samedi 5 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الأحزاب
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏‏}‏
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مُؤذِنٌ بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له‏.‏
فالنداء الأول‏:‏ لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه‏.‏
والنداء الثاني‏:‏ لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه‏.‏
والنداء الثالث‏:‏ لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة‏.‏
والنداء الرابع‏:‏ في طالعَة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه‏.‏
والنداء الخامس‏:‏ في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات‏.‏
فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ الآيات‏.‏
ونداء النبي عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليُربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ أو ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله ‏{‏يوم لا يُخزِي الله النبي‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏وقال الرسول يا رب‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، ويجيء باسمه العلم كقوله ‏{‏ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى ‏{‏محمد رسولُ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وقوله ‏{‏وما محمد إلا رسولٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله، أو تلقين لهم بأن يسمُّوه بذلك ويدْعوه به، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لي خمسة أسماءٍ‏:‏ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» تعليماً للأمة‏.‏ وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة‏.‏ وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال‏:‏ أسماء النبي ألفَا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏
والأمر للنبيء بتقوى الله توطئة للنهي عن اتّباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصرُ تقواه على التعلق بالله دون غيره، فإن معنى ‏{‏لا تطع‏}‏ مرادف معنى‏:‏ لاَ تَتَّققِ الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيداً معنى‏:‏ يأيها النبي لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يُقال‏:‏ لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبي صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السموْأل‏:‏
تَسِيل على حدّ الظُبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظُبات تسيل
فجاء بجملتي إثبات السيلان يِقَيْدٍ ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف‏.‏
فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما‏.‏ وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله ‏{‏اتّققِ الله‏}‏ والنهي في قوله ‏{‏ولا تُطِععِ الكافرين والمنافقين‏}‏ مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعاً عظيماً سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين‏.‏
وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل أقوالهم ليَيْأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبي صلى الله عليه وسلم ويلحّون عليه بالطلبات نصحاً تظاهراً بالإسلام‏.‏
والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسبُ بما سيعقبه من قوله ‏{‏مَا جَعَلَ الله لِرَجُللٍ مِنْ قَلْبَيْن في جوفه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ إلى آخر أحكام التبنِّي، والموافق لما روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه؛ ويجوز أن يكونوا اليهودَ كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول، ولو حمل على ما يعمّ نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيداً‏.‏
والطاعة‏:‏ العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة‏.‏ وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها، مثل أن يعدل عن تزوج مُطَلَّقة متبناه لقول المنافقين‏:‏ إن محمداً ينهَى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثة، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَخشى الناسَ والله أحق أن تَخشاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطِع الكافرين والمنافقين ودَعْ أذاهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ عقب قضية امرأة زيد‏.‏ ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجباً مصير المظاهرَة أُمًّا للمُظاهِر حراماً عليه قربانها أبداً، ولذلك أردفت الجملة بجملة ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ تعليلاً للنهي‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح‏.‏
ودخول ‏{‏إنّ‏}‏ على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغننٍ غناءها على ما بُيّن في غير موضع، وشاهده المشهور قول بشار‏:‏
بَكِّرَا صَاحِبَيّ قبل الهجير
إن ذاك النجاحَ في التبكير
وقد ذكر الواحدي في «أسباب النزول» والثعلبي والقشيري والماوردي في «تفاسيرهم»‏:‏ أن قوله تعالى ‏{‏ولا تُطِععِ الكافرين والمنافقين‏}‏ نزل بسبب أنه بعد وقعة أُحُد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السُّلَمي عَمرُو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبيّ ابن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبيّ ومعتِّب بن قُشير، والجدّ بن قيس، وطمعةَ بن أُبَيْرِق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش، فغضب المسلمون وهَمّ عُمر بقتل النفر القرشيين، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية، أي‏:‏ اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين وهم النفر القرشيون والمنافقين وهم عبد الله بن أبّي ومن معه‏.‏ وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏
‏(‏واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ‏[‏2‏]‏‏)‏ هذا تمهيد لما يرد من الوحي في شأن أحكام التبني وما يتصل بها ولذلك جيء بالفعل المضارع الصالح للاستقبال وجرد من علامة الاستقبال لأنه قريب من زمن الحال‏.‏ والمقصود من الأمر باتباعه أنه أمر باتباع خاص تأكيد للأمر العام باتباع الوحي‏.‏ وفيه إيذان بأن ما سيوحي إليه قريبا هو ما يشق عليه وعلى المسلمين من إبطال حكم التبني لأنهم ألفوه واستقر في عوائدهم وعاملوا المتبنين معاملة الأبناء الحق
ولذلك ذيلت جملة ‏(‏واتبع ما أوحي إليك‏)‏ بجملة ‏(‏إن الله كان بما تعملون خبيرا‏)‏ تعليلا للأمر بالاتباع وتأنيسا به لأن الله خبير بما في عوائدكم ونفوسكم فإذا أبطل شيئا من ذلك فإن إبطاله من تعلق العلم بلزوم تغييره فلا تتريثوا في امتثال أمره في ذلك فجملة ‏(‏إن الله كان بما تعملون خبيرا‏)‏ في موقع العلة فلذلك فصلت لأن حرف التوكيد مغن غناء فاء التفريع كما مر آنفا
وفي إفراد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله ‏(‏واتبع‏)‏ وجمعه بما يشمله وأمته في قوله ‏(‏بما تعملون‏)‏ إيماء إلى أن فيما سينزل من الوحي ما يشتمل على تكليف يشمل تغيير حالة كان النبي عليه الصلاة والسلام مشاركا لبعض الأمة في التلبس بها وهو حكم التبني إذ كان النبي متبنيا زيد بن حارثة من قبل بعثته
وقرأ الجمهور ‏(‏بما تعملون‏)‏ بتاء الخطاب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة لأن هذا الأمر أعلق بالأمة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده ‏(‏بما يعملون‏)‏ بالمثناة التحتية على الغيبة على أنه راجع للناس كلهم شامل للمسلمين والكافرين والمنافقين ليفيد مع تعليل الأمر بالاتباع تعريضا بالمشركين والمنافقين بمحاسبة الله إياهم على ما يبيتونه من الكيد وكناية عن إطلاع الله رسوله على ما يعلم منهم في هذا الشأن كما سيجيء ‏(‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم‏)‏ أي لنطلعنك على ما يكيدون به ونأذنك بافتضاح شأنهم
وهذا المعنى الحاصل من هذه القراءة لا يفوت في قراءة الجمهور بالخطاب لأن كل فريق من المخاطبين يأخذ حظه منه
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏
زيادة تمهيد وتوطئة لتلقي تكليف يترقب منه أذى من المنافقين مثل قولهم‏:‏ إن محمداً نهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج امرأة ابنه زيد بن حارثة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودَعْ أذَاهُم وتوكَّلْ على الله وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏؛ فأمره بتقوى ربه دون غيره، وأتبعه بالأمر باتباع وحيه، وعززه بالأمر بما فيه تأييده وهو أن يفوّض أموره إلى الله‏.‏
والتوكل‏:‏ إسناد المرء مُهمه وشأنه إلى من يتولى عمله وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏
والوكيل‏:‏ الذي يسند إليه غيره أمره، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونِعم الوكيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏
وقوله وَكيلاً‏}‏ تمييز نسبة، أي‏:‏ كفى الله وكيلاً، أي وكالته، وتقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏81‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏‏}‏
‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ فِى جَوْفِه‏}‏
استئناف ابتدائي ابتداءَ المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد، فهذا مقدمة لِما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه مِما يوحَى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوَال المنافية للحقائق، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق، وهي التي تَرِينُ على القلوب بتلبيس الأشياء‏.‏
وذُكر ها هنا نوعان من الحقائق‏:‏
أحدهما‏:‏ من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاماً لم يجعله في خلق غيرهم‏.‏
وثاني النوعين‏:‏ من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء‏.‏ وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أُشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جَعَل أزواجكم اللاّء تَظَّهَّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق‏}‏، أي‏:‏ لا يقول الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل‏.‏ والمقصود‏:‏ التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادّعوها‏.‏ وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شُبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال‏.‏
والإشارة بقوله ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ويقال‏:‏ ابن أسد بن حبيب الجُمحي الفهري وكان رجلاً داهية قوي الحفظ أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدْعونه ذَا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل‏.‏ وقد غرّه ذلك أو تغارر به فكان لشدة كفره يقول‏:‏ «إن في جوفي قلبين أعمَل بكل واحد منهما عَملاً أفضل من عمل محمد»‏.‏ وسمّوا بذي القلبين أيضاً عبد الله بن خطل التيمي، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبراً يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعفُ عنه، فنفت الآية زعمهم نفياً عاماً، أي‏:‏ ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل، فوقوع ‏{‏رجل‏}‏ وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم، ووقوع فعل ‏{‏جعل‏}‏ في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي‏.‏
ودخول ‏{‏مِن‏}‏ على ‏{‏قلبين‏}‏ للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان، عن كل رجل من الناس، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيّاً كان‏.‏
ولفظ ‏{‏رجل‏}‏ لا مفهوم له لأنه أُريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جرياً على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضاً أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب‏.‏
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي، أي‏:‏ ما خَلَق الله رجلاً بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيداً لإبطال ما تواضعوا عليه من جعْل أحدٍ ابناً لمن ليس هو بابنه، ومِن جَعْل امرأة أمّاً لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعُون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق، فإن البنوة والأمومة صفتان من أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف‏.‏
فأما قوله تعالى ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج؛ ألا ترى ما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إنما أنا أخوك، فقال رسول الله‏:‏ أنت أخي وهي لي حلال ‏"‏ أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله «أنت أخي وهي لي حلال»‏.‏
والجوف‏:‏ باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ‏.‏
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولكن تعمى القُلوبُ التي في الصُّدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ ونحوه من القيود المعلومة؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيراً بما هو معلوم وتجديداً لتصوره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ وقد تقدم في سورة الأنعام ‏(‏38‏)‏‏.‏
‏{‏وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمَّهاتِكُم‏}‏
عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقاً لا رجعة فيه بحال يقول لها‏:‏ «أنتِ عليّ كظهر أمي» هذه صيغته المعروفة عندهم، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أُمّاً له، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أُبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيداً لتشريع إبطال التبني تنظيراً بين هذه الأوهام إلاّ أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية‏.‏
و ‏{‏اللاَّء‏:‏ اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع ‏(‏التي‏)‏، لأنه على غير قياس صِيغ الجمع، وفيه لغات‏:‏ اللاّءِ مكسور الهمزة أبداً بوزن الباببِ، واللاّئي بوزن الداعي، والاَّءِ بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء‏.‏
وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر اللاءِ‏}‏ بهمزة مكسورة غير مشبعة وهو لغة‏.‏ وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏واللائِي‏}‏ بياء بعد الهمزة بوزن الدّاعي، وقرأه أبو عمرو والبزّي عن ابن كثير ويعقوب و‏{‏اللاّيْ‏}‏ بياء ساكنة بعد الألف بدلاً عن الهمزة وهو بدل سماعي، قيل‏:‏ وهي لغة قريش‏.‏ وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر‏.‏ وروي ذلك عن أبي عمرو والبَزّي أيضاً‏.‏
وذِكر الظهر في قولهم‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها، وذكر الظهر تخييلاً كما ذُكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة‏.‏
وقولهم‏:‏ أنت عليَّ، فيه مضافٌ محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير‏:‏ غَشَيَانُك، وكلمة «عليّ» تؤذن بمعنى التحريم، أي‏:‏ أنت حرام عليّ، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي‏.‏ ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف ‏(‏مِن‏)‏ الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها‏.‏
فلما قال الله تعالى ‏{‏اللائي تُظّهّرون منهن‏}‏ علم الناس أنه يعني قولهم‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي‏.‏
والمراد بالجعل المنفي في قوله ‏{‏وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم‏}‏ الجعل الخَلْقي أيضاً كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، أي‏:‏ ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخَلْقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أمهاتُهم إلا اللاّءِ ولدْنهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏ وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيداً لإبطال التبنّي بشبه أنّ كليهما ترتيب آثار ترتيباً مصنوعاً باليد غير مبني على جعل إلهي‏.‏ وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافاً لما درَج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب «الإتقان»‏.‏
وقال السيوطي‏:‏ في هذا الترتيب نظر‏.‏ وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تَظَّهَّرون‏}‏ بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون ألف وتشديد الهاء مفتوحة‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏تُظَاهِرون‏}‏ بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف‏:‏ ‏{‏تَظَاهرون‏}‏ بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء‏.‏
‏{‏وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُم‏}‏
هذا هو المقصود الذي وُطِّئ بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه‏.‏ وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها‏.‏
والقول في المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ما جَعَل‏}‏ كالقول في نظيره من قوله ‏{‏وما جَعَل أزواجكم اللاّءِ تظهرون منهن أمهاتكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم تنسبون الأدعياء أبناءً فتقولون للدعيّ‏:‏ هو ابن فلان، للذي تبناه، وتجعلون له جميع ما للأبناء‏.‏
والأدعياء‏:‏ جمع دَعِيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقاً من مادة الادّعاء، والادّعاء‏:‏ زعم الزاعم الشيء حقاً له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أباً له؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق، فالدعي لم يجعله الله ابناً لمن ادّعاه للعِلم بأنه ليس أباً له، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابناً لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له‏.‏ وجُمع على أفْعِلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى، والأصح أن أفْعِلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول‏.‏
نزلت هذه الآية في إبطال التبني، أي‏:‏ إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقية من الإرث، وتحريم القرابة، وتحريم الصهر، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنَّى أحكام البنوة كلها، وكان من أشهر المتبنَيْنَ في عهد الجاهلية زيدُ بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عُمر بن الخطاب، وسالم تبناه أبو حذيفة، والمقدادُ بن عمرو تبناه الأسودُ بن عبد يغوث، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابناً للذي تبنّاه‏.‏
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآيةُ في شأنه كان غريباً من بني كَلْب من وبَرة، من أهل الشام، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيداً فبقيا في حجر جدهما، ثم جاء عماهما فطلبا من الجدّ كفالتهما فأعطاهما جبلة وبَقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيداً فأخذ جدّه يبحث عن مصيره، وقال أبياتاً منها‏:‏
بكيت على زيد ولم أدر ما فعلْ *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
وأنه علم أن زيداً بمكة وأن الذين سَبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمناً ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ أشهد النبي قريشاً أن زيداً ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يُدعَى‏:‏ زيد بن محمد، وذلك قبل البعثة‏.‏
وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة‏.‏
‏{‏ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيل‏}‏
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعاً، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها‏.‏
والإشارة إلى مذكور ضمناً من الكلام المتقدم، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل، ومن كون الزوجة المظاهَر منها أُمّاً لمن ظاهر منها، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم‏.‏ وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النِسَب الكلامية الصادقة النِسبَ الخارجية، وإلاّ فلاَ جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه‏.‏
ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله ‏{‏بأفواهكم‏}‏ فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر ‏{‏بأفواهكم‏}‏ مع العلم به مشيراً إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ أي‏:‏ لا تتجاوز ذلك الحد، أي‏:‏ لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لَعَلِّيَ أعملُ صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99 100‏]‏، فعلم من تقييده ‏{‏بأفواهكم‏}‏ أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحاً بقوله ‏{‏والله يقول الحق‏}‏ فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب‏.‏ ولهذا عطفت عليه جملة ‏{‏والله يقول الحق‏}‏ لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله ‏{‏ما جعل الله‏}‏ الخ‏.‏ فمعنى كونها أقوالاً‏:‏ أن ناساً يقولون‏:‏ جميل له قلبان، وناساً يقولون لأزواجهم‏:‏ أنت كظهر أمي، وناساً يقولون للدعي‏:‏ فلان ابن فلان، يريدون مَن تبناه‏.‏
وانتصب ‏{‏الحقَ‏}‏ على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل ‏{‏يقول‏.‏‏}‏ تقديره‏:‏ الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو ‏{‏إنها كلمةٌ هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، فالهاء المضاف إليها ‏(‏قائل‏)‏ عائدة إلى ‏{‏كلمة‏}‏ وهي مفعول أضيف إليها‏.‏ وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب، أي‏:‏ هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام‏.‏
ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلاً ومجهلة‏.‏ فالمعنى‏:‏ وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل‏.‏
و ‏{‏السبيل‏:‏ الطريق السابلة الواضحة، أي‏:‏ الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها‏.‏ وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظاً ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيداً للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد‏.‏
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏
استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبنّي وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه‏.‏ وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابناً له‏.‏ والمراد بالدعاء النسب‏.‏ والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم‏.‏
واللام في ‏{‏لآبائهم‏}‏ لام الانتساب، وأصلها لام الاستحقاق‏.‏ يقال‏:‏ فلان لفلان، أي‏:‏ هو ابنه، أي‏:‏ ينتسب له، ومنه قولهم‏:‏ فلان لِرَشْدَةٍ وفلان لِغَيَّةٍ، أي‏:‏ نسبَه لها، أي‏:‏ من نكاح أو من زنا، وقال النابغة‏:‏
لئن كان للقبرين قبر بجلق *** وقبر بصيداء الذي عند حارب
أي‏:‏ من أبناء صاحبي القبرين‏.‏ وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث‏:‏
فلست لأنْسِي ولكن لِمَلاك *** تنزل من جو السماء يصوب
وفي حديث أبي قتادة‏:‏ «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً أمَامة ابنة بنته زينبَ ولأبِي العاص بن ربيعة» فكانت اللامُ مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص‏.‏
وضمير ‏{‏هو أقسط عند الله‏}‏ عائد إلى المصدر المفهوم من فعل ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ أي‏:‏ الدعاء للآباء‏.‏ وجملة ‏{‏هو أقسط‏}‏ استئناف بياني كأنَّ سائلاً قال‏:‏ لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم‏؟‏ فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي‏:‏ هو قسط كامل وغيره جورٌ على الآباء الحق والأدعياء، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق‏.‏ والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ لتُعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبنّي، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفاً ألفوه‏.‏
ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم،‏}‏ فجَمَع فيه تأكيداً للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، وتأنيساً للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالاً حقاً لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالماً متبنى أبي حذيفة‏:‏ سالماً مولى أبي حذيفة، وغيرَه، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو‏:‏ المقداد بن الأسود، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبنّاه في الجاهلية كما تقدم‏.‏
قال القرطبي‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال المقدادُ‏:‏ أنا المقداد بن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِقَ ذلك عليه ولو كان متعمداً اه‏.‏ وفي قول القرطبي‏:‏ ولو كان متعمداً، نظر، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يُطلق ذلك عليه‏.‏ ولعله جرى على ألسنة الناس المقدادُ بن الأسود فكان داخلاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به‏}‏ لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة‏.‏
وارتفاع ‏{‏إخوانُكم‏}‏ على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء، أي‏:‏ فهم لا يَعْدُون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا مواليَ أو يوصفوا بالموالي إن كانوا مواليَ بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام‏.‏ والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين‏.‏
والواو للتقسيم وهي بمعنى ‏(‏أو‏)‏ فتصلح لمعنى التخيير، أي‏:‏ فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك‏.‏ وهذا توسعة على الناس‏.‏
و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية، أي‏:‏ إخوانكم أخوة حَاصِلة بسبب الدّين كما يجمع الظرف محتوياته، أو تجعل ‏{‏في‏}‏ للتعليل والتسبب، أي‏:‏ إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أوذي في الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 10‏]‏، أي‏:‏ لأجل الله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبُنوّة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلاً بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحَالف فالحقُّ أن يُدْعَوا بذلك الوصف، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء من تَبنَّوْهم‏.‏
والمراد بالولاء في قوله ‏{‏ومواليكم‏}‏ ولاء المحَالفة لا ولاء العتق، فالمحالفة مثل الأخوة‏.‏ وهذه الآية ناسخة لما كان جارياً بين المسلمين ومن النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المُتَبَنَّيْن إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن‏.‏ وذلك مراد من قال‏:‏ إن هذه الآية نسخت حكم التبنّي‏.‏
قال في «الكشاف»‏:‏ «وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغْبَى عن عالم بطرق النظم»‏.‏ وبيّنه الطيبي فقال‏:‏ يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا‏.‏ وبيانُه‏:‏ أن الأوامر والنهي في ‏{‏اتق‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏ولاَ تطع‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏واتّبع‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏وتَوكل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏، فإن الاستهلال بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معْنِيَ شأنه لائح منه الإلهاب، ومن ثم عَطف عليه ‏{‏ولا تطع‏}‏ كما يعطف الخاص على العام، وأردَف به النهي، ثم أمَر بالتوكل تشجيعاً على مخالفة أعداء الدين، ثم عَقَّب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم، وعلل ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏ بقوله ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ تتميماً للارتداع، وعلل قوله ‏{‏واتبع ما يوحى إليك‏}‏ بقوله ‏{‏إن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2‏]‏ تتميماً، وذَيل قوله ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ بقوله ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏ تقريراً وتوكيداً على منوال‏:‏ فلان ينطق بالحَق والحقُ أبلج، وفصل قوله ‏{‏ما جعَل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ على سبيل الاستئناف تنبيهاً على بعض من أباطيلهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم قولكم بأفواهكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله‏.‏ ووَصل قوله ‏{‏والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل‏}‏
‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المجمل في ‏{‏ولا تطع‏}‏ و‏{‏اتبع،‏}‏ وفَصل قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله‏}‏ وقوله ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وهلم جرّاً إلى آخر السورة تفصيلاً لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم اه‏.‏
‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل‏:‏ ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ‏.‏
والجناح‏:‏ الإثم، وهو صريح في أن الأمر في قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ أمر وجوب‏.‏
ومعنى ‏{‏فيما أخطأتم به‏}‏ ما يجري على الألسنة خارجاً مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا‏:‏ فلان ابن فلان للدّعي ومتبنيه، ولذلك قابله بقوله ‏{‏ولكن ما تعمّدت قلوبكم‏}‏ أي‏:‏ ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه‏.‏ وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لِدَعِيِّه‏:‏ هو ابني، ولا يقول‏:‏ تبنيت فلاناً، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قولُ الرجل‏:‏ أنزلت فلاناً منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني‏.‏ وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت‏.‏ وأما إذا قال لمن ليس بابنه‏:‏ هو ابني، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوبُ مجهول النسب ولم يكن الناسب مريداً التلطف والتقريب‏.‏ وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال‏:‏ هو ابني، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سناً ثبت نسبه منه، وإن كان عبده عَتق أيضاً، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه فقالا‏:‏ لا يعتق عليه‏.‏ وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبداً يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده‏:‏ هو أخي، لم يعتق عليه إذا قال‏:‏ لم أرِدْ به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية، وإذا قال أحد لدعيّه‏:‏ يا بني، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة‏.‏
وقوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمرُ دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحَسن رضي الله عنه‏:‏ «إنّ ابني هذا سيّد» وقال‏:‏ «لا تُزْرِموا ابني» أي‏:‏ لا تقطعوا عليه بوله‏.‏ وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعيٍ له‏:‏ يا ابني، تلطّفاً وتقرباً، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعياً للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت، قال الشاعر‏:‏
أنتِ أختي وأنت حرمة جاري *** وحرام عليّ خون الجوار
ويَدعون من هو أكبر باسم العم كثيراً، قال النمر بن تولب‏:‏
دعاني الغواني عَمَّهن وخلتُني *** لي اسم فلا أدعى به وهو أول
يريد‏:‏ أنهن كنّ يدعونه‏:‏ يا أخي‏.‏
ووقوع ‏{‏جناح‏}‏ في سياق النفي ب ‏{‏ليس‏}‏ يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضاً معْضود بتصرفات كثيرة في الشريعة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسِينا أو أخطأنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أُكرِهُوا عليه»‏.‏ ويفهم من قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ النهيُ عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يَقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»‏.‏ ويخرج من النهي قول الرجل لآخر‏:‏ أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس، كقول أبي الطيب يُرقق سيف الدولة‏:‏
إنما أنتَ والد والأبُ القا *** طع أحنَى من واصل الأولاد
وجملة ‏{‏كان اللَّه غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏ تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏
‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏
استئناف بياني أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوّة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالاً في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي علاقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبي وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ تفضيلية‏.‏
ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس، أي‏:‏ أن النبي أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن، أي‏:‏ هو أشد ولاية، أي‏:‏ قرباً لكل مؤمن من قرب نفسه إليه، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة‏.‏ ف ‏{‏أولى‏}‏ اسم تفضيل من الوَلْي وهو القرب، أي‏:‏ أشد قرباً‏.‏ وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلِّقه ببناء المصاحبة والملابسة‏.‏ والكلام على تقدير مضاف، أي‏:‏ أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة‏.‏
والأنفس‏:‏ الذوات، أي‏:‏ هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم‏.‏ ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم «لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلاّ من نفسي التي بين جنبَيّ» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه‏.‏ فقال عمر‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي»‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله‏:‏ ‏{‏إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي‏:‏ من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏، أي‏:‏ يقتل بعضكم بعضاً، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏
والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب‏.‏ وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدْوَن، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال‏:‏ لأنت أحب إليّ إلا مِن نفسي التي بين جنبيّ‏.‏ وعلى كلا الوجهين فالنبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه‏.‏
وسننبه عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ فكانت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين‏.‏
وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏"‏ ولِما علمتَ من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدّى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته، وقد بينه قول النبي‏:‏ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه‏.‏ وهذا ملاك معنى هذه الآية‏.‏
‏{‏مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏
عَطَف على حقوق النبي صلى الله عليه وسلم حقوقَ أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعَل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله ‏{‏وما جعَل أزواجَكُم اللاء تظّهرون منهنّ أمهاتكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبي صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبي والخلفاء الراشدون يتوخّون حُسن معاملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهنّ بالخير والكرامة والتعظيم‏.‏ وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمونة‏:‏ «هذه زوج نبيئكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا» رواه مسلم‏.‏ وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم‏.‏ ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن، فلا يُحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن‏.‏
وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال‏:‏ بنُو فلان أخوال فلان، إذا كانوا قبيلة أمه‏.‏
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي‏:‏ أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين‏؟‏ فقالوا‏:‏ ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين‏.‏
ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبرمن أمهات المؤمنين‏.‏
وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهَمَّ عمر برجمها‏.‏ فقالت‏:‏ لِمَ وما ضرَب عليّ النبي حجاباً ولا دُعيت أمَّ المؤمنين‏؟‏ فكفَّ عنها‏.‏ وهذه المرأة هي ابنة الجَون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس‏.‏ وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها‏.‏ وهو قول الشافعي وصححه في «الروضة»، واللآء طلّقهنُ الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين، قيل‏:‏ تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ لا يثبت لهن ذلك، والأول أرجح‏.‏ وقد أُكد حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله ‏(‏تعالى‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكِحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة‏.‏
وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها‏:‏ وهو أب لهم‏.‏ وروي مثله عن أُبَيّ بن كعب وعن ابن عباس‏.‏ وروي عن عكرمة‏:‏ كان في الحرف الأول «وهو أبوهم»‏.‏
ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ أكثر من مفاد هذه القراء‏.‏
‏{‏وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكِتَابِ مَسْطُوراً‏}‏
أعقب نسخ أحكام التبنّي التي منها ميراث المتبنِّي مَن تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المَواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل بالمدينة مع من هاجر معه، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلاً أخاً له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين الزبير وكعب بن مالك، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان وأبي الدرداء، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زماناً كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، كما نسخ التوارث بالتبنّي بآية ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي‏.‏
فالمراد بأولي الأرحام‏:‏ الإخوة الحقيقيون‏.‏ وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب، فبينت الآية أن أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعمَّ هذا جميع أولي الأرحام وخُصص بقوله ‏{‏من المؤمنين والمهاجرين‏}‏ على أحد وجهين في الآيتين في معنى ‏{‏مِن‏}‏ وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، فالمعنى‏:‏ أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيَّده الدليل‏.‏
والآية مبيّنة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث‏.‏ وتقدم الكلام على لفظ ‏{‏أولوا‏}‏ عند قوله تعالى ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏197‏)‏‏.‏
ومعنى في كتاب الله‏}‏ فيما كتبه، أي‏:‏ فرضه وحكم به‏.‏ ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال‏.‏ وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه‏.‏
و ‏{‏أولوا الأرحام‏}‏ مبتدأ، و‏{‏بعضهم‏}‏ مبتدأ ثان و‏{‏أوْلَى‏}‏ خبرُ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول، و‏{‏في كتاب الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏أوْلى‏.‏
وقوله من المؤمنين والمهاجرين‏}‏ يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو ‏{‏أولى‏}‏ فتكون ‏{‏مِن‏}‏ تفضيلية‏.‏ والمعنى‏:‏ أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية، أي‏:‏ الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين‏.‏ وأريد بالمؤمنين خصوصُ الأنصار بقرينة مقابلته بعطف ‏{‏والمهاجرين‏}‏ على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويهاً بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دَفعة واحدة لمّا أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم‏.‏ فالمعنى‏:‏ كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجراً، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار، فيكون هذا ناسخاً للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال ‏(‏72‏)‏‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولاَيَتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر، ثم نسخ بآية هذه السورة‏.‏ ويجوز أن يكون قوله ‏{‏من المؤمنين‏}‏ ظرفاً مستقرّاً في موضع الصفة، أي‏:‏ وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، بعضهم أولى ببعض، أي‏:‏ لا يرث ذو الرحم ذا رحمه إلا إذا كانا مؤمنيْن ومهاجرين، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة، وأيّاً مَّا كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ بيانية، أي‏:‏ وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون، أي‏:‏ فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَروا بعضُهم أولياء بعض‏}‏
‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏
والاستثناء بقوله ‏{‏إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً‏}‏ منقطع، و‏{‏إلا‏}‏ بمعنى ‏(‏لكنْ‏)‏ لأن ما بعد ‏{‏إلا ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف‏.‏ وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أُبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبَقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء‏.‏
وجملة كان ذلك في الكتاب مسطوراً‏}‏ تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شُرعت من قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ إلى هنا، فالإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعمّ مما اقتضاه قوله ‏{‏بعضهم أوْلَى ببعض في كتاب الله‏.‏‏}‏ وبهذا الاعتبار لم يكن تكريراً له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعاً وهذا شأن التذييلات‏.‏
والتعريف في ‏{‏الكِتَاب‏}‏ للعهد، أي‏:‏ كتاب الله، أي‏:‏ ما كتبه على الناس وفرضه كقوله ‏{‏كتابُ الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي، كما قال الحارث بن حلزة‏:‏
حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء
ومعنى هذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏75‏)‏‏.‏ فالكتاب‏:‏ استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة‏.‏
والمسطور‏:‏ المكتوب في سطور، وهو ترشيح أيضاً للاستعارة وفيه تخييل للمكنية‏.‏
وفعل كان‏}‏ في قوله ‏{‏كان ذلك‏}‏ لتقوية ثبوته في الكتاب مسطوراً، لأن ‏{‏كان‏}‏ إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالباً مثل ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ لم يزل كذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏
‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏
عطف على قوله ‏{‏يا أيها النبي اتق الله ولا تُطِع الكافرين والمنافقين إلى قوله‏:‏ وكفى بالله وكيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1 3‏]‏ فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده الله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام‏.‏
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثُني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيئين والمرسلين من أول عهود الشرائع‏.‏ وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله‏:‏ ‏{‏كان ذلك في الكتاب مسطوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين، فعُلم أن المعنى‏:‏ وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به‏.‏ وقوله ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً‏}‏ فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين، أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله، ولذلك عطف قوله ومنك‏}‏ عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية ‏{‏يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة‏.‏
وقوله ‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم‏}‏ الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيئين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به، وأن ينصروا دين الإسلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لَمَا ءاتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتُؤْمِنُنَّ به ولتنصرُنّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً‏}‏ وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه ‏{‏ليجزي الله الصادقين بِصدْقِهم ويعذِّب المنافقين‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏
وقد جاء قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم‏}‏ جارياً على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها ب ‏{‏إذْ‏}‏ على إضمار ‏(‏اذكر‏)‏‏.‏ و‏{‏إذْ‏}‏ اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية‏.‏ فالتقدير‏:‏ واذكر وقتاً، وبإضافة ‏{‏إذ‏}‏ إلى الجملة بعده يكون المعنى‏:‏ اذكر وقتَ أخذِنا ميثاقاً على النبيئين‏.‏ وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة‏.‏ وجُماعها أن يقولوا الحق ويبلِّغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين، ولا خشية منهم، ولا مجاراة للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم‏.‏
وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر‏.‏ ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله‏.‏ ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ وقوله في ميثاق أهل الكتاب ‏{‏ألَمْ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏169‏)‏‏.‏
وفي تعقيب أمر الرسول بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتّباع ما يوحى إليه، وأمره بالتوكل على الله، وجعلها قبل قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الخ‏.‏‏.‏ إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ ردّ عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيراً ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه‏.‏
والميثاق‏:‏ اسم العهد وتحقيق الوعد، وهو مشتق من وثق، إذا أيقن وتحقق، فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏27‏)‏‏.‏ وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به‏.‏ ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وقوله ‏{‏ومنك ومن نوح‏}‏ الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل، وقد ذُكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود‏.‏ ولهذه النكتة خص ضمير النبي بإدخال حرف ‏(‏من‏)‏ عليه بخصوصه، ثم أدخل حرف ‏(‏مِن‏)‏ على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين‏:‏ اهتمام التقديم، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام‏.‏
وسيجيء أن ما في سورة الشورى من تقديم ‏{‏ما وصَّى به نوحاً على والذي أوحينا إليك‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ أعادت مضمون جملة ‏{‏وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم‏}‏ لزيادة تأكيدها، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، أي‏:‏ عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب ‏{‏غليظاً‏}‏ أفاد أن له عظماً خاصاً، وليعلّق به لام التعليل من قوله ‏{‏لِيَسْأل الصادقين‏}‏‏.‏
وحقيقة الغليظ‏:‏ القويّ المتين الخلق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستغلظ فاستوى على سوقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه‏.‏
واللام في قوله ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏ لام كي، أي‏:‏ أخذنا منهم ميثاقاً غليظاً لنعظّم جزاءً للذين يُوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ولنُشدِّد العذاب جزاءً للذين يكفرون بما جاءتهم به رسل الله، فيكون من دواعي ذكر هذا الميثاق هنا أنه توطئة لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين زيادة على ما ذكرنا من دواعي ذلك آنفاً‏.‏ وهذه علة من علل أخذ الميثاق من النبيئين وهي آخر العِلل حصولاً فأشعر ذكرُها بأن لهذا الميثاق عِللاً تحصل قبل أن يُسْأل الصادقون عن صدقهم، وهي ما في الأعمال المأخوذ ميثاقهم عليها من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك هو ما يُسأل العاملون عن عمله من خير وشرٍ‏.‏
وضمير ‏{‏يسأل‏}‏ عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة‏.‏
والمراد بالصادقين أمم الأنبياء الذين بلغهم ما أُخذ على أنبيائهم من الميثاق، ويقابلهم الكافرون الذين كذبوا أنبياءهم أو الذين صدقوهم ثم نقضوا الميثاق من بعد، فيشملهم اسم الكافرين‏.‏
والسؤال‏:‏ كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداء الثواب للصادقين وعذاب الكافرين، وهذا نظير قوله تعالى ‏{‏لا يُسْألُ عمّا يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏، أي‏:‏ لا يتعقب أحد فعله ولا يؤاخذه على ما لا يلائمه، وقول كعب بن زهير‏:‏
وقيل‏:‏ إنك منسوب ومسؤول ***
وجملة ‏{‏وأعد للكافرين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ليسأل الصادقين‏}‏ وغُيّر فيها الأسلوب للدلالة على تحقيق عذاب الكافرين حتى لا يتوهم أنهم يسألون سؤال من يُسْمَع جوابُهم أو معذرتُهم، ولإفادة أن إعداد عذابهم أمر مضى وتقرر في علم الله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً‏.‏ فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيئهم صلى الله عليه وسلم
واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبةُ الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من النِعم التي حفّت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله ردّ كيد الكافرين والمنافقين فذُكِّر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبنّي وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مطلَّقة متبناه، ولذلك خصّ المنافقون بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ الآيات؛ على أن قضية إبطال التبنّي وإباحة تزوّج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للزمن الماضي متعلق ب ‏{‏نعمة‏}‏ لما فيها من معنى الإنعام، أي‏:‏ اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لم تروها‏.‏
وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات‏.‏
وكان سبب هذه الغزوة أن قريشاً بعد وقعة أُحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عُصَيَّةَ، ورِعْل، وذَكوان من بني سُليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجدٍ يَدعونهم إلى الإسلام‏.‏ وكان ذلك كيداً كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أُحد‏.‏
فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النَضير لِما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلاّم بن أبي الحُقَيق بتشديد لام سلاّم وضم حاء الحُقيق وفتح قافه وكنانة بنُ أبي الحُقيق، وحُيي بن أخطب بضم حاء حُيَي وفتح همزة وطاء أخطب وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطُفَيل‏.‏
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغتْه إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرةَ عدوّهم، وأشار سلمان الفارسي أن يُحْفر خندق يحيط بالمدينة تحصيناً لها من دخول العدوّ فاحتفره المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ سنة خمس‏.‏ وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابنُ رشد في «جامع البيان والتحصيل» اتباعاً لما اشتهر، وقول مالك أصحّ‏.‏
وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوْا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا، أي‏:‏ صاروا حِزباً واحداً، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب، وورود غطفان وهوازنَ من أعلى الوادي من جهة المشرق، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرف وزُغَابة بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة وبعضهم يقول‏:‏ والغابة، والتحقيق هو الأول كما في «الروض الأنف»، ونزل جيش غطفان وهوازن بذَنَب نَقْمَى إلى جانب أُحُد، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سَلْع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندقُ بينهم وبين العدوّ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة‏.‏ وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ودام الحال كذلك بضعاً وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلْع وقُتل أحدهم قتلَه علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه، وأصاب سهمٌ غرْب سعد بن معاذ في أكْحله فكان منه موته في المدينة‏.‏ ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتاباً في ذلك، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معَاذ‏:‏ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بَيْعاً، أفحين أكرَمَنا الله بالإسلام وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه‏.‏
وأرسل الله على جيش المشركين ريحاً شديدة فأزالت خيامهم وأكْفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم، واختلّ أمرهم، وهلك كراعهم وخُفهم، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعاً إلى المدينة‏.‏
فقوله تعالى ‏{‏إذ جاءتكم جنودٌ‏}‏ ذُكر توطئة لقوله ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ الخ لأن ذلك هو محلّ المِنّة‏.‏ والريح المذكورة هنا هي ريح الصَّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم‏.‏ وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم «نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عاد بالدبور»‏.‏ والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم‏.‏
وجملة ‏{‏وكان الله بما تعملون بصيراً‏}‏ في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله ‏{‏نعمة الله‏}‏ وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال ‏{‏ولينصُرَنّ الله مَنْ ينصره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بما تعملون بصيراً‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات‏.‏
والجنود الأوُّل جمع جند، وهو الجمع المتّحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش‏.‏ وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى ‏{‏جندٌ مَّا هنالك مهزوم من الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما فصل طالوت بالجُنود‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏‏.‏
والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد‏.‏ والمراد بهم ملائكة أُرسِلوا لِنَصْر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏
‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏
‏{‏إذ جاءوكم‏}‏ بدل من ‏{‏إذ جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ بدلَ مفصَّل من مجمل‏.‏ والمراد ب ‏(‏فوق‏)‏ و‏{‏أسفل‏}‏ فوق جهة المدينة وأسفلها‏.‏
و ‏{‏وإذا زاغت الأبصار‏}‏ عطف على البدل وهو من جملة التفصيل، والتعريف في ‏{‏الأبصار والقلوب والحناجر للعهد، أي‏:‏ أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها، أي‏:‏ زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم‏.‏
والزَيغ‏:‏ الميل عن الاستواء إلى الانحراف‏.‏ فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار‏.‏
والحناجر‏:‏ جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم‏:‏ منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة‏.‏ وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين‏.‏ وليس الكلام على الحقيقة، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريبٌ منه قولهم‏:‏ تنفّس الصُعَداء، وبلغت الروح التراقيَ‏.‏
وجملة وتظنون بالله الظنونا‏}‏ يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏زاغت الأبصار‏}‏ ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء‏.‏
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها‏.‏
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به‏.‏
وحذف مفعولا ‏{‏تظنون‏}‏ بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصاراً، أي‏:‏ للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، وهو حذف مستعمل كثيراً في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يَرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وظننتم ظن السوء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏، وقول المثل‏:‏ من يسمع يَخل، ومنعه سيبويه والأخفش‏.‏
وضُمِّن ‏{‏تظنّون‏}‏ معنى تُلحقون، فعدي بالباء فالباء للملابسة‏.‏ قال سيبويه‏:‏ قولهم‏:‏ ظننت به، معناه‏:‏ جعلته موضع ظنّي‏.‏ وليست الباء هنا بمنزلتها في ‏{‏كفى بالله حسيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، أي‏:‏ ليست زائدة، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت‏:‏ ظننت في الدار، ومثله‏:‏ شككت فيه، أي‏:‏ فالباء عنده بمعنى ‏(‏في‏)‏‏.‏
والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصِّمَّة‏:‏
فقلت لهم‏:‏ ظُنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى ‏{‏فما ظنكم برب العالمين‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏87‏)‏‏.‏
وانتصب ‏{‏الظنونا‏}‏ على المفعول المطلق المبين للعدد، وهو جمع ظن‏.‏ وتعريفه باللام تعريف الجنس، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة‏:‏
أبيتك عارياً خلقاً ثيابي *** على خوف تظن بي الظنون
وكتب ‏{‏الظنونا‏}‏ في الإمام بألف بعد النون، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف، لأن الفواصل مثل الأسْجاع تعتبر موقوفاً عليها لأن المتكلم أرادها كذلك‏.‏ فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة، كما زيدت الألف في قوله تعالى ‏{‏وأطعنا الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏
وعن أبي علي في «الحجة»‏:‏ من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقواففٍ‏.‏
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل‏.‏ وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن‏.‏ وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي‏.‏
والإشارة ب ‏{‏هُنَالك‏}‏ إلى المكان الذي تضمنه قوله ‏{‏جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وقوله ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم‏.‏‏}‏ والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه ‏{‏إذْ في قوله‏:‏ وإذ زاغت الأبصار‏.‏‏}‏ وكثيراً ما ينزّل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية‏:‏ ‏{‏هنالك‏:‏ ظرف زمان والعامل فيه ابتلي‏}‏ اه‏.‏ قلت‏:‏ ومنه دخول ‏(‏لات‏)‏ على ‏(‏هَنّا‏)‏ في قول حجل بن نضلة‏:‏
خنت نَوارُ ولات هَنَّا حِنت *** وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن ‏(‏لات‏)‏ خاصة بنفي أسماء الزمان فكان ‏(‏هَنَّا‏)‏ إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في ‏(‏هُنا‏)‏‏.‏ ويقولون‏:‏ يومُ هُنَا، أي يوم أول، فيشيرون إلى زمن قريب، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع‏.‏
والابتلاء‏:‏ أصله الاختبار، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم‏.‏
والزلزال‏:‏ اضطراب الأرض، وهو مضاعف زَلّ تضعيفاً يفيد المبالغة، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالاً شديداً بحيث تُخَيَّل مضطربة اضطراباً شديداً كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطراباً للحاقه أعظم جسم في هذا العالم‏.‏ ويقال‏:‏ زُلْزِلَ فلان، مبنياً للمجهول تبعاً لقولهم‏:‏ زُلزلت الأرض، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عُرفاً‏.‏ وهذا هو غالب استعماله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقُهم عَدداً وعُدة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏
‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏وإذْ زاغتْ الأبصار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب‏.‏
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم ‏{‏ما وَعَدَنا الله ورسوله‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون ‏{‏إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏
والغرور‏:‏ ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏196‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُخْرف القول غروراً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏112‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر‏.‏ والذين في قلوبهم مرض‏}‏ هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه‏.‏
والمراد بالطائفة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا‏}‏ عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه‏.‏ كذا قال السدي‏.‏ وقال الأكثر‏:‏ هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ‏:‏
رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه‏.‏ والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم‏.‏
وقوله ‏{‏لا مقام لكم‏}‏ قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي‏:‏ الوجود‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي‏:‏ محلّ الإقامة‏.‏ والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد‏.‏
و ‏{‏يثرب‏}‏‏:‏ اسم مدينة الرسول، وقال أبو عبيدة يثرب‏:‏ اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي‏:‏ اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض‏.‏ سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح‏.‏ وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة‏.‏
وفي قوله ‏{‏يا أهل يثرب لا مقام لكم‏}‏ محسِّنٌ بديعيّ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن‏.‏
والمراد بقوله ‏{‏فريق منهم‏}‏ جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وليسوا فريقاً من الطائفة المذكورة آنفاً، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي‏:‏ غير حصينة‏.‏
وجملة ‏{‏ويستأذن فريق‏}‏ عطف على جملة ‏{‏قالت طائفة‏}‏، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلِحُّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه‏.‏
والعورة‏:‏ الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد‏:‏
وأجَنَّ عوراتتِ الثغورِ ظَلامُها ***
والاستئذان‏:‏ طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيَوا‏.‏ ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم‏.‏ وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه‏.‏ وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، وأيضاً فإن في الفعل المضارع من قوله ‏{‏يستأذن‏}‏ إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستَعلم ذلك، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سَلِمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏ هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أُحُد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أن بني سَلِمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» أي خُطاكم‏.‏ فهذا الفريق منهم يعتلُّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها‏.‏
والتأكيد بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ في قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ تمويه لإظهار قولهم ‏{‏بيوتنا عورة‏}‏ في صورة الصدق‏.‏ ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر‏.‏
وجملة ‏{‏وما هي بعورة إلى قوله مسؤول‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏ معترضة بين جملة ‏{‏يستأذن فريق منهم‏}‏ الخ وجملة ‏{‏لنينفعكم الفرار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وما هي بعورة‏}‏ تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها‏.‏ ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏
‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة ‏{‏وما هي بعورة إنْ يريدون إلا فراراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، ومرادهم خذل المسلمين‏.‏ ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة مَن أفصَحَ عن معنى ‏(‏الدُخول‏)‏ في مثل هذه الآية وما ذكروا إلاّ معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن، وهو الحقيقة‏.‏ والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو اقتحام الجيش أو المغيرين أرضاً أو بلداً لغزْو أهله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدُّوا على أدباركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏، وأنه يُعدّى غالباً إلى المغزوِّين بحرف على‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون أنعَمَ الله عليهما ادْخُلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ لظهور أنه لا يراد‏:‏ إذا دخلتم دخول ضيافة أو تَجول أو تجسس، فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما نقول‏:‏ عام دخول التتار بغداد، ولذلك فالدخول في قوله‏:‏ ‏{‏ولو دُخِلت عليهم‏}‏ هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير ‏{‏دُخلت‏}‏ عائداً إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏، والمعنى‏:‏ لو غُزِيت المدينة من جوانبها الخ‏.‏‏.‏‏.‏
وقوله ‏{‏عليهم‏}‏ يتعلق ب ‏{‏دُخلت‏}‏ لأن بناء ‏{‏دُخلت‏}‏ للنائب مقتض فاعلاً محذوفاً‏.‏ فالمراد‏:‏ دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏23‏)‏‏.‏
والأقطار‏:‏ جمع قُطر بضم القاف وسكون الطاء وهو الناحية من المكان‏.‏ وإضافة ‏(‏أقطار‏)‏ وهو جمع تفيد العموم، أي‏:‏ من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدوّ على المدينة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وأسند فعل ‏{‏دُخلت‏}‏ إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة‏.‏ وقد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات وفي حاصل المعنى المراد، وأقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه، ويليه ما في «الكشاف»‏.‏ والذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة ‏{‏ولو دُخلت عليهم‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يريدون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ أو من ضمير ‏{‏وما هي بعورة‏}‏ زيادة في تكذيب قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏‏.‏
والضمير المستتر في ‏{‏دُخلت‏}‏ عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن والمواطن ولا يناسب البيوت‏.‏ فيصير المعنى‏:‏ لو دَخَل الغزاة عليهم المدينة وهم قاطنون فيها‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي، وكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا ب ‏{‏ثم‏}‏ لأن المذكور بعد ‏{‏ثم‏}‏ هنا داخل في فعل شرط ‏{‏لو‏}‏ ووارد عليه جوابها، فعدل عن الواو إلى ‏{‏ثم‏}‏ للتنبيه على أن ما بعد ‏{‏ثم‏}‏ أهم من الذي قبلها كشأن ‏{‏ثم‏}‏ في عطف الجُمل، أي‏:‏ أنهم مع ذلك يأتون الفتنة، و‏{‏الفتنة هي أن يفتنوا المسلمين، أي‏:‏ الكيد لهم وإلقاء التخاذل في جيش المسلمين‏.‏ ومن المفسرين من فسَّر الفتنة بالشرك ولا وجه له ومنهم من فسرها بالقتال وهو بعيد‏.‏
والإتيان‏:‏ القدوم إلى مكان‏.‏ وقد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين، وضمير النصب في أتوها‏}‏ عائد إلى ‏{‏الفتنة والمراد مكانها وهو مكان المسلمين، أي لأتوا مكانها ومظنتها‏.‏ وضمير بها‏}‏ للفتنة، والباء للتعدية‏.‏
وجملة ‏{‏وما تلبثوا بها‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لأتوها‏}‏‏.‏ والتلبُّث‏:‏ اللبث، أي‏:‏ الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطأوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ لو دَخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها أي مثلاً لأن الكلام على الفرض والتقدير وسأل الجيشُ الداخلُ الفريقَ المستأذنين أن يُلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مُسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش‏:‏ إما لأنهم آمنون من أن يلقَوا سوءاً من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم‏.‏
والاستثناء في قوله ‏{‏إلا يسيراً‏}‏ يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء‏.‏ ويحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ‏{‏لأتوها‏}‏ بهمزة تليها مثناة فوقية، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف ‏{‏لآتوها‏}‏ بألف بعد الهمزة على معنى‏:‏ لأعطوها، أي‏:‏ لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل ‏{‏أتوها‏}‏ مشاكلة لفعل ‏{‏سُئِلوا‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏
هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سَلِمة وهم الذين قال فريق منهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أي كانوا يوم أُحُد جبُنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُولُّون الأدبار في غزوة بعدها، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همَّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏؛ فطَرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكَّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقاً قُلَّباً لا يرعى عهداً ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله‏.‏ وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا مَنْ نكث منهم‏.‏ وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلاً للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات‏.‏
وزيادة ‏{‏من قبل‏}‏ للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد‏.‏ وجملة ‏{‏لا يولون الأدبار‏}‏ بيان لجملة ‏{‏عاهدوا‏}‏‏.‏
والتولية‏:‏ التوجه بالشيء وهي مشتقة من الوَلْي وهو القرب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فوَلِّ وجهَك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏‏.‏
و ‏{‏الأدبار‏}‏‏:‏ الظهور‏.‏ وتولية الأدبار‏:‏ كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله ‏{‏إن يريدون إلا فراراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏، والفرار مما عاهدوا الله على تركه‏.‏
وجملة ‏{‏وكان عهد الله مسؤولا‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏ولقد كانوا عاهدوا‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والمراد بعهد الله‏:‏ كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه‏.‏
والمسؤول‏:‏ كناية عن المحاسب عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم «وكلكم مسؤول عن رعيته» وكما تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8‏]‏ وهذا تهديد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏‏}‏
جواب عن قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ ولذلك فصِّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب، وما بين الجملتين من قوله ‏{‏ولو دُخِلت عليهم إلى قوله مسؤولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 14 15‏]‏ اعتراض كما تقدم‏.‏ وهذا يرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه ردّ عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم، أي‏:‏ قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبناً والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه‏:‏ نفيُ ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له‏.‏
فقوله ‏{‏من الموت‏}‏ يتعلق ب ‏{‏الفرار وفررتم‏}‏ وليس متعلقاً ب ‏{‏ينفعكم‏}‏ لأن متعلق ‏{‏ينفعكم‏}‏ غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي‏:‏ لن ينفعكم بالنجاة‏.‏
ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاةُ جانب الحقيقة وهو ما قُدر للإنسان من الله إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذوناً فيه لجاز مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاففِ المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لِضِعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، وكذلك إذا كان المسلمون زحفاً فإن الفرار حرام ساعتئذ‏.‏
وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفاً فإن الحالة حالة حصار‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أيضاً‏:‏ أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة‏.‏
و ‏{‏الموت، أريد به‏:‏ الموت الزُؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خُيِّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطراً فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفارَّ فيها أذى ولا بدّ له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يُقتل‏.‏ ولهذا عقب بجملة وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً‏}‏ جواباً عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلاّ نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل، أي‏:‏ إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن ‏{‏إذن‏}‏ قد تكون جواباً لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري‏:‏
لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذنْ لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إنْ ذو لَوْثَة لاَنا
فإن قوله‏:‏ إذن لقام بنصري، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه‏:‏ لم تستبح إبلي‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن استباحوا إبلي إذَنْ لقام بنصري معشر، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافاً لما في «مغني اللبيب»‏.‏
والأكثر أن ‏{‏إذن‏}‏ إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، وورد نصبه نادراً‏.‏
والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخُلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيراً وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملَكية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏
‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رحمةً‏}‏
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏لن ينفعكم الفرار إن فررتم‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏، فكأنه قيل‏:‏ فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي‏:‏ فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم‏.‏ وإعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة‏.‏
والمعنى‏:‏ لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرّاً حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، ومتى شاء خيراً خاصاً بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقباً، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرْسَل الأحوال في مهيعها وخلّى بين الناس وبين ما سَببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيباً على حسب فطْنته ومقدرته واهتدائه، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال‏.‏
وجملة ‏{‏من ذا الذي يعصمكم‏}‏ الخ جواب الشرط في قوله ‏{‏إن أراد بكم سوءاً‏}‏ الخ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة‏.‏
والعصمة‏:‏ الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم‏.‏ وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوءٌ خاص وهو السوء المجعول عذاباً لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة‏.‏
وعطف ‏{‏أو أراد بكم رحمة‏}‏ على ‏{‏أراد بكم‏}‏ المجعول شرطاً يقتضي كلاماً مقدراً في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل ‏{‏يعصمكم‏}‏ لأن الرحمة مرغوبة‏.‏ فالتقدير‏:‏ أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازاً للكلام، كقول الراعي‏:‏
إذا ما الغانيات برزنَ يوماً *** وزجَّجْن الحواجب والعيونا
تقديره‏:‏ وكحّلن العيون، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجبُ وذلك من التزّين‏.‏
‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً نَصِيراً‏}‏
عطف على جملة ‏{‏قل من ذا الذي يعصمكم،‏}‏ أو هي معترضة بين أجزاء القول، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة‏.‏ والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات‏.‏ والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبي عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيراً غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله‏.‏ والمراد بالولي‏:‏ الذي يتولى نفعهم، وبالنصير‏:‏ النصير في الحرب فهو أخص‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏
‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏
استئناف بياني ناشئ عن قوله ‏{‏من ذا الذي يعصمكم من الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 17‏]‏ لأن ذلك يثير سؤالاً يهجس في نفوسهم أنهم يُخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان، فأُمر أن يقول لهم ‏{‏قد يعلم الله المعوِّقين منكم‏}‏ أي‏:‏ فالله ينبئ رسوله بكم بأن فِعْل أولئك تعويق للمؤمنين‏.‏ وقد جعل هذا الاستئناف تخلصاً لذكر فريق آخر مِن المعوّقين‏.‏
و ‏{‏قد‏}‏ مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب‏.‏ وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود‏:‏ «اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا‏.‏ وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جُلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ فللتوكيد بحرف التحقيق موقع‏.‏ ودخول ‏{‏قد‏}‏ على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة ‏{‏قد،‏}‏ ومثله إفادة التكثير، وتقدم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏144‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏ في آخر سورة النور ‏(‏64‏)‏‏.‏
والمعوِّق‏:‏ اسم فاعل من عَوّق الدال على شدة حصول العَوْق‏.‏ يقال‏:‏ عاقه عن كذا، إذا منعه وثبطه عن شيء، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل‏:‏ قطَّع الحبل، إذا قطعه قطعاً كبيرة، ‏{‏وغلَّقَت الأبواب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏، أي‏:‏ أحكمت غلقها‏.‏ ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل‏:‏ مَوَّت المال، إذ كثر الموت في الإبل، وطوَّف فلان، إذا أكثر الطواف، والمعنى‏:‏ يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال‏.‏ والخطاب بقوله ‏{‏منكم‏}‏ للمنافقين الذين خوطبوا بقوله ‏{‏لن ينفعكم الفرار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم ‏{‏هلمّ إلينا هم المعوِّقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد، كقوله‏:‏
إلى الملك القرْم وابننِ الهمام ***
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق، فالمراد‏:‏ الأخوة في الرأي والدين‏.‏ وذلك أن عبد الله بن أُبَيّ، ومعتِّب بن قُشير، ومن معهما من الذين انخذلوا عن جيش المسلمين يوم أُحُد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم هلمّ إلينا‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إلينا‏.‏ قال قتادة‏:‏ هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم‏:‏ ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأس أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان ومن معه تمثيلاً بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم‏.‏
و ‏{‏هلمّ‏}‏ اسم فعللِ أمر بمعنى أقْبِل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها، يقولون‏:‏ هلمّ، للواحد والمتعدد المذكّر والمؤنّث، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يُلحقونها العلامات يقولون‏:‏ هَلمّ وهلمّي وهَلُما وهَلمُّوا وهلْمُمْن‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏قل هلمّ شهداءكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏150‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ انخذلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا‏.‏
وجملة ولا يأتون البأس إلا قليلاً‏}‏ كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالاً من القائلين لإخوانهم ‏{‏هلمّ إلينا‏.‏‏}‏ ويجوز أن تكون عطفاً على المعوّقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى ‏{‏فالمغيرات صُبحاً فأثَرْنَ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 3، 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّ المصَّدِّقين والمصَّدِّقات وأقرضوا الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 18‏]‏، فالتقدير هنا‏:‏ قد يعلم الله المعوّقين والقائلين وغيرَ الآتين البأس، أو والذين لا يأتون البأس‏.‏ وليس في تعدية فعل العلم إلى ‏{‏لا يأتون‏}‏ إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله ‏{‏وأقرضوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 18‏]‏ على تأويل، أي‏:‏ يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلاً، أي‏:‏ يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضادَ بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال‏.‏
ومعنى ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ إلا زماناً قليلاً، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين، وهذا كقوله ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏، أي‏:‏ إيماناً ظاهراً، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم بظاهر من القول‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ إتياناً قليلاً، وقلّته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه‏.‏
و ‏{‏البأس‏:‏ الحرب وتقدم في قوله تعالى ‏{‏لِيُحصِنَكُم من بأسكم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏80‏)‏‏.‏ وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها‏.‏ والمراد‏:‏ البأس مع المسلمين، أي‏:‏ مكراً بالمسلمين لا جبْناً‏.‏
و ‏{‏أشِحَّة‏}‏ جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقياسه أشِحّاء‏.‏ وضمير الخطاب في قوله ‏{‏عليكم‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله ‏{‏ولا يأتون البأس‏}‏ وتقدم الشح عند قوله تعالى ‏{‏وأُحضرت الأنفس الشح‏}‏ في سورة النساء ‏(‏128‏)‏‏.‏
وأشحةً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يأتون‏}‏ والشحّ‏:‏ البخل بما في الوسع مما ينفع الغير‏.‏ وأصله‏:‏ عدم بذل المال، ويستعمل مجازاً في منع المقدور من النصر أو الإعانة، وهو يتعدّى إلى الشيء المبخول به بالباء وب ‏{‏على‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أشّحة على الخير‏}‏ ويتعدى إلى الشخص الممنوع ب ‏{‏على‏}‏ أيضاً لما في الشحّ من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى ‏{‏أشحة عليكم‏}‏ من التعدية إلى الممنوع‏.‏
والمعنى‏:‏ يمنعونكم ما في وسعهم من المَال أو المعونة، أي‏:‏ إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحّهم بأنفسهم وكل ما يُشحّ به‏.‏
ويجوز جعل ‏{‏على‏}‏ هنا متعدية إلى المضنون به، أي كما في البيت الذي أنشده الجاحظ‏:‏
لقد كنت في قوم عليك أشحة *** بنفسك إلا أنَّ ما طاح طائح
وجعل المعنى‏:‏ أشحة في الظّاهر، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسِّنون إليكم الرجوع عن القتال، وهذا الذي ذهب إليه في «الكشاف»‏.‏ وفُرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله ‏{‏فإذا جاء الخوف‏}‏ إلى آخره‏.‏
والمجيء‏:‏ مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله‏.‏ كما قال تعالى ‏{‏فإذا جاء وعدُ الآخرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏
و ‏{‏الخوف‏}‏‏:‏ توقع القتال بين الجيشين، ومنه سميت صلاة الخوف‏.‏ والمقصود‏:‏ وصفهم بالجبن، أي‏:‏ إذا رأوا جيوش العدوّ مقبلة رأيتهم ينظرون إليك‏.‏ والظاهر أن الآية تشير إلى ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين علي بن أبي طالب ومن معه من المسلمين كما تقدم‏.‏
والخطاب في رأيتهم‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل ‏{‏رأيتهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ فإذا جاء الخوف ينظرون إليك‏.‏ ونظرهم إليه نظرُ المتفرس فيماذا يصنع ولسان حالهم يقول‏:‏ ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب، ولذلك خصّ نظرهم بأنه للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم يقل‏:‏ ينظرون إليكم‏.‏ وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده‏.‏
وجملة ‏{‏تدور أعينهم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ينظرون‏}‏ لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدّق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها‏.‏
والدوْر والدوران‏:‏ حركة جسم رَحَوِيَّة أي كحركة الرحى منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ‏.‏ وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدَّار، وهي المكان المحدود المحيط بسكانِه بحيث يكون حولهم‏.‏ ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال‏.‏ وقالوا‏:‏ دارت الرحى حول قُطبها‏.‏ وسموا الصنم‏:‏ دُوَاراً بضم الدال وفتحها لأنه يدور به زائروه كالطواف‏.‏ وسميت الكعبة دُواراً أيضاً، وسموا ما يحيط بالقمر دارة‏.‏ وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرّاً، قال عنترة‏:‏
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر *** في الحرب دائرة على ابنَيْ ضمضم
فمعنى ‏{‏تدور أعينهم‏}‏ أنها تضطرب في أجفانها كحركة الجسم الدائرة من سرعة تنقلها محملقة إلى الجهات المحيطة‏.‏ وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان‏.‏
وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء، أي‏:‏ زوال أسبابه بأن يُترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال‏.‏ وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏
‏[‏الأحزاب‏:‏ 20‏]‏‏.‏
والسَلْق‏:‏ قوة الصوت والصياح‏.‏ والمعنى‏:‏ رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدوّ الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين، وفسر السلق بأذى اللسان‏.‏ قيل‏:‏ سأل نافعُ بن الأزرق عبد الله بن عباس عن ‏{‏سلقوكم‏}‏ فقال‏:‏ الطعن باللسان‏.‏ فقال نافع‏:‏ هل تعرف العرب ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، أما سمعت قول الأعشى‏:‏
فيهم الخصب والسماحة والنج *** دة فيهم والخَاطب المِسلاق
و ‏{‏حِداد‏:‏ جمع حديد، وحَديد‏:‏ كل شيء نافذُ فعللِ أمثاله قال تعالى ‏{‏فَبَصُرك اليومَ حديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وانتصب ‏{‏أشحة على الخير‏}‏ على الحال من ضمير الرفع في ‏{‏سلقوكم،‏}‏ أي‏:‏ خاصموكم ولامُوكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفاً على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد؛ فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حُبّ الملوم وإبداء النصيحة له، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة‏.‏
ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏، أي‏:‏ هم في حالة السلم يُسرعون إلى مَلامكم ولا يواسونكم بأمْوالهم للتجهيز للعدوّ إن عاد إليكم‏.‏ ودخلت ‏{‏على‏}‏ هنا على المبخول به‏.‏
‏{‏أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أعمالهم وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏
جيء باسم الإشارة لقصد تمييزهم بتلك الصفات الذميمة التي أجريت عليهم من قبلُ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد من الحُكم بعد اسم الإشارة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏
وقد أجري عليهم حكم انتفاء الإيمان عنهم بقوله أولئك لم يؤمنوا‏}‏ كشفاً لدخائلهم لأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم منهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا لَقُوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏14‏)‏‏.‏ ورتب على انتفاء إيمانهم أن الله أحبط أعمالهم‏.‏
والإحباط‏:‏ جعل شيء حَابطاً، فالهمزة فيه للجَعْل مثل الإذهاب‏.‏ والحَبْط حقيقته‏:‏ أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع‏.‏ ويطلق مجازاً على إفساد ما كان نافعاً أو على كون الشيء فاسداً ويظن أنه ينفع يقال‏:‏ حَبِط حَقُّ فلان، إذا بطل‏.‏ والإطلاق المجازي ورد كثيراً في القرآن‏.‏ وفعله من بابَي سَمِع وضَرَب‏.‏ ومصدره‏:‏ الحَبْط، واسم المصدر‏:‏ الحُبُوط‏.‏ ويقال‏:‏ أحبط فلان الشيء، إذا أبطله، ومنه إحباط دم القتيل، أي‏:‏ إبطال حق القود به‏.‏ فإحباط الأعمال‏:‏ إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القُربة والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين‏.‏
وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة، أي‏:‏ الرجوع إلى الكفر، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك وهو أعلم به، ومن هذه الجهة عُدّت مسألة الحبوط مع المسائل الكلامية، أو بحيث ينظر في انتفاعه بما فعل من الواجبات عليه إذا ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام كمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، ومن هذه الجهة تُعد مسألة الحبوط في مسائل الفقه، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ الردةُ تُحبط الأعمال بمجرد حصولها فإذا عاد إلى الإسلام وكان قد حجّ مثلاً قبل ردّته وجبت عليه إعادة الحج تمسكاً بإطلاق هذه الآية إذ ناطت الحُبوط بانتفاء الإيمان، ولم يريا أن هذا مما يحمل فيه المطلق على المقيّد احتياطاً لأن هذا الحكم راجع إلى الاعتقادات ولا يكفي فيها الظن‏.‏
وقال الشافعي‏:‏ إذا رجع إلى الإسلام رجعتْ إليه أعماله الصالحة التي عمِلها قبل الردة تمسكاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمُت وهو كَافر فأولئك حبِطَتْ أعمالُهُم في الدُّنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏ حملاً للمطلق في آية سورة الأحزاب ونحوها على المقيّد في آية سورة البقرة تغليباً للجانب الفروعي في هذه المسألة على الجانب الاعتقادي‏.‏
وتعرف هذه المسألة بمسألة الموافاة، أي‏:‏ استمرار المرتدّ على الردّة إلى انقضاء حياته فيوافي يوم القيامة مرتداً‏.‏ فمالك وأبو حنيفة لم يريا شرط الموافاة والشافعي اعتبر الموافاة‏.‏ والمعتزلة قائلون بمثل ما قال به مالك وأبو حنيفة‏.‏ وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر، وانظر ما تقدم في قوله تعالى ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبِطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم‏.‏
وجملة وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لمَّا أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عَدّ ذلك ثلمة في جماعة المسلمين‏.‏
وكان المنافقون يُدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليّ إسلامكم بل الله يمُنُّ عليكم أن هَداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏
لما ذُكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثُني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلِقُونَهم بألسنة حِدَادٍ على أن تَعرضوا للعدوّ الكثير، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم، وليس للمنافقين وساطة في ذلك‏.‏ ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة، فتكون جملة ‏{‏يحسبون‏}‏ استئنافاً ابتدائياً مرتبطاً بقوله ‏{‏اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ جاء عوْداً على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله‏:‏ ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏ يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي‏:‏ وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازاً بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة ‏{‏يحسبون‏}‏ حالاً من ضمير الرفع في ‏{‏سلقوكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا‏.‏
وأما قوله ‏{‏وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب‏}‏ فهو وصف لِجبن المنافقين، أي‏:‏ لو جاء الأحزاب كَرَّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلَمُ وغيرهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ الآية‏.‏
والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ‏.‏
والبادي‏:‏ ساكن البادية‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏سواءٌ العاكفُ فيه والبادِ‏}‏ في سورة الحج ‏(‏25‏)‏‏.‏
والأعراب‏:‏ هم سكان البوادي بالأصالة، أي‏:‏ يودُّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه ‏{‏ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏، أي‏:‏ فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏.‏
و ‏{‏لو‏}‏ حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه‏.‏ أنشد الجاحظ وعبد القاهر‏:‏
يَودُّون لو خاطوا عليك جلودهم *** ولا تَمنع الموت النفوسُ الشحائح
وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏يودّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏96‏)‏‏.‏
والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة‏.‏
ومعنى ‏{‏ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏ أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقُوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالاً قليلاً، أي‏:‏ ضعيفاً لا يُؤْبَه به، وإنما هو تعلة ورياء، وتقدم نظيره آنفاً‏.‏
والأنباء‏:‏ جمع نبأ وهو‏:‏ الخبر المهم، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ في سورة ‏(‏الأنعام 34‏)‏ وقرأ الجمهور يسألون‏}‏ بسكون السين فهمزة مضارع سأل‏.‏ وقرأ رويس عن يعقوب ‏{‏يَسَّاءلون‏}‏ بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة مضارع تساءل، وأصله‏:‏ يتساءلون أدغمت التاء في السين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏
بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ثناء على ثباتهم وتأسّيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء، فالكلام خبر ولكن اقترانه بحرفي التوكيد في ‏{‏لقد يومئ إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بالإسوة الحسنة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض فلذلك أتي بالضمير مجملاً ابتداء من قوله لكم،‏}‏ ثم فُصِّل بالبدل منه بقوله ‏{‏لمن كان يرجو الله واليومَ الآخر وذكر الله كثيراً،‏}‏ أي‏:‏ بخلاف لمن لم يكن كأولئك، فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏لمن كان يرجو الله‏}‏ توكيد لللام التي في المبدل منه مثل قوله تعالى ‏{‏تكون لنا عيدا لأوّلنا وآخرنا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏، فمعنى هذه الآية قريبٌ من معنى قوله تعالى في سورة براءة في قصة تبوك‏:‏ ‏{‏رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 87، 88‏]‏ الآية‏.‏
والإسوة بكسر الهمزة وضمها اسم لما يُؤتَسَى به، أي‏:‏ يُقتدى به ويُعمل مثل عمله‏.‏ وحق الأسوة أن يكون المؤتسى به هو القدوة ولذلك فحرف ‏{‏في‏}‏ جاء على أسلوب ما يسمى بالتجريد المفيد للمبالغة إذ يجرد من الموصوف بصفة موصوف مثله ليكون كذاتين، كقول أبي خالد الخارجي‏:‏
وفي الرحمان للضعفاء كَاف ***
أي الرحمان كاففٍ‏.‏ فالأصل‏:‏ رسولُ الله إسوة، فقيل‏:‏ في رسول الله إسوة‏.‏ وجعل متعلقُ الائتساء ذاتَ الرسول دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهَى عنه، والائتساءَ بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏إسوة‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم بضم الهمزة وهما لغتان‏.‏
و ‏{‏لمن كان يرجو الله‏}‏ بدل من الضمير في ‏{‏لكم‏}‏ بدل بعض من كل أو شبه الاشتمال لأن المخاطبين بضمير ‏{‏لكم‏}‏ يشتملون على من يرجون الله واليوم الآخر، أو هو بدل مطابق إن كان المراد بضمير ‏{‏لكم‏}‏ خصوص المؤمنين، وفي إعادة اللام في البدل تكثير للمعاني المذكورة بكثرة الاحتمالات وكل يأخذ حظه منها‏.‏
فالذين ائتسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً‏.‏ وفيه تعريض بفريق من الذين صدّهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين‏.‏
وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه الإسوة الحسنة لا محالة ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب وتفصيله في أصول الفقه‏.‏ واصطلاحُ أهل الأصول على جعل التأسّي لقبَاً لاتِّباع الرسول في أعماله التي لم يطالب بها الأمة على وجه التشريع‏.‏ وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أنه روي عن عقبة بن حسان الهَجَري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ قال‏:‏ في جوع النبي‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏
لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله ‏{‏وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافاً وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا، كل ذلك لم يُخِرْ عزائمهم ولا أدخل عليهم شكاً فيما وعدهم الله من النصر‏.‏
وكان الله وعدهم بالنصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولُ الرسول والذين ءامنوا معه مَتَى نصرُ الله ألا إن نصر الله قريب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتُلوا وزُلْزِلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة‏.‏ وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام، كذا روي عن ابن عباس، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين‏:‏ أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزُلزلوا راجعهم الثبات الناشئ عن قوة الإيمان وقالوا‏:‏ ‏{‏هذا ما وعدنا الله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدَّقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب، فالإشارة ‏{‏بهذا‏}‏ إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدَقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافاً لقول المنافقين‏:‏ ‏{‏ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك‏.‏
والوعد‏:‏ إخبار مخبر بأنه سيعمل عملاً للمُخبَر بالفتح‏.‏
ففعل ‏{‏صدق‏}‏ فيما حكي من قول المؤمنين ‏{‏وصدق الله ورسوله‏}‏ مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يُجعل استقباله كالمضي مثل ‏{‏أتى أمرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ فهو مستعمل في معنى التحقق‏.‏ أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل ‏{‏رأى المؤمنون الأحزاب‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ولما جاءت الأحزاب‏.‏ فإن أبيتَ استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي‏.‏
وضمير ‏{‏زادهم‏}‏ المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة، أي‏:‏ وما زادهم ما رأوا إلا إيماناً وتسليماً، أي‏:‏ بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكاً في تحقق الوعد، والمعنى‏:‏ وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيماناً، أي‏:‏ ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيماناً، أي‏:‏ لم يزدهم خوفاً على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقِّب أن ينازله العدوّ الشديد، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب‏.‏
والتسليم‏:‏ الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏ويسلّموا تسليماً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏65‏)‏‏.‏ ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم‏.‏ فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما اشتدّ البلاء على المسلمين استشار رسول الله السعدَيْن سعدَ بن عُبادة وسعدَ بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينةَ بنَ حصن، والحارثَ بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة، فقالا‏:‏ يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا‏؟‏ قال رسول الله‏:‏ بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتْكم عن قوس واحد وكَالَبُوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ مَّا‏.‏ فقال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيْعاً أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا‏؟‏ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيفَ حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله‏:‏ فأنت وذاك‏.‏ فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال‏.‏
ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول من الثبات معه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏
وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله ‏{‏ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم، أي‏:‏ إيمان مع إيمانهم‏.‏
والإيمان الذي زادهُمُوه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القويّ، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال يقوِّي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث، وهذا من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيماناً‏}‏ كما تقدم في سورة براءة ‏(‏124‏)‏، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقض لها وانتفاء لأصلها‏.‏ وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب أشدُّ كُفْراً ونِفاقاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأيمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏‏}‏
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏ بالثناء على فريق منهم كانوا وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يدٌ واحدة‏.‏
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأيد من اليَد، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أُحُد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير‏:‏ أنها نزلت مع سورة الأحزاب‏.‏ وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها‏:‏ رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم‏:‏ عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير‏.‏ فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استُشهدوا يومَ أُحُد، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا‏.‏ وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق‏.‏ وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه الآية‏.‏‏}‏
ومعنى ‏{‏صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق‏.‏ وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء يقال‏:‏ صدقه الخبر، أي قال له الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى ‏{‏ما عاهدوا الله عليه‏}‏ إنما هو على نزع الخافض، أي‏:‏ صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، كقولهم في المثل‏:‏ صدقني سنَّ بَكْرِه، أي‏:‏ في سن بكره‏.‏
والنحب‏:‏ النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي‏:‏ من المؤمنين مَن وفّى بما عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبُر ذلك عليه وقال‏:‏ أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرَيَّن الله ما أصنع فشهد أُحُداً وقاتل حتى قُتل‏.‏
ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قَضَوْا نحبهم يوم قريظة‏.‏
وقد حمل بعض المفسرين ‏{‏قضَى نحبه‏}‏ في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله‏:‏ «إنه ممن قَضَى نَحْبَه» وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما قوله ‏{‏وما بدلوا تبديلاً‏}‏ فهو في معنى ‏{‏صدقُوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولُّون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة‏.‏ وانتصب ‏{‏تبديلاً‏}‏ على أنه مفعول مطلق موكِّد ل ‏{‏بدّلوا‏}‏ المنفي‏.‏ ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدّلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏
لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من ‏{‏صدقوا‏}‏ و‏{‏ما بَدلوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ صدق المؤمنون عهدهم وبدَّله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذّب المنافقين‏.‏
ولام التعليل بالنسبة إلى فعل ‏{‏ليجزي الله الصادقين‏}‏ مستعمل في حقيقة معناه، وبالنسبة إلى فِعل ‏{‏ويُعذب‏}‏ مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيهاً لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحُوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيهاً يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حَقَّ عليهم من العذاب على فعلهم، أو تشبيهاً إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه‏.‏
والجزاء‏:‏ الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جَزى أن يكون في الخير، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو ‏{‏بصدقهم‏}‏ يدل على أنه جزاء إحسان، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى ‏{‏اليوم تُجْزَوْن عذابَ الهون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏93‏)‏‏.‏ وإظهار اسم الجلالة في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء‏.‏
وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسَعَة رحمة الله وأنه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتُوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باققٍ عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏ والتوبة هنا هي التوبة من النفاق، أي‏:‏ هي إخلاص الإيمان، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك، منهم معتِّب بن قشير‏.‏
وجملة ‏{‏إن اللَّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه‏.‏
وفي ذكر فعل كان‏}‏ إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة، من ذلك عند قوله تعالى ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا‏}‏ في أول سورة يونس ‏(‏2‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏
‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها، أي أرسل الله عليهم ريحاً وردّهم، أو حال من ضمير ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 20‏]‏، أي‏:‏ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا‏.‏
والرد‏:‏ الإرجاع إلى المكان الذي صُدر منه فإنَّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين‏.‏ وعُبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن‏.‏
والباء في ‏{‏بغيظهم‏}‏ للملابسة، وهو ظرف مستقرّ في موضع الحال، أي‏:‏ ردهم مُغِيظين‏.‏
وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجزي الله الصادقين بصدقهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏
والغيظ‏:‏ الحَنق والغضب، وكان غضبهم عظيماً يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمّع والإنفاق وطولِ المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه‏.‏
وجملة ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏ حال ثانية‏.‏ ولك أن تجعل جملة ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏ استئنافاً بيانياً لبيان موجب غيظهم‏.‏
و ‏{‏كفى‏}‏ بمعنى أغنى، أي‏:‏ أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب‏.‏ و‏{‏كفى‏}‏ بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال‏:‏ كفيتُك مُهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى‏:‏ حسب‏.‏
وفي قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ حذف مضاف، أي كلفة القتال، أو أرزاء القتال، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعُددهم بعد مصيبة يوم أُحُد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين‏.‏
والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ كالقول في ‏{‏وردّ اللَّه الذين كفروا بغيظهم‏.‏
وجملة ‏{‏وكان الله قوياً عزيزاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏وردّ الله الذين كفروا‏}‏ إلى آخرها‏.‏
والقوة‏:‏ القدرة، وقد تقدمت في قوله ‏{‏لو أنّ لي بكم قوة‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏‏.‏
والعزة‏:‏ العظمة والمنعة، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخذته العزّة بالإثم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏‏.‏
وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى، ومن تعلُّقات قوتِه وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك، وأرسل عليهم الريح والقرّ، وهدَى نُعيماً بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكَيد للمشركين‏.‏ ذلك كله معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم
تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏
‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏
كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حُيَيّ بنُ أخطب من بني النضير منضماً إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة‏.‏ فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحُصونهم بالجَنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المدينة من الخندق ظُهراً وكان بصدد أن يغتسل ويَستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أنْ لا يصليَنَّ أحدُكم العصر إلا في بني قريظة‏.‏ وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحواً من عشرين ليلة، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمِعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكَم في صفة ذلك التسليم‏.‏ ويقال لهذا النوع من المصالحة‏:‏ النزول على حُكم حَكَم، فأرسلوا شَاس بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجَلاء على أن لهم ما حَملَتْ الإبلُ إلا الحَلَقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ، فحكم سعد أن تقتل المقَاتِلة وتُسبَى النساء والذَّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة‏.‏
ومعنى ‏{‏ظاهروهم‏}‏ ناصروهم وأعانوهم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يظاهروا عليكم أحداً‏}‏ في سورة براءة ‏(‏4‏)‏‏.‏
والإنزال‏:‏ الإهباط، أي‏:‏ من الحصون أو من المعتصمات كالجبال‏.‏
والصياصي‏:‏ الحصون، وأصلها أنها جمع صِيصَيَة وهي القَرْن للثَّوْر ونحوه‏.‏ قال عبد بني الحسحاس‏:‏
فأصبحت الثيرانُ غرقَى وأصبحت *** نساءُ تميم يلتقطن الصَّيَاصيا
أي‏:‏ القرون لبيعها‏.‏ كانوا يستعملون القرون في مناسِج الصوف ويتخذون أيضاً منها أوعية للكحل ونحوه، فلما كان القرن يدافع به الثوْر عن نفسه سمي المَعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصونُ صياصيَ‏.‏
والقذف‏:‏ الإلقاء السريع، أي‏:‏ جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين‏.‏ والفريق الذين قُتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أُسروا هم النساء والصبيان‏.‏
والخطاب من قوله فريقاً تقتلون‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نِعمة الله عليكم إذْ جاءَتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الآية، أي‏:‏ فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم وأنصارهم‏.‏ وتقديم المفعول في ‏{‏فريقاً تقتلون‏}‏ للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى، ولذلك لم يقدم مفعول ‏{‏تأسرون‏}‏ إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله‏.‏
وقوله ‏{‏وأرضاً لم تطؤوها‏}‏ أي‏:‏ تنزلوا بها غزاةً وهي أرض أُخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة ‏{‏لم تَطَؤُوها‏}‏ أي‏:‏ لم تمشوا فيها‏.‏ فقيل‏:‏ إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد‏.‏ قال قتادة‏:‏ كنا نحدث أنها مكة‏.‏ وقال مقاتل وابن رومان‏:‏ هي خيبر، وقيل‏:‏ أرض فارس والروم‏.‏ وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل ‏{‏أورثكم‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو ‏{‏أرضهم وديارهم وأموالهم،‏}‏ وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى ‏{‏أرضاً لم تطؤوها،‏}‏ أي‏:‏ أن يورثكم أرضاً أخرى لم تطؤوها، من باب‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ أو يُؤوَّل فعل ‏{‏أورثكم‏}‏ بمعنى‏:‏ قَدَّر أن يُوَرِّثكم‏.‏ وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر‏.‏ ولعلّ المخاطبين بضمير ‏{‏أورثكم‏}‏ هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدُها من قوله ‏{‏وأرضاً‏}‏ مناسباً تمام المناسبة‏.‏
وفي التذييل بقوله ‏{‏وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده‏.‏
وعندي‏:‏ أن المراد بالأرض التي لم يَطؤوها أرض بني النضير وأن معنى ‏{‏لم تطؤوها‏}‏ لم تفتحوها عنوة، فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد، قال الحارث بن وَعْلَة الذهلي‏:‏
وطَأَتَنا وَطْئاً على حَنَق *** وَطْءَ المقيَّد نابت الهَرْم
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤوهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» وغير ذلك‏:‏ أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئاً للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسِّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين‏:‏ «لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَلِيني ما بَدا لكِ»‏.‏ ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول‏:‏ ‏"‏ ما لي وللدنيا ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ حُبِّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب ‏"‏‏.‏ وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام‏.‏
وقال عمر‏:‏ «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِف المسلمون عليه من خَيْل ولا رِكاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدة للمسلمين»‏.‏ وقد علمتَ أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحُكْم سعد بن معاذ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنَّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهُنّ سِيرة الصالحات في العيش وغيره‏.‏ وقد روي أن بعضهن سألْنَه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات‏.‏ وهذا مما يؤذن به وقعُ هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يَطؤوها وهي أرض بني النضير‏.‏
وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيّرهُنّ عن السّيْر عليها تبعاً لحاله وبين أن يفارقَهُنّ‏.‏ لذا فافتتاحُ هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم ب‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله
‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏‏.‏
والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي تُوفّي عليهن‏.‏ وهن‏:‏ عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سَلَمة بنت أمية المخزومية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وميمونة بنت الحارث الهلالية من بني عامر بن صعصعة، وسَوْدة بنت زَمعة العامرية القرشية، وزينبُ بنت جَحْش الأسدية، وصفية بنت حُيَيّ النضيرية‏.‏ وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أمّ المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية‏.‏
ومعنى ‏{‏إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها‏}‏‏:‏ إن كنتن تُؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحاً للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا‏.‏ وهذه نكتة تعدية فعل ‏{‏تُرِدْنَ‏}‏ إلى اسم ذات ‏{‏الحياة‏}‏ دون حال من شؤونها‏.‏
وعطفُ ‏{‏زينتَها‏}‏ عطف خاص على عام، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام، وأيضاً ففعل ‏{‏تردْنَ‏}‏ يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى‏:‏ إن كنتن ترِدْنَ الانغماس في شؤون الدنيا، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتُنّ ترِدْنَ الله ورسوله‏}‏ كما سيأتي‏.‏
و ‏{‏تعالين‏:‏‏}‏ اسم فعل أمْر بمعنى‏:‏ أقبِلْنَ، وهو هنا مستعمل تمثيلاً لحال تَهَيُّؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يُحضر إلى مكان المتكلم‏.‏ وقد مضى القول على ‏(‏تعال‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏61‏)‏ والتمتيع‏:‏ أن يُعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطيةً جبْراً لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار‏.‏ وتقدم الكلام عليها مفصلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَتِّعُوهُنّ على المُوسِع قَدْرهُ وعلى المُقْتِرِ قدْرُه متاعاً بالمَعْروف‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏236‏)‏‏.‏ وجزم أمتعْكُنَّ‏}‏ في جواب ‏{‏تعالَيْن‏}‏ وهو اسم فعل أمر وليس أمْراً صريحاً فجَزْمُ جوابه غير واجب فجيء به مجزوماً ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا‏.‏
والسراح‏:‏ الطلاق، وهو من أسمائه وصيغه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن بمعروف أو سَرِّحُوهُنَّ بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏
والجميل‏:‏ الحَسَن حُسناً بمعنى القبول عند النفس، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعىً فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشقّ عليها‏.‏ وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعياً زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك‏.‏
ومعنى ‏{‏وإن كنتن تردن الله ورسوله‏}‏ إن كنتن تُؤْثِرْنَ الله على الحياة الدنيا، أي‏:‏ تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله، فالكلام على حذف مضاف‏.‏ وإرضاء الله‏:‏ فعل ما يحبه الله ويقرب إليه، فتعدية فعل ‏{‏تردن‏}‏ إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاماً كما تقدم‏.‏
وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير، أي‏:‏ كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك أن يَبْقَيْنَ في عشرته طيّبات الأنفس‏.‏
وإرادة الدار الآخرة‏:‏ إرادة فَوْزها، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضاً، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديراً في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء‏.‏ وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصدُ أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاتِه مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز‏.‏ فالمعنى‏:‏ إن كنتُنّ تؤثرْن ما يُرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخْتَرْن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيصَ من أن تُلهيَ صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعلقهم به سائراً على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له‏.‏ وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأوْلاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلُّقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكّرهن الله تذكيراً بديعاً بقوله‏:‏ ‏{‏واذكُرْنَ ما يُتْلَى في بيوتكنّ من ءايات الله والحكمة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ كما سيأتي‏.‏
ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدارَ الآخرة مقتضية عملَهُنّ الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتاً، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال‏:‏ ‏{‏فإن الله أعدّ للمحسنات منكُنّ أجراً عظيماً‏}‏ ليعلمْنَ أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن؛ فهذا وجه ذكر وصف المحسِنات وليس هو للاحتراز‏.‏ وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالعظيم‏.‏
وتوكيد جملة الجزاء بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر‏.‏ وقد جاء في كتب السنة‏:‏ أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها‏:‏ «إني ذاكر لككِ أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويْككِ، ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة‏:‏ أفي هذا أستأمر أبوَيّ‏؟‏ فإنّي أريد الله ورسوله والدارَ الآخرة، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك، فقلْنَ مثل ما قالت عائشة»‏.‏ ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أو مندوباً، فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏
تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهِنّ فخيرهُنّ فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، فخاطبهن ربُّهُنّ خطاباً لأنهن أصبحْنَ على عهد مع الله تعالى أن يؤتِيَهُنّ أجراً عظيماً‏.‏ وقد سمّاه عمر عهداً فإنه كان كثيراً ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رَفَعَ بها صوته فقيلَ له في ذلك، فقال‏:‏ أُذكِّرهُنّ العهدَ، ولما كان الأجر الموعود منوطاً بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغاً بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذاباً مضاعفاً‏.‏ ونِدَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن‏.‏ ونَادَاهُنّ بوصف ‏{‏نساء النبي‏}‏ ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهِنّ‏.‏ والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونساءَنا ونساءَكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏61‏)‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يَأتِ‏}‏ بتحتية في أوله مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث‏.‏ وقرأه يعقوب ‏{‏مَن تأت‏}‏ بفوقية في أوله مراعاة لِمَا صْدَق ‏{‏مَن‏}‏ أي‏:‏ إحدى النساء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يضاعَف‏}‏ بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب ورفع ‏{‏العذابُ‏}‏ على أنه نائب فاعل‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر ‏{‏نضَعِّف‏}‏ بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب ‏{‏العذابَ‏}‏ على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده‏:‏ ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ إظهاراً في مقام الإضمار‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب ‏{‏يُضَعَّف‏}‏ بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة‏.‏ ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق‏.‏
وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى‏:‏ أن بين ضاعف وضَعَّف فرقاً، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة‏.‏ وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما‏.‏ وصيغة التثنية في قوله ‏{‏ضعفين‏}‏ مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرَّتيْن ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ لظهور أن البصر لا يرجع خاسئاً وحسيراً من تكرّر النظر مرتين، والتثنية ترِدُ في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم‏:‏ لَبَّيْك وسَعْديك، وقولهم‏:‏ دَوَالَيْك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه‏.‏
والفاحشة‏:‏ المعصية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه‏.‏
والمبيِّنة‏:‏ بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيِّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي‏:‏ يبيّنها فاعِلها‏.‏
والمضاعفة‏:‏ تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره‏.‏
والضعف‏:‏ مماثل عدد ما‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً من النار‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏38‏)‏‏.‏ ومعنى مضاعفة العذاب‏:‏ أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد‏:‏ عذاب الآخرة‏.‏
وجملة وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كانتا تحتَ عبدَيْن من عِبادنا صالحيْن إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلم يُغْنِيَا عنهما من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏‏.‏
والتعريف في ‏{‏العذاب‏}‏ تعريف العهد، أي‏:‏ العذاب الذي جعله الله للفاحشة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏
أعقب الوعيد بالوعد جرياً على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة‏.‏
والقنوت‏:‏ الطاعة، والقنوت للرسول‏:‏ الدوام على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يقنت‏}‏ بتحتية في أوله مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ الشرطية كما تقدم في ‏{‏من يأت منكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صْدَق ‏{‏مَن‏}‏، أي إحدى النساء، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يأت منكن‏}‏‏.‏
وأسند فعل إيتاء أجرهنّ إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفاً لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل ‏{‏وأعتدنا‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏مرتين‏}‏ توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضعفين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏
وضمير ‏{‏أجرها‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر‏.‏ ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهنّ، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لعظم قدرهن، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها‏.‏ ودرجة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وتعمل‏}‏ بالتاء الفوقية على اعتبار معنى ‏{‏من‏}‏ الموصولة المراد بها إحدى النساء وحسنه أنه معطوف على فعل ‏{‏يقنت‏}‏ بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلَف ‏{‏ويعمل‏}‏ بالتحتية مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ في أصل الوضع‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نؤتها‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائداً إلى اسم الجلالة من قوله قبله ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والقول في ‏{‏أعتدنا لها‏}‏ كالقول في ‏{‏فإن الله أعدّ للمحسنات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 29‏]‏‏.‏ والتاء في ‏{‏أعتدنا‏}‏ بدل عن أحد الدالين من ‏(‏أعدّ‏)‏ لقرب مخرجيها وقصد التخفيف‏.‏ والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏أعتدنا‏}‏ لإفادة تحقيق وقوعه‏.‏
والرزق الكريم‏:‏ هو رزق الجنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ الآية‏.‏ ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏
‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏
‏{‏يانسآء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن‏}‏
أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه‏.‏
وأحد‏:‏ اسم بمعنى واحد مثل‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ وهمزته بدل من الواو‏.‏ وأصلهُ‏:‏ وَحَد بوزن فَعَل، أي متوحِّد، كما قالوا‏:‏ فَرَد بمعنى منفرد‏.‏ قال النابغة يذكر ركوبه راحلته‏:‏
كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد
يُريد على ثور وحشي منفرد‏.‏ فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا‏:‏ أَحد، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏ فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس‏.‏
ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ‏(‏95‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنتُنَّ أفضل النساء، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص، ألا ترى إلى قوله‏:‏ حُبِّب إليكم من دنياكم النساء والطيب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن‏.‏
والتقييد بقوله‏:‏ ‏{‏إن اتقيتن‏}‏ ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة‏:‏ ‏"‏ إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل ‏"‏ فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام‏.‏
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله‏.‏
واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة‏.‏ وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط‏.‏ أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في «شرح الترمذي» في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر، ثم رُفع الميزان‏.‏
والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال‏.‏ وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل‏.‏ ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب «المقاصد»‏.‏ وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها‏.‏
والأحسن أن يكون الوقف على ‏{‏إن اتقيتن‏}‏، وقوله ‏{‏فلا تخضعن‏}‏ ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط‏.‏
فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها‏.‏
وابتدئ من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة‏.‏ فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين‏.‏
والخضوع‏:‏ حقيقته التذلّل، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالقول‏}‏ يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية، أي لا تُخضعن القول، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً، أي رقيقاً متفكّكا‏.‏ وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك‏:‏ ذهبت بزيد، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة، وأفيدت التعدية بالباء‏.‏ ويجوز أن تكون الباء بمعنى ‏(‏في‏)‏، أي لا يكن منكُن لِين في القول‏.‏
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت، أي ليكن كلامكن جزلاً‏.‏
والمرض‏:‏ حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك‏.‏
وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏10‏)‏‏.‏
وانتصب يطمَع‏}‏ في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع‏.‏
وحذف متعلِق ‏{‏فيطمع‏}‏ تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة‏.‏
وعَطْفُ ‏{‏وقلن قولاً معروفاً‏}‏ على ‏{‏لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار‏.‏
والقول‏:‏ الكلام‏.‏
والمعروف‏:‏ هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب‏:‏ فليقل خيراً أو ليصمت‏.‏ وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏
‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏‏.‏
هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة‏.‏ وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث «الموطأ»‏.‏ وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء‏.‏
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف‏.‏ ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى‏:‏ أقام واستقرّ، يقولون‏:‏ قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم‏:‏ أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد‏:‏
سوى أن الجياد من المطايا *** أحَسْن به فهُن إليه شُوس
وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين، والقراءة حجة عليهما‏.‏ والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى‏:‏ واقررن عيوناً في بيوتكن، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن‏.‏
وقرأ بقية العشرة ‏{‏وقرن‏}‏ بكسر القاف‏.‏ قال المبرد‏:‏ هو من القرار، أصله‏:‏ اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفاً، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا‏:‏ ظَلْت ومَسْت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يصح أن يكون قِرْن، أي بكسر القاف أمراً من الوقار، يقال‏:‏ وَقر فلان يقِر، والأمر منه قِر للواحد، وللنساء قِرن مثل عِدن، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بيوتكن‏}‏ بكسر الباء‏.‏ وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء‏.‏
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون‏:‏ حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضاً لورثتهن‏.‏
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن ‏"‏ يريد حاجات الإِنسان‏.‏ ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين‏.‏ وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها‏:‏ ‏"‏ وإنما هو اليومَ مالُ وارث ‏"‏ رواه في «الموطأ»‏.‏ وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك‏.‏ وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏‏.‏
ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه‏.‏ رواه في «الموطأ»‏.‏
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى‏:‏ وقْعةَ الجَمَل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير‏.‏ وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل‏:‏ عَمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب، ولكلَ نظَر في الاجتهاد‏.‏ والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ يكافئ الخروج للحج‏.‏ وأخذت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة، فكان ذلك منها عن اجتهاد‏.‏ وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما‏.‏ وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل‏.‏ ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاّته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين‏.‏ وما يذكر عنها رضي الله عنها‏:‏ أنها كانت إذا قَرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها، فلا ثقة بصحة سنده، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية‏.‏
‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى‏}‏‏.‏
التبرج‏:‏ إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ في سورة النور ‏(‏60‏)‏‏.‏
وانتصب ‏{‏تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ على المفعول المطلق، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج‏.‏ والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهياتٌ عنه‏.‏ وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج، فإن المدينة أيامئذٍ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كُنَّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقاً حتى في الأحوال التي رُخّص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف‏.‏
فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا مَا أقرّه الإسلام‏.‏
و ‏{‏الجاهلية‏}‏‏:‏ المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة‏.‏ والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏154‏)‏‏.‏
ووصفُها ‏{‏بالأولى‏}‏ وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام، وجاء الإِسلام بعدها فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏، وكقولهم‏:‏ العشاء الآخرة، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية‏.‏ ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيِّداً وجعلوا الجاهلية جاهليتين، فمنهم من قال‏:‏ الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد‏.‏
‏{‏وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله‏}‏‏.‏
أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم‏.‏ وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية‏.‏
وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ وقد بيناه في سورة العنكبوت ‏(‏45‏)‏‏.‏
‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّركم تَطْهِيراً‏}‏‏.‏
متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏ فإن موقع ‏{‏إنما‏}‏ يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ جزء من ‏{‏إنما‏}‏ وحرف ‏(‏إن‏)‏ من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر، فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات‏.‏
وهذا التعليل وقع معترضاً بين الأوامر والنواهي المتعاطفة‏.‏
والتعريف في ‏{‏البيت‏}‏ تعريف العهد وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك، ولذلك جاء بعده قوله‏:‏ ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، وضميرَا الخطاب موجهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت‏.‏ وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه‏.‏ وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ يعني أزواج النبي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله في قصة إبراهيم‏:‏ ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 73‏]‏ والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها‏.‏
و ‏{‏الرجس‏}‏ في الأصل‏:‏ القذر الذي يلوّث الأبدان، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عِرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولاً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذر‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجس من عمل الشيطان‏}‏ في سورة العقود ‏(‏90‏)‏‏.‏ واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهراً‏.‏
واستعير الإِذهاب للإِنجاء والإِبعاد‏.‏
وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها، وإذا أراد الله أمراً قدّره إذ لا رادّ لإِرادته‏.‏
والمعنى‏:‏ ما يريد الله لكُنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتَكُنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوامَ ذلك، أي لا يريد من ذلك مقتاً لكنّ ولا نكاية‏.‏ فالقصر قصر قلب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب ‏{‏إنما‏}‏‏.‏ والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن‏.‏
و ‏{‏أهل البيت‏}‏‏:‏ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحداً شك في ذلك، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ‏.‏
وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال‏:‏ لما نزلت على النبي‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال‏:‏
‏"‏ اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن، ووسمه بالغرابَة‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن عائشة‏:‏ خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏‏.‏ وهذا أصرح من حديث الترمذي‏.‏
فمَحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية بقوله‏:‏ ‏"‏ إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بينَ لابتيها ‏"‏‏.‏ وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون‏:‏ فيهم البيتُ والعَدد، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة‏.‏ وكأنَّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقويةُ استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريباً لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوباً إليه، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها‏.‏ ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، بعضه بالجعل الإلهي، وبعضه بالجعل النبوي، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سَلْمان منّا أهلَ البيت ‏"‏‏.‏ وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً‏.‏ وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثاً واحداً نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت‏:‏ فيه نزلت‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ وذكرتْ خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء ‏(‏وذكر مصحّح طبعة «تفسير ابن كثير» أن في متن ذلك الحديث اختلافاً في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح‏)‏‏.‏
وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت‏.‏ وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي‏.‏ وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله‏:‏ «هؤلاء أهل بيتي» صيغة قصر وهو كقوله تعالى‏:‏
‏{‏إن هؤلاء ضيفي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 68‏]‏ ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها‏.‏ ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها‏.‏ ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال‏:‏ من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضاً‏:‏ ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق‏.‏ وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة‏.‏
وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة‏:‏ أن أم سلمة قالت‏:‏ وأنا معهم يا رسول الله‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أنت على مكانك وأنتِ على خير ‏"‏‏.‏ فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لها‏.‏ وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة‏:‏ ‏"‏ إنككِ من أزواج النبي ‏"‏‏.‏ وهذا أوضح في المراد بقوله‏:‏ «إنك على خير»‏.‏
ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول‏:‏ ‏"‏ الصلاة يا أهل البيت ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليذهب‏}‏ لام جرّ تزاد للتأكيد غالباً بعد مادتي الإرادة والأمر، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب ‏(‏أنْ‏)‏ مضمرة إضماراً واجباً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرنا لنسلم لرب العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏، وقول كثير‏:‏
أُريد لأنسَى حبها فكأنما *** تمثَّلُ لي ليلى بكل مكان
وعن النحاس أن بعض القراء سماها ‏(‏لام أَنْ‏)‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أهل البيت‏}‏ نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد شمل كلَّ من ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم‏:‏ فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدُو هؤلاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏
لما ضمِن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتملّي من آثارها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءَهن في أنفسهن ازدياداً في الكمال والعلم، وإرشادَهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبي صلى الله عليه وسلم
وفعل ‏{‏اذْكُرن‏}‏ يجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو التذكّر، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه، وهو أن لا ينسَيْن ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وما يبيّن فيها من الدين، ويشمل معنى كنائياً ثانياً وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أَن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن‏.‏
ويجوز أن يكون من الذِّكر بكسر الذال، وهو إجراء الكلام على اللسان، أي بلّغْنَه للناس بأن يقرأن القرآن ويبلغن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته‏.‏ وفيه كناية عن العمل به‏.‏ والتلاوة‏:‏ القراءة، أي إعادة كلام مكتوب أو محفوظ، أي ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏من آيات الله والحكمة‏}‏ بيان لما يتلى فكل ذلك متلوّ، وذلك القرآن، وقد بين المتلو بشيئين‏:‏ هما آيات الله، والحكمة، فآيات الله يعم القرآن كلَّه، لأنه معجز عن معارضته فكان آية على أنه من عند الله‏.‏
وعطف ‏{‏والحكمة‏}‏ عطف خاص على عام وهو ما كان من القرآن مواعظ وأحكاماً شرعية، قال تعالى بعد ذكر الأحكام التي في سورة الإِسراء ‏(‏39‏)‏ ‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة‏}‏ أي ما يتلى في بيوتهن عند نزوله، أو بقراءة النبي ودراستهن القرآن، ليتجدد ما علِمْنه ويلمع لهن من أنواره ما هو مكنون لا ينضُب معينه، وليكُنّ مشاركاتتٍ في تبليغ القرآن وتواتره، ولم يزل أصحاب رسول الله والتابعون بعدهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام النساء ومن أحكام الرجل مع أهله، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏، أي بلغ خبر سجني وبقائي فيه‏.‏
وموقع مادة الذكر هنا موقع شريف لتحملها هذه المحامل ما لا يتحمله غيرها إلا بإطناب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن الله تعالى أمر نبيئه عليه الصلاة والسّلام بتبليغ ما أنزل إليه فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من تبعه أن يبلغه إلى غيره ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة‏.‏
وقد تكرر ذكر الحكمة في القرآن في مواضع كثيرة، وبيّنّاه في سورة البقرة‏.‏
وتقدم قريباً اختلاف القراء في كسر باء ‏(‏بيوت‏)‏ أو ضمها‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله كان لطيفاً خبيراً‏}‏ تعليل للأمر وتذييل للجمل السابقة‏.‏
والتعليل صالح لمحامل الأمرِ كلها لأن اللطف يقتضي إسداء النفع بكيفية لا تشقّ على المُسدَى إليه‏.‏
وفيما وُجّه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي ما هو صلاح لهن وإجراء للخير بواسطتهن، وكذلك في تيسيره إياهن لمعاشرة الرسول عليه الصلاة والسلام وجعلهن أهل بيوته، وفي إعدادهن لسماع القرآن وفهمه، ومشاهدة الهدي النبوي، كل ذلك لطف لهن هو الباعث على ما وجهه إليهن من الخطاب ليتلقّيْن الخبرَ ويبلغنه، ولأن الخبير، أي العليم إذا أراد أن يُذهب عنهن الرجس ويطهرهن حصل مراده تاماً لا خلل ولا غفلة‏.‏
فمعنى الجملة أنه تعالى موصوف باللطف والعلم كما دلّ عليه فعل ‏{‏كان‏}‏ فيشمل عمومُ لطفِه وعلمِه لطفَه بهن وعلمَه بما فيه نفعهن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ بعدَ قوله‏:‏ ‏{‏لستن كأحد من النساء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ‏:‏ أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها‏.‏ ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
روى ابن جرير والواحدي عن قتادة‏:‏ أن نساءً دخلْنَ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن‏:‏ قد ذَكَرَكُنّ الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء، ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية‏.‏
وروى النسائي وأحمد‏:‏ أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏
وروى الترمذي والطبراني‏:‏ «أن أم عُمارة الأنصارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما أرى النساء يُذْكَرن بشيء» فنزلت هذه الآية‏.‏
وقال الواحدي‏:‏ «قال مقاتل‏:‏ بلغني أن أسماء بنت عُميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبي فقالت‏:‏ هل نزل فينا شيء من القرآن‏؟‏ قيل‏:‏ لا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار‏.‏ قال‏:‏ ومم ذلِك‏؟‏ قالت‏:‏ لأنهن لا يذكرن بالخير كما يذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية»‏.‏
فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساءُ، وأما ذِكْر الرجال فللإِشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصاً بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإِسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُصّ على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأَغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة‏.‏
وسُلك مسلك الإِطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية‏.‏
وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها‏.‏ وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء‏.‏
والمراد ب ‏{‏المسلمين والمسلمات‏}‏ من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعاً‏.‏ والإِسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصومُ رمضان وحج البيت، ولا يعتبر إسلاماً إلا مع الإيمان‏.‏ وذكرُ ‏{‏المؤمنين والمؤمنات بعده للتنبيه على أن الإِيمان هو الأصل، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في البقرة ‏(‏132‏)‏‏.‏
والمراد ‏{‏بالمؤمنين والمؤمنات‏}‏ الذين آمنوا‏.‏ والإِيمان‏:‏ أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقَدر خيرِه وشره‏.‏ وتقدم الكلام على الإِيمان في أوائل سورة البقرة‏.‏
و ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏‏:‏ أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته، وتقدم آنفا ‏{‏ومن يقنت منكن لله ورسوله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏الصادقين والصادقات‏}‏ من حصَل منهم صدق القول وهو ضد الكذب، والصدق كله حسن، والكذب لا خير فيه إلا لضرورة‏.‏ وشمل ذلك الوفاءَ بما يُلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين صدقوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏
‏{‏وبالصابرين والصابرات‏}‏‏:‏ أهل الصبر والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين، وتحمُّل المكاره في الذبّ عن الحوزة الإسلامية، وتقدم مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا‏}‏ آخر سورة آل عمران ‏(‏200‏)‏‏.‏
و ‏{‏بالخاشعين والخاشعات‏}‏‏:‏ أهلُ الخشوع، وهو الخضوع للَّه والخوفُ منه، وهو يرجع إلى معنى الإِخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف، ومطابقة ذلك لما يَظهر من آثاره على صاحبه‏.‏ والمراد‏:‏ الخشوع للَّه بالقلب والجوارح، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏
و ‏{‏بالمتصدقين والمتصدقات‏}‏‏:‏ من يبذل الصدقة من ماله للفقراء، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أمر بصدقة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏114‏)‏‏.‏ وفائدة ذلك للأمة عظيمة‏.‏
وأما ‏(‏الصائمون والصائمات‏)‏ فظاهرٌ ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله، إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقرباً إلى الله، أي برهاناً على أن رضى الله عنه ألذُّ عنده من أشد اللذات ملازمة له‏.‏
وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية، وهي في الرجل أشد، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى ‏{‏وحَصوراً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ وقال في مريم ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة، فالمراد‏:‏ حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعاً، وليس المراد‏:‏ حفظها عن الاستعمال أصلاً وهو الرهبنة، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى‏.‏
وأما ‏(‏الذاكرون والذاكرات‏)‏ فهو وصف صالح لأن يَكون من الذِّكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكُرْكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقوله في الحديث‏:‏ «ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» ومن الذُّكر بضمها كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن‏}‏
‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، والذي في قوله‏:‏ ‏{‏ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏‏.‏
ومفعول و‏{‏الحافظات‏}‏ محذوف دل عليه ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏والحافظين فروجهم‏}‏، وكذلك مفعول و‏{‏الذاكرات‏}‏‏.‏
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها‏.‏
فالإِسلام‏:‏ يجمع قواعد الدين الخمس المفروضةَ التي هي أعمال، والإِيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإِسلام كلها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏
والقنوت‏:‏ يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو مساوٍ للتقوى‏.‏ فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم‏.‏
والصدق‏:‏ يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها‏.‏ ومن الصدق صدق الأفعال‏.‏
والصبر‏:‏ جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس‏.‏
والخشوع‏:‏ الإخلاص بالقلب والظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»‏.‏ ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها‏.‏
والتصدق‏:‏ يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق‏.‏
والصوم‏:‏ عبادة عظيمة، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله‏:‏ ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي به ‏"‏‏.‏ وحفظ الفروج‏:‏ أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها‏.‏
وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان‏:‏
أحدهما‏:‏ ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ‏"‏ ففي قوله‏:‏ «وذكرهم اللَّه» إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكرْكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم ‏"‏‏.‏ وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار‏.‏
والمحمل الثاني‏:‏ الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى‏:‏
‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة والإِضرار بالناس في المعاملات‏.‏ ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب ‏{‏كثيراً‏}‏ لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيراً فقد استغرق ذكره على المحملين جميعَ ما يُذكر الله عنده‏.‏
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها‏.‏
والمغفرة‏:‏ عدم المؤاخذة بما فَرَط من الذنوب، وقد تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏23‏)‏‏.‏ واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب‏:‏ الفاءِ وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتاً لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت‏:‏ وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى‏:‏ أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات‏.‏ وفي الحديث‏:‏ فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1 3‏]‏ فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد‏.‏ ولهذا فحقّ جملة ‏{‏أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً‏}‏ أن تكون خبراً في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل‏:‏ إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً، وهكذا‏.‏ والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل ‏{‏أعد‏}‏ قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر‏.‏
وأما صحة الإِخبار بفعل ‏{‏أعد‏}‏ عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو ‏{‏مغفرة‏}‏ فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعداً من الله بقوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى‏.‏
والوجه في تفسير ذلك عندي‏:‏ أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملاً أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله‏:‏
‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏ فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب‏.‏
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة‏.‏ وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب «الكشاف» فجعل معنى قوله‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً‏}‏‏:‏ أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، وجعل واو العطف بمعنى المعية، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات، وهذا تكلّف وصنع باليد، وتبعه البيضاوي وكثير‏.‏ ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل ‏{‏والذاكرين الله والذاكرات‏}‏ على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي، فيكون الذكر القلبي شاملاً للتوبة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏ الآية في سورة الفرقان ‏(‏63، 75‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏
‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خِطبة زينب بنت جحش على زيد بن حارثة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاهُ زيدٍ بن حارثة زينبَ بنتَ جحش فاستنكفت وأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة‏}‏ الآية، فتابعتْه ورضِيتَ لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويَكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقاً لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبلُ فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد‏.‏
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما‏.‏
وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط وكانت أول من هاجَرن من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة، بعد أن طلق زيْدٌ زينَب بنتَ جحش كما سيأتي قريباً، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت‏:‏ إنما أردت رسولَ الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية‏.‏
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أُعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية‏.‏
وإقحام ‏{‏كان‏}‏ في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل ‏{‏كان‏}‏ لدلالته على الكون، أي الوجود يقتضي نفيُه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة‏.‏
والمصدر المستفاد من ‏{‏أن تكون لهم الخيرة‏}‏ في محل رفع اسم ‏{‏كان‏}‏ المنفية وهي ‏{‏كان‏}‏ التامة‏.‏
وقضاء الأمر تبيينه والإِعلام به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏إذا قضى الله ورسوله‏}‏ إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خياراً في الامتثال، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازاً من نحو قوله للذين وجدهم يأبِرون نخلهم‏:‏ «لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال‏:‏ أنتم أعلم بأمور دنياكم»‏.‏
ومن نحو ما تقدم في أول هذه السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدْين، ومن نحو أمرِه يوم بدر، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر‏:‏ أهذا منزل أنزلكَه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرْب والمكيدة‏؟‏ قال‏:‏ «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»‏.‏ قال‏:‏ فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزِلَه ثم نُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد أشرت بالرأي ‏"‏ فنهض بالناس‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائماً، فلما غَربت الشمس قال لبلال‏:‏ ‏"‏ انْزلْ فاجدَحْ لنا ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله لو أمسيتَ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ انزِل فاجدَح لنا ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله لو أمسيتَ إن عليك نهاراً ثم قال‏:‏ «انزل فاجدَح»، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب‏.‏ فمراجعة بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم‏.‏
وذكر اسم الجلالة هنا للإِيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة للَّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فالمقصود إذا قضى رسول الله أمراً كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لله خمسه وللرسول‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏41‏)‏ إذ المقصود‏:‏ فإن للرسول خُمُسَه‏.‏
و ‏{‏الخيرة‏}‏‏:‏ اسم مصدر تخير، كالطِيرة اسم مصدر تَطَيَّر‏.‏ قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لهم الخِيرة‏}‏ في سورة القصص ‏(‏68‏)‏‏.‏
ومَن‏}‏ تبعيضية و‏{‏أمرهم‏}‏ بمعنى شأنهم وهو جنس، أي أمورهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان اختيار بعض شؤونهم مِلْكاً يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لهم‏.‏
و ‏(‏مؤمن ومؤمنة‏)‏ لمّا وقعا في حيز النفي يعُمّان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى‏:‏ ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخِيرَة كما هو شأن العموم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أن تكون‏}‏ بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظاً‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عامر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غيرَ الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً‏}‏ تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏
‏{‏وَإِذْ تَقُولُ للذى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ ب‏}‏‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره‏:‏ اذْكُر، وله نظائر كثيرة‏.‏ وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكُّر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك ولكنه ذَكَّر رسوله صلى الله عليه وسلم ليُرتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏‏.‏ والمقصود بهذا الاعتبارُ بتقدير الله تعالى الأسبابَ لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه، ولذلك قال عقبه‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر اللَّه مفعولاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبنّي ودحض ما بناه المنافقون على أساسِه الباطِل بناءً على كفر المنافقين الذين غَمزوا مغامز في قضية تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة فقالوا‏:‏ تزوج حليلة ابنه وقد نهَى عن تزوج حلائل الأبناء‏.‏ ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ الآية‏.‏ وبالإِعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم‏.‏
وزيد هو المعنيُّ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏، فالله أنعم عليه بالإِيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسَّر دخولَه في ملك رسوله صلى الله عليه وسلم والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبنّي والمحبة، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً‏}‏ وهو زيد بن حارثة بن شُراحيل الكلبي من كَلْب بن وَبَرة وبنو كلب من تغلب‏.‏ كانت خيل من بني القين بن جَسْر أغاروا على أبيات من بني مَعن من طيء، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن خرجت به إلى قومها تَزورهم فسبقته الخيل المُغيرة وباعوه في سوق حُباشة ‏(‏بضم الحاء المهملة‏)‏ بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حِزام لعمته خديجةَ بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏وزيد يومئذٍ ابن ثمان سنين‏)‏ وذلك قبل البعثة، فحج ناس من كلب فرأوا زيداً بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند مَن هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكَلَّمَا النبي صلى الله عليه وسلم في فدائه، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فعرفهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏
«اخترني أو اخترهما»‏.‏ قال زيد‏:‏ ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، فانصرف أبوه وعمّه وطابت أنفسهما ببقائه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحِجر وقال‏:‏ «يا من حضَرَ اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه» فصار ابناً للنبيء صلى الله عليه وسلم على حكم التبني في الجاهلية وكان يُدعى‏:‏ زيد بنَ محمد‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّجه أمَّ أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجه زينب بنت جَحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أُميمة بنت عبد المطلب، وهو يومئذٍ بمكة‏.‏ ثم بعد الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبنّي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ صار يُدْعى‏:‏ حِبَّ رسول الله‏.‏ وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلّقها، وتزوج دُرَّة بنت أبي لهب، ثم طلّقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير‏.‏
وشهد زيد بدراً والمغازي كلّها‏.‏ وقُتل في غزوة مُؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسين سنة‏.‏
وزوجُ زيد المذكورة في الآية هي زينبُ بنت جَحْش الأسدية وكان اسمها بَرَّة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سمّاها زَينب، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفاً لآل عبد شمس بمكة وأمها أُميمة بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزّوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلّقها بالمدينة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، أي سنة عشرين قبل البعثة‏.‏
والإِتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏، وفي ذلك تصوير لحثِّ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه‏.‏
والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العَلم الذي يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد‏}‏ لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ من تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ لأن المقصود منها أن زيداً أخص الناس به، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، وأما صلة ‏{‏أنعم الله عليه‏}‏ فهي توطئة للثانية‏.‏
واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة‏:‏ أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده‏.‏
وروي عن علي زين العابدين‏:‏ أن الله أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش‏.‏ وعن الزهري‏:‏ نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمه أن الله زوّجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه‏.‏ وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري وأبي بكر بن العربي‏.‏
والظاهر عندي‏:‏ أن ذلك كان في الرؤيا كما أُري أنه قال لعائشة‏:‏ ‏"‏ أتاني بككِ الملك في المنام في سَرَقَة من حرير يقول لي‏:‏ هذه امرأتك فأكْشِفُ فإذا هي أنتتِ فأقول‏:‏ إن يكن هذا من عند الله يُمضه ‏"‏‏.‏ فقول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ ‏"‏ أمسك عليك زوجك ‏"‏ توفية بحقّ النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجاً له لأن علم النبي بما سيكون لا يقتضي إجراءَه إرشادَه أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلاً لا يؤمن ولم يمنعه ذلك من أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمِل الناسَ عليه، كما كان يرغب أن يقوم أَحد بقتل عبدَ الله بنَ سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع منه إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائباً‏.‏
ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصياناً للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه‏.‏ ولا يلزم أحداً المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها‏:‏ «لو راجعته‏؟‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ لا إنما أنا أشفع، قالت‏:‏ لا حاجة لي فيه»‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيد مستشيراً في فراق زوجه، أو معلماً بعزمه على فراقها‏.‏
و ‏{‏أمسك عليك‏}‏ معناه‏:‏ لازِم عشرتها، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد‏.‏
وزيادة ‏{‏عليك‏}‏ لدلالة ‏(‏على‏)‏ على الملازمة والتمكن مثل ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ أو لتضمن ‏{‏أمسك‏}‏ معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك، وأمرُه بتقوى الله تابع للإِشارة بإمساكها، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحِدْ عن واجب حسن المعاشرة، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإمساك بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وتخفى في نفسك ما الله مبديه‏}‏ عطف على جملة ‏{‏تقول‏}‏‏.‏ والإِتيان بالفعل المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏وتخفي‏}‏ للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيداً يُطَلّقها وذلك سرّ بينه وبين ربّه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة في علمه حتى يبلَّغوه؛ ألا ترى أنه لم يُعلم عائشة ولا أباهَا برؤيا إتياننِ الملَك بها في سَرَقةٍ من حرير إلا بعد أن تزوجها‏.‏
فما صْدَقُ «ما في نفسك» هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يُبْدِ الله شيئاً غير ذلك، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمراً يصلح للإظهار في الخارج، أي أن يكون من الصور المحسوسة‏.‏
وليست جملة ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏تقول‏}‏ كما جعله في «الكشاف» لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاماً يخالف ما هو مخفيّ في نفسه ولا يستقيم له معنى، إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد، وقد استشعر هذا صاحب «الكشاف» فقال‏:‏ «فإن قلت فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد‏:‏ أُريدُ مفارقتها، وكان من الهُجنة أن يقول له‏:‏ افعَلْ فإني أريد نكاحَها‏.‏ قلت‏:‏ كأنَّ الذي أراد منه عز وجل أن يصمُت عند ذلك أو يقول‏:‏ أنتَ أعلم بشأنك حتى لا يخالف سِرّه في ذلك علانيته» ا ه وهو بناء على أساس كونه عتاباً وفيه وهَن‏.‏
وجملة ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه‏.‏
والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهةُ من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحداً من ظهور تزوجه بزينب، ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعدُ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما يبعثهم على القالة في الناس لفتنة الأمة، فكان يعلم ما سيقولونه ويمتعض منه، كما كان منهم في قضية الإِفك، ولم تكن خشيةً تبلغ به مبلغَ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون‏.‏
والتعريف في ‏{‏الناس‏}‏ للعهد، أي تخشى المنافقين، أي يؤذوك بأقوالهم‏.‏
وجملة ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس، والواو اعتراضية وليست واو الحال، فمعنى الآية معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيراً من المفسرين على جعل الكلام عتاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم
و ‏{‏أحق‏}‏ اسم تفضيل مسلوب المفاضَلَة فهو بمعنى حقيق، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله، ولا ما يفيد تعارضاً بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس، والمعنى‏:‏ والله حقيق بأن تخشاه‏.‏
وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله، لأن الله لم يكلفه شيئاً فعمل بخلافه‏.‏
وبهذا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيداً بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترصه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإِيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينبَ فأسرعا خُطاهما فقال‏:‏ «على رسلكما إنما هي زينب»‏.‏ فكبر ذلك عليهما وقالا‏:‏ سبحان الله يا رسول اللَّه‏.‏ فقال‏:‏ «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما»‏.‏ فمقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستانَ يحوي أصنافاً من المرضى إذا رأى طعاماً يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه‏.‏
وليس في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين‏.‏ وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس من سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه، ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38، 39‏]‏، وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين، وعلى نحو قوله‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏
‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية، وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك‏.‏
وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصْغغِ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيداً بإمساك زوجه، فإن ذلك من مختلقات القصاصين؛ فإما أن يكون ذلك اختلافاً من القصاص لتزيين القصة، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به‏.‏ ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال‏.‏
ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزّت كثيراً من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب‏.‏ وقد تصدى أبو بكر بن العربي في «الأحكام» لوهن أسانيدها وكذلك عياض في «الشفاء»‏.‏
والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد‏.‏ ومجموع القصة من ذلك‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة، وقيل رفعتْ الريحُ ستار البيت فرأى النبي عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبَّح للَّه، وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيداً علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ ‏(‏وهو يودّ طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجاً له‏)‏‏.‏
وعلى تفاوت أسانيده في الوهن أُلقي إلى الناس في القصة فانتُقل غَثه وسمينه، وتُحُمِّل خِفه ورزينه، فأخذ منه كلٌّ ما وسعه فهمُه ودينه، ولو كان كله واقعاً لما كان فيه مغمز في مقام النبوءة‏.‏
فأما رؤيته زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد، فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكُنَّ يستْرنَ وجوههن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ ‏(‏أي الوجه والكفين‏)‏ وزيد كان من أشد الناس اتصالاً بالنبي، وزينبُ كانت ابنةَ عمته وزوجَ مولاه ومتبنّاه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيداً، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيتَ زيد، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبلُ، فكذلك لا عَجب فيه لأن رؤية الفُجأة لا مؤاخذة عليها، وحصولَ الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنّات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة‏.‏
وأما ما خطر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ليس بلوم، وأن قوله‏:‏ ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس‏.‏
وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفُتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المَرائِي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلاً على تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام وهو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيداً في إمساك زوجه مشيراً عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارةً ونصحاً لا أمراً وشرعاً‏.‏
ولو صح أن زيداً علم مودة النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجباً فإنهم كانوا يؤثرون النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وقد تنازل له دِحية الكلبي عن صفية بنت حُيَي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خَيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان بن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما‏.‏
وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحةً وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل‏.‏ والتخليط بين الحالين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم اللَّه في الباطن، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث‏.‏ وليس هذا من خائنة الأعين، كما توهمه من لا يُحسن، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد‏.‏
وليس هو أيضاً من الكذب لأن قول النبي عليه الصلاة والسّلام لزيد ‏{‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏}‏ لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما يناقضه لو قال‏:‏ إنّي أُحب أن تمسك زوجك، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار‏.‏ ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه، فضلاً على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالُف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثّر‏.‏
فإن قلت‏:‏ فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت‏:‏ لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك‏}‏ الآية‏.‏
قلت‏:‏ أرادت أن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سراً في نفسه لم يطلع عليه أحدٌ إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد‏.‏ وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد من قوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏‏.‏ فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خَبره بلَّغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة، فلو كان كاتماً لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربّه تعالى، ولكنه لما كان وحياً بلّغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه‏.‏
واعلم أن للحقائق نِصابها، وللتصرفات موانعها وأسبابَها، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد، فإذا تفشَّت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو ساءت، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها، والمباعدة بين الحقائق وشرعها‏.‏
ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها، وينزلها من صياصيها، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه‏.‏
‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً‏}‏‏.‏
تفريع على جملة ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏ الآية، وقد طوي كلام يدل عليه السياق، وتقديره‏:‏ فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها‏.‏
ومعنى ‏{‏قضى‏}‏ استوفى وأتم‏.‏ واسم ‏{‏زيد‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فلما قضى منها وطراً، أي قضى الذي أنعم الله وأنعمت عليه، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد‏.‏ قال القرطبي‏:‏ قال السهيلي‏:‏ كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوّه غاية التنويه ا ه‏.‏
والوطر‏:‏ الحاجة المهمة، والنهمة قال النابغة‏:‏
فمن يكن قد قضى من خَلة وطَراً *** فإنني منككِ ما قَضَّيت أوطاري
والمعنى‏:‏ فلما استتم زيد مدة معاشرة زينب فطلقها، أي فلما لم يبق له وطرٌ منها‏.‏
ومعنى ‏{‏زوجناكها‏}‏ أَذِنَّا لك بأن تتزوجها، وكانت زينب أيِّماً فتزوجها الرسول عليه الصّلاة والسّلام برضاها‏.‏
وذكر أهل السِير‏:‏ أنها زوّجها إياه أخوها أبو أحمد الضرير واسمه عبد بن جَحش، فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة‏:‏ ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطُب زينب عليَّ، قال زيد‏:‏ فجئتها فوليتها ظهري توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت‏:‏ يا زينب أرسل رسول الله يذكرك‏.‏ فقالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئاً حتى أُوَامر ربي، وقامت إلى مسجدها وصلَّت صلاة الاستِخارة فرضيت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فبنى بها‏.‏ وكانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول‏:‏ زوجكنَّ آباؤكن وزوّجني ربّي‏.‏ وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم عند الذين يشترطون الولي في النكاح كالمالكيّة دون قول الحنفية‏.‏ ولم يذكر في الروايات أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أصدقها فعدّه بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فيكون في تزوُّجها خصوصيتان نبويّتان‏.‏
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه، فلما أبطله الله بالقول إذ قال‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل‏:‏ إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم
والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول‏:‏ ليست العلة غير ذلك، ودلت الآية على أن الأصل في الأحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية‏.‏
وجملة ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏زوجناكها‏}‏‏.‏ وأمر الله يجوز أن يراد به من أمر به من إباحة تزوج من كنّ حلائل الأدعياء، فهو بمعنى الأمر التشريعي فيه‏.‏ ومعنى ‏{‏مفعولاً‏}‏ أنه متّبع ممتثل فلا يتنزه أحد عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏
ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقَدّر أسباب كونه، فيكون معنى ‏{‏مفعولاً‏}‏ واقعاً، والأمر من إطلاق السبب على المسبب، والمفعول هو المسبب‏.‏
وتزوُّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏
‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏
استئناف لزيادة بيان مساواة النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيّه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوءة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏، وأن النبي إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه، لأن الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه‏.‏
وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏فرض الله له‏}‏ قدّره، إذْ أَذِنَه بفعله‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏فرض‏}‏ باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديته بحرف ‏(‏على‏)‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏
والسُّنَّة‏:‏ السيرة من عمل أو خُلق يلازمه صاحبه‏.‏ ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏137‏)‏، وعلى الأول فانتصاب سنة الله‏}‏ هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر‏.‏ قال في «الكشاف» كقولهم‏:‏ تُرباً وجندَلاً، أي في الدعاء، أي تَرب تُرباً‏.‏ وأصله‏:‏ تُرْب له وجندَلٌ له‏.‏ وجاء على مراعاة الأصل قول المعري‏:‏
تمنتْ قُوَيْقاً والسراة حِيالها *** تُرَابٌ لها من أَينق وجِمال
ساقه مساق التعجب المشوب بغضب‏.‏
وعلى الثاني فانتصاب ‏{‏سنة‏}‏ على المفعول المطلق، وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدّر دل عليه المصدر أو نائبه‏.‏ فالتقدير‏:‏ سَنّ الله سنته في الذين خلوا من قبل‏.‏
والمعنى‏:‏ أن محمداً صلى الله عليه وسلم متَّبع سُنَّة الأنبياء الذين سبقوه اتباعاً لما فرض الله له كما فرض لهم، أي أباح‏.‏
والمراد ب ‏{‏الذين خلوا‏}‏‏:‏ الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبي، أي الذين خلوا من قبل النبوءة، وقد زاده بياناً قوله‏:‏ ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه‏}‏، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن‏.‏
فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بيّنته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء‏.‏
وإن تلقَّيْنا بشيء من الإغضاء بعضَ الآثار الضعيفة التي أُلصِقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زَوجة ‏(‏أوريا‏)‏ وهي التي ضرب الله لها مثلاً بالخصم الذين تسَوّرُوا المحراب وتشاكوا بين يديه‏.‏ وستأتي في سورة ص، وقد ذكرت القصة في «سفر الملوك»‏.‏ ومحلّ التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالاً له فصارت حلالاً له، وليس محلّ التمثيل فيما حَفّ بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال‏:‏
‏{‏وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ الآية لأن ذلك منتففٍ في قصة تزوّج زينب‏.‏
وجملة ‏{‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏}‏ معترضة بين الموصول والصفة إن كانت جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ صفة ل ‏{‏الذين خلوا من قبل‏}‏، أو تذييل مثل جملة ‏{‏وكان أمر الله مفعولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ إن كانت جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ مستأنفة كما سيأتي، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفاً‏.‏
والقَدَر بفتح الدال‏:‏ إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القَدْر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏21‏)‏‏.‏ ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطاً محكماً كثرت الكناية بالقدَر عن الإِتقان والصدور عن العلم‏.‏ ومنه حديث‏:‏ كل شيء بقضاء وقَدر، أي من الله‏.‏
واصطلح علماء الكلام‏:‏ أن القدَر اسم للإِرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدَر وهو المقدور كما في هذه الآية، فالمعنى‏:‏ وكان أمر الله مُقَدَّراً على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالماً بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء‏.‏
وفي قوله‏:‏ الذين يبلغون‏}‏ جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكلفهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حُسْن الحَسَن وقُبْح القَبيح، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حَسُن لديهم إذا كان ذلك في حدود الإِباحة، ولا كلّفهم مراعاة ميول الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عوناً لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏، أي لا يخشون أحداً خشية تقتضي فعل شيء أو تركه‏.‏
ثم إن جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين خلوا من قبل، أي الأنبياء‏.‏ وإذ قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم متبع ما أذِن الله له اتباعه من سُنّة الأنبياء قبله عُلم أنه متصف بمضمون جملة ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ بحكم قياس المساواة، فعلم أن الخشية التي في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ليست خشية خَوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعلَ ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها توَقُّع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره‏.‏
هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات، فلا تسلك في معنى الآية مسلكاً يفضي بك إلى توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حصلت منه خشية الناس وأن الله عرّض به في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ تصريحاً بعد أن عرّض به تلميحاً في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ بل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله‏:‏ ‏{‏زوّجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحِكمة‏.‏
وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال للاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏
استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك‏.‏
وهو ناظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة‏.‏
و ‏{‏من رجالكم‏}‏ وصف ل ‏{‏أحد‏}‏، وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات‏.‏ والمقصود‏:‏ نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَاننِ بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر ‏(‏أو هما اسمان لواحد‏)‏ والقاسم، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبياناً ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية‏.‏
والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم‏.‏
وإضافة ‏(‏رجال‏)‏ إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجاً للكلام في صيغة التغليط والتغليظ‏.‏
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال‏:‏ ‏{‏من رجالكم‏}‏ وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ كما تقدم‏.‏
واستدراك قوله‏:‏ ‏{‏ولكن رسول الله‏}‏ لرفع ما قد يُتوهم مِن نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبّرِ بينه وبين الأمة فذُكِّروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برّهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبيء مع أمته‏.‏
والواو الداخلة على ‏{‏لكن‏}‏ زائدة و‏{‏لكنْ‏}‏ عاطفة ولم ترد ‏{‏لكن‏}‏ في كلام العرب عاطفة إلاّ مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في «شرح التسهيل»‏.‏ وحرف ‏{‏لكن‏}‏ مفيد الاستدراك‏.‏
وعَطَف صفة ‏{‏وخاتم النبيئين‏}‏ على صفة ‏{‏رسول الله‏}‏ تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمةً قدَّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرُّسل أو أفضل في جميع خصائصه‏.‏
وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضياً أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضاً فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به‏.‏
ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السّلام صرف عيسى عن التزوج‏.‏
فلا تجعل قوله‏:‏ ‏{‏وخاتم النبيئين‏}‏ داخلاً في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه‏.‏ وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة ‏{‏وكان الله بكل شيء عليما‏}‏ إذْ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏
والآية نصّ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة‏.‏ ولا يعكر على نصيِّة الآية أن العموم دلالتُه على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص‏.‏ وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء‏.‏
وقد أجمع الصحابة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي فصار معلوماً من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلّهم‏.‏ وهذا النوع من الإِجماع موجب العلم الضروري كما أشار إليه جميع علمائنا ولا يدخل هذا النوع في اختلاف بعضهم في حُجِّية الإِجماع إذ المختلف في حجّيته هو الإِجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير‏.‏ وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمهُ إلزاماً فاحشاً ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما‏.‏
ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يُثبت نبوءةً لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإِسلام، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابِيَّة والبَهائية وهما نحْلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى‏.‏ وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلاً من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد، كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإِمامية‏.‏ أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأَحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج‏.‏ وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما أظهر نحلته علي محمد هذا لقبَ نفسه بَاب العلم فغلب عليه اسم الباب‏.‏
وعرفت نحلته بالبَابِيّة وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه «البيان» وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان علمه البيان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 3 4‏]‏‏.‏
وكتاب «البيان» مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية‏.‏ وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة 1266 في تبريز‏.‏
وأما البهائية فهي شعبة من البابِيّة تنسب إلى مؤسسها الملقّب ببهاء الله واسمه ميرزا حُسين عَلي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب‏.‏ ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا، وفيها ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوءة الباب وقد التفّ حوله أصحاب نحلة البابيّة وجعلوه خليفة البَاب فقام اسم البهائية مقام اسم البَابية فالبهائية هم البابية‏.‏ وقد كان البهاء بَنى بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفناً لرفات ‏(‏الباب‏)‏ وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عَكا فلبث في السجن سبعَ سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أُعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أُطلقوا يومئذٍ فرحل منتقلاً في أوروبا وأميركا مدة عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقرّ بها إلى أن توفي سنة 1340 وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإِخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم‏.‏
فمن كان من المسلمين متّبعاً للبَهائية أو البابية فهو خارج عن الإِسلام مرتدّ عن دينه تجري عليه أحكام المرتدّ‏.‏ ولا يرث مسلماً ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم‏:‏ إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده‏.‏ ونحن كفَّرنا الغُرابية من الشيعة لقولهم‏:‏ بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شُبّه له محمد بعليّ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب ‏(‏وكذبوا‏)‏ فبلغ الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله‏.‏
وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإِلهي، فبذلك فارقت الماسونية وعُدّت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب‏.‏
وانتصب ‏{‏رسول الله‏}‏ معطوفاً على ‏{‏أبا أحد من رجالكم‏}‏ عطفاً بالواو المقترنة ب ‏{‏لكن‏}‏ لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏وخاتِمَ النبيئين‏}‏ بكسر تاء ‏{‏خاتِم‏}‏ على أنه اسم فاعل من ختم‏.‏ وقرأ عاصم بفتح التَاء على تشبيهه بالخاتَم الذي يختم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقاً للنبوءة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏
إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبّهم فيما يُرجفون به في قضية تزوج زينب فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيراً لهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏، أي خير من التفاخر بذكر آبائكم وأحسابكم، فذلك أنفع لهم وأبعد عن أن تثور بين المسلمين والمنافقين ثائرة فتنة في المدينة، فهذا من نحو قوله لنبيّئه ‏{‏ودَعْ أذاهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ ومن نحو قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏، فأمروا بتشغيل ألسنتهم وأوقاتهم بما يعود بنفعهم وتجنب ما عسى أن يوقع في مضرة‏.‏
وفيه تسجيل على المنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم‏.‏
والجملة استئناف ابتدائي متصل بما قبله للمناسبة التي أشرنا إليها‏.‏
والذكر‏:‏ ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها‏.‏
والتسبيح‏:‏ يجوز أن يراد به الصلوات النوافل فليس عطف ‏{‏وسبحوه‏}‏ على ‏{‏اذكروا الله‏}‏ من عطف الخاص على العام‏.‏
ويجوز أن يكون المأمور به من التسبيح قول‏:‏ سبحان اللَّه، فيكون عطف ‏{‏وسبّحوه‏}‏ على ‏{‏اذكروا الله‏}‏ من عطف الخاص على العام اهتماماً بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏ فإن كلمة‏:‏ سبحان الله، يكثر أن تقال في مقام التبرُّؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد كقول النبي صلى الله عليه وسلم «سُبحان الله المُؤمن لا ينجس»‏.‏ وقول هند بنت عتبة حين أخذ على النساء البيعة «أن لا يَزْنين»‏:‏ سبحان الله أتزني الحرّة‏.‏
والبُكرة‏:‏ أول النهار‏.‏ والأصيل‏:‏ العشيّ الوقت الذي بعد العصر‏.‏ وانتصبا على الظرفية التي يتنازعها الفعلان ‏{‏اذكروا الله‏.‏‏.‏ وسبحوه‏}‏‏.‏
والمقصود من البُكرة والأصيل إعمار أجزاء النهار بالذكر والتسبيح بقدر المُكْنة لأن ذكر طرفي الشيء يكون كناية عن استيعابه كقول طرفة‏:‏
لكَالِطّوَل المرخَى وثِنياه باليد *** ومنه قولهم‏:‏ المشرق والمغرب، كناية عن الأرض كلّها، والرأسُ والعقب كناية عن الجسد كله، والظهر والبطن كذلك‏.‏
وقدّم البكرة على الأصيل لأن البكرة أسبق من الأصيل لا محالة‏.‏ وليس الأصيل جديداً بالتقديم في الذكر كما قُدم لفظ ‏{‏تمسون‏}‏ في قوله في سورة الروم ‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏ لأن كلمة المساء تشمل أول الليل فقدم لفظ ‏{‏تمسون‏}‏ هنالك رعّياً لاعتبار الليل أسبق في حساب أيام الشهر عند العرب وفي الإِسلام وليست كذلك كلمة الأصيل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏‏}‏
تعليل للأمر بذكر الله وتسبيحه بِأن ذلك مجلبةٌ لانتفاع المؤمنين بجزاء الله على ذلك بأفضل منه من جنسه وهو صلاته وصلاة ملائكته‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يصلي عليكم وملائكته إذا ذكرتموه ذكراً بُكرة وأصيلاً‏.‏
وتقديم المسند إليه على الخير الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ لإِفادة التقوِّي وتحقيق الحكم‏.‏ والمقصود تحقيق ما تعلق بفعل ‏{‏يصلي‏}‏ من قول ‏{‏ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏‏.‏
والصلاة‏:‏ الدعاء والذكر بخير، وهي من الله الثناء‏.‏ وأمره بتوجيه رحمته في الدنيا والآخرة، أي اذكروه ليذكركم كقوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقوله في الحديث القدسي‏:‏ «فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكَرَنِي في ملإِ ذكرتُه في ملإِ خيرٍ منهم»‏.‏ وصلاة الملائكة‏:‏ دعاؤهم للمؤمنين فيكون دعاؤهم مستجاباً عند الله فيزيد الذاكرين على ما أعطاهم بصلاته تعالى عليهم‏.‏ ففِعل ‏{‏يصلي‏}‏ مسند إلى الله وإلى ملائكته لأن حرف العطف يفيد تشريك المعطوف والمعطوف عليه في العامل، فهو عامل واحد له معمولان فهو مستعمل في القدر المشترك الصالح لصلاة الله تعالى وصلاة الملائكة الصادق في كلَ بما يليق به بحسب لوازم معنى الصلاة التي تتكيّف بالكيفية المناسبة لمن أسندت إليه‏.‏
ولا حاجة إلى دعوى استعمال المشترك في معنييه على أنه لا مانع منه على الأصح، ولا إلى دعوى عموم المجاز‏.‏ واجتلاب ‏{‏يصلي‏}‏ بصيغة المضارع لإِفادة تكرر الصلاة وتجددها كلما تجدد الذكر والتسبيح، أو إفادة تجددها بحسب أسباب أخرى من أعمال المؤمنين وملاحظة إيمانهم‏.‏
وفي إيراد الموصول إشارة إلى أنه تعالى معروف عندهم بمضمون الصلة بحسب غالب الاستعمال‏:‏ فإمّا لأن المسلمين يعلمون على وجه الإِجمال أنهم لا يأتيهم خير إلاّ من جانب الله تعالى، فكل تفصيل لذلك الإجمال دخل في علمهم، ومنه أنه يصلي عليهم ويأمر ملائكته بذلك، وإمّا أن يكون قد سبق لهم علم بذلك تفصيلاً من قبل‏:‏ فبعض آيات القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ فقد علم المسلمون أن استغفار الملائكة للمؤمنين بأمر من الله تعالى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، والدعاء لأحد من الشفاعة له، على أن من جملة صلة الموصول أن ملائكته يصلُّون على المؤمنين‏.‏ وذلك معلوم من آيات كثيرة، وقد يكون ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين فيما قبل نزول هذه الآية، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ كما يأتي قريباً‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليخرجكم‏}‏ متعلقة ب ‏{‏يصلي‏}‏‏.‏ فعلم أن هذه الصلاة جزاء عاجل حاصل وقت ذكرهم وتسبيحهم‏.‏
والمراد ب ‏{‏الظلمات‏}‏‏:‏ الضلالة، وبالنور‏:‏ الهُدى، وبإخراجهم من الظلمات‏:‏ دوام ذلك والاستزادَة منه لأنهم لما كانوا مؤمنين كانوا قد خرجوا من الظلمات إلى النور ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ تذييل‏.‏
ودلّ الإِخبار عن رحمته بالمؤمنين بإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ وخبرها لما تقتضيه ‏{‏كان‏}‏ من ثبوت ذلك الخبر له تعالى وتحققه وأنه شأن من شؤونه المعروف بها في آيات كثيرة‏.‏
ورحمته بالمؤمنين أعمّ من صلاته عليهم لأنها تشمل إسداء النفع إليهم وإيصال الخير لهم بالأقوال والأفعال والأَلطاف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏
أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجّل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم‏.‏
فالجملة تكملة للتي قبلها لإِفادة أن صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة‏.‏
والتحية‏:‏ الكلام الذي يخاطب به عندَ ابتداء الملاقاة إعراباً عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه‏.‏ وهذا الاسم في الأصل مصدر حيّاه، إذا قال له‏:‏ أحْياك الله، أي أطال حياتك‏.‏ فسمى به الكلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقَى أو الثناء عليه لأنه غلب أن يقولوا‏:‏ أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة وتحية الإِسلام‏:‏ سَلامٌ عليك أو السلامُ عليكم، دعاء بالسلامة والأمن، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يُبتغى في الحياة‏.‏ فإذا أحياه الله ولم يُسلِّمه كانت الحياة أَلَما وشراً، ولذلك كانت تحيةُ المؤمنين يوم القيامة السلامَ بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة‏.‏ وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذّذاً باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏ في سورة يونس ‏(‏10‏)‏‏.‏
وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله، أي تحية يُحَيَّون بها‏.‏
ولقاء الله‏:‏ الحضور من حضرة قدسه للحساب في المحشر‏.‏ وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏‏.‏ وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 77‏]‏ فميّز الله المؤمنين يومئذٍ بالتحية كرامة لهم‏.‏
وجملة ‏{‏وأعد لهم أجراً كريماً‏}‏ حال من ضمير الجلالة، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجراً كريماً‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعدّ لهم أجراً كريماً إتماماً لرحمته بهم‏.‏
والأجر‏:‏ الثواب‏.‏ والكريم‏:‏ النفيس في نوعه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏ والأجر الكريم‏:‏ نعيم الجنة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة‏.‏
وذُكر له هنا خمسةُ أوصاف هي‏:‏ شاهد‏.‏ ومبشّر‏.‏ ونذير‏.‏ وداع إلى الله‏.‏ وسراج منير‏.‏ فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة‏.‏
والشاهد‏:‏ المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاءِ ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وفي حديث الحشر‏:‏ «يُسأل كل رسول هل بلّغ‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقول الله‏:‏ مَن يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته»‏.‏ الحديث‏.‏
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضاً على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عَرَصات القيامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بَدّل‏.‏ وفي حديث الحَوض‏:‏ «ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا رأيتُهم وعرفتُهم اختُلجوا دوني فأقول‏:‏ يا رب أُصَيْحَابي أُصَيْحَابي‏.‏ فيقال لي‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تَبًّا وسُحْقاً لمَن أحدث بعدي» يعني‏:‏ أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث‏:‏ «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم»‏.‏ فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولاً لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتماً للشرائع ومتمّماً لِمراد الله من بعثة الرسل‏.‏
والمبشر‏:‏ المخبر بالبُشرى والبِشارة‏.‏ وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر لأَهل الإِيمان والمطيعين بمراتب فوزهم‏.‏ وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل‏.‏
وقدمت البِشارة على النِذارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته‏.‏
والنذير‏:‏ مشتق من الإِنذار وهو الإِخبار بحلول حادث مسيء أو قُرْب حلوله، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم‏.‏
وانتصب ‏{‏شاهداً‏}‏ على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة، أي أرسلناك مقدَّراً أن تكون شاهداً على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة‏.‏ ومثّل سيبويه للحال المقدرة بقوله‏:‏ مُررت برجل معه صقر صائِداً به‏.‏
وجيء في جانب النِذارة بصيغة فَعيل دون اسم الفاعل لإِرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم‏.‏ ومن الأَمثال‏:‏ أنا النذير العُريان، أي الآتي بخبر حلول العدوّ بديار قوم‏.‏ والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏ للإِيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حلّ بهم وكأنَّ المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقلّ الوصف بمنذر‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ خرج حتى صعد الصفا، فنادى‏:‏ يا صباحاه ‏(‏كلمة ينادِي بها من يطلب النجدة‏)‏ فاجتمعوا إليه فقال‏:‏ أرأيتُم إن أخبرتكم أن خَيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقيَّ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‏.‏ فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله‏:‏ ‏(‏فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏)‏‏.‏ وما في ‏{‏بين يدي عذاب‏}‏ من معنى التقريب‏.‏
وشمل اسم النذير جوامعَ ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المُقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل‏.‏
والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله‏.‏ وأصل دَعاه إلى فلان‏:‏ أنه دعاه إلى الحضور عنده، يقال‏:‏ ادعُ فلاناً إليَّ‏.‏ ولما عُلم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره ‏(‏كما يَقولون‏:‏ أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضَى من آل البيت‏)‏ فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإِسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدُعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم‏.‏
وزيادة ‏{‏بإذنه‏}‏ ليفيد أن الله أرسله داعياً إليه ويسّر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أُنزل عليه ‏{‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1، 2‏]‏، ومثلُه قوله تعالى لموسى‏:‏
‏{‏لا تخف إنك أنت الأعلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏، فهذا إذن خاص وهو الإِذن بعد الإِحجام المقتضي للتيسير، فأطلق اسم الإِذن على التيسير على وجه المجاز المرسل‏.‏ ونظيره قوله تعالى خطاباً لعيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ وقوله حكاية عن عيسى ‏{‏فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏‏.‏
وقوله ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان‏.‏ وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير‏.‏ وهذا وصف شامل لجميع الأوصاف التي وصف بها آنفاً فهو كالفذلكة وكالتذييل‏.‏
ووصف السراج ب ‏{‏منيراً‏}‏ مع أن الإِنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله‏:‏ شعر شاعر، وليلٌ ألْيَل لإِفادة قوة معنى الاسم في الموصوف بهِ الخاص فإن هدى النبي صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى‏.‏ وإرشاده أبلغ إرشاد‏.‏
روى البخاري في كتاب «التفسير» من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال‏:‏ «إن هذه الآية التي في القرآن‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ قال في التوراة‏:‏ يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحِرزاً للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكِّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيِّئة بالسيئة ولكنْ يعْفو ويصفح ‏(‏أو وَيغفر‏)‏ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العَوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتحَ ‏(‏أو فيفتح‏)‏ به أعينا عُمْياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء» ا ه‏.‏
وقول عبد الله بن عمرو «في التوراة» يعني بالتوراة‏:‏ أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصليّة من التوراة‏.‏ وهذا الذي حدث به عبد الله بن عَمرو ورأيت مقارِبه في سفر النبي أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليباً وهي الكتب المسماة بالعهد القديم؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل ‏(‏أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم‏)‏، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي، وَضَعْتُ رُوحي عليه فيُخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا تقصف، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم لنفتح عيون العُمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر»‏.‏
وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ نظيرها هذه الآية وحرزاً للأميين ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم‏}‏ سورة ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ أنت عبدي ورسولي ‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب‏}‏ سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ سميتك المتوكل ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏ ليس بفظ ولا غليظ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏ ‏(‏سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ ولا صخّاب في الأسواق ‏{‏واغضض من صوتك‏}‏ سورة ‏[‏لقمان‏:‏ 19‏]‏ ولا يدفع السيئة بالسيئة ‏{‏وادفع بالتي هي أحسن‏}‏ سورة ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ ولكن يعفو ويصفح ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ سورة ‏[‏العقود‏:‏ 13‏]‏ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملةَ العوجاء بأن يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً‏}‏ سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ويفتح به أعينا عُمْياً وآذاناً صُمًّا وقلوباً غُلْفاً ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ في ذكر الذين كفروا مقابلاً لذكر المؤمنين في قوله قبله ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
ولنذكرْ هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمَرو‏.‏
جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر أشعياء‏:‏ هو ذا عبدي ‏(‏أنت عبدي‏)‏ الذي أعضده مختاري ‏(‏ورسولي‏)‏ الذي سُرت به نفسي، وضَعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ‏(‏ليس بفظّ‏)‏ ولا يرفع ‏(‏ولا غليظ‏)‏ ولا يسمع في الشارع صوته ‏(‏ولا صَخَّاب في الأَسواق‏)‏ قصبة مرضوضة لا يقصف ‏(‏ولا يدفع السيئة بالسيئة‏)‏ وفتيلة خامدة لا يَطفا ‏(‏يعفو ويصفح‏)‏ إلى الأمان يُخرج الحق ‏(‏وحرزاً‏)‏ لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض ‏(‏ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء‏)‏ وتنتظر الجزائر شريعته ‏(‏للأميين‏)‏ أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسكُ بيدِك ‏(‏سميتك المتوكل‏)‏ وأحفظك ‏(‏ولن يقبضه الله‏)‏ وأجعلك عهداً للشعب أرسلناك شاهداً ‏(‏ونوراً للأمم‏)‏ ‏(‏مبشراً‏)‏ لنفتح عيون العُمي ‏(‏ونفتح به أعيناً عمياً‏)‏ لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن ‏(‏وآذاناً صُمًّا‏)‏ الجالسين في الظلمة ‏(‏وقلوباً غلفاً‏)‏‏.‏ أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ‏(‏بأن يقولوا لا إله إلا الله‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إنا أرسلناك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ عطف الإنشاء على الخبر لا محالة وهي أوضح دليل على صحة عطف الإِنشاء على الخبر إذ لا يتأتّى فيها تأويل مما تأوله المانعون لعطف الإِنشاء على الخبر وهم الجمهور والزمخشري والتفتزاني مما سنذكره إن شاء الله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ وبشر المؤمنين في سورة الصف ‏(‏11 13‏)‏، فالجملة المعطوف عليها إخبار عن النبي بأنه أرسله متلبساً بتلك الصفات الخمس‏.‏ وهذا أمر له بالعمل بصفة المبشر، فلاختلاف مضمون الجملتين عطفت هذه على الأولى‏.‏
والفضل‏:‏ العطاء الذي يزيده المعطي زيادة على العطية‏.‏ فالفضل كناية عن العطية أيضاً لأنه لا يكون فضلاً إلا إذا كان زائداً على العطية‏.‏ والمراد أن لهم ثواب أعمالهم الموعود بها وزيادة من عند ربهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏
ووصف ‏{‏كبيراً‏}‏ مستعار للفائق في نوعه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال لي أبي رضي الله عنه‏:‏ هذه أرجى آية عندي في كتاب الله لأن الله قد أمر نبيئه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلاً كبيراً‏.‏ وقد بين الله تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏ فالآية التي في هذه السورة خبرٌ، والآية التي في حم عسق تفسير لها ا ه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏
‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏
جاء في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ تحذيراً له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأييداً لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم، فنُهي عن الإِصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما أحلّ له من التزوّج، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثَمر النخل صلحاً أو نحو ذلك، والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء‏.‏
وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلَّق الإِنذار من قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأن وصف «بشيراً» قد أخذ متعلّقه فقد صار هذا ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ودع أذاهم‏}‏ يجوز أن يكون فعل ‏{‏دع‏}‏ مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون ‏{‏دع‏}‏ مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏دع‏}‏ مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدممِ الاغتمام، فما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه‏.‏ وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير‏.‏ والوجه‏:‏ الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقاً بالإِعراض عما يؤذون به النبي صلى الله عليه وسلم من أقوالهم، وصادقاً بالكف عن الإِضرار بهم، أي أن يترفع النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخة له‏.‏
وهذا يقتضي أنه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب آجل وذلك من معنى قوله‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله‏:‏ ‏{‏فتول عنهم حتى حين وأبصرهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 174 175‏]‏‏.‏
والتوكل‏:‏ الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ في سورة العقود ‏(‏23‏)‏، أي اعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك، فهذا ناظر إلى قوله‏:‏ وداعياً إلى الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏وتوكل على الله‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة، أي المجزي من توكّل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد، وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏81‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ كفى الله و‏{‏وكيلاً‏}‏ تمييز‏.‏
فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإِخبارية من قوله‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك شاهداً إلى وسراجاً منيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومبشراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأنه جاء في مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ودع أذاهم‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ كما علمت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وداعياً إلى الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏ فلم يذكَر له مقابل في هذه المطالب إلا أنه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏‏.‏ وهذا أقرب من بعض ما في «الكشاف» من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏
جاءت هذه الآية تشريعاً لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عِدَّة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة، فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة، وليخصص بها أيضاً آية العِدّة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلاَّ يظنّ ظانّ أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأجمع علماء الأمة على أن لا عدّة على المرأة إذا لم يدخل بها زوجها لهذه الآية‏.‏
والنكاح‏:‏ هو العقد بين الرجل والمرأة لتكون زوجاً بواسطة وليها‏.‏ وهو حقيقة في العقد لأن أصل النكاح حقيقة هو الضمّ والإِلصاق فشبه عقد الزواج بالالتصاق والضم بما فيه من اعتبار انضمام الرجل والمرأة فصارا كشيئين متّصلَيْن‏.‏ وهذا كما سمي كلاهما زوجاً، ولا يعرف في كلام العرب إطلاق النكاح على غير معنى العقد دون معنى الوطء ولذلك يقولون‏:‏ نكحت المرأة فُلاناً، أي تزوجته، كما يقولون‏:‏ نكح فلان امرأة‏.‏ وزعم كثير من مدوِّني اللغة أن النكاح حقيقة في إدخال شيء في آخر‏.‏ فأخذوا منه أنه حقيقة في الوطء، ودرج على ذلك الأزهري والجوهري والزمخشري، وهو بعيد، وعلى ما بنوه أخطأ المتنبي في استعماله إذ قال‏:‏
أنكحتُ صم حصاها خُفّ يعملة *** تَغَشْمَرت بي إليكَ السهل والجبلا
ولا حجة في كلامه، ولذلك تأوله أبو العلاء المعرّي في معجز أحمد بأنه أراد جمعت بين صم الحصى وخف اليعملة‏.‏
وتعليق الحكم في العِدَّة بالمؤمنات جرى على الغالب لأن نساء المؤمنين يومئذٍ لم يكنَّ إلا مؤمنات وليس فيهن كتابيات فينسحب هذا الحكم على الكتابية كما شملها حكم الاعتداد إذا وقع مسيسها بطرق القياس‏.‏
والمس والمسيس‏:‏ كناية عن الوطء، كما سمي ملامسة في قوله‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏
والعِدّة بكسر العين‏:‏ هي في الأصل اسم هيئة من العَدّ بفتح العين وهو الحساب فأطلقت العِدّة على الشيء المعدود، يقال‏:‏ جاء عِدة رجال، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ البقرة ‏(‏184‏)‏‏.‏ وغلب إطلاق هذا اللفظ في لسان الشرع على المدة المحددة لانتظار المرأة زواجاً ثانياً، لأن انتظارها مدة معدودة الأزمان إما بالتعيين وإما بما يحدث فيها من طهر أو وضع حمل فصار اسمَ جنس ولذلك دخلت عليه ‏{‏مِن‏}‏ التي تدخل على النكرة المنفية لإِفادة العموم، أي فما لكم عليهن من جنس العدة‏.‏
والخطاب في ‏{‏لكم‏}‏ للأزواج الذين نكحوا المؤمنات‏.‏ وجعلت العدة لهم، أي لأجلهم لأن المقصد منها راجع إلى نفع الأزواج بحفظ أنسابهم ولأنهم يملكون مراجعة الأزواج ما دُمْن في مدة العدّة كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ ومع ذلك هي حق أوجبه الشرع، فلو رام الزوج إسقاط العِدّة عن المطلقة لم يكن له ذلك لأن ما تتضمنه العِدّة من حفظ النسب مقصد من أصول مقاصد التشريع فلا يسقط بالإِسقاط‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏تعتدونها‏}‏ تَعُدّونها عليهن، أي تعدُّون أيّامها عليهن، كما يقال‏:‏ اعتدت المرأة، إذا قضت أيام عِدّتها‏.‏
فصيغة الافتعال ليست للمطاوعة ولكنها بمعنى الفعل مثل‏:‏ اضطُرّ إلى كذا‏.‏ ومحاولة حمل صيغة المطاوعة على معروف معناها تكلف‏.‏
ويشبه هذا مَن راجع المعتدة في مدة عِدّتها ثم طلقها قبل أن يمَسَّها فإن المراجعة تشبه النكاح وليست عينه إذ لا تفتقر إلى إيجاب وقبول‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في اعتدادها من ذلك الطلاق، فقال مالك والشافعي في أحد قوليه وجمهور الفقهاء‏:‏ إنها تنشئ عِدة مستقبَلة من يومَ طلقها بعد المراجعة ولا تبني على عِدّتها التي كانت فيها لأن الزوج نقض تلك العدة بالمراجعة‏.‏ ولعل مالكاً نظر إلى أن المسيس بعد المراجعة قد يخفى أمره بخلاف البناء بالزوجة في النكاح فلعله إنما أوجب استئناف العِدة لهذه التهمة احتياطاً للأنساب‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن وأبو قلابة وقتادة والزهري‏:‏ تبني على عدتها الأولى التي راجعها فيها لأن طلاقه بعد المراجعة ودون أن يمسها بمنزلة إرداف طلاق ثان على المرأة وهي في عدتها فإن الطلاق المردف لا اعتداد له بخصوصه‏.‏ ونسب القرطبي إلى داود الظاهري أنه قال‏:‏ المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عِدّتها ثم فارقها قبل أن يمسها إنه ليس عليها أن تتمّ عدتها ولا عدةً مستقبلة لأنها مطلقة قبل الدخول بها ا ه‏.‏ وهو غريب، وكلام ابن حزم في «المحلَّى» صريح في أنها تبتدئ العِدة فلعله من قول ابن حزم وليس مذهب داود، وكيف لو راجعها بعد يوم أو يومين من تطليقها فبماذا تعرف براءة رحمها‏.‏
وفاء التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فمتعوهن‏}‏ لأن حكم التمتيع مقرّر من سورة البقرة ‏(‏236‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏ الخ‏.‏ والمتعة‏:‏ عطية يعطيها الزوج للمرأة إذا طلقها‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ فلذلك جيء بالأمر بالتمتيع مفرعاً على الطلاق قبل المسيس‏.‏
وقد جعل الله التمتيع جبراً لخاطر المرأة المنكسرِ بالطلاق وتقدم في سورة البقرة أن المتعة حق للمطلقة سواء سمي لها صداق أم لم يسم بحكم آية سورة الأحزاب لأن الله أمر بالتمتيع للمطلقة قبل البناء مطلقاً فكان عمومها في الأحوال كعمومها في الذوات، وليست آية البقرة بمعارضة لهذه الآية إذ ليس فيها تقييد بشرط يَقتضي تخصيص المتعة بالتي لم يسم لها صداق لأنها نازلةٌ في رفع الحرج عن الطلاق قبل البناء وقبل تسمية الصداق، ثم أمرتْ بالمتعة لِتَينِك المطلقتين فالجمع بين الآيتين ممكن‏.‏
والسراح الجميل‏:‏ هو الخلي عن الأذى والإِضرار ومنع الحقوق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏
‏{‏ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ وبنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وامْرَأَةً مُّؤمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِىِّ إنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ‏}‏‏.‏
نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحلّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه، أو مما روعي في تخصيصه به علوّ درجته‏.‏
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتتِ جحش وقالوا‏:‏ تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون‏.‏ ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء‏}‏ الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال‏.‏
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وبنات خالاتك‏}‏، وأما تشريع ما لم يكن مشروعاً فذلك من قوله‏:‏ ‏{‏التي هاجرن معك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ خبر مُراد به التشريع‏.‏ ودخول حرف ‏(‏إنّ‏)‏ عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع ‏(‏إنَّ‏)‏ هنا مجرد الاهتمام، والاهتمام يناسب كلاّ من قصد الإِخبار وقصدِ الإِنشاء، ولذلك عُطفت على مفعول ‏{‏أحللنا‏}‏ معطوفات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوماً من قبل وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وبنات عمك‏}‏ وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف ‏{‏الاتي هاجرن معك‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها‏}‏ باعتبار تقييدها بوصف الإِيمان وتقييدها ب«إن وهبت نفسها للنبي وأراد النبي أن يستنكحها»‏.‏ هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم‏.‏
وعندي‏:‏ أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وتؤخذ من الامتنان الإِباحة ويؤخذ من ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية، ولتكون هذه الآية تمهيداً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ الخ‏.‏
وسيجيء ما لنا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏من بعدُ‏}‏ وما لنا في موضع قوله ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏أحللنا لك‏}‏ الإِباحة له، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحلّلات له ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏‏.‏
وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنّهن الأزواج اللاتي في عصمته، فيكون الكلام إخباراً لتقرير تشريع سابق ومسوقاً مساق الامتنان، ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية‏.‏
وحكى ابن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏أزواجك اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ أن الله أحلّ له أن يتزوج كل امرأة يُصدقها مهرها فأباح له كل النساء، وهذا بعيد عن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره‏.‏ وعن التعبير ب ‏{‏آتيت أجورهن‏}‏ بصيغة المضيّ‏.‏ واختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ فقال قوم‏:‏ هذه ناسخة لقوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ولو تقدمت عليها في التلاوة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏‏.‏
و ‏{‏اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ صفة ل ‏{‏أزواجك‏}‏، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة، فالماضي في قوله‏:‏ ‏{‏آتيت أجورهن‏}‏ مستعمل في حقيقته‏.‏ وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن‏:‏ عائشة، وحفصة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وفيهن من لسن كذلك وهنّ‏:‏ جويرية من بني المصطلق، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وزينب أم المساكين من بني هلال، وكانت يومئذٍ متوفاة، وصفية بنت حيي الإِسرائيلية‏.‏
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهنّ ثلاثة أصناف‏:‏
«الصنف الأول»‏:‏ ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه، أي مما أعطاه الله من الفيء، وهو ما ناله المسلمون من العدوّ بغير قتال ولكن تركَه العدو، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أمّ ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوءته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسالمة من جهة الجوار، إذ لم تكن له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسرّ غير مارية القبطية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تسرى جارية أخرى وهبتها له زوجه زينبُ ابنة جحش ولم يثبت‏.‏ وقيل أيضاً‏:‏ إنه تسرى ريحانَة من سبي قريظة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد ب ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏ المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة‏.‏
وهذا الحكم يشركه فيه كثير من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئاً من الفيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلّت له‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏ وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القبطية، أو هي وريحانة إن ثبت أنّه تسراها‏.‏
«الصنف الثاني»‏:‏ نساء من قريب قرابته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو من جهة أمه مؤمنات مهاجرات‏.‏ وأغنى قوله‏:‏ ‏{‏هاجرن معك‏}‏ عن وصف الإِيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإِيمان، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف، فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة‏.‏ وعندي‏:‏ أن الوصفين ببنات عمه وعمّاته وبناتتِ خاله وخالاته، وبأنهن هاجَرْن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن‏.‏
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريماً لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة‏.‏ وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم لأمته، فالمرأة التي تستوفي هذا الوصف يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوجُ أمثالها، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها، وهو الذي درج عليه الجمهور، ويؤيده خبر روي عن أمّ هاني بنت أبي طالب‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها‏.‏ وباعتبار عدم تقييد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الإطلاق خاصاً به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع‏.‏
وبنات عمّ النبي صلى الله عليه وسلم هن بنات إخوة أبيه مثل‏:‏ بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب‏.‏ وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له، وبناتُ عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب‏.‏
وبناتُ خاله هنّ بنات عبد مناف بن زُهرة وهن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم عبد يغوث بن وهب أخو آمنة، ولم يذكروا أن له بنات، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير‏.‏ وقد ذكر في «الإصابة» فريعة بنتَ وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجةَ عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه‏.‏
وإنما أُفرد لفظ ‏(‏عم‏)‏ وجُمع لفظ ‏(‏عمات‏)‏ لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون‏:‏ هؤلاء بنو عم أو بنات عم، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام، ويفهم المراد من القرائن‏.‏ قال الراجز أنشده الأخفش‏:‏
ما بَرئتْ من ريبة وذمّ *** في حربنا إلا بناتُ العمّ
وقال رؤبة بن العجاج‏:‏
قالت بنات العم يا سلمى وإنْ *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنْ
فأما لفظ ‏(‏العمة‏)‏ فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم، فإذا قالوا‏:‏ هؤلاء بنو عمةٍ، أرادوا أنهم بنو عمةٍ معيّنة، فجيء في الآية‏:‏ ‏{‏عماتك‏}‏ جمعاً لئلا يفهم منه بنات عمة معينة‏.‏ وكذلك القول في إفراد لفظ ‏(‏الخال‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏بنات خالك‏}‏ وجمع الخالة في قوله‏:‏ ‏{‏وبنات خالاتك‏}‏‏.‏
وقال قوم‏:‏ المراد ببنات العم وبنات العمات‏:‏ نساء قريش، والمراد ببنات الخال‏:‏ النساء الزهريات، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبي قد عُرفت أزواجه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏اللاني هاجرن معك‏}‏ صفة عائدة إلى ‏{‏بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك‏}‏ كشأن الصفة الواردة بعد مفردات، وهو شرط تشريع لم يكن مشروطاً من قبل‏.‏
والمعية في قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ معية المقارنة في الوصف المأخوذ من فعل ‏{‏هاجرن‏}‏ فليس يلزم أن يكنَّ قد خرجْنَ مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة‏.‏
«الصنف الثالث»‏:‏ امرأة تَهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجة له بدون مهر إذا شاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهذا حقيقة لفظ ‏{‏وهبت‏}‏، فالمراد من الهبة‏:‏ تزويج نفسها بدون عوض، أي بدون مهر، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح عقد النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافاً للشافعي‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏وامرأة‏}‏ عطف على ‏{‏أزواجك‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأحللنا لك امرأة مؤمنة‏.‏
والتنكير في ‏{‏امرأة‏}‏ للنوعية‏:‏ والمعنى‏:‏ ونُعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله‏:‏ ‏{‏للنبيء‏}‏ في الموضعين إظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والمعنى‏:‏ إن وهبتْ نفسها لك وأردتَ أن تنكحها‏.‏ وهذا تخصيص من عموم قوله‏:‏ ‏{‏وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك‏}‏ فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت ‏{‏امرأة‏}‏ ب ‏{‏مؤمنة‏}‏ ليعلم عدم اشتراط ما عدا الإيمان‏.‏ وقد عُدّت زينب بنت خُزيمة الهلالية وكانت تدعى في الجاهلية أمَّ المساكين في اللاتي وهبن أنفسهن، ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلاً فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية‏.‏
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن‏:‏ أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة‏:‏ أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم روى ثابت البناني عن أنس قال‏:‏ «جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت‏:‏ يا رسول الله ألك حاجة بي‏؟‏ فقالت ابنةُ أنس وهي تسمع إلى رواية أبيها‏:‏ ما أقل حياءها وَاسَوأتاه واسوأتاه‏.‏ فقال أنس‏:‏ هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها»‏.‏ وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبها‏.‏ فقال رجل‏:‏ «يا رسول الله زوجنيها، إلى أن قال له، ملّكناكها بما معك من القرآن» فهذا الصنف حكمه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنه بدون مهر وبدون ولي‏.‏
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن‏:‏ ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أمّ المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السَلَمية‏.‏ فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين والأخريان لم يتزوجهما‏.‏
ومعنى ‏{‏وهبت نفسها للنبيء‏}‏ أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين ولهذا عطفت على ‏{‏ما ملكت يمينك‏}‏، وأردفت بقوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ أي خاصة لك أن تتخذها زوجة بتلك الهبة، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك‏.‏ ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يُزوجه إياها علماً منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له ما عندك‏؟‏ قال‏:‏ ما عندي شيء‏.‏ قال‏:‏ اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال‏:‏ لا والله ولا خاتَماً من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه‏.‏ قال سهل‏:‏ ولم يكن له رداء، فقال النبي‏:‏ ‏"‏ وما تصنع بإزارك إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء ثم قال له ماذا معك من القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ معي سورة كذا وسورة كذا لسُور يُعدّدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملكناكها بما معك من القرآن ‏"‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ إن وهبت نفسها لك‏.‏ والغرض من هذا الإِظهار ما في لفظ ‏{‏النبي‏}‏ من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوءة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ جملة معترضة بين جملة ‏{‏إن وهبت‏}‏ وبين ‏{‏خالصة‏}‏ وليس مسوقاً للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادته نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإِباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجباً عليه كما كان عرف أهل الجاهلية‏.‏ وجوابه محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير‏:‏ إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له، فهذا شرط مستقل وليس شرطاً في الشرط الذي قبله‏.‏
والعدول عن الإِضمار في قوله‏:‏ ‏{‏إن أراد النبي‏}‏ بأن يقال‏:‏ إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ ‏{‏النبي‏}‏ من التفخيم والتكريم‏.‏
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها ولم يجز له ردُّها، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي عليه الصلاة والسلام في قبول هِبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به‏.‏
والسين والتاء في ‏{‏يستنكحها‏}‏ ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة‏:‏
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوةً *** أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حُنّ قتلوا أبا جابر الطائي فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حُنّ، أي زوجة رجل منهم‏.‏ وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏‏.‏
فتبيَّن من جعل جملة ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط، وتبعه السيوطي في الفن السابع من كتاب «الأشباه والنظائر النحوية»، ويلوح من كلام صاحب «الكشاف» استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك‏.‏
وانتصب ‏{‏خالصة‏}‏ على الحال من ‏{‏امرأة‏}‏، أي خالصة لك تلك المرأة، أي هذا الصنف من النساء، والخلوص معنيٌّ به عدم المشاركة، أي مشاركةِ بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرّد عن المخالطة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ لبيان حال من ضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لك‏}‏ ما في الخلوص من الإجمال في نسبته‏.‏ وقد دل وصف ‏{‏امرأة‏}‏ بأنها ‏{‏مؤمنة‏}‏ أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء عليه الصلاة والسلام بهبة نفسها‏.‏ ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنه لا يحلّ للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بَلْهَ المشركات، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافاً‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ والصحيح عندي تحريمها عليه‏.‏ وبهذا يتميز علينا؛ فإن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تُهاجر لنقصانها فضلَ الهجرة فأحرى أن لا تحلّ له الكتابية الحرة‏.‏
‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ‏}‏‏.‏
جملة معترضة بين جملة ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ أو هي حال سببي من المؤمنين، أي حال كونهم قد علمنا ما نَفرض عليهم‏.‏
والمعنى‏:‏ أن المؤمنين مستمر ما شُرع لهم من قبلُ في أحكام الأزواج وما ملكتْ أيمانهم، فلا يَشملهم ما عُيّن لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفاً، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو الَّلائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة‏.‏
و ‏{‏ما فرضنا عليهم‏}‏ موصول وصلته، وتعدية ‏{‏فرضنا‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ المقتضي للتكليف والإِيجاب للإِشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكَتْ أيمانهم ما يَوَدُّون أن يخفف عنهم مثل عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات، فإذا سمعوا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام وَدّوا أن يلحقوا به في ذلك، فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعه لهم في ذلك، والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الأحكام لأن معناه أنّا لم نغفل عن ذلك، أي لم نبطله بل عن علم خصصنا نبيئنا بما خصصناه به في ذلك الشأن، فلا يشمل ما أحللناه له بقيةَ المؤمنين‏.‏
وظرفية ‏{‏في‏}‏ مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذَوات الأزواج وذواتُ ما ملكته الأيمان‏.‏
‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً‏}‏‏.‏
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيئه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزوج الواهبات أنفسهن دون مهر، وجَعل قبول هبتها موكولاً لإِرادته، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدا ذلك من الإباحة فلم يضيّق عليه، وهذا تعليم وامتنان‏.‏
والحرج‏:‏ الضيق، والمراد هنا أدنى الحرج، وهو ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلو عنه التكاليف، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته‏.‏ ومراتب الحرج متفاوتة، ومناط ما يُنفى عن الأمة منها وما لا ينفى، وتقديراتُ أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها وأعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول، وقد حرر ملاّكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه «أنواء البروق»‏.‏ وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية»‏.‏
وأعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكُمّل من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبداً شكوراً كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفاراً كثيراً‏.‏
والتذييل بجملة ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المعترضة، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإِرادة والعلم فهما ناشئتان عن صفات الذات، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمراً متمكّناً بما دلّ عليه فعل ‏{‏كان‏}‏ المشير إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏
‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏
‏{‏تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً‏}‏‏.‏
استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ فإنه يثير في النفس تطلباً لبيان مدى هذا التحليل‏.‏ والجملةُ خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإِرجاء والإِيواء لمن يشاء النبي صلى الله عليه وسلم
والإِرجاء حقيقته‏:‏ التأخير إلى وقت مستقبل‏.‏ يقال‏:‏ أرجأت الأمر وأرجيْته مهموزاً ومخففاً، إذا أخرته‏.‏
وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات، فإذا عدي فعله إلى اسم ذات تعين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها، فإذا قلت‏:‏ أرجأت غريمي، كان المراد‏:‏ أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي‏.‏
والإِيواء‏:‏ حقيقته جعل الشيء آوياً، أي راجعاً إلى مكانه‏.‏ يقال‏:‏ آوى، إذا رجع إلى حيث فارق، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه، وسواء كان بعد سبق استقرار بالمكان أم لم يكن‏.‏
ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما‏.‏
فضمير ‏{‏منهن‏}‏ عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، والواهبات أنفسهن، فتلك أربعة أصناف‏:‏
الصنف الأول‏:‏ وهنّ اللاء في عصمة النبي عليه الصّلاة والسّلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف ينصرف إلى تأخير الاستمتاع إلى وقت مستقبل يريده، والإِيواء ضده‏.‏ فيتعين أن يكون الإِرجاء منصرفاً إلى القَسْم فوسع الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقاً له لا لهن بخلاف بقية المسلمين، وعلى هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين، قاله الطبري‏.‏
وقد كانت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة، وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية، ولما نزلت هذه الآية صار النبي عليه الصلاة والسلام مخيراً في القسم لأزواجه‏.‏ وهذا قول الجمهور، قال أبو بكر بن العربي‏:‏ وهو الذي ينبغي أن يعول عليه‏.‏ وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرماً منه على أزواجه‏.‏ قال الزهري‏.‏ ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحداً من أزواجه بل آواهن كلَّهن‏.‏
قال أبو بكر بن العربي‏:‏ وهو المعنى المراد‏.‏ وقال أبو رَزين العُقيلي‏:‏ أرجأ ميمونة وسَودة وجويرية وأم حبيبة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء، أي دون مساواة لبقية أزواجه‏.‏ وضعفه ابن العربي‏.‏
وفسر الإِرجاء بمعنى التطليق، والإِيواءُ بمعنى الإِبقاء في العصمة، فيكون إذناً له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإِرجاء على التطليق غريب‏.‏
وقد ذكروا أقوالاً أخر وأخباراً في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها‏.‏ ويشمل الإِرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإِماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت‏.‏
ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن‏:‏ بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن، والإِيواء العقد على إحداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين‏.‏
وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، عُبر عنه بالإِرجاء إبقاء على أَملها أن يقبلها في المستقبل، وإيواؤهن قبول هبتهن‏.‏
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف ‏{‏ترجي‏}‏ بالياء التحتية في آخره مخَّفف ‏(‏تُرجئ‏)‏ المهموز‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ‏{‏ترجئ‏}‏ بالهمز في آخره‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الهمز أجود وأكثر‏.‏ والمعنى واحد‏.‏
واتفق الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذاً منه بأفضل الأخلاق، فكان يعدل في القسم بين نسائه، إلاّ أن سَودة وهبت يومها لعائشة طلباً لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما قوله‏:‏ ‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك‏}‏ فهذا لبياننِ أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخيَّرِ بينهما، أي لا يكون عمله بالعزل لازمَ الدوام بمنزلة الظهار والإِيلاء، بل أَذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن، فصرح هنا بأن الإِرجاء شامل للعزل‏.‏
ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏ابتغيت‏}‏ إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها، فمفعول ‏{‏ابتغيت‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وتؤوي إليك من تشاء‏}‏ كما هو مقتضى المقابلة بقوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء‏}‏، فإن العزل والإِرجاء مؤداهما واحد‏.‏
والمعنى‏:‏ فإن عزلْتَ بالإِرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتَغَيْتَ العود إليها، أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تَبِين منه‏.‏ ومتعلق الجُناح محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ابتغيت‏}‏ أي ابتغيت إيواءها فلا جناح عليك من إيوائها‏.‏
و ‏{‏من‏}‏ يجوز أن تكون شرطية وجملة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ جواب الشرط‏.‏ ويجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيراً كقوله تعالى‏:‏
‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏، وعليه فجملة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ خبر المبتدأ اقترن بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول ‏{‏عزلت‏}‏ محذوف عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب‏.‏
‏{‏ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَلِيمًا‏}‏‏.‏
الإِشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء‏}‏، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل ‏{‏ابتغيت‏}‏ أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرَّ أعينهُنّ‏.‏ والابتغاء‏:‏ الرغبة والطلب، والمراد هنا ابتغاء معاشرة مَن عَزلَهن‏.‏
فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق حقاً لهن فإذا عين لإِحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏ فقرت أعين جميعهن بما عُينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه، وإن علم أنّ له حقاً حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه‏.‏ وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه الزمخشري وابن العربي والقرطبي وابن عطية، وهذا يلائم قوله‏:‏ ‏{‏ويرضين‏}‏ ولا يلائم قوله‏:‏ ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏ لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحزن‏}‏ لأن الحزن من الأمر المكدّر ليس باختياري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فلا تَلمنِي فيما لا أملك ‏"‏‏.‏ وعلى الوجه الثاني يكون المعنى‏:‏ ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تَقَرَّ أعين اللاتي كنت عزلتَهُن‏.‏ ففي هذا الوجه ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏أن تقر أعينهن ولا يحزن‏}‏ كما علمت آنفاً، ولقوله‏:‏ «ويرضَيْنَ كلُّهن»، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرّة على المسلم وحصول الرضى بين المسلمين وهو مما يعزّز الأخوة الإسلامية المرغب فيها‏.‏ ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبّائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر‏.‏ ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه بليلة سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشة، استمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به كل يوم على بيوت أزواجه، وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذِنَّ له أزواجُه أن يمرض في بيتها رفقاً به‏.‏
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قَسَم لَهُن ‏"‏ اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ‏"‏ ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏ إشارة إلى أن المراد الرضى الذي يتساوَيْن فيه وإلا لم يكن للتأكيد ب ‏{‏كلهن‏}‏ نكتة زائدة، فالجمع بين ضميرهن في قوله‏:‏ ‏{‏كلهن‏}‏ يومئ إلى رضى متساوٍ بينهن‏.‏
وضميرا ‏{‏أعينهن ولا يحزن‏}‏ عائدان إلى ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ممن عزلت‏}‏‏.‏ وذكر ‏{‏ولا يحزن‏}‏ بعد ذكر ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏ مع ما في قُرّة العين من تضمّن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزناً للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يُحْزِن أحداً‏.‏
و ‏{‏كلهن‏}‏ توكيد لضمير ‏{‏يَرْضَيْنَ‏}‏ أو يتنازعه الضمائر كلّها‏.‏
والإِيتاء‏:‏ الإِعطاء وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني، أو ذكر غير معيّن كقوله‏:‏ ‏{‏فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء‏.‏ ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول‏:‏ آتاه سجناً وآتاه ضرباً، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة، فما هنا من القبيل الأول، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن يرضين بما أذِن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن‏.‏ وتوجيهه في «الكشاف» تكلف‏.‏
والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً‏}‏ كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي إجراء صفتي ‏{‏عليماً حليماً‏}‏ على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك، فمناسبة صفة العلم لقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏ ظاهرة، ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخلق بخلق الله تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً‏.‏ ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخيير في النساء اللاتي كنّ في معاشرته، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء‏.‏ وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏
‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه ‏{‏بعدُ‏}‏ ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو‏:‏ إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ الخ‏.‏ وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح‏.‏
و ‏{‏بعد‏}‏ يجوز أن يكون بمعنى ‏(‏غير‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ أي غيرهن، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال‏:‏ «نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك‏}‏ فأحل الله المملوكات المؤمنات ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏بعدُ‏}‏ مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق‏.‏
وبناء ‏{‏بعدُ‏}‏ على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوففٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في «شرحه على قطر الندى»، فيجوز أن يكون التقدير‏:‏ من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر‏:‏ من غير مَن ذكرن، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن ‏(‏وكن تسعاً‏)‏، أو مَن اخترتهن‏.‏
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله‏:‏ خالصة لك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت‏:‏ «ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء»‏.‏ وقال حديث حسن‏.‏ ‏(‏وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة‏)‏ فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها‏:‏ ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة‏.‏
و ‏{‏النساء‏}‏ إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة‏:‏
حذارا على أن لا تُنال مقادتي *** ولا نِسوتي حتى يَمُتْنَ حرائرا
أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن‏}‏ أصله‏:‏ تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، يقال‏:‏ بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد، ومادة البدل تقتضي شيئين‏:‏ يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف ‏{‏مِن‏}‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏108‏)‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة‏.‏
والمعنى‏:‏ ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى‏.‏
وضمير ‏{‏بهن‏}‏ عائد إلى ما أضيف إليه ‏{‏بعد‏}‏ المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة‏.‏
والمعنى‏:‏ ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها‏.‏
فالباء داخلة على المفارقة‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ مزيدة على المفعول الثاني ل ‏{‏تبدل‏}‏ لقصد إفادة العموم‏.‏ والتقدير‏:‏ ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏‏.‏ وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لا يحل‏}‏ بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم‏.‏
وجملة ‏{‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏ في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير ‏{‏تبدل‏}‏‏.‏ و‏{‏لو‏}‏ للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏
والمعنى‏:‏ لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك‏.‏
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء‏.‏
وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة، إذ قالت للنبيء‏:‏ ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك‏.‏ وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله‏:‏ وكان الله على كل شيء رقيباً‏}‏ أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك‏.‏ وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ منقطع‏.‏ والمعنى‏:‏ لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال‏.‏ والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ ‏{‏النساء‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء‏}‏ ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏
‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَئنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحِى مِنكُمْ واللهُ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الحَقِّ‏}‏‏.‏
لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، وصدره بالإِشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية‏.‏ وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم ودعا القوم فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام مَن قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة‏.‏‏.‏‏.‏ فتقَرَّى حُجَرَ نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا فانطلقتُ فجئت فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من وراء حجاب‏}‏‏.‏
وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له‏:‏ «يا رسول الله يدخل عليك البَّرُ والفاجر فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب‏.‏ وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها‏.‏
وابتدئ شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهمّ عنده يأتيه هنالك‏.‏
وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام ولكنه مثال للدعوة وتخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً‏.‏ ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يَدعوه عمر إلى الغدَاء ففتح عليه الآية ودخل فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته وأمر له بعُسّ من لبن ثم ثاننٍ ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام إدماجاً لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله‏:‏ ‏{‏غير ناظرين إناه‏}‏ مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بيوت‏}‏ بكسر الباء‏.‏ وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها‏.‏
و ‏{‏إناه‏}‏ بكسر الهمزة وبالقصر‏:‏ إما مصدر أَنَى الشيءُ إذا حان، يقال‏:‏ أنى يأنِي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ومقلوبه‏:‏ آن‏.‏ وهو بمعناه‏.‏ والمعنى‏:‏ غير منتظرين حضور الطعام، أي غير سابقين إلى البيوت وقبْل تهيئته‏.‏
والاستثناء في ‏{‏إلا أن يؤذن لكم‏}‏ استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه، أي إلا حال أن يؤذن لكم‏.‏
وضُمِّن ‏{‏يؤذن‏}‏ معنى تُدعون فعدي ب ‏{‏إلى فكأنه قيل‏:‏ إلا أن تُدعَوْا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام‏.‏
فالكلام متضمن شرطين هما‏:‏ الدعوة، والإِذن، فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك‏.‏
وغير ناظرين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏لكم‏}‏ فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيداً في قيدٍ فصارت القيود المشروطة ثلاثة‏.‏
و ‏{‏ناظرين‏}‏ اسم فاعل من نظَر بمعنى انتظر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 102‏]‏ الآية‏.‏
ومعنى ذلك‏:‏ لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نُضجه‏.‏ وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون قبل أن يُدرك الطعام فيقعدون إلى أن يُدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا ه‏.‏ وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النَفر الذين حضروا وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا، فكُني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل‏.‏ ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهماً وجشعاً وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجهاً إلى صريح الانتظار‏.‏
وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دُعي لأجله، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمَر أو نحو ذلك، وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يَثقل على صاحب المحل، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه‏.‏
و ‏{‏طعمتم‏}‏ معناه أكلتم، يقال‏:‏ طعم فلان فهو طاعم، إذا أكل‏.‏
والانتشار‏:‏ افتعال من النشر، وهو إبداء ما كان مطوياً، أطلق على الخروج مجازاً وتقدم في قوله‏:‏
‏{‏وجعل النهار نُشوراً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏47‏)‏‏.‏
والواو في ولا مستأنسين‏}‏ عطف على ‏{‏ناظرين‏}‏ وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين‏.‏ وزيادة حرف النفي قبل ‏{‏مستأنسين‏}‏ لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله‏:‏ ‏{‏فلا وربك يؤمنون‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يسخر قوم من قوم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏ولا نساء من نساء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والاستئناس‏:‏ طلب الأنس مع الغير‏.‏ واللام في ‏{‏لحديث‏}‏ للعلة، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم‏.‏
والحديث‏:‏ الخبر عن أمر حدث، فهو في الأصل صفة حُذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإِخبار عن أمر حدث، وتُوسّع فيه فصار الإِخبار عن شيء ولو كان أمراً قد مضى‏.‏ ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما يسمى خبراً، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة، ومنه قولهم‏:‏ حديثُ خرافة، وقول كثير‏:‏
أخذنا باكتراث الأحاديث تبييناً ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت
واستئناس الحديث‏:‏ تسمُّعه والعناية بالإِصغاء إليه، قال النابغة‏:‏
كأن رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مُستأنس وَحَدِ
أي كأني راكب ثوراً وحشياً منفرداً تسمَّع صوت الصائد فأسرع الهروب‏.‏
وإضافة ‏{‏بيوت النبي‏}‏ على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكاً لهم من الأنصار، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة، فإن المدينة فتحت بكلمة الإِسلام فأصبحت داراً للمسلمين‏.‏ ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فَدَك ونخللِ بني النضير، فكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذٍ عمر بن عبد العزيز‏.‏ ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يُعطَ ورثتُهن شيئاً ولا سألوه‏.‏ وإضافتها إلى ضميرهن في قوله‏:‏ ‏{‏ما يتلى في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ على معنى لام الاختصاص لا لام الملك‏.‏
قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم‏:‏ هذه الآية أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء، وقال ابنُ أبي عائشة‏:‏ حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم‏.‏
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل‏.‏ وهو من مساوئ الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضراً بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يُخدل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يُضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهياً‏.‏
وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق‏.‏
ومعاملة الناس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعداً عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتاً لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يَشغل أحد أوقاتَه إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن لكم‏}‏‏.‏
والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فادخلوا‏}‏ للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة، وتقييد النهي بقوله‏:‏ ‏{‏غير ناظرين إناه‏}‏ للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإِذن فهو تطفل‏.‏
والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا‏}‏ للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذوننِ لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله؛ إلا أنه نظري قد يُغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعاً لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزاً بيناً‏.‏ وعطف ‏{‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏ راجع إلى هذا الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا‏}‏ فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام‏.‏
وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكاً للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه‏.‏
وجملة ‏{‏إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم‏}‏ استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا‏.‏ فمناط التحذير قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم كان يؤذي النبي‏}‏ فإن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى‏.‏ ومناط دفع الاغترار قوله‏:‏ ‏{‏فيستحيي منكم‏}‏ فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذناً وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظوراً لما سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشئ عن سبببٍ هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص‏.‏
وإنما كان ذلك مؤذياً النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبيته وأهله‏.‏ واقتران الخبر بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام به‏.‏ ولك أن تجعله من تنزيل غير المُتردد منزلة المتردد لأن حال النفَر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج، فغفلوا عما في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيتِهِ بقاءَهم، تلك حالة من يظن ذلك مأذوناً فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديداً في التحذير واستفاقة من التغرير‏.‏
وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ لإِفادة تحقيق الخبر‏.‏
وصيغ ‏{‏يؤذي‏}‏ بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر، والتكرير كناية عن الشدة‏.‏
والأذى‏:‏ ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ في آل عمران ‏(‏111‏)‏، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه‏.‏
والتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فيستحيي منكم‏}‏ تفريع على مقدر دلت عليه القصة‏.‏ والتقدير‏:‏ فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعاً على الإِيذاء ولا هو من لوازمه‏.‏
ودخول ‏{‏مِن‏}‏ المتعلقة ب ‏{‏يستحيي‏}‏ على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه‏.‏
وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء يختلف باختلاف الذوات، فقولك‏:‏ أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له‏.‏ ولك أن تقول‏:‏ استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان‏.‏ وعلى التقدير الأول تكون ‏{‏مِن‏}‏ للتعليل، وعلى التقدير الثاني تكون ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء‏.‏ وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أن‏:‏ استحييت من فلان مجاز أو توسع، وأن‏:‏ استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة‏.‏ وظاهر كلام صاحب «الكشاف» عكس ذلك والأمر هيّن‏.‏
وصيغ فعل ‏{‏يستحيي‏}‏ بصيغة المضارع لأنه مفرع على ‏{‏يؤذي النبي‏}‏ ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه‏.‏
وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏إن ذلكم كان يؤذي النبي‏}‏ ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه‏.‏
ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلاً على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه‏.‏ وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه «الشفاء»‏.‏
فإن قلت‏:‏ ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلاً من خروجه هو‏.‏ قلت‏:‏ لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم
وجملة ‏{‏والله لا يستحيي من الحق‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فيستحيي منكم‏}‏ والمعنى‏:‏ أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإِنكار ترجيحاً منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه‏:‏ ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالِفةً للمعطوفة هي عليها فلم يقل‏:‏ ولا يستحيي الله من الحق، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضاً من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى‏.‏
والتعريف في ‏{‏الحق‏}‏ تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في ‏{‏الحمد لله‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق‏.‏
و ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ ضد الباطل‏.‏ فمنه حق الله وحق الإِسلام، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه‏.‏
ويشتمل حقَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الحق‏}‏ ليست مثل ‏{‏من‏}‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏فيستحيي منكم‏}‏ لأن ‏{‏مِن هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يُستحيَى من ذاته فمعنى إن الله لا يستحيي من الحق أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه‏.‏
وقد أفاد قوله‏:‏ والله لا يستحيي من الحق‏}‏ أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان‏.‏
وهذا المعنى فهمته أمُّ سُليم وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها، فقد جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ عن أم سَلَمة قالت‏:‏ جاءت أم سُليم إلى النبي فقالت‏:‏ يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ نعم إذا رأت الماء ‏"‏‏.‏ فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستححِ في إخبارها بذلك‏.‏ ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاماً أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها‏.‏ وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء، ففي «الموطأ» عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه‏؟‏ قال علي‏:‏ فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله» الحديث‏.‏
على أن بين قضية أم سُليم وقضية علي تفاوتاً من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر‏.‏
واعلمْ أن في ورود ‏{‏يؤذي‏}‏ هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» شاهداً على أن الكلمة قد تروق السامعَ في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع‏.‏ وجاء بكلمة ‏{‏يؤذي‏}‏ في هذه الآية، ونظيرها ‏(‏تؤذي‏)‏ في قول المتنبي‏:‏
تَلذ له المروءة وهي تُوذي *** وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضباً من ابن الأثير لا تُسوِّغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أيمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يَعُدَّ عليه أحد منهم هذا منتقَداً، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيء من الإِخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانياً من كتاب «دلائل الإعجاز» فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنيعين‏.‏
‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسالوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏لا تدخلوا بيوت النبي‏}‏ فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها‏.‏
وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل‏:‏ إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس‏.‏
وضمير ‏{‏سألتموهن‏}‏ عائد إلى الأزواج المفهوم من ذِكر البيوت في قوله‏:‏ ‏{‏بيوت النبي‏}‏ فإن للبيوت ربَّاتهن وزوجُ الرجل هي ربة البيت، قال مرة بن مَحْكَان التميمي‏:‏
يا ربةَ البيت قُومي غيرَ صاغرة *** ضمّي إليك رجال الحي والغُربا
وقد كانوا لا يبني الرجل بيتاً إلا إذا أراد التزوج‏.‏ وفي حديث ابن عمر‏:‏ كنت عزباً أبيت في المسجد‏.‏ ومن أجل ذلك سَموا الزفاف بناء‏.‏ فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدَلت البيوت على الأزواج بالالتزام‏.‏ ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 34 38‏]‏ فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت رباتتٍ‏.‏
والمتاع‏:‏ ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤاللٍ عن الدِّين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين‏.‏
والحجاب‏:‏ السَّتْر المُرخَى على باب البيت‏.‏
وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد‏.‏ وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر‏.‏
و ‏{‏من وراء حجاب‏}‏ متعلق ب ‏{‏فاسألوهن‏}‏ فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور‏.‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية‏.‏ والوراء‏:‏ مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة، فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولة مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها وبالعكس‏.‏
والإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى المذكور، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب‏.‏
واسم التفضيل في قوله‏:‏ ‏{‏أطهر‏}‏ مستعمل للزيادة دون التفضيل‏.‏
والمعنى‏:‏ ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإِلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض‏.‏
وأيضاً فإن للناس أوهاماً وظنوناً سُوأَى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة ووهناً، ونَفَاقاً وضعفاً، كما وقع في قضية الإِفك المتقدمة في سورة النور فكان شَرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعاً لكل تقول وإرجاف بعمد أو بغير عمد‏.‏
ووراء هذه الحِكَم كلها حكمة أخرى سامية وهي زيادة تقرير معنى أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أُمومة جَعلية شرعية بحيث إن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن أمهات يرتد وينعكس إلى باطن النفس وتنقطع عنه الصور الذاتية وهي كونهن فلانة أو فلانة فيصبحْن غير متصوَّرات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمى في النفوس، ولا تزال الصور الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريباً في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية‏.‏
وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين المركبُ من ملازمتهن بيوتهن وعدممِ ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعاً وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات، ولما أنشد النميري عند الحجاج قوله‏:‏
يُخمرن أطرافَ البنان من التقى *** ويَخرجن جَنح الليللِ مُعْتَجِرات
قال الحجاج‏:‏ وهكذا المرأة الحرة المسلمة‏.‏
ودل قوله‏:‏ ‏{‏لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبي صلى الله عليه وسلم على السواء‏.‏ وقد أُلحق بأزواج النبي عليه السلام بنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجَنازتها جعلوا عليها قبة حتى دُفنت، وكذلك جعلت قبة على زينبَ بنت جَحش في خلافة عمر بن الخطاب‏.‏
‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيمًا‏}‏‏.‏
لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أُتبع بالنهي عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً عاماً، فالخطاب في ‏{‏لكم‏}‏ للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ الآية‏.‏
والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً‏}‏ وجملة ‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 55‏]‏‏.‏
ودلت جملة ‏{‏ما كان لكم‏}‏ على الحظر المؤكد لأن ‏{‏ما كان لكم‏}‏ نفيٌ للاستحقاق الذي دلت عليه اللام، وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ لتأكيد انتفاء الإِذن‏.‏ وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم‏.‏
وتضمنت هذه الآية حكمين‏:‏
أحدهما‏:‏ تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأذى‏:‏ قول يقال له، أو فعل يُعامل به، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته‏.‏
والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن أذى النبي عليه الصلاة والسلام محظور على المؤمنين‏.‏ وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب «الشفاء» لعياض‏.‏
والحكم الثاني‏:‏ تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏}‏ وهو تقرير لحكم أُمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وقد حُكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية‏:‏ منها أن رجلاً قال‏:‏ لو مات محمد تزوجتُ عائشة، أي قاله بمسمع ممن نقلَه عنه فقيل‏:‏ هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو من المؤمنين، أي خطر له ذلك في نفسه، قاله القرطبي‏.‏ وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيْد الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانت هفوة منه وتاب وكفَّر بالحج ماشياً وبإِعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك، أي إنْ حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك‏.‏ وأقول‏:‏ لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله‏.‏ وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد‏.‏ وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطَّلع على ما في قلبه، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب‏.‏ فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عَقب هذه الآيات ‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ الآية‏.‏ وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد، لأن ثبوت ذلك في حياته قد عُلم من قوله‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي عليه الصلاة والسلام تُعيِّن أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإِضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطَلاق لأن طلاق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعاً لقوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏
وأكد ظرف ‏(‏بعدُ‏)‏ بإدخال ‏{‏من الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف ‏{‏أبداً‏}‏ ليُعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيداً وتحذيراً بقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏}‏، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏‏.‏ والإِشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه، أي ذلكم المذكورُ‏.‏
والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام‏.‏
وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة‏.‏
وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثماً عظيماً عند الله، أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمَّه، وذلك إثم عظيم‏.‏
واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها‏:‏ الحقي بأهلك، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب‏.‏ ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوّجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر همّ بعقابه فقال له عمر‏:‏ إن رسول الله لم يدخل بها‏.‏
والمرويات في هذا الباب ضعيفة‏.‏ والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنيْن وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجاً فإنما هو مراكنة ووعد، ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها‏:‏ هبي لي نفسك ‏(‏أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها‏)‏ فقالت‏:‏ ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك‏.‏ فقال لها‏:‏ لقد استعذت بمعاذ‏.‏ فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر‏:‏ إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد‏.‏
وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها‏.‏ على أنه يظهر أن الإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏أزواجه‏}‏ بمعنى لام العهد، أي الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ فهن اللاءِ ثبت لهن حكم الأمهات‏.‏
وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏
كلام جامع تحريضاً وتحذيراً ومنبئ عن وعد ووعيد، فإن ما قبله قد حوى أمراً ونهياً، وإذ كان الامتثال متفاوتاً في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسباً لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء، فالمراد من ‏{‏شيئاً‏}‏ الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم‏.‏ والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله‏:‏ ‏{‏بكل شيء‏}‏‏.‏ وإظهار لفظ ‏{‏شيء‏}‏ هنا دون إضمار لأن الإِضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانياً هو غير المذكور أولاً، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏
‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏
تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وإنما رفع الجناح عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى‏:‏ لا جناح عليهن ولا عليكم، كما أن معنى ‏{‏فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ أنهن أيضاً يُجِبن من وراء حجاب كما تقدمت الإِشارة إليه يقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏
والظرفية المفادة من حرف ‏{‏في‏}‏ مجازية شائعة في مثله، يقال‏:‏ لا جناح عليك في كذا، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره‏:‏ في رُؤية آبائهن إيَّاهُن، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإِذن، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما اقتضته آية سورة النور، والإِذن يصدر منهن فلذلك رُجّح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن‏.‏
والنساء‏:‏ اسم جمع امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم، وهن الإِناث البالغات أو المراهقات‏.‏
والمراد ب ‏{‏نسائهن‏}‏ جميع النساء، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن على أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن، والمراد جميع النساء‏.‏
ولم يذكر من أصناف الأقرباء الأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإِخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم، من أنه لما رفِع الحرج عنهن فيمن هن عمات لهن أو خالات كان رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك، وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة، فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله‏:‏ ‏{‏واتقين الله‏}‏‏.‏
والتفت من الغيبة إلى خطابهن في قوله‏:‏ ‏{‏واتقين الله‏}‏ لتشريف نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه الخطاب الإِلهي إليهن‏.‏
والشهيد‏:‏ الشاهد مبالغة في الفعل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏
أعقبت أحكام معاملة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظًّا عظيماً‏.‏ ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علَّمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريباً، وليُجعل ذلك تمهيداً لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم، وذُكرَ صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالاً من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك، والتأكيد للاهتمام‏.‏ ومجيء الجملة الإسمية لتقوية الخبر، وافتتاحها باسم الجلالة لإِدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم، والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ في هذه السورة ‏(‏43‏)‏‏.‏ وهذه صلاة خاصة هي أرفع صلاة مما شمله قوله هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ لأن عظمة مقام النبي يقتضي عظمة الصلاة عليه‏.‏
وجملة ‏{‏يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه‏}‏ هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيد لأن الله لما حَذّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظُّهم أكبر من ذلك وهو أن يُصَلُّوا عليه ويُسَلِّمُوا، وذلك هو إكرامهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى، فجملة ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد‏.‏ وجيء في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيراً إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته‏.‏
والأمر بالصلاة عليه معناه‏:‏ إيجاد الصلاة، وهي الدعاء، فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية‏.‏
والصلاة‏:‏ ذِكر بخير، وأقوال تجلب الخير، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة، فصلاة الله‏:‏ كلامه الذي يُقدِّر به خيراً لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطّل، لأن الله هو الذي يدعوه الناس، وصلاة الملائكة والناسِ‏:‏ استغفار ودعاء بالرحمات‏.‏
وظاهر الأمر أن الواجب كلُّ كلام فيه دعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا‏:‏ «يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمناه فكيف نصلي عليك‏؟‏» يعنون أنهم علِموا السلام عليه من صيغة بثّ السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته‏:‏ السلام عليكم‏.‏ والسلام في التشهد هو «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته»‏.‏
فقال رسول الله‏:‏ قولوا‏:‏ ‏"‏ اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ‏"‏‏.‏ هذه رواية مالك في «الموطأ» عن أبي حُميد الساعدي‏.‏
وروي أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ «وعلى آل محمد» ‏(‏عن أزواجه وذريته في الموضعين‏)‏ وبزيادة «في العالمين»، قبل‏:‏ «إنك حميد مجيد‏.‏ والسلامُ كما قد علمتم»‏.‏ وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي‏.‏ وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في «أحكام القرآن»‏.‏ ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء، والدعاء من حسن الأقوال، ودعاء المؤمنين لا يتوجه إلاّ إلى الله‏.‏
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان مجملاً في العدد فَمَحْمَله مَحْمل الأمر المُجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإِيقاع الفعل ولمقتضَى الأمر‏.‏ ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجباً على كل مؤمن أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في العمر، فجعلوا وقتها العمرَ كالحج‏.‏ وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره، ولا خلاف في استحباب الإِكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها‏.‏ قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن الموازِ من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية‏:‏ إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته‏.‏ قال إسحاق‏:‏ ولو كان ناسياً‏.‏
وظاهر حكايتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمداً وكأنهم جعلوا ذلك بياناً للإِجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم، والتسليمُ وارد في التشهد، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله‏:‏ لأقاتلنّ من فَرق بين الصلاة والزكاة، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة، وإلا فليس له أن يبين مجملاً بلا دليل‏.‏
وقال جمهور العلماء‏:‏ هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي جرى عليه الشافعية أيضاً‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ولا أعلم للشافعي فيها قُدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله، وقد شنع عليه في هذه المسألة جداً‏.‏ وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبي، كذلك كل من روَى التشهد عن رسول الله‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتَّاب، وعلمه أيضاً على المنبر عمر، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب‏.‏
وأما حديث ‏"‏ لا صلاة لمن لم يصل عليَّ ‏"‏ فقد ضعفه أهل الحديث كلهم‏.‏
ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائِل، وعند الدعاء، وعند سماع الأذان، وعند انتهاء المؤذن، وعند دخول المسجد، وفي التشهد الأخير‏.‏
وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبي بذكر الفعل المضارع في ‏{‏يصلون‏}‏ إشارة إلى الترغيب في الإِكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأسيَّاً بصلاة الله وملائكته‏.‏
واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون على النبي كلما جرى ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين‏.‏
والذي يبدو أنهم كانوا يصلون على النبي إذا تذكروا بعض شؤونه كما كانوا يترحمون على الميِّت إذا ذكروا بعض محاسنه‏.‏ وفي «السيرة الحلبية»‏:‏ «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون صلواتُ الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله» وروى البخاري في باب‏:‏ متى يحلّ المعتمر‏:‏ عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحَجون «صلى الله على رسوله محمد وسلم لقد نزلنا معه ههنا ونحن يومئذٍ خِفاف» إلى آخره‏.‏
وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من «جامع الترمذي» حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت‏:‏ كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال‏:‏ رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال‏:‏ رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، قال الترمذي‏:‏ حديث حسن وليس إسناده بمتصل‏.‏
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في «التاريخ الكامل» في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة‏:‏ أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمداً النفس الزكية بأبيات منها‏:‏
والله لوْ شهد النبي محمد *** صلى الإله على النبي وسَلَّماً
ثم أحدثت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد، ذكر ذلك ابن الأثير في «الكامل» في سنة إحدى وثمانين ومائة، وذكره عياض في «الشفاء»، ولم يذكرا صيغة التصلية‏.‏ وفي «المخصص» لابن سيده في ذكر الخُف والنعل‏:‏ إن أبا مُحَلِّم بعث إلى حذَّاء بنعل ليحذوها وقال له‏:‏ «ثم سُنَّ شَفْرَتك وسُنّ رأس الإِزميل ثم سَمِّ باسم الله وصلّ على محمد ثم انحها» إلى آخره‏.‏
ولا شك أن إتباع اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجوداً في القرن الرابع، وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبي عقب ذكره اسمه‏.‏
وأحسب أن الذين سنُّوا ذلك هم أهل الحديث‏.‏ قال النووي في مقدمة شرحه على «صحيح مسلم» «يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله أن يكتب عز وجل، أو تعالى، أو سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جل ذكره، أو تبارك اسمه، أو جلت عظمته، أو ما أشبه ذلك، وكذلك يكتب عند ذكر النبي «صلى الله عليه وسلم بكمالها لا رامزاً إليها ولا مقتصراً على بعضها، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء‏.‏ وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يقرأ منه ولا يَسأم من تكرر ذلك، ومن أغفل ذلك حُرم خيراً عظيماً» ا ه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وسلموا تسليماً‏}‏ القول فيه كالقول في ‏{‏صلوا عليه‏}‏ حكماً ومكاناً وصفة فإن صفته حددت بقول النبي صلى الله عليه وسلم «والسلام كما قد علمتم» فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته»‏.‏ وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته»‏.‏ والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام رعياً لما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حي يَبلُغه تسليم أمته عليه‏.‏
ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأَحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلِّق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سلم عليه فقال‏:‏ عليك السلام يا رسول الله فقال له‏:‏ ‏"‏ إن عليكَ السلام تحيةُ الموتى، فقل‏:‏ السلام عليك ‏"‏‏.‏ والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة، وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثأر ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أحداً توجّسُوا خِيفة أن يكون مضمراً شراً لملاقيه، فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإِخبار بأنه مُلق على مُلاقيه سلامة وأمناً‏.‏ ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالاً على الكرامة والتلطف، قال النابغة‏:‏
أتاركة تدللها قطام *** وضِنًّا بالتحية والسلام
ولذلك كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسلموا‏}‏ غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ هذا السلام قد عرفناه، وقال لهم‏:‏ والسلام كما قد علمتم، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهد في الصلاة‏.‏
وإذ قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول‏:‏ السلام على النبي أو عليه السلام، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبي بخلاف التصلية لما علمت مِمَّا اقتضى ذلك فيها‏.‏
والآية تضمنت الأمر بشيئين‏:‏ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليممِ عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخيّر بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول‏:‏ صلى الله على محمد والسلام عليه، أو أن يقول‏:‏ اللهم صل على محمد والسلام على محمد، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله، وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في «الشفاء» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لقيت جبريل فقال لي‏:‏ أبشرك أن الله يقول‏:‏ من سَلَّم عليك سلمتُ عليه ومن صلى عليك صلّيتُ عليه‏.‏ وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم، وقال ابن حجر‏:‏ لعله أراد خلاف الأوْلى‏.‏ وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك‏.‏
وأما أن يُقال‏:‏ اللهم سلم على محمد، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حَسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا‏:‏ صلى الله عليه وسلم لقصد الاختصار فيما نرى‏.‏ وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل‏.‏ وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت‏:‏ «صلى الله على محمد وسلم»‏.‏
ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك‏.‏
وقد استحسن أيمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وعن مالك‏:‏ لا يصلّى على غير نبيئنا من الأنبياء‏.‏ يريد أن تلك هي السنة، وروي مثله عن ابن عباس، وروي عن عمر بن عبد العزيز‏:‏ أن الصلاة خاصة بالنبيئين كلهم‏.‏
وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام على نوح في العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏سلام على آل ياسين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 130‏]‏، ‏{‏سلام على موسى وهارون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 120‏]‏، ‏{‏سلام على إبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 109‏]‏‏.‏
وأنه يجوز إِتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال‏.‏ هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريماً ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأيمة الدين، وقصروا كلمات الإِجلال نحو‏:‏ تبارك وتعالى، وجل جلاله، على الخالق دون الأنبياء والرسل‏.‏
وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على عليّ وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغضّ من الخلفاء والصحابة‏.‏
وانتصب ‏{‏تسليماً‏}‏ على أنه مصدر مؤكد ل ‏{‏سلّمُوا‏}‏ وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال‏:‏ صلّوا عليه صلاةً، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإِحراق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتصلية جحيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 94‏]‏، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏‏}‏
لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذّرهم مما قد يخفى على بعضهم من خفيّ الأذى في جانبه بقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلكم كان يؤذي النبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ الآية، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم اتسموا بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من الإِيمان في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين‏.‏
فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه يخطر في نفوس كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بتوقيره‏.‏
وجيء باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم، ولدلالة الصلة على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم هو علة لعنهم وعذابهم‏.‏
واللعن‏:‏ الإِبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون‏.‏ فهم في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته، وهم في الآخرة محقرون بالإِهانة في الحشر وفي الدخول في النار‏.‏
والعذاب المهين‏:‏ هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي‏.‏
والقرن بين أذى الله ورسوله للإِشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يُغضب الله تعالى فكأنه أذى لله‏.‏
وفعل ‏{‏يؤذون‏}‏ معدى إلى اسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة‏.‏ فاستعمل ‏{‏يؤذون‏}‏ في معنييه المجازي والحقيقي‏.‏
ومعنى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من آذاني فقد آذى الله ‏"‏ وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإِنكار عليه فيما يفعله، وبالكيد له، وبأذى أهله مثل المتكلمين في الإِفك، والطاعنين أعماله، كالطعن في إمارة زيد وأسامة، والطعن في أخذه صفية لنفسه‏.‏ وعن ابن عباس «إنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حييّ لنفسه»‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏
‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏
ألحقت حُرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنهم، وذكروا على حدة للإِشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته والمؤمنات‏.‏
وعطف ‏{‏المؤمنات‏}‏ على ‏{‏المؤمنين‏}‏ للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوماً من الشريعة، لوَزْع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم‏.‏
والمراد بالأذى‏:‏ أذى القول بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فقد احتملوا بهتاناً‏}‏ لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين‏.‏ والمراد بالمبين العظيم القوي، أي جُرماً من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه‏.‏
وضمير ‏{‏اكتسبوا‏}‏ عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب، والمجرور في موضع الحال‏.‏ وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب‏.‏
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، أي أن يُسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولاً لعموم الناس ولكنه موكول إلى ولاة الأمور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللذان يأتيانها منكم فآذوهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة وقال‏:‏ «هي أن تذكر أخاك بما يكره‏.‏ فقيل‏:‏ وإن كان حقاً‏.‏ قال‏:‏ إن كان غير حق فذلك البهتان» فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى‏.‏
وما صْدَق الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما اكتسبوا‏}‏ سيّئاً، أي بغير ما اكتسبوا من سيّئ‏.‏ ومعنى ‏{‏احتملوا‏}‏ كَلَّفوا أنفسهم حَملاً، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمَل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏112‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏
أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ وقال أبو الأسود‏:‏
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس
وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «رحم الله والداً أعان ولده على بره»‏.‏ وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب، فالإِعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير‏.‏
وابتدئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء، فذكرهن من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام به‏.‏
والنساء‏:‏ اسم جمع للمرأة لا مفرد له من لفظه، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا نسائهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 55‏]‏‏.‏ فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإِناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى ‏(‏من‏)‏ أي النساء من المؤمنين‏.‏
والجلابيب‏:‏ جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذارَيْها وينسدل سائره على كتفها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر‏.‏
وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات‏.‏ والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين‏}‏‏.‏
والإِدناء‏:‏ التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن، قال بشار‏:‏
ليلةٌ تَلبَس البياض من الشهر *** وأخرى تُدني جلابيبَ سودا
فقابل ب ‏(‏تُدني‏)‏ ‏(‏تلبَس‏)‏ فالإِدناء هنا اللبس‏.‏
وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإِماء لا يلبسن الجلابيب‏.‏ وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكُنَّ لا يلبسْنَها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلاً فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدُّعّار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافاً بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذيْنَ من ذلك وربما يسببْن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين‏.‏ فهذا من سدّ الذريعة‏.‏
والإِشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الإدناء المفهوم من ‏{‏يدنين‏}‏، أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن‏.‏ وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإِماء من التقنع كي لا يلتبسن بالحرائر ويضرب من تتقنّع منهن بالدّرة ثم زال ذلك بعده، فذلك قول كثير‏:‏
هنّ الحرائر لا ربات أخمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإِسلامي، والتذييل يقتضي انتهاء الغرض‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏
‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏‏}‏
انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدئ التعريض بهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله إلى قوله تعالى‏:‏ عظيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، ثم من قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57 59‏]‏‏.‏
وصرح هنا بما كُني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لُفَّ لِفَّهُم‏.‏
و ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإِيمان‏.‏
و ‏{‏المرجفون في المدينة‏}‏‏:‏ هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد، قاله أبو رزين‏.‏
وجملة ‏{‏لئن لم ينته‏}‏ استئناف ابتدائي‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ينته‏}‏ لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين‏.‏
والإِرجاف‏:‏ إشاعة الأخبار‏.‏ وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإِشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدَّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفَان وهو الاضطراب والتزلزل‏.‏
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل‏.‏ ومعنى الإِرجاف هنا‏:‏ أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون‏:‏ هُزموا أو أَسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإِيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض‏.‏ وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهم ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ في سورة النساء ‏(‏83‏)‏‏.‏
فهذه الأوصاف لأصناف من الناس‏.‏ وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه لنغرينك بهم‏}‏ لا يساعد أن فيهم مؤمنين‏.‏
واللام في ‏{‏لئن‏}‏ موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ والله لئن لم ينته‏.‏
واللام في ‏{‏لنغرينك‏}‏ لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط‏.‏
والإِغراء‏:‏ الحثّ والتحريض على فعل‏.‏ ويتعدَّى فعله بحرف ‏(‏على‏)‏ وبالباء، والأكثر أن تعديته ب ‏(‏على‏)‏ تفيد حثاً على الفعل مطلقاً في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثاً على الإِيقاع بشخص لأن الباء للملابسة‏.‏ فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء، أي واقعاً عليها‏.‏ فلا يقال‏:‏ أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه‏.‏
فالمعنى‏:‏ لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً‏}‏ فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم‏.‏
واختير عطف جملة ‏{‏لا يجاورونك‏}‏ ب ‏{‏ثم‏}‏ دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإِغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ أي وفتنة الإِخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل‏.‏
واستثناء ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس جارياً على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلاّ مدة قليلة، وهي ما بين نزول الآية والإِيقاع بهم‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمحذوف دلّ عليه ‏{‏يجاورونك‏}‏ أي جواراً قليلاً، وقلته باعتبار مدة زمنه‏.‏ وجعله صاحب «الكشاف» صفة لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوباً على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفاً‏.‏
و ‏{‏ملعونين‏}‏ حال مما تضمنه ‏{‏قليلاً‏}‏ من معنى الجوار‏.‏ فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله، والتقدير‏:‏ إلا جوارهم ملعونين‏.‏ وجعل صاحب «الكشاف» ‏{‏ملعونين‏}‏ مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحاللِ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وبونُ ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه‏.‏ والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه‏.‏
واللعن‏:‏ الإِبعاد والطرد‏.‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏35‏)‏، وهو مستعمل هنا كناية عن الإِهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلاً فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفاً من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي، ففي قوله‏:‏ ‏{‏ملعونين‏}‏ إيجاز بديع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أينما ثُقِفُوا‏}‏ ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلِقٌ ب ‏{‏ملعونين‏}‏ لأن ‏{‏ملعونين‏}‏ حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة‏.‏ و‏{‏أينما‏}‏‏:‏ اسم زمان متضمن معنى الشرط‏.‏ والثقف‏:‏ الظفَر والعثور على العدوّ بدون قصد‏.‏ وقد مَهَّد لهذا الفعل قوله‏:‏ ‏{‏ملعونين‏}‏ كما تقدم‏.‏
ومعنى ‏{‏أخذوا‏}‏ أُمسكوا‏.‏ والأخذ‏:‏ الإِمساك والقبض، أي أُسروا، والمراد‏:‏ أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم‏.‏
والتقتيل‏:‏ قوة القتل‏.‏ والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف نوعه وأيضاً هو شديد في كونه سريعاً لا إمهال لهم فيه‏.‏
و ‏{‏تقتيلاً‏}‏ مصدر مؤكد لعامله، أي قتِّلوا قتلاً شديداً شاملاً‏.‏ فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير ‏{‏قُتِّلوا‏}‏، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى‏:‏ قتلوا قتلاً شديداً لا يفلت منه أحد‏.‏
وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحداً ولا أنهم خرج منهم أحد‏.‏
وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فرداً صالحاً أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده»‏.‏ ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإِسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإِلاّ عُرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعاً للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم‏.‏
وأما قتل القاتل عَمداً فشُرع فيه مجاراةً لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضاً، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص‏.‏ ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله‏.‏ ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسله‏:‏ إن ‏(‏أَو‏)‏ فيها للتنويع لا للتخيير فقال‏:‏ يكون الجزاء بقدر جُرْم المحارب وكثرة مُقامه في فساده‏.‏ وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏
‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏
انتصب ‏{‏سنة الله‏}‏ على أنه مفعول مُطلق نائب عن فعله‏.‏ والتقدير‏:‏ سَن الله إغراءك بهم سنتَه في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قُتّلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها‏.‏
وحرف ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية، شُبهت السّنة التي عوملوا بها بشيء في وَسْطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل‏:‏ سنة الله مع الذين خَلَوا‏.‏
و ‏{‏الذين خلوا‏}‏ الذين مَضَوا وتقدموا‏.‏ والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قُتلوا من المشركين ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة‏.‏ وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض‏.‏
ويحتمل أيضاً أن يشمل ‏{‏الذين خلوا‏}‏ الأممَ السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم‏.‏
وذيل بجملة ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سَنن واحد‏.‏
والمعنى‏:‏ لن تجد لسنن الله مع الذين خَلَوْا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلاً‏.‏ وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏
‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏‏}‏
لما كان تهديد المنافقين بعذاب الدنيا يذكِّر بالخوض في عذاب الآخرة‏:‏ خوض المكذبين الساخرين، وخوضضِ المؤمنين الخائفين، وأهللِ الكتاب، أتبع ذلك بهذا‏.‏
فالجملة معترضة بين جملة ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ وبين جملة ‏{‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 64‏]‏ لتكون تمهيداً لجملة ‏{‏إن الله لعن الكافرين‏}‏‏.‏
وتكرر في القرآن ذكر سؤال الناس عن الساعة، والسائلون أصناف‏:‏
منهم المكذبون بها وهم أكثر السائلين وسؤالهم تهكم واستدلال بإبطائها على عدم وجودها في أنظارهم السقيمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏ وهؤلاء هم الذين كثر في القرآن إسناد السؤال إليهم معبَّراً عنهم بضمير الغيبة كقوله‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏‏.‏
وصنف مؤمنون مصدقون بأنها واقعة لكنهم يسألون عن أحوالها وأهوالها، وهؤلاء هم الذين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وصنف مؤمنون يسألون عنها محبة لمعرفة المغيبات، وهؤلاء نُهُوا عن الاشتغال بذلك كما في الحديث‏:‏ «أن رجلاً سأل رسول الله‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ماذا أعددتَ لها‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ والله يا رسول الله ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صوم سوى أنِّي أُحب الله ورسوله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت ‏"‏‏.‏ وصنف يسأل اختباراً للنبيء صلى الله عليه وسلم لعله يجيب بما يخالف ما في علمهم فيجعلونه حجة بينهم على انتفاء نبوءته ويعلنونه في دهمائهم ليقتلعوا من نفوسهم ما عسى أن يخالطها من النظر في صدق الدعوة المحمدية‏.‏ وهؤلاء هم اليهود نظير سؤالهم عن أهل الكهف وعن الروح‏.‏
ف ‏{‏الناس‏}‏ هنا يعم جميع الناس وهو عموم عرفي، أي جميع الناس الذين من شأنهم الاشتغال بالسؤال عنها إذ كثير من الناس يسأل عن ذلك‏.‏ وأهل هذه الأصناف الأربعة موجودون بالمدينة حين نزول هذه الآية‏.‏
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏187‏)‏‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وما يدريك‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏ما‏}‏ استفهام مَا صْدَقُها شيء‏.‏
و ‏{‏يدريك‏}‏ من أدراه، إذا أعلمه‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء يجعل لك دراية‏.‏ و‏{‏لعل الساعة تكون قريباً‏}‏ مستأنفة لإنشاء رجاء‏.‏
و ‏{‏لعل‏}‏ معلقة فعل الإِدْراءِ عن العمل، أي في المفعول الثاني والثالث وأما المفعول الأول فهو كاف الخطاب‏.‏
والمعنى‏:‏ أيُّ شيء يدريك الساعَة بعيدةً أو قريبةً لعلها تكون قريباً ولعلها تكون بعيداً، ففي الكلام احتباك‏.‏
والأظهر أن ‏{‏قريباً‏}‏ خبر ‏{‏تكون‏}‏ وأن فعل الكون ناقص وجيء بالخبر غير مقترن بعلامة التأنيث مع أنه محتمل لضمير المؤنث لفظاً ‏(‏فإن اسم الفاعل كالفعل في اقترانه بعلامة التأنيث إن كان متحملاً لضمير مؤنث لفظي‏)‏ فقيل‏:‏ إنما لم يقترن بعلاقة التأنيث لأن ضمير الساعة جرى عليها بعد تأويلها بالشيء أو اليوم‏.‏
والذي اختاره جمع من المحققين مثل أبي عبيدة والزجاح وابن عطية أن ‏{‏قريباً‏}‏ في مثل هذه الآية ليس خبراً عن فعل الكون ولكنه ظرف له وهم يعنون أن فعل الكون تام وأن ‏{‏قريباً‏}‏ ظرف زمان لوقوعه‏.‏ والتقدير‏:‏ تقع في زمان قريب، فيلزم لفظُ ‏(‏قريب‏)‏ الإِفراد والتذكيرَ على نية زمان أو وقت، وقد يكون ظرف مكان كما ورد في ضده وهو لفظ ‏(‏بعيد‏)‏ في قوله‏:‏
وإن تمس ابنة السهمي منا *** بعيداً لا تكلمنا كلاماً
وقد أشار إلى جواز الوجهين في «الكشاف»‏.‏ وهذان الوجهان وإن تأتَّيَا هنا لا يتأتيان في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏
ويقترن ‏(‏قريب‏)‏ و‏(‏بعيد‏)‏ بعلامة التأنيث ونحوها من العلامات الفرعية عند إرادة التوصيف‏.‏ وكل هذه اعتبارات من توسعهم في الكلام‏.‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن رحمة اللَّه قريب من المحسنين‏}‏ في الأعراف فضُمَّه إلى ما هنا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏‏}‏
هذا حظ الكافرين من وعيد الساعة، وهذه لعنة الآخرة قُفِّيت بها لعنة الدنيا في قوله‏:‏ ‏{‏ملعونين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 61‏]‏، ولذلك عطف عليها ‏{‏وأعد لهم سعيراً‏}‏ فكانت لعنة الدنيا مقترنة بالأخذ والتقتيل ولعنة الآخرة مقترنة بالسعير‏.‏
والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً إلى قوله‏:‏ ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60 62‏]‏ تثير في نفوس السامعين التساؤل عن الاقتصار على لعنهم وتقتِيلهم في الدنيا، وهل ذلك منتهى ما عوقبوا به أو لهم من ورائه عذاب‏؟‏ فكان قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لعن الكافرين‏}‏ الخ جواباً عن ذلك‏.‏
وحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو منظور به إلى السامعين من الكافرين‏.‏
والتعريف في ‏{‏الكافرين‏}‏ يحتمل أن يكون للعهد، أي الكافرين الذين كانوا شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوه وأرجفوا في المدينة وهم المنافقون ومن ناصرهم من المشركين في وقعة الأحزاب ومن اليهود‏.‏ ويحتمل أن يكون التعريف للاستغراق، أي كل كافر‏.‏
وعلى الوجهين فصيغة الماضي في فعل ‏{‏لعن‏}‏ مستعملة في تحقيق الوقوع، شُبه المحقق حصوله بالفعل الذي حصل فاستعير له صيغة الماضي مثل ‏{‏أتى أمر اللَّه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ لأن اللعن إنما يقع في الآخرة وهو مستقبل‏.‏ وأما حالهم في الدنيا فمثل أحوال المخلوقات يتمتعون برحمة الله في الدنيا من حياة ورزق وملاذ كما هو صريح الآيات والأخبار النبوية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ظ متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏ وقد يكون في ظاهر الآية متمسّك للشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله بانتفاء نعمة الله عن الكافرين خلافاً للماتريدي والقاضي أبي بكر الباقلاني والمعتزلة ولكنه متمسك ضعيف لأن التحقيق أن الخلاف بينه وبينهم خلاف لفظي يرجع إلى أن حقيقة النعمة ترجع إلى ما لا يعقب ألماً‏.‏
والسعير‏:‏ النار الشديدة الإِيقاد‏.‏ وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعورة‏.‏
وأعيد الضمير على السعير في قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ مؤنثاً لأن ‏{‏سعيراً‏}‏ من صفات النار والنار مؤنثة في الاستعمال‏.‏
وجملة ‏{‏لا يجدون ولياً ولا نصيراً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏خالدين‏}‏ أي خالدين في حالة انتفاء الولي والنصير عنهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏
‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏‏}‏
‏{‏يوم‏}‏ ظرف يجوز أن يتعلق ب ‏{‏لا يجدون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 65‏]‏ أي إن وجدوا أولياء ونصراء في الدنيا من يهود قريظة وخيبر في يوم الأحزاب فيوم تقلب وجوههم في النار لا يجدون ولياً يَرثي لهم ولا نصيراً يُخلصهم‏.‏ وتكون جملة ‏{‏يقولون‏}‏ حالاً من ضمير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏
‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏يقولون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ فهي حال‏.‏ وجيء بها في صيغة الماضي
لأن هذا القول كان متقدماً على قولهم‏:‏ ‏{‏يا ليتنا أطعنا الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏، فذلك التمني
نشأ لهم وقت أن مسّهم العذاب، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب
وحشرهم مع رؤسائهم إلى جهنم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا داركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رُصفوا ونسقوا قبل أن
يصبّ عليهم العذاب ويطلق إليهم حرّ النار‏.‏
والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال‏.‏
والسادة‏:‏ جمع سَيِّد‏.‏ قال ابو علي‏:‏ وزنه فَعَلة، أي مثل كَمَلة لكن على غير قياس
لأن صيغة فَعَلَة تطَّرد في جمع فاعل لا في جمع فَيْعِل، فقلبت الواو ألفاً لانفتاحها وانفتاح
ما قبلها‏.‏ وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم‏.‏
والسادة‏:‏ عظماء القوم والقبائل مثل الملوك‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏سادتنا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب ‏{‏ساداتِنا‏}‏ بألف بعد الدال وبكسر
التاس لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده‏.‏ وهو جمع الجمع الذي هو سادة‏.‏
والكبراء‏:‏ جمع كبير وهو عظيم العشيرة، وهم دون السادة فإن كبيراً يطلق على راس
العائلة فيقول المرء لأبيه‏:‏ كبيري، ولذلك قوبل قولهم‏:‏ ‏{‏يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ بقولهم‏:‏ ‏{‏أطعنا سادتنا وكبراءنا‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏ خبر مستعمل في الشكاية
والتذمر، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبرائهم‏.‏ فالمقصود الإِفضاء إلى جملة
‏{‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب‏}‏‏.‏ ومقصود من هذا الخبر ايضاً الاعتذار والتنصل من تَبِعة
ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من
الحقيقة إذ قالوا‏:‏ ‏{‏إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا‏}‏ فيتجه عليهم أن يقال لهم‏:‏ لماذا أطعتموهم
حتى يغروكم، وهذا شأن الدهماء أن يسوِّدوا عليهم من يُعجبون بأضغاث أحلامه، ويُغَرُّون
بمعسول كلامه، ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه، وذاقوا مراراة
طعمه وحرارة أُوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه‏.‏
وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار، وتقديم قولهم‏:‏ ‏{‏إنا أطعنا سادتنا
وكبراءنا‏}‏ اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم‏:‏ ‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏ لأن كبراءهم ما
تأتَّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر
والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبّة‏.‏ وبتسبب وضعهم أقوالَ سادتهم
وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
وانتصل ‏{‏السبيلا‏}‏ على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا أن مفعول
واحد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أضلني عن الذكر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وظاهر «الكشاف» أنه يتعدّى إلى
مفعولين، فيكون ‏(‏ضل‏)‏ المجرد يتعدى إلى مفعول واحد‏.‏
تقول‏:‏ ضللت الطريق، و
‏(‏ضل‏)‏ يتعدى بالهمزة إلى مفعولين‏.‏ وقاله ابن عطية‏.‏
والقول في ألف ‏{‏السبيلا‏}‏ كالقول في ألف ‏{‏الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏‏.‏
وإعادة النداء في قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب‏}‏ تأكيد للضراعة والابتهال
وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوهُ على
كاهل كبرائهم‏.‏
والضِعف بكسر الضاد‏:‏ العدد المماثل للمعدود، فالأربعة ضعف الاثنين‏.‏ ولما كان
العذاب معنى من المعاني لا ذاتاً كان معنى تكرير العدد فيه مجازاً في القوة والشدة‏.‏
وتثنية ‏{‏ضعفين‏}‏ مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى‏:‏
‏{‏ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ فإن البصر لا
يخسَأ في نظرتين، ولذلك كان قوله هنا‏:‏ ‏{‏آتهم ضعفين من العذاب‏}‏ مساوياً لقوله‏:‏
‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ في سورة الأعراف ‏[‏38‏]‏‏.‏ وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال
عليهم، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم‏.‏
ووُصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا
عذاباً لكفرهم وعذاباً لتسببهم في كفر أتباعهم‏.‏
فالمراد بالكثير الشديد القوي، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله‏:‏
‏{‏ضعفين‏}‏ المراد به الكثرة‏.‏
وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قِبل الجلالة بقوله‏:‏ ‏{‏قال لكل ضعف‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏
38‏]‏ يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضاً
استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتوسيد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏
لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من
الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏ حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم
بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نَسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في
ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى‏.‏ ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة
أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ
بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل يترتب عليه من إخلال
بالواجبات‏.‏ وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم،
نبه الله المؤمنين كي لا يَقعُوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى
معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير، فكانت حَرية بالإِيقاظ والتحذير‏.‏ وفائدة التشبيه
تشويه الحالة المشبَّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه
السلام بما سبق من القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏
والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب
كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم‏.‏ وقد حكى الله عنهم ذلك إجالاً وتفصيلاً
بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏ الآية ‏(‏فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله‏:‏
‏{‏وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏}‏ والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏لم تؤذونني‏}‏ إنكاري‏)‏‏.‏ فكان
توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول
الإِذاية‏.‏
فالذين آذوا موسى قالوا مرة ‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏
فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم‏.‏ وقالوا مرة ‏{‏أَتتَّخِذُنا هزؤا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ فنسبوه إلى
الطيش ولاسخرية ولذلك قال لهم ‏{‏أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وفي
التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج «وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا
من مصر فإنه خير لنا أن نخدُم المصريين من أن نموت في البرية»‏.‏ وفي الإصحاجح
السادس عشر «وقالوا لموسى وهراون إنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا
الجمهور بالجوع»‏.‏ وفي الحديث «إن موسى كان رجلاً حييّاً ستِّيراً فقال فريق من قومه‏:‏ ما
نراه يستتر إلا مِن عاهة فيه‏.‏ فقال قوم‏:‏ به برص، وقال قوم‏:‏ هو آدر» ونحو هذا، وكان
قريباً من هذا قول المنافقين‏:‏ إن محمداً تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة‏.‏
وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة
الصحابة والمسلمين وقد عرضَت فلتاتٌ من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال
التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حَكَم بينه وبين الزُبير في ماء شراح الحَرّة‏:‏ أنْ كان
ابنَ عمتِك يا رسول الله‏.‏ ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمَة مغانم حُنين‏:‏ «هذه
قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا
فصبَر»‏.‏
واعلم أن محل الشتبيه هو قوله‏:‏ ‏{‏كالذين آذوا موسى‏}‏ دون ما فرع عليه من قوله‏:‏
‏{‏فبرأه الله مما قالوا‏}‏ وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا، ولا
اتصال له بوجه التشبيه لأن نبيئنا صلى الله عليه وسلم لم يُوذَ إيذاء يقتضي ظهور براءته ما أوذي به‏.‏
ومعنى «بَرَّأه» أظهر براءته عيَاناً لأن موسى كان بريئاً مما قالوه من قبل أن يؤذوه
بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإِن
الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبّت قلوبهم وافتتحوها وأظهر
براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من
قتل النفس التي ادّارأوا فيها‏.‏
وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عرياناً لما انتقل الحجر الذي عليه
ثيابه‏.‏ ومعنى‏:‏ «برأه مما قالوا» برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد
حصل وأوذي به وهذا كما سموا السُّبة القالة‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏،
أي ما دل عليه مقاله وهو قوله‏:‏ ‏{‏لأوتين مالاً وولداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ أي نرثه ماله
وولده‏.‏
وجملة ‏{‏وكان عند الله وجيهاً‏}‏ معترضة في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله
بتبرئته‏.‏
والوجيه صفة مشبهة، أي ذو الوجاهة‏.‏ وهي الجاه وحسن القبول عند الناس‏.‏ يقال‏:‏
وجُه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه‏.‏ وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو
الوجْه الذي للإِنسان، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضيّ عنه مقبول مغفور له مستجاب
الدعوة‏.‏
وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجيهاً في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏،
فضُمّه إلى هنا‏.‏ وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى‏.‏
وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه، وتنويه وتوجيه لتنزيه الله إياه لأنه
مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل الذين
آذوا رسولهم، وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي
عن المنكر التلبّسُ بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول‏.‏ والقول السديد
مبثّ الفضائل‏.‏
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإِصغاء إليه‏.‏ ونداؤهم
بالذين آمنوا لما فيه من الإِيماء يقتضي ما سيؤمرون به‏.‏ ففيه تعريض بأن
الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم
منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب
التقوى كما هو من شعب الإِيمان‏.‏
والقول‏:‏ الكلام الذي يصدر من فم الإِنسان يعبر عما في نفسه‏.‏
والسديد‏:‏ الذي يوافق السداد‏.‏ والسداد‏:‏ الصواب والحقُ ومنه تسديد السهم نحو
الرمية، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القولُ السديد
الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي
يحبّه‏:‏ إني أحبكز
والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر‏.‏ وفي
الحديث‏:‏ «وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم»، وفي الحديث
الآخر‏:‏ «رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم»، وفي الحديث الآخر‏:‏ «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»‏.‏
ويشمل القولُ السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء،
وما هو تبليغ لإِرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء‏.‏ فقراءة القرآن على الناس من
القول السديد، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «نضَّر الله
أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها» وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة
الفقه‏.‏ ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح‏.‏ ومن القول السديد الأذان
والإِقامةُ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ في سورة فاطر ‏[‏10‏]‏‏.‏ فبالقول السديد
تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيّئ تشيع
الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏ والقول السديد
يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏
ولما في التقوى والقولِ السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإِصلاح
الأعمال ومغفرة الذنوب‏.‏ وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول
السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب
القول السديد‏.‏
وغفرانُ الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله
للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة، والتحولُ عن المعاصي بعدَ الهمّ
بها ضرب من مغفرتها‏.‏
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كان عائدين على الذين آمنوا كانا عامَّيْن لكل
المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولاً سديداً أو أعمال
غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول
فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح
أعمال القائلين قولاً سديداً والعاملين به من سامعيه، وكذلك أعمال الذي قال القول
السديد في وقت سماعه قولَ غيره‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «فَرَّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»،
فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول،
وكذلك التقوى تكون سبباً لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى
الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن
معاصيهم تأسياً أو حياء فتتعطل بعض المعاصي، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى
فاهتدى فالأمر أجدر‏.‏
وذكر ‏{‏لكم‏}‏ مع فعلي ‏{‏يصلح-ويَغفر‏}‏ للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب
القول السديد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلح لكم
أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم‏}‏ أي وتفوزوا فوزاً عظيماً إذا أطعتم الله بامتثال أمره‏.‏ وإنما
صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإِفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات
فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل‏.‏ وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو
إفادة غرضين بجملة واحدة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏
‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما
فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم
مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على
معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من
بين بعض‏.‏
وموقع هذه الآية عقب ما قبلها، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً
بمضمون ما قبلها، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها،
ولو بتقليل الاحتمال، والمصير إلى المآل‏.‏
والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره
السامع‏.‏
وافتتاح الآية بمادة العَرض، وصَوغها في صيغة الماضي، وجعل متعلقها السماوات
والأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضي
أنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية
وإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائكة لوفائها بما خلقت لأجله
كما حمل قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الآية‏.‏
واختتام الآية بالعلّة من قوله‏:‏ ‏{‏ليعذب الله المنافقين والمنافقات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏ إلى
نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال
المنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها‏.‏
فحقيق بنا أن نقول‏:‏ إن هذا العَرض كان في مبدإ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه
لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه
لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ
بتعذيب المنافقين والمشركين، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة
مناسبة لتصرفات الله تعالى‏.‏
فتعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس، أي نوع الإِنسان‏.‏
والعرض‏:‏ حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أوة يقبله ومنه عَرْضُ الحوض على
الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهل
منهم‏.‏ وفي حديث ابن عمر‏:‏ «عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع فردني وعُرِضتُ
عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني»‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ في سورة هود ‏[‏18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وعرضوا على ربك صفاً‏}‏ في سورة الكهف ‏[‏48‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏عرضنا‏}‏ هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية
الشياء، وعدم وضعه في بقية الشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف
تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً
على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله
على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله
تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال الإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِ
الإِنسان لذلك، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال
بحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على اشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد
تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها‏.‏
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم
ما يبصره الناس من أجناس الموجودات‏.‏ فتخصيص ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ بالذكر من بين
الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبالر على
‏{‏الأرض‏}‏ وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي
تشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏‏.‏
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض
والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد
منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال‏:‏ الطبيعة عمياء، أي لا
اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً‏.‏
ولذلك فأفعال ‏{‏عَرضنا، أبَيْن، يحملنها، وأشفقن منها، وحملها‏}‏ أجزاء للمركب
التمثيلي‏.‏ وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانة
في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض
والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم
بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر
عنه بالإِشفاق، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل
للثقْل‏.‏
ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ‏.‏ وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال
بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل‏.‏
وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ على
الحيرة في تقويم معناها‏.‏ ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والرض
والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق‏.‏
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل‏.‏ وأما الأمانة فهي ما
يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون
على عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض، ولنبتدئ بالإٍِلمام بها ثم نعطف إلى
تمحيصها وبيانها‏.‏
فقيل‏:‏ الأمانة الطاعة، وقيل‏:‏ الصلاة، وقيل‏:‏ مجموع الصلاة والصوم والاغتسال،
وقيل‏:‏ جميع الفرائض، وقيل‏:‏ الانقياد إلى الدين، وقيل‏:‏ حفظ الفرج، وقيل‏:‏ الأمانة
التوحيد، أو دلائل الوحداينة، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل‏:‏ ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء
بالعهد، ومنه انتفاء الغش في العمل، وقيل‏:‏ الأمانة العقل، وقيل‏:‏ الخلافة، أي خلافة
الله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى‏:‏
‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ الاية‏.‏
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف‏:‏ صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد،
وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض‏.‏
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلت
أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول‏.‏
ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته‏.‏
فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان، اي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله
على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا‏}‏ وتقدم في سورة الأعراف
‏[‏172‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر
البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة
مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من
قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها
مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه‏:‏ ‏{‏ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان
بوحدانية الله‏.‏
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة
تودع عند من يحتفظ بها‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات
العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال
إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو
في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها‏.‏ وأقرب
الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما
سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به‏.‏ فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن
لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً
ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره‏.‏ وكذلك غذا كانت
معاملته مع أحد من نوع الإنسان‏.‏
ومناسبة قوله‏:‏ ‏{‏ليعذب الله المنافقين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏ الاية لهذا المحمل نظير مناسبته
للمحمل الأول‏.‏
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني
جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس
متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث‏:‏ «إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة»
أي إذا انقرضت الأمانة كان انقرائها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة
الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال‏.‏
والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة‏:‏ «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما
وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم
علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال‏:‏ ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل
أثرها مثل اثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دَحرَجْتَه
على رِجْلك فنفط فتراه منتبرً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي
الأمانة فيقال‏:‏ إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل‏:‏ ما أعقله وما أظرفه وما
أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من غيمان» أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانة
لأنه عهد الله‏.‏
ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير
الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذٍ
فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل‏.‏
والقول في حَمل معنى الأانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل
لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وعلم آدم السماء كلها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏ فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في
مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها‏.‏
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة
الجزئية للمعاني الكلية‏.‏
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ
على ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة، أو
عمداص فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة
التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال
تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا المحمل يتضمن أيضاً
أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه‏.‏
وجملة ‏{‏إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏ محلها اعتراض بين جملة ‏{‏وحملها الإنسان‏}‏
والمتعلق بفعلها وهو ‏{‏ليعذب الله المنافقين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏ الخ‏.‏ ومعناها استئناف بياني
لأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بما
حُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيف
يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله‏.‏
فمعنى ‏{‏كان ظلوماً جهولاً‏}‏ أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً‏:‏ بعضُه عن
عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهو
المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل‏.‏
والظلم‏:‏ الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له
بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة‏.‏
والجهل‏:‏ انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقع
الصواب فيما تحمل به، فقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏ مؤذن بكلام محذوف يدل هو
عليه إذ التقدير‏:‏ وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً، فكأنه قيل‏:‏ فكان
ظلوماً جهولاً، أي ظلوماً، اي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه اجحاف بصاحب الحق في
الأمانة أيّاً كان، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة
المراتب في التبعية بها، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانة
باختياره بل فُطَر على تحملها‏.‏
ويجوز أن يراد ‏{‏ظلوماً جهولاً‏}‏ في فطرته، اي في طبع الظلم، والجهل فهو
معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس
الأمانة التي حملها‏.‏
ولك أن تجعل ضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسان
الكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر‏.‏
أو تجعل في ضمير ‏{‏إنه‏}‏ استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلق
لفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ الآية قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ الآيات‏.‏
وفي ذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما
الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة‏.‏
فصيغتا المبلاغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنسان والحكم
الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير
والترهيب‏.‏ وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏ليعذب الله المنافقين‏}‏ إلى قوله ‏{‏ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏ فقد جاء تفصيله بذكر فريقين‏:‏ أحدهما‏:‏ مضيع
للأمانة والآخر مراعٍ لها‏.‏
ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة ‏{‏وكان عهد الله مسئولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏ وقال فيها‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صاق الوعد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏
وقال في ضد ذلك‏:‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26، 27‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏
‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏
متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وحملها الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين
من اصناف الإِنسان‏.‏ وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لامَ العاقبة‏.‏ وقد تقدم القول
فيها غير مرة إحداها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً‏}‏ في آل عمران ‏[‏178‏]‏‏.‏
والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وعادة النحاة وعلماء البيان يقولون‏:‏ إنها في معنى فاء التفريع‏:‏ وإذ قد كان هذا
عاقبة لحمل الإِنسان الأمانة وكان فيما تعلق به لام التعليل إجمال تعين أن هذا يفيد بياناً
لما أُجمل في قوله‏:‏ ‏{‏إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ كما قدمناه آنفاً، اي فكان
الإِنسان فريقين‏:‏ فريقاً ظالماً جاهلاً، وفريقاً راشداً عالماً‏.‏
والمعنى‏:‏ فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في
اصل الفطرة وبحسب الشريعة، وتاب على المؤمنين فغفر لهم من ذنوبهم لأنهم وفوا
بالأمانة التي تحملوها‏.‏ وهذا مثل قوله فيما مر‏:‏ ‏{‏ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏ أي كما تاب على المؤمنين بأن يندموا
على ما فرط من نفاقهم فيخلصوا الإِيمان فيتوب الله عليهم وقد تحقق ذلك في كثير منهم‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ويتوب الله‏}‏ وكان الظاهر إضماره لزيادة العناية
بتلك التوبة لما في الإِظهار في مقام الإِضمار من العناية‏.‏
وذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين في حين
الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء نحو قولهم‏:‏ حل
ببني فلان مرض يريدون وبنسائهم‏.‏
فذِكْرُ النساء في الآية إشارة إلى أن لهن شأناً كان في حوادث غزوة الخندق من إعانة
لرجالهن على كيد المسلمين وبعكس ذلك حال نساء المسلمين‏.‏
وجملة ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله عاملهم
بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire