة بل يجوز عقلاً أن يكون أحدهما أقوى قدرةً من الآخر، وأجيب عنه بأن العجز مطلقاً مناف للألوهية بداهةً. قاله عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي».
الأمر الثاني: يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمرَ الذي لم يرده الآخر فلا يلزم عجز من لم يفعل.
الأمر الثالث: يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال.
الأمر الرابع: يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل فلا يلزم عجز المفوّض لأن عدم إيجاد المقدور لمانععٍ أرَاده القادرُ لا يسمّى عجزاً، لا سيما وقد حصل مراده، وإن لم يفعله بنفسه.
والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أنّ في جميعها نقصاً في الألوهية لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال.
إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع.
الطريقة الثانية: عول عليها التفتزاني في «شرح العقائد النسفية» وهي أنّ تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما، أي أن يمنع أحدهما ما يريده الآخر، لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة. وإذا كان هذا الإمكان لازماً للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذ تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده، فلا يصح أن يحصل المُرَادَاننِ معاً للزوم اجتماع النقيضين، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل، والعجزُ يستلزم الحدوث وهو محال، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازمُ لازِممِ لازممٍ للتعدد وهو محال، ولازم اللازم لازمٌ فيكون الملزوم الأول محالاً، قال التفتزاني: وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع.
وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل، لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أنّ اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء. والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة فعلمهما وحكمتهما يقتضيان انكشافاً متماثلاً فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع، ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي.
بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى.
وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أنّ الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما، وإن كان احتمالاً صحيحاً لكن يصير به تعدد الإله عبثاً لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر، فالآية دليل قطعي.
ثم رجع عن ذلك في «شرح النسفية» فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلاً قطعياً إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى {فيهما،} وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير، أي لو كان مؤثر فيهما، أي السماوات والأرض غير الله تكون الآية حجة قطعية. وقد بسطه عبد الحكيم في «حاشيته على الخيالي» ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا.
والاستثناء في قوله تعالى {إلا الله} استثناء من أحد طرفي القضية لا من النسبة الحكمية، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم. وذلك من مواقع الاستثناء لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبلَ الاستثناء وذلك في المفرغ وفي المنصوب، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ فيقال حينئذ إن (إلا) بمعنى غير والمستثنى يعرب بدلاً من المستثنى منه.
وفُرع على هذا الاستدلال إنشاءُ تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى: {فسبحان الله ربّ العرش عما يصفون} أي عما يصفونه به من وجود الشريك.
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة.
ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات وهو شيء لا ينازعون فيه بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها وهو العرش تعريضاً بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك.
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}
الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى: {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 1920] كما تقدم عند قوله تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض} [الأنبياء: 21] الخ.. فالمعنى أن مَنْ عنده وهم المقربون من المخلوقات هم مع قربهم يُسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حدّ الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله. فلما كان الضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل مشعراً بفاعل حُذف لقصد التعميم، أي لا يَسأل سائلٌ الله تعالى عما يفعل. وكان ممن يشملهم الفاعل المحذوف هم مَن عنده من المقربين، صَحّ كون هذه الجملة حالاً من {مَن عنده} [الأنبياء: 19]، على أن جملة {لا يسأل عما يفعل} تمهيد لجملة {وهم يسألون}.
على أن تقديمه على جملة {وهم يسألون} اقتضته مناسبة الحديث عن تنزيهه تعالى عن الشركاء فكان انتقالاً بديعاً بالرجوع إلى بقية أحوال المقربين.
فالمقصود أن مَن عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون.
وبهذا تعلم أن ليس ضمير {وهم يسألون} براجع إلى ما رجع إليه ضمير {يَصفون} [الأنبياء: 22] لأن أولئك لا جَدوى للإخبار بأنهم يُسألون إذ لا يتردد في العلم بذلك أحدٌ، ولا براجع إلى {آلهة من الأرض} [الأنبياء: 21] لعدم صحة سؤالهم، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة {لا يسأل عما يفعل} حالاً مِن {مَن عنده} [الأنبياء: 19].
والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يُفعل، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يَفعل وما لا يفعل وبمظنة التعرض للخطأ في بعض ما يفعل.
وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30]، ولا سؤالَ الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحِكَم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرةً بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لإلهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم إذ هم يُسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يُسأل. وتُستخرج من جملة {لا يسأل عما يفعل} كنايةٌ عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبّر فيها أو كُشف له عما خفي منها.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}
جملة {أم اتخذوا من دونه آلهة} تأكيد لجملة {أم اتخذوا آلهة من الأرض} [الأنبياء: 21]. أُكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاماً لِفظاعته وليُبنَى عليه استدلالٌ آخر كما بُني على نظيره السابق؛ فإن الأول بني عليه دليلُ استحالةٍ من طريق العقل، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابِقِها ولاحقها، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {هاتوا برهانكم} أي، هاتوا دليلاً على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.
والبرهان: الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} في سورة النساء (174).
والإشارة في قوله تعالى {هذا ذكر من معي} إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه، كقوله تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} في سورة لقمان (11)، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة {ذِكر} إلى {مَن معي} من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكَّرون بفتح الكاف.
والمعية في قوله تعالى {مَن معي} معيَّة المتابعة، أي مَن معي من المسلمين، فما صْدق (مَن) الموصولة الأمم، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} [الأنبياء: 10]. والمراد بقوله تعالى: {هذا ذكر من معي} القرآن، وأما قوله تعالى: {وذكر من قبلي} فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة: التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط في} [آل عمران: 18].
وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون}، أي لا تَرجُ منهم اعترافاً ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانياً، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون عِلمه.
والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى {فهم معرضون}، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.
وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلاً عليهم بأن قليلاً منهم يعلمون الحق ويجحدونه، أو إيماء إلى أن قليلاً منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوباً فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشَرَاشِرِه فما أتمها حتى عزم على الإسلام.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقّيه أقبل على رسوله صلى الله عليه وسلم بتأييد مقاله الذي لقّنه أن يجيبهم به وهو قوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} [الأنبياء: 24]، فأفادهُ تعميمه في شرائع سائر الرسل سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب، وسواء من كان كتابه باقياً مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم.
وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقرير تبعاً لفائدتها المقصودة. وفيها إظهارٌ لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر وقطع دابره إصلاحاً لعقولهم بأن يُزال منها أفظع خطل وأسخف رأي، ولم تَقطع دابرَ الشرك شريعةٌ كما قطعه الإسلام بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمَّة.
وحرف (مِن) في قوله تعالى {مِن رسول} مزيد لتوكيد النفي.
وفرع فيما أوحي إليهم أمرَه إياهم بعبادته على الإعلان بأنه لا إله غيره، فكان استحقاق العبادة خاصاً به تعالى.
وقرأ الجمهور {إلاّ يُوحى إليه بمثناة تحتية مبنياً للنائب، وقرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون مبنياً للفاعل، والاستثناءُ المفرّع في موضع الحال.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى. فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو اعتقادهم أن الله اتخذ ولداً. وقد كانت خُزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سَرَوات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعضٌ من قريش وغيرِهم من العرب. وقد تقدم عند قوله تعالى {ويجعلون لله البنات سبحانه} في سورة النحل (57).
والولَد اسم جمع مفردُه مثلُه، أي اتخذ أولاداً، والولد يشمل الذكر والأنثى، والذين قالوا اتخذ الله ولداً أرادوا أنه اتخذ بناتتٍ، قال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه} [النحل: 57].
ولما كان اتخاذ الولد نقصاً في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة {سبحانه} تنزيهاً له عن ذلك فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى في سورة يونس (68) {قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني} ولما كان المراد من قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولداً} [البقرة: 116] أنهم زعموا الملائكة بناتتِ الله تعالى أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عبادٌ دون ذِكرِ المبتدأ للعلم به. والتقدير: بل الملائكة عباد مكرمون، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين.
والسبْق، حقيقته: التقدم في السير على سائر آخر. وقد شاع إطلاقه مجازاً على التقدم في كل عمل. ومنه السبق في القول، أي التكلم قبل الغَير كما في هذه الآية. ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة، أي كناية عن التعظيم والتوقير. ونظيره في ذلك النهيُ عن التقدم في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] فإن التقدم في معنى السبق.
فقوله تعالى: {لا يسبقونه بالقول} معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله، أي لا يقولون إلاّ ما أذن لهم أن يقولون. وهذا عام يدخل فيه الردّ على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح بنفيه.
وتقديم {بأمره} على {يعملون} لإفادة القصر، أي لا يعملون عملاً إلا عن أمر الله تعالى فكما أنهم لا يقولون قولاً لم يأذن فيه كذلك لا يعملون عملاً إلا بأمره.
وقوله تعالى {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} تقدم نظيره في سورة البقرة (255).
وقوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى {لا يسبقونه بالقول} اهتماماً بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.
وحذف مفعول {ارتضى} لأنه عائد صلة منصوب بفعل، والتقدير: لمن ارتضاه، أي ارتضى الشفاعة له بأن يأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهاراً لكرامتهم عند الله أو استجابةً لاستغفارهم لمن في الأرض، كما قال تعالى
{والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} في سورة الشورى (5). وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول.
ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريراً بقوله تعالى: وهم من خشيته مشفقون}، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره.
و {مِن} في قوله تعالى {من خشيته} للتعليل، والمجرور ظرف مستقر، وهو حال من المبتدأ. و{مشفقون} خبر، أي وهم لأجل خشيته، أي خشيتهم إياه.
والإشفاق: توقع المكروه والحذر منه.
والشرط الذي في قوله تعالى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه} الخ... شرط على سبيل الفرض، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادَّعوا لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضَونه ولا يقولونه، وأنهم ادعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65].
وعدل عن (إن) الشرطية إلى (مَن) الشرطيّة للدلالة على العموم مع الإيجاز. وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط، وفي هذا إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى عليه السلام وأنهم يقولون عليه ما لم يقله. ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى {كذلك نجزي الظالمين} أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكاً. والظلم: الشرك.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}
{أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والارض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما}
قرأ الجمهور {أوَلم} بواو بعد الهمزة وهي واو العطف، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير {ألم يَر} بدون واو عطف. قال أبو شامة: ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت: معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير، وأهملت غير قراءته.
والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.
والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.
والرَّتق: الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.
والفَتق: ضده، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.
والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.
ثم إن قوله تعالى كانتا} يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى {ففتقناهما}.
وإنما لم يقل نحو: فصارتا فتقاً، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.
والرتق يحتمل أن يراد به معاننٍ تنشأ على محتملاتها معاننٍ في الفتق، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى: {فأحيينا به الأرض بعد موتها} في سورة فاطر (9).
وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معاننٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما، أي الاتصال والانفصال.
ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة، أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً، أي كانتا كُتلة واحدة ثم انفصلتْ السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} في سورة هود (7).
ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع، أي كانت السماوات رتقاً في حد ذاتها وكانت الأرض رتقاً في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض، وهذا كقوله تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم} في سورة فصّلت (912).
وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريرياً عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوباً بالإنكار على ذلك.
وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضاً الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} [الإسراء: 99].
ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد. وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نوراً أضاء الموجودات.
ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيراً أو عَمَاء كما جاء في الحديث: " كان في عماء " فكانت جنساً عالياً متحداً ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد. ثم خلق الله من ذلك الجنس أبْعاضاً وجعل لكل بَعض مميزات ذاتيةً فصيّر كل متميز بحقيقة جنساً فصارتْ أجناساً. ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعاً. وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق، وبعض من الصوفية وهو صاحب «مرآة العارفين» جعل الرتق عَلَماً على العنصر الأعظم يعني الجسمَ الكل، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش. ذكر ذلك الحكيمُ الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب «مَعارج النور في أسماء الله الحسنى» المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185ه في مقدمات كتابه «معارج النور» وفي رسالة له سماها «رسالة الفتق والرتق».
والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير.
{وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَئ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة، ولذلك كان استمرار الحمى مفضياً إلى الهزال ثم إلى الموت.
و {جَعَل} هنا بمعنى خَلق، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال.
و من الماء} متعلق ب {جعلنا.} و(مِن) ابتدائية. وفرع عليه {أفلا يؤمنون} إنكاراً عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله
{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}
هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذْ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين، وجعل فيها الطّرق، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال.
والرواسي: الجبال، لأنها رست في الأرض، أي رسخت فيها.
والميْد: الاضطراب. وقد تقدم في أول سورة النحل.
وتقدم في أول سورة النحل أن معنى {أن تَميد} أن لا تميد، أو لكراهة أن تميد. والمعنى: وجعلنا في الأرض فجاجاً. ولما كان {فجاجاً} معناه واسعة كان في المعنى وصفاً للسبيل، فلما قُدم على موصوفه انتصب على الحال. والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقاً واسعة ولو شاء لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأودية.
والفجاج: جمع فَجّ. والفج: الطريق الواسع.
والسُبُل: جمع سبيل، وهو: الطريق مطلقاً.
وجملة {لعلهم يهتدون} مستأنفة إنشاء رجاءِ اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير، أي جعلنا سبلاً واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله.
فقوله تعالى {لعلهم يهتدون} من الكلام الموجه.
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)}
لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس. فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى: {أن تميد بهم} [الأنبياء: 31] وبقوله تعالى: {لعلهم يهتدون} [الأنبياء: 31].
وأمّا حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى: {وهم عن آياتها معرضون}. فأُدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به.
والسقف، حقيقته: غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة. وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض، قال تعالى: {الله الذي رفع السموات} بغير عمد ترونها وقد تقدم في أول سورة الرعد (2).
وجملة {وهم عن آياتها معرضون} في موضع الحال. وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات. وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأيْن لإفادة القصر، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء، لأنهم لما عبدوا الأصنام، والعبادة شكر، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية.
ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار، ونفس الشمس والقمر، لا في إيجادها على حالة خاصة، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل.
وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تُفيض النور على الموجودات، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض.
وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجُّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلْق النهار تبع لخلق الشمس وخلققِ الأرض ومقابلةِ الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم.
وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن. {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكراً مجملاً في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلاً في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقامُ مثيراً في نفوس السامعين سؤالاً عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره.
وضمير {يسبحون} عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القَمر والكوكب.
وقال في «الكشاف»: «إنه روعي فيه وصفُها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضاً ضمير العقلاء، يعني فيكون ذلك ترشيحاً للاستعارة».
وقوله تعالى {في فلك} ظرف مستقر خبر عن {كلّ}، و{كل} مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل تلك، فهو معرِفة تقديراً. وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلاً من المذكورات مستقر في فلَك لا يصادم فلَك غيره، وقد علم من لفظ (كل) ومن ظرفية (في) أن لفظ {فلك} عام، أي لكل منها فلكُه فهي أفلاك كثيرة.
وجملة {يسْبحون} في موضع الحال.
والسبح: مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.
والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلِب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر.
والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد. والأصل الأصيل في ذلك كله فَلْكة المَغْزِل بفتح الفاء وسكون اللام وهي خشبة مستديرة في أعلاها مِسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغَزْل.
ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: {كل في فلك} فيه محسّن بديعي فإن حروفه تُقرأ من آخرها على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى: {ربك فكبِّر} [المدّثر: 3] بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سمّاه السكاكي «المقلوبَ المستوي» وجعله من أصناف نوع سمّاه القَلب.
وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسمّاه الحريري في «المقامات» «ما لا يستحيل بالانعكاس» وبنَى عليه المقامة السادسة عشَرة ووضح أمثلة نثراً ونظماً، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً.
قال العلامة الشيرازي في «شرح المفتاح»: وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال. قلت: ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن.
ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زارَ العمادَ الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد: «سِرْ فلا كبَا بك الفرس» ففطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة: «دَام عُلا العماد» وفيه محسن القلب.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)}
عُنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم {أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون} [الأنبياء: 3]، وقولهم: {أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء: 5] وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يُدبرونه قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} في سورة الطور (30)، وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك في} [الأنفال: 30].
وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى: {أفإن مت فهم الخالدون} فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريبَ المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم، أو كأنهم لا يموتون أبداً فلا يشمت بهم أحد، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام.
ففي قوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} طريقةُ القول بالموجَب، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجَب، أي ما هم بخالدين حتى يُوقنوا أنهم يرون موتك. وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذارٌ لهم بأنهم لا يرى موتَه منهم أحد.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين.
ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها، وهي {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} [الأنبياء: 34]. ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين.
واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن.
وذوقُ الموت ذوق آلاممِ مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد.
والمراد بالنفس النفوس الحالّة في الأجساد كالإنسان والحيوان. ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيّداً بوصف المجرداتتِ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة. وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة: إما لفظية كما في قوله تعالى {تَعْلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} في سورة المائدة (116). وإما تقديرية كما في قوله تعالى {ويحذركم الله نفسه} في آل عمران (28).
وجملة {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشرّ جميع الأحياء، فعلّم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلد. وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى: «ليرجعَنّ رسولُ الله فيُقطِّع أيدي قوم وأرجلَهم» حتى حضر أبو بكر رضي الله عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبّله وقال: «طبت حياً وميتاً والله لا يجمع الله عليك موتتين». وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد:
رأيت المنايا لمَ يدَعْنَ مُحمداً *** ولا باقياً إلاّ لَه الموتُ مرصدا
وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشرّ وأن الدنيا دار ابتلاء.
والبلوى: الاختبار. وتقدم غير مرة. وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة، إطلاقٌ مجازي، لأن ابتناء النظام عليه دَل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه. أشبَه اختبارَ المختبِر ليعلم أحوال من يختبرهم.
و {فتنةً} منصوب على المفعولية المطلقة توكيداً لفعل {نبْلوكم} لأن الفتنة ترادف البَلْوَى.
وجملة {وإلينا تُرجعون} إثبات للبعث، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر.
وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر. وأمّا احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتَهم.
{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}
هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبه، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض: {أهذا الذي يذكر آلهتكم}.
والهُزُؤُ بضم الهاء وضم الزاي مصدر هَزَأ به، إذا جعله للعبث والتفكه. ومعنى اتِّخاذه هُزْؤاً أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق. وتقدم في سورة [الكهف: 106] قوله تعالى: {واتخذوا آياتي ورسلي هزؤاً} وجملة {أهذا الذي يذكر آلهتكم} مبيّنة لجملة {إن يتخذونك إلا هزؤاً} فهي في معنى قول محذوف دل عليه {إن يتخذونك إلا هزؤاً} لأن الاستهزاء يكون بالكلام. وقد انحصر اتخاذُهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه.
والاستفهام مستعمل في التعجيب، واسم الإشارة مستعمل في التحقير، بقرينة الاستهزاء.
ومعنى {يذكر آلهتكم} يذكرهم بسوء، بقرينة المقام، لأنهم يعلمون ما يذكر به آلهتهم مما يسوءهم، فإن الذكر يكون بخير وبشرَ فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا وكما في قوله تعالى الآتي: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} [الأنبياء: 60]. وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب، ولذلك أعْقبه الله بجملة الحال وهي {وهم بذكر الرحمن هم كافرون}، أي يغضَبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكُنْهِها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمان الذي هو الحقيق بأن يذكروه. فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام. والأظهر أن المراد بذكر الرحمان هنا القرآن، أي الذكر الوارد من الرحمان. والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر. ومعنى كفرهم بذكر الرحمان إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]. وأيضاً كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث.
وعبر عن الله تعالى باسم {الرحمان} تَورُّكاً عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمان اسماً لله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} في سورة [الفرقان: 60].
وضمير الفصل في قوله تعالى: {هم كافرون} يجوز أن يفيد الحصر، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أنّ هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر.
ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقاً لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر.
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}
جملة {خُلِق الإنسان من عَجَل} معترضة بين جملة {وإذا رآك الذين كفروا} [الأنبياء: 36] وبين جملة {سأُريكم آياتي}، جعلت مقدمة لجملة {سَأُريكم آياتي}. أمّا جملة {سَأُريكم آياتي} فهي معترضة بين جملة {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً} [الأنبياء: 36] وبين جملة {ويقولون متى هذا الوعد} [الأنبياء: 38]، لأن قوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً} [الأنبياء: 36] يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين، فكان قوله تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين.
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين. وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية.
والعَجَل: السرعة. وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة. ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عَجولاً} [الإسراء: 11] وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً} [المعارج: 19]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.
وجملة {سأُريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.
والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.
وحذفت ياء المتكلم من كلمة {تستعجلونِ} تخفيفاً مع بقاء حركتها فإذا وُقف عليه حذفت الحركة من النوننِ.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}
نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذِكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكماً، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد} عطفاً على جملة {سأريكم آياتي} [الأنبياء: 37]. وهذا معبّر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وعناداً.
وذكر مقالتهم هذه هنا مناسب لاستبطاء المسلمين النصرْ. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً} [الأنبياء: 36] فيجوز أن تكون معطوفة عليها.
وخاطبوا بضمير الجماعة النبيءَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.
واستفهامُهم استعملوه في التهكم مجازاً مرسلاً بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين كانوا موقنين بعدم حصول الوعد.
والمراد بالوعد ما تَوعدهم به القرآن من نصرِ رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظرُ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين وقف على القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} [الأعراف: 44] أي ما وعدنا ربنا من النصر وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.
وجملة {لو يعلم الذين كفروا} مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}. ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.
وجواب (لو) محذوف، تقديره: لمَا كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هُزؤاً} [الأنبياء: 36]. وحذْف جواب (لو) كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.
و (حينَ) هنا: اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية، فهو من أسماء الزمان المتصرفة، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عَدوا تأخيره دليلاً على تكذيبه. 6
وجملة {لا يكفون} مضاف إليها (حينَ). وضمير {يكفون} فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة [الأنفال: 50] {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لَقُوه يوم بدر.
وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس:
نُعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وجوهاً لا تعرض لللطام
ولأن الأدبار يأنف الناسُ من ضربها لأن ضربها إهانة وهزي، ويسمى الكسع.
والوجه الثاني: أن يكون ضمير {يكُفُّون} عائداً إلى الذين كفروا، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً. وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.
وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم {متى هذا الوعد} ولقوله تعالى {سأريكم آياتي} [الأنبياء: 37] كما تقدم.
وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} عطف على {لا يكفون} أي لا يكف عنهم نفح النار، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصراً ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصاً منها ولا يجدون نصيراً من أحلافهم.
و (بل) للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيُّؤ له والتوطن عليه، كما قال كُثَيّر:
فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].
وفاعل {تأتيهم} ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى: {حين لا يكفون عن وجوههم النار} باعتبار الوقعة أو نحو ذلك، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة.
والبغتة: المفاجأة، وهي حدوث شيء غير مترقب.
والبَهت: الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة، يقال: بَهتَهَ فبُهِتَ. قال تعالى في سورة [البقرة: 258] {فبهت الذي كفر أي غُلب. وهو معنى التفريع في قوله تعالى: فلا يستطيعون ردها} وقوله تعالى: {ولا هم ينظرون} أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أُنظِروا زمناً طويلاً لعلهم يقلعون عن ضلالهم.
وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} في [الأنفال: 42]، وقال تعالى: {ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} [الأنفال: 44]. ولا شك في أن المستهزئين مثلَ أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف، كانوا ممن بَغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.
وأما إذا أريد بضمير {تأتيهم} الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة. وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
عطف على جملة {سأريكم آياتي} [الأنبياء: 37] تطمين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتسلية له. ومناسبة عطفها على جملة {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار} [الأنبياء: 39] إلى آخرها ظاهرة.
وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وءابَاءهم حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ العُمُرُ}
بعد أن سُلِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أُمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قِبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظاً لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.
والاستفهام إنكار وتقريع، أي لا يكلؤُهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك، تنبيهاً لهم إذ نسوا نعمه.
وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل: من يكلؤكم في جميع الأوقات.
وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يُعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.
وذكر النهار بعده للاستيعاب.
ومعنى {من الرحمان} من بأسه وعذابه.
وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.
فالإضراب الأول قوله تعالى: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون}، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يُرجَى منهم الانتفاع بالقوارع، أي أخِّرْ السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم.
ثم أضرب إضراباً ثانياً ب (أم) المنقطعة التي هي أخت (بل) مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا}، أي بل ألهم آلهة. والاستفهام إنكار وتقريع، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا. وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.
وجملة {لا يستطيعون نصر أنفسهم} مستأنفة معترضة. وضمير {يستطيعون} عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم. والمعنى: كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.
ثم أضرب إضراباً ثالثاً انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخَذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد، وهو قوله تعالى: {بل متعنا هؤلاء وآباءهم}، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مَداها حتى طالت أعمار آبائهم. وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمدٍ عَلِمَه.
وقد وُجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى: {قل من يكلؤكم}، ثم أُعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى:
{هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} الآية في سورة [يونس: 22].
و {يصحبون} إما مضارع صحبهُ إذا خالطه ولازمه، والصحبة تقتضي النصر والتأييد، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعلُ المبنيّ للنائب مراداً به الله تعالى، أي لا يصحبهم الله، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى: {منا} متعلقاً ب {يصحبون} على معنى (مِن) الاتصالية، أي صحبة متصلةً بنا بمعنى صحبة متينة. وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3].
ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفاً لقصد العموم، أي لا يصحبهم صاحب، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حِماية الجار فيكون قوله تعالى: {منا} متعلقاً ب {يصحبون} على معنى (مِن) التي بمعنى (على) كقوله تعالى: {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} [غافر: 29].
وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه، أي من السوء.
والإشارة ب {هؤلاء} لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون}
قريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38] تهكماً وتكذيباً. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار} إلى قوله تعالى: {ما كانوا به يستهزئون} [الأنبياء: 3941] فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته.
والرؤية علمية، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى، وكفى بذلك دليلاً على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل {نأتي.
فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [النحل: 26].
والتعريف في {الأرض} تعريف العهد، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [سورة يوسف: 80] {فلن أبرح الأرض} أي أرضَ مصر.
والنقصان: تقليل كمية شيء.
والأطراف: جمع طَرف بفتح الطاء والراء. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته، وضده الوسط.
والمراد بنقصان الأرض: نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين، والقرينة المشاهدة.
والمراد: نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.
وجملة {أفَهمُ الغالبون} مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى: {أفهم الغالبون} دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم.
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)}
استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجالِهم بالوعد تهكماً بقوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد} [الأنبياء: 38]، من التهديدِ الذي وُجه إليهم بقوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا} [الأنبياء: 39] الخ... ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار} إلى قوله تعالى: {حتى طال عليهم العمر} [الأنبياء: 4244]، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصْر المسلمين، واقتراب الوعد بقوله تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الأنبياء: 44]، عُقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته، وهي قصره على الإنذار بما سيحلّ بهم في الدنيا والآخرة إنذاراً من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن، أي فلا تعرضوا عنه، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك، ولا تسألوا عن تعيين آجال حلول الوعيد، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.
فالكلام قصر موصوف على صفة، وقصره على المتعلِّق بتلك الصفة تبعاً لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين. ولم يظهر لي مِثال له من كلام العرب قبل القرآن.
وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم وذلك ذيل بقوله تعالى: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون}. والواو للعطف على {إنما أنذركم بالوحي} عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.
والتعريف في {الصُّم} للاستغراق. والصمم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيهاً لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به. وتقدم في قوله تعالى: {صم بكم عمي} في [سورة البقرة: 18]. ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.
وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإندار لأنه إعراض يُفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.
واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً كما قال: {أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ} [يوسف: 108] والأظهر أن جملة {ولا يسمع الصم الدعاء} كلام مُخاطَب به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.
وقرأ الجمهور {ولا يَسمع بتحتية في أوله ورفععِ الصمُّ. وقرأه ابن عامر ولا تُسمِع بالتاء الفوقية المضمومة ونصب الصمّ خطاباً للرسول. وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم.
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}
عطف على جملة {قل إنما أنذركم بالوحي} [الأنبياء: 45] والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أنذرهم بأنهم سيندمون عندما ينالهم أول العذاب في الآخرة. وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة.
وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء.
والمسُّ: اتصال بظاهر الجسم.
والنفحة: المرة من الرضخ في العطية، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه.
وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر، وبضميمة بناء المرة فيها، والتنكير، وإسناد المسّ إليها دون فعل آخر أربعُ مبالغات في التقليل، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حلّ به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.
والويل تقدم عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في [سورة البقرة: 79]، وعند قوله تعالى: {وويل للكافرين من عذاب شديد} في أول [سورة إبراهيم: 2].
ومعنى {إنا كنا ظالمين} إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك} [الأنبياء: 46] الخ لمناسبة قولهم {إنا كنا ظالمين} [الأنبياء: 46]، ولبيان أنهم مجازَون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بياناً بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المُجَازَيْن، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى {فلا تظلم نفس شيئاً}، وفي المجازَى عليه من أجل قوله تعالى {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها}.
ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله {رَبِّك} [الأنبياء: 46]، وتكون نون المتكلم المعظّم التفاتاً لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال: أدّى إليه الكيل صاعاً بصاع، ولذلك فرع عليه قوله تعالى: {فلا تظلم نفس شيئاً}.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية.
والوضع حقيقته: حط الشيء ونَصْبه في مكان، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز.
والميزان: اسم آلة الوزن. وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد، وهي تتّحد في كونها ذات طبقين متعادليْن في الثقل يُسميان كِفتين بكسر الكاف وتشديد الفاء تكونان من خشب أو من حديد، وإذا كانتا من صُفر سُميتا صنجتين بصاد مفتوحة ونون ساكنة، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب، في طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود (شَاهين) وهو موضوع مَمدوداً، وتجعَل بوسطه على السواء عروة لتمسكه مِنها يدُ الوازن، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مَصُوغَة في وسط (الشاهين) فإذا ارتفع الشاهين تحركتْ تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عُرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله، وتسمى تلك الإبرة لساناً، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كلّ واحد منهما في كِفّة، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان، وإذا أريد معرفة ثِقل شيء في نفسه دون نسبته إلى شيء آخر جعلوا قطعاً من معدن: صُفرٍ أو نُحَاس أو حديدٍ أو حَجر ذات مقادير مضبوطةٍ مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرَّطل، فجعلوها تقديراً لثقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض، ووحدتها هو المثقال، ويسمى السَّنْج بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم.
والقِسْط بكسر القاف وسكون السين اسم المفعول، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزاً. وتقدم في قوله تعالى: {قائماً بالقسط} في [سورة آل عمران: 18].
وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا: أهو الحقيقةُ أم المجاز، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف، فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزاناً خاصاً به توزن به أعماله، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى:
{فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} في [سورة القارعة: 67].
ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحداً فواحداً، وأنه بيد جبريل، وعليه فالجَمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام.
واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزانَ الدنيا ولكنه على مثاله تقريباً. وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملاً في معناه الحقيقي وهو النصْبُ والإرصاد.
وذهب مجاهد وقتادة والضحّاك وروي عن ابن عباس أيضاً أن الميزان الواقع في القرآن مثَلٌ للعدل في الجزاء كقوله {والوزن يومئذ الحق} في [سورة الأعراف: 8]، ومال إليه الطبري. قال في «الكشاف»: «الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنّصفَة من غير أن يُظلم أحدٌ» ه. أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25].
والوضع: ترشيحٌ ومستعار للظهور.
وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره.
وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا: الميزان حقيقة، وفريق قالوا: هو مجاز. وقد ذكر القولين في «الكشاف» فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أيمتهم وصرح به في «تقرير المواقف».
وفي «المقاصد»: «ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين» ه.
قلت: لعلّه أراد به النسفيّ في «عقائده».
قال أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم»: «انفرد القرآن بذكر الميزان، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفّتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها. ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العبادَ بمقادير أعمالهم. ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا.
وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى. فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف، ومن أراد المشي ليجدَنّ سبيلاً مِئْتاء إذ يجد ثلاثة معان ميزاناً ووزناً وموزوناً، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحاً في كلّ لفظةٍ حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقرى فيبطل ما قد أثبت بل يُبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه.
وقلت: كلا القولين مقبول والكلّ متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء.
وليس بمثل هذه المباحث تعرف قدرة الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تُجحد تصرفاته تعالى.
ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله {القسط} في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحاً.
وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى: {والوزن يومئذ الحق} في [سورة الأعراف: 8].
والقسط: العدل، ويقال: القسطاس، وهو كلمة معرّبة من اللغة الرومية (اللاطينية). وقد نقل البخاري في آخر «صحيحه» ذلك عن مجاهد.
فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف، أي ذات القسط، وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلاً من الموازين فيكون تجريداً بعد الترشيح. ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله فإنه مصدر صالح لذلك.
واللام في قوله تعالى {ليوم القيامة} تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف، أي لأجل يوم القيامة، أي الجزاء في يوم القيامة. وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى (عند) التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال: كتبَ لثلاث خلون من شهر كذا، وكقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] أي نضع الموازين عند يوم القيامة.
وتفريع {فلا تظلم نفس شيئاً} على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة. والظلم: ضد العدل، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل. و{شيئاً} منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئاً من الظلم.
ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم، أي شيئاً من الظلم.
ووقوعه في سياق النفي دلّ على تأكيد العموم من فعل {تُظلم الواقع أيضاً في سياق النفي، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك.
وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها، فنُفِيَ جنس الظلم ونُفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء.
وجملة {وإن كان مثقال حبة من خردل} في موضع الحال. و(إنْ) وصلية دالة على أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يُتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نُصّ على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى. وقد يرد هذا الشرط بحرف (لو) غالباً كما في قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في [آل عمران: 91]. ويرد بحرف (إن) كما هنا، وقول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمِئْزَر *** فاعلم وإن رديتَ بُردا
وقد تقدم في سورة آل عمران.
وقرأ الجمهور {مثقالَ} بالنصب على أنه خبر {كان} وأن اسمها ضمير عائد إلى {شيئاً.} وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة.
وقرأ نافع وأبو جعفر {مثقالُ} مرفوعاً على أن {كان} تامّة و{مثقال} فاعل.
ومعنى القراءتين متّحد المآل، وهو: أنه إن كان لنفس مثقال حبّة من خردل من خير أو من شرّ يؤتَ بها في ميزان أعمالها ويجازَ عليها.
وجملة {أتينا بها} على القراءة الأولى مستأنفة، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف. وضمير {بها} عائد إلى {مثقال حبة}. واكتسب ضميرهُ التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو {حبَة.
والمثقال: ما يماثل شيئاً في الثقل، أي الوزن، فمِثقال الحبة: مقدارها. والحبَة: الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبَابيد كالقطاني.
والخردل: حبوب دقيقة كحَبّ السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخَردل. واسمه في علم النبات (سينَابيس). وهو صنفان بري وبستاني. وينبت في الهند ومصر وأوروبا. وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر. وأوراقها كبيرة. يُخرج أزهاراً صُفراً منها تتكون بزوره إذْ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير. وإذا دُقّ هذا الحب ظهرت منه رائحة معطّرة إذا قُربت من الأنف شماً دَمَعت العينان، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعاً وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلاً ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمُّع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونُه بالماء دَواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجَنب والنُزلات الصدرية.
وجملة وكفى بنا حاسبين} عطف على جملة {وإن كان مثقال حبة من خردل} ومفعول {كفى} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فلا تظلم نفس شيئاً}. والتقدير: وكفى الناسَ نحن في حال حسابهم.
ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر يعدل مثلَنا. وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه. وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.
وضمير الجمع في قوله تعالى {حاسبين} مراعىً فيه ضمير العظمة من قوله تعالى {بنا،} والباء مزيدة للتوكيد، وأصل التركيب: كَفينا الناسَ، وهذه الباء تدخل بعد فعل (كفَى) غالباً فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى: {وكفى بالله شهيداً} في [سورة النساء: 79]. وتدخل على مفعوله كما في الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع». وانتصب {حاسبين} على الحال أو التمييز لنسبة {كفى}. وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرّة منها في قوله تعالى {وكفى بالله شهيداً} في [سورة النساء: 79].
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
عطف على جملة {بل قالوا أضغاث أحلام إلى قوله تعالى: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5] لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء، وأنه ما كان بِدْعاً من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذلك من ذكر عناد الأقوام، وثبات الأقدام، والتأييد من الملك العلاّم، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا} في سورة [الإسراء: 77]. فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين.
وفي سَوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضاً لما بُنيت عليه السورة من قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم} [الأنبياء: 7] الآيات، ثم قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، ثم قوله تعالى: {قل إنما أنذركم بالوحي} [الأنبياء: 45]. واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}.
وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام.
وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة.
ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب.
والفُرقَان: ما يُفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل. وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم. فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى: {وآتيناهما الكتاب المستبين} في [سورة الصافات: 117].
والإخبار عن الفرقان بإسناد إيتائه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يَعْد كونَه إيتاء من الله تعالى ووحياً كما أوتي محمد عليه الصلاة والسلام القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه السلام ما جاء إلا بمثله. وفيه تنبيه على جلالة ذلك المُوتَى.
ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} في [سورة غافر: 23]. ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} في [سورة البقرة: 53].
وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى الآتي: {وضياء وذكراً للمتقين}. وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيماً لبعض بل هي صفات متداخلة، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث.
والضياء: النور. يستعمل مجازاً في الهدى والعلم، وهو استعمال كثير، وهو المراد هنا وقد قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} في [سورة المائدة: 44].
والذكر أصله: خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله، فقوله تعالى {للمتقين} يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول، أي الذين اتصفوا بتقوى الله، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة، أي ذكر لأجل المتقين، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.
ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بياناً بقوله تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب} وهو على نحو قوله تعالى: {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} في [سورة البقرة: 23].
والباء في قوله تعالى {بالغيب} بمعنى (في). والغيب: ما غاب عن عيون الناس، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.
والإشفاق: رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة: الإشفاق من أهوالها، فهم يعدُّون لها عُدَّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب}. فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهؤلاء هم فرعون وقومه.
وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه، وهو المقابلة بقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}.
واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} في [سورة النحل: 44].
ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته، وهو أيضاً خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان، وانتفع به مَن آمنوا به وفريق ممن حرموا الإيمان. فكان وصفه بأنه مبارك وافياً على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء.
وزاده تشريفاً بإسناد إنزاله إلى ضمير الجَلالة. وجُعل الوحي إلى الرسول إنزالاً لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذْ اعتبر مستقِرّاً في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم.
وفُرّع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون}. ولكون إنكارهم صدقه حاصلاً منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسماً دالاً على الاتّصاف في زمن الحال وجَعْل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاءً بحق بلاغة النظم.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلاً بمكة هو الكعبة وبجَبل (نابو) من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ (لوزا) ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة (أورشليم) في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهداً على بطلان الشرك الذي كان مماثلاً لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضاً فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.
وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفاً في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشداً وهدياً.
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.
والرشد: الهدى والرأي الحق، وضده الغي، وتقدم في قوله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} في [سورة البقرة: 256]. وإضافة {الرشد} إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرْشِده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشداً يليق به؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.
وزاده تنويهاً وتفخيماً تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى: {وكنا به عالمين} أي آتيناه رشداً عظيماً على عِلم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلاً لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلاً. وهذا كقوله تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان: 32] وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
وقوله {من قبل} أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً. ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.
و {إذ قال} ظرف لفِعل {آتينَا} أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بُدئ به من الوحي.
وقوم إبراهيم كانوا من (الكَلدان) وكان يسكن بلداً يقال له (كوثى) بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة (أور الكلدان)، ويقال: أيضاً إنها (أورفة) في (الرها)، ثم سكن هو وأبوه وأهله (حاران) وحاران هي (حرّان)، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك». ومات أبوه في (حاران) كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من (حاران) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان. وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صوراً مجسمة.
والاستفهام في قوله تعالى: {ما هذه التماثيل} يتسلط على الوصف في قوله تعالى: {التي أنتم لها عاكفون} فكأنه قال: ما عبادتكم هذه التماثيل؟. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلاً مستعلماً ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم {وجدنا آباءنا لها عابدين}؛ فإن شأن السؤال بكلمة (مَا) أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه.
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي (بَعْل) وهو أعظمها، وكان مصوغاً من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس، وعبدوا رموزاً للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح: ودّاً، وسُواعاً، ويغوثَ، ويعوقَ، ونسْراً، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى. وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور (إخوان الكلدان) صنماً اسمه (نَسْروخ) وهو نَسْر لا محالة.
وجعْل العكوففِ مسنداً إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركاً لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {أنتم لها عاكفون} فيه معنى دوامهم على ذلك.
وضمن {عاكفون} معنى العبادة، فلذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.
وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلَهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق، ولذلك لم يلبث أن أجابهم: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} مؤكداً ذلك بلام القسم.
وفي قوله تعالى: {كنتم في ضلال} من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية، إيماءٌ إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بَواح لا شبهة فيه، وأكدَ ذلك بوصفه ب {مبين} فلما ذكروا له آباءَهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالاً، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا {أجئتنا بالحق}، فعبروا عنه {بالحق} المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ. فالمعنى: بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه {أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين}. والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحاً، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل استجلاباً لخاطره لما رأوا من قوة حجته.
وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكناً في اللعب ومعدوداً من الفريق الموصوف باللعب.
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم {أم أنت من اللاعبين} لإبطال أن يكون من اللاعبين، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات، أي وليست تلك التماثيل أرباباً إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى {قال أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكَر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلاّ مربوبة مخلوقة وليست أرباباً ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى {فطرهنّ} ضمير السماوات والأرض لا محالة.
فكان جواب إبراهيم إبطالاً لقولهم {أم أنت من اللاعبين} معَ مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.
وقوله تعالى: {وأنا على ذلكم من الشاهدين} إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.
ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القَسَم، كقول الفرزدق:
شهد الفرزدق حين يلقى ربه *** أن الوليد أحقُّ بالعذر
ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلناً عزمه على ذلك بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} مؤكداً عزمه بالقسم، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.
والتاء تختص بقسممٍ على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف} [يوسف: 85].
وسمى تكسيره الأصنام كَيْداً على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.
والكيْد: التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن كيدكن عظيم} في [سورة يوسف: 28].
وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادَرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلاً، والمقصود من تغيير المنكر: إزالته بقدر الإمكان، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.
{ومدبرين} حال مؤكدة لعاملها. وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى {ثم وليتم مدبرين} في [سورة براءة: 25].
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}
الضميران البارزان في {جعلهم} وفي {لهم} عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل، وضمير {لعلهم} عائد إلى قوم إبراهيم، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى {وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9].
والجُذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور: اسم جمع جُذاذة، وهي فُعالة من الجذّ، وهو القطع مثل قُلامة وكُناسة، أي كسرهم وجعلهم قطعاً. وقرأ الكسائي {جِذاذاً} بكسر الجيم على أنه مصدر، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.
قيل: كانت الأصنام سبعين صنماً مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.
ومعنى {لعلهم إليه يرجعون} رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.
وضمير {لهم} عائد إلى الأصنام من قوله {أصنامكم} [الأنبياء: 57]. وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء، ومثله ضمائر قوله بعده {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63].
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.
وقول قومه {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فَعل ذلك، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم.
والفتى: الذكر الذي قوي شبابه. ويكون من الناس ومن الإبل. والأنثى: فتاة، وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة.
والذكر: التحدث بالكلام.
وحذف متعلق «يذكر» لدلالة القرينة عليه، أي يذكرهم بتوعد. وهذا كقوله تعالى: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36] كما تقدم.
وموضع جملتي {يذكرهم} و{يقال له} في موضع الصفة ل {فتىً}.
وفي قولهم يقال له إبراهيم} دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا يعرفون إبراهيم، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهول لا يعرف وإنما يُدعى أو يسمى إبراهيم، أي ليس هو من الناس المعروفين.
ورُفع {إبراهيمُ} على أنه نائب فاعللِ {يُقال،} لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيراً ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحت وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدّى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100].
ومعنى {على أعين الناس} على مشاهدة الناس، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأنّ المرئي مظروف في الأعين.
ومعنى {يشهدون} لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد.
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}
وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير: فأتَوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.
وقوله تعالى {بل} إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك، فنفى أن يكون فعَل ذلك، لأن (بل) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.
وقوله تعالى {فعله كبيرهم هذا} الخبر مستعمل في معنى التشكيك، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يَبق صحيحاً من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأوْلى على نية أن يكر على ذلك كله بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه، ولذلك قال {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} تهكُّماً بهم وتعريضاً بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية.
وشمل ضمير {فاسألوهم} جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائماً. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثاً عظيماً مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعلَه بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.
وأما ما روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذبات ثنتين منه في ذات الله عزّ وجل قوله {إني سقيم} [الصافات: 89] وقوله {بل فعله كبيرهم هذا}. وبيْنَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنككِ أختي فلا تكذبيني... " وساق الحديث.
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه: {أأنت فعلت هذا بآلهتنا} حيث قال: {بل فعله كبيرهم هذا}، لأن (بل) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه. فقولهم: {أأنت فعلتَ هذا} سؤال عن كونه محطمَ الأصنام، فلما قال: {بل} فقد نفى ذلك عن نفسه، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب.
غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم، فهذا الإضراب كان تمهيداً للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بآخره. ولذلك قال: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم} الآية.
أما الإخبار بقوله {فعله كبيرهم هذا} فليس كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهدّ لذلك كلاماً هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال: لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعلَ لذلك، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلبَ الإلهية عن جميعهم بقوله {إن كانوا ينطقون} كما تقدم. فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقعُ بخلافه. فإذا كان الخبر يُعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضاً أو مزحاً أو نحوهما.
وأما ما ورد في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم: لست هناكم ويذكر كذَبات كذبها» فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاماً خِلافاً للواقع بدون إذن من الله بوحي، ولكنه ارتكب قولَ خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف.
وقوله تعالى {فرجعوا إلى أنفسهم} يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى: {فسلِّموا على أنفسكم} [النور: 61] وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]، أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون.
وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في: ركب القومُ دوابهم، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم. فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض {إنكم أنتم الظالمون}. وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف. والجملة مفيدة للحصرْ، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظَلَم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمّن فعلَ بها ذلك، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم.
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره.
وفعل {نُكِسوا} مبني للمجهول، أي نَكسهم ناكس، ولمّا لم يكن لذلك النكس فاعل إلاّ أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى: انتَكَسوا على رؤوسهم. وهذا تمثيل.
والنكس: قلب أعلى الشيء أسفلَه وأسفله أعلاه، يقال: صُلب اللص منكوساً، أي مجعولاً رأسه مباشراً للأرض، وهو أقبح هيئات المصلوب.
ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصباً على قدميه فإذا نُكِّس صار انتصابه كأنه على رأسه، فكان قوله هنا {نكسوا على رؤوسهم} تمثيلاً لتغيّر رأيهم عن الصواب كما قالوا {إنكم أنتم الظالمون} إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين. فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع. وحرف (على) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكباباً شديداً بحيث لا تبدو رؤوسهم. وتحتمل الآية وجوهاً أخرى أشار إليها في «الكشاف».
والمعنى: ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام، فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} إلا التنصل من جريمتك.
فجملة {لقد علمت} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه {فقالوا إنكم أنتم الظالمون}.
وجملة {ما هؤلاء ينطقون} تفيد تقوي الاتصاف بانعدام النطق، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسُن.
وفعل {عَلمت} معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده، فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعاً على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاماً إنكارياً على عبادتهم إياها وزائداً بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر.
وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوماً لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة.
و {أُفّ} اسم فعل دالّ على الضجَر، وهو منقول من صورة تنفس المتضجّر لضيق نفسه من الغضب. وتنوين {أف} يسمى تنوين التنكير والمرَاد به التعظيم، أي ضجراً قوياً لكم. وتقدم في [سورة الإسراء: 23] {فلا تقل لهما أف} واللام في {لكم} لبيان المتأفّف بسببه، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله.
وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره.
وفَرَّع على الإنكار والتضجر استفهاماً إنكارياً عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال: {أفلا تعقلون}.
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}
لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مَخلَصاً إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قَرعَت باطلَه حجة فساده غضب على المحقّ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبتَه والتشفّي منه، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعَاقب به وأفظعه.
والتحريق: مبالغة في الحرق، أي حرقاً متلفاً.
وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملِكهم، وهو (النمروذ)، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كُردي اسمه (هينون)، واستحسن القومُ ذلك، والذي أمر بالإحراق (نمروذ)، فالأمر في قولهم {حرقوه مستعمل في المشاورة.
ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم، وأنهم دبّروه ليبغتوه به خشيةَ هروبه لقوله تعالى: {وأرادوا به كيداً} [الأنبياء: 70].
ونمروذ هذا يقولون: إنه ابن (كوش) بن حَام بن نوح، ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن (كوش). فالصواب أن (نمروذ) من نسِل (كوش). ويحتمل أن تكون كلمة (نمروذ) لقباً لملك (الكلدان) وليست عَلَماً. والمقدر في التاريخ أن مَلك مدينة (أور) في زمن إبراهيم هو (ألغى بن أورخ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك} في [سورة البقرة: 258].
ونصر الآلهة بإتلاف عدوّها.
ومعنى {إن كنتم فاعلين} إن كنتم فاعلين النصر، وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.
وجملة {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم {حرقوه} فأشبهت جمل المحاورة، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى، أي فألقَوْه في النار قلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم إذ وَجّه إلى النار تعلّقَ الإرادة بسلب قوة الإحراق، وأن تكون برداً وسلاماً إن كان الكلام على الحقيقة، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقَى فيككِ بحَرّك.
وأما كونها سلاماً فهو حقيقة لا محالة، وذِكر {سلاماً} بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد، فعُقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببَردها. وإنما ذكر {برداً} ثمّ أتبع ب {سلاماً} ولم يقتصر على {برداً} لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار برداً.
و {على إبراهيم} يتنازعه {برداً وسلاماً}. وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
تسمية عزمهم على إحراقه كيْداً يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم.
والأخسر: مبالغة في الخاسر، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة.
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر، وهو قصرٌ للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة. وسميت خيبتُهم خسارةً على طريقة الاستعارة تشبيهاً لخيبة قصدهم إحراقَه بخيبة التاجر في تجارته، كما دل عليه قوله تعالى: {وأرادوا به كيداً}، أي فخابوا خيبة عظيمة. وذلك أن خيبتهم جُمع لهم بها سلامةُ إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعَدوه للعقاب معجزة وتأييداً لإبراهيم عليه السلام.
وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذاباً كما دلّ عليه قوله تعالى في [سورة الحج: 44] {فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير} وقد عَدّ فيهم قومَ إبراهيم، ولم أرَ من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول. والظاهر أن الله سلّط عليهم الأشوريين فأخذوا بلادهم، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلّطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)}
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان).
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطاً ابنَ أخيه (هَاران) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأةُ إبراهيم معهما، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته.
وانتصب {لوطاً} على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطاً لم يكن مهدداً من الأعداء لذاته فيتعلّقَ به فعل الإنجاء.
وضمن {نجيْناه} معنى الإخراج فعدّي بحرف (إلى).
والأرض: هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالَمين، أي للناس، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. وورد في التوراة: أن الله قال لإبراهيم: إنها تفيض لبناً وعسلاً.
والبركة: وفرة الخير والنفععِ. وتقدم في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في [سورة آل عمران: 96].
وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة.
وهبة يعقوب ازدياده لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلاً صالحاً.
والنافلة: الزيادة غير الموعودة، فإن إبراهيم سأل ربه فقال {رب هب لي من الصالحين أراد الولد فوُلد له إسماعيل} كما في [سورة الصافات: 100]، ثم ولُد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة، وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضاً نافلة.
وانتصب {نافلة} على الحال التي عاملها {وهبنا} فتكون حالاً من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها.
وتنوين {كُلاً} عوض عن المضاف إليه. والمعنى: وكلَّهم جعلنا صالحين، أي أصلحنا نفوسهم. والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم. وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيُخص بالذكر بعد هذه الآية.
وإعادة فعل «جعل» في قوله تعالى: {وجعلناهم أيمة يهدون بأمرنا} دون أن يقال: وأيمةً يهْدُون، بعطف {أيمة} على {صالحين،} اهتماماً بهذا الجعل الشريف، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.
ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.
وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.
والأيمة: جمع إمام وهو القدوة والذي يُعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.
وجملة {يهدون} في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة، أي أنهم أيمة هُدى وإرشاد.
وقوله {بأمرنا} أي كانوا هادين بأمر الله، وهو الوحي زيادة على الجعل. وفي «الكشاف»: «فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هُو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها.
وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميلُ» اه.
وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان ويشمل هذا شؤون الإيمان وشُعبه وآدابه.
وأما قوله تعالى: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات. وقد شملها قوله تعالى {فعل الخيرات}.
و {فعل الخيرات} مصدر مضاف إلى {الخيرات}، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله، وأما الفاعل فتبع له، أي أن يفعلوا هُم ويفعَلَ قومهم الخيرات، حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه.
واعتبارُ المصدر مصدراً لفعل مبني للنائب جائزٌ إذا قامت القرينة. وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري. على أن الأخفش أجازه بدون شرط.
ويجوز أن يكون {فعل الخيرات} هو الموحى به، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام، فيكون المصدر قائماً مقام الفعل مراداً به الطلب، والتقدير: افعلوا الخيرات، كقوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد: 4].
وتخصيص {إقام الصلاة وإيتاء الزكاة} بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر، وبالزكاة صلاحَ المجتمع لكفاية عوز المعوزين.
وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه السلام.
ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بيّن.
ثم خصّهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دلّ عليه فعل الكَون المفيد تمكُّن الوصف، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف: {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} [يوسف: 38] وقال تعالى في الثناء على إبراهيم: {وما كان من المشركين} [البقرة: 135].
{وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
عطف على جملة {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51]. وقدّم مفعول {آتيناه} اهتماماً به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعاً لذكر إبراهيم تنبيهاً على أنه بعث بشريعة خاصة، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم، وإلى أنه كان في مواطنَ غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.
ولأجل البُعد أُعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على {آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51]، ولم يُعَد في قصة نوح عَقِب هذه.
وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.
والحُكم: الحكمة، وهو النبوءة، قال تعالى: {وآتيناه الحكم صبياً} [مريم: 12]
والعِلم: علم الشريعة، والتنوين فيها للتعظيم.
والقرية (سدوم). وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى: {واسأل القرية} في [سورة يوسف: 82].
والخبائث: جمع خبيثة بتأويل الفَعلة، أي الشنيعة. والسّوْء بفتح السين وسكون الواو مصدر، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}
لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب بذكر أول الرسل.
وعطف {ونوحاً} على {لوطاً} [الأنبياء: 74]، أي آتينا نوحاً حُكماً وعلماً، فحذف المفعول الثاني ل {آتينا} [الأنبياء: 74] لدلالة ما قبله عليه، أي آتيناه النبوءة حين نادى، أي نادانا.
ومعنى {نادى} دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله {فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم}.
وبناء {قبلُ} على الضمّ يدل على مضاف إليه مقدر، أي من قبل هؤلاء، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنتُه المرادة له تعريضاً بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسلَه شاذّة ولا فاذّة.
وأهل نوح: أهل بيْتِه عدا أحد بنيه الذي كفر به.
والكرب العظيم: هو الطوفان. والكَرب: شدّة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.
ووجه كون الطوفان كرباً عظيماً أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مَدّه ولا يزال لاحقاً بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقَوا زمناً يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويَطفَوْن حتى يموتوا بانحباس التنفس؛ وفي ذلك كله كرب متكرر، فلذلك وصف بالعظيم.
وعدي {نصرناه} بحرف (من) لتضمينه معنى المنع والحماية، كما في قوله تعالى: {إنكم منا لا تنصرون} [المؤمنون: 65]، وهو أبلغ من تعديته ب (علَى) لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المَنعَةُ والحماية فلا يناله العدوّ بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.
ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد. وجملة {إنهم كانوا قوم سوء} علة لنصر نوح عليه السلام لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.
والسّوء بفتح السين تقدم آنفاً.
وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به. والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.
و {أجمعين} حال من ضمير النصب في {أغرقناهم} لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريباً من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.
وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كما رُوي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة [سورة فصّلت: 13] حتى بلغ {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فزع عتبة وقال له: ناشدْتُك الرّحمَ.
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}
{وَدَاوُودَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين * ففهمناها}
شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلاً. وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب المماثل للقرآن وما عقب ذلك. ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داوود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسَوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون. ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت (شمشون) إلى قيام (شاول) حَمِيّ داوود إلا أنه كان مَلِكاً قاصراً على قيادة الجند ولم يكن نبيئاً، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل (صمويل)
فداوودُ أول من جمعت له النبوءة والمُلك في أنبياء بني إسرائيل. وبلغ مُلك إسرائيل في مدة داوود حدّاً عظيماً من البأس والقوة وإخضاع الأعداء. وأوتي داوود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة، فاستكمل زمنُ داوود الحكمة ورقائق الكلام.
وأوتي سليمان الحكمة وسَخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتها مثّل.
وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.
وكان في قصة داوود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خُص داوود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون {داوود} عطفاً على {نوحاً في قوله ونُوحاً} [الأنبياء: 76]، أي وآتينا داوود وسليمان حكماً وعلماً إذ يحكمان... إلى آخره. ف {إذْ يحكمان} متعلِّق ب (آتينا) المحذوف، أي كان وقتُ حكمهما في قضية الحرث مظهَراً من مظاهر حُكمهما وعلمهِما.
والحُكم: الحِكمة، وهو النبوءة. والعلمُ: أصالة الفهم. و{وإذ نفشت} متعلق ب {يحكمان}.
فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء، والجمع بين المصالح والتفاضل بين مراتب الاجتهاد، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلاً للمحِق، فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.
وخلاصتها أن داوود جلس للقضاء بين الناس، وكان ابنه سُليمان حينئذ يافعاً فكان يجلس خارج باب بيت القضاء. فاختصم إلى داوودَ رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم، والآخر راعِي غنم لجماعة، فدخلت الغنم الحرث ليلاً فأفسدت ما فيه فقضى داوود أن تُعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثَمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فَقُصّ أمرُهما على سليمان، فقال: لو كنتُ أنا قاضياً لحكمت بغير هذا.
فبلغ ذلك داوودَ فأحضره وقال له: بماذا كنت تقضي؟ قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: أن يأخذ أصحابُ الغنم الحرثَ يقوم عليه عاملُهم ويُصلحه عاماً كاملاً حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تُسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كَمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له. فقال داوود: وُفّقت يا بُني. وقضى بينهما بذلك.
فمعنى {نفشت فيه} دخلته ليلاً، قالوا: والنفش الانفلات للرعي ليلاً. وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى {غنم القوم}. وكذلك كان الحرث شركة بين أناس. كما يؤخذ مما أخرجه ابن جرير في «تفسيره» من كلام مجاهد ومرة وقتادة، وما أخرجه ابن كثير في «تفسيره» عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير «الكشاف». وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.
واعلم أن مقتضى عطف داوود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله {وكنا لحكمهم شاهدين} أي عالمين وقوله تعالى: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} ومقتضى وقوع الحُكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد، إذ أن الحُكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أُوتيه داوود وسليمان، فذلك من القضاء بالاجتهاد. وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام ووقوعِه في مختلف المسائل.
وقد كان قضاء داوود حقاً لأنه مستند إلى غرْم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم، وأصل الغرْم أن يكون تعويضاً ناجزاً فكان ذلك القضاء حقاً. وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.
وكان حكم سليمان حقاً لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح. ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب، وقَد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داوود إذ ليس الإرفاق بواجب.
ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من (العُرَيض) على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليَمرنّ به ولو على بَطنك، ففعل الضحاك.
وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما، فكان قضاء سليمان أرجح.
وتشبه هذه القضية قضاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحَرّة إذ قضى أول مرة بأن يُمسك الزبيرُ الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجَدر ثم يُرسل، فاستوفى للزبير حقه.
وإنما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضى بينهما بالفصل، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.
فمعنى قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} أنه ألهمهُ وجهاً آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفقُ بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} في معرض الثناء عليهما.
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلاً في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلاً وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة.
وإضافة (حكم) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين.
وتأنيث الضمير في قوله {ففهمناها،} ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ، على تأويل الحكم في قوله تعالى: {لحكمهم} بمعنى الحكومة أو الخصومة.
وجملة {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داوود كان خطأ أو جوراً وإنما كان حكم سليمان أصوب.
وتقدمت ترجمة داوود عليه السلام عند قوله تعالى: {وآتينا داوود زبورا} في [سورة النساء: 163]، وقوله تعالى: {ومن ذريته داوود} في [سورة الأنعام: 84].
وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في [سورة البقرة: 102].
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فاعلين} هذه مزية اختصّ بها داوود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة {يُسَبّحنْ} فهي إما بيان لجملة {سخرنا} أو حال مبينة. وذكرها هنا استطراد وإدماج.
{والطير} عطف على {الجبال} أو مفعول معه، أي مع الطير يعني طير الجبال.
و {مع} ظرف متعلق بفعل {يسبحن،} وقُدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود، فيكون المعنى: أن داوود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبالَ تسبّح مثل تسبيحه. وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] إذ التأويب الترجيع، مشتق من الأوب وهو الرجوع. وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريداً مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له.
ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلاً له بعد أن أُوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله، ولا يعرف لداوود بعد أن أُوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من قبل النبوءة راعياً. فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية (زيف) الذي به كهف كان يأوي إليه داوود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فاراً من الملك شاول (طالوت) حين تنكر له شاول بوشاية بعض حُساد داوود، كما حكي في الإصحاحين 23 24 من سفر صمويل الأول. وهذا سرّ التعبير ب (مع) متعلقةً بفعل {سخرنا} هنا. وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي {ولسليمان الريح} [الأنبياء: 81] إذ عدي فعل التسخير الذي نابَت عنه واو العطف بلام الملك. وكذلك جاء لفظ (مع) في آية [سورة سبأ: 10] {يا جبال أوبي معه} وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.
وجملة وكنا فاعلين} معترضة بين الإخبار عما أوتيه داوود. وفاعل هنا بمعنى قادر، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه. وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل، أي وكنا قادرين على ذلك.
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}
وامتن الله بصنعة علّمها داوود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع، أي درُوع السرد. قيل كانت الدروع من قبللِ داوود ذات حَراشف من الحديد، فكانت تثقل على الكُماة إذا لبسوها فألهم الله داوود صنع دُروع الحَلَق الدقيقة فهي أخف محملاً وأحسن وقاية.
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داوود لابساً درعاً حَرشفياً، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داوود فاستعمل العرب دروع السرد. واشتهر عند العرب، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:
شمّ العَرانين أبَطال لَبُوسُهم *** من نَسج دَاوودَ في الهيجا سرابيل
بيض سَوابغ قد شُكت لها حلَق *** كأنها حلَق القَفعاء مجدول
وكانت الدروع التُّبَّعية مشهورة عند العرب فلعل تُبّعاً اقتبسها من بني إسرائيل بعد داوود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف، وقد جمعها النابغة بقوله:
وكلَ صموت نِثلة تبّعية *** ونَسْج سُلَيْم كلّ قَمصاء ذَائِل
أراد بسليم ترخيم سليمان، يعني سليمان بن داوود، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخِراً لها.
واللبوس بفتح اللام أصله اسم لكل ما يُلبس فهو فَعول بمعنى مفعول مثل رَسول. وغلب إطلاقه على ما يُلبس من لامة الحرب من الحديد، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لِباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لَبوس على الثياب. وقال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.
ومعي لَبُوس للبئيس كأنه *** رَوق بجبهة ذي نِعاج مجفل
وقرأ الجمهور {ليُحْصِنكم} بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ {لَبوس}. وإسناد الإحصَان إلى اللبوس إسناد مجازي. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى {لَبوس} بالدرع، وهي مؤنثة، وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {لنحصنكم} بالنون.
وضمائر الخطاب في {لكم، ليحصنكم، من بأسكم، فهل أنتم شاكرون} موجهة إلى المشركين تبعاً لقوله تعالى قبل ذلك: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} [الأنبياء: 50] لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.
والإحصان: الوقاية والحماية. والبأس: الحرب.
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى {فهل أنتم شاكرون} مستعملاً في استبطاء عدم الشكر ومكنّى به عن الأمر بالشكر.
وكان العدول عن إيلاء (هل) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن ل (هل) مزيد اختصاص بالفعل، فلم يقل: فهل تشكرون، وعدل إلى {فهل أنتم شاكرون} ليدلّ العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله تعالى {فهل أنتم منتهون في آية تحريم الخمر} [المائدة: 91].
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)}
عطف على جملة {وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن} [الأنبياء: 79] بمناسبة تسخيرٍ خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبئين عليهما السلام.
والأرض التي بارك الله فيها هي أرض الشام. وتسخير الريح: تسخيرها لما تصلح له، وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح مُلك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هُو مَلِكها.
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدّرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين، فوقع في الكلام اكتفاء اعتماداً على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ (12) {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر} ووصفها هنا ب عاصفة} بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص (36) بأنها {رُخاء} في قوله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} والرخاء: الليلة المناسبة لسير الفُلك. وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رُخاء، والمقام قرينة على أن المراد المَواتاه لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى: تجري بأمره} في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكباً في البحر فإنه يريدها رُخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكتُه بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بيّن بالتأمل.
وعبر {بأمره} عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح مَوْسمية منتظمة سخرها الله له.
وأمر سليمان دعاؤه الله أن يُجري الريحَ كما يريد سليمانُ: إما دعوة عامة كقوله {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35] فيشمل كل ما به استقامة أمور المُلك وتصاريفه، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراماً له وتأييداً إذا كان همه نشر دين الحقّ في الأرض.
وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة مُلك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن (ترشيش) يُظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقِردة والطواويس وهدَايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح 10 من سفر الملوك الأول.
وجملة {وكنا بكل شيء عالمين} معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان. والمناسبةُ أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيُجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال: {وشددنا ملكه} [ص: 20].
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}
هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان. وهي أن سخر إليه من القُوى المجردة من طوائف الجنّ والشياطين التي تتأتّى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى: {ويعملون عملاً دون ذلك}. وفصّل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات} [سبأ: 13] وهذه أعمال متعارفة. وإنما اختصّ سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها.
ومعنى {وكنا لهم حافظين} أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه، وجعلهم يعملون في خفاء ولا يؤذوا أحداً من الناس؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يَحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم، وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له، وحال دونَهم ودونَ الناس لئلا يؤذوهم. ولما توفّي سليمان لم يسخر الله الجنّ لغيره استجابة لدعوته إذ قال: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35]. ولما مكّن الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من الجنيّ الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهَمَّ بأن يربطه، ذَكَر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجنّ وبين تحقيق رغبة سليمان.
وقوله {لهم} يتعلق ب {حافظين} واللام لام التقوية. والتقدير: حافظينهم، أي مانِعينهم عن الناس.
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
عطف على {وداوود وسليمان} [الأنبياء: 78] أي وآتينا أيوب حكماً وعلماً إذ نادى ربه. وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختصّ به من الصبر حتى كان مثلاً فيه. وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام.
وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيئين الإسرائلية. وحاصلها أنه كان نبيئاً وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاثَ في يوم واحد، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم. ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبْتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر. وتلقى رثاءَ أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله، وأوحى الله إليه بمواعظ. ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالاً أكثر من ماله وولدت له زوجه أولاداً وبناتتٍ بعدد من هَلكوا له من قبلُ.
وقد ذكرت قصته بأبْسط من هنا في سورة ص، ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوءة.
و (إذْ) ظرف قيّد به إيتاءُ أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة. وتقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالى: {ونوحاً إذ نادى من قبل} [الأنبياء: 76] فصار أيوب مضرب المثل في الصبر.
وقوله {أنِّي مسنِي الضرُ} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر، أي نادى ربه بأني مسني الضر.
والمسّ: الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حلّ به من الضر كالمس الخفيف.
والضرّ بضمّ الضاد ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزال، أو في ماله من نقص ونحوه.
وفي قوله تعالى: {وأنت أرحم الراحمين} التعريض بطلب كشف الضرّ عنه بدون سؤال فجعل وصفَ نفسه بما يقتضي الرحمة له، ووصفَ ربه بالأرحمية تعريضاً بسؤاله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه عن تعرضه الثناء
وكونُ الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحِم غيرَه فإما أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعاً للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.
ولكون ثناء أيوب تعريضاً بالدعاء فرع عليه قوله تعالى: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر}. والسين والتاء للمبالغة في الإجابة، أي استجبنا دعوته العُرْضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضرّ، إشارة إلى سرعة كشف الضرّ عنه، والتعقيب في كل شيء بحَسَبه، وهو ما تقتضيه العادة في البُرء وحصوللِ الرزق وولادة الأولاد.
والكشف: مستعمل في الإزالة السريعة. شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.
والموصول في قوله تعالى: {ما به من ضر} مقصود منه الإبهام. ثم تفسيره ب (مِن) البيانية لقصد تهويل ذلك الضرّ لكثرة أنواعه بحيث يطول عدّها. ومثله قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] إشارة إلى تكثيرها. ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53]، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضرّ وينسون شكره على عظيم النعم، أي كشفنا ما حلّ به من ضرّ في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.
والإيتاء: الإعطاء، أي أعطيناه أهله، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته. وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل، يعني بموت أولاده وبناته، وهو على تقدير مضاف بيّن من السياق، أي مثل أهله بأن رُزق أولاداً بعدد ما فَقَد، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابناً وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سنّ العقم.
وانتصب {رحمةً} على المفعول لأجله. ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويهاً بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل. والمراد رحمة بأيوب إذ قال {وأنت أرحم الراحمين}.
والذكرى: التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه. وهو معطوف {على رحمة} فهو مفعول لأجله، أي وتنبيهاً للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.
وبما في {العابدين} من العموم صارت الجملة تذييلاً.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
عطف على {وأيوبَ} [الأنبياء: 83] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حُكماً وعلماً.
وجُمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى {كل من الصابرين}. جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.
فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم: {إني أرى في المنام أني أذبحك} فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]، وتقرر بسكناه بواد غيرِ ذي زرع امتثالاً لأمر أبيه المتلقَى من الله تعالى، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.
وأما إدريس فهو اسم (أُخْنُوخ) على أرجح الأقوال. وقد ذكر أُخنوخ في التوراة في سفر التكوين جَدّاً لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدَّ في صف الصابرين. والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عُدت من صبره قصص، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.
وأما ذو الكِفْل فهو نبيء اختُلف في تعيينه، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود (إيليا).
وقيل: هو خليفَة اليَسع في نبوءة بني إسرائيل. والظاهر أنه (عُوبديا) الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.
والكفْل بكسر الكاف وسكون الفاء، أصله: النصيب من شيء، مشتق من كَفلَ إذا تعهد. لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع. وذلك أن اليسع لما كبُر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال: من يتكفل لي بثلاث أستخلفه: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه (عُوبديا)، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين. وقد عُد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره (انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18. ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس). وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئاً. وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.
وجملة {أنهم من الصالحين} تعليل لإدخالهم في الرحمة، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين.
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}
عطف على {وذا الكفل} [الأنبياء: 85]. وذكر ذي النون في جملة من خُصّوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما في قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له.
و (ذو النون) وصفٌ، أي صاحب الحوت. لقب به يونس بن متَى عليه السلام. وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس.
وذهابُه مغاضباً قيل خروجه غضبان من قومه أهل (نينَوى) إذْ أبَوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته، فالمغاضبة مفاعلة. وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس. وقيل: إنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدّة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبانَ من عدم تحقق ما أنذرهم به، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غَضب غريب. وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره ابن جرير. والوجه أن يكون {مغاضباً} حالاً مراداً بها التشبيه، أي خرج كالمغاضب. وسيأتي تفصيل هذا المعنى في سورة الصافات.
وقوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} يقتضي أنه خرج خروجاً غير مأذون له فيه من الله. ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل هو إليها يرسل الله غيره إليهم. وقد روي عن ابن عباس أن (حزقيال) ملكَ إسرائيل كان في زمنه خمسةُ أنبياء منهم يونس، فاختاره الملِك ليذهب إلى أهل (نينوَى) لدعوتهم فأبى وقال: ههنا أنبياء غيري وخرج مغاضباً للملِك. وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل.
ومحلّ العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة.
ومعنى {فظن أن لن نقدر عليه} قيل نقدر مضارع قَدَر عليه أمراً بمعنى ضيّق كقوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] وقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7]، أي ظن أن لن نضيّق عليه تَحْتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقطَ تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهاداً منه، فعوتب بما حلّ به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله. وفي «الكشاف»: أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاويةُ: «لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة فغرِقت فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك. قال: وما هي؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال: أو يظن نبيءُ الله أن الله لا يقدر عليه؟ قال ابن عباس: هذا من القَدرْ لا من القُدرة». يعني التضييق عليه.
وقيل {نقدر} هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القُدرة، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذننٍ. ونقل هذا عن مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج.
وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ.
وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خُطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرةً بدافع الغضب عن غير تأمل في لوازمه وعواقبه، قالوا: وكان في طبعه ضيق الصدر.
وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته. والتقدير: أفظن أن لن نقدر عليه؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر. قال منذر بن سعيد في «تفسيره»: وقد قرئ به.
وعندي فيه تأويلان آخران وهما: أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلاً عادة، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة، أي ظن بعد أن ابتلعَه الحوت.
وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده، ولذلك قال: {إني كنت من الظالمين} مبالغة في اعترافه بظلم نفسه، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله.
و {إني} مفسرة لفعل {نادى.
} وتقديمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء.
والظلمات: جمع ظلمة. والمراد ظلمة الليل، وظلمة قعر البحر، وظلمة بطن الحوت. وقيل: الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257].
وقد تقدم أنا نظن أن «الظلمة» لم ترد مفردة في القرآن.
والاستجابة: مبالغة في الإجابة. وهي إجابة توبته مما فرط منه. والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن الحوت إلا ساعة قليلة، وعطف بالواو هنا بخلاف عطف {فكشفْنا} على {فاستجبنا} وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقاياه فخرج يسبَح إلى الشاطئ.
وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه. وشاع بين الناس تسمية صنففٍ من الحوت بحوت يونس رجماً بالغيب.
وجملة {وكذلك ننجي المؤمنين} تذييل. والإشارة ب {كذلك} إلى الإنجاء الذي أُنجي به يونس، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غُموم بحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة. وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغمّ والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم.
واعلم أن كلمة {فنجّيَ} كتبت في المصاحف بنون واحدة كما كتبت بنون واحدة في قوله في [سورة يوسف: 110] {فننجي من نشاء} ووجّه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفى مع الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد فلما أُخفيت حذفت في النطق فشابَه إخفاؤُها حالةَ الإدغام فحذَفَها كاتبُ المصحف في الخطّ لخفاء النطق بها في اللفظ، أي كما حذفوا نون (إن) مع (لا) في نحو إلا فعلوه من حيث إنها تدغم في اللام.
وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبارٍ من اعتبارات الأداء. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم بنون واحدة وبتشديد الجيم على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء. وأنكر ذلك عليهما أبو حاتم والزجّاج وقالا: هو لَحن. ووجّه أبو عبيد والفراء وثعلب قراءتهما بأن نُجِي سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بَقِي ورضِي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن {وذروا ما بقِي من الرِبا} [البقرة: 278] بتسكين ياء {بقي. وعن أبي عبيد والقُتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم.
ووجّه ابن جني متابعاً للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة: نُنَجّي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نُجي. وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نُجِّي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله وكذلك.
وانتصب المؤمنين} على المفعول به على رأي من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به. كما في قراءة أبي جعفر {ليُجزَى بفتح الزاي قوماً بما كانوا يكسبون} [الجاثية: 14] بتقدير ليجزَى الجزاءُ قوماً. وقال الزمخشري في «الكشاف»: إن هذا التوجيه بارد التعسف.
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)}
{وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين * فاستجبنا}
كان أمر زكرياء الذي أشار إليه قوله: {إذ نادى ربه} آية من آيات الله في عنايته بأوليائه المنقطعين لعبادته فخصّ بالذكر لذلك. والقول في عطف {وزكرياء} كالقول في نظائره السابقة.
وجملة {رب لا تذرني فردا} مبيّنة لجملة {نادى ربه}. وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيهاً له بالمُنفرد الذي لا قرين له. قال تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} [مريم: 95]، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له، قال الحارث بن هشام:
وعَلمتُ أني إن أُقاتل واحداً *** أقتل ولا يَضررُ عدوي مشهدي
فشُبه من لا ولد بالفرد لأن الولد يصيّر أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوجٌ ولا شفع.
وجملة {وأنت خير الوارثين} ثناء لتمهيد الإجابة، أي أنت الوارث الحق فاقض عليّ من صفتك العلية شيئاً. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوب {وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، ودلّ ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية [سورة مريم: 6] {يرثني ويرث من آل يعقوب} حُذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير: يرثني الإرثَ الذي لا يداني إرثَك عبادك، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرُّف قدرتك، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيراً أبدياً فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.
وإصلاح زوجه: جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقراً.
وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم. {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين}
جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداءً من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [الأنبياء: 48]. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها.
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبَهم وهجِّيراهم.
والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والجِدّ للخيرات، أي لفعلها، تشبيهاً للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.
والخيرات: جمع خَيْر بفتح الخاء وسكون الياء وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضدّ الشرّ، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالى: {فيهن خيرات حِسان} [الرحمن: 70] فيحتمل أنه مثل هذا، ويحتمل أنه جمع خَيْرة بفتح فسكون الذي هو مخفف خَيِّره المشدّد الياء، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على {الخَيْرات} في قوله تعالى: {وأولئك لهم الخيرات} في [سورة براءة: 88]. وعطف على ذلك أنهم يدْعُون الله رغبةً في ثوابه ورهبة من غضبه، كقوله تعالى: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9].
والرغَب والرهَب بفتح ثانيهما مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر {يدعوننا} لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه، أو يقدر مضاف، أي ذوي رغب ورهب، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.
وذكر فعل الكون في قوله تعالى: {وكانوا لنا خاشعين} مثل ذكره في قوله تعالى: {كانوا يسارعون}.
والخشوع: خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة، كما قال الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] الآية. هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} الذي هو في حكم الصلة أيضاً، فكأنه قيل: والتي نفخنا فيها من روحنا، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
والنفخ، حقيقته: إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل: إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم.
والظرفية المفادة ب (في) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه، ولذلك قيل {فيها} ولم يقل (فيه) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد، كأنه قيل: فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح: هو القوة التي بها الحياة، قال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً. وحَرف (مِن) تبعيضي، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [سورة المؤمنين: 50] {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]، {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها} [الشمس: 12].
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}
{إنّ} مكسورة الهمزة عند جميع القراء، فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع {أمتُكم}. والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.
والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغاً في صيغة اسم الفاعل منصوباً على الحال. والتقدير: قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى، أي قائلين لكلّ واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة {إن هذه أمتكم}.
فصيغة الجمع مراد بها التوزيع، وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات. ومنه قولهم: رَكب القوم دَوَابهم، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين. وفيه ما يزيد هذه توضيحاً فإنه ورد هنالك ذِكر عدة من الأنبياء تفصيلاً وإجمالاً، كما ذُكروا في هذه السورة. ثم عقب بقوله تعالى: {يأ أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وأَنّ بفتح الهمزة وبكسرها {هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52]، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى: {وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة} في الكلام المخاطب به الرسل، والتأكيد عن هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير تردّداً في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك. وهو وإن كان خطاباً للرسل فإن مما يقصد منه تبليغَ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة مَن قبله من الرسل.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذه الملة، وهي الإسلام، هي ملة واحدة لسائر الرسل، أي أصولها واحدة كقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} [الشورى: 13] الآية. والتأكيد على هذا لردّ إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.
والإشارة بقوله تعالى: {هذه} إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى: {أُمتكم} كقوله تعالى: {قال هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78]. فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل. فما أفادته الإشارةُ من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع مَا عَليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.
والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى: {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]، وقال النابغة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبَة *** وهل يأثَمَنْ ذو أُمة وهو طائع
وأصل الأمة: الجماعة التي حالها واحد، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.
و {أمة واحدة} حال من {أمتكم} مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال.
وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم
ومعنى كونها واحدة أنها توحّد الله تعالى فليس دونه إله. وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعاً وإن كان يجمعها وصف الشرك فذلك جنس عام وقد أومأ إلى هذا قوله تعالى: {وأنا ربكم}، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عَربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.
وأفاد قوله تعالى: {وأنا ربكم} الحصر، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على {أمة واحدة}، إذ المعنى: وأنا ربكم رباً واحداً، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته، أي فاعبدون دون غيري. وهذا الأمر مراعى فيه ابتداءً حال السامعين من أمم الرسل، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}
عطف على جملة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92] أي أعرضوا عن قولنا. و{تقطّعوا} وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين مِن الشأن التحدّثُ عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المرادِ منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل. فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء: 92] يكون الكلام انتقالاً من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم. وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتاً.
ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال، أي أمَرنا الرسل بملة الإسلام، وهي الملة الواحدة، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.
والتقطع: مطاوع قَطّع، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقاً فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلهاً من الأصنام مع الله، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.
وفي «جمهرة الأنساب» لابن حزم: «كان الحُصين بن عبيد الخُراعي، وهو والد عمران بن حُصين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: " يا حصين ما تعبد؟ قال: عشرة آلهة، قال: ما هم وأين هم؟ قال: تسعة في الأرض وواحد في السماء. قال: فمَن لحاجتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لِطلْبَتِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لكذا؟ فمن لكذا؟ كُلّ ذلك يقول: الذي في السماء، قال رسول الله: فالغ التسعة ". وفي كتاب الدعوات: من «سنن الترمذي»: أنه قال: " سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء ". والأمر: الحال. والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم في} [سورة الأنعام: 159].
ولمّا ضُمن {تقطعوا} معنى توزّعوا عُدّي إلى «دينهم» فنصبَه، والأصل: تقطعوا في دينهم وتوزعوه.
وزيادة {بينهم} لإفادة إنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطّع أمرهم. فربّ قبيلة اتخذت صنماً لم تكن تعبُدهُ قبيلة أخرى ثم سوّلوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب. وقد روي أن عَمرو بن لُحيَ الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.
وجملة {كل إلينا راجعون} مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى {وتقطعوا أمرهم} وهو معرفة عاقبة هذا التقطع.
وتنوين {كلٌّ} عوض عن المضاف إليه، أي كلّهم، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضاً بالتهديد.
ودلّ على ذلك التفريع في قوله تعالى {فمن يعمل من الصالحات} [الأنبياء: 94] إلى آخره.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}
فُرّع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى: {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 94] تفريعٌ بديع من بيان صفة ما توعدوا به، وذلك من قوله تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97] الآيات.
وقدم وَعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتماماً به، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلاً لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد، فليس هو مقصوداً من التفريع، ولكنه يشبه الاستطراد تنويهاً بالمؤمنين كما سيُعتَنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] إلى آخر السورة.
والكفران مصدر أصله عدم الاعتراف بالإحسان، ضد الشكران. واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عُرفاً كقوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فلن تكفروه} [آل عمران: 115] فالمعنى: أنهم يُعطَون جزاء أعمالهم الصالحة.
وأكد ذلك بقوله: {وإنا له كاتبون} مؤكداً بحرف التأكيد للاهتمام به.
والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي. قال الحارث بن حلزة:
وهَل يَنقض ما في المهارق الأهواء
وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظواهر من الكتاب والسنة.
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)}
جملة معترضة، والمراد بالقرية أهلها. وهذا يعم كلّ قرية من قرى الكفر، كما قال تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا} [الكهف: 59].
والحرام: الشيء الممنوع، قال عنترة:
حَرُمت عليّ وليتَها لم تحرُم *** أي: مُنِعت أي مَنَعها أهلها.
أي ممنوع على قرية قدّرْنا إهلاكها أن لا يرجعوا، ف {حرام} خبر مقدم و{أنهم لا يرجعون} في قوة مصدر مبتدأ. والخبر عن (أنّ) وصلتِها لا يكون إلاّ مقدّماً، كما ذكره ابن الحاجب في «أماليه» في ذكر هذه الآية.
وفعل {أهلكناها} مستعمل في إرادة وقوع الفعل، أي أردنا إهلاكها.
والرجوع: العود إلى ما كان فيه المرء؛ فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون (لا) في قوله تعالى: {لا يرجعون} زائدة للتوكيد، لأن (حرام) في معنى النفي و(لا) نافية ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان، فيؤُول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان. وليس هذا بمراد فتعين أن المعنى: مَنْع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها. وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان وتهديدهم بالهلاك. وهؤلاء هم الذين قدّر الله هلاكَهم يوم بدر بسيوف المؤمنين.
ويجوز أن يراد رجُوعهم إلى الآخرة بالبعث، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى: {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 93] فتكون (لا) نافية. والمعنى: ممنوع عَدَم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه، أي دعواهم باطلة، أي فهم راجعون إلينا فمجازَوْن على كفرهم، فيكون إثباتاً للبعث بنفي ضده، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة. ويفيد تأكيداً لقوله تعالى: {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 93].
وجملة {أهلكناها} إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
وفعل {أهلكناها} مستعمل في أصل معناه، أي وقع إهلاكنا إياها. والمعنى: ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون إلينا بالبعث. وقيل {حرام} اسم مشترك بين الممنوع والواجب، وأنشدوا قول الخنساء:
وإن حراماً لا أرى الدهر باكيا *** على شجوه إلا بَكيتُ على صَخْر
وفي كتاب «لسان العرب» «في حديث عمر: في الحرَام كفارة يمين: هو أن يقول الرجل: حرامُ الله لا أفعل، كما يقول: يمينُ الله لا أفعل، وهي لغة العُقيليين» اه. ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة (من كتب جامع الزيتونة عددها 4561): أن بني عُقيل يقولون حَرام الله لآتينك كما يقال يمين الله لآتينك آه. وهو يشرح كلام «لسان العرب» بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال «لسان العرب».
فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} أي ويمين منا على قرية، فحرف (علىَ) داخل على المُسلطة عليه اليمين، كما تقول: عزمتُ عليك، وكما يقال: حلفت علىَ فلان أن لا ينطق. وكقول الراعي:
إني حلفتُ علىَ يمين بَرّة *** لاَ أكتُم اليومَ الخليفةَ قيلا
وفتح همزة «أنّ» في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم.
ومعنى {لا يرجعون} على هذا الوجه لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم.
وقرأ الجمهور {وحَرام} بفتح الحاء وبألف بعد الراء. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وحِرْم} بكسر الحاء وسكون الراء، وهو اسم بمعنى حرام. والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}
(حتى) ابتدائيةٌ. والجملة بعدها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب ولكن (حَتّى) تكسبه ارتباطاً بالكلام الذي قبله. وظاهر كلام الزمخشري: أن معنى الغاية لا يفارق (حتّى) حين تكون للابتداء، ولذلك عُني هو ومن تبعه من المفسرين بتطلب المغيّا بها ههنا فجعلها في «الكشاف» غاية لقوله {وحرَام} فقال: «(حتّى) متعلقة ب {حَرام} وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة» اه. أي: فهو من تعليق الحكم على أمر لا يقع كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40]، ويتركب على كلامه الوجهان اللذان تقدما في معنى الرجوع من قوله تعالى: {أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95]، أي لا يرجعون عن كفرهم حتى ينقضي العالم، أو انتفاء رجوعهم إلينا في اعتقادهم يزول عند انقضاء الدنيا. فيكون المقصود الإخبار عن دوام كفرهم على كلا الوجهين. وعلى هذا التفسير ففتح ياجوج وماجوج هو فتح السدّ الذي هو حائل بينهم وبين الانتشار في أنحاء الأرض بالفساد، وهو المذكور في قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
وتوقيت وعد الساعة بخروج ياجوج وماجوج أن خروجهم أول علامات اقتراب القيامة.
وقد عدّه المفسرون من الأشراط الصغرى لقيام الساعة.
وفسّر اقتراب الوعد باقتراب القيامة، وسُمّيت وعداً لأن البعث سمّاه الله وعداً في قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104].
وعلى هذا أيضاً جعلوا ضمير {وهم من كل حدب ينسلون} عائد إلى «ياجوج وماجوج» فالجملة حال من قوله {ياجوج وماجوج}.
وبناء على هذا التفسير تكون هذه الآية وصفتْ انتشار ياجوج وماجوج وصفاً بديعاً قبل خروجهم بخمسة قرون فعددنا هذه الآية من معجزات القرآن العلمية والغيبية. ولعل تخصيص هذا الحادث بالتوقيت دون غيره من علامات قرب الساعة قصد منه مع التوقيت إدماجُ الإنذار للعرب المخاطبين ليكون ذلك نُصب أعينهم تحذيراً لذرياتهم من كوارث ظهور هذين الفريقين فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور حضارتهم وقوتهم على أيدي ياجوج وماجوج وهم المَغول والتتار كما بيّن ذلك الإنذارُ النبوي في ساعة من ساعات الوحي. فقد روت زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فَزِعاً يقول: " لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا " وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها.
والاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشقّ القمر} [القمر: 1].
ويجوز أن يكون المراد بفتح ياجوج وماجوج تمثيلَ إخراج الأموات إلى الحَشر، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44]، ويكون اسم ياجوج وماجوج تشبيهاً بليغاً.
وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين. ويدلّ لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله لآدم (يوم القيامة) أخرج بَعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تُسعمائة وتسعة وتسعون. قالوا: يا رسول الله وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج وماجوج تسعمائة وتسعة وتسعين». أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلاً للكثرة كما في قول ذي الرمة:
لوَ أنَ ياجوج وماجوجَ معاً *** وعادَ عادٌ واستجاشوا تُبّعا
أي: حتى إذا أخرجت الأموات كيَأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى: {يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]، فيكون تشبيهاً بليغاً من تشبيه المعقول بالمعقول. ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، (جدث) بجيم ومثلثة، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى: {وإذا القبور بعثرت} [الانفطار: 4] فيكون ضميرا {وهم من كل حدب ينسلون} عائدَيْننِ إلى مفهوممٍ من المقام دلّت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى: {لا يرجعون} [الأنبياء: 95] أي أهلُ كل قرية أهلكناها.
والاقتراب، على هذا الوجه: القرب الشديد وهو المشارفة، أي اقترب الوعد الذي وُعده المشركون، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب.
وعلامة التأنيث في فعل {فُتحت} لتأويل ياجوج وماجوج بالأمة. ثم يقدر المضاف وهو سُدٌّ فيكتسب التأنيث من المضاف إليه.
وياجوج وماجوج هم قبيلتان من أمةٍ واحدة مثل طَسم وجديس.
وإسناد فعل {فتحت} إلى {ياجوج وماجوج} بتقدير مضاف، أي فُتح رَدْمهما أو سُدّهما. وفعل الفتح قرينة على المفعول.
وقرأ الجمهور {فتحت} بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدها.
وتقدم الكلام على ياجوج وماجوج في سورة الكهف.
والحدب: النَشَز من الأرض، وهو ما ارتفع منها.
و {ينسِلون} يمشون النّسَلانَ بفتحتين وفعله من باب ضرب، وأصله: مشي الذئب. والمراد: المشي السريع. وإيثار التعبير به هنا من نكت القرآن الغيبية، لأن ياجوج وماجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعاً مفسدين.
هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه، وهي تدور حول محوَر التزام أنّ (حتى) الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول {فُتحت} بأنه سدّ ياجوج وماجوج. ومع حمل ياجوج وماجوج على حقيقة مدلول الاسم، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيّا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق.
ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة.
فأما دلالة (حتى) الابتدائية على معنى الغاية، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها، فلا أراه لازماً. ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارّة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحاً جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رَعَوه حق رعايته فإن معنى الغاية في (حتى) الجارّة (وهي الأصل في استعمال هذا الحرف) ظاهر لأنها بمعنى (إلى).
وفي (حتّى) العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم وبين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد.
فأما (حتى) الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرّد، ولما كان ما بعدها كلاماً مستقلاً تعيّن أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد (حتى) ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل (حتى) بما عند حصول ما بعدها (الذي هو المعنى الأصل للغاية). وانظر إلى استعمال (حتى) في مواقع من معلقة لبيد.
وفي قوله تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشئ عنها، وقد مُثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشدّه وقعاً في نفس السامع، إذ جعلت مفرعة على فتح ياجوج وماجوج واقتراببِ الوعد الحقّ للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دَفعة بلا تدرّج ولا مهلة، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسِّر ضمير القصة فقال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} إلى آخره.
والشخوص: إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت.
وجملة: {يا ويلنا} مقول قول محذوف كما هو ظاهر، أي يقولون حينئذ: يا ويلنا.
ودلت (في) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف، أي كانت لنا غفلة عظيمة، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث.
و {يا ويلنا} دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم.
و {بل} للإضراب الإبطالي، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دُعينا وأُنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا.
والمشار إليه ب (هذا) هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}
جملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} جواب عن قولهم {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97] إلى آخره. فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات. فالتقدير: يقال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَب جهنّم.
وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا: {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97] فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعزّ عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.
و (ما) موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل. وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجنّ والشياطين تغليباً، على أن (ما) تستعمل فيما هو أعمّ من العاقل وغيره استعمالاً كثيراً في كلام العرب.
وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلّت عليه الإشارة {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}.
والحصَب: اسم بمعنى المحصوب به، أي المرمي به. ومنه سُميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها، أي يُرمَوْن في جهنم، كما قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24] أي الكفار وأصنامهم.
وجملة {أنتم لها واردون} بيان لجملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}. والمقصود منه: تقريب الحصْب بهم في جهنم لِما يدلّ عليه قوله {واردون} من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.
وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم: {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}.
وذُيل ذلك بقوله تعالى: {وكل فيها خالدون} أي هم وأصنامهم.
والزفير: النفَس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغمّ. وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام. وقرينة معاد الضمائر واضحة.
وعطف جملة {وهم فيها لا يسمعون} اقتضاه قوله {لهم فيها زفير} لأن شأن الزفير أن يُسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقِدون السمع بهذه المناسبة.
فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.
وقد روى ابن إسحاق في «سيرته» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النَضْر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش، فتَلا رسول الله عليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزِبَعْرَى السهمي قبل أن يُسلم فحدثه الوليد بن المغيرة بما جرى في ذلك المجلس فقال عبدالله بن الزِبعْرى: أما والله لو وجدتُه لخصمته، فاسألوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع مَن عبدوهم؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهودُ تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم.
فحُكِي ذلك لرسول الله، فقال رسول الله: إن كلّ من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبَده، إنهم إنما يعبدون الشيطانَ الذي أمرهم بعبادتهم، فأنزل الله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] اه.
وقريب من هذا في «أسباب النزول» للواحدي، وفي «الكشاف» مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا وزاد فقال: خُصِمْتَ وربّ هذه البَنِيّة ألستَ تزعم أن الملائكة عباد مكرمَون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، وهذه بنو مُلَيْح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون المسيح، وهذه اليهود يعبدون عزيراً، فضجّ أهل مكة (أي فرَحاً) وقالوا: إن محمداً قد خُصم. ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزِبَعْرى: مَا أجهلك بلغة قومك إني قلت {وما تعبدون}، و(ما) لمَا لا يعقل ولم أقل «ومَن تعبدون».
وإن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذاراً للمشركين حتى يكون قوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] تخصيصاً لها، أو تكون القصة سبباً لنزوله.
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
جملة {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم. فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون. ولا علاقة لهذه الجملة بجملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] ولا هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وما تعبدون من دون الله} بل قوله تعالى: {والذين سبقت لهم منا الحسنى} عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.
والسبق، حقيقته: تجاوز الغير في السير إلى مكان معين، ومنه سباق الخيل، واستعمل هنا مجازاً في ثبوت الأمن في الماضي، يقال كان هذا في العصور السابقة، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم من الملازمة، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله، أي بتوفيقه وتقديره، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.
والحسنى: الحالة الحسنة في الدين، قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] أو الموعدة الحسنى، أي تقرّرَ وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.
وذِكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم. وذِكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف، وهو سبق الحسنى من الله.
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم، والرفعةُ تشبه بالبعد.
وجملة {لا يسمعون حسيسها} بيان لمعنى مبعَدون، أي مبعدون عنها بعداً شديداً بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع مِنْ أبعد مما يبلغ منه المرئي.
والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتُها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.
وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فيما اشتهت أنفسهم} وما يدلّ على الدوام وهو {خالدون}.
والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلَذّ لها.
وجملة {لا يحزنهم الفزع} خبر ثان عن الموصول.
والفزع: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجَزع. والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.
وذلك مفاد قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى:
{ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا مَن شاء الله} [النمل: 87].
والتلقي: التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.
وجملة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} مقول لقول محذوف، أي يقولون لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، تذكيراً لهم بما وُعدوا في الدنيا من الثواب، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.
وإضافة (يوم) إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته *** هذا زمَانُك إني قد خلا زمني
أي هذا الزمن المختص بك، أي لتتصرف فيه.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالاً لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم {وقالوا أإذا كنا تراباً وعظاماً أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى {لهم فيها زفير} [الأنبياء: 100] وقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] الآية.
وقد رُتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة: نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْداً علينا. فحُوّل النظم فقدم الظرف بادئ ذي بَدء للتشويق إلى متعلقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباققِ إذ جعل ابتداءُ خلق جديد وهو البعث مؤقتاً بوقت نقض خَلق قديم وهو طي السماء.
وقدم {كما بدأنا أول خلق} وهو حال من الضمير المنصوب في {نعيده} للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضلَ تمكّن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله {يوم نطوي السماء} متعلقاً بما قبله من قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة} [الأنبياء: 103].
وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعداً على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف (على) في قوله تعالى: {وعداً علينا} أي حقاً واجباً.
وجملة {إنا كنا فاعلين} مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نَفَوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.
والمراد بقوله {فاعلين} أنه الفاعل لِما وُعد به، أي القادر. والمعنى: إنا كنا قادرين على ذلك.
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
والطّيُّ: رَدُّ بعض أجزاء الجسم الليِّن المطلوق على بعْضه الآخر، وضدّه النشر.
والسجل: بكسر السين وكسر الجيم هنا، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها، ويُطلق على كاتب الصحيفة، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف، أي صاحب السجل، وقيل سجل: اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.
ولا يحسن حملهُ هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله {للكتاب} أو {للكتب،} ولا حملهُ على معنى المَلَك الموكَل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهوراً فكيف يشبه بفعله. فالوجه: أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.
وقرأ الجمهور {للكتاب} بصيغة الإفراد، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف {للكُتب} بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريفُ الكتاب تعريفَ جنس استوى في المعرّف الإفرادُ والجمعُ. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السِجل مفرداً ففيها حسن التفنن بالتضاد.
ورسمُها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يُحذف في مثله.
واللام في قوله {للكتاب} لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول {طَيّ}.
ومعنى طي السماء تغييرُ أجرامها من موقع إلى موقع أو اقترابُ بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليَكتب الكاتب في إحدى صفحتيها، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي، وهو انقراض له أحوال كثيرة وُصف بعضها في سُور من القرآن.
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها، وفي [سورة الزمر: 67] {والسماوات مطويات بيمينه} ومسألة دثور السماوات (أي اضمحلالها) فَرَضَها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر (انكسمائس) المَلْطي و(فيثاغورس) و(أفلاطون).
وقرأ الجمهور نطوي} بنون العظمة وكسر الواو ونصب {السماء}. وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنياً للنائب وبرفع {السماء}.
والبَدء: الفعل الذي لم يُسبق مماثله بالنسبة إلى فاعللٍ أو إلى زماننٍ أو نحو ذلك. وبَدْء الخلق كونه لم يكن قبل، أي كما جعلنا خلْقاً مبدوءاً غير مسبوق في نوعه.
وخلق: مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى إعادة الخلق: إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذَا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} أي مثل سيرتها في جنسها، أي في أنها عصا من العصيّ.
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} أن إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها. ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك. روى مسلم عن ابن عباس قال: «قام فينا رسول الله بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم تُحشرون إلى الله حُفاة عراة غُرْلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين}» الحديث. فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.
وانتصب {وعداً} على أنه مفعول مطلق ل {نعيده} لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة. ويجوز كونه مفعولاً مطلقاً مؤكداً لمضمون جملة {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [سورة الزمر: 7374] {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً إلى قوله تعالى: وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالى: أفلا ترون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الأنبياء: 44].
وإن كان المراد أرضاً من الدنيا، أي مَصيرَها بيدِ عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لَقُوا فيها الأذَى، وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داوود والترمذي عن ثَوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقَها ومغاربَها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها». وقرأ الجمهور {في الزبور} بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور، أي المكتوب، فعول بمعنى مفعول، مثل: ناقة حَلوب ورَكوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع {زُبور بوزن فعول جمع زِبْر بكسر فسكون أي مزبور، فوزنه مثل قِشر وقُشور، أي في الكتب.
فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالى: {وآتينا داوود زبوراً} في [سورة النساء: 163] وفي [سورة الإسراء: 55]، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داوود لأنه لم يذكر وعْد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام: {إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده} [الأعراف: 128] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.
والزبور: كتاب داوود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب (فويدو) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا: صديقين يرشون أرص بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرص، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود: الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مِثل هذا الوعد في القرآن في [سورة النور: 55] في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لِفِرق من العباد الصالحين.
ومعنى {من بعد الذكر} أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة.
فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وُعِدوا بميراث الأرض، وقيل المراد ب {الذكر} كتاب الشريعة وهو التوراة.
قال تعالى: {ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين} [الأنبياء: 48] فيكون الظرف في قوله تعالى: {من بعد الذكر} مستقرّاً في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21]، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من المُلك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داوود. فإن مُلك داوود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوماً صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقَهم الله وعده فملكوا الأرض ببركة رسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم آنفاً.
وجملة {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه. فإن لم يأت بعد داوود قوم مؤمنون ورَثوا الأرض، فلما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ البلاغُ إليهم.
فالإشارة بقوله تعالى: {إن في هذا} إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلّغ في القرآن.
والمراد بالقوم العابدين مَن شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قِيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ {قوم} المشعرِ بأن العبادة هي قِوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في آخر [سورة يونس: 101]. فكأنه يقول: فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله. والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم.
والعبادة: الوقوف عند حدود الشريعة. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]. وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف.
وما أشبه هذا الوعد المذكورَ هنا ونوطَه بالعبادة بالوعد الذي وُعدته هذه الأمة في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} [النور: 5556].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}
أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشْك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن بدعاً من الرسل، وذُكروا إجمالاً، ثم ذُكرت طائفة منهم على التفصيل، وتُخُلِّل ذلك بمواعظ ودلائل.
وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكماً وعلماً وذكر ما أوتوه من الكرامات، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومَها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين، فهذه الجملة عطف على جملة {وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] ختاماً لمناقب الأنبياء، وما بينهما اعتراض واستطراد.
ولهذه الجملة اتصال بآية {وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3].
ووزانها في وصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وزان آية: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} [الأنبياء: 48] وآية: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51] والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.
وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفاً بدون حرف العطف الذي عطفت به، ذكر فيه الرسول، ومرسله، والمرسَل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير {رحمة} للتعظيم، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعاً لظهور أنّ المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصياً، فقد فاقت أجمع كلمةٍ لبلغاء العرب، وهي:
قِفا نَبْككِ من ذِكرَى حبيببٍ ومنزل *** إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا: «أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل» دون خصوصية أزيد من ذلك فجمَع ستة معان لا غير. وهي غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير «حبيب ومنزل» إلا للوحدة لأنه أراد فرداً معيّناً من جنس الأحباب وفرداً معيناً من جنس المنازل، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل، ومنزلُه.
واعلم أن انتصاب {رحمة} على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفاً من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسُولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمةً وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدراً يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدلّ لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" إنما أنا رحمة مهداة " وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلاميذه أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس: «زين الله محمداً صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق» اه. وذكره عنه عياض في «الشفاء». قلت: يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم فُطر على خُلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحَى به إليه ملائماً رغبتَه وخلقه. قالت عائشة: «كان خلقُه القرآن». ولهذا خصّ الله محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] أي برحمة جبلَك عليها وفَطرك بها فكنت لهم لَيِّناً. وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شُجّ وجههُ يوم أُحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: " إني لم أُبعث لعاناً وإنما بُعثتُ رحمة ". وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى {للعالمين} متعلق بقوله {رحمة}.
والتعريف في {العالمين} لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالَم: الصنف من أصناف ذوي العلم، أي الإنسان، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2]. فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إمّا لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين، فالحنيفية شريعة إبراهيم عليه السلام كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام، وشريعة عيسى عليه السلام قريبة منها في ذلك؛ وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدّة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى:
{ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} [الأنعام: 154]، فإن كثيراً من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم} وقال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم إلى آيات كثيرة.
لا جرم أن الله تعالى خصّ الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطاباً منه لموسى عليه السلام: {ورَحمتي وسِعت كل شيء فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} [الأعراف: 156157] الآية. ففي قوله تعالى: {وسعت كل شيء إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تُساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تُقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحّض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحجّ: 78] وقال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " بُعثت بالحنيفية السمحة ". وما يتخيل من شدة في نحو القِصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدمُ إكراههم على مفارقة أديانهم، وإجراءُ العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.
هذا وإن أريد ب {العالمين} في قوله تعالى: {إلا رحمة للعالمين} النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان، قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] وقال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم} [النحل: 57].
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما يُنتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كُره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعدّ فقهاؤنا سباقَ الخيل رخصة للحاجة في الغرو ونحوه.
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ» عن أبي هريرة مرفوعاً: " أن الله غفر لرجل وجد كلباً يلهثُ من العطش فنزل في بئر فملأ خفّه ماء وأمسكه بفمه حتى رقِي فسقَى الكلب فغفر الله له ". أما المؤذي والمضرّ من الحيوان فقد أُذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وهي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}
عقب الوصف الجامع لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كلّ متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطالُ إلهية ما سواه، لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ. وللاهتمام بذلك صُدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم.
وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم، وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه، فالدعوة إليه هي مَقادة الاجتلاببِ إلى الشريعة كلّها، إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومُعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5].
وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك. فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقاً لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم} [الأنبياء: 13].
وأفادت (إنما) المكسورة الهمزة وإتلاؤها بفعل {يوحى} قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة {أنّما إلهكم إله واحد}. وهو قصر صفة على موصوف. و(أنما) المفتوحة الهمزة هي أخت «إنما» المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن (أنَما) المفتوحة مركبة من (أنّ) المفتوحة الهمزة و(مَا) الكافّة. كما ركبت (إنّما) المكسورة من (إِن) المكسورة الهمزة و(ما) الكافّة. وإذ كانت (أنّ) المفتوحة أخت (إن) المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها ب (ما) الكافّة أختاً لها في إفادة القصر. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} في سورة العقود (92).
وإذ قد أُتليتْ (أنَما) المفتوحة بالاسم الجامع لحقيقة الإله، وأخبر عنه بأنه إلهٌ واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد فأفادت قصراً ثانياً، وهو قصر موصوف على صفة.
والقصر الأول إضافي، أي ما يوحى إلي في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد. والقصر الثاني أيضاً إضافي، أي في شأن الإله من حيث الوحدانية. ولما كان القصر الإضافي من شأنه ردُّ اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار ردّ اعتقاد المشركين بالقصرين.
فالقصر الأول لإبطال ما يُلبسون به على الناس من أن محمداً يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمان، ويُلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يُعقل، قال تعالى: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب}
[ص: 45] فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} [الأحقاف: 9] وقوله تعالى: {واسأل من أرسلنا قبلك من رُسُلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريباً لشقة الخلاف والتشعيب. وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة {فهل أنتم مسلمون}.
والاستفهام حقيقي، أي فهل تسلمون بعد هذا البيان. وهو مستعمل أيضاً في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام.
واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله، أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم. وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال: فهل تسلمون، لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت. وكأنّ فيه تعريضاً بهم بأنهم في ريب يترددون.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)}
أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصّل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توّعدهم الله به.
والإيذان: الإعلام، وهو بوزن أفعل من أذِن لكذا بمعنى سمع. واشتقاقه من اسم الأُذُن، وهي جارحة السمع، ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقاً.
وأما (آذن) فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير. فمن استعمال أذِن قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]، ومن استعمال (آذن) قول الحارث بن حِلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وحذف مفعول {آذنتكم} الثاني لدلالة قوله تعالى {ما توعدون} عليه، أو يقدر: آذنتكم ما يوحى إليّ لدلالة ما تقدم عليه. والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى: {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} [هود: 57].
وقوله تعالى: {على سواء} (على) فيه للاستعلاء المجازي، وهو قوة الملابسة وتمكّن الوصف من موصوفه.
و (سَواء) اسم معناه مستو. والاستواء: المماثلة في شيء ويجمع على أسواء. وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك، وحقّه أن لا يجمع فيجوز أن يكون {على سواء} ظرفاً مستقراً هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى {آذنتكُم} أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار. وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته «ألا هل بلّغت».
ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل {آذنتكم} قال أبو مسلم: الإيذان على السواء: الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] آه. يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاءٌ إلى حرب حقيقية. وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون {على سواء} حالاً من ضمير المتكلم.
وحذف متعلق {آذنتكم} لدلالة قوله تعالى: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} عليه، ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله: {حتى إذا فتحت ياجوج وماجوج} [الأنبياء: 96] الآية. وتقدم عند قوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} في [سورة الأنفال: 58].
وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا.
و (إنْ) نافية وعلق فعل {أدري} عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحُذف العائد. وتقديره: ما توعدون به.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)}
جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة. وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام. والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرّهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحلّ بهم عذابه.
وعائد الموصول في قوله تعالى: {مَا تَكْتُمُونَ} ضمير محذوف.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)}
عطف على جملة {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109]. والضمير الذي هو اسم (لعلّ) عائد إلى ما يدل عليه قوله تعالى: {أقريب أم بعيد ما توعدون} من أنه أمر منتظر الوقوع وأنه تأخر عن وجود موجِبه، والتقدير: لعل تأخيره فتنة لكم، أو لعل تأخير ما توعدون فتنة لكم، أي ما أدرى حكمة هذا التأخير فلعله فتنة لكم أرادها الله ليملي لكم إذ بتأخير الوعد يزدادون في التكذيب والتولّي وذلك فتنة.
والفتنة: اختلال الأحوال المفضي إلى ما فيه مضرة.
والمتاع: ما ينتفع به مدة قليلة، كما تقدم في قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} في [سورة آل عمران: 196197].
والحين: الزمان.
{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
استئناف ابتدائي بعدما مضى من وصف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وِزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [الأنبياء: 48] إلى هنا.
وفي أمر الله تعالى نبيئه عليه الصلاة والسلام بالالتجاء إليه والاستعانة به بعدما قال له: {فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109] رمز إلى أنهم متولُّون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم، وإن الله في إعانته لأن الله إذا لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] ونحو ذلك، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء المعاندين بالحق يوم بدر.
والمعنى: قل ذلك بمسمع منهم إظهاراً لتحديه إياهم بأنه فوّض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
الباء في قوله تعالى {بالحق} للملابسة. وحُذف المتعلّق الثاني لفِعل {احكم} لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة الأمر. وقرأ حفص {قال} بصيغة الماضي مثل قوله تعالى: {قل ربي يعلم القول} [الأنبياء: 4] في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول صلى الله عليه وسلم
و {ربّ} منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلاً على الياء.
وقرأ الجمهور بكسر الباء من {ربّ}. وقرأه أبو جعفر بضم الباء وهو وجه عربيّ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أُمِن اللبس.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى وربّنا} لتضمنها تعظيماً لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربُّهم.
وضمير المتكلم المشارك للنبيء ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حَسْبَ إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11].
والرحمان عطف بيان من {ربُّنا} لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف تورُّكاً على المشركين، لأنهم أنكروا اسم الرحمان {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} [الفرقان: 60].
وتعريف {المستعان} لإفادة القصر، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5].
وفي قوله تعالى: {على ما تصفون} مضاف محذوف هو مجرور (على)، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم، أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.
ومعنى {ما تصفون} وما تَصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات ذم كقولهم: مجنون وساحر، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire