
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
افتتاح السورة بالإِخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حِرصاً على الابتياع من عِيرٍ وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة.
وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله: {يسبح}.
ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر.
سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مُضارعاً وجيء به في سواها ماضياً لمناسبةٍ فيها وهي: أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضاً بالذين لم يتموا صلاة الجمعة.
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر.
ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا يَنصرِف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.
و {القُدوس}: المنزَّه عن النقص وهو يُرغب في حضرته. و{العزيز}: يَعتز الملتفون حوله. فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة. وكذلك {الحكيم} إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العِير مَا خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذْ تركوه قائماً في الخطبة.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}
استئناف بياني ناشئ عن إجراء الصفات المذكورة آنفاً على اسم الجلالة إذ يتساءل السامع عن وجه تخصيص تلك الصفات بالذكر من بين صفات الله تعالى فكأن الحال مقتضياً أن يبين شيء عظيم من تعلق تلك الصفات بأحوال خلقه تعالى إذ بعث فيهم رسولاً يطهر نفوسهم ويزكيهم ويعلمهم. فصفة {الملك} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يدبر أمر عباده ويصلح شؤونهم، وصفة {القدوس} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يزكي نفوسهم، وصفة {العزيز} [الجمعة: 1] اقتضت أن يلحق الأميين من عباده بمراتب أهل العلم ويخرجهم من ذلة الضلال فينالوا عزة العلم وشرفه، وصفة {الحكيم} [الجمعة: 1] اقتضت أن يعلمهم الحكمة والشريعة.
وابتداء الجملة بضمير اسم الجلالة لتكون جملة اسمية فتفيد تقوية هذا الحكم وتأكيده، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مَبعوث من الله لا محالة.
و {في} من قوله: {في الأميين} للظرفية، أي ظرفية الجماعة ولأحد أفرادها. ويفهم من الظرفية معنى الملازمَة، أي رسولاً لا يفارقهم فليس ماراً بهم كما يَمرّ المرسل بمقالةٍ أو بمالكةٍ يبلغها إلى القوم ويغادرهم.
والمعنى: أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع النّاس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة [الأعراف: 158] {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وفي سورة [سبأ: 28] {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً.} والمراد بالأميين: العرب لأن وصف الأميّة غالب على الأمة العربية يومئذٍ. ووصف الرسول ب {منهم}، أي لم يكن غريباً عنهم كما بعث لوطاً إلى أهل سدوم ولا كما بعث يونس إلى أهل نينوَى، وبعث إلياس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بَعل، ف (من) تبعيضية، أي رسولاً من العرب.
وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم، فإن كون رسول القوم منهم نعمةٌ زائدة على نعمة الإِرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} [البقرة: 129] فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإِرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم ويحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.
و {الأميين}: صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء، أي في الناس الأميين. وصيغة جمع الذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي، أي في الأميين والأمِّيات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.
والأميون: الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادراً، فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم، قال تعالى في ذكر بني إسرائيل
{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} وقد تقدم في سورة [البقرة: 78].
وأوثر التعبير به هنا توركاً على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي جهلاً منهم فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولاً إلينا. وقد قال ابن صياد للنبي لما قال له: أتشهد أني رسول الله. أشهد أنكَ رسولُ الأميين. وكان ابن صياد متديناً باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولاً إلى الأميين وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصاً باليهود ولا بغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} [القصص: 5- 6].
ووصف الرسول بأنه منهم، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية. وهذا من إيجاز القرآن البديع.
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أي هو مع كونه أمّياً قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرّسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئاً، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى.
وفي وصف الأميّ بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجس المعنوي وهو الشرك، وما يعْلق به من مساوئ الأعمال والطباع.
وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تُبيّن لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 18، 19]، وقال: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231] ونظيرها قوله: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} في سورة [آل عمران: 164].
وجملة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} في موضع الحال من الأميين، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإِشراك بالله. وإنما كان ضلالاً مبيناً لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة.
و {إنْ} مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها. وقد سد مسدها فعل (كان) كما هو غالب استعمال {إنْ} المخففة. واللام في قوله: {لفي ضلال مبين} تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين (إنْ) النافية و{إنْ} المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر (إن) إذ الأصل: وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالباً لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
{وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}
لا يجوز أن يكون {وآخرين} عطفاً على {الأميين} [الجمعة: 2] لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين، أي غير العرب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف {وآخرين} على {الأميين} لئلا يتعلق بفعل {بعث مجرور القي ولا على الضمير في قوله: منهم} كذلك.
فهو إما معطوف على الضمير في {عليهم} من قوله: {يتلوا عليهم} [الجمعة: 2] والتقدير: ويتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أُوحي به إليه.
وإما أن يجعل {وآخرين} مفعولاً معه. والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي «يتلو، ويزكي، ويعلم». والتقدير: يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين.
وجملة {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2] معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه و{آخرين}: جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق. وإذ قد جعل {آخرين} هنا مقابلاً للأميين كان مراداً به آخرون غير الأميين، أي من غير العرب المعنيين بالأميين.
فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول، وجعلنا قوله: {منهم} بمعنى أنهم من الأميين، وقلنا: أريد وآخرين من العرب غير الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، أي عَرباً آخرين غير أهل مكة، وهم بقية قبائل العرب ناكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد آخِرهم على الأوَّلَيْن عن أبي هريرة قال: كنّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال له رجل: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأَل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال: لو كان الإِيمانُ عند الثريا لناله رجال من هؤلاء؟ وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى: {وآخرين}.
والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة منها أمةُ فارس، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأوْلى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين.
ثم بِنَا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى: {منهم}. فلنا أن نجعل (مِن) تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعلَ الضمير المجرور ب (مِن) عائداً إلى ما عاد إليه ضمير {كانوا} من قوله: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2]، فالمعنى: وآخرين من الضَّالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل (مِن) اتصالية كالتي في قوله تعالى: {لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].
والمعنى: وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم، ويكون قوله: {منهم} موضع الحال، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى: {لما يلحقوا بهم} لأن اللحوق هو معنى الاتصال.
وموضع جملة {لما يلحقوا بهم} موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإِسلام بعد المسلمين الأولِينَ يصيرون مثلهم، وينشأ منه أيضاً رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ أُمماً ليسوا من العرب وهم فارس، والأرمن، والأكراد، والبربر، والسودان، والروم، والترك، والتتار، والمغول، والصين، والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإِخبار بالمغيبات.
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم.
والنفي ب (لمَّا) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقَّب الثبوت كقوله تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، أي وسيدخل كما في «الكشاف»، والمعنى: أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإِسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى.
واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم «لو كان الإِيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» إيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى: {وآخرين منهم} لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب {آخرين} في قوم سلمان. وعن عكرمة: هم التابعون. وعن مجاهد: هم الناس كلهم الذين بُعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر: هم أهل اليمن.
وقوله: {وهو العزيز الحكيم} تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم. فإن {العزيز} لا يغلب قدرته شيء. و{الحكيم} تأتي أفعاله عن قدر محكم.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
الإِشارة إلى جميع المذكورِ من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة والإِنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة، وهذا أجدع لأنفهم إذ حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلاً عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.
وقال: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [آل عمران: 13] يختص به. وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة} [الجمعة: 5] الآيات.
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوماً أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاففٍ في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين.
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلاً بحال حمار يحمل أسفاراً لا حظّ له منها إلا الحَمل دون علم ولا فهم.
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطَاً بأخطاء وضلالات ومتبعاً فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. وقال في «الكشاف» عن بعضهم: افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب. والعرب لا كتاب لهم. فأبطل الله ذلك بشَبَههم بالحمار يحمل أسفاراً.
ومعنى {حملوا}: عُهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا، يقال: حَمَّلت فلاناً أمر كذا فاحتمله، قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} سورة [الأحزاب: 72].
وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة، بتشبيه إيكال الأمر بحمل الحِمل على ظهر الدابة، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفاراً تمثيلاً للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وهو من لطائف القرآن.
وثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عُهد إليهم أعجب من تحملهم إياه. وجملة {يحمل أسفاراً} في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظاً نكرة معنى، فصحّ في الجملة اعتبار الحاليَّة والوصف.
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف، ولذلك ذيل بذم حالهم {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله}.
و {بئس} فعل ذم، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيباً بآيات الله وهي القرآن.
و {مثل القوم}، فاعل {بئس}. وأغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوصصِ بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حَال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثَل المذكور قبله في قوله: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً}. فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من تفننات القرآن. و{الذين كذبوا} صفة {القوم}.
وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل إخباراً عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب دون نظر، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر.
قال في «الكشاف»: «وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث»، أي آيات من هذه السورة: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة: 6]. وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}
أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالاً لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم. وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم. ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا، وفي «الكشاف» «افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة».
وافتتح بفعل {قل} للاهتمام.
و {الذين هادوا}: هم الذين كانوا يهوداً، وتقدم وجه تسمية اليهود يهوداً عند قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} في سورة [البقرة: 62]. ويجوز أن يكون هادوا} بمعنى تابوا لقول موسى عليه السّلام بعد أن أخذتهم الرجفة: {إنا هدنا إليك} كما تقدم في سورة [الأعراف: 156]. وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد. وأصل هود هُوُود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علماً بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.
وجيء بإن} الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة [العقود: 18]: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} للإِشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلاً بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعاً على طريقة قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين} [الزخرف: 5] ويفيد ذلك توبيخاً بطريق الكناية.
والمعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت. وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.
والأمر في قوله: {فتمنوا} مستعمل في التعجيز: كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموْت رجوع الإِنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.
والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تُحَصِّلُ أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما، واختلاففِ أحواللِ أهلهما، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18].
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كَره لقاء الله كره الله لقاءه "
، فقالت عائشة: «إنا نكره الموت فقال لها ليس ذلك» الحديث. وما روي عنه أنه قال: " ارسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " إلى قوله: «قال موسى فالآن».
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود.
فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذٍ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم، فهو حكايه عن مجموع قوم، وأما الأَخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معيّنة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء.
فعلى الأول يحمل حال عُمَير بن الحُمَام في قوله:
جَرْياً إلى الله بغير زاد *** وحال جعفر بن أبي طالب يوم مُوتَةَ وقد اقتحم صَفّ المشركين:
يَا حَبَّذا الجنةُ واقترابها *** وقول عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة *** وضربة ذات فَرْغغٍ تقذف الزبدا
المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونة الجزاء الأحسن والمغفرة التامة.
وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في تأويل قوله: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " إن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله فليس شيء أحبَّ إليه مما أمَامَه فأحَب لقاء الله. وقول موسى عليه السلام لملَك الموت: «فالآن.
{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}
اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحديهم لإِقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله.
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم بتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم. وقد مرّ ذلك في تفسير سورة العقود (18.
(والباء في بما قدمت أيديهم} سببية متعلقة بفعل {يتمنونه} المنفي فما قدمت أيديهم هو سَبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمنّي الموت لتقدم الحجة عليهم.
و (ما) موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله.
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالباً. وَمَصْدَقُ «ما قدمت أيديهم» سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرتُه هنا أتم مما هنالك فاجمع بينهما.
والتقديم: أصله جعل الشيء مقدَّماً، أي سابقاً غيرَه في مكان يقعوه فيه غيره. واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيهاً له بشيء يسبِّقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه.
وجملة {والله عليم بالظالمين}، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين. وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها. وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} [البقرة: 140] والمقصود أن إحجامهم عن تمنّي الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بَعُد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسياناً، إذ هو عالم الغيب والشهادة. وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة: 6]، وإعادة فعل {قل} من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} في سورة [العقود: 114].
ووصف الموت} ب {الذي تفرون منه} للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة:
إن الذين ترونهم إخوانكم
يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا
وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة.
واقتران خبر (إن) بالفاء في قوله: {فإنه ملاقيكم} لأن اسم (إن) نُعِت باسم الموصول والموصول كثيراً ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم (إن) المنعوت بالموصول معاملة نعته.
وإعادة {إِنّ} الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير:
إن الخليفةَ إن الله سربله
سِربال مُلْككٍ به تُزْجى الخَواتِيم
وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} في سورة [الكهف: 30]. وفي سورة الحج أيضاً.
والإِنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه، وهو تعريض بالوعيد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}
هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفاً. وقد تقدم ما حكاه «الكشاف» من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله للمسلمين الجمعة. فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيداً وتوطئة. اللام في قوله: {للصلاة} لام التعليل، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة.
والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز. وبنُو عُقَيْل بسكون الميم.
والتعريف في {الصلاة} تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة. وقد ثبتت شرعاً بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
وكانت صلاةُ الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة. رُوي عن ابن سيرين أن الأنصار جمَّعوا الجمعة قبل أن يقدمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالَوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا: إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العَروبة. فاجتمعَوا إلى أسعدَ بننِ زُرَارةَ فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكَّرهم.
وروى البيهقي عن الزهري أن مُصْعَب بن عُمير كان أول من جَمَّع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعين أن يكون ذلك قد عَلم به النبي صلى الله عليه وسلم ولعلهم بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثُ فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين.
فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل إجابته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144].
وأما أول جمعة جمَّعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل السِيرَ: كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يومَ الاثنين لاثنتيْ عشرةَ ليلةً خلتْ من ربيع الأول فأقام بِقُبَاء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقتُ الجُمعة في بطن واد لبني سَالم بننِ عوف كان لهم فيه مسجد، فجمَّع بهم في ذلك المسجد، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في «تفسيره».
وقولهم: «فأدركه وقت الجمعة»، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذٍ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عازماً أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني سالم، ثم صلّى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانيةَ بالأخبار الصحيحة.
وأول جُمعة جُمِّعت في مسجد من مساجد بلاد الإِسلام بعدَ المدينة كانت في مسجد جُؤَاثاء من بلاد البحرين وهي مدينة الخَطّ قرية لعبد القيس.
ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أهل جُؤَاثاء على الإِسلام.
وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإِسلام وهو الذي كان يسمّى في الجاهلية عَروبَة. قال بعض الأيمة: ولا تدخل عليه اللام. قال السهيلي: معنى العَروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اه. قلت وذلك مروي عن ثعلب، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيدَ الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع. وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمّى العرب القدماءُ يوم الأحد أولَ.
فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي: أوَّلُ، أَهونُ جُبَار، (كغُراب وكِتاب)، دُبار (كذلك)، مُؤيِس (مهموزاً)، عَروبة، شِيار (بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة).
ثم أحدثوا أسماءَ لهذه الأيام هي: الأحد، الإثنين، الثُّلاثاء بفتح المثلثة الأولى وبضمها، الإِرْبِعاء بكسر الهمزة وكسر الموحدة، الخميس، عَروبة أو الجمعة في قول بعضهم السَّبْت. وأصل السبت: القطع، سمي سبتاً عند الإِسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل، وشاع ذلك الاسم عند العرب.
وسمّوا الأيام الأربعة بعدهُ بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام. وفي سفر التكوين منها «ذُكرت أيامُ بدء الخلق بأعدادها أولُ وثانٍ» الخ، وأن الله لم يخلق شيئاً في اليوم الذي بعد اليوم السادس. وسمتْه التوراة سَبْتاً، قال السهيلي: قيل أول من سَمى يوم عَروبة الجمعةَ كَعبُ بن لُؤَي جدُّ أبي قُصي. وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال: وفي قول بعضهم. لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإِسلام.
جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيدَ الأُسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماعَ الخطبة ليعلَّموا ما يهمهم في إقامة شؤون دينهم وإصلاحهم.
قال القفّال: ما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يُخْففِ عظم المنة وجلالة قدر موهبتِه لهم فأمرهم بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم. ولكل أهل ملةٍ معروفة يومٌ من الأسبوع معظم، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن الآخِرون "، أي آخر الدنيا السابقون يوم القيامة (يوم القيامة يتعلق ب«السابقون»). بيدَ أنهم (أي اليهود والنصارى) أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليومَ الذي اختلفوا فيه فهدَانَا الله إليه، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد.
ولما جُعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجُمِّعت الجماعات لذلك، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثّاً على استدامتها. ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تُجْز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اه. كلام القفال. وقول النبي صلى الله عليه وسلم «والنصارى بعد غد»، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعدَ الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يومَ الأحد فيه قام عيسى من قبره. فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قُسطنطين سلطاننِ الروم في سنة 321 المسيحي. وصار دِيناً لهم بأمر أحبارهم.
وصلاة الجمعة هي صلاة ظُهرِ يوم الجمعة، وليست صلاةً زائدة على الصلوات الخمس فأُسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجْل الخطبتين. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قُصِّرت الجمعة لأجل الخطبة.
وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل خطبة بمنزلة ركعةٍ وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإِيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفاً. غير أن الخطبتين لم تعطيَا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معاً ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجودٌ لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً صلاة الظهر. وعن عطاء: أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة.
وجعلت القراءة في الصلاة جهراً مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سُوراً من القرآن كما أسمِعوا الخطبة فكانت صلاةَ إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.
والإِجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهراً فأما من لم يصلِها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر. ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قَام إمام يصلي بجماعة ظُهراً بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة.
وإنما اختلف الأيمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزُفَر من أصحاب أبي حنيفة: صلاة الجمعة المعروفة فرضُ وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بَدلاً عن صلاة الجمعة، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه.
وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه (المرجوع عنه) وأبو يوسف ومحمدٌ في رواية: الفرضُ بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بَدل عن الظهر، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية.
وقال محمد في رواية عنه: الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيينُ للمكلف فأشبه الواجبَ المخير (لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم).
قالوا: تظهر فائدة الخلاف في حُرَ مقيم صلّى الظهر في أول الوقت؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: له صلاة الظهر مطلقاً حتى لو خرج بعد أن صلّى الظهرَ أو لم يخرج لم يبطل فرضُه، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظُهره بمجرد السعي مطلقاً وعند صاحبيه لا يبطل ظُهره إلا إذا أدرك الجمعة.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز أن يصلّي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعةَ أم لا، خرج إليها أم لا (يعني فإن أدرك الجمعة فالأمرُ ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهراً آخر).
والنداء للصلاة: الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في «الصحيح» عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعُمر. قال السائب بن يزيد: فلما كان عثمان وكثُر الناس بالمدينة زاد أذاناً على الزوراء (الزوراء موضع بسوق المدينة). وربما وصف في بعض الرّوايات بالأذان الثاني. ومعنى كونه ثانياً أنه أذانٌ مكرِّر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإِمام على المنبر، أي يؤذن به في باب المسجد، إذْ لم يكن للناس يومئذٍ صومعة، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يُعنَى بذلك أنه ثالث بضميمه الأذان الأول. ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليُسمعَ النداءُ من في أطراف المدينة، وربما سموه الأذان الأول.
والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذّن به عقب الأذان الأول، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولاً ثم يخرج الإِمام فيؤذن بالأذان بَين يديه.
قال ابن العربي في «العارضة»: «لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداءَ على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإِقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أُذِّن الثاني الذي كان أولاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب. ثم يؤذَّن الثالث يعني به الإِقامة» اه.
وقال في «الأحكام»: «وسمّاه في الحديث (أي حديثثِ السائب بن يزيد) ثالثاً لأنه أضافه إلى الإِقامة فجعله ثالثَ الإِقامة، (أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإِقامة مشروعة وسمّى الإِقامة أذاناً مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " بينَ كل أذانَيْن صلاةٌ لمن شاء "
يعني بين الأذان والإِقامة، فتوهم الناس أنه أذانٌ أصْليّ فجعلوا الأذانات ثلاثة فكان وهَماً. ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهَماً على وهَم اه. فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة.
قال ابن العربي في «العارضة»: فأما بالمَغْرب (أي بلاد المغرب) فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين قال في «الرسالة»: «وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية» فوصفه بالثاني وهو التحقيق، ولكنه نسبه إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يروه مسلم ولا مالك في «الموطأ».
والسبب في نسبته إلى بني أمية: أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يُؤذّن للجمعة إلا أذاناً واحداً كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألغى الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة. فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعضُ خلفاء بني أمية قال مالك في «المجموعة»: إن هشام بن عبد الملك أحدث أذاناً ثانياً بين يَدَيه في المسجد.
واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي في هذه الآية هو النداء الأول، وما كان النداء الثاني إلا تبليغاً للأذان لمن كان بعيداً فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نُودي للجمعة.
والسعي: أصله الاشتداد في المشي. وأطلق هنا على المشي بحرص وتوقي التأخر مجازاً.
و {ذِكر الله} فُسر بالصلاة وفُسر بالخطبة، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. قال أبو بكر بن العربي «والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة».
قلت: وإيثار {ذكر الله} هنا دون أن يقول: إلى الصلاة، كما قال: {فإذا قضيت الصلاة} لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة. وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة. وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلاّ في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر.
وفي حديث «الموطأ» «فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ولا شك أن الإِمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية. وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالاً على عِير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: 11].
ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة، وبعد كون البيع وما قيس عليه منهياً عنه فقد اختُلف في فسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة. وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لِدليل. وقول مالك في «المدونة»: إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ.
وقال الشافعي: لا يفسخ. وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضاً.
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة: ففي «العتيبة» عن ابن القاسم: لا يفسخ. ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجباً لفسخ المقيس. وكذلك قال أيمة المالكية: لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع.
وخطاب الآية جميعَ المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان. وشذ قوم قالوا: إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس: ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها.
و {مِن} في قوله: {من يوم الجمعة} تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه، فنزّل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء.
ويجوز كون {مِن} للظرفية مثل التي في قوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} [فاطر: 40]، أي فيها من المخلوقات الأرضية.
والإِشارة ب {ذلكم} إلى المذكور، أي ما ذُكر من أمر بالسعي إليها، وأمر بترك البيع حينئذٍ، أي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات. فلفظ {خير} اسم تفضيل أصله: أخير، حذفت همزته لكثرة الاستعمال. والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمفضل: الصلاة، أي ثوابها. والمفضل عليه: منافع البيع للبائع والمشتري.
وإنما أعقب بقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} تنبيهاً على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة، وذكر الله. والأمر في {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} للإباحة.
والمراد ب {فضل الله}: اكتساب المال والرزق.
وأما قوله: {واذكروا الله كثيراً} فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصباباً ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإِقبال على مرضاة الله تعالى.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
عطف على جملة {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] الآية. عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي «الصحيح» عن جابر بن عبد الله قال: «بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم». وفي رواية: وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} اه. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: «أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً».
وعن مجاهد ومقاتل: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس». وفي رواية «أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام». وفي رواية «وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك». وقال جابر بن عبد الله «كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها»، فلذلك قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم، أو عمرو بن الحارث بن امرئ القيس:
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضضٍ والرأيُ مختلف
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهواً} تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} [النساء: 83] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} [التوبة: 92] الآية.
والانفضاض: مطاوع فَضَّه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7].
وقوله: {أو لهواً} فيه للتقسيم، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ (تجارة) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وتركوك قائماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12].
وذيل الكلام بقوله: {والله خير الرازقين} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، وليس غير الله قادراً على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر.
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}
لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجري والأنصاري ومقالة عبد الله بن أُبيّ في شأن المهاجرين. تعيّن أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبيّ وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعمّ المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى الله عليه وسلم «مَا بال أقوام يشترطون شُروطاً ليست في كتاب الله» ومراده مولى بَريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أمّ المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له، وابتدئ بتكذيب مَنْ أُريد تكذيبه في ادعائه الإِيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعاراً بأن الله أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخَائِلهم، وهو تمهيد لما بعده من قوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلم أن المنافقين قَالوا: نشهد إنك لرسول الله.
فيجوز أن يكون قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} محكياً بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة.
ويجوز أن يكونوا تواطؤوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإِسلام. وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة {قالوا} دون نحو: زعموا.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماضيتين، والظرف متعلق بفعل {قالوا} وهو جواب {إذا}.
فالمعنى: إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله.
و {نشهد} خبر مؤكّد لأن الشهادة الإِخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة، والمعاينة أقوى طرق العلم، ولذلك كثر استعمال: أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم. وكثر أن يُجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله ابن عطية. ومعنى ذلك: أن قوله: {نشهد} ليس إنشاء. وبعض المفسرين جعله صيغة يمين. وروي عن أبي حنيفة.
والمقصود من قوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحْي تعيينهم أو تعيين بعضهم.
و {المنافقون} جمع منافق وهو الذي يظهر الإِيمان ويُسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلاً في سورة آل عمران.
وجملة {إنك لرسول الله} بيان لجملة {نشهد}.
وجملة {والله يعلم إنك لرسوله} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أنه تكذيب لجملة {إنك لرسول الله} فإن المسلمين كانوا يومئذٍ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجّيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضياً دفع الإِيهام وهذا من الاحتراس.
وعُلق فعل {يعلم} عن العمل لوجود (إنّ) في أول الجملة وقد عدوا (إنَّ) التي في خبرها لاَم ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العَمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل (إنَّ) ولكنها زُحْلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكَّدين متصلين، وأُخذ ذلك من كلام سيبويه.
وجملة {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} عطف على جملة {قالوا نشهد}.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم.
وجيء بفعل {يشهد} في الإِخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساوياً لإِخبارهم.
والكذب: مُخالفة ما يفيدهُ الخبرُ للواقع في الخارج، أي الوُجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا أنهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولُهم ما في نفوسهم. وبهذا بطل احتجاج النَظَّام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى: {قالوا نشهد}. وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في «تلخيص المفتاح» وفي «الإِيضاح».
وجملة {إن المنافقين لكاذبون} مبنية لجملة {يشهد} مثل سَابقتاها.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}
استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبيء صلى الله عليه وسلم {نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون: 1] يثير في أنفس السامعين سؤالاً عن أيْمانهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن.
والجُنة: ما يستتر به ويُتَّقَى ومنه سميت الدرع جُنة.
والمعنى: جعلوا أيمانهم كالجُنّة يتّقي بها ما يَلْحق من أذى. فلما شبهت الأيمان بالجُنّة على طريقة التشبيه البليغ، أُتبع ذلك بتشبيه الحَلف باتخاذ الجنة، أي استعمالها، ففي {اتخذوا} استعارة تبعية، وليس هذا خاصاً بحلف عبد الله بن أُبَيّ أنه قال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، كما تقدم في ذكر سبب نزولها، بل هو أعمّ، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله: {اتخذوا أيمانهم} الآية على حقيقتها، أي اتخذ المنافقون كلُّهم أيمانهم جُنة، أي كانت تلك تقيتهم، أي تلك شنشنة معروفة فيهم.
{فصدوا عن سبيل الله} تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإِثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد أمنوا اتّهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صدّ عن سبيل الله، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها.
وفعل (صدّوا) هنا قاصر الذي قياس مضارعه يَصِدُّ بكسر الصاد.
وجملة {إنهم ساء ما كانوا يعملون} تذييل لتفظيع حالهم عن السامع. وساء من أفعال الذم تُلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعْلها عن فَعَل المفتوح العين إلى فَعُل المضمومِها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب «الكشاف» وأشار إليه صاحب «التسهيل».
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}
جملة في مَوضع العلة لمضمون جملة {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون: 2].
والإِشارة إلى مضمون قوله: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المنافقون: 2]، أي سبب إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها، هو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرأت أنفسهم على الجرائم وضَرِيت بها، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير.
فقوله: {بأنهم آمنوا} خبر عن اسم الإِشارة. ومعنى الباء السببية. و{ثم} للتراخي الرتبي فإن إبطال الكفر مع إظهار الإِيمان أعظم من الكفر الصريح. وأن كفرهم أرسخ فيهم من إظهار أيمانهم.
ويجوز أن يراد مع ذلك التراخي في الزمن وهو المهلة.
فإسناد فعل {آمنوا} إليهم مع الإِخبار عنهم قبل ذلك بأنهم كاذبون في قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون: 1] مستعمل في حقيقته ومجازه فإن مراتب المنافقين متفاوتة في النفاق وشدةِ الكفر فمنهم من آمنوا لما سمعوا آيات القرآن أو لاحت لهم أنوار من النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت في قلوبهم. ثم رجعوا إلى الكفرِ لِلوم أصحابهم عليهم أو لإِلقائهم الشك في نفوسهم قال ابن عطية: وقد كان هذا موجوداً. قلت: ولعل الذين تابوا وحسن إسلامهم من هذا الفريق. فهؤلاء إسناد الإِيمان إليهم حقيقة.
ومنهم من خالجهم خاطر الإِيمان فترددوا وقاربوا أن يؤمنوا ثم نكصوا على أعقابهم فشابه أول حالهم حَالَ المؤمنين حين خطور الإِيمان في قلوبهم.
ومنهم من أظهروا الإِيمان كذباً وهذا هو الفريق الأكثر. وليس ما أظهروه في شيء من الإِيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم: {وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] فسمّاه إسلاماً ولم يسمِّه إيماناً. ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم: {قالت الأعراب آمنَّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]. وإطلاق اسم الإِيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل {يحذر} في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم} سورة الآية، في سورة [براءة: 64].
وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون ثُمّ} مستعملاً في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل {آمنوا}.
ولو حمل المنافقون على واحد معيَّن وهو عبد الله بنُ أبُيّ جاز أن يكون ابن أُبَيّ آمن ثم كفر فيكون إسناد {آمنوا} حقيقة وتكون {ثم} للتراخي في الزمان.
وتفريع {فهم لا يفقهون} على قوله: {آمنوا ثم كفروا}، فصار كفرهم بعد الإِيمان على الوجوه السابقة سبباً في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية، وسبباً في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فَاء التفريع.
والفقه: فهم للحقائق الخفية.
والمعنى: أنهم لا يدركون دلائل الإِيمان حتى يعلموا حقّيته.
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
هذا انتقال إلى وضَحْ بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم، فكان الوضح الأول مفتتحاً ب {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] وهذا الوضح مفتتحاً ب {إذا رأيتهم}.
فجملة {وإذا رأيتهم} معطوفة على جملة {فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم.
واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترَار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية:
لابأس بالقوم من طُول ومن غلظ *** جِسم البغال وأحلام العصافِير
وتفيد مع الاحتراس تنبيهاً على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي. ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالاً وهما نقيصَتان لعدم تناسقهما مع ما شأنُه أن يكون كمالاً. فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فرّبما انقلب الحسن موجب نقص.
فالخطاب في هذه الآية لغير معيّن يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغرّه صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة [الكهف: 18] {لو اطلعتَ عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً} والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معيّن أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور. وعن ابن عباس: كان ابن أُبيّ جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان. وقال الكلبي: المراد ابنُ أُبيّ والجِد بن قَيس ومعتب بن قُشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وقال في الكشاف}: وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أُبيّ رؤساء المدينة.
وأجسام: جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإِشارة إليه أو ما له طُول وعَرض وعُمق. وتقدم في قوله تعالى: {وزادهُ بَسطة في العلم والجسم} في سورة [البقرة: 247]. وجملة وإن يقولوا تسمع لقولهم} معترضة بين جملة {وإذا رأيتهم} الخ وبين جملة {كأنهم خشب مسندة}.
والمراد بالسَّماع في قوله: {تسمع لقولهم} الإِصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين.
فاللام في قوله: {لقولهم} لتضمين {تسمع} معنى: تُصْغ أيها السامع، إذ ليس في الإِخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإِصغاء لوعي كلامهم.
وجملة {كأنهم خشب مسندة} مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال يَنشأ عن وصف حسن أجسامهم وذَلاقة كلامهم، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يَرد بعد هذا الوصف.
ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ضميري الغيبة في قوله: {رأيتهم تعجبك أجسامهم}.
ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين.
و {خشب} بضم الخاء وضم الشين جمع خَشَبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثَمَرة، وقيل: ثُمر جمع ثمار الذي هو جمع ثَمرة فيكون ثُمُر جمعَ جمع. فيكون خُشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع مفرده. ويقال: خُشْب بضم فسكون وهو جمع خشبة لا محالة، مثل: بُدْن جمع بدنة.
وقرأه الجمهور بضمتين. وقرأه قنبل عن ابننِ كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوبُ بضمة فسكون.
والمسنَّدة التي سُندت إلى حائط أو نحوه، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سَقف ولا مشدود بها جدار. شُبهوا بالخُشُب المسنَّدة تشبيه التمثيل في حُسن المرأى وعدم الجَدوى، أفيد بها أن أجسامهم المعجَب بها ومقالَهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخُلوّ الخُشب المسنَّدة عن الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لبّ وشجاعة وعلم ودراية. وإذا اختبرتموهم وجدّتموهم على خلاف ذلك فلا تحْتفلوا بهم.
{مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ}.
هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة {كأنهم خشب مسندة}، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموّه، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.
وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.
والصيحة: المرة من الصياح، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجّسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشُوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإِيقاع بهم.
و {كلّ} هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجّسون خوفاً من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله:
بها كل ذيَّال وخنساءَ ترعوي *** إلى كُلّ رَجَّاف من الرمل فارد
وقوله: {عليهم} ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل {يحسبون} وليس متعلقاً ب {صيحة}.
{عَلَيْهِمْ هُمُ العدو}.
يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة {يحسبون كل صيحة عليهم} لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالاً عن سبب هلعهم وتخوفهم من كلّ ما يتخيَّل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألِدّاءُ للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدَّق ما يعتاده من توهم
ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لِجملة {يحسبون كل صيحة عليهم} على هذا المعنى أيضاً.
ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً لِذكر حالة من أحوالهم تهُم المسلمين معرفتُها ليترتب عليها تفريع {فاحذرهم} وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم.
والتعريف في {العدو} تعريف الجنس الدال على معيّن كمال حقيقة العدوّ فيهم، لأن أعدى الأعادي العدوّ المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم.
و {العدوّ}: اسم يقع على الواحد والجمع. والمراد: الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يُخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم.
{فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى}.
تذييل فإنه جمع على الإِجمال ما يغني عن تعداد مذامّهم (كقوله {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} [النساء: 63]، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعُدولهم عن الحق.
فافتتح التعجيب منهم بجملة أصلها دعاء بالإِهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جرّهُ صاحبه لنفسه فإن كثيراً من الكَلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروهٍ مثل قولهم: ثكلته أمهُ، ووَيلُ أمّه. وتَربتْ يمينه. واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بُلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك، إذ لا نفع له ولا للناس في بقائه، ثم الملازمةِ بين الدعاء بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال. فهي ملازمة بمرتبتين كنايةٌ رمزية.
و {أنَّى} هنا اسم استفهام عن المكان. وأصل {أنَّى} ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى (كيفَ) كقوله تعالى: {قلتم أنى هذا} في سورة [آل عمران: 165]، وفي قوله: {أنَّى لهم الذكرى} في سورة [الدخان: 13]. ومنه قوله هنا أنى يؤفكون}، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله. فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته. فجملة {أنى يؤفكون} بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة {قاتلهم الله}.
و {يؤفكون} يُصرفون يقال: أفَكَه، إذا صرفه وأبعده، والمراد: صرفهم عن الهدى، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى، أو كيف أمكن لمضلليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة براءة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}
هذا حالهم في العناد ومجافاة الرسول صلى الله عليه وسلم والإِعراض عن التفكر في الآخرة، بَلْهَ الاستعداد للفوز فيها.
و {تعالوا} طَلَب من المخاطب بالحضور عند الطالب، وأصله فِعل أمر من التَعالي، وهو تكلف العُلو، أي الصعود، وتنوسي ذلك وصار لمجرد طلب الحضور، فلزم حالة واحدة فصار اسم فِعل، وتقدم عند قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية في سورة [الأنعام: 151].
وهذا الطلب يجعل تعالوا} مشعر بأن هذه حالة من أحوال انفرادهم في جماعتهم فهي ثالث الأغراض من بيان مختلف أنواع تلك الأحوال، وقد ابتدأت ب {إذا} كما ابتدئ الغرضان السابقان ب {إذا} {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1]. و{إذا رأيتَهم تعجبك أجسامهم} [المنافقون: 4].
والقائل لهم ذلك يحتمل أن يكون بعضَ المسلمين وَعَظوهم ونصحوهم، ويحتمل أنه بعض منهم اهتدى وأراد الإِنابة.
قيل المقول له هو عبد الله بنُ أُبَيّ ابن سلول على نحو ما تقدم من الوجوه في ذكر المنافقين بصيغة الجمع عند قوله: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] وما بعده.
والمعنى: اذهبوا إلى رسول الله وسَلُوه الاستغفار لكم. وهذا بدل دلالة اقتضاء على أن المراد توبوا من النفاق وأخلصوا الإِيمان وسَلُوا رسول الله ليستغفر لكم ما فرط منكم، فكانَ الذي قال لهم ذلك مطَّلعاً على نفاقهم وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة (13) {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} وليس المراد من الاستغفار الصفح عن قول عبد الله بن أُبَيّ ليخرجن الأعز منها الأذل. لأن ابنَ أُبَيّ ذَهب إلى رسول الله وتبرأ من أن يكون قال ذلك ولأنه لا يلتئم مع قوله تعالى: {لن يغفر الله لهم} [المنافقون: 6].
ولَيُّ الرؤوس: إمالتها إلى جانب غير وِجاه المتكلم. إعراضاً عن كلامه، أي أبوا أن يستغفروا لأنهم ثابتون على النفاق، أو لأنهم غيرُ راجعين فيما قالوه من كلام بَذيء في جانب المسلمين، أو لئلا يُلزموا بالاعتراف بما نسب إليهم من النفاق.
وقرأ الجمهور {لوّوا} بتشديد الواو الأولى مضاعف لوى للدلالة على الكثرة فيقتضي كثرة اللي منهم، أي لوى جمع كثير منهم رؤوسهم، وقرأهُ نافع ورَوح عن يعقوب بتخفيف الواو الأولى اكتفاء بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة.
والخطاب في {ورأيتهم} لغير معيّن، أي ورأيتهم يا من يراهم حينئذٍ.
وجملة {وهم مستكبرون} في موضع الحال من ضمير يصدون، أي يصدون صدّ المتكبر عن طلب الاستغفار.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
جملة معترضة بين حكاية أحوالهم نشأت لمناسبة قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم} [المنافقون: 5] الخ.
واعلم أن تركيب: سواء عليه أكذا أم كذا، ونحوه مما جرى مجرى المثل فيلزم هذه الكلمات مع ما يناسبها من ضمائر المخبر عنه. ومدلوله استواء الأمرين لدى المجرور بحرف (على)، ولذلك يعقَّب بجملةٍ تبين جهة الاستواء كجملة {لن يغفر الله لهم}. وجملة {لا يؤمنون} في سورة [البقرة: 6]. وقوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} في سورة [يس: 10] وأما ما ينسب إلى بُثينة في رثاء جَميل بن معمر من قولها:
سَواء عَلَينا يا جميلُ بنَ معمر *** إذا مِتَّ بأساءُ الحياةِ ولينُها
فلا أحسبه صحيح الرواية. وسواء اسم بمعنى مساو يعامل معاملة الجامد في الغالب فلا يتغير خبره نقول: هما سواء، وهم سواء. وشذ قولهم: سِواءَيْن.
و (على) من قوله: عليهم} بمعنى تَمكُّن الوصف. فالمعنى: سواء فيهم.
وهمزة {أستغفرت لهم} أصلها همزة استفهام بمعنى: سواء عندهم سُؤال السائل عن وقوع الاستغفار لهم وسؤالُ السائل عن عدم وقوعه. وهو استفهام مجازي مستعمل كناية عن قلة الاعتناء بكلا الحالين بقرينة لفظ سواء ولذلك يسمي النُحَاة هذه الهمزة التسوية. وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} في سورة [البقرة: 6]، أي سواء عندهم استغفارك لهم وعدمه. ف (على) للاستعلاء المجازي الذي هو التمكن والتلبس فتؤول إلى معنى (عند) كما تقول سَواء عليَّ أرضيت أم غَضبت وقوله تعالى: {قالوا سواء علينا أوَعَظْتَ أم لم تكن من الواعظين} في سورة [الشعراء: 136].
وجملة لن يغفر الله لهم} معترضة بين جملة {سواء عليهم} وجملة {هم الذين يقولون} [المنافقون: 7] وهي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم
{لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم}.
جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً عن حال من أحوالهم.
وجملة {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}
{هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والارض ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ}.
هذا أيضاً من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانهم الذين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين تظاهراً بالإِسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهَرْ الإِسلام بغير الإِنفاق مثل قولهم لمن يقول لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله، ولذلك عقبت بها. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين.
وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعْرببِ عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالاً من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وصف لون آخر من كفرهم وهو الكيد للدِّين في صورة النصيحة.
وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم سَتروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمتُ أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضاً تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى: {أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار} [ص: 60]. وليَكون للجملة الاسمية إفادةُ ثبات الخبر، وليكون الإِتيان بالموصول مشعراً بأنهم عرفوا بهذه الصّلة. وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها.
و {من عند رسول الله} من كانوا في رعايته مثل أهل الصُفّة ومن كانوا يَلحقون بالمدينة من الأعراب العُفاة أو فريق من الأعراب كان يموّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناسَ فيه شدة فقال عبد الله بن أُبَيّ: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» وهذا كلام مَكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألمُّوا به في غزوة بني المصطلق، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدي النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرقُ فقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين. وروايات حديث زيد مختلطة.
وقوله: {رسول الله} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أُبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهراً في ملإِ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذٍ بالإِسلام.
و {حتّى} مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى {حتى} انتهاء الفعل المذكور قبلها وغايةُ الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذَا بلغها، فهي سبب للانتهاء وعلّة له، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم.
والإِنفضاض: التفرق والابتعاد.
{يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والارض ولكن المنافقين لاَ}.
عطف على جملة {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإِنفاق وذلك دأبَه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب «أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ولكن ابتع عليَّ فإذا جاءني شيء قضيتُه. فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أَنفق ولا تخشَ من ذِي العرششِ إقلالاً. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أُمرتُ». رواه الترمذي في كتاب «الشمائل».
وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث.
و {خزائن} جمع خزانة بكسر الخاء. وهي البيت الذي تُخزن فيه الطعام قال تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض} تقدم في سورة يوسف (55). وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها، ومن هذا ما جاء في حديث الصرف من الموطأ} «حتى يحضر خازني من الغابة».
و {خزائن السماوات} مقارّ أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج. وأما خزائن الأرض فما فيها من أهرية ومطاميرَ وأندر، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من البلاد وما يفيء عليه من أهل القرى.
واللام في {لله} الملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى. ولما كان الإِنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الدين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كان الإِخبار بأن الخزائن لله كنايةً عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له الأنصاري «ولا تَخشَ من ذي العرش إقلالاً» «بهذا أُمرت». وذلك بما سيره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها، وما أفاء الله عليه بغير قتال.
وتقديم المجرور من قوله: {ولله خزائن السماوات والأرض} لإِفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإِنفاق على مَن عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعاً بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع.
واستدراك قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإِنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر.
والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها.
ومفعول {يفقهون} محذوف، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون {لله خزائن السماوات والأرض}، أو نُزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}
استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف. ومثله يكثر في مقام التوبيخ. وهذا وصف لخبث نواياهم إذْ أرادوا التهديد وإفسادَ إخلاص الأنصار وأخوّتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذراً للفتنة والتفرقة وانتهازاً لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أُبيّ ابن سلول حين كسَع حليفُ المهاجرين حليفَ الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة، وعند قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقون: 7] فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك.
وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74]. والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب.
و {الأعزّ}: القويّ العِزة وهو الذي لا يُقهر ولا يُغلب على تفاوت في مقدار العزّة إذ هي من الأمور النسبية. والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعُدة، وأراد ب {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عدداً من المهاجرين فأراد لَيُخْرجن الأنصار من مدينتهم مَن جاءها من المهاجرين.
وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجَب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجَدلي في علم آداب البحث.
والمعنى: إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ. وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسولَه صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة، وعزّة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يُخرج منها أنتم يا أهل النفاق.
وتقديم المسند على المسند إليه في {ولله العزة} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون.
وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مُغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضاً في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضاً إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة.
والقول في الاستدراك بقوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} نظير القول آنفاً في قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون: 7].
وعدل عن الإِضمار في قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون}. وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل.
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلاً بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإِقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوماً فيوماً وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يَسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}
انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم، إلى الإِقبال على خطاب المؤمنين بنهيهم عما شأنُه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى، ثم الأمر بالإِنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم، لئلا يستهويهم قول المنافقين {لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقين: 7] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يُدْرى وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده {وأنفقوا من ما رزقناكم} [المنافقون: 10]، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأموال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق.
ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالاً يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضاً بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذِكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإِلهاء عن الذكر، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}. وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله، فنُزّل سبب الإِلهاء منزلة اللاَّهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا.
و {لا} في قوله: {ولا أولادكم} نافية عاطفة {أولادكم} على {أموالكم}، والمعطوف عليه مدخول {لا} الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف {لا} الناهية أصلها {لا} النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملاً على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال.
و {ذكر الله} مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوةِ القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحْضار امتثاله قال عمر بن الخطاب: «أفضل من ذكر الله باللسان ذِكر الله عند أمره ونهيه».
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يُلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب.
وقوله: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، دليل على قول علماء أصول الفقه «النهيُ اقتضاءُ كفَ عن فعل».
والإِشارة ب {ذلك} إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد، أي ومن يُلْهِ عن ذكر الله، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله، أي مراعاة أوامره ونواهيه.
ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه.
وأفاد ضمير الفصل في قوله: {فأولئك هم الخاسرون} قصرَ صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نُهوا عنه، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسراناً بالنسبة إلى خسرانهم.
والإِشارة إليهم ب {أولئك} للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإِشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإِشارة، أعني اللهو عن ذكر الله.
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)}
هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقون: 7]، وهو يعمّ الإِنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِنفاقَ على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل.
وفعل {أنفقوا} مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
وفي قوله: {من ما رزقناكم} إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفِق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خُلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة.
و {مِن} للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإِنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث «الصدقة تُطفئ الخطايا كما يُطفئ الماءُ النارَ».
وقد ذكَّر الله المؤمنين بما في الإِنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإِنفاق والإِتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويُغْلَب على قواه فيسأل الله أن يؤخر مَوته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعاً أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير.
و {لولا} حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل {لولا} للعرض أيضاً والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت} في سورة [يونس: 98].
وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعاً وإنما جاء ماضياً هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] وقرينة ذلك ترتيب فعلَيْ {فأصدق وأكن من الصالحين} عليه.
والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالاً حثيثاً أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح.
ووصفُ الأجللِ ب {قريب} تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث «لا يقولَنَّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألةَ فإنه لا مُكْره له»
تنبيهاً على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.
وانتصب فعل {فأصدق} على إضمار (أنْ) المصدرية إضماراً واجباً في جواب الطلب.
وأما قوله: {وأكن} فقد اختلف فيه القراء.
فأما الجمهور فقرأوه مجزوماً بسكون آخره على اعتباره جواباً للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفرداً على مفرد. وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط. فتقديره: إنْ تؤخرْني إلى أجل قريب أَكُن من الصالحين، جمعاً بين التسبب المفاد بالفاء، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل.
وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقِع أحدهُما بعد فاء السببية والآخرُ بعد الواو العاطفة عليه. فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى مُحسن الاحتباك. فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب فَأَصَّدَّقَ وأكونَ من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصَّدَّقْ وأكُنْ من الصالحين.
ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حثَّ سؤالَه أعقبه بأن الأمر ممكن فقال: إن تؤخرني إلى أجل قريب أصَّدق وأكن من الصالحين. وهو من بدائع الاستعمال القرآني لقصد الإِيجاز وتوفير المعاني.
ووجَّه أبو علي الفارسي والزجاجُ قراءة الجمهور بجعل {وأكن} معطوفاً على محل {فأصدق}. وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة {وأكونَ} بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة. وقيل: إنها يوافقها رسم مصحف أَبيّ بن كعب ومصحفُ ابن مسعود.
وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة. ورويت عن مالك بن دينار وابن جبير وأبي رجاء. وتلك أقل شهرة.
واعتذر أبو عمرو عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصاراً يريد أنهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتماداً على نطق القارئ كما تحذف الألف اختصاراً بكثرة في المصاحف. وقال القراء العرب: قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داوود وبكثرة يكتبونه داود. قال الفراء: ورأيت في مصاحف عبد الله «فقُولا» نقلاً بغير واو، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن ملتقىًّ بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ}.
اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيراً للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخُ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد. فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي اسْتجاب لأن الله قدر الآجال.
وهذا سر عظيم لا يعلم حكمة تحديده إلا الله تعالى.
والنفس: الروح، سميت نفساً أخذاً من النَفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة، فسميت النفس نفساً لأن النفس يتولد منها، كما سمي مرادف النفس رُوحاً لأنه مأخوذ الرَوح بفتح الراء لأن الرَّوح به. قاله أبو بكر بن الأنباري.
و {أجلها} الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإِنساني.
ويجوز أن يراد بالنفس الذات، أي شخص الإِنسان وهو من معاني النفْس. كما في قوله تعالى: {أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] وأجلها الوقت المعيَّن مقداره لبقاء الحياة.
و {لَن} لتأكيد نفي التأخير، وعموم {نفساً} في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم.
ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حياً بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة.
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل الصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم.
{أَجَلُهَآ والله خَبِيرٌ بِمَا}.
عطف على جملة {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم} [المنافقون: 9]. أو تذييل والواو اعتراضية.
ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيقَ علم الله بما يعمله المؤمنون. ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوِّي راجعاً إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإِنفاق المأمور به منه الواجب المندوب. وفعلهما يستحق الوعد. وترك أولهما يستحق الوعيد.
وإيثار وصف {خبير} دون: عليم، لما تؤذن به مادة {خبير} من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بَطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيَّات، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعاً ممتداً كالعُمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طروّ مانع. وكالوقت المختار للصلوات، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يُرْزِئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزباً أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره.
ومن هذا القبيل: أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصّحيح.
وقرأ الجمهور {بما تعملون} بالمثناة الفوقية. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائداً إلى {نفساً} الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
لما كان جُلّ ما اشتملت عليه هذه السورة إبطالَ إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإِشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتُدئت السورة بالإِعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص: إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإِيجاد والإِمداد كحاجة الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها. وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنقائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإِنس والشياطين فإنهم حَجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر.
فالمعنى: يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك.
وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويكون لهم تعليماً وامتناناً ويفيد ثانياً بطريق الكناية تعريضاً بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء.
وجيء بفعل التسبيح مضارعاً للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة.
وجيء به في فواتح سُور: الحديد، والحشر، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان. فحصل من هذا التفنن في فواتح هذه السورة كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة.
وإعادة {ما} الموصولة في قوله: {وما في الأرض} لقصد التوكيد اللفظي.
وجملة {له الملك} استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائص لا مقتضى لها إلا انفرادُه بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه.
وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح.
فتقديم المسند على المسند إليه لإِفادة تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوّه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك.
وجملة {وله الحمد} مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض، إذ التسبيح من الحمد، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإِدراك مختصاً به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح.
فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده» وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضاً مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر، قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة.
وجملة {وهو على كل شيء قدير} معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق.
وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين.
والاقتصار على ذكر وَصف {قدير} هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولاً لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}
هذا تقرير لما أفاده قوله: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [التغابن: 1]، وتخلصٌ للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له. ولذلك قدم {فمنكم كافر} على {ومنكم مؤمن} لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضاً وتصريحاً.
وأفاد تعريف الجزأين من جملة {هو الذي خلقكم} قصر صفة الخالقية على الله تعالى، وهو قصر حقيقي قصد به الإِشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فَما كانت مستحقة لأن تعبد، لأن العبادة شكر. قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17].
والخطاب في قوله: {خلقكم} لِجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، فإن الناس لا يعْدون هذين القسمين.
والفاء في {فمنكم كافر} عاطفة على جملة {هو الذي خلقكم} وليست عاطفة على فعل {خلقكم} وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.
ونظيره قوله: {وجعلنا في ذريتهما النبوءة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] فجملة {فمنكم كافر} هي المقصود من التفريع، وهو تفريع في الحصول. وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في {ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل} [التغابن: 5].
وجملة {ومنكم مؤمن} تتميم وتنويه بشأن أهل الإِيمان ومضادَّة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.
وقوله: {والله بما تعملون بصير} تتميم واحتراس واستطراد، فهو تتميم لما يكمِّل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإِبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوباً على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك. ودون تفصيل هذا تطويل نخصهُ بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله. ونقتصر هنا على أن نقول: خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القُدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقُدرة العبد (والخلاف في التعبير). وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نُظُماً مرتبطاً بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرَها في طرائقها ولا يعطلَ عمَلها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كلَ لأن النظُم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سُمي بالكسب على أصولنا أو بالقدرة الحادثة على أصول المعتزلة، بل جعل بحكمته بين الخَلْققِ والكسب حاجزاً هو نظام تكوين الإِنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة، وقد أشار إلى هذا قوله: {والله بما تعملون بصير} أي هو بصير به من قَبل أن تعملوه، وبعد أن عملتموه.
فالبصير: أريد به العالم عِلمَ انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شائع في القرآن لا سيما إذا أفردت صفة {بصير} بالذكر ولم تذكر معها صفة «سميع».
واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة: العالم بالمرْئيات. وقال بعضهم: هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها. والحق أنها استعمالات مختلفة. وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبارٍ من السنة فاجعلوه مِثالاً يُحتدى، وقولوا هكذا. هكذا.
وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين {وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم} [الزخرف: 20].
وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد.
وشمل قوله: {بما تعملون} أعمالَ القلوب كالإِيمان وهي المقصود ابتداء هنا.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}
{خَلَقَ السماوات والارض}.
استئناف بياني نَاشئ عن قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] يبيِّن أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وقال: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] فمن حَاد عن الإِيمان ومالَ إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة.
{والارض}.
وقوله: {بالحق} معترض بين جملة {خلق السموات والأرض} وجملة {وصوّركم}.
وفي قوله: {بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل {خلق} تعلَّق الملابسة المفاد بالباء، أي خلقاً ملابساً للحق، والحق ضد الباطل، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله: ربنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران: 190- 191]. والباطل مَصْدَقهُ هنالك هو العبث لقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38، 39] فتعين أن مَصْدَقَ الحقّ في قوله: {خلق السموات والأرض بالحق} أنه ضد العبث والإِهمال.
والمراد ب {خلق السموات والأرض} خلق ذوَاتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة.
وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضاً لمعنى ملابسة خلقِها للحقّ، فكان نفي البعث للجزاء على أعمال المخلوقات موجباً اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال. وتخلّف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيراً ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثيرٌ من أهل الصلاح غيرَ لاقٍ جزاءً على صلاحه. وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعاً بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته، فكان خلق كلا هذين الفريقين غيرَ ملابس للحق، بالمعنى المراد.
ولزيادة الإِيقاظ لهذا الإِيمان عطف عليه قوله: وإليه المصير} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7] الآية.
وفي قوله {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد.
وفي قوله: {خلق السموات} إلى آخره إظهار أيضاً لعظمة الله في ملكوته.
{بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ}.
إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يُناكد محاسن سائرها بخلاف محَاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطيرِ والحيتان من مَشي على أرْبَع مع انتكاس الرأس غالباً، أو زحف، أو نقز في المشي في البعض.
ولا تَعْتَوِرُ الإِنسان نقائصُ في صورته إلا من عوارضَ تعرض في مدة تكوينه من صَدَمَات لبطون الأمهات، أو علل تحلّ بهن، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور. فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإِنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإِيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإِنعام. وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال: {أفعيينا بالخلق الأول} [ق: 15]، وقال: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} [يس: 81].
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
عطف على جملة {وصوركم} لأن التصوير يقتضي الإِيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإِيجادِ فناءً ثم بعثاً للجزاء.
والمَصير مصدر ميمي لفعل صادر بمعنى رَجع وانتهى، ولذلك يُعدَّى بحرف الانتهاء، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء.
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مراداً بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بَلْهَ أن يدَّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يُردّ عليهم بالقصر.
وهذه الجملة أشد ارتباطاً بجملة {خلق السموات والأرض بالحق} منها بجملة {وصوركم فأحسن صوركم} كما يظهر بالتأمل.
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}
كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها. {وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]، فكان قوله تعالى: {يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون} دحضا لشبهتهم، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها. والذي يعلم السرّ في نفس الإِنسان، والسرُّ أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة، لا تخفى عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى: {أيحسب الإِنسانُ أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 3- 4].
فالمقصود هو قوله: {ويعلم ما تسرون} كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله: {والله عليم بذات الصدور} ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح. وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} تهديداً على ما يبطنه الناس من الكفر.
وأما عطف {وما تعلنون} فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال.
وقد تضمن قوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} وعيداً ووعداً ناظريْن إلى قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2].
وإعادة فعل {يعلم} للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإِلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله: {يعلم ما في السموات والأرض} تنبيهاً على الوعيد والوعد بوجه خاص.
وجملة {والله عليم بذات الصدور} تذييل لجملة {ويعلم ما تسرون} لأنه يعلم ما يُسِرُّه جميع الناس من المخاطبين وغيرهم.
و {ذات الصدور} صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها، أي صاحبات الصدور، أي المكتومة فيها.
والتقدير: بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله: {وحملناه على ذات ألواح} [القمر: 13] وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} في سورة [الأنفال: 43].
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)}
انتقال من التعريض الرمزي بالوعيد الأخروي في قوله: {والله بما تعملون بصير} [التغابن: 2]، إلى قوله: {وإليه المصير} [التغابن: 3]، وقوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} [التغابن: 4]، إلى تعريض أوضح منه بطريق الإِيماء إلى وعيد لعذاب دنيوي وأخروي معاً فإن ما يسمّى في باب الكناية بالإِيمان أقل لوازم من التعريض والرمز فهو أقرب إلى التصريح. وهذا الإِيماء بضرب المَثل بحال أمم تلقوا رسلهم بمثل ما تلقّى به المشركون محمداً صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك، فالجملة ابتدائية لأنها عَدٌّ لصنف ثاننٍ من أصناف كفرهم وهو إنكار الرسالة.
فالخطاب لخصوص الفريق الكافر بقرينة قوله: {الذين كفروا من قبل} فهذا الخطاب موجه للمشركين الذين حالهم كحال من لم يبلغهم نبأ الذين كفروا مثلَ كفرهم، مثلُ عاد وثمود ومَدين وقوم إبراهيم.
والاستفهام تقريري، والتقريري يؤتى معه بالجملة منفية توسعة على المقرر إن كان يريد الإِنكار حتى إذا أَقرّ لم يستطع بعد إقراره إنكاراً لأنه قد أعذر له من قبل بتلقينه النفي وقد تقدم غير مرة.
وحُذف ما أضيف إليه {قبلُ} ونوي معناه، والتقدير: من قبلِكم، أي في الكفر بقرينة قوله: {فمنكم كافر} [التغابن: 2]. والكافرون يعلمون أنهم المقصود لأنهم مُقدمون على الكفر ومستمرون عليه.
والوبال: السوء وما يكره.
والأمر: الشأن والحال.
والذَّوق مجاز في مطلق الإِحساس والوِجدان، شبه ما حلّ بهم من العذاب بشيء ذي طعم كريه يذوقه من حلّ به ويبتلعه لأن الذوق باللسان أشد من اللمس باليد أو بالجلد.
والمعنى: أحسوا العذاب في الدنيا إحساساً مكيناً.
وقوله: {ولهم عذاب أليم} مراد به عذاب الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}
ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريببٍ من الصريح. وهو المسمى في الكناية بالإِشارة. كانت مقالةُ الذين من قبلُ مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال.
فاسم الإِشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم.
فهذا عَدّ لكفر آخر من وجوه كفرهم وهو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم بالقرآن فإن القرآن بيِّنة من البيّنات لأنه معجزة.
والباء للسببية فالجملة في موقع العلة. والضمير ضمير الشأن لقصد تهويل ما يفسر الضمير، وهو جملة {كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} إلى آخرها.
والاستفهام في {أبشر} استفهام إنكار وإبطال فهم أحالوا أن يكون بشر مثلهم يهدون بشراً أمثالهم، وهذا من جهلهم بمراتب النفوس البشرية ومن يصطفيه الله منها، ويخلقه مضطلعاً بتبليغ رسالته إلى عباده. كما قال: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] وجهلوا أنه لا يصلح لإِرشاد الناس إلا مَن هو من نوعهم قال تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} [الإسراء: 95] ولمَّا أحالوا أن يكون البشر أهلاً لهداية بشر مثله جعلوا ذلك كافياً في إعراضهم عن قبول القرآن والتدبر فيه.
والبشر: اسم جنس للإِنسان يصدق على الواحد كما في قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف: 110] ويقال على الجمع كما هنا. وتقدم في قوله: {وقلن حاش لله ما هذا بشراً} في سورة [يوسف: 31] وفي سورة [مريم: 17] عند قوله: {فتمثل لها بشراً سوياً}
وتنكير بشر} للنوعية لأن محط الإِنكار على كونهم يَهدونهم، هو نوعُ البشرية.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوّي حكم الإِنكار، وما قالوا ذلك حتى اعتقدوه فلذلك أقدموا على الكفر برسلهم إذ قد اعتقدوا استحالة إرسال الله إياهم فجزموا بكذبهم في دعوى الرسالة فلذلك فرع عليه {فكفروا وتولوا}.
والتولي أصله: الانصراف عن المكان الذي أنت فيه، وهو هنا مستعار للإِعراض عن قبول دعوة رسلهم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} في سورة [البقرة: 64].
واستغنى} غَنِيَ فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {أما من استغنى} [عبس: 5]. والمعنى: غَنِي الله عن إيمانهم قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} [الزمر: 7].
والواو واو الحال، أي والحال أن الله غني عنهم من زمن مضى فإن غنى الله عن إيمانهم مقرر في الأزل.
ويجوز أن يراد: واستغنى الله عن إعادة دعوتهم لأن فيما أظهر لهم من البينات على أيدي رسلهم ما هو كاف لحصول التصديق بدعوة رسلهم لولا المكابرة فلذلك عجّل لهم بالعذاب.
وعلى الوجهين فمتعلق {استغنى} محذوف دل عليه قوله: {فكفروا} وقوله: {بالبينات} والتقدير: واستغنى الله عن إيمانهم.
وجملة {والله غني حميد} تذييل، أي غني عن كل شيء فيما طلب منهم، حميد لمن امتثل وشكر.
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}
هذا ضرب ثالث من ضروب كفر المشركين المخاطبين بقوله: {ألم يأتكم} [التغابن: 5] الخ، وهو كفرهم بإنكارهم البعث والجزاءَ.
والجملة ابتدائية. وهذا الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: {قل بلى}. وليس هذا من الإِظهار في مقام الإِضمار ولا من الالتفات بل هو ابتداء غرض مخاطببٍ به غيرُ من كان الخطاب جارياً معهم.
وتتضمن الجملة تصريحاً بإثبات البعث ذلك الذي أوتي إليه فيما مضى يفيد بالحق في قوله: {خلق السموات والأرض بالحق} [التغابن: 3] وبقوله: {يعلم ما في السموات والأرض} [التغابن: 4] كما علمته آنفاً.
والزعم: القول الموسوم بمخالفة الواقع خَطَأ فمنه الكذب الذي لم يتعمد قائله أن يخالف الواقع في ظن سامعه. ويطلق على الخبر المستغرب المشكوك في وقوع ما أُخبر به، وعن شُريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا (أراد بالكنية الكناية). فَبَيْن الزعم والكذب عموم وخصوص وجهي.
وفي الحديث «بئس مطية الرجل إلى الكذب زعموا»، أي قول الرجل زعموا كذا. وروى أهل الأدب أن الأعشى لما أنشد قيس بن معد يكرب الكِندي قوله في مدحه:
ونبئتُ قيساً ولم أَبلُه *** كما زَعموا خيرَ أهل اليمن
غضب قيس وقال له: «وما هو إلا الزعم».
ولأجل ما يصاحب الزعم من توهم قائله صدق ما قاله أُلحق فعلُ زعم بأفعال الظن فنصب مفعولين. وليس كثيراً في كلامهم، ومنه قول أبي ذؤيب:
فإن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم *** فإني شَرَيْتُ الحِلم بَعدَككِ بالجهل
ومن شواهد النحو قول أبي أمية أوس الحنفي:
زعمتْني شيخاً ولستُ بشيخ *** إنما الشيخ من يَدبّ دبيباً
والأكثر أن يقع بعد فعل الزعم (أَنَّ) المفتوحة المشددة أو المخففة مثل التي في هذه الآية فيسد المصدرُ المنسبك مسدّ المفعولين. والتقدير: زعم الذين كفروا انتفاء بعثهم.
وتقدم الكلام على فعل الزعم في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك} الآية في سورة [النساء: 60]، وقوله: {ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} في سورة [الأنعام: 22] وما ذكرته هنا أوفى.
والمراد ب الذين كفروا} هنا المشركون من أهل مكة ومن على دينهم.
واجتلاب حرف {لن} لتأكيد النفي فكانوا موقنين بانتفاء البعث.
ولذلك جيء إبطال زعمهم مؤكَّداً بالقَسَم لينْقض نفيهم بأشد منه، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم عن الله أن البعث واقع وخاطبهم بذلك تسجيلاً عليهم أن لا يقولوا ما بلغناه ذلك.
وجملة {قل بلى} معترضة بين جملة {زعم الذين كفروا} وجملةِ {فآمنوا بالله ورسوله} [التغابن: 8].
وحرف {بلَى} حرف جواب للإِبطال خاصصٍ بجواب الكلام المنفي لإِبطاله.
وجملة {ثم لتنبؤن بما عملتم} ارتقاء في الإِبطال.
و {ثم} للتراخي الرتبي فإن إنباءهم بما عملوا أهم من إثبات البعث إذ هو العلة للبعث.
والإِنباء: الإِخبار، وإنباؤهم بما عملوا كناية عن محاسبتهم عليه وجزائهم عما عملوه، فإن الجزاء يستلزم علم المجازَى بعمله الذي جوزي عليه فكانَ حصول الجزاء بمنزلة إخباره بما عمله كقوله تعالى: {إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا} [لقمان: 23].
وهذا وعيد وتهديد بجزاء سَيّئ لأن المقام دليل على أن عملهم سَيئ وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار ما دعاهم إليه.
وجملة {وذلك على الله يسير} تذييل، والواو اعتراضية.
واسم الإِشارة: إما عائد إلى البعث المفهوم من {لتبعثن} مثل قوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] أي العدل أقرب للتقوى، وإما عائد إلى معنى المذكور من مجموع {لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم}.
وأخبر عنه ب {يسير} دون أن يقال: وَاقِع كما قال: {وإن الدين لواقع} [الذاريات: 6]، لأن الكلام لردّ إحالتهم البعث بعلة أن أجزاء الجسد تفرقت فيتعذر جمعها فذكِّروا بأن العسير في متعارف الناس لا يعسر على الله وقد قال في الآية الأخرى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27].
{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}
من جملة القول المأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والفاء فصيحة تفصح عن شرط مقدّر، والتقدير: فإذا علمتم هذه الحجج وتذكّرتم ما حلّ بنظرائكم من العقاب وما ستَنبّؤونَ به من أعمالكم فآمنوا بالله ورسوله والقرآن، أي بنصه.
والمراد بالنور الذي أنْزَل الله، القرآن، وُصف بأنه نور على طريقة الاستعارة لأنه أشبه النور في إيضاح المطلوب باستقامة حجته وبلاغة كلامه قال تعالى: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174]. وأشبه النور في الإِرشاد إلى السلوك القويم وفي هذا الشبه الثاني تشاركه الكتب السماوية، قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44]، وقرينة الاستعارة قوله: {الذي أنزلنا}، لأنه من مناسبات المشبَّه لاشتهار القرآن بين الناس كلهم بالألقاب المشتقة من الإِنزال والتنزيل عَرَف ذلك المسلمون والمعاندون. وهو إنزال مجازي أريد به تبليغ مراد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} في سورة البقرة (4) وفي آيات كثيرة.
وإنما جعل الإِيمان بصدق القرآن داخلاً في حيّز فاء التفريع لأن ما قبل الفاء تضمن أنهم كذبوا بالقرآن من قوله: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا} [التغابن: 6] كما قال المشركون من أهل مكة، والإِيمان بالقرآن يشمل الإِيمان بالبعث فكان قوله تعالى: {والنور الذي أنزلنا} شاملاً لما سبق الفاء من قوله: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7] الخ.
وفي قوله: {الذي أنزلنا} التفات من الغيبة إلى المتكلم لزيادة الترغيب في الإِيمان بالقرآن تذكيراً بأنه منزل من الله لأن ضمير التكلم أشد دلالة على معاده من ضمير الغائب، ولتقوية داعي المأمور.
وجملة {والله بما تعملون خبير} تذييل لجملة {فآمنوا بالله ورسوله} يقتضي وعداً إنْ آمنوا، ووعيداً إن لم يؤمنوا.
وفي ذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة جارية مجرى المثل والكلممِ الجوامع، ولأن الاسم الظاهر أقوى دلالة من الضمير لاستغنائه عن تطلب المعاد. وفيه من تربيَة المهابة ما في قول الخليفة «أمير المؤمنين يأمركم بكذا».
والخبير: العَليم، وجيء هنا بصفة «الخبير» دون: البصير، لأن ما يعلمونه منه محسوسات ومنه غير محسوسات كالمعتقدات، ومنها الإِيمان بالبعث، فعُلق بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالموجودات كلها، بخلاف قوله فيما تقدم {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير} [التغابن: 2] فإن لكفر الكافرين وإيمان المؤمنين آثاراً ظاهرة محسوسة فعلقت بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالمحسوسات.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ}.
متعلقٌ بفعل {لتنبؤن بما عملتم} [التغابن: 7] الذي هو كناية عن «تُجَازوْنَ» على تكذيبكم بالبعث فيكون من تمام ما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ابتداء من قوله تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن} [التغابن: 7].
والضمير المستتر في {يجمعكم} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {والله بما تعملون خبير} [التغابن: 8].
ومعنى {يجمعكم} يجمع المخاطبين والأمم من الناس كلهم، قال تعالى: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين} [المرسلات: 38].
ويجوز أن يراد الجمع الذي في قوله تعالى: {أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]، وهذا زيادة تحقيق للبعث الذي أنكروه.
واللام في {ليوم الجمع} يجوز أن يكون للتعليل، أي يجمعكم لأجل اليوم المعروف بالجمع المخصوص. وهو الذي لأجل جمع الناس، أي يبعثكم لأجل أن يجمع الناس كلهم للحساب، فمعنى {الجمع} هذا غيرُ معنى الذي في {يجمعكم}. فليس هذا من تعليل الشيء بنفسه بل هو من قبيل التجنيس.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى (في) على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لا يجليها لوقتها إلا هو} [الأعراف: 187]، وقوله: {يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24] وقول العرب: مضى لسبيله، أي في طريقه وهو طريق الموت.
والأحسن عندي أن يكون اللام للتوقيت، وهي التي بمعنى (عند) كالتي في قولهم: كُتب لكَذا مَضِينَ مثلاً، وقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78]. وهو استعمال يدل على شدة الاقتراب ولذلك فسروه بمعنى (عند)، ويفيد هنا: أنهم مجموعون في الأجل المعين دون تأخير ردّاً على قولهم: {لن يبعثوا} [التغابن: 7]، فيتعلق قوله: {ليوم الجمع} بفعل {يجمعكم}.
ف«يوم الجمع» هو يوم الحشر. وفي الحديث " يجمع الله الأولين والآخرين " الخ. جعل هذا المركب الإِضافي لقباً ليوم الحشر، قال تعالى: {وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7].
وقرأ الجمهور {يجمعكم} بياء الغائب. وقرأه يعقوب بنون العظمة.
{الجمع ذَلِكَ يَوْمُ}.
اعتراض بين جملة {ثم لتنبؤن بما عملتم} [التغابن: 7] بمتعلقها وبين جملة {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نكفر عنه سيئاته} اعتراضاً يفيد تهويل هذا اليوم تعريضاً بوعيد المشركين بالخسارة في ذلك اليوم: أي بسوء المنقلب.
والإِتيان باسم الإِشارة في مقام الضمير لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه أكمل تمييز مع ما يفيده اسم إشارة البعيد من علوّ المرتبة على نحو ما تقدم في قوله: {ذلك الكتاب} في سورة [البقرة: 2].
والتغابن}: مصدر غابَنه من باب المفاعلة الدالة على حصول الفعل من جانبين أو أكثر.
وحقيقة صيغة المفاعلة أن تدل على حصول الفعل الواحد من فاعلين فأكثر على وجه المشاركة في ذلك الفعل.
والغبن أن يعطى البائع ثمَناً لمبيعه دون حَقِّ قيمته التي يعوَّض بها مثلُه.
فالغبن يؤول إلى خسارة البائع في بيعه، فلذلك يطلق الغبن على مطلق الخسران مجازاً مرسلاً كما في قول الأعشى:
لا يقبَلُ الرَشْوَة في حُكمه *** ولا يبالي غَبن الخَاسر
فليست مادة التغابن في قوله: {يوم التغابن} مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل.
وأما صيغة التفاعل فحملها جمهور المفسرين على حقيقتها من حصول الفعل من جانبين ففسروها بأن أهل الجنة غبنوا أهل النار إذ أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل جهنم أخذوا جهنم قاله مجاهد وقتادة والحسن. فحمل القرطبي وغيره كلام هؤلاء الأيمة على أن التغابن تمثيل لحال الفريقين بحال مُتَبايَعَيْن أخذ أحدهما الثمن الوافيَ، وأخذ الآخر الثمنَ المغبون، يعني وقوله عقبه {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نكفر عنه سيئاته}، إلى قوله: {وبئس المصير} قرينة على المراد من الجانبين وعلى كلا المعنيين يكون قوله: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً} إلى قوله: {وبئس المصير} تفصيلاً للفريقين، فيكون في الآية مجاز وتشبيه وتمثيل، فالمجاز في مادة الغبن، والتمثيل في صيغة التغابن، وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير: ذلك يوم مِثْل التغَابن.
وحمل قليل من المفسرين (وهو ما فسر إليه كلام الراغب في مفرداته) وصرح ابن عطية صيغَة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل (كما في قولنا: عافاك الله وتبارك الله) فتكون استعارة، أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإِنذار. وهذا في معنى قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} في سورة [البقرة: 16]، وقوله: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} الآية في سورة [الصف: 10].
فصيغة التفاعل مستعملة مجازاً في كثرة حصول الغبن تشبيهاً للكثرة بفعل من يحصل من متعدد.
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع، إذ المعنى: ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} [التغابن: 8]. والغابن لهم هو الله تعالى.
ولولا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحاً عظيماً للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن، فوزان هذا القصر وزان قوله: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما المُفلس الذي يفلس يوم القيامة»
وأفاد تعريف جزأي جملة {ذلك يوم التغابن} قصرَ المسند على المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإِشارة، وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصراً ادعائياً، أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرُها، فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصراً فيه جنس الغبن.
وأما لام التعريف في قوله: {التغابن} فهي لام الجنس، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة}
[الزمر: 15]. وقوله في ضده {يرجون تجارة لن تبور} [فاطر: 29]. هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مرّ بها مَرّاً. ولم يحتلب منها دَرّاً. وها أنا ذَا كددت ثمادي، فعَسَى أن يقع للناظر كوقْع القراححِ من الصادي، والله الهادي.
{وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم * والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بھاياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المَصِيرُ} معطوفة على جملة {فآمنوا بالله ورسوله} [التغابن: 8] وهو تفصيل لما أجمل في قوله: {والله بما تعملون خبير} [التغابن: 8] الذي هو تذييل.
و {مَن} شرطية والفعل بعدها مستقبل، أي من يؤمن من المشركين بعد هذه الموعظة نكفر عنه ما فرط من سيئاته.
والمراد بالسيئات: الكفر وما سبقه من الأعمال الفاسدة.
وتكفير السيئات: العفو عن المؤاخذة بها وهو مصدر كفّر مبالغة في كفَر. وغلب استعماله في العفو عما سلف من السيّئات وأصله: استعارة الستر للإِزالة مثل الغفران أيضاً.
وانتصب {صالحاً} على الصفة لمصدر وهو مفعول مطلق محذوف تقديره: عملاً صالحاً.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {نكفر} و{ندخله} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم لأن مقام الوعد مقام إقبال فناسبه ضمير التكلم.
وقرأهما الباقون بياء الغيبة على مقتضى الظاهر لأن ضمير الجلالة يؤذن بعناية الله بهذا الفريق. وجملة {ذلك الفوز العظيم} تذييل.
وقوله: {والذين كفروا وكذبوا}، أي كفروا وكذبوا من قبلُ واستمرُّوا على كفرهم وتكذيبهم فلم يستجيبوا لهذه الدعوة ثبت لهم أنهم أصحاب النار. ولذلك جيء في جانب الخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبات لعراقتهم في الكفر والتكذيب.
وجيء لهم باسم الإِشارة لتمييزهم تمييزاً لا يلتبس معه غيرهم بهم مثل قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] مع ما يفيده اسم الإِشارة من أن استحقاقهم لملازمة النار ناشئ عن الكفر والتكذيب بآيات الله وهذا وعيد.
وجملة {وبئس المصير} اعتراض تذييلي لزيادة تهويل الوعيد.
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}
استئناف انتقل إليه بعد أن تُوُعِّد المشركون بما يحصل لهم من التغابن يوم يجمع الله الناس يوم الحساب. ويشبه أن يكون استئنافاً بيانياً لأن تهديد المشركين بيوم الحساب يثير في نفوس المؤمنين التساؤل عن الانتصاف من المشركين في الدنيا على ما يلقاه المسلمون من إضرارهم بمكة فإنهم لم يكفوا عن أذى المسلمين وإصابتهم في أبدَانهم وأموالهم والفتنة بينهم وبين أزواجهم وأبنائهم.
فالمراد: المصائبُ التي أصابت المسلمين من معاملة المشركين فأنبأهم الله بما يسليهم عن ذلك بأن الله عالم بما ينالهم. وقال القرطبي «قيل سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب».
واختصت المصيبة في استعمال اللغة بما يَلحق الإِنسان من شر وضر وإن كان أصل فعلها يقال كما يصيب الإِنسان مطلقاً ولكن غلب إطلاق فعل أصاب على لحاق السوء، وقد قيل في قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79]، أن إسناد الإِصابة إلى الحسنة من قبيل المشاكلة.
وتأنيث المصيبة لتأويلها بالحادثة وتقدم عند قوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} في سورة [آل عمران: 165].
والإِذن: أصله إجازة الفعل لمن يفعله وأطلق على إباحة الدخول إلى البيت وإزالة الحجاب لأنه مشتق من أذِن له إذا سمع كلامه. وهو هنا مستعار لتكوين أسباب الحوادث. وهي الأسباب التي تفضي في نظام العادة إلى وقوععِ واقعات، وهي من آثار صنع الله في نظام هذا العالم من ربط المسببات بأسبابها مع علمه بما تفضي إليه تلك الأسباب فلما كان هو الذي أوجد الأسباب وأسبابَ أسبابها، وكان قد جعل ذلك كله أصولاً وفروعاً بعلمه وحكمته، أطلق على ذلك التقدير والتكوين لفظُ الإِذن، والمشابهة ظاهرة، وهذا في معنى قوله: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 22].
ومقتضى هذه الاستعارة تقريب حقيقة التقلبات الدنيوية إلى عقول المسلمين باختصار العبارة لضيق المقام عن الإِطناب في بيان العلل والأسباب، ولأن أكثر ذلك لا تبلغ إليه عقول عموم الأمة بسهولة. والقصد من هذا تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تُفَلّ عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم كما قال في سورة [الحديد: 23] {لكيلا تأسَوا على ما فاتكم}
ولذلك أعقبه هنا بقوله: ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، أي يهد قلبه عندما تصيبه مصيبة، فحذف هذا المتعلق لظهوره من السياق قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يَمْسَسْكُم قَرح فقد مسّ القوم قرْح مثلُه وتلك الأيام نداولها بين الناس}
[آل عمران: 139- 140].
والمعنى: أن المؤمن مرتاض بالأخلاق الإِسلامية متبع لوصايا الله تعالى فهو مجاف لفاسد الأخلاق من الجزع والهلع يتلقى ما يصيبه من مصيبة بالصبر والتفكر في أن الحياة لا تخلو من عوارض مؤلمة أو مكدرة. قال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155- 157]، أي أصحاب الهدى الكامل لأنه هدىً متلقىًّ من التعاليم الإلهية الحق المعصومة من الخطل كقوله هنا: {يهد قلبه}.
وهذا الخبر في قوله: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} إيماء إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب لأنه يلزم من هدْي الله قلب المؤمن عند المصيبة ترغيب المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب فلذلك ذيل بجملة {والله بكل شيء عليم} فهو تذييل للجملة التي قبلها وارد على مراعاة جميع ما تضمنته من أن المصائب بإذن الله، ومن أن الله يهدي قلوب المؤمنين للثبات عند حلول المصائب ومن الأمر بالثبات والصبر عند المصائب، أي يعلم جميع ذلك.
وفيه كناية عن مجازاة الصابرين بالثواب لأن فائدة علم الله التي تهم الناس هو التخلق ورجاء الثواب ورفع الدرجات.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}
عطف على جملة {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11] لأنها تضمنت أن المؤمنين متهيئون لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما يدعوانهم إليه من صالح الأعمال كما يدل عليه تذييل الكلام بقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122]، ولأن طلب الطاعة فرع عن تحقق الإِيمان كما في حديث معاذ «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فأولُ ما تدعوهم إليه فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة» الحديث.
وتفريع {فإن توليتم} تحذير من عصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
والتولي مستعار للعصيان وعدم قبول دعوة الرسول.
وحقيقة التولّي الانصراف عن المكان المستقر فيه واستعير التولي للعصيان تشنيعاً له مبالغة في التحذير منه، ومثله قوله تعالى في خطاب المؤمنين {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} [محمد: 38]، وقال: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} [الأنفال: 20].
والتعريف في قوله: {رسولنا} بالإِضافة لقصد تعظيم شأنه بأنه صلى الله عليه وسلم رسول ربّ العالمين. وهذا الضمير التفات من الغيبة إلى التكلم يفيد تشريف الرسول بعزّ الإضافة إلى المتكلم.
ومعنى الحَصْر قوله: {فإنما على رسولنا البلاغ المبين} قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على كون واجبه البلاغ، قصرَ موصوف على صفةِ فالرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على لزوم البلاغ له لا يعدُو ذلك إلى لزوم شيء آخر. وهو قصر قلب تنزيلاً لهم في حالة العصيان المفروض منزلة من يعتقد أن الله لو شاء لألجأهم إلى العمل بما أمرهم به إلهاباً لنفوسهم بالحث على الطاعة.
ووصف البلاغ ب {المبين}، أي الواضح عُذر للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ادعى ما أمر به على الوجه الأكمل قطعاً للمعذر عن عدم امتثال ما أمر به.
وباعتبار مفهوم القصر جملة {فإنما على رسولنا البلاغ المبين} كانت جواباً للشرط دون حاجة إلى تقدير جواب تكون هذه الجملة دليلاً عليه أو علة له.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}
1649;للَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
جملة معترضة بين جملة {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [التغابن: 12] وجملة: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
واسم الجلالة مبتدأ وجملة: الله لا إله إلا هو} خبر. وهذا تذكير للمؤمنين بما يعلمونه. أي من آمن بأن الله لا إله إلا هو كان حقاً عليه أن يطيعه وأن لا يعبأ بما يصيبه في جانب طاعة الله من مصائب وأذى كما قال حُبيب بن عدي:
لستُ أبالي حين أُقتل مسلماً *** على أيّ جنب كان لله مصرعي
ويجوز أن تكون جملة {الله لا إله إلا هو} في موقع العلة لجملة {وأطيعوا الله} [التغابن: 12] وتفيد أيضاً تعليل جملة {وأطيعوا الرسول} [التغابن: 12] لأن طاعة الرسول ترجع إلى طاعة الله قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
وافتتاح الجملة باسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار إذ لم يقُل هو لا إِله إلاّ هو لاستحضار عظمة الله تعالى بما يَحويه اسم الجلالة من معاني الكمال، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتكون جارية مجرى الأمثال والكلممِ الجوامع.
{هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ}.
عطف على {وأطيعوا الله} فهو في معنى: وتوكلوا على الله، فإن المؤمنين يتوكلون على الله لا على غيره وأنتم مؤمنون فتوكلوا عليه.
وتقدم المجرور لإِفادة الاختصاص، أي أن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله.
وجيء في ذلك بصيغة أمر المؤمنين بالتوكل على الله دون غيره ربطاً على قلوبهم وتثبيتاً لنفوسهم كيلا يأسفوا من إعراض المشركين وما يصيبهم منهم وأن ذلك لن يضرهم.
فإن المؤمنين لا يعتزُّون بهم ولا يتقوون بأمثالهم، لأن الله أمرهم أن لا يتوكلوا إلا عليه، وفيه إيذان بأنهم يخالفون أمر الله وذلك يغيظ الكافرين.
والإِتيان باسم الجلالة في قوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة فتسيرَ مَسرى المثَل، ولذلك كان إظهار لفظ {المؤمنون} ولم يقل: وعلى الله فليتوكلوا، ولما في {المؤمنون} من العموم الشامل للمخاطبين وغيرهم ليكون معنى التمثيل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالاً ويجنبهم ما يفتنهم.
أخرج الترمذي «عن ابن عباس أن رجلاً سأله عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبَى أزواجهم وأولادُهم أن يَدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فَهَمُّوا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية: أي حتى قوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}. وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في «أسباب النزول» ومقتضاه أن الآية مدنية».
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضاً أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بَكَوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تَدعنا، فيرقُّ لهم فيقعد عن الغزو. وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم. فهذه الآية مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة.
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غَمّ من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم.
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام، أو نحو ذلك ليوفّى الطرفان حقيهما، وكانت تنبيهاً للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعاً للتفاوت في صلابة الدين، وفي أواصر القرابة والصهر، وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامة جميع الأواصر فيصبح الأشد قرباً أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد.
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرّهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى: {فاحذروهم} ولم يأمر بأن يضروهم، وأعقبه بقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، جمعاً بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم.
و {مِن} تبعيضية. وتقديم خبر {إنَّ} على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية. وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} في سورة [البقرة: 8].
وعَدُوّ وصف من العداوة بوزن فَعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفاً، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدوّ لكم} في سورة [النساء: 92]. فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه، قال تعالى: {يكونوا لكم أعداء} [الممتحنة: 2].
والإِخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدوٌّ يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوًّا لمن حقه أن يكون له صديقاً، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء.
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ، أي كالعدوّ في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المَثَل: يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدوّ لعدوّه. وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وعُطف على قوله: {فاحذروهم} جملة {وإن تعفوا وتصفحوا} إلى آخرها عَطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوباً محبوباً إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظنّ العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأبناء معاملةَ الأعداء لأجل إيجاس العداوة، بل المقصود من التحذير التوقِّي وأخذُ الحيطة لابتداء المؤاخذة، ولذلك قيل: «الحزم سوء الظن بالناس»، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] وقال: {أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ.
والصفح: الإِعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ.
والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته.
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث. وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإِرادة عموم الترغيب في العفو.
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقاً بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها.
وجملة {فإن الله غفور رحيم} دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم، أي للذين يغفرون ويرحمون، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث.
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)}
تذييل لأن فيه تعميمَ أحوال الأولاد بعد أن ذُكر حال خاص ببعْضهم.
وأدمج فيه الأموال لأنها لم يشملها طلب الحذر ولا وصف العداوة. وقدم ذكر الأموال على الأولاد لأن الأموال لم يتقدم ذكرها بخلاف الأولاد.
ووجه إدماج الأموال هنا أن المسلمين كانوا قد أصيبوا في أموالهم من المشركين فغلبوهم على أموالهم ولم تُذكر الأموال في الآية السابقة لأن الغرض هو التحذير من أشد الأشياء اتصالاً بهم وهي أزواجهم وأولادهم. ولأن فتنة هؤلاء مضاعفة لأن الداعي إليها يكون من أنفسهم ومن مساعي الآخرين وتسويلهم. وجُرد عن ذكر الأزواج هنا اكتفاء لدلالة فتنة الأولاد عليهن بدلالة فحوى الخطاب، فإن فتنتهن أشد من فتنة الأولاد لأن جُرْأتهن على التسويل لأزواجهن ما يحاولنه منهم أشد من جرأة الأولاد.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنةً. وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمة هذه الصفة للموصوف إذ يندُر أن تخلو أفرادُ هذين النوعين، وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما.
والإِخبار ب {فتنة} للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفَتْن أم لم يسعوا. فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة.
ففي هذه الآية من خصوصيات علم المعاني التذييلُ والإِدماج، وكلاهما من الإِطناب، والاكتفاءُ وهو من الإِيجاز، وفيها الإِخبار بالمصدر وهو {فتنة}، والإِخبار به من المبالغة فهذه أربعة من المحسنات البديعية، وفيها القصر، وفيها التعليل، وهو من خصوصيات الفصل، وقد يعد من محسنات البديع أيضاً فتلك ست خصوصيات.
وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها اشتملت على التذييل والتعليل وكلاهما من مقتضيات الفصل.
والفتنة: اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم مَن عرضت له، وتقدم عند قوله تعالى {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 191].
أخرج أبو داود عن بريدة قال: إن رسول الله كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن والحسين يعثران ويقومان فنزل رسول الله عن المنبر فأخذهما وجذبهما ثم قرأ إنما أموالكم وأولادكم فتنة}. وقال: رأيت هذين فلم أصبر، ثُم أخذ في خطبته».
وذكر ابن عطية: أن عمر قال لحذيفة: كيف أصبحتَ فقال: أصبحتُ أحب الفتنة وأكره الحق. فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أحب ولدي وأكره الموت.
وقوله: {والله عنده أجر عظيم} عطف على جملة {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأن قوله: {عنده أجر عظيم} كناية عن الجزاء عن تلك الفتنة لمن يصابر نفسه على مراجعة ما تسوله من الانحراف عن مرضاة الله إن كان في ذلك تسويل. والأجر العظيم على إعطاء حق المال والرأفة بالأولاد، أي والله يؤجركم عليها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتُلي من هذه البنات بشيء وكنّ له ستراً من النار " وفي حديث آخر " إن الصبر على سوء خلق الزوجة عبادة ".
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى منها ما رواه حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال. فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك.
والخطاب للمؤمنين.
وحذف متعلق (اتقوا) لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله. /
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {ما استطعتم}.
و {مَا} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ. ففيه ما عليهم وفيه ما لهم.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقَّنني: «فيما استطعت»، وعن ابن عمر: كنّا إذا بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا «فيما استطعتُ».
وعطفُ {واسمعوا وأطيعوا} على (اتقوا الله) من عطف الخاص على العام للاهتمام به، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقَى. فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه، ولما كان ترك المأمورات فيؤول إلى إتيان المنهيات، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده. كان التصريح به بخصوصه اهتماماً بكلا الأمرين لتحصل حقيقة التقوى الشرعية وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات.
والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوه بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
والأمر بالسمع أمر يتلقَّى الشريعة والإِقبال على سماع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وسيلة التقوى قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 17، 18].
وعطف عليه {وأطيعوا}: أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي.
وعَطْف {وأنفقوا} تخصيصٌ بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات.
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإِنفاق والمندوبَ ففيه التحريض على الإِنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة عن فتنة المال التي ذكرت في قوله:
{إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15].
وانتصب {خيراً} على الصفة لمصدرٍ محذوف دل عليه {أنفقوا}. والتقدير: إنفاقاً خيراً لأنفسكم. هذا قول الكسائي والفرّاء فيكون {خيراً} اسم تفضيل. وأصله: أَخْير، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال، أي الإِنفاق خير لكم من الإِمساك. وعن سيبويه أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه {أنفقوا}. والتقدير: ائتوا خيراً لأنفسكم. وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل.
و {مَن} اسم شرط وهي من صيغ العموم: أي كل من يوق شحّ نفسه والعموم يدل على أن {من} مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإِقلاللِ من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح.
والمعنى: أن الإِنفاق يقي صاحبه من الشحّ المنهي عنه فإذا يُسر على المرء الإِنفاق فيما أمر الله به فقد وُقي شُحّ نفسه وذلك من الفلاح.
ولما كان ذلك فلاحاً عظيماً جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقُوا شحّ أنفسهم، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقُوا شحّ أنفسهم نزّل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم.
وإضافة {شح} إلى النفس للإِشارة إلى أن الشح من طباع النفس فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشحّ} [النساء: 128].
وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال: «أن تَصدَّق وأنت صحيح شَحِيح تخشى الفقر وَتَأَمُل الغنى. وأنْ لا تَدعَ حتى إذا بلغت الحلقومَ قلتَ لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» وتقدم نظيره {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} في سورة [الحشر: 9].
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {وأنفقوا خيراً لأنفسكم} [التغابن: 16]، فإن مضاعفة الجزاء على الإِنفاق مع المغفرة خير عظيم، وبهذا الموقع يعلم السامع أن القرض أطلق على الإِنفاق المأمور به إطلاقاً بالاستعارة، والمقصود الاعتناء بفضل الإِنفاق المأمور به اهتماماً مكرراً فبعد أن جُعل خيراً جُعل سببَ الفلاح وعُرف بأنه قرض من العبد لربّه وكفى بهذا ترغيباً وتلطفاً في الطلببِ إذ جُعل المنفق كأنه يعطي الله تعالى مالاً وذلك من معنى الإِحسان في معاملة العبد ربّه وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل إذ قال جبريل للنبيء عليهما الصلاة والسّلام: أخبرني عن الإِحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم «الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فمما ينضوي تحت معنى عبادة الله عبادةَ من يراه أن يستشعر العبدُ أن امتثال أمر ربه بالإِنفاق المأمور به منه كأنه معاملة بين مُقرض ومستقرض.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} في سورة [البقرة: 245].
وقرأ الجمهور يضاعفه} بألف بعد الضاد وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يضعِّفه} بتشديد العين مضارع ضَعَّف، وهما بمعنى واحد وهو لفظي الضعف.
والمضاعفة: إعطاء الضِعف بكسر الضاد وهو مِثل الشيء في الذات أو الصفة. وتصدُق بمثل وبعدة أمثال كما قال تعالى: {أضعافاً كثيرة} [البقرة: 245].
وجعل الإِنفاق سبب للغفران كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار ".
والشكور: فَعول بمعنى فاعل مبالغة، أي كثير الشكر وأطلق الشكر فيه على الجزاء بالخير على فعل الصالحات تشبيهاً لفعل المتفضل بالجزاء بشكر المنعَم عليه على نعمة ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات. فإنما نفعها لأنفسهم ولكن الله تفضّل بذلك حثاً على صلاحهم فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم، وتلطف لهم فسمى ذلك الثواب شكراً وجعل نفسه شاكراً.
وقد أوما إلى هذا المقصد إتباع صفة {شكور} بصفة {حليم} تنبيهاً على أن ذلك من حِلمه بعباده دون حق لهم عليه سبحانه.
وأمّا وصف ب {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} فتتميم للتذكير بعظمة الله تعالى مع مناسبتها للترغيب والترهيب اللذين اشتملت عليهما الآيات السابقة كلها لأن العالم بالأفعال ظاهرها وخفيّها لا يفيت شيئاً من الجزاء عليها بما رتب لها، ولأن العزيز لا يعجزه شيء.
و {الحكيم}: الموصوف بالحكمة لا يدع معاملة الناس بما تقتضيه الحكمة من وضع الأشياء مواضعها ونوط الأمور بما يناسب حقائقها.
والحكيم فعيل بمعنى: المحكم، أي المتقن في صنعه ومعاملته وهما معاً من صفاته تعالى فهو وصف جامع للمعنيين.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}
توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل {يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال: 65] لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها. فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملاً على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا {إذا طلقتم النساء} وإن كان التشريع خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67].
قال أبو بكر بن العربي: «وهذا قولهم أن الخطاب له لفظاً. والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله: {يا أيها النبي}، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال: {يا أيها الرسول} [المائدة: 67] اه. ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعِدّة سنذكره عند قوله تعالى: {واتقوا الله ربكم}.
فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله: {إذا طلقتم النساء} وما بعده من الضمائر مثلِه مراد بها هو وأمته. وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوَتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون.
وظاهر كلمة {إذا} أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا: إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن، أي في أطْهارهن كما سيأتي.
وتكرير فعل {فطلقوهن} لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلِطهرهن وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} في سورة [الشعراء: 130]، وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} في سورة [الفرقان: 72].
واللام في لعدتهن} لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كُتب ليوممِ كذا من شهر كذا. ومنه قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام. ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان عُلم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر.
ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتاً لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالأطهار.
وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمة هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العِدة وإنما تُبتدأ العدة بأول طُهر من أطْهار ثلاثة لدفع المضرة عن المطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يَبنَّ منهم.
وفعل {طلقتم} مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية والقرينة ظاهرة.
والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدِّر حصول فعل محرَّم من دون أن يبيّن منعه.
والطلاق مباح لأنه قد يَكون حاجيّاً لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشاراً حديثاً في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديداً ويعسر تذليله، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجيّ ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإِذن فيه ذريعة للنكاية من أحَد الزوجين بالآخر. أو من ذوي قرابتهما، أو لقصد تبديل المذاق. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
وتعليق {طلقتم} بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين التي قال الله فيها: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21].
واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في «شرح سنن أبي داود»: ولم يثْبُتْ تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبراننِ، أولهما ما رواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عُمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصَة ثم راجعها. وفي هذا السند ضعف لأن سُوَيد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي. وقَبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم. وكذلك مسروق بن المرزبان يضعف أيضاً. وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحاً لكنه غريب وهو لا يُقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا. وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراد سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضيةُ الإيلاء بسبب حفصة.
والمعروف في «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه. قال عمر: «فقلت يا رسول الله أطلقتَ نساءك؟، قال: «لا آليت منهن شهراً». فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفَيْئة بلفظ راجع على أن ابن ماجه يضعف عند أهل النقد.
وثانيهما: حديث الجونية أسماءَ أو أميمة بنت شُراحيل الكندية في «الصحيح»: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له: «أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك» وأمَرَ أبا أُسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خُلق شائع في النساء.
والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا} في سورة [الأحزاب: 28]. فلا يعارض ذلك قوله: أبغض الحلال إلى الله الطلاق. إذ يكون قوله ذلك مخصوصاً بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي ابتداء تجنباً من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وَبَالاً عليها، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها.
وعُلم من قوله تعالى: لعدتهن} أنهن النساء المدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعاً بنص آية الأحزاب.
وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالأطهار لا بالحِيَض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمراً بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض. واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافاً يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم.
وحكمة العدة تقدم بيانها.
{لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ}.
الإِحصاء: معرفة العدِّ وضبطه. وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاةً ثم عدوا ذلك الحصى، قال تعالى: {وأحصى كل شيء عدداً} [الجن: 28].
والمعنى: الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين؛ إما التزويج قبل انتهائها فربّما اختلط النسب، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها.
وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته.
والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفاً والكلام على تقدير مضاف لأن المحصَى أيام العدة.
والمخاطب بضمير {أحصوا} هم المخاطبون بضمير {إذا طلقتم} فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حَظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة. وقد بيّنا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي «مقاصد الشريعة».
ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلِّق والمطلَّقة وهي تستتبع حقوقاً للمسلمين وولاةِ أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم.
{العدة واتقوا الله}.
اعتراض بين جملة {وأحصوا العدة} وجملة {لا تخرجوهن من بيوتهن} والواو اعتراضية.
وحذف متعلّق {اتقوا الله} ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله.
فقوله: {واتقوا الله ربكم} تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة. ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزناً وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدّي، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف {ربّكم} للتذكير بأنه حقيق بأن يتقى غضبه.
{رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة}.
استئناف أو حال من ضمير {أحصوا العدة}، أي حالة كون العدة في بيوتهن، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة {أحصوا العدة} لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة.
ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو جوازاً أو وجوباً.
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه مِلْك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاّتي كنّ فيها أزواجاً استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب «ربّة البيت» وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق.
وهذا الحكم سببُه مركب من قصد المكارمة بين المطلّق والمطلقة. وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلاً لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلّق حتى يبرأ النسب من كل شك.
وجملة {ولا يخرجن} عطف على جملة {لا تخرجوهن} وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يُخرجها فترْغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج. فَإذا كان البيت مكترى سكنتْه المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة.
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعِرضه فهذا مقتضى الآية.
ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً وقال ابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور: حفظ النسب، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها. وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} [الطلاق: 6] الآية. وتَعلم أن ذلك تأكيداً لما في هذه الآية من وجوب الإِسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله: {من وجدكم} [الطلاق: 6] وما عطف عليه.
والاستثناء في قوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول. ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقاً لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة. وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله: {لا تخرجوهن} {ولا يخرجن}. فالمعنى: إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجْن، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه.
والفاحشة: الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} الآية في سورة [النساء:] 15.
وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف: 28]. وقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} في سورة [الأعراف: 33]. قال ابن عطية: قال بعض الناس: الفاحشة متى وردت في القرآن معرَّفة فهي الزنا (يريد أو ما يشبهه) كما في قوله: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} [الأعراف: 80] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي.
وقرأ الجمهور {مبينة} بكسر الياء التحتية، أي هي تُبيِّن لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورَها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازاً عقلياً وإنما المبيِّن ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {مبيَّنة} بفتح التحتية، أي كانت فاحشة بَينتْها الحجة أو بينَها الخارج ومحمل القراءتين واحد.
ووصفها ب {مبينة} إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفاً. وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج.
وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْدود أبي يوسف: أن الفاحشة الزنا، قالوا: ومعاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن، أي ليقام عليهن الحد.
وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ «إلا أن يفحشن عليكم» (بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش) وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الشافعي.
وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضاً وابن عُمر وقاله السدي وأبو حنيفة.
وعن قتادة الفاحشة: النشوز، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها.
وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة {ولا يخرجن} أي هن منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي (بفتح الخاء) فيكون هذا الاستثناء منعاً لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي.
ومحمل فعل {يأتين} على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6].
وقد ورد في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عَمرو (وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع عليّ إلى اليمن) فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها: ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وفي رواية أنها قالت: أخاف أن يُقْتَحَم عليَّ (بالبناء للمجهول)، وفي رواية أنها كانت في مكان وحْش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال.
واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة: هو رُخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك، روَى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عَمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمُّها مروان بن الحكم أميرَ المدينة يومئذٍ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشةَ أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتَّققِ الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان: أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت عائشة: لا يضركَ أن لا تذكر حديثَ فاطمة، فقال مروان: إن كان بككِ الشَّرَّ فحسبككِ ما بين هذين من الشَّر، (ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه).
وفي «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا ندع كتاب الله وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت. وقالت عائشة: ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشدَّ العيب. وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مُخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال. ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال. قال مالك: وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في «المنتقى».
وقال ابن العربي: إن الخروج للحدث والبَذاء والحاجة إلى المعايش وخوففِ العودة من المسكن جائز بالسنة.
ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبَذاء قال سعيد بن المسيب: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لَسِنَة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافاً لفظياً لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قَبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس.
أما قول عمر بن الخطاب: لا نَدع كتابَ الله وسنةَ نبينا لقول امرأة أحفظتْ أم نسيت. فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشكَ له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص. وقال ابن العربي: قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد.
وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام. وأما خروجها نهاراً لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقاً.
وقال الشافعي: المطلقة الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهاراً والمبتوتة تخرج نهاراً. وقال أبو حنيفة: تخرج المعتدة عدة الوفاة نهاراً ولا تخرج غيرها، لا ليلاً ولا نهاراً.
وفي «صحيح مسلم» أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا عليها الناس. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: «فبَيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}. هذا لمن كان له رجعة فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً فعَلام تحبسُونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستبقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجْل الإنفاق.
والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الإعراض فإن المطلقة يكثر إلتفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المَظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت من ذلك المسكن وجرَى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظِنة قد عارضتها مَئِنَّة. ومن الحكم أيضاً في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكناً لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقاً على مفارقها استصحاباً للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها. ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعلهُ أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها. فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها.
{مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ}.
الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة {ولا يخرجن}، وجملة {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامةً لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها، وخاصة المطلَّقة والمطلِّق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفراداً أو اشتراكاً.
والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا.
والحدودُ: جمع حد وهو ما يَحُد، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقاً مِثل حدود الحِمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحَرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة.
والمعنى: أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا.
ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم: «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام.
ووقوع {حدود الله} خبراً عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مراداً منها تشريف المضاف وتعظيمه.
والمعنى: وتلك مما حدّ الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموماً لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله.
{الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ}.
عطف على جملة، {وتلك حدود الله}. فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعاً معرفاً بالإضافة كان مفيداً للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق.
والمعنى: من يتعد شيئاً من حدود الله فقد ظلم نفسه، وبهذا تعلم أن ليس في قوله: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي.
وأُخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيراً من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب سيئة تنجر من مخالفة أحكام الدين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها.
قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطَهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6].
ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدّين قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين أو تقولَ لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} [الزمر: 56 58] فإن للمؤمنين حظاً من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمَن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم.
{نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ}.
هذه الجملة تعليل لجملة {فطلقوهن لعدتهن} وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها. ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها.
ويجوز كونها بَدلاً من جملة {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها. وقد سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها.
فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فَيعُّدّ ما أضجرهما من بعض خُلقهما شيئاً تافهاً بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما.
والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يُحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع.
أي أمراً موصوفاً بصفة محذوفة، أي أمراً نافعاً لهما.
وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة، ومن غضب إلى رضى، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلزُّ ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة. على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفاً.
والخطاب في قوله: {لا تدري} لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قَصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فِكرُه بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} [النساء: 19].
ولعل كلمة {لا تدري} تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين.
و {لعل} ومعمولاها سادّة معلقة فعل {تدري} عن العمل.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة {وأحصوا العدة} [الطلاق: 1] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها.
وبلوغ الأجل أصله انتهاء المُدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الإِنتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به.
وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل.
ومنه قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} في سورة [البقرة: 231].
والإمساك: اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى: {أمسك عليك زوجك} [الأحزاب: 37] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه.
ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله: {أو فارقوهن بمعروف}.
والأمر في {فأمسكوهن} {أو فارقوهن} للإِباحة، و{أو} فيه للتخيير.
والباء في {بمعروف} للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف.
والمعروف: هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق.
فالمعروف في الإِمساك: حسن اللقاء والاعتذارُ لها عما فرط والعودُ إلى حسن المعاشرة.
والمعروف في الفراق: كف اللسان عن غِيبتها وإظهارِ الاستراحة منها.
والمعروف في الحالين من عمل الرَّجل لأنه هو المخاطب بالإِمساك أو الفراق.
وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق.
ولمَّا قيد أمر الإباحة من قوله: {فأمسكوهن} {أو فارقوهن}، بقيد بالمعروف، فُهم منه أنّه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياماً ثم طلقها يفعل ذلك ثلاثاً ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضراراً بها.
وقد تقدم هذا عند قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، إلى قوله: ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} في سورة [البقرة: 231].
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإِمساك أو الفراق، أنه راجع إلى كليهما لأن الإِشهاد جُعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإِمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيداً وشأن الشروط الواردةِ بعد جمل أن تعود إلى جميعها.
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإِشهاد على المراجعة وعلى بتّ الطلاق واجباً على الأزواج لأن الإِشهاد يرفع أشكالاً من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بُكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطَاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور: الإِشهاد المأمور به الإِشهاد على المراجعة دون بتّ الطلاق.
أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل} فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهورُ عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدمُ جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم، وقياسه على الإِشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإِشهاد دونها مَنع، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب، وما في البيوعات مما يغني عن الإِشهاد وهو التقايض في الأعواض. وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابنِ بكير.
واتفق الجميع على أن هذا الإِشهاد ليس شرطاً في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطاً لحقهما وتجنباً لنوازل الخصومات خوفاً من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور، على أن جعل الشيء شرطاً لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وبالثوب المغصوب. قال الموجبون للإِشهاد: لو راجع ولم يشهد أو بتّ الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك.
قال يحيى بن بكير: معنى الإشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إنْ راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت.
ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلاً على المراجعة عند من جعله كذلك.
{مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة}.
عطف على {وأشهدوا ذوي عدل منكم}.
والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين. وليس هو من قبيل {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبكِ} [يوسف: 29] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة.
فتعريف الشهادة للاستغراق، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمور به الشهادة الشرعية.
ومعنى إقامة الشهادة: إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعاً مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى: {وأقوم للشهادة} في سورة [البقرة: 282].
وقوله: {لله}، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته. وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} في سورة [البقرة: 282].
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}.
الإِشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله: {وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم} [الطلاق: 1]، إلى قوله: {وأقيموا الشهادة لله}.
والوعظ: التحذير مما يضر والتذكير المليّن للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله} في سورة [البقرة: 232] وعند قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله} في سورة [النور: 17].
الاخر وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ} {مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَئ قَدْراً}.
اعتراض بين جملة {وأقيموا الشهادة} وجملة {واللائي يئسن من المحيض} [الطلاق: 4] الآية، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله: {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} أعقب ذلك بقضيّة عامة، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب.
ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعللِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه.
ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المَخْرَج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضاً بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإِسراع بهم إلى النعيم.
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق.
وقوله: {من حيث لا يحتسب} احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسباباً غير مرتقبة.
فمعنى {من حيث لا يحتسب}: من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه.
و {حيثُ} مستعملة مجازاً في الأحوال والوجوه تشبيهاً للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يَرِد منه الوارد ولذلك كانت {مِن} هنا للابتداء المجازي تبعاً لاستعارة {حيث}. ففي حرف {مِن} استعارة تبعية. وذكر الواحدي في «أسباب النزول» أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذْ أسَرَ المشركون ابنه سالماً فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتق الله واصبر» وأمره وزوجَه أن يكثرا قولاً: لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فَسَاقَ عنزاً كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن.
{يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ}.
تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب.
وَحَسْب: وصف بمعنى كاففٍ. وأصله اسم مصدر أو مصدر.
وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه.
ولعل قوله: {قد جعل الله لكل شيء قدراً} إشارة إلى هذا المعنى، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشُكّوا في إنجاز وَعده فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة.
ومعنى {بالغ أمره}: واصلٌ إلى مراده. والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد. والأمر هنا بمعنى الشأن.
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أي بعضهم): فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت {إن الله بالغ أمره}، أي فيكم وعليكم اه.
وقرأ الجمهور {بالغٌ} بالتنوين و{أمرَه} بالنصب. وقرأه حفص عن عاصم {بالغُ أمرهِ} بإضافة {بالغ} إلى {أمره}.
{أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَئ}.
لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، إلى قوله: {إن الله بالغ أمره} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس.
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً.
ولها موقع التعليل لجملة {وأحصوا العدة} [الطلاق: 1] فإن العِدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها عَلّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله، فلا يسوغ التهاون فيه.
ولهذا موقع التذييل لجملة {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1]، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدراً لا يعدوه كما جعل الحدود.
ولها موقع التعليل لجملة {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] فالمعنى: فإن لم يُحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة.
ولها موقع التعليل لجملة {وأقيموا الشهادة لله} فإن الله جعل الشهادة قدراً لرفع النزاع.
فهذه الجملة جُزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة.
ومعنى {لكل شيء} لكل موجود، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتاً أو معنى من المعاني قال تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52]. فعموم قوله: {لكل شيء} صريح في أن ما وعد الله به يَجعل له حين تكوينه قَدْراً.
قال الراغب في «مفرداته»: وذلك أن فعل الله ضربان: ضرب أوجده بالفعل، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملاً دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءَه بالصلاحية وقدَّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون.
وتقديره نطفة الإِنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر. فتقدير الله على وجهين: أحدهما بالحُكم منه أن يَكون كذا أو لا يكون، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإِمكان. وعلى ذلك قوله: {قد جعل الله لكل شيء قدراً}. والثاني بإعطاء القدرة عليه، وعلى ذلك قوله: {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23] أو يكون من قبيل قوله: {قد جعل الله لكل شيء قدراً} اه.
والقَدْر: مصدر قَدَره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وَضع فيه بمقدار كمية ذاتيةً أو معنوية تُجعل على حسب ما يتحمله المفعول. فقَدر كلّ مفعولٍ لفعل قَدَرَ ما تتحمله طاقته واستطاعتُه من أعمال، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وَعْيه لما يَكُدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام. ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} في سورة [البقرة: 286]. وقوله هنا: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7].
ومن جزئيات معنى القَدْر ما يسمى التقدير: مصدر قَدَّر المضاعف إذا جَعَل شيئاً أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جُعل لأجله كقوله تعالى: {وقدر في السرد} في سورة [سبأ: 11]
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ}.
عطف على قوله: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة. وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض، أي في ذلك الوقت.
والوقف على قوله: {واللائي لم يحضن}، أي هن معطوفات على الآيسين.
واليأس: عدم الأمل. والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع. وهذا السنّ يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك. وقد اختُلف في تحديد هذا السنّ بعدد السنين فقيل: ستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبّان اليأس.
والمقصود من الآية بيِّن وهي مخصصة لعموم قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} من سورة [البقرة: 228]. وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.
وقد خفي مفاد الشرط من قوله: إن ارتبتم} وما هو متصل به. وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلاً بالكلام الذي وقع هو في أثنائه، وإنه ليس متصلاً بقوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1] في أول هذه السورة خلافاً لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام، ثم خفيَ المراد من هذا الشرط بقوله: {إن ارتبتم}.
وللعلماء فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: مشَى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف المتعلق، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القُروء وذوات الحمل، أي في سورة البقرة، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية، ومثله مروي عن مجاهد، وروى الطبري خبراً عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة، فنزلت هذه الآية. فجعلوا حرف {إنْ} بمعنى (إذْ) وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيّنّاه بهذه الآية قال ابن العربي: حديث أُبّي غير صحيح. وأنا أقول: رواه البيهقي في «سننه» والحاكم في «المستدرك» وصَحّحه. والطبراني بسنده عن عَمرو بن سالم أن أبَيَّا قال: وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث.
وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عُمر بن سالم الأنصاري عن أُبي بن كعب وهو منقطع، لأن أبا عثمان لم يلق أُبي بن كعب وأحسب أنه في «مستدرك الحاكم» كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي: هو غير صحيح.
فإن رجال سنده ثقات.
وفي «أسباب النزول» للواحدي عن قتادة أن خلاد بن النعمان وأبيَّا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة.
فالريبة على هذه الطريقة تكون مراداً بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة {فعدتهن ثلاثة أشهر}.
والفاء في {فعدتهن} داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] ومثله كثير في الكلام.
والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون {إنْ} مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة.
والطريقة الثانية: مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد، وهو حالة المطلقة من المحيض، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير وإسماعيل بن هاد مِن المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري.
وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة.
وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خَبر عن {اللاء يئسن}، أي إن ارتبن هُن وارتبتُم أنتم لأجل ارتيابهن، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليباً ويبقى الشرط على شرطيته. والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب.
وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطاً بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطَدم أصحابُه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلاً فنسب ابنُ لبابة (من فقهاء المالكية) إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يُوقَن أنها يائسة.
قلت ولا تُعرف نسبة هذا إلى داود. فإن ابن حزم لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء، قال ابن لبابة: وهو شذوذ، وقال ابن لبابة: وأمّا ابن بكير وإسماعيلُ بن حمَّاد، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقّن يأسها ملحقةً بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم، وانتظار المراجعة، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه.
وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها: فقال عكرمة وابن زيد وقتادة: ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدّة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقاً بظاهر الآية (ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبيّن فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة)، لأن الحمل بعد سنّ اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتَقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية.
وقال الأكثرون من أهل العلم: إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر (أي أمدَ الحمللِ المعتادِ) فإن لم يظهر بها حمل ابتْدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنةٌ كاملة. وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالفه أحد من الصحابة، وأخذ به مالك. وعن مالك في «المدونة»: تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة. ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبُّد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد، وهو تقييد للإِطلاق الذي في الآية.
وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي: تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء (أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر). فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدّت بثلاثة أشهر من يومئذٍ. ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة أشهر، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبدٌ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتدّ. إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خِلالها المطلِّق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيُزاد في المدة لأجل ذلك، وفي «تفسير القرطبي»: «قال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً، وفي الأشهر مرة (أي بدون انضباط)» اه. ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية. والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها المحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غِبًّا بدون انتظام ثم ينقطع تماماً.
وقوله تعالى: {واللائي لم يحضن} عطف على {واللائي يئسن} والتقدير: عدتهن ثلاثة أشهر. ويحسن الوقف على قوله: {فعدتهن ثلاثة أشهر}.
{يَحِضْنَ وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ}.
معطوفة على جملة {واللائي لم يحضن} فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى: {وأحصوا العدة} [الطلاق: 1] وتقدير الكلام: وأولات الأحمال منهن، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن.
فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضاً منها بيان لإِجمال الآية التي في سورة البقرة.
{وأولات} اسم جَمع لذاتتٍ بمعنى: صاحبة. وذات: مؤنث ذو، بمعنى: صاحب. ولا مفرد ل {أولات} من لفظه كما لا مفرد للفظ (أولو) و{أولات} مثل ذوات كما أن أولو مثل ذَوُو. ويكتب {أولات} بواو بعد الهمزة في الرسم تبعاً لكتابة لفظ (أولو) بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة النصب والجر وبين حرف (إلى).
وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو المجرور وتركوا التكلف في غيرهما. [
وجعلت عدة المطلقة الحامل منهَّاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولدٍ للمطلِّق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له. وضمّ إلى ذلك غرض آخر هو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة، فلما حصل الأهم أُلغي ما عداه رعْياً لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار، على أن وضع الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلاً بالغالب دون النادر، خلافاً لمن قال في المتوفى عنها: عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس.
وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة [البقرة: 234] {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} لأن تلك في وادٍ وهذه في وادٍ، تلك في شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات.
ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرةً حكمتُه في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولدٍ له إذ له فائدة فيه غيرَ ذلك (ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي)، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بينّاه في تفسير قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن} الخ في سورة [البقرة: 234].
وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحاملَ إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشراً كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك.
من أجْل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة من وفاة.
ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: إن عدة الحامل المتوفّى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العامّ المتأخر منهما ينسخ العامّ الآخر وهي طريقة المتقدمين.
روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن عليّ بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفّي عنها: إن عليها أقصَى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود: لَنَزَلَتْ سورة النساء القُصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق.
ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعدُ بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملاً فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة. فاستأذنت رسولَ الله في التزوج فقال لها: قد حَلَلْتتِ فانكحي إن شئتِ. روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم. وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفاً.
واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمُرجح والحنفية جعلوا المتأخِر من العمومين ناسخاً للمتقدم. فقوله: وأولات الأحمال} لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة طلاق أو في عدة وفاة، وقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] تَعمّ كلّ امرأة تركها الميت سواء كانت حاملاً أو غير حامل، لأن {أزواجاً} نكرة وقعت مفعولَ الصلة وهي {يَذرون} المشتملة على ضمير المَوصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم {أولات الأحمال} فتعارض العمومان كل من وجه، فآية {وأولات الأحمال} اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفّى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشراً. وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل.
فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وأولات الأحمال} على عموم {ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] من وجوه.
أحدها: أن عموم {وأولات الأحمال} حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم، وأما قوله: {ويذرون أزواجاً} فإن {أزواجاً} نكرة في سياق الإِثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعاً لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض.
وثانيها: أن الحكم في عموم {وأولات الأحمال} علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة، فما كان عمومه معلَّلاً بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل.
وثالثها: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدّة سُبَيْعة الأسلمية.
وذهب الحنفية إلى أن عموم {وأولات الأحمال} ناسخ لعموم قوله: {ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] في مقدار ما تعارضا فيه.
ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضعُ حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها.
والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفّى عنها إن لم تكن حاملاً ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر.
وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معاً فأوجبوا على الحامل المتوفّى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر.
وأجل وضع الحمل، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتَّى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخَر وزيادة فيصير معنى هذه الآية {أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ما لم تكن عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفَّيْن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ما لم تكنَّ حوامل فيزدْن تربّصاً إلى وضع الحمل. ولا يجوز تخصيص عموم {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] بما في آية {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفَّى عنهن، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفّى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عِدة زوجها، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى.
وفي «صحيح البخاري» «عن محمد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عُظْم من الأنصار (أي بالكوفة) وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذَكَر آخرَ الأجلين، فحدثتُ حديث عبد الله بن عتبة في شأن سُبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان لكن عمه (أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود) كان لا يقول ذلك (أي لم يحدثنا به) فقلت: إني إذن لجَرِيء إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة (وكان عبد الله بن عتبة ساكناً بظاهر الكوفة) فخرجتُ فلقيت عامراً أو مالك بن عوف فقلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفّى عنها زوجها وهي حامل، فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى (أي البقرة).
وفي «البخاري» عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس: آخرُ الأجلين: فقلتُ أنا {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي (أي مع أبي سلمة) فأرسل ابن عباس كريباً إلى أمّ سلمة يسألها فقالت: قُتل (كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع) زَوج سُبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخُطِبت فأنكحها رسول الله. وقد قال بعضهم: إن ابن عباس رجع عن قوله. ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة.
{حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ} {يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}.
تكرير للموعظة وهو اعتراض. والقول فيه كالقول في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2، 3]. والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالاً لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسراً فيما لحقه من عسر.
والأمر: الشأن والحال. والمقصود: يجعل له من أمره العسير في نظره يسراً بقرينة جعل اليسر لأمره.
و {مِن} للابتداء المجازي المراد به المقارنةُ والملابسة.
واليسر: انتفاء الصعوبة، أي انتفاء المشاقّ والمكروهات.
والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإِنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزلِه لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر به المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك.
والإِشارة بقوله: {ذلك أمر الله} إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة. وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين.
والأمر في قوله: {أمر الله}: حكمه وما شرعه لكم كما قال: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52].
وإنزاله: إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الإِنزال تشبيهاً لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعاً. وهو استعارة كثيرة في القرآن. ففي قوله: {أنزله} استعارة مكنية.
والكلام كناية عن الحث على التهمّم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم.
وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسير الصعوبات في الدنيا. وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير للأجور.
والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض.
وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)}
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ}
هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله: {وكأين من قرية عتت} [الطلاق: 8] الخ تشريع مستأنف فيه بيان لما أُجمل في الآيات السابقة من قوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1] وقوله: {أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق: 2]، وقوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] فتتنزّل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل. وابتدئ ببيان ما في {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1] من إجمال.
والضمير المنصوب في {أسكنوهن} عائد إلى النساء المطلقات في قوله: {إذا طلقتم} [الطلاق: 1]. وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلاّ لفظ {أولات الأحمال} [الطلاق: 4]، ولكن لم يقل أحد بأن الإِسكان خاص بالمعتدّات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى: {لا تخرجوهن} [الطلاق: 1] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلّهن، وبذلك يشْمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل، لما علمتَه في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ {إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1].
وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعاً. قال أشهب: قال مالك: يَخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل. وروى ابن نافع قال مالك: فأما التي لم تَبِنْ فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اه. يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية. ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية. وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل: لا سكنى للمطلقة طلاقاً بائناً. ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قَيس: أن زوجها طلقها ثلاثاً وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: " إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة " وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس. ولم يقبله عُمر بن الخطاب فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شُبّه عليها. وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرتْه من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم.
وروي أن عمر «روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة البائنة سكنى». ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] إذ الأمر هو المراجعة، فقصَرا الطلاق في قوله: {إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة.
روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصْمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قولُ مروان فاطمة بنت قيس فقالت: «بيني وبينكم القرآن، قال الله عزّ وجل:
{لا تخرجوهن من بيوتهن، إلى قوله: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] قالت: هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث» اه.
ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصراً على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معاً في إعادة المعاشرة بعقد جديد. وعلى تسليم اقتصار ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام. فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن، وهو قول جمهور العلماء.
وقوله: {من حيث سكنتم}، أي في البيوت التي تسكنونها، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته. وهذا تأكيد لقوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].
فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خَرج المطلق منه وبقيت المطلقة، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك.
و {مِن} الواقعة في قوله: {من حيث سكنتم} للتبعيض، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق.
و {مِن} في قوله: {من وجدكم} بدل مطابق، وهو بيان لقوله: {من حيث سكنتم} فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالباً لمن لم يكن مقتراً على نفسه.
والوُجد: مثلث الواو هو الوسع والطاقة. وقرأه الجمهور بضم الواو. وقرأه رَوْح عن يعقوب بكسرها.
{وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ}.
أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإِضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محلّ أو تقتير في الإِنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصداً للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} في سورة [البقرة: 231]. أو للإِلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع.
والضارة: الإِضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن.
والمراد بالتضييق: التضييق المجازي وهو الحرج والأذى.
واللام في {لتضيقوا عليهن} لتعليل الإِضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية، كما تقرر في قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة: 231] وإلا فإن الإِضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن.
{عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ}.
ضمير {كن} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {أسكنوهن} كما هو شأن ترتيب الضمائر، وكما هو مقتضى عطف الجمل، وليس عائداً على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معاداً لضمير آخر.
وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإِنفاق دون بعض المطلقات أخذاً بمفهوم الشرط، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى.
ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات. ولذلك قال مالك: إن ضمير {أسكنوهن} للمطلقات البوائن كما تقدم.
ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا: الآية تعرضت للحوامل تأكيداً للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإِنفاق، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله: {حتى يضعن حملهن} وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإِنفاق. وبه أخذ أبو حنيفة والثوري. ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإِنفاق جميع أمد الحمل.
{حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَھَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ}.
لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتُقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقاً عليها كما كان في زمن العصمة أو حقاً على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملاً. وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة [البقرة: 233] {والوالدات يرضعن أولادهن} الآية.
وأفهم قوله: لكم} أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإِنفاق والأُم ترضع ولدها في العصمة تبعاً لإِنفاق أبيه عليها عند مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، إذ قالا: لا يجب الإِرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك، ولها أجل الإِرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئراً لابنه فإن كان الطفلُ غير قابل ثديَ غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه.
وقال أبو ثور: يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعدَ البينونة. نقله عند أبُو بكر ابن العربي في «الأحكام» وهو عجيب. وهذه الآية أمامه.
والائتمار: التشاور والتداول في النظر. وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره. ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحّد مؤتمراً لأنه يقع الاستئمار فيه، أي التشاور وتداول الآراء.
وقوله: {وأتمروا بينكم} خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأمّ ولدها. وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك.
وقيدَ الائتمارُ بالمعروف، أي ائتماراً ملابساً لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم، أي معتاد مقبول، فلا يشتَطّ الأب في الشحّ ولا تشتط الأم في الحرص.
وقوله: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} عتاب وموعظة للأب والأمّ بأن ينزّل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتُلبت للطفل ظِئر، فلا تسأل الأمُّ أكثر من أجر أمثالها، ولا يشحّ الأب عما يبلغ أجرَ أمثال أمّ الطفل، ولا يسقط حق الأمّ إذا وجد الأب من يرضع له مجاناً لأن الله قال: {فسترضع له أخرى} وإنما يقال: أرضعت له، إذا استؤجرت لذلك، كما يقال: استرضَع أيضاً، إذا آجر من يرضع له ولده. وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} [233] الآية.
والتعاسر صدور العسر من الجانبين. وهو تفاعل من قولكم: عسرتُ فلاناً، إذا أخذته على عسره، ويقال: تعاسر البيِّعان إذا لم يتفقا.
فمعنى تعاسرتم} اشتدّ الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة.
وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد، كقوله: {قال سوف أستغفر لكم ربي} في سورة [يوسف: 98]. وهذا المعنى ناشئ عن جعل علامة الاستقبال كنايَة عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقاً لتحصيله.
وهذا الخبر مستعمل كناية أيضاً عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق له} بقوله: {فسترضع}.
فاجتمع فيه ثلاث كنايات: كناية عن موعظة الأب، وكناية عن موعظة الأم، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
تذييل لما سبق من أحكام الإِنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك. ويعم كل إنفاق يطالَب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإِنفاق على قدر السعة.
والسَّعة: هي الجِدَة من المال أو الرزق.
والإِنفاق: كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يُحتاج إليه.
و {من} هنا ابتدائية لأن الإِنفاق يصدر عن السعة في الإِعتبار، وليست {من} هذه ك (مِن) التي في قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} [الأنفال: 3] لأن النفقة هنا ليست بعضاً من السعة، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون (مِن) من قوله: {فلينفق مما آتاه الله} تبعيضية.
ومعنى {قدر عليه رزقه} جعل رزقه مقدوراً، أي محدوداً بقدر معين وذلك كناية عن التضييق. وضده {يرزقون فيها بغير حساب} [غافر: 40]، يقال: قدر عليه رزقه، إذا قتّره، قال تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} وتقدم في سورة [الرعد: 26] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإِنفاق ومراتبه في التقديم. وهذا مُجمَل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط، قال النبي لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان: خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف.
والمعروف: هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة.
والرزق: اسم لما ينتفع به الإِنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل. سواء كان أعياناً أو أثماناً. ويطلق الرزق كثيراً على الطعام كما في قوله تعالى: {وجد عندها رزقاً} [آل عمران: 37].
ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد. وإنما اختلفوا في التوسع في الإِنفاق في مال المؤسر هل يقضَى عليه بالتوسعة على من يُنفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافاً في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفَق عليه ومعتاده، كالزوجة العالية القَدر. وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: «ما يكفيك وولدَك بالمعروف».
وجملة {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} تعليل لقوله: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}. لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} في سورة [البقرة: 286]، وهي قبل سورة الطلاق.
والمقصود منه إقناع المنفَق عليه بأن لا يطلب من المنفِق أكثر من مقدُرته. ولهذا قال علماؤنا: لا يطلَّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفَق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف، أي دون ضر.
ومما آتاه الله} يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان مَن يجب عليه الإِنفاق قادراً على الاكتساب لِينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمِّل له ما ضاق عنه ماله، يجبر على الاكتساب.
وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقُه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين. وقد قال عمر بن الخطاب: «وأن رب الصريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أينا»، رواه مالك في «الموطأ».
وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف. فمن الفقهاء من رأى ذلك موجباً بينهما بعد أجللِ رجاء يسر الزوج وقُدر بشهرين، وهو قول مالك. ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة، أي وتنفَق من بيت مال المسلمين.
والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائماً فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يُتوصل إلى الإِنفاق من بيت المال كان حقاً أن يفرِّق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوْجها في احتياج. ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه.
وجملة {سيجعل الله بعد عسر يسراً} تكملة للتذييل فإن قوله: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} يناسب مضمون جملة {لينفق ذو سعة من سعته}.
وقوله: {سيجعل الله} الخ تُناسب مضمون {ومن قدر عليه رزقه} الخ. وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجّي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال. ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عُسركم يُسراً لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسراً. وهذا الخبر لا يقتضي إلا أنّ من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسراً لهم، فمن كان في عسر رجَا أن يكون ممن يشمله فضل الله، فيبدل عسره باليسر.
وليس في هذا الخبر وعْد لكل معسر بأن يصير عُسره يُسراً. وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذٍ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر، أو وعد للمُنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحّون بشيء مما يسعه مالهم. وانظر قوله تعالى: {فإن مع العسر يسراً} [الشرح: 5].
ومن بلاغة القرآن الإِتيان ب (عسر ويسراً) نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله: {فإن مع العسر يسراً.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولَواحِقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً يُسْراً * وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً [الطلاق: 2] وقوله: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} [الطلاق: 4]، وقوله: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً} [الطلاق: 5] وقوله: {سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق: 7].
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1]، وقوله: {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم، لأن الصغير يُثير الجليل، فذكَّر المسلمين (وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال.
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} الآيات. فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض.
و {كأيّن} اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و{كأيّن} بمعنى (كَم) الخبرية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير} في [آل عمران: 146].
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم.
وكأيّن} في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني.
وجملة {عتت عن أمر ربها} في موضع الخبر ل {كأيّن}.
والمعنى: الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله: {فحاسبناها} فالمفرع هو المقصود من الخبر.
والمراد بالقرية: أهلها على حد قوله: {واسأل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82] بقرينة قوله عَقب ذلك {أعد الله لهم عذاباً شديداً} إذ جيء بضمير جمع العقلاء.
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4].
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم.
والعتوّ ويقال العُتِيّ: تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد.
وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف {عن}.
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء {فحاسبناها} و{عذبناها} بصيغة الماضي.
والمعنى: فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافئ طغيانها.
والعذاب النُكُر: هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك.
وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به.
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة. وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها.
والعذاب: عذاب جهنم، ويكون الفعل الماضي مستعملاً في معنى المستقبل تشبيهاً للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله: {أتى أمر الله} [النحل: 1]، وقوله: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44].
والنُكُر بضمتين، وبضم فَسكون: ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ {نكُراً} بضمتين. وقرأه الباقون بسكون الكاف. وتقدم في سورة الكهف.
والفاء في قوله: {فذاقت وبال أمرها} لتفريع {فحاسبناها} {وعذبناها}.
والذَّوق: هنا الإِحساس مطلقاً، وهو مجاز مرسل.
والوبيل: صفة مشبهة. يقال: وَبُل (بالضم): المرعى، إذا كان كَلأُه وخيماً ضاراً لما يرعاه.
والأمر: الحال والشأن، وإضافة الوَبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه.
وعاقبة الأمر: آخره وأثره. وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله: {أعد الله لهم عذاباً شديداً}.
وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضَوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره.
وجيء بفعل {كان} بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليباً. وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه.
وجملة {أعد الله لهم عذاباً شديداً} بدل اشتمال من جملة {وكان عاقبة أمرها خسراً} أو بدلَ بعض من كل.
والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل.
وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة {أعد الله لهم عذاباً شديداً} استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 30].
(هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين} [الطلاق: 1] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله}.
وفي نداء المؤمنين بوصف {أولي الألباب} إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63]، وقوله: {أولي} معناه ذوي، وتقدم بيانه عند قوله: {واللائي يئسن من المحيض} [الطلاق: 4] آنفاً و{الذين آمنوا} بدل من {أولي الألباب}. وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم. والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها.
لله.
في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه.
وتأكيد الخبر ب {قدءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لِّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم
والذكر: القرآن. وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى: {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة [الحجر: 6]. وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة.
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم.
وقوله: رسولاً} بدل من {ذكراً} بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أُعمل فعل {أنزل} في {رسولاً} تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر. وهذا كما أبدل {رسول من الله} [البينة: 2] من قوله: {حتى تأتيهم البينة في سورة البينة (1).
والرسول: هو محمد.
وأما تفسير الذكر بجبريل، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً} منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك، وكذلك تفسير الذكر بجبريل.
ويجوز أن يكون {رسولاً} مفعولاً لفعل محذوف يدل عليه {أنزل الله} وتقديره: وأرسل إليكم رسولاً، ويكون حذفه إيجازاً إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {مبينات} بفتح الياء. وقرأه الباقون بكسرها ومَآل القراءتين واحد.
وجعلت علة إنزال الذكر إخراجَ المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات، نظراً لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماماً بشأنهم.
وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر. وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف.
{النور وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ}.
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات.
و {صالحاً} نعت لموصوف محذوف دل عليه {يعمل} أي عملاً صالحاً، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي. فالمعنى: ويعمل جميع الصالحات، أي المأمور بها أمراً جازماً بقرينة استقراء أدلة الشريعة.
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.
وجملة {قد أحسن الله له رزقاً} حال من الضمير المنصوب في {ندخله} ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها.
والرزق: كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم، أي رزقاً عظيماً.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ندخله} بنون العظمة. وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {ومن يؤمن بالله} وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الله. وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله: {واتقوا الله ربكم} [الطلاق: 1] إلى هنا، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإِسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يُزاد تعريف الناس بهذا العظيم، ولمَّا صار البساط مِليئاً بذكر اسمه صح حذفه عند الإِخبار عنه إيجازاً وقد تقدم قوله تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما} في سورة مريم (65)، وكذلك عند قوله: صم بكم عمي} [البقرة: 18]، وقوله: {مقام إبراهيم} في سورة البقرة (125.
(فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذُكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده، فعليهم أن يتقوه، ولا يتعدوا حدوده، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه.
وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض.
والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح (15): {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً}
وقوله: ومن الأرض مثلهن} عطف على {سبع سموات} وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعطوف قوله: {من الأرض} على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف {مِن} مزيداً للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة {من} أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيراً في الكلام، وعدمُ الكثرة لا ينافي الفصاحة، والتقدير: وخلق الأرض، ويكون قوله: {مثلهن} حالاً من {الأرض}.
ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى، أي أن خلْق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة.
وهذا أظهر ما تُؤَوَّلُ به الآية.
وفي إفراد لفظ {الأرض} دون أن يُؤتى به جمعاً كما أُتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما.
والوجه الثاني: أن يكون المعطوف {مثلهن} ويكون قوله: {ومن الأرض} بياناً للمثل فمصدق {مثلهن} هو {الأرض}. وتكون {مِن} بيانية وفيه تقديم البيان على المبيّن، وهو وارد غير نادر.
فيجوز أن تكون مماثلة في الكُروية، أي مثل واحدة من السماوات، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإِعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة.
وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا: إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات مُنبسطة تفرق بينها البحار.
وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضُها فوق بعض وهو قول الجمهور. وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا)، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات.
وفي «الكشاف» «قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه» اه. وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك.
وقال المازري في كتابه «المُعلم» على «صحيح مسلم» عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه من سبع أرضين يوم القيامة».
كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إليّ بعدَ فراقي له: هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعاً، فكتبت إليه قولُ الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد. وأن الخبر من أخبار الآحاد، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبارِ الآحاد، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطتُ القول في ذلك وترددتُ في آخر كتابي في احتماللِ ما قال. فقطع المجاوبة اه.
وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله: {مثلهن} راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفاً سبع مرات في الغِلظ والثقل، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة. ولو كان المراد طبقات معلومة لقال: طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف. وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري.
وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله: {ومن الأرض مثلهن} من المماثلة في عدد السبع، فيجوز أن يقال: إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخَر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولاً. ! وهي أن آسيا مع أوروبا قارة، وإفريقيا قارة، وأستراليا قارة، وأميركا الشمالية قارة، وأميركا الجنوبية قارة، وجرولندة في الشمال، والقارة القطبية الجنوبية. ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار، وتكون {من} تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه.
والاستفهام في قوله: {لم تحرم} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام.
وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى.
وفعل {تحرم} مستعمل في معنى: تجعل ما أحلّ لك حراماً، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93] وقرينتهُ قوله هنا: {ما أحل الله لك}.
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً كما في قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، وقوله: {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} [التوبة: 37]، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال: وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط: وسِّعْ طَوْق الجبّة.
ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراماً على الناس أو عليك. ومن العجيب قول «الكشاف»: ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ.
وصيغة المضارع في قوله: {لم تحرم} لأنه أوقع تحريماً متجدداً.
فجملة {تبتغي} حال من ضمير {تحرم}. فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله: {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} [آل عمران: 130].
وفي الإِتيان بالموصول في قوله: {ما أحل الله لك} لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه.
وفي قوله: {تبتغي مرضات أزواجك} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة.
وذيل بجملة {والله غفور رحيم} استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله: {عفا الله عنك لما أذنت لهم} [التوبة: 43].
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}
استئناف بياني بيّن الله به لنبيئه صلى الله عليه وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على نفسه، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم: «وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير».
وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تَحِلَّة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيماً للقَسَم. فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى في قصة أيوب {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] كما ذكرناه في تفسيرها و{فرض} عيَّن ومنه قوله تعالى: {نصيباً مفروضاً} [النساء: 7]. وقال: فرض له في العطاء والمعنى: قد بيَّن الله لكن تحلة أيمانكم.
واعلم أنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيء عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرّم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى. كان ذلك غير يمين فكان أمرُ الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطميناً لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقاً باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يميناً ولا نذراً فقال في «الموطأ»: ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله بطاعة إن كلم فلاناً، فليس عليه في ذلك شيء إنْ هو كلّمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حَلف فقال: «والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين» اه.
وقد اختلف هل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه تلك.
فالتحلّة على هذا التفسير عند مالك هي: جعل الله ملتزم مثل هذا في حلِّ مننِ التزاممِ ما التزمه. أي مُوجب التحلل من يمينه.
وعند أبي حنيفة: هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحِلَّة اليمين هي الكفارة عند الجميع.
وجملة {والله مولاكم} تذييل لجملة {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}. والمولى: الولي، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه، وهو هنا كناية عن الرؤوف والميسّر، كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
وعطف عليها جملة {وهو العليم الحكيم} أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه، أي يجري أحكامه على الحكمة. وهي إعطاء الأفْعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات.
واختلف فقهاء الإِسلام فيمن حرّم على نفسه شيئاً مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولاً وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فتؤول إلى سبعة.
أحدها: لا يلزمه شيء سواء كان المحرَّم زوجاً أو غيرها. وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك.
الثاني: تجب كفارة مثل كفارة اليمين. وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه. وهذا جار على ظاهر الآية من قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
الثالث: لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل: إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثاً، وإن لم يدخل بها ينوّ فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور. وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل. ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة. وقاله ابن أبي ليلى وهو عند عبد الملك بن الماجشون في «المبسوط». وقيل طلقة بائنة. ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خُويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه. وقيل: طلقة رجعية في الزوجة مطلقاً، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيداً لما روي عنه في القول الثاني. وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه: إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فَهي واحدة رجعية. وقيل: هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية.
الرابع: قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث. وإن لم ينو شيئاً كانت يميناً وعليه كفارة فإنْ أباها كان مولياً.
وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضاً من قبيل تحريم أحد شيئاً مما أحلّ الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق. و{تحلة} تفعِلة مِن حلَّل جعل الفعل حلالاً. وأصله تَحْلِلة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة.
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}
هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبيء صلى الله عليه وسلم بما حرّم على نفسه من جرَّائهما.
وهو معطوف على جملة {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] بتقدير واذكر.
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمناً بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم وتنبيه وتحذير.
فاشتملت هذه الآيات على عشرين معنى من معاني ذلك. إحداها ما تضمنه قوله: {إلى بعض أزواجه}.
الثاني: قوله: {فلما نبأت به}.
والثالث: {وأظهره الله عليه}.
الرابع: {عرف بعضه}.
الخامس: {وأعرض عن بعض}.
السادس: {قالت من أنبأك هذا}.
السابع: {قال نبأني العليم الخبير}.
الثامن والتاسع والعاشر: {إن تتوبا إلى الله إلى فإن الله هو مولاه} [التحريم: 4].
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: {وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة} [التحريم: 4].
الرابع عشر والخامس عشر: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً} [التحريم: 5].
السادس عشر: {خيراً منكن} [التحريم: 5].
(السابع عشر: {مسلمات} [التحريم: 5] إلخ.
الثامن عشر: {سائحات} [التحريم: 5].
التاسع عشر: {ثيبات وأبكاراً} [التحريم: 5]، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها.
العشرون: ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان {بعض أزواجه} دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعِر به أنها المقصودة باللوم.
وإنما نبّأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل.
والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة: «هي عليّ حرام ولا تخبري عائشة» وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسرّ إليها.
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السرّ غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحلّ له.
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نَبأتْها حفصة هي عائشة. وفي «الصحيح» عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها.
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.
و {أسر} أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخباراً وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّاً والسرّ ضد الجهر، قال تعالى: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} [التغابن: 4] فصار {أسر} يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإِفشاء، أي عدم الإِظهار قال تعالى: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} [يوسف: 77].
و {أسر}: فعل مشتق من السرّ فإن الهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سرّ، يقال: أسرّ في نفسه، إذا كتم سرّه. ويقال: أسرّ إليه، إذا حدثه بسرّ فكأنه أنهاه إليه، ويقال: أسرّ له إذا أسرّ أمراً لأجله، وذلك في إضمار الشر غالباً وأسرّ بكذا، أي أخبر بخبر سرّ، وأسرّ، إذا وضع شيئاً خفياً. وفي المثَل «يُسِرّ حَسْواً في ارتغاء».
و {بعض أزواجه} هي حفصة بنت عمر بن الخطاب. وعدل عن ذكر اسمها ترفعاً عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به. وكذلك طي تعيين المنبَّأة بالحديث وهي عائشة.
وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإِشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سِرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجهُ. وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه.
وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفاً.
ونبَّأ: بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما: أخبر، وقد جمعهما قوله: {فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}.
وقد قيل: السرّ أمانة، أي وإفشاؤه خيانة.
وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة: «جَارية أبي زرع فَما جارية أبي زرع لا تَبث حديثنا تبثيثاً ولا تنفث ميرثنا تنفيثاً».
وكلام الحكماء والشعراء في السرّ وحفظه أكثر من أن يحصى. وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها.
ومعنى و{وأظهره الله عليه} أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.
استعير الإِظهار إلى الإِطْلاَع لأن إطلاع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على السرّ الذي بين حفصة وعائشة كان غلبةً له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سرّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره فالإِظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار. وليس هو من الظهور ضد الخفاء، لأنه لا يتعدى بحرف (على).
وضمير {عليه} عائد إلى الإِنباء المأخوذ من {نبأت به} أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله: {نبأت به} تقديره: أظهره الله على إفشائه.
وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له.
وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفاً.
ومعفول {عرف} الأولُ محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطْلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه. والحديث يحتوي على أشياء: اختلاء النبي بسريته مارية، وتحريمها على نفسه، وتناوله العسل في بيت زينب، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك، وربّما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية. وإنما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها.
وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعضَ ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه.
قال سفيان: ما زَال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع.
وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفاً.
وقولها: {من أنبأك هذا} يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين.
والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك.
وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زَلة خُلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإِخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإِخلاص للخلائل.
وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفاً.
وإيثار وصفي {العليم الخبير} هنا دون الاسم العَلَم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علماً وخُبْراً بكل شيء.
و {العليم}: القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم.
و {الخبير}: أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يُقال خبرته، أي بلوته وتطلعتُ بواطن أمره، قال ابن بُرَّجان (بضم الموحدة وبجيم مشددة) في «شرح الأسماء»: «الفرق بين الخُبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضِف ذلك إلى تلك الصفة وسَم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حَصَلَتْ فمتى حصلت من موضع الحُضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد.
وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير. وكذلك إن حصَلت من عِلْم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبُور عن باطنه بِبَلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبْر. والمسمّى به الخبير» اه. وقال الغزالي في «المقصد الأسنى»: «العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خِبرة وسمي صاحبها خبيراً اه».
فيتضح أن أتباع وصف {العليم} بوصف {الخبير} إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى.
وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسول صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] وتنبيهاً على ما أبطنته من الأمر.
وهو الأدب السابع من آداب هذه الآيات.
واعلم أن نبّأ وأنبأ مُترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف. وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم. والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو: نَبأتُ به. وقد يحذف حرف الجر فيعدّيان إلى مفعولين، كقوله هنا: {من أنبأك هذا} أي بهذا، وقول الفرزدق:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت *** كراماً مواليها لآماً ما صميمها
حمله سيبويه على حذف الحرف.
وقد يضمنان معنى: اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها *** يهدي إليّ غرائب الأشعار
ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب (اعلم) إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألْحَق الفراء خبّر وأخبر، وألحق الكوفيون حدَّث.
قال زكريا الأنصاري: لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول.
وقرأ الجمهور {عرف} بالتشديد. وقرأه الكسائي {عَرَف} بتخفيف الراء، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم. ونحوه كقوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} [النساء: 63]. وقول العرب للمسيء: لأعرفن لك هذا. وقولك: لقد عرفت ما صنعت.
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}
التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإِرشاد إلى رأْب ما انثلم من واجبها نحو زوجها. وإذ قد كان ذلك إثماً لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سرّه ذكَّرها بواجب التوبة منه.
وخطاب التّثنية عائدة إلى المنبئة والمنأبة فأمّا المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله: {إلى بعض أزواجه} [التحريم: 3].
وأما المنبَّأة فمعادها ضمنيّ لأن فعل {نبأت} [التحريم: 3] يقتضيه فأما المنبَّئة فأمرها بالتوبة ظاهر. وأما المُذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السرّ ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها.
و {صَغت}: مالت، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يُميل سمعه إلى من يكلمه، وتقدم عند قوله تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} في سورة [الأنعام: 113]. وفيه إيماء إلى أن فيما فعَلَتَاه انحرافاً عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما.
وهذان الأدَبَان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات.
والتوبة: الندم على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة.
وإذْ كان المخاطب مثنَّى كانت صيغة الجمع في (قلوب) مستعملة في الاثنين طلباً لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام. فلما أُمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.
وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس. وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعاً كما في هذه الآية وقول خطام المجُاشعي:
ومَهمهين قَذَفين مَرْتَيْنْ *** ظهراهما مثلُ ظُهور التُرسين
وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافاً إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران. ويقلّ أن يؤتى بلفظ المفرد مضافاً إلى الاسم المثنى. وقال ابن عصفور: هو مقصور على السماع.
وذكر له أبو حيّان شاهداً قول الشاعر:
حمامةَ بطننِ الواديين ترنّمي *** سقاك من الغُرّ الغوادي مطيرها
وفي التسهيل}: ترجيح التعبير عن المثنى المضاففِ إلى مثنى باسممٍ مفرد، على التعبير عنه بلفظ المثنى. وقال أبو حيّان في «البحر المحيط»: إن ابن مالك غلط في ذلك. قلت: وزعم الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»، أن قول القائل: اشترِ رأسَ كبشين يريد رأسَيْ كبشين خطأ.
قال: لأن ذلك لا يكون اه. وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاففِ المثنى بلفظ الإِفراد مقصور على السماع، أي فلا يصار إليه. وقيّد الزمخشري في «المفصل» هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين. فقال: «ويُجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله: {فقد صغت قلوبكما} ولم يقولوا في المنفصلين: أفراسهما ولا غلمانهما. وقد جاء وضَعا رحالهما». فخالف إطلاق ابن مالك في «التسهيل» وطريقة صاحب «المفصل» أظهر.
وقوله: {وإن تظّاهرا عليه} هو ضد {إن تتوبا} أي وإن تصرّا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه الخ.
والمظاهرة: التعاون، يقال: ظاهره، أي أيده وأعانه. قال تعالى: {ولم يظاهروا عليكم أحداً} في سورة [براءة: 4]. ولعلّ أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد، وهو الظَّهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظَهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد. وقريب من هذا فعل عَضَد لأنهم قالوا: شَد عضده.
وأصل تظّاهرا} تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي {تَظَاهرا} بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
{وصالحُ} مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى: {فمنهم مهتد} [الحديد: 26]. والمراد ب {صالح المؤمنين} المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد.
وجملة {فإن الله هو مولاه} قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولّى جزاءكما على المظاهرة عليه، لأن الله مولاه. وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل.
وضمير الفصل في قوله: {هو مولاه} يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما، أي وبطل نصركما الذي هو واجبكما إذْ أخللتما به على هذا التقدير. وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسولَه صلى الله عليه وسلم لئلا يقع أحد من بعد في محاولة التقصير من نصره.
فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات.
وعطفُ {وجبريل وصالح المؤمنين} في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين. وفيه تعريض بأنهما تكونان (على تقدير حصول هذا الشرط) من غير الصالحين.
وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} عطف جملةٍ على التي قبلها، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويهاً بمحبة أهل السماء للنبيء صلى الله عليه وسلم وحسننِ ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأناً.
وفي الحديث «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحِبَّه فيحبُّه جبريل ثم ينادي جبريلُ في أهل السماء إن الله قد أحب فلاناً فأحِبُّوه فيحبُّه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض».
فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبّه لصلاحه والصالح لا يحبّه أهل الفساد والضلال. فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث.
وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات.
وقوله: {بعد ذلك} اسم الإِشارة فيه للمذكور، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين.
وكلمة {بعد} هنا بمعنى (مع) فالبَعدية هنا بَعدية في الذّكر كقوله: {عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 13].
وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غيرِ ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة الملائكة على نصرة جبريل بَلْه نصرة الله تعالى.
و {ظهير} وصف بمعنى المظاهر، أي المؤيد وهو مشتقّ من الظهر، فهو فعيل بمعنى مفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفاً في قوله: {وإن تظاهرا عليه}، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإِيراد وغيره فإن كان هنا خبراً عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفَوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. كقوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، وقوله: {وكان الكافر على ربه ظهيراً} [الفرقان: 55] وقوله: {وحسن أولئك رفيقاً} [النساء: 69]، وإن كان خبراً عن جبريل كان {صالح المؤمنين والملائكة} عطفاً على جبريل وكان قولُه {بعد ذلك} حالاً من الملائكة.
وفي الجمع بين {أظهره الله عليه} [التحريم: 3] وبين {وإن تظاهرا عليه} وبين {ظهير} تجنيسات.
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}
ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله: {وإن تظاهرا عليه} [التحريم: 4] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها.
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً عقبت بها جملة {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإِيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهن يأمر الله فيها نبيئه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين.
وفي قوله: {عسى ربه إن طلقكن} إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن. فالتقدير: عسى أن يطلقكن هو (وإنما يطلق بإذن ربه) أن يُبدله ربُّه بأزواج خيرٍ منكن.
وفي هذا ما يشير إلى المعْنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة والإِرشاد التي ذكرناها آنفاً.
و {عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله: {خيراً منكن} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خيراً منكن} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجاً للنبيء صلى الله عليه وسلم
وهذه الآية إلى قوله: {خيراً منكن} نزلت موافِقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقاً لقول عمر أو رأيه تنويهاً بفضله. وقد وردت في حديث في «الصحيحين» واللفظ للبخاري «عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]، وقلت: «يدخلُ عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهاتتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب. وبلغنِي معاتبة النبي بعضَ نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَنَّ الله رسولَه خيراً منكن فأنزل الله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات} الآية.
وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواجٌ خيرٌ منهن.
وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي..
وقرأ الجمهور {أن يبدّله} بتشديد الدال مضارع بدّل. وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل.
والمسلمات: المتصفات بالإِسلام. والمؤمنات: المصدّقات في نفوسهن.
والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام. وتقدم القنوت في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} في سورة [البقرة: 238]. وقوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله} في سورة [الأحزاب: 31].
وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة.
والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه. وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أُمرتا بها بقوله: {إن تتوبا إلى الله} [التحريم: 4].
والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات.
والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرَهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي.
وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجاً}، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قولُه: {وأبكاراً} لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيّبات. قُلت وفي قوله تعالى: {مسلمات}، إلى قوله: {سائحات} مُحسن الكلام المتزن إذْ يَلتئم من ذلك بيت من بحر الرمل التام:
فاعلتن فاعلتن فاعلتن *** فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعاباً وأبهى زينة وأحلى غنجاً.
والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلاً وفي ذلك مجلبة للنفس، والبكر لا تعرف رجلاً قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم.
فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيراً منها في تلك المزية أيضاً.
وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات.
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات. ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكراً. وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل: «الحر تكفيه الإِشارة».
وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات.
ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} زَعمها ابنُ خَالويه واواً لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية (بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون) وتبعهُ جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل.
أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفاً مشتقاً من عدد ثمانية أو كان ذاتاً ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان ذلك مفرداً أو كان جملة. فقد مثلوا بقوله تعالى في سورة [براءة: 112]: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي الناهون عن المنكر}. وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله: {مسلمات} إلا الثامنة وهي {وأبكاراً} ومثلوا لما وصف فيه بوصف ثامن بقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} في سورة [الكهف: 22]. فلم يعطف رابعهم} ولا {سادسهم} وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل. ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} في سورة [الحاقة: 7]. ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى في سورة [الزمر: 73]: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها قالوا جاءت جملة وفتحت} هذه بالواو ولم تجئ أختها المذكورة قبلها وهي {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71]. لأن أبواب الجنة ثمانية.
وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة.
وذكر الدمَاميني في الحواشي} الهندية على «المغني» أنه رأى في «تفسير العماد الكندي» قاضي الإِسكندرية (المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة) نسبة القول بإثبات واو الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حَبوس (بموحدة بعد الحاء المهملة) هو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420.
وذكر السهيلي في «الروض الأنف» عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفرد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية باباً طويلاً ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها. ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها. ومن عجيب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهة للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو. ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا.
وذكر ابن المنير في «الانتصاف» أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {وأبكاراً} هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية.
وكان الفاضلُ يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوماً بحضيرة أبي الجود النحوي المقري، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإِتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد. فأنصفه الفاضل وقال: أرشدتنا يا أبا الجود.
قلت: وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجُود إذ كان له أن يقول: إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلاً أو قسيماً لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية.
ونقل الطيبي والقزويني في «حاشيتي الكشاف» أنه روى عن صاحب «الكشاف» أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، وقوله: {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك، وليس بشيء. قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا (أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية) أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اه.
قلت: وهذا يخالف صريح كلامه في «الكشاف» فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب «الكشاف»، أو لعل صاحب «الكشاف» لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق.
وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى: {التائبون العابدون} الآية في سورة [براءة: 112]. وعند قوله: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} في سورة [الكهف: 22]، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)}
كانت موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم وأن لا يصدّهم استبقاء الودّ بينهم عن إسداء النصح لهم وإن كان في ذلك بعض الأذى.
وهذا نداء ثان موجه إلى المؤمنين بعد استيفاء المقصود من النداء الأول نداءِ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1].
وجه الخطاب إلى المؤمنين ليأتنسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أهليهم.
وعبر عن الموعظة والتحذير بالوقاية من النار على سبيل المجاز لأن الموعظة سبب في تجنب ما يفضي إلى عذاب النار أو على سبيل الاستعارة بتشبيه الموعظة بالوقاية من النار على وجه المبالغة في الموعظة.
وتنكير «نار» للتعظيم وأجرى عليها وصف بجملة {وقودها الناس والحجارة} زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار. وتذكيراً بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} في سورة [الأنبياء: 98]. وتفظيعاً للنار إذ يكون الحجر عِوضاً لها عن الحَطب.
ووصفت النار بهذه الجملة لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر في علم المسلمين من قبل نزول هذه الآية بما تقدم في سورة [البقرة: 24] من قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} وبما تقدمهما معاً من قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} في سورة [الأنبياء: 98].
والحجارة}: جمع الحجر على غير قياس فإن قياسه أحجار فجمعوه على حِجارٍ بوزن فِعال وألحقوا به هاء التأنيث كما قالوا: بِكارة جمع بَكر، ومِهارة جمع مُهْر.
وزيد في تهويل النار بأنَّ عليها ملائكة غلاظاً شداداً وجملة {عليها ملائكة} إلى آخرها صفة ثانية.
ومعنى {عليها} أنهم موكلون بها. فالاستعلاء المفاد من حرف (على) مستعار للتمكن كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5]. وفي الحديث " فلم يكن على بابه بوّابون "
و {غلاظ} جمع غليظ وهو المتصف بالغلظة. وهي صفة مشبهة وفعلها مِثل كَرُم. وهي هنا مستعارة لقساوة المعاملة كقوله تعالى: {ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] أي لو كنت قاسياً لما عاشروك.
و«شداد»: جمع شديد. والشدة بكسر الشين حقيقتها قوة العمل المؤذي والموصوف بها شديد. والمعنى: أنهم أقوياء في معاملة أهل النار الذين وكلوا بهم: يقال: اشتدّ فلان على فلان، أي أساء معاملته، ويقال: اشتدّت الحرب، واشتدت البأساء. والشدة من أسماء البؤس والجوع والقحط.
وجملة {لا يعصون الله ما أمرهم} ثناء عليهم أعقب به وصفهم بأنهم غلاظ شداد تعديلاً لما تقتضيانه من كراهية نفوس الناس إياهم، وهذا مؤذن بأنهم مأمورون بالغلظة والشدة في تعذيب أهل النار.
وأما قوله: {ويفعلون ما يؤمرون} فهو تصريح بمفهوم {لا يعصون الله ما أمرهم} دعا إليه مقام الإِطناب في الثناء عليهم، مع ما في هذا التصريح من استحضار الصورة البديعة في امتثالهم لما يؤمرون به. وقد عُطف هذا التأكيد عطفاً يقتضي المغايرة تنويهاً بهذه الفضيلة لأن فعل المأمور أوضح في الطاعة من عدم العصيان واعتبار لمغايرة المعنيين وإن كان قالهما واحد ولك أن تجعل مرجع {لا يعصون الله ما أمرهم} أنهم لا يعصون فيما يكلفون به من أعمالهم الخاصة بهم، ومرجع {ويفعلون ما يؤمرون} إلى ما كلفوا بعمله في العصاة في جهنم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}
هو من قول الملائكة الذين على النار. وذكر هذه المقالة هنا استطرَاد يُفيد التنفير من جهنم بأنها دار أهل الكفر كما قال تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة: 24]، وإلاّ فإن سياق الآية تحذير للمؤمنين من الموبقات في النار.
ومعنى {ما كنتم تعملون} مماثل {ما كنتم تعملون}، وأفادت {إنما} قصرَ الجزاء على مماثلة العمل المجزى عليه قصرَ قلب لتنزيلهم منزلة من اعتذر وطلب أن يكون جزاؤه أهون مما شاهده.
والاعتذار: افتعال مشتق من العُذر. ومادة الافتعال فيه دالة على تكلف الفعل مثل الاكتساب والاختلاق، والعذر: الحجة التي تُبرئ صاحبها من تِبعة عمل مّا. وليس لمادة الاعتذار فعل مجرد دال على إيجاد العذر وإنما الموجود عَذَر بمعنى قِبل العُذر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب} في سورة [براءة: 90].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار}.
أعيد خطاب المؤمنين وأعيد نداؤهم وهو نداء ثالث في هذه السورة. والذي قبله نداء للواعظين. وهذا نداء للموعوظين وهذا الأسلوب من أساليب الإِعراض المهتم بها.
أُمر المؤمنون بالتوبة من الذنوب إذا تلبسوا بها لأن ذلك من إصلاح أنفسهم بعد أن أمروا بأن يجنِّبوا أنفسهم وأهليهم ما يَزِجّ بهم في عذاب النار، لأن اتقاء النار يتحقق باجتناب ما يرمي بهم فيها، وقد يذهلون عما فرط من سيئاتهم فهُدُوا إلى سبيل التوبة التي يمحون بها ما فرط من سيئاتهم.
وهذا ناظر إلى ما ذكر من موعظة امرأتي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إن تتوبا إلى الله} [التحريم: 4].
والتوبة: العزم على عدم العود إلى العصيان مع الندم على ما فرط منه فيما مضى. وتقدمت عند قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} في سورة [البقرة: 37]. وفي مواضع أخرى وخاصة عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} في سورة [النساء: 17]. وتعديتها بحرف (إلى) لأنها في معنى الرجوع لأن (تاب) أخو (ثاب).
والنصوح: ذُو النصح.
والنصح: الإِخلاص في العمل والقول، أي الصدق في إرادة النفع بذلك. ووصف التوبة بالنصوح مجاز جعلت التوبة التي لا تردد فيها ولا تخالطها نية العودة إلى العمل المتوب منه بمنزلة الناصح لغيره ففي (نصوح) استعارة وليس من المجاز العقلي إذ ليس المراد نصوحاً صاحبها.
وإنما لم تلحق وصف (نصوح) هاء التأنيث المناسبة لتأنيث الموصوف به لأن فعولاً بمعنى فاعل يلازم الإِفراد والتذكير.
وقرأ الجمهور نصوحاً} بفتح النون على معنى الوصف كما علمت. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم النون على أنه مصدر (نصح) مثل: القُعود من قعد. وزعم الأخفش أن الضم غير معروف والقراءة حجة عليه.
ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردّها. روي عن علي رضي الله عنه: يجمع التوبة ستة أشياء: الندامة على الماضي من الذنوب، وإعادة الفرائض. ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.
وتقوم مقام ردّ المظالم استحلال المظلوم حتى يعفو عنه.
ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب. قال إمام الحرمين: هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منَعه من تمكين نفسه معصية متجددة تستدعي توبة.
وهو كلام وجيه إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة فلها عذر في الإِحجام عن التمكين منه.
وتصح التوبة من ذنب دون ذنب خلافاً لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر.
وأما التوبة من الكفر بالإِيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر ولو بقي متلبساً ببعض الكبائر بإجماع علماء الإِسلام.
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداء، وكذلك الصغائر وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين وأصول الفقه والفقهُ.
إلا أن الله تفضّل على المسلمين فغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، أخذ ذلك من قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإِثم والفواحش إلا اللمم وقد مضى القول فيه} في تفسير سورة [النجم: 32].
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المعود إليه ولا تنتقض فيما سواه. وأن العود معصية تجب التوبة منها. وقال المعتزلة: تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب فتعود إليه ذنوبه ووافقهم الباقلاني.
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين.
والرجاء المستفاد من فعل عسى} مستعمل في الوعد الصادر عن المتفضل على طريقة الاستعارة وذلك التائب لا حق له في أن يعفى عنه ما اقترفه لأن العصيان قد حصل وإنما التوبة عزم على عدم العودة إلى الذنب ولكن ما لصاحبها من الندم والخوف الذي بعث على العزم دل على زكاء النفس فجعل الله جزاءه أن يمحو عنه ما سلف من الذنوب تفضلاً من الله فذلك معنى الرجاء المستفاد من {عسى}.
وقد أجمع علماء الإِسلام على أن التوبة من الكفر بالإِيمان مقبولة قطعاً لكثرة أدلة الكتاب والسنة، واختلفوا في تعيُّن قبول توبة العاصي من المؤمنين، فقال جمهور أهل السنة: قبولها مرجوّ غير مقطوع، وممن قال به الباقلاني وإمام الحرمين وعن الأشعري أنه مقطوع به سمعاً، والمعتزلة مقطوع به عقلاً.
وتكفير السيئات: غفرانها، وهو مبالغة في كَفَر المخفف المتعدي الذي هو مشتق من الكَفر بفتح الكاف، أي الستر.
{الانهار يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَئ}.
{يوم} ظرف متعلق ب {يدخلكم جنات} وهو تعليقُ تخلص إلى الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه. وهو يوم القيامة وهذا الثناء عليهم بانتفاء خزي الله عنهم تعريض بأن الذين لم يؤمنوا معه يخزيهم الله يوم القيامة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين آمنوا لتشريف المؤمنين ولا علاقة له بالتعريض.
والخزي: هو عذاب النار، وحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قوله: {ولا تخزني يوم يبعثون} [الشعراء: 87] على أن انتفاء الخزي يومئذٍ يستلزم الكرامة إذ لا واسطة بينهما كما أشعر به قوله تعالى:
{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185].
وفي صلة {الذين آمنوا معه} إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو إيمانهم.
ومعية المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم
و (مع) يجوز تعلقها بمحذوف حال من {الذين آمنوا} أي حال كونهم مع الشيء في انتفاء خزي الله عنهم فيكون عموم {الذين آمنوا} مخصوصاً بغير الذين يتحقق فيهم خزي الكفر وهم الذين ارتدوا وماتوا على الكفر.
وفي هذه الآية دليل على المغفرة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ويجوز تعلق (مع) بفعل {آمنوا} أي الذين آمنوا به وصحبوه، فيكون مراداً به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يرتدوا بعده، فتكون الآية مؤذنة بفضيلة للصحابة.
وضمير {نورهم} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.
وإضافة نور إلى ضمير هم مع أنه لم يسبق إخبار عنهم بنور لهم ليست إضافة تعريف إذ ليس المقصود تعريف النور وتعيينه ولكن الإِضافة مستعملة هنا في لازم معناها وهو اختصاص النور بهم في ذلك اليوم بحيث يميزه الناس من بين الأنوار يومئذٍ.
وسعي النور: امتداده وانتشاره. شبه ذلك باشتداد مشي الماشي وذلك أنه يحفّ بهم حيثما انتقلوا تنويهاً بشأنهم كما تنشر الأعلام بين يدي الأمير والقائد وكما تساق الجياد بين يدي الخليفة.
وإنما خص بالذكر من الجهات الأمامُ واليمين لأن النور إذا كان بين أيديهم تمتعوا بمشاهدته وشعروا بأنه كرامة لهم ولأن الأيدي هي التي تمسك بها الأمور النفيسة وبها بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإِيمان والنصر. وهذا النور نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين يوم القيامة. والباء للملابسة، ويجوز أن تكون بمعنى (عن).
وقد تقدم نظير هذا في سورة الحديد وما ذكرناه هنا أوسع.
وجملة {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} إلى آخرها حال من ضمير {نورهم}، وظاهره أن تكون حالاً مقارنة، أي يقولون ذلك في ذلك اليوم، ودعاؤهم طلب للزيادة من ذلك النور، فيكون ضمير {يقولون} عائد إلى جميع الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، أو يقول ذلك من كان نوره أقل من نور غيره ممن هو أفضل منه يومئذٍ فيكون ضمير {يقولون} على إرادة التوزيع على طوائف الذين آمنوا في ذلك اليوم.
وإتمام النور إدامته أو الزيادة منه على الوجهين المذكورين آنفاً وكذلك الدعاء بطلب المغفرة لهم هو لطلب دوام المغفرة، وذلك كله أدب مع الله وتواضع له مثل ما قيل في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم سبعين مرة.
ويظهر بذلك وجه التذييل بقولهم: {إنك على كل شيء قدير} المشعر بتعليل الدعاء كناية عن رجاء إجابته لهم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}
لما أبلغ الكفار ما سيحل بهم في الآخرة تصريحاً بقوله: {يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} [التحريم: 7]، وتعريضاً بقوله: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [التحريم: 8]، أمَرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بمسمع منهم بأن يجاهدهم ويجاهد المستترين لكفرهم بظاهر الإِيمان نفاقاً، حتى إذا لم تؤثر فيهم الموعظة بعقاب الآخرة يخشون أن يسلط عليهم عذاب السيف في العاجلة فيقلعوا عن الكفر فيصلح نفوسهم وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الكفار تألبُوا مع المنافقين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوهم عيوناً لهم وأيدي يدسُّون بها الأذى للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
فهذا نداء ثان للنبيء صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح عموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج.
وجهاد الكفار ظاهر، وأما عطف {المنافقين} على {الكفار} المفعول ل {جاهد} فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد المنافقين وكان حال المنافقين ملتبساً إذ لم يكن أحد من المنافقين معلناً بالكفر ولا شُهد على أحد منهم بذلك ولم يعين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منافقاً يوقن بنفاقه وكفره أو أطلعه إطلاعاً خاصاً ولم يأمره بإعلانه بين المسلمين كما يؤخذ ذلك من أخبار كثيرة في الآثار.
فتعين تأويل عطف {المنافقين} على {الكفار} إما بأن يكون فعل {جاهد} مستعملاً في حقيقته ومجازه وهما الجهاد بالسيف والجهاد بإقامة الحجة والتعريض للمنافق بنفاقه فإن ذلك يطلق عليه الجهاد مجازاً كما في قوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، وقوله للذي سأله الجهاد فقال له: «ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد».
وعندي أن الأقرب في تأويل هذا العطف أن يكون المراد منه إلقاء الرعب في قلوب المنافقين ليشعروا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمرصاد بهم فلو بدت من أحدهم بادرة يعلم منها نفاقه عومل معاملة الكافر في الجهاد بالقتل والأسر فيحذروا ويكفوا عن الكيد للمسلمين خشية الافتضاح فتكون هذه الآية من قبيل قوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61].
والغلظة: حقيقتها صلابة الشيء وهي مستعارة هنا للمعاملة بالشدة بدون عفو ولا تسامح، أي كن غليظاً، أي شديداً في إقامة ما أمر الله به أمثالهم. وتقدم عند قوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} في سورة [براءة: 123]، وقوله: {ولو كنت فظاً غليظ القلب} في سورة [آل عمران: 159].
والمأوى: المسكن، وهو مفعل من أوى إذا رجع لأن الإِنسان يرجع إلى مسكنه.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}
أعقبت جملة {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} [التحريم: 9] الآية المقصود منها تهديدهم بعذاب السيف في الدنيا وإنذارهم بعذاب الآخرة وما قارن ذلك من مقابلة حالهم بحال المؤمنين، بأن ضرَب مثلين للفريقين بنظيرين في حاليهما لتزداد الموعظة وضوحاً ويزداد التنويه بالمؤمنين استنارة. وقد تقدمت فائدة ذكر الأمثال في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في سورة [البقرة: 17].
وضربُ المثل: إلقاؤه وإيضاحه، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} في سورة [البقرة: 26].
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. وهذا المثل لا يخلو من تعريض بحث زوْجي النبي على طاعته وبأنَّ رضى الله تعالى يتبع رضى رسله. فقد كان الحديث عن زوجتي النبي قريباً وكان عَملهما ما فيه بارقة من مخالفة، وكان في المثلين ما فيه إشعار بالحالين.
وتعدية ضرب باللام الدال على العلة تفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخول اللام. فمعنى ضرب الله مثلاً للذين كروا} أنه ألقى هذا التنظير لأجلهم، أي اعتبارهم بهم وقياسسِ حالهم على حال الممثل به، فإذا قيل: ضرب لفلان مثلاً، كان المعنى: أنه قصده به وأعلمه إياه، كقوله تعالى: {ما ضربوه لك إلا جدلاً} [الزخرف: 58]. {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الروم: 58]. ونحو ذلك وتقديم المجرور باللام على المفعول للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا.
فمعنى {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط}، أن الله جعل حالة هاتين المرأتين عظة وتنبيهاً للذين كفروا، أي ليُذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صَارِف فلا يحسبوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بيتِه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيده بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيهما رسولي رب العالمين.
ومناسبة ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط دون غيرهما من قرابة الأنبياء نحو أبي إبراهيم وابن نوح عليهما السلام لأن ذكر هاتين المرأتين لم يتقدم. وقد تقدم ذكر أبي إبراهيم وابن نوح، لتكون في ذكرهما فائدة مستجدة، وليكون في ذكرهما عقب ما سبق من تمالُؤِ أُمي المؤمنين على زوجهما صلى الله عليه وسلم تعريض لطيف بالتحذير من خاطر الاعتزاز بغناء الصلة الشريفة عنهما في الوفاء بحق ما يجب من الإِخلاص للنبيء صلى الله عليه وسلم ليكون الشَّبه في التمثيل أقوى. فعن مقاتل «يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم».
ووضحه في «الكشاف» بأنه من قبيل التعريض. ومنعه الفخر، وقال ابن عطية: «قال بعض الناس في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن. وفي هذا بُعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا» اه.
ويدفع استبعاده أن دلالة التعريض لا تنافي اللفظ الصريح، ومن لطائف التقييد بقوله تعالى: {للذين كفروا} أن المقصد الأصلي هو ضرب المثل للذين كفروا وذلك من الاحتراس من أن تحمل التمثيل على المشابهة من جميع الوجوه والاحتراس بكثرة التشبيهات ومنه تجريد الاستعارة.
وقصة امرأة نوح لم تذكر في القرآن في غير هذه الآية والذي يظهر أنها خانت زوجها بعد الطوفان وأن نوحاً لم يعلم بخونها لأن الله سمى عملها خيانة.
وقد ورد في سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذِكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوي ذكرها لما ذكر الله بركته نوحاً وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجه. فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحاً تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر في التوراة.
ووصف الله فعل امرأة نوح بخيانة زوجها، فقال المفسرون: هي خيانة في الدين، أي كانت كافرة مسرة الكفر، فلعل الكفر حدث مرة أخرى في قوم نوح بعد الطوفان ولم يذكر في القرآن.
وأما حديث امرأة لوط فقد ذكر في القرآن مرات. وتقدم في سورة الأعراف ويقال: فلانةُ كانت تحت فلان، أي كانت زوجاً له.
والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة والعصمة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في «الموطأ» وفي «صحيح البخاري» عن أم حرام بنت ملحان: «وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت».
ومن بدائع الأجوبة أن أحد الأمراء من الشيعة سأل أحد علماء السنة: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه: «الذي كانت ابنتُه تحتَه» فظن أنه فضل علياً إذْ فهم أن الضمير المضاف إليه «ابنَة» ضميرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الضمير المضاف إليه (تحت) ضمير اسم الموصول، وإنما أراد السنيّ العكس بأن يكون ضمير «ابنته» ضمير الموصول «تحته» ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك هو أبو بكر.
وقد ظهر أن المراد بالعبدين نوح ولوط وإنما خصّا بوصف «عبدين صالحين» مع أن وصف النبوة أخص من وصف الصلاح تنويهاً بوصف الصلاح وإيماء إلى أن النبوة صلاح ليعظم بذلك شأن الصالحين كما في قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} [الصافات: 112]. ولتكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن أزواجهن فإن وصف النبوءة قد انتهى بالنسبة للأمة الإِسلامية، مع ما في ذلك من تهويل الأذى لعباد الله الصالحين وعناية ربهم بهم ومدافعته عنهم.
والخيانة والخون ضد الأمانة وضد الوفاء، وذلك تفريط المرء ما اؤتمن عليه وما عهد به إليه. وقد جمعها قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27].
وانتصب {شيئاً} على المفعولية المطلقة ل {يغنيا} لأن المعنى شيئاً من الغنى، وتنكير {شيئاً} للتحقير، أي أقل غنى وأجحفه بَلْهَ الغنى المهم، وتقدم في قوله تعالى: {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} في سورة [الجاثية: 19].
وزيادة مع الداخلين} لإِفادة مساواتهما في العذاب لغيرهما من الكفرة الخونة. وذلك تأييس لهما من أن ينتفعا بشيء من حظوة زوجيهما كقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} [الأنعام: 22].
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)}
لما ضرب المثل {للذين كفروا} [الممتحنة: 10] أعقب بضرب مثل للذين آمنوا لتحصل المقابلة فيتضح مقصود المثَلَين معاً، وجريا على عادة القرآن في إتباع الترهيب بالترغيب.
وجعل المثل للذين آمنوا بحال امرأتين لتحصل المقابلة للمثَلَين السابقين، فهذا من مراعاة النظير في المثلين.
وجاء أحد المثلين للذين آمنوا مثلاً لإِخلاص الإِيمان. والمثل الثاني لشدة التقوى.
فكانت امرأة فرعون مثلاً لمتانة إيمان المؤمنين ومريم مثلاً للقانتين لأن المؤمنين تبرأوا من ذوي قرابتهم الذين بقوا على الكفر بمكة.
وامرأة فرعون هذه هي امرأة فرعون الذي أُرسل إليه موسى وهو منفط الثالث وليست امرأة فرعون التي تبنتْ موسى حين التقطتْه من اليَمّ، لأن ذلك وقع في زمن فرعون رعمسيس الثاني وكان بين الزمنين ثمانون سنة. ولم يكن عندهم علم بدين قبل أن يرسل إليهم موسى.
ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون فكانت مؤمنة برسالة موسى عليه السلام. وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى، أو تكون هداها الله إلى الإِيمان بموسى كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي تقدم ذكره في سورة غافر. وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آسية في قوله: «كَمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريمُ ابنة عمران وآسيةُ امرأة فرعون» رواه البخاري.
وأرادت بعمل فرعون ظلمه، أي نجّني من تبعة أعماله فيكون معنى {نجّني من فرعون} من صحبته طلبت لنفسها فرجاً وهو من عطف الخاص على العام.
ومعنى {قالت} أنها أعلنت به، فقد روي أن فرعون اطّلع عليها وأعلن ذلك لقومه وأمر بتعذيبها فماتت في تعذيبه ولم تحس ألماً.
والقوم الظالمون: هم قوم فرعون. وظلمهم: إشراكهم بالله.
والظاهر أن قولها: {ابن لي عندك بيتاً في الجنة} مؤذن بأن فرعون وقومه صدّوها عن الإِيمان به وزيّنوا لها أنا إن آمنت بموسى تضيع ملكاً عظيماً وقصراً فخيماً أو أن فرعون وعظها بأنها إن أصرّت على ذلك تقتل، فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه لدفنه في بادئ الملوك. ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درّة واحدة فتكون مشابهة الهرم الذي كان معدّاً لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها. فقولها ذلك كقول السحرة الذين آمنوا جواباً عن تهديد فرعون {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض} الآية في سورة [طه: 72].
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
عطف على {امرأت فرعون}، أي وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران، فضرَب مثلَيْن في الشرّ ومثلين في الخير.
ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها، وقد ذكر الله باسمها في عدة مواضع من القرآن، وقال ابن التلمساني في «شرح الشفاء» لعياض: لم يَذكُر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم للتنبيه على أنها أمةُ الله إبطالاً لعقائد النصارى.
والإِحصان: جعل الشيء حصيناً، أي لا يُسلك إليه. ومعناه: منعت فرجها عن الرجال.
وتفريع {فنفخنا فيه من روحنا} تفريع العطية على العمل لأجله. أي جزيناها على إحصان فرجها، أي بأن كوّن الله فيه نبيئاً بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات.
والنفخ: مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكوّن في رحمها. وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحيّ في رحمها كان دون الأسباب المعتادة، أو أُريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة، فعلى الأول تكون {من} تبعيضية، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وتقدم قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} في سورة [الأنبياء: 91].
وتصديقها: يقينها بأن ما أبلغ إليها الملَكُ من إرادة الله حملها.
وكلمات ربها}: هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي.
و {وكتابه} يجوز أن يكون المراد به «الإِنجيل» الذي جاء به ابنها عيسى وهو إن لم يكن مكتوباً في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم.
ويجوز أن يراد ب {كتابه}، أراده الله وقدّره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتاباً مفعولاً.
والقانت: المتمحض للطاعة. يجوز أن يكون و{من} للابتداء.
والمراد بالقانتين: المكثرون من العبادة. والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف:
وهل ينبت الخَطِّيُّ إلا وشيجَهُ ***
وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت.
وهذا نظير قوله تعالى: {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون} [النور: 26].
ويجوز أن تجعل {من} للتعبيض، أي هي بعض من قنت لله. وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل: من القانتات، جرياً على طريقة التغليب وهو من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر. وهذه الآية مثال في علم المعاني.
ونكتته هنا الإِشارة إلى أنها في عداد أهل الإِكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة.
ووصفت مريم بالموصول وصلته لأنها عُرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة.
وفي ذكر {القانتين} إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] الآية.
وقرأ الجمهور {وكتابه}. وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب {وكُتُبه} بصيغة الجمع، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي «التوراة» و«الزبور» وكتب الأنبياء من بني إسرائيل، و«الإِنجيل» إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire