
{الم (1)}
تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن، وتقدم في أول سورة مريم.
{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)}
قوله {غلبت الروم} خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غُلبت، فلا يَهْنِكْم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيَغلبون مَنْ غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلَباً.
فالمقصود من الكلام هو جملة {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} وكان ما قبله تمهيداً له. وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث على المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غَلَبوا الروم هم الفرس.
و {الروم: اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا. تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول. وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين، وسمَّوا الروم أيضاً ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه مَلِك بني الأصفر.
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكوُّن أمة الروم من الخليطين، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجاً بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور. وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين. وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألّفوا اتحاداً بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني. وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصراً لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية، وجمع شتات المملكة فجعل للمملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة. وبعد موته سنة 337 قُسمت المملكة بين أولاده، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان.
وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية. ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفاً. وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسُمِّي ميناءها بالقرن الذهبي. وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا. وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جُعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية.
وهذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية في أدْنَى الأرْض} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف في {الأرْض} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أدنى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.
وقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.
و {غَلَبِهم} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سيغلبون} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.
وفائدة ذكر {من بعد غلبهم} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.
ولفظ {بضع} بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة، وقد تقدم في قوله تعالى {فلبث في السجن بضع سنين} في سورة يوسف (42). وهذا أجل لرد الكَرَّة لهم على الفرس.
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم. وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت ألم غلَبت الروم قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله فقال رسول الله " أما أنهم سيَغلبون " ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 13] فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلِب فارسَ في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه. فسمّى أبو بكر لهم سِت سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: " ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع ". وعَاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير. وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أُبَيّ بنُ خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمسَ قلائص، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجَل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أُبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلاً بالخَطَر إن غُلِبْتَ، فكفل به ابنه عبد الرحمان، وكان عبد الرحمان أيامئذ مشركاً باقياً بمكة. وأنه لما أراد أُبي بن خلف الخروج إلى أُحُد طلبه عبد الرحمان بكفيل فأعطاه كفيلاً. ثم مات أُبي بمكة من جرح جَرحَه النبي صلى الله عليه وسلم فلما غلَب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطَر من ورثة أبي بن خلف. وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين. وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: «لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين». والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية.
وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السّين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف. وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حِمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجاراً إلى الشام.
واعلمْ أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأُبي بن خلف وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب. وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخاً بما ورد من النهي عن القمار نهياً مطلقاً لم يقيد بغير أهل الحرب. وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأُبَيّ بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنفٌ وليس من النسخ في شيء. {لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}
جملة معترضة بين المتعاطفات. والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا، أي مِن قبللِ غَلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس. فهنالك مضافان إليهما محذوفان. فبنيت {قبلُ وبعدُ} على الضم لِحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحَرْف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره. وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وقُدِّر لوجود دليل عليه في الكلام، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أُريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات، كما قال عبد الله بن يَعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً *** أكاد أغَصُّ بالماء الحميم
أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه، وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطأ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه:
ومن قبللِ نادَى كلّ مولى قرابة *** فما عطفت مولًى عليه العواطف
بكسر لام {قبلِ} رادّاً قول الفراء أنه روي بكسرٍ دون تنوين يريد الزجاج، أي الواجب أن يروى بالضم.
وتقديم المجرور في قوله {لله الأمْرُ} لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عُبادَها، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفاً كما دل عليه التذييل بقوله {ينصر من يشاء}.
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعلّلوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عِللاً توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم.
وهذا المعنى كان النبي يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي فقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادثَ المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواماً وتضر بآخرين، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعوداً به من قبلُ ليعلم الناس كلهم أنه متحدّىً به قبل وقوعه لا مدَّعى به بعد وقوعه، ولهذا قال تعالى بعد الوعود: {ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله}.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم}
عطف على جملة {وهُمْ مِن بعد غلبهم الخ أي: ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل، وكان غلبهم السابق أيضاً بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديْهم، وقد أومأ إلى هذا قوله لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ}.
والجملة المضافة إلى {إذ} في قوله {ويَوْمَئِذٍ} محذوفة عوض عنها التنوين. والتقدير: ويوم إذ يغلبون يفرحُ المؤمنون، ف {يومَ} منصوب على الظرفية وعامله {يَفْرَحُ المُؤْمِنُون. وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين.
وجملة ينصر من يشاء} تذييل لأن النصر المذكور فيها عامّ بعموم مفعوله وهو {من يشاء} فكل منصور داخل في هذا العموم، أي من يشاء نصره لحِكَم يعلمها، فالمشيئة هي الإرادة، أي: ينصر من يريد نصره، وإرادته تعالى لا يُسأل عنها، ولذلك عُقب بقوله {وَهُوَ العَزِيزُ} فإن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له، وعقبه ب {الرَّحِيم} للإشارة إلى أن عزّته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول، فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغلبين، فالمراد رحمته في الدنيا.
{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}
انتصب {وعد الله} على المفعولية المطلقة. وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملةٍ قبله هي بمعناه ويُسميه النحويون مصدراً مؤكداً لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه. ومثله في «الكشاف» ومثلوه بنحو «لك عليَّ ألفٌ عرفاً» لأن عرفاً بمعنى اعترافاً، أكد مضمون جملة: لك علي ألف، وكذلك {وَعْدَ الله} أكد مضمون جملة {وهُمْ مِنْ بَعْدِ غلبهم سيغلبون في بِضع سنين} [الروم: 3، 4].
وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه. وجملة {لا يخلف الله وعده} بيان للمقصود من جملة {وَعْدَ الله} فإنها دلت على أنه وعد محقَّق بطريق التلويح، فبيّن ذلك بالصريح بجملة {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ.} ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده، ولما في جملة {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} من إدخال الرَّوع على المشركين بهذا التأكيد. وسماه وعداً نظراً لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا. وهو أيضاً وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دِينهم.
وموقع الاستدراك في قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} هو ما اقتضاه الإجمال. وتفصيله من كون ذلك أمراً لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالباً، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دَولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم.
فالمراد ب {أكثر الناس} ابتداءً المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم وقوعه. ويشمل المرادُ أيضاً كلَّ من كان يَعُد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلاً، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم، ومن أهل الأمم الأخرى، ومن الروم أنفسهم، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب {أكْثَر النَّاس} بصيغة التفضيل. والتعريف في {النَّاس} للاستغراق.
ومفعول {يَعْلَمُون} محذوف دل عليه قوله {سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 3، 4]. فالتقدير: لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب. ويجوز أن يكون المرادُ تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلاً لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيهاً بالعَدَم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام.
ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالاً، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمُحال، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسباباً ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلَّها وينظر فيها بالسَبْر والتقييم، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن، بأن وصف حالة علمهم كلَّها بأن قُصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجريات والأمارات، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر.
والوجه أن تكون {مِن} في قوله {من الحياة الدنيا} تبعيضية، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة.
والكلام يشعر بذم حالهم، ومحطُّ الذم هو جملة {وهم عن الآخرة هم غافلون}. فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضاً يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالماً آخر هو عالم الغيب. وقد اقتُصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصاراً بديعاً حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالاً لجهلهم بعالم الغيب وذَمّاً لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهماللِ الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء، فذلك موقع قوله {وهم عن الآخرة هم غافلون}؛ فجملة {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} بدل من جملة {لا يعلمون} بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله {وهم عن الآخرة هم غافلون} لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا.
وجملة {وهم عن الآخرة هم غافلون} يجوز أن تجعلها عطفاً على جملة {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء، ولك أن تجعل جملة {وهم عن الآخرة} الخ في موقع الحال، والواو واو الحال.
وعُبر عن جهلهم الآخرة بالغَفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيهاً بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له {غَافِلون استعارة تبعية.
وهُم} الأولى في موضع مبتدأ و{هم الثانية ضمير فصل. والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين.
ومن البديع الجمع بين لا يَعْلَمون} و{يَعْلَمُون.} وفيه الطباق من حيث ما دلّ عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما. وقريب منه قوله تعالى {ولقَد عَلمُوا لِمن اشتَرَاه ما لَهُ في الآخِرَة من خلاق ولبِئْسَ ما شَرَوْا به أنفُسَهُم لَو كَانُوا يَعْلَمون} [البقرة: 102].
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}
عطف على جملة {وهُمْ عن الآخرةِ هم غَافِلون} [الروم: 7] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير {يتفكروا} عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة. والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير: هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم. ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدَّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين:
أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.
وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر: إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتوي الأعْمَى والبَصِير أفَلا تَتَفَكرون} في سورة الأنعام (50).
والأنفس: جمع نفْس. والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تعْلَم مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] كقول عمر يوم السقيفة: «وكُنت زوّقت في نفسي مقالة» أي في عقلي وباطني.
وحرف {في} من قوله {فِي أنْفُسهم} يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفاً لمصدر {يَتَفَكَرُّوا، أي تفكراً مستقراً في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر في أنفسهم لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع، كقوله {ولاَ تخطّهُ بِيَمِينك} [العنكبوت: 48] وقوله {ولاَ طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيه} [الأنعام: 38]، وتكون جملة {مَا خَلَقَ الله السَّمَاوات والأرْض} الخ على هذا مُبينة لجملة {يَتَفَكَرُّوا} إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى: {أمْ يَتَفَكَّروا ما بِصَاحبهم من جنة} [الأعراف: 184].
ويجوز أن يكون {في} للظرفية المجازية متعلقة بفعل {يَتَفكروا} تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى {وفي أنْفُسكم أفَلا تُبْصِرون} [الذاريات: 21]؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115] وهذا كقوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة {مَا خَلَق الله السماوَات والأرْض} الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله {أنْفُسهم} إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة {أنفُسهم} تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن {أنفُسهم} مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل {يَتَفَكَّروا} عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده.
ومعنى {خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق: أن خلقهم ملابسٌ للحق.
والحق هنا هو ما يحق أن يكون حِكمة لِخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقاً، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالاً على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ. دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحواللِ تجدُّدِ الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمِه كما قال {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل. ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتاً مترامي الأطراف، كما قال البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد
فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوِّلاً إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه، فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصَّر تارة عنها قصوراً متفاوتاً، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلاً في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجِئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقاً إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهاً على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على مكانه، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فقال {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى.
وقد مضى في سورة الأنعام (73) قوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} الآية. وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنَكِلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون}، وهذا كقوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115].
والمسمَّى: المقدَّر. أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى} في سورة الحج (5). وعند قوله تعالى {ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب} في سورة العنكبوت (53). وجملة وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون} تذييل.
وتأكيده ب {إن} لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بَلْهَ أن يكون الكافرون به كثيراً. والمراد بالكثير هنا: مشركو أهل مكة وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين. ولم يعبر هنا ب {أكثر الناس} [العنكبوت: 60] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}
عطف على جملة {أوْ لم يَتَفكروا في أنْفُسهم} [الروم: 8] وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6] أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله {وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم} الآية.
والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى: {قُلْ سيروا في الأرْض ثم انظروا كيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبِين} في سورة الأنعام (11)، وقوله: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} في سورة العنكبوت (20).
والاستفهام في {أوَلَم يسيروا} تقريري. وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} [الأعراف: 148] وقوله {ألم يأتكم رسل منكم} في الأنعام (130)، وقوله {أليس في جهنم مثوىً للكافرين} في آخر العنكبوت (68).
والأرض: اسم للكرة التي عليها الناس.
والنظر: هنا نظر العين لأن قريشاً كانوا يمرّون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد. وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم: 8] الآية بدلالة الحس بقوله: {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. وكيف} استفهام معلِّق فعل {ينظروا} عن مفعوله، فكأنه قيل: فينظروا ثم استؤنف فقيل: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
والعاقبة: آخر الأمر من الخير والشرّ، بخلاف العُقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة، وتقدم ذكر العاقبة في قوله {والعَاقِبَةُ لِلمُتَّقين} في الأعراف (128). وقد جمع قوله {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} وعيداً على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وتجهيلاً لإحالتهم الممكنَ، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يُغلَبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم.
والمراد بالذين من قبلهم: عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى: أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم، كما دل عليه قوله عقبه {كانوا أشد منهم قوة} الآية.
{كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الارض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا يَظْلِمُونَ}
كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميراً في الأرض، وكلهم جاءتهم رسل، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال، كل هذه ما تُقرّ به قريش.
وجملة {كانوا أشد منهم قوة} بيان لجملة {كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}.
والشدة: صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيهاً لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول.
وتقدم في قوله: {وأولوا بأس شديد} في سورة النمل (33).
والقوة: حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تُدفع العادية وتستقيم الحالة؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله: {نحن أولوا قوة} [النمل: 33] فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كِيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عُدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عاديُّ نسبةً إلى عاد.
وعطف {أثاروا} على {كانوا} فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة، وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة: رفع الشيء المستقر وقَلْبُه بعد استقراره، قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتُثير سحاباً} [الروم: 48] أي: تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان. وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطناً ظاهراً وهو الحرث، قال تعالى: {لا ذلول تثير الأرض} [البقرة: 71]، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب:
يُثرنَ الحصى حتى يباشرن بَرده *** إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل
ويجوز أن يكون {أثاروا} هنا تمثيلاً لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكناً ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير {أثاروا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {كانوا أشد}.
ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع. يقال: ضيعة عامرة، أي: معمورة بما تعمر به الضياع، ويقال في ضده: ضيعة غامرة. ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بِواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب: أكثر مما أثاروها.
وضميرا جمع المذكر في قوله: {وعمروها أكثر مما عمروها} راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير {أثاروا} وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير يسيروا في الأرض. ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى: {هذا من شِيعتِه وهذا من عدوِّه} في سورة [القصص: 15] كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حُنين:
عُدنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا
وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} في سورة يونس (58)، أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود.
وتفريع فما كان الله ليظلمهم} على قوله {وجاءتهم رسلهم بالبينات} إيجاز حذف بديع، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقاً وتكذيباً فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم عُلم أنهم كذَّبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقاباً لو كان لغير جرم لشابه الظلم، فجعل من مجموع نفي ظلم الله إياهم ومن إثبات ظلمهم أنفسَهم معرفة أنهم كذَّبوا الرسل وعاندوهم وحلّ بهم ما هو معلوم من مشاهدة ديارهم وتناقل أخبارهم.
والاستدراك ناشئ على ما يقتضيه نفي ظلم الله إياهم من أنهم عوملوا معاملة سيئة لو لم يستحقوها لكانت معاملة ظلم. وعبر عن ظلمهم أنفسهم بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ظلمهم وتكرره وأن الله أمهلهم فلم يقلعوا حتى أخذهم بما دلت عليه تلك العاقبة، والقرينة قوله {كانوا}.
وتقديم {أنفسهم} وهو مفعول {يظلمون} على فعله للاهتمام بأنفسهم في تسليط ظلمهم عليها لأنه ظلم يتعجب منه، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة. وليس تقديم المفعول هنا للحصر لأن الحصر حاصل من جملتي النفي والإثبات.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}
{ثم} للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلاً لحكاية ما حلّ بالأمم السالفة من قوله {كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} [الروم: 9].
والمعنى: ثم عاقبةُ كل من أساءوا السوأى مثلَهم، فيكون تعريضاً بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى {دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]، فالمراد ب {الذين أساءوا} كل مسيئ من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذاراً لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6] فيكونوا المراد ب {الذين أساءوا}، ويكون إظهاراً في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصِلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم، وأصل الكلام: ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل {كان} الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] إتماماً للنذارة.
والعاقبة: الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها. وتقدمت في قوله: {ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} في سورة الأنعام (11)، وقوله: {والعاقبة للتقوى} في سورة طه (132). {والذين أساءوا} هم كفار قريش، والمراد {بآيات الله} القرآن ومعجزات الرسول.
والسوأى: تأنيث الأسَوإ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله {للذين أحسنوا الحسنى} [يونس: 26]. وتعريف {السوأى} تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة.
ويحتمل أن يراد ب {الذين أساءوا} الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلاً إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم. وفعل {كان} على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {عاقبةُ} بالرفع على أصل الترتيب بين اسم {كان وخبرها. وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر كان مُقدم على اسمها وهو استعمال كثير. والفصل بين كان ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل كان.
وأن كذبوا} تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع {أنْ وآيات الله: القرآن والمعجزات.
والباء في بها يستهزئون} للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة.
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)}
استئناف ابتدائي، وهو شروع فيما أُقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك. فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عمُوا عنها.
وإذا كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصراً باقياً، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جُعل ذلك الحدثُ مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك.
وقد فُصِّلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب، ابتُدئ كل واحد منها باسم الجلالة مُجْرى عليه أخبار عن حقائق لا قِبَل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها.
فالاستئناف الأول المبدوء بقوله {الله يبدأ الخلق ثم يعيده}، والثاني المبدوء بقوله {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} [الروم: 40]، والثالث المبدوء بقوله {الله الذي يرسل الرياح} [الروم: 48]، والرابع المبدوء بقوله: {الله الذي خلقكم من ضعف} [الروم: 54].
فأما قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحدَه هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} [الرعد: 16] الآية. وأما قوله {ثم يعيده} فهو إدماج لأنه إذا سُلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر. وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضاً، وإذ كان ذلك مِثالاً لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذُكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم.
وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوّي. و{ثم} هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدءْ الخلق. فالخطاب في {ترجعون} للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور {ترجعون} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}
عطف على جملة {ثم إليه ترجعون} [الروم: 11] تبييناً لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل: ثم إليه ترجعون ويومئذ يُبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السُّوأى} [الروم: 10]، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يُبلس المجرمون أو يومئذ تُبلسون، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون، فعدل عن تقدير الجملة المضاف إليها {يوم التي يدل عليها إليه ترجعون} [الروم: 11] بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بياناً أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب. ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب. وشاع إطلاق {الساعة على وقت الحشر والحساب. وأصل الساعة: المقدار من الزمن، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف.
والإبلاس: سكون بحَيْرة. يقال: أبلس، إذا لم يجد مخرجاً من شدة هو فيها. وتقدم عند قوله تعالى {إذا هم فيه مبلسون} في سورة المؤمنين (77).
والمجرمون: المشركون، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء}.
والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال: تبلسون، بالخطاب أو بياء الغيبة. ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير. وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يحسبونها شفعاء عند الله، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها. وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس. و{مِن تبعيضية، وليس الكلام من قبيل التجريد.
ونفيُ فعل يكن} ب {لم} التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله {أتى أمر الله} [النحل: 1].
ومقابلة ضمير الجمع بصيغة جمع الشركاء من باب التوزيع، أي لم يكن لأحد من المجرمين أحد شفيع فضلاً عن عدة شفعاء.
وكذلك قوله {وكانوا بشركائهم كافرين} لأن المراد أنهم يكفرون بهم يوم تقوم الساعة كقوله تعالى {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} [العنكبوت: 25].
وكتب في المصحف {شُفَعَؤُاْ} بواو بعد العين وألف بعد الواو، أرادوا بالجمع بين الواو والألف أن ينبهوا على أن الهمزة مضمومة ليعلم أن {شفعاء اسمُ (كان) وأن ليس اسمها قوله من شركائهم} بتوهم أن {مِن اسم بمعنى بعض، أو أنها مزيدة في النفي، فأثبتوا الواو تحقيقاً لضم الهمزة وأثبتوا الألف لأن الألف صورة للهمزة.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}
أعيد {ويوم تقوم الساعة} لزيادة التهويل الذي تقدم بيانه آنفاً. وكرر {يومئذ لتأكيد حقيقة الظرفية. ولما ذُكر إبلاس المشركين المشعر بتوقعهم السوء والعذاب أعقب بتفصيل أحوال الناس يومئذ مع بيان مغبة إبلاس الفريق الكافرين.
والضمير في {يتفرقون} عائد إلى معلوم من المقام دل عليه ذكر المجرمين فعلم أن فريقاً آخر ضدهم لأن ذكر إبلاس المجرمين يومئذ يفهم أن غيرهم ليسوا كذلك على وجه الإجمال.
والتفرق: انقسام الجمع وتشتت أجزاء الكل. وقد كني به هنا عن التباعد لأن التفرق يلازمه التباعد عرفاً. وقد فُصل التفرق هنا بقوله {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إلى آخره.
والروضة: كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار في البادية أو في الجنان. ومن أمثال العرب «أحسن من بيضة في روضة» يريدون بيضة النعامة. وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحَزن معشبة *** خضراءُ جاد عليها مُسبللٍ هَطِل
يُضاحك الشمسَ منها كوكب شَرِق *** مُؤَزَّر بعميم النبت مكْتَهِلُ
و {يحبرون}: يُسَرُّون من الحُبور، وهو السرور الشديد. يقال: حبره، إذا سره سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره.
{ومحضرون} يجوز أن يكون من الإحضار، أي: جعل الشيء حاضراً، أي: لا يغيبون عنه، أي: لا يخرجون منه، وهو يفيد التأييد بطريق الكناية لأنه لما ذكر بعد قوله {في العَذاب} ناسب أن لا يكون المقصود من وصفهم المحضرين أنهم كائنون في العذاب لئلا يكون مجرد تأكيد بمدلول في الظرفية فإن التأسيس أوقع من التأكيد، ويجوز أن يكون محضَرون بمعنى مأتيٌّ بهم إلى العذاب فقد كثر في القرآن استعمال محضر ونحوه بمعنى معاقب، قال تعالى {ولقد علمت الجِنّة إنهم لمُحضرون} [الصافات: 158]، واسم الإشارة تنبيه على أنهم أحرياء بتلك العقوبة لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كقوله {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وكتب في رسم المصحف {ولقائي} بهمزة على ياء تحتية للتنبيه على أن الهمزة مكسورة وذلك من الرسم التوقيفي، ومقتضى القياس أن تكتب الهمزة في السطر بعد الألف.
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)}
الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم: 8]، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6] والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشئ عن ذلك فيكون المقصود من {سبحان الله} إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه.
والخطاب في {تُمْسُونَ} و{تُصْبِحُونَ} تابع للخطاب الذي قبله في قوله {ثُمَّ إليهِ تُرْجعون} [الروم: 11]، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله {أو لم يتفكروا في أنفسهم} [الروم: 8] إلى آخرها كما علمت آنفاً. وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر (سبحان) في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى {سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] وهو الغالب في استعمال مصدر {سبحان في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أيمة اللغة. وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى {فسبِّح بحَمْد ربِّك حِينَ تقُوم} [الطور: 48] وقول الأعشى في داليته:
وسبّح على حين العشيات والضحى ***
وقوله {حين تمْسُون،} و{حين تَصبحون}، و{عشياً، وحين تظْهرون} ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي يُنْشأ تنزيه الله في هذه الأوقات وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها، والمقصود التأبيد كما تقول: سبحان الله دَوْماً. وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء. وجوّز بعض المفسرين أن يكون {سبحان} هنا مصدراً واقعاً بدلاً عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل: فسبحوا الله سبحاناً. وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم. وتلا قوله تعالى {فسُبْحان الله حِينَ تمْسُون وحين تُصْبِحون} إلى قوله {وحِينَ تظهرون} فإذا صح ما روي عنه فتأويله: أن {سبحان} أمر بأن يقولوا: سبحان الله، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول: سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقوله {حين تمسون} إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجهاً إلى المؤمنين. والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقّنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة. وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاءً ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه، كما ورد (فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له).
وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السُبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله.
وأضيف الحين إلى جملتي {تمسون وتصبحون}. وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح: إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيراً قال تعالى {سيروا فيها ليَالِيَ وأياماً آمنين} [سبأ: 18]، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه تُرجعون} [الروم: 11] وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطراً في الذهن فقُدم لهم ذكره.
و {عَشيّاً} عطف على {حينَ تمْسُون.} وقوله {وله الحمد في السماوات والأرض} جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا.
وتقديم المجرور في {ولَهُ الحَمْد} لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم: فلان الشجاع، كما تقدم في طالعة سورة الفاتحة. ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة.
والإمساء: حلول المساء. والإصباح: حلول الصباح. وتقدم في قوله {فالق الإصباح} في سورة الأنعام (96). والإمساء: اقتراب غروب الشمس إلى العشاء، والصباح: أول النهار. والإظهار: حلول وقت الظهر وهو نصف النهار.
وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل: أنجد، وأتهم، وأيْمَنَ، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيهاً لذلك الحلول بالكون في المكان، فيكثر أن يقال: أصبح وأضحى وأمسى وأعْتَمَ وأشرَق، قال تعالى {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60].
والعشي: ما بعد العصر، وقد تقدم عند قوله تعالى {ولا تَطْرُدِ الذين يَدْعُون ربهم بالغداة والعشي في سورة الأنعام (52).
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}
هذه الجملة بدل من جملة {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 11]. ويجوز أيضاً أن تكون موقع العلة لجملة {فسبحان الله حين تمسون} [الروم: 17] وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت. واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث رداً للكلام على ما تقدم من قوله {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون} [الروم: 11].
فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين: إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله {فسبحان الله} [الروم: 17]، وإيفاء حق التعظيم والإجلال، والمقصود هو إخراج الحي من الميت. وأما عطف {ويخرج الميت من الحي} فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين. وفي الآية الطباق. وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.
والإخراج: فصل شيء محوي عن حاويه. يقال: أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء. والإتيان بصيغة المضارع في {يخرج ويحيي} لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله {الله الذي يرسل الرياح} [الروم: 48]. فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذْ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قُوى تُخرج الزرع والنبات حياً نامياً.
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها: إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران. وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أيمة الكفر وقد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إليّ أن يَعَزُّوا من أهل خبائك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " وأيضاً " (أي ستزيدين حباً لنا بسبب نور الإسلام). وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط من أبيها. ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت: يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يخرج الحيّ من الميت}، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية.
والتشبيه في قوله {وكذلك تخرجون} راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله {ويخرج الميت من الحي} ليس مقصوداً من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة. ويجوز أن يكون التشبيه راجعاً إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتاً فيها، كما قال تعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يُعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجاً} [نوح: 17، 18]. ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول.
والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكَّموا الإلف في موضع تحكيم العقل. وقرأ نافع وحفص وحمزة {الميّت} بتشديد الياء. وقرأه الباقون بالتخفيف. وقرأ الجمهور {تُخرجون} بضم التاء الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي بفتحها.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)}
لما كان الاستدلال على البعث متضمناً آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتاً للمؤمنين وإعذاراً لمن أشركوا في الإلهية. وقد سبقت ست آيات على الوحدانية، وابتدئت بكلمة {ومن آياته} تنبيهاً على اتحاد غرضها، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصاً من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة. وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته.
وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} في سورة المؤمنين (12، 13).
فضمير النصب في خَلَقَكم} عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج (5) {فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة} الآية.
وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعرُ بها مما سواها، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من الغذاء، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمراً خفياً. على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنياً على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها. وبهذا التأويل يصح أيضاً أن يكون معنى {خلقكم من تراب} خلق أصلكم وهو آدم، وأول الوجوه أظهرها. فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناففٍ لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت، والحياةُ تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك. وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله {إذا أنتم بشر}، وإلى التصرف والحركة بقوله {تنتشرون}، ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف {ثم}.
وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشراً يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيهاً على ذلك التطور العجيب. وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.
والانتشار: الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى {فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10].
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزاً في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.
وهي آية تنطوي على عدة آيات منها: أن جُعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جُعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنساً بين الزوجين ولم يجعله تزاوجاً عنيفاً أو مهلكاً كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آياتتٍ عدة في قوله {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون.} وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما. وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين. وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها قوله {لكم} أي لأجل نفعكم.
و {لقوم يتفكرون} متعلق ب {آيات} لما فيه من معنى الدلالة. وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.
والذين يتفكرون: المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية. والخطاب في قوله {أن خَلَق لكم} لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث.
والزوج: هو الذي به يصير للواحد ثاننٍ فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه.
ومعنى {من أنفسكم} من نوعكم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شراً:
وتزوجت في الشبيبة غُولاً *** بغزال وصدقتي زِقّ خمر
فمن تكاذيبهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنِّيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها.
والسكون: هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد بالسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا: اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا.
وضمن {لِتَسْكِنوا} معنى لتميلوا فعدي بحرف (إلى) وإن كان حقه أن يعلق ب (عند) ونحوها من الظروف.
والمودة: المحبة، والرحمة: صفة تبعث على حسن المعاملة.
وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة.
واللام في قوله {لقوم يتفكرون} معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب «مغني اللبيب» ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل. ومثَّله في «المغني» بقوله تعالى {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} [النحل: 72] وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في «كافيته» سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة، ومثله بقوله تعالى {فهبْ لي من لدنك وليّاً} [مريم: 5].
{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)}
هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛ فخلقُ السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعُلّو والانخفاض.
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخُص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نَجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض. ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحواللٍ عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق. وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم، وتقدم في سورة آل عمران (190) قوله {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} والألسنة: جمع لسان، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] وقوله {لسان الذي يُلْحِدون إليه أعجمي} [النحل: 103].
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة. فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة، وتطرَّق التغير إلى لغاتهم تطرقاً تدريجياً؛ على أن توسُّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافاً في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقاً عليه بينها باختلاف لهجات النطق، واختلاف التصرف، فكان لاختلاف الألسنة موجبان. فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد أصل النوع كقوله تعالى: {يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} [الرعد: 4] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه. ووقع في الإصحاح الحادي عشر من «سفر التكوين» ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك.
والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن. وقد علل في ذلك «الإصحاح» بما ينزه الله عن مدلوله.
وقيل: أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي. وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضاً لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلويناً في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلاً على اختلاف النوع بل هو نواع واحد، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد، وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في «أرجوزته» في الطب بقوله:
بالنزج حرّ غيَّر الأجساد *** حتى كسا بياضها سَوادا
والصقلبُ اكتسبت البياضا *** حتى غدتْ جلودها بِضاضا
وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون. ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر. ومن العلماء وهو كُوقْيَيْ جعل أصول ألوان البشر ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين. ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا. واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها. وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض، والجذم المغولي الأصفر، والجذم الحبشي الأسود، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسَّامي والهندي والمَلاَيي نسبة إلى بلاد المَلاَيُو.
وجعل ذلك آيات في قوله {إن في ذلك لآيات للعالمين} لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله، أي آيات لجميع الناس، وهو نظير قوله آنفاً {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
واللام في قوله {للعالمين} نظير ما تقدم في الآية قبلها. وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم يمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر. وقرأ الجمهور {للعالمين} بفتح اللام. وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}
هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها.
وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانوناً يستردّ به قوة مجموعه العصَبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقداراً كافياً لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {لا تأخذه سنة ولا نوم} في سورة البقرة (255). والمنَام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر.
وقوله بالليل والنهار} متعلق ب {منامكم.} والباء للظرفية بمعنى (في) فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصاً في البلاد الحارة أو في فصل الحر.
والابتغاء من فضل الله: طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت. ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار. ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به {منامكم} للاستغناء بدلالة القيد الذي قبله بتقدير: وابتغاؤكم من فضله فيهما، وقد تكلف صاحب «الكشاف» فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر؛ على أن اللف وقع فيه تفريق، ووجَّهه محشيِّه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار.
وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله {لقوم يسمعون لوجهين: أحدهما: أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقلَّ من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها. وثانيهما: أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحبُ النوم من أحوال نومه، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهُبّ من نومه يعلم أنه كان نائماً؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظاً في وقت نومه. فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم، فلذلك قيل لقوم يسمعون.} وأيضاً لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادئ ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات.
وأجريت صفة {يسمعون} على {قوم} للإيماء إلى أن السمع متمكّن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164). ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفاً.
ومعنى اللام في قوله {لقوم يسمعون} كما تقدم في معناه عند قوله {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
{وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)}
تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلْق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثاراً مشاهدة، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تُشاهد آثارُها. ومن الحكم الإلهية في كون البرق مرئياً أن ذلك يثير في النفوس خوفاً من أن يكون الله سلطه عقاباً وطمعاً في أن يكون أراد به خيراً للناس فيطمعون في نزول المطر، ولذلك أعقبه بقوله {وينزِّل من السماء ماء} فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق.
وقوله {من آياته} جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كوننٍ إن كان ظرفاً مستقراً، أو إلى متعلَّق إن كان ظرفاً لغواً. وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبَر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملاً على نظائره، فيكون المعنى: ومن ءاياته إراءته إياكم البَرق الخ. فلذلك قال أيمة النحو: يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود (أن) ولا تقديرها، أي من غير نصب المضارع بتقدير (أن) محذوفة، وجعلوا منه قول عُروة بن الوَرْد:
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو *** إلى الإصباح آثر ذي آثار
وقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى ***
وجعلوا منه قوله تعالى {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64] برفع {أعبد} في مشهور القراءات، وقولهم في المثل: تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس تعدِل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة» وقوله فيه: «وتميط الأذى عن الطريق صدقة» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغه الواردة في الاستعمال، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقوله {ومن آياته خلق السماوات والأرض} [الروم: 22] وقوله {وابتغاؤكم من فضله} [الروم: 23]، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران {أن} المصدرية بالفعل الماضي {أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} [الروم: 21] واقترانها بالفعل المضارع {ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25]، وباسم المصدر تارة {ومن ءاياته منامكم بالليل والنهار} [الروم: 23] ومرة بالفعل المجرد المؤوّل بالمصدر {ومن آياته يريكم البرق.
} ولك أن تجعل المجرور متعلقاً ب {يريكم} وتكون {من} ابتدائية في موضع الحال من البرق، وتكون جملة {يريكم البرق} معطوفة على جملة {ومن آياته منامكم بالليل والنهار} [الروم: 23] الخ. فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة.
فهذا التقرير كالذي في قوله تعالى {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2]، وليتأتى عطف {وينزل من السماء ماء} عليه لأنه تكملة لهذه الآية.
وقوله {خوفاً وطمعاً} مفعول لأجله معطوف عليه. والمراد: خوفاً تخافونه وطمعاً تطمعونه. فالمصدران مؤولان بمعنى الإرادة، أي إرادة أن تخافوا خوفاً وتطمعوا. وقد تقدم الكلام على البرق في قوله {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} في سورة الرعد (12). وتقدم هنالك أن {خوفاً} مفعول له و{طمعاً} كذلك وتوجيه ذلك.
وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها. ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كاففٍ في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم على نحو ما قرر في نظائره آنفاً.
وإجراء {يعقلون} على لفظ {قوم} للإيماء إلى ما تقدم ذكره آنفاً في مثله. ومعنى اللام في قوله {لقوم يعقلون} مثل معنى أختها في قوله {لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
ختمت الآيات بهذه الآية السادسة وهي التي دلت على عظيم القدرة على حفظ نظام المخلوقات العظيمة بعد خلقها؛ فخلقُ السماوات والأرض آيةٌ مستقلة تقدمت، وبقاء نظامهما على ممر القرون آية أخرى. وموقع العبرة من هاته الآية هو أولها وهو أن تقوم السماء والأرض هذا القيام المتقن بأمر الله دون غيره.
فمعنى القيام هنا: البقاء الكامل الذي يشبه بقاء القائم غير المضطجع وغير القاعد من قولهم: قامت السوق، إذا عظم فيها البيع والشراء. وهذا هو المعبر عنه في قوله تعالى {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41] وقوله {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} [الحج: 65]. والأمر المضاف إلى الله هو أمره التكويني وهو مجموع ما وضعه الله من نظام العالم العلوي والسفلي، ذلك النظامَ الحارس لهما من تطرق الاختلال بإيجاد ذلك النظام. و{بأمره} متعلق بفعل {تقوم،} والباء للسببية.
و {ثم} عاطفة الجملة على الجملة. والمقصود من الجملة المعطوفة الاحتراس عما قد يتوهم من قوله {أن تقوم السماء والأرض بأمره} من أبدية وجود السماوات والأرض، فأفادت الجملة أن هذا النظام الأرضي يعتوره الاختلال إذا أراد الله انقضاء العالم الأرضي وإحضار الخلق إلى الحشر تسجيلاً على المشركين بإثبات البعث. فمضمون جملة {إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} ليس من تمام هذه الآية السادسة ولكنه تكملة وإدماج موجه إلى منكري البعث.
وفي متعلق المجرور في قوله {مِنَ الأرْض} اضطراب؛ فالذي ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنه متعلق ب {دعاكم} لأن {دعاكم} لما اشتمل على فاعل ومفعول فالمتعلق بالفعل يجوز أن يكون من شؤون الفاعل ويجوز أن يكون من شؤون المفعول على حسب القرينة، كما تقول: دعوت فلاناً من أعلى الجبل فنزل إليّ، أي دعوته وهو في أعلى الجبل. وهذا الاستعمال خلاف الغالب ولكن دلت عليه القرينة مع التفصي من أن يكون المجرور متعلقاً ب {تخرجون} لأن ما بعد حرف المفاجأة لا يعمل فيما قبلها، على أن في هذا المنع نظراً. ولا يجوز تعليقه ب {دعوة} لعدم اشتمال المصدر على فاعل ومفعول، وهو وجيه وكفاك بذوق قائله. وأقول: قريب منه قوله تعالى {أولئك يُنادَوْن من مكان بعيد} [فصلت: 44]. و{مِن} لابتداء المكان، والمجرور ظرف لغو. ويجوز أن يكون المجرور حالاً من ضمير النصب في {دَعَاكم} فهو ظرف مستقر. ويجوز أن يكون {من الأرض} متعلقاً ب {تخرجون} قدم عليه. وهذا ذكر في «مغني اللبيب» أنه حكاه عنهم أبو حاتم في كتاب «الوقف»، وهذا أحسن وأبعد عن التكلف، وعليه فتقديم المجرور للاهتمام تعريضاً بخطئهم إذ أحالوا أن يكون لهم خروج من الأرض عن بعد صيرورتهم فيها في قولهم المحكي عنهم بقوله تعالى {وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] وقولهم
{أإذا كنّا تُراباً وءاباؤنا أئنّا لمخرجون} [النمل: 67].
وأما قضية تقديم المعمول على {إذا} الفجائية فإذا سلم عدم جوازه فإن التوسع في المجرور والمظروف من حديث البحر، فمن العجب كيف سدّ باب التوسع فيه صاحب «مغني اللبيب» في الجهة الثانية من الباب الخامس. وجيء بحرف المفاجأة في قوله {إذا أنتم تخرجون} لإفادة سرعة خروجهم إلى الحشر كقوله {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13، 14] و{إذا} الفجائية تقتضي أن يكون ما بعدها مبتدأ. وجيء بخبر المبتدأ جملة فعلية لإفادة التقوّي الحاصل من تحمل الفعل ضمير المبتدأ فكأنه أعيد ذكره كما أشار إليه صاحب «المفتاح». وجيء بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة في ذلك الخروج كقوله {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} [يس: 51].
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)}
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة {ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25] فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماءَ والأرض.
فاللام في قوله {وله من في السموات والأرض} لام الملك، واللام في قوله {كل له قانتون} لام التقوية، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعاً في العَمل، وبتأخيره عن معموله. وعليه تكون {مَنْ} صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها. وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر، فيجوز أن يكون المعنى: أنهم منقادون لأمره. وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيَّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيرادَ الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف.
والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27]. وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها، وهم في انحرافهم متفاوتون؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أنداداً، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلاً أو كثيراً، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه. فجملة {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} معطوفة على جملة {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25]. ويجوز أن تكون جملة {ولَه مَنْ فِي السَّمَاوات والأرض كُل لهُ قانِتُون} تكملة لجملة {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25] على معنى: وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]، فتكون الجملة معطوفة على جملة {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25]. والقنوت تقدم في قوله {قانتاً لله حنيفاً} في سورة النحل (120).
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنَى عليه قوله {وهو أهون عليه} تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك. فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم. وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان، وأنكروا إعادته بعد الموت، واستُدل عليهم هنالك بقياس المساواة، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمناً تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم. فقوله {أهون} اسم تفضيل، وموقعه موقع الكلام الموجَّه، فظاهره أن {أهون} مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول، وهذا في معنى قوله تعالى {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15]. ومراده: أن إعادة الخلق مرة ثانية مُساوية لبدْء الخلق في تعلق القدرة الإلهية، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله {قال ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يَدْعُونَني إليه} [يوسف: 33]. وللإشارة إلى أن قوله {وهو أهون عليه} مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض،} أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم.
و {الأعلى: معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة. قال حجة الإسلام في الإحياء}: «لا طاقة للبشر أن ينفُذوا غَوْر الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضَوءَ الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه ورأوها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نَزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصواتتٍ يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها» اه.
وقوله {في السموات والأرض} صفة للمثل أو حال منه، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقراً في السماوات والأرض، أي في كائنات السماوات والأرض، فالمراد: أهلها، على حدّ {واسأل القرية} [يوسف: 82]، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشؤون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطِّلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى. ومن جملة المثَل الأعلى عزته وحكمته تعالى؛ فخُصّا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته؛ فالعزة تقتضي الغِنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة. والحكمة تقتضي عموم العلم. ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}
أُتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عَقِبَ دليل بدئه بضرببِ مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى {يُخرج الحي من الميت} [الروم: 19] وقوله {ويحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 19] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين: أصل الوحدانية، وأصل البعث، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل. والخطاب للمشركين.
وضرب المثل: إيقاعه ووضعه، وعليه فانتصاب {مثلاً} على المفعول به، أو يراد بضربه جعله ضرباً، أي مِثْلاً ونظيراً، وعليه فانتصاب {مثلاً} على المفعولية المطلقة لأن {مَثَلاً} حينئذ يرادف ضرباً مصدر ضربَ بهذا المعنى. وقد تقدم عند قوله تعالى {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} في سورة البقرة (26). واللام في لكم} لام التعليل، أي ضرب مثلاً لأجلكم، أي لأجل إفهامكم.
و {مِن} في قوله {مِن أنفسكم} ابتدائية متعلقة ب {ضرَب} أي جعل لكم مثلاً منتزعاً من أنفسكم. والأنفس هنا جنس الناس كقوله {فسلِّموا على أنفسكم} [النور: 61] أي مثَلاً من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيداً ومن لا عبيد له. فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثَل. والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله {فيما رزقناكم} إلى آخره، أي من شركاء لهم هذا الشأن.
و {مِن} في قوله {من ما ملكت أيمانكم} تبعيضية، و{مِن} في قوله {مِن شركاء} زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري. فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام.
والشركاء: جمع شريك، وهو المشارك في المال لقوله {فيما رزقناكم،} والفاء للتفريع على الشركة، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء.
وجملة {تخافونهم} في موضع الحال من ضمير الفاعل في {سواء.} والخوف: انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله {كخيفتكم أنفسكم،} أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم.
والأنفس الثاني بمعنى: أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين.
وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك. هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم، وهذا التشبيه وإن كان منصرفاً لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيداً، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفاً يأبَوْنه.
فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهةُ منفيةً منكَرة، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود ليُنتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازاً لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة. ولذلك عقب بجملة {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون،} أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلاً كهذا التفصيل وضوحاً بيناً، وجملة {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الروم: 24] استئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم، فيزدادَ المؤمنون يقيناً ويؤمنَ الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.
وفي ذكر لفظ {قوم} وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله {ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً} إلى قوله {يعقلون} [الروم: 24].
وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى {وما يَعْقِلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] وقوله {ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 171].
وقوله {كذلك} تقدم نظيره في قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143].
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} [الروم: 28] إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيُقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويَلِجُوا حظيرة الإيمان، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى. فالتقدير: فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم.
و {الذين ظلموا: المشركون إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزاً من التوغل في هواه لعلمه بفساده، وليس ما هنا مماثلاً لقوله تعالى {ومن أضل مِمنّ اتبع هواه بغير هدىً من الله} [القصص: 50] في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبساً بمغايرة هدى الله.
والفاء في {فَمَن يهدي} للتفريع، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبداً. و{مَن} اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم، إذ التقدير: لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرُهم ولا أنفسُهم، فإنهم من عموم ما صدق {مَن يَهدي.
ومعنى من أضل الله:} مَن قَدَّر له الضلال وطبع على قلبه، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بيّن. ومعنى انتفاء هاديهم: أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكاً. ثم عطف على جملة نفي هداهم خبرٌ آخر عن حالهم وهو {ما لهم من ناصرين} ردّاً على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}
الفاء فصيحة. والتقدير: إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين. والأمر مستعمل في طلب الدوام. والمقصود: أن لا تهتم بإعراضهم، كقوله تعالى {فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومن اتبعن} [آل عمران: 20] وقوله {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112] (أي من آمن) وقوله {أدْعوا إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتّبعن} [يوسف: 108].
فالمعنى: فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك، كما يؤذن به قوله بعده {منيبين إليه واتقوه} [الروم: 31] بصيغة الجمع.
وإقامة الوجه: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يميناً ولا شمالاً. وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، وهذا كقوله تعالى {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادْعُوه مخلصين} [الأعراف: 29] وقوله حكاية عن إبراهيم {إني وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79] وقوله تعالى {فقل أسلمتُ وجهي لله} [آل عمران: 20]، أي أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره.
والتعريف في {الدين} للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام. و{حنيفاً} يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في فعل {أقم} فيكون حالاً للنبي صلى الله عليه وسلم كما كان وصفاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى {إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً} [النحل: 120]، وهذا هو الأظهر في تفسيره. ويجوز كونه حالاً من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية.
وحنيف: صيغة مبالغة في الاتصاف بالحَنَف وهو الميْل، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق، أي عادلاً ومنقطعاً عن الشرك كقوله تعالى {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وقد مضى في سورة البقرة (135).
وفطرة الله} بدل من {حنيفاً} بدل اشتمال فهو في معنى الحال من {الدين} أيضاً وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة. وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما: التبرؤ من الإشراك، وموافقتُه الفطرة، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه. ونظيره قوله تعالى {ولم يجعل له عِوجاً قيّماً} [الكهف: 1، 2] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة، والإشراك تبديلٌ للفطرة. والفطرة أصله اسم هيئة من الفَطْر وهو الخَلْق مثل الخِلقة كما بيّنه قوله {التي فَطَرَ الناس عليها} أي جَبَلَ الناسَ وخلقهم عليها، أي متمكنين منها. فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكناً يشبه تمكن المعتلي على شيء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5)، وحقيقة المعنى: التي فطر الناس بها.
ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي مُعِدَّة ومُهَيِّئَة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه. اه.
وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.
وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه {النجاة} فقال: «ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهَدَ المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يَعرضَ على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلاً، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديقَ بها: إما شهادة الكل مثل: أنَّ العدل جميل، وإما شهادة الأكثر؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم. وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوَّلي عقلي ولا وهَمِيّ فإنها غير فطرية، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو الاستقراءُ الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقاً صِرفاً فلا يُفْطَن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق، اه. فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية أيضاً، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة. وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية». واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتَمع الإنساني قد مُني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تُتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحَق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خيرَ دليل. وكونُ الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله {ذلك الدين القيّم.} فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.
وفي قوله {التي فطر الناس عليها} بيان لمعنى الإضافة في قوله {فطرة الله} وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء " أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و(تُحسون) تدركون بالحس، أي حاسّة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعهما. وفي «صحيح مسلم» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: " وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم أي غير مشركين وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً "
الحديث
وجملة {لا تبديل لخلق الله} مبيِّنة لمعنى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} فهي جارية مجرى حال ثالثة من {الدّين} على تقدير رابط محذوف. والتقدير: لا تبديل لخلق الله فيه، أي في هذا الدين، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة: زوجي كلَيْل تهامة لا حرَّ ولا قُرَّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل.
فمعنى {لا تبديل لخلق الله} أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك، قال تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فَلُيغيِّرُنَّ خلقَ الله} [النساء: 119]. ويجوز أن تكون جملة {لا تبديل لخلق الله} معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة. فتكون {لا تبديل لخلق الله} خبراً مستعملاً في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله {لا تَقْتُلوا أنفسكم} [النساء: 29]. فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة. واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه.
و {القيِّم: وصف بوزن فَيْعِل مثل هيِّن وليِّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب.
والقيام: حقيقته الانتصابُ ضد القعود والاضطجاع، ويطلق مجازاً على انتفاء الاعوجاج يقال: عود مستقيم وقيم، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى: {ولم يجعل له عِوجاً قيماً} [الكهف: 1، 2] وقال تعالى: في سورة براءة (36).
ويطلق أيضاً على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى {أفَمَنْ هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33]، ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم: قَيِّم. ويطلق القيم على المهيمن والحافظ. والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحاً ونسخاً قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} وتقدم في طالع سورة المائدة (48). فهذا الدين به قوام أمر الأمة. قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل: يا معاذ ما قِوام هذه الأمة؟ قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. يريد معاذٌ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى {مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5].
والاستدراك في قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} لدفع توهم واهِم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيِّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مُهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يَبلغهم على الوجه الصحيح؛ ففعل {لا يعلمون} غير متطلب مفعولاً بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة.
والمراد ب {أكثر الناس} المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهلُ الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود.
ومقابل {أكثر الناس} هم المؤمنون، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقُوا على أديانهم عناداً: فهم يعلمون ويكابرون، أو تحيُّراً: فهم في شك بين علم وجهل.
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
{مُنِيبِينَ} حال من ضمير {فَأقِمْ} [الروم: 30] للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم.
والمنيب: الملازم للطاعة. ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها: فَعْلَة بصيغة المرة لأنها مرة من النَّوْب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا. وفي حديث عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً» الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهداً متكرراً، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أوّاه مُنيب} في سورة هود (75). وفسّرت الإنابة أيضاً بالتوبة. وقد قيل: إن ناب مرادف تاب، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية {دعوا ربهم منيبين إليه} [الروم: 33]. والأمر الذي في قوله {واتقوه وأقيموا الصلاة} مستعمل في طلب الدوام.
و {الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة. وإنما كررت {مِن} التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلاً من المشركين بدلاً مطابقاً أو بياناً، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأولنا وءاخرنا} [المائدة: 114] وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلاً أو بياناً ولهذا قال النحاة: إن البدل على نية تكرار العامل. وقال المحققون: إن البدل معرب بالعامل المقدر، ومثله البيان وهما سيان. وتقدم الكلام على معنى {الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} في آخر سورة الأنعام (159).
وقرأ الجمهور {فرَّقوا} بتشديد الرّاء. وقرأه حمزة والكسائي {فارقوا دينهم} بألف بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام. ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادُهم منه، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعاً معه، وليس المراد الارتداد عن الإسلام.
والشيع: جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع، أي توافق رأياً، وتقدم قوله تعالى {ثم لَنَنْزِعَنَّ من كل شِيعة} في سورة مريم (69).
والحزب: الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة. وما لديهم} هو ما اتفقوا عليه. والفرح: الرضا والابتهاج. وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعاً متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضاً ويذيق بعضهم بأس بعض. وتقدم {كل حزب بما لديهم فرحون} في سورة المؤمنين (53).
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)}
عطف على جملة {فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً} [الروم: 32] أي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم. فالمقصود من الجملة هو قوله: {ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون،} فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر، بخلاف حال المؤمنين فإنهم إذا أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله. ونُسِجَ الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ {الناس} من العموم وإدماجاً لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم. فالتعريف في {الناس} للاستغراق.
والضُرّ، بضم الضاد: سوء الحال في البدن أو العيش أو المال، وهذا نحو ما أصاب قريشاً من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف، وحتى أكلوا العظام والميتة، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية، فالشدة أقوى عليهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم، قال تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] الآيات، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم و{منيبين} حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام، قال تعالى: {إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون} [الدخان: 15]. وتقدم {مُنيبين} آنفاً.
والمس: مستعار للإصابة. وحقيقة المس: أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله، وتقدم في قوله {ليمسَنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم} في العقود (73). واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضُر بَلْهَ الضرّ الشديد.
والإذاقة: مستعارة للإصابة أيضاً. وحقيقتها: إصابة المطعوم بطَرَف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقلّ من المضغ والبلع، وتقدم في قوله تعالى {لِيَذُوق وبال أمْره} في سورة العقود (95)، {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء} في سورة يونس (21). واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم.
والرحمة: تخليصهم من الشدّة. وثمّ} للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم، وحَرْف المفاجأة {إذا} يفيد أيضاً أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم.
وضمير منه} عائد إلى الله تعالى. و{مِن} ابتدائية متعلقة ب {أصابهم.} و{رحمة} فاعل {أصابهم} ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور. وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك.
واللام في قوله {لِيَكْفروا} لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضياً إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزَناً} [القصص: 8].
وضمير {ليكفروا} عائد إلى الفريق باعتبار معناه.
والإيتاء: إعطاء النافع، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله {فتمتعوا} توبيخاً لهم وإنذاراً، وجيء بفاء التفريع في قوله {فتمتعوا} لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق. والأمر في (تمتعوا) مستعمل في التهديد والتوبيخ. والتمتع: الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي.
والفاء في {فسوف تعلمون} تفريع للإنذار على التوبيخ، وهو رشيق. و(سوف تعلمون) إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئاً عظيماً، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يُعلم، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم. وهذا إشارة إلى ما سيصابون به يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود، وكانت الغاية واحدة، فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 15، 16]. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}
{أمْ} منقطعة، فهي مثل (بَل) للإضراب هو إضراب انتقالي. وإذ كان حرف {أم} حرفَ عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضراباً عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداءٍ، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله {فتمتعوا فسوف تعلمون} [الروم: 34]. وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيباً من حال أهل الشرك. ويجوز أن يكون ما بعدها متصلاً بقوله {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} [الروم: 29] فهو عطف ذَم على ذم وما بينهما اعتراض.
وحيثما وقعت {أمْ} فالاستفهام مقدَّر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام. فالتقدير: بل أأنزلنا عليهم سلطاناً وهو استفهام إنكاري، أي ما أنزلنا عليهم سلطاناً، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسؤول ليقر بنفي المسؤول عنه.
والسلطان: الحجة. ولما جعل السلطان مفعولاً للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا {حتى تنزل علينا كتاباً نَقرؤه} [الإسراء: 93]. ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29]، أي تدل كتابته، أي كتب فيه بقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى {أم ءاتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون} [الزخرف: 21]. وقدم {به} على {يشركون} للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}
أعيد الكلام على أحوال المشركين زيادة في بسط الحالة التي يتلقون بها الرحمة وضدها تلقياً يستوون فيه بعد أن مُيز فيما تقدم حال تلقي المشركين للرحمة بالكفران المقتضي أن المؤمنين لا يتلقونها بالكفران. فأريد تنبيههم هنا إلى حالة تلقيهم ضد الرحمة بالقنوط ليحذروا ذلك ويرتاضوا برجاء الفرج والابتهال إلى الله في ذلك والأخذ في أسباب انكشافها. والرحمة أطلقت على أثر الرحمة وهو المنافع والأحوال الحسنة الملائمة كما ينبني عنه مقابلتها بالسيئة وهي ما يسوء صاحبه ويحزنه فالمقصد من هذه الآية تخلق المسلمين بالخلق الكامل، ف {الناس} مراد به خصوص المشركين بقرينة أن الآية ختمت بقوله {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
وقدمت في هذه الآية إصابة الرحمة على إصابة السيئة عكسَ التي قبلها للاهتمام بالحالة التي جُعلت مبدأ العبرة وأصل الاستدلال، فقوله فرحوا بها} وصف لحال الناس عندما تصيبهم الرحمة ليبنَى عليه ضده في قوله {إذا هم يقنطون} لما يقتضيه القنوط من التذمر والغضب، فليس في الكلام تعريض بإنكار الفرح حتى نضطر إلى تفسير الفرح بالبطر ونحوه لأنه عدول عن الظاهر بلا داع. والمعنى: أنهم كما يفرحون عند الرحمة ولا يخطر ببالهم زوالها ولا يحزنون من خشيته، فكذلك ينبغي أن يصبروا عندما يمسهم الضر ولا يقنطوا من زواله لأن قنوطهم من زواله غير جار على قياس حالهم عندما تصيبهم رحمة حين لا يتوقعون زوالها، فالقنوط هو محل الإنكار عليهم وهذا كقوله تعالى {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسَّه الشرُّ فيؤوس قنوط} [فصلت: 49] في أن محل التعجيب هو اليأس والقنوط، وتقدم ذكر الإذاقة آنفاً. والقنوط: اليأس، وتقدم في سورة الحجر (55) عند قوله تعالى {فلا تكن من القانطين} وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله {بما قدمت أيديهم} لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسباباً لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات، ويتداركوا ما فات، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط. وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79].
وقرأ الجمهور {يقنَطون} بفتح النون على أنه مضارع قَنِط من باب حسِب. وقرأه أبو عمرو والكسائي بكسر النون على أنه مضارع قَنط من باب ضرب وهما لغتان فيه.
ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنّة الله الشائعة في الناس: من لحاق الضر وانفراجه، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق، فيسعَوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى، فجملة {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق} الخ عطف على جملة {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها} والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلاً لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها.
فالتقدير: إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.
وجملة {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} تذييل، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة، ومُسبباتها كذلك، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها، كل على حسب استعداده. وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة.
{فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)}
فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها، وقد اشتمل الكلام قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس، وإصابة السوء إياهم، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس، وذكر بسط الرزق وتقديره. وتضمن ذلك أن الفرح يُلْهِيهم عن الشكر، وأن القنوط يُلْهِيهم عن المحاسبة في الأسباب، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشاداً إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكراً من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيَّق عليهم الرزق، كما يُحِب أن يوسع عليه رزقه؛ فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله {ذلك خير للذين يريدون وجه الله} [الروم: 38] الآية، ويجوز أن يكون خطاباً لغير معيّن من المؤمنين.
والإيتاء: الإعطاء. وهو مشعر بأن المعطَى مال، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء} [الروم: 37]. وصيغة الأمر من قوله {فئات} مُجمل. والأصل في محملها الوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب. وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتِي.
وعن مجاهد وقتادة: صلة الرحم أي بالمال فرض من الله عز وجل لا تقبل صدقة أحد ورَحمه محتاجة. وقال الحسن: حق ذي القربى المواساة في اليُسر، وقول ميسور في العسر. وقال ابن عطية: معظم ما قُصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «في المال حق سوى الزكاة» وللمساكين وابن السبيل حق، وبَيَّن أن حق هذين في المال اه. أقول ولذلك قال جمع كثير: إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقال فريق: لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه. قلت: وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة.
و {القربى}: قُرب النسب والرحِم. وتقدم عند قوله في سورة النساء (36). والمسكين تقدم في قوله {للفقراء والمساكين} في سورة التوبة (60). وابن السبيل: المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي.
ووقع الحق مجملاً والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبي. وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن. وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة، وقرنت بالصلاة؛ فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنُصب ثم ضبطت بأصناف ونُصُب ومقاديرَ مخرجةٍ عنها.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فإن الزكاة حق المال. وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب. وقُصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك، فجُماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال، فدل على أن ذلك واجب لهم. وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقاً؛ فحقُّ ذي القربى يختلف بحسب حاجته؛ فللغني حقه في الإهداء تودّداً، وللمحتاج حق أقوى. والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق، وبقرينة مقابلته بقوله {لتربوا في أموال الناس} [الروم: 39] على أحد الاحتمالات في تفسيره. وأما إعطاء القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ {حقه} وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها.
وحق المسكين: سد خلته. وحق ابن السبيل: الضيافة كما في الحديث «جائزته يومٌ وليلة» والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حباً للمدحة، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقرباً إليهم، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك، قال تعالى: {كُتِب عليكم إذا حَضَر أحدَكم الموتُ إنْ تَرك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} كما تقدم في سورة البقرة (180).
ولذلك عقب بقوله هنا ذلك خير للذين يريدون وجه الله} أي الذين يتوخّون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون. والإشارة بقوله {ذلك خير} إلى الإيتاء المأخوذ من قوله {فئاتتِ ذا القربى حقَّه} الآية.
وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محلّ النظر. وفيه أيضاً مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعْطَى من أهل الوجاهة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله. والمراد: أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه.
واسم الإشارة في قوله {ذلك خير} للتنويه بالمأمور به. و{خير} يجوز أن يكون تفضيلاً والمفضّل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تُذكر بعد في قوله {وما ءاتيتم من رِبّاً} الآية [الروم: 39]. ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر، أي ذلك فيه خيرٌ للمؤمنين، وهو ثواب الله.
وفي قوله وأولئك هم المفلحون} صيغة قصر من أجل ضمير الفصل، وهو قصر إضافي، أي أولئك المتفردون بالفلاح، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر. فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه.
{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {ما} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فئاتتِ ذا القربى حقه} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه.
ومعنى {ءاتيتم:} آتى بعضكم بعضاً لأن الإيتاء يقتضي مُعطياً وآخذاً.
وقوله {لتربوا في أموال الناس} خطاب للفريق الآخِذِ.
و {لتربوا} لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالاً على أموالكم. وقوله: {في أموال الناس في} للظرفية المجازية بمعنى (من) الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحاً تحصل لكم من أموال الناس، فحرف {في} هنا كالذي في قول سَبْرةَ الفقعسي:
ونَشْرَبُ فِي أثمانها ونُقامر ***
أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالى {وارْزُقُوهُمْ فيها واكْسُوهم} في سورة النساء (5).
ومِن} في قوله {من رباً} وقوله {من زكاة} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة.
وقوله {فلا يربو عند الله} جواب الشرط. ومعنى {فلا يربو عند الله} أنه عمل ناقص عند الله غير زاككٍ عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فأولئك هم المضعفون} وقوله {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} في سورة آل عمران (130). وهذا المعنى مروي عن السدّي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى في} من قوله {في أموال الناس.
ويجوز أن يكون لفظ ربا} في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصدَ الزيادة في أموالهم تقرباً إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والمَلَق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئاً وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى: وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة {لتربوا} توكيداً لفظيّاً ليعلق به قوله {في أموال الناس}.
وقوله {وما ءاتيتم من زكاة} الخ رجوع إلى قوله
{فئاتتِ ذا القربى حقه} [الروم: 38] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة.
وجملة {فأولئك هم المضعفون} جواب {وما ءاتيتم من زكاة،} أي فمؤتوه المضعفون، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب. وضمير الفصل لقصر جنس المضعفين على هؤلاء، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دُنيوي زائل. واسم الإشارة في قوله {فأولئك هم المضعفون} للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح. واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة.
وقرأ الجمهور {ءاتيتم} بهمزتين، أي أعطيتم. وقرأه ابن كثير {أتيتم} بهمزة واحدة، أي قصدتم، أي فعلتم. وقرأ الجمهور {ليَربوَ} بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو {ليربوَ.} وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو جماعة بالاتفاق، ورسم المصحف سنة. وقرأ نافع {لتُربوا} بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}
هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله {هل مِن شركائكم مَن يفعل مِنْ ذَلكم مِنْ شيء، وإدماجاً للاستدلال على وقوع البعث. وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] واطَّرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده}، وسيأتي في الآيتين بعد هذه.
و {ثم} مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي.
و {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت {مِن} الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله {مِن شيء.} والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئاً من ذلكم. ف {من} الأولى بيانية هي بيان للإبهام الذي في {من يفعل،} فيكون {من يفعل} مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: حصل، أو وجد، أو هي تبعيضية صفة لمقدر، أي هل أحد مِن شركائكم. و{من} الثانية في قوله {من ذلكم} تبعيضية في موضع الحال {من شيء. ومن} الثالثة زائدة لاستغراق النفي.
وإضافة (شركاء) إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر، وهذا جار مجرى التهكم، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معديكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصَعق وأنه قتله، فقال له خالد بن الصعق: «مهلاً أبا ثور قتيلُك يسمع» أي القتيل بزعمك. والقرينة قوله «يسمع» كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك. والإشارة ب {ذلكم} إلى الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وهي مصادر الأفعال المذكورة. وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور.
وجملة {سبحانه وتعالى عما يشركون} مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية. وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خَلَق ورزق ويُميت ويُحيي، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك، وهذه في قوة مقدمة هي كبرَى قياسسٍ وهو من الشكل الثاني، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله. وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني. ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم، ودليل المقدمة الكبرى العقل. وقرأ الجمهور {تشركون} بفوقية على الخطاب تبعاً للخطاب في {ءاتيتم} [الروم: 39]. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن. والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم الآيات} [الروم: 9]، فلما طولبوا بالإقرار على مَا رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أُنكِرَ عليهم عدمُ النظر في تلك الآثار، أُتبع ذلك بما أدَّى إليه طريق الموعظة من قوله {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 27]، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة، والتذكير بدلائل الوحدانية ونِعَم الله تعالى، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقاً مستقراً إدراكه في الفطرة البشرية، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثلَ ما كسبت أيدي أولئك.
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم. ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله {وإذا مسّ الناسَ ضُر دَعوا ربهم} [الروم: 33] الآية، فهي خبر مستعمل في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المُخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك {لعلهم يرجعون.} فالإتيان بلفظ الناس في قوله {بما كسبت أيدي الناس} إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال «بما كسبت أيديهم». فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصارِ أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سَوْق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب {غُلِبَتتِ الرومُ} [الروم: 2].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسِّ الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة {وإذا مسّ الناسَ ضرّ} [الروم: 33] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض. ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمةً وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضاً ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
و {الفساد: سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودل قوله: في البر والبحر} على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ثم التعريف في {الفساد:} إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برِّها وبحرِها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس بدليل قوله {ليذيقهم بعضَ الذي عمِلوا لعلهم يرجعون}.
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي مَوتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وقيل: أريد بالبر البَوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال: إن العرب تسمي الأمصار بحراً. قيل: ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه. يعني بالبحرة: مدينة يثرب وفيه بُعد. وكأنَّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أنَّ قريشاً أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعِظام، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله بما كسبت أيدي الناس} للعوض، أي جزاء لهم بأعمالهم، كالباء في قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30]، ويكون اللام في قوله {ليذيقهم} على حقيقة معنى التعليل.
ويجوز أن يكون المراد بالفساد: الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} إلى قوله: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [الروم: 40]، فتكون الجملة إتماماً للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيهاً على أن الله خلق العالم سالماً من الإشراك، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم. وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في «صحيح مسلم»: " إني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وأمَرْتهم أن يشركوا بي " الحديث.
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط، ويكون الباء في قوله {بما كسبت أيدي الناس} للسببية، ويكون اللام في قوله {ليذيقهم بعض الذي عملوا} لامَ العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجُعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى:
{فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً} [القصص: 8]، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم. ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام مُحكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة، فكانت وشائجَ لأمثالها:
«وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه»
فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]، وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع. وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفياً.
ومحمل صيغة فعل {ظهر} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة {أتى أمر الله} [النحل: 1]. وأيَّاً ما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله {ليذيقهم بعض الذي عملوا}، وأن الله يقدر أسبابه تقديراً خاصاً ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم. وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية.
و {ما} موصولة، وحذف العائد من الصلة، وتقديره: بما كسبته أيدي الناس، أي بسبب أعمالهم. وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاماً. ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئِلَ: أي الذنب أعظم؟ «أن تدعُو لله نِدّاً وهو خلقك» وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وقال: {وأنْ لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} [الجن: 16].
ويجري حكمُ تعريف {الناس} على نحو ما يجري في تعريف {الفساد} من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم {الناس} عليهم.
والإذاقة: استعارة مكنية؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيُحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم. ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يُقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى:
{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45]، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127].
والعدول عن أن يقال: بعض أعمالهم إلى {بعضَ الذي عملوا} للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدورها منهم.
والرجاء المستفاد من (لعلَّ) يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يُرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى: {أو لا يَرْون أنهم يُفْتَنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون} [التوبة: 126].
والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأنَّ الذي عصى ربه عبد أبق عن سيّده، أو دابة قد أبدت، ثم رجع. وفي الحديث «الله أفرحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده». وقرأ الجمهور {ليذيقهم} بالياء التحتية، أي ليذيقهم الله. ومعاد الضمير قوله {الله الذي خلقكم} [الروم: 40]. وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}
لما وعظهم بما أصابهم من فساد الأحوال ونبههم إلى أنها بعض الجزاء على ما كسبت أيديهم عرَّض لهم بالإنذار بفساد أعظم قد يحلّ بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء في الإشراك فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لأن كثيراً من المشركين قد اجتازوا في أسفارهم بديار تلك الأمم كما قال تعالى {وإنكم لتَمُرُّون عليهم مُصْبِحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137 138]. فهذا تكرير وتأكيد لقوله السابق {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} [الروم: 9]، وإنما أعيد اهتماماً بهذه العبرة مع مناسبة قوله {ليذيقهم بعض الذي عملوا} [الروم: 41].
والعاقبة: نهاية الأمر. والمراد بالعاقبة الجنس، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل، ولكل قوم عاقبة.
وجملة {كان أكثرهم مشركين} واقعة موقع التعليل لجملة {كيف كان عاقبة الذين من قبل}، أي سبب تلك العاقبة المنظورة هو إشراك الأكثرين منهم، أي أن أكثر تلك الأمم التي شوهدت عاقبتُها الفظيعة كان من أهل الشرك فتعلمون أن سبب حلول تلك العاقبة بهم هو شركهم، وبعض تلك الأمم لم يكونوا مشركين وإنما أصابهم لتكذيبهم رسلهم مثل أهل مدين قال تعالى: {أكُفَّارُكُم خيرٌ من أولئكم} [القمر: 43].
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}
تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته، ووعد بأن يأتيه النصر كقوله {واعبد ربك حتى يأتيَك اليقين} [الحجر: 99]، مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدّين القيّم، أي الحق. وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله {فأقم وجهك للدّين حنيفاً} [الروم: 30]، فإن ذلك لما فُرع على قوله {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} [الروم: 9]، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فُرع أيضاً نظيره هذا على قوله {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل} [الروم: 42] وقد تقدم الكلام على نظير قوله {فأقم وجهك للدّين} وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله {فأقم وجهك للدين حنيفاً} [الروم: 30].
و {القيّم} بوزن فَيْعل، وهي زنة تدل على قوة ما تصَاغ منه، أي: الشديد القيام، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبَّه بالقيام، وضده يشبه بالعِوج، وقد جمعهما قوله تعالى {ولم يجعل له عِوَجاً قيِّماً} [الكهف: 1، 2] فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيّم. وبين {أقم} و{القيم} محسن الجناس.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراضٌ عن صريح خطاب المشركين. والمقصود التعريض بأنهم حَرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة. يؤخذ هذا التعريض من أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك {يومئذ يصَّدَّعون} الآية.
والمردّ: مصدر ميمي من الردّ وهو الدفع، و{له} يتعلق به، و{من الله} متعلق ب {يأتي} و{من} ابتدائية. والمراد (باليوم) يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يردّه عن المجازَيْن به رادّ لأنه آت من الله. والظاهر أن المراد به يوم بدر.
و {يصدعون} أصله يَتصَدَّعون فقلبت التاء صاداً لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام. والتصدع: مطاوع الصدع، وحقيقة الصدع: الكسر والشق، ومنه تصدع القدح.
والمراد باليوم: يوم الحشر. والتصدع: التفرق والتمايز. ويكون ضمير الجمع عائداً إلى جميع الناس، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحْبَرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآمرة فأولئك في العذاب محضرون} [الروم: 14 16].
{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}
هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي {فأقم وجهك للدّين القيم} [الروم: 43]، إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فبين ذلك بأنهم لا يَضرون بكفرهم إلا أنفسهم، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله {فعليه كفره} فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين، ولهذا ابتدئ بذكر حال من كَفر ثم ذُكر بعدَه {من عمل صالحاً}. واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضَرّاً على الكافر، لأن (عَلى) تقتضي ذلك في مثل هذا المقام، كما اقتضى اللام في قوله {فلأنفسهم يمهدون} أن لِمجرورها نفعاً وغنماً، ومنه قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]. وقال توبة بن الحُمَيِّر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها
وأفرد ضمير {كفره} رعياً للفظ {مَن}. وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضارّ في الكفر على الكافر وأنه لا يَضُر غيره، مع تمام الإيجاز، وهو وعيد لأنه في معنى: من كفر فجزاؤه عقاب الله، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة (على) من قوله {فعليه كفره} وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحاً بقوله {ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله}.
وأما قوله {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} فهو بيان أيضاً لما في جملة {فأقم وجهك للدّين القيّم} [الروم: 43] من الأمر بملازمة التحلّي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب بالترغيب فهو كالتكملة للبيان. وإنما قوبل {من كَفر} ب {من عَمِل صَالِحاً} ولم يقابل ب (مَن ءامن) للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين. فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتّكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة. وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يَقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله تعالى قبل هذه الآية: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة فأولئك في العذاب مُحضَرون} [الروم: 14 16] حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان.
وتقديم {فلأنفسهم} على {يمهدون} للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص.
و {يمهدون} يجعلون مِهاداً، والمهاد: الفراش. مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطئ فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه.
وتقديم {لأنفسهم} على {يمهدون} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة.
وروعي في جمع ضمير {يمهدون} معنى {مَن} دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة.
ويتعلق {ليجزي الذين ءامنوا} ب {يمهدون} أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله. وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله {الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه {إنه لا يحب الكافرين}.
وقد فهم من قوله {مِنْ فَضْلِهِ} أن الله يجازيهم أضعافاً لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة {إنه لا يحب الكافرين} المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فحصل بقوله {إنه لا يحب الكافرين} تقرير بَعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله {ليجزي الذين ءامنوا} دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية.
وقوله {إنه لا يحب الكافرين} يدل بتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلاً وأن العقاب مُعيّن للكافرين عدلاً.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة {ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25] وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة كان لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضّحة المبينة. والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يُقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج إلى المطر.
والمبشرات: المؤذنة بالخير وهو المطر. وأصل البشارة: الخبر السارّ. شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرّة. وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى: {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} في سورة البقرة (25)، وقوله {وإذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى} في سورة النحل (58)، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث يمطر. وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى {وتصريف الرياح} في سورة البقرة (164) وعلى {كونها لواقح} في سورة الحجر (22).
وقوله {وليذيقكم} عطف على {مُبشرات} لأن {مبشرات} في معنى التعليل للإرسال. وتقدم الكلام على الإذاقة آنفاً.
و {من رحمته} صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل {ليذيقكم} أي: مذوقاً. و{مِن} ابتدائية، ورحمة الله: هي المطر.
وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه، وتقدم في آية سورة البقرة (164).
والتقييد بقوله {بأمره} تعليم للمؤمنين وتحقيق للمِنة، أي: لولا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها. وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على ذلك قوله {ولعلكم تشكرون} وقد تقدم ذلك في سورة الحج (36)، وتقدم هنالك معنى {لتبتغوا من فضله}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
هذه جملة معترضة مستطرَدة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعُقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح، وبجعل الله الفلكَ لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، وكان في تلك النقمة نصر المؤمنين، أي نصر الرسل وأتباعهم؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح: {ربّ انصرني بما كذبون} في سورة المؤمنين (26)، وقوله تعالى هنا: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} والواو اعتراضية وليست للعطف.
والانتقام: افتعال من النَّقْم وهو الكراهية والغضب، وفعله كضرب وعلم قال تعالى {وما تنقِم منا} [الأعراف: 126]. وفي المثل: مثَله كمثل الأرقم إن يُقتل يَنقَم بفتح القاف وإن يترك يَلْقم. والانتقام: العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما تنقم منا} وقوله {فانتقمنا منهم} في سورة الأعراف (136).
وكلمة {حقاً علينا} من صيغ الالتزام، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {حقيقٌ عليّ أن لا أقول على الله إلاَّ الحق} [الأعراف: 105]، وهو محقوق بكذا، أي: لازم له، قال الأعشى:
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ***
فإن وعد الصادق حق. قال تعالى: {وعداً علينا إنّا كُنّا فاعلين} [الأنبياء: 104]. وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأُدرج تحت ذكر النصر معنَى الانتصار، وأدرج ذكر الفريقين: فريق المصدقين الموعود، وفريق المكذبين المتوعَّد، وقد أُخلي الكلام أولاً عن ذكرهما.
وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله {حَقّاً} فيكون في {كان} ضمير يعود على الانتقام، أي وكان الانتقامُ من المجرمين حقاً، أي: عدلاً، ثم يستأنف بقوله {علينا نصرُ المؤمنين} وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله إيجاباً فراراً من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت. قال ابن عطية: وهو وقف ضعيف، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم.
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)}
جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 27]، وجاءت المناسبة هنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله {ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات} [الروم: 46] استدلالاً على التفرّد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح توسلاً إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدَلّ به على البعث، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله {الله الذي يرسل الرياح أنه هو المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره، وكفى بهذا إبطالاً لإلهية الأصنام، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شؤون نفع البشر. والتعبير بصيغة المضارع في: يُرسل، وتُثير، ويَبسطه، ويَجعله لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأنَّ السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك.
{وجمع الرياح} لِما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين: جَنوب وشَمَال وصَبا ودبور، بخلاف اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاقه على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردةً من صوب واحد فلا تزال تشتد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال: «اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً» وقد تقدم قوله تعالى {وتَصْرِيف الرِّيَاح} في سورة البقرة (164).
والإثارة: تحريك القارّ تحريكاً يضطرب به عن موضعه. وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة.
والبسط: النشر. والسماء: الجو الأعلى وهو جو الأسحِبة.
و {كيف} هنا مجردة عن معنى الاستفهام، وموقعها المفعولية المطلقة من {يبسطه} لأنها نائبة عن المصدر، أي: يَبسطه بسطاً كيفيته يشاؤها الله، وقد تقدم في قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران (6). وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب.
و {كِسَفاً} بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كِسْف بكسر فسكون، ويُقال: كِسْفة بهاء تأنيث وهو القطعة. وقد تقدم في قوله تعالى {أوْ تَسْقُط السَّماء كَما زَعمت علينَا كِسْفاً} في سورة الإسراء (92). وتقدم الكِسْف في قوله {فأسقط علينا كِسفاً من السَّماء إنْ كُنْت مِن الصَّادِقين} في سورة الشعراء (187). والمعنى: أنه يبسط السحاب في السماء تارة، أي يجعله ممتداً عاماً في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق، ويجعله كسفاً أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة، أي: يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفاً غير حالة بسطه في السماء، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مراداً منه اختلاف أحوال السحاب. والمقصود من هذا: أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة.
والخطاب في {فترى الوَدْق} خطاب لغير معيّن وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق. والودق: المطر. وضمير {خلاله} للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفاً فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات. والخلال: جمع خَلَل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور (43).
وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خِلقة الإنسان إذ جعله قابلاً لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله.
و {إنْ} في قوله {وإن كانوا} مخفَّفة مهملة عن العمل، واللام في قوله {لَمُبْلِسِين} اللام الفارقة بين {إنْ} المخففة و{إنْ} الشرطية.
والإبلاس: يأس مع انكسار. وقوله {مِنْ قَبْلِه} تكرير لقوله {من قبللِ أن ينزّل عليهم} [الروم: 49] لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين. قال ابن عطية: أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار اه. يعني أن إعادة قوله {مِنْ قَبْله} زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر. وقال في «الكشاف»: «فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم» اه. يعني أن فائدة إعادة {من قبله} أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأشير إلى قوتها بالتوكيد.
وضمير {قبله} عائد إلى المصدر المأخوذ من {أن ينزل عليهم} أي تنزيله.
{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}
رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين أسباب المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس، أن اعتُرض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف. والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال. والنظر: رؤية العين. وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة، وعبر عن ضده بالإحياء. والخطاب ب {انظر} لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله {فترى الودق} [الروم: 48].
و {رحمة الله: هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام.
وأثر الشيء: ما ينشأ عنه مما يدل عليه. فرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق. وكيف} بَدل من {أثر} أو مفعول ل {انْظُرْ} أي: انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حدّ قوله {أفلا ينظرون إلى الإبل كيفَ خُلِقت} [الغاشية: 17] إذ جعلوا {كيف} بدلاً من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في «مغني اللبيب». وقد مضى عند قوله {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ} في سورة الفرقان (45)، وتقدم آنفاً في قوله {فيبسطه في السماء كيف يشاء} [الروم: 48].
وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموتُ على سبيل الاستعارة.
وجملة {إن ذلك لمحيي الموتى} استئناف وهو إدماج؛ أدمج دليل البعث عقب الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها. وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار:
بَكِّرَا صاحِبَيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاح في التبكير
إذ التقدير: فالنجاح في التبكير، كما تقرر غير مرة. واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أُجري عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه. فالمعنى: أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى، تقريباً لتصور البعث. وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز، ولما في الإشارة من التعظيم. وذُيل ذلك بقوله {وهو على كل شيء قدير} فإنه يعم جميع الأشياء والبعثُ من جملتها إذ ليس هو إلا إيجادَ خَلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة. والشبه تام، لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {إلى أثَر} بالإفراد. وقرأه الباقون {إلى ءَاثار} بصيغة الجمع.
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}
عطف على جملة {وإن كانوا من قبل أن يُنزل عليهم من قبلِه لمُبْلسين} [الروم: 49] وما بينهما اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفاً. وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكُفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصُوّر لكفرهم أعجبُ صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريباً فيصيبه إعصار فيحترق فيضجّون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط، كما قال بعض رجّاز الأعراب إذ أصاب قومَه قحط:
ربَّ العباد ما لنا وما لكْ *** قد كنتَ تسقينا فما بدا لكْ
أنزِل علينا الغيثَ لاَ أبا لكْ ***
فالضمير المنصوب في {رأوه} عائد إلى {أثر رحمة الله} [الروم: 50] وهو الزرع والكلأ والشجر. والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه، وسموا صُفَاراً بضم الصاد وتخفيف الفاء: داء يصيب الزرع.
والمُصْفَر: اسم فاعل مقتضٍ الوصف بمعناه في الحال، أي فرأوه يَصير أصفر، فالتعبير ب {مصفراً} لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال: فرأوه أصفر.
وظل: بمعنى صار، والإتيان بفعل التصيير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه. والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم. واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال، فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخيَّر في اجتلاب أيّ الصيغتين مع الشرط، مثل قوله {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] بصيغة المضارع لأن المقام للنفي ب {لا وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء.
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
الفاء للترتيب على قوله {لظلوا من بعده يكفرون} [الروم: 51] المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى. وهذا معذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ. وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول: إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه: فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق؛ فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم. ومنهم من يُعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون: {في ءاذاننا وقر} [فصلت: 5] ويقولون: {لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه} [فصلت: 26] وهؤلاء هم ساداتهم ومدبّرو أمرهم يخافون إن أصْغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه، ولهذا قُيِّد الذي شبهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضاً عن الدعوة، فهو تشبيه تمثيل. ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خُطاهم فانحَرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا: {إنّا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون} [الزخرف: 22] ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتاً وصماً وعمياً فليس هذا من تعدد التشبه لمشبهٍ واحد كالذي في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19].
وقرأ الجمهور: {ولا تسمع الصمّ} بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم {تُسمِع} ونصب {الصمَّ}، على أنه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وقرأه ابن كثير {ولا يَسمع الصمُّ} بتحتية مفتوحة وبفتح ميم {يسْمَع} ورفع {الصمّ} على الفاعلية ل {يَسمع}. وقرأ الجمهور {بهادي} بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة {هادي} إلى {العُمْي}، وقرأه حمزة وحْده {تهدي} بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب {العُمْي} على المفعولية.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}
هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها وبتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحاً عند منكريه، فموقع هذه الآية كموقع قوله: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} [الروم: 48] ونظائرها كما تقدم؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله {ويَوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} [الروم: 55] الآية.
ثم قوله {الله الذي خلقكم} مبتدأ وصفة، وقوله {يخلق ما يشاء} هو الخبر، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون. والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش. ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم. وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر قال: قرأتها على رسول الله {الذي خلقكم من ضَعف} يعني بفتح الضاد فأقرأني: {من ضُعف} يعني بضم الضاد. وقرأ الجمهور ألفاظ {ضعف} الثلاثة بضم الضاد في الثلاثة. وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد، فلهما سند لا محالة يعارض حديثَ ابن عمر. والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخيَّر بين القراءتين. والضعف: الوهن واللين.
و {مِن} ابتدائية، أي: مبتدَأ خلقه من ضعف، أي: من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنيناً ثم صبياً إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 28].
والمعنى: أنه كما أنشأكم أطواراً تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار، ولهذا أخبر عنه بقوله: {يخلق ما يشاء}.
وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم، وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة. وتنكير {ضعف وقوة} للنوعية؛ ف {ضُعف} المذكور ثانياً هو عين {ضُعف} المذكور أولاً، و{قوة} المذكورة ثانياً عين {قوة} المذكورة أولاً. وقولهم: النكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غير الأولى، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية. وعطف {وشيبة} للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت.
والشيبة: اسم مصدر الشيب. وقد تقدم في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} في سورة مريم (4).
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}
لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشئ لهم أجساماً كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور، فإذا نُشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتُهم السفسطائية من قولهم {هل نَدُلُّكم عَلى رَجُل يُنْبِئكُم إذَا مُزِقْتم كُلَّ مُمزق إنكُّم لَفِي خَلْقٍ جَدِيد} [سبأ: 7]، هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالاً لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم ما كان إلا بعد ساعة قليلة من وقت الدفن قبل أن تنعدم أجزاء أجسامهم فيخيل إليهم أنهم مُحِقُّون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث حين تحققوه بما حاصله: أنهم لو علموا أن البعث يكون بعد ساعة من الحُلول في القبر لأقروا به. وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه: {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} [الروم: 57]. وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هُزأة لأهل النشور. ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} الآية [الروم: 56] وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك: {كذلك كانوا يؤفكون} أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يُصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات. وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى: {يَتَخافتون بَيْنهُم إنْ لَبِثْتُم إلاَّ عَشراً نَحْنُ أعْلَم بِمَا يَقُولون إذْ يَقُول أمْثَلهم طَرِيقَة إنْ لَبِثْتُم إلاَّ يوماً} في سورة طه (103، 104). وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يُقسمون عليه، وهذا بعدَ ما يجري بينهم من الجدال من قول بعضهم: {إنْ لَبِثْتُم إلاَّ عَشْراً} وقول بعضهم: {إنْ لَبِثْتُم إلاَّ يَوْماً}، وقول آخرين: {لَبِثْنَا يَوْماً أوْ بَعْض يَوْم} [الكهف: 19] وبعض اليوم يصدق بالساعة، كما حكي عنهم في هذه الآية. والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف. وفي قوله: {السَّاعَة} و{ساعة} الجناس التام.
وجملة {كذلك كانوا يؤفكون} استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهماً يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهَم في نفوسهم فكان قوله {كذلك كَانُوا يُؤْفَكُون} بياناً لذلك.
ومعناه: أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله: {وأقْسَموا بالله جَهْدَ أيْمَانِهم لاَ يَبْعَث الله مَنْ يَمُوت} [النحل: 38] استخفافاً بالأيمان، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث. والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه، والتقدير: إفكاً مثل إفكهم هذا كانوا يُؤفكون به في حياتهم الدنيا. والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة.
والإفك بفتح الهمزة: الصرف وهو من باب ضرب، ويُعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف (عن)، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {ليقولُنّ الله فأنَّى يُؤْفَكون} في سورة العنكبوت (60). ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأيمة دينهم، وبعضَه من طبع الله على قلوبهم.
وإقحام فعل {كانُوا} للدلالة على أن المراد في زمان قبلَ ذلك الزمن، أي في زمن الحياة الدنيا. والمعنى: أن ذلك خلُق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أعماى وقَد كُنْت بَصِيراً قَال كذلك أتَتْكَ آياتُنا فنسِيْتَها وكذلك اليَوْم تُنْسى وكذلك نَجْزِي مَنْ أسْرَف} الآية [طه: 125 127] وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتَحامَوْا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقاً فيحشروا عليها.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)}
جعل الله منكري البعث هدفاً لسهام التغليظ والافتضاح في وقت النشور، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم رداً يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون. وهذه الجملة معترضة. وعطف الإيمان على العلم للاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة. والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكاراً عليهم وتحسيراً لهم.
والظاهر أن المؤمنين يسمعون تَحَاجَّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها. وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطَب به.
وقولهم: {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون: دَعُوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغِلوا بالمقصود وما وُعدتم به من العذاب يوم البعث. وفعل {لَبِثْتُم} مستعمل في حقيقته، أي مكثْتم، أي استقررتم في القبور، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم. و{في} من قوله {فِي كِتَاب الله} للتعليل، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى: {ومِنْ وَرَائهم بَرْزَخ إلاى يَوْم يُبْعَثُون} [المؤمنون: 100]، أي: لقد بلغكم ذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم مَا لَبِثْنا غيرَ سَاعة.
والفاء في {فهذا يوم البعث} فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُّوكم بِمَا تَقُولون} في سورة الفرقان (19)، أي إذا كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب. والاقتصار على {فهذا يوم البعث} ليتوقعوا كل سوء وعذاب.
والاستدراك في {ولكنكم كنتم لا تعلمون} استدراك على ما تضمنته جملة {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون، أي: لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم
وفي التعبير بنفي العلم وقصدِ نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلّم وسيلة لحصوله.
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}
تفريع على جملة {كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: 55]. والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم، ففيه الاعتداء على حق الله، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم.
والمعذرة: اسم مصدر اعتذر، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير. وهو مشتق من فعل عذره، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله. وإضافة (مَعْذِرَة) إلى ضمير {الذين ظلموا} تقتضي أن المعذرة واقعة منهم. ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم {ما لبثوا غير ساعة} [الروم: 55] كما تقدم، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف، أي: لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم {غَلبتْ علينا شقوتنا} [المؤمنون: 106] وقولهم {هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38].
واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 36] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه، أي: المقبول، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]. والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 106 108] وقوله {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} [المؤمنون: 65].
وقرأ الجمهور {تنفع} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن (معذرة) مجازيُّ التأنيث، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.
و {يُستعتبون} مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب، إذا سأل العُتبَى بضم العين وبالقصر وهي اسم للإعتاب، أي إزالة العَتب، فهمزة الإعتاب للإزالة، قال تعالى: {وإن يَستعتبوا فما هُمْ من المُعتَبين} [فصلت: 24]، فصار استُعتب المبني للمجهول جارياً على استَعتب المبني للمعلوم فلما قيل: استعتب بمعنى طلب العُتبى صار استُعتب المبني للمجهول بمعنى أُعْتِب، فمعنى {ولا هم يستعتبون}: ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله {فما هم من المعتبين}. وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام، وبعض اشتقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تكلفات في المعنى لا يرضى بها الذوق السليم، والعجب وقوعها في «الكشاف». وقال في «القاموس»: واستعتبه: أعطاه العتبى كأعتبه، وطلب إليه العتبى ضدٌّ. والمعنى: لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو. وتقدم قوله {ولا هم يستعْتبون} في سورة النحل (84).
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)}
لما انتهى ما أقيمت عليه السُورة من دلائل الوحدانية وإثبات البعث عقب ذلك بالتنويه بالقرآن وبلوغه الغاية القصوى في البيان والهدى.
والضرب حقيقته: الوضع والإلصاق، واستعير في مثل هذه الآية للذكر والتبيين لأنه كوضع الدالِّ بلصق المدلول، وتقدم في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26] وتقدم أيضاً آنفاً عند قوله {ضرَب لكم مثلاً من أنفسكم} [الروم: 28]، وهذا كقوله تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا القرءان من كل مثل} المتقدم في سورة الإسراء (89)، و(الناس) أُريد به المشركون لأنهم المقصود من تكرير هذه الأمثال، وعطف عليه قوله {ولئن جئتهم بآية} الخ فهو وصف لتلقي المشركين أمثال القرآن فإذا جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن فيها إرشادهم تلقوها بالاعتباط والإنكار البحت فقالوا {إن أنتم إلا مبطلون}.
وضمير جمع المخاطب للنبي لقصد تعظيمه من جانب الله تعالى، وإنما يقول الذين كفروا: إن أنت إلا مبطل، فحكي كلامهم بالمعنى للتنويه بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخطاب للرسول والمؤمنين فهو حكاية باللفظ. وهذا تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام من إيمان معانديه، أي أيمة الكفر منهم، ولذلك اعتُرض بعده بجملة كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} بين الجملتين المتعاطفتين تمهيداً للأمر بالصبر على غلوائهم، أي تلك سنة أمثالهم، أي مثل ذلك الطبع الذي علمتَه يَطبع الله على قلوبهم، وقد تقدم في قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143) وفي مواضع كثيرة من القرآن.
والطبع على القلب: تصييره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم، وقد تقدم في قوله تعالى {ختم الله على قلوبهم} في سورة البقرة (7).
{والذين لا يعلمون} مراد بهم الذين كفروا أنفسهم، فعدل عن الإضمار لزيادة وصفهم بانتفاء العلم عنهم بعد أن وصفوا: بالمجرمين، والذين ظلموا، والذين كفروا.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرع على جملة {ولئن جِئْتَهم بآية} [الروم: 58] لتضمنها تأييسه من إيمانهم. وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه، أي اصبر على تعنتهم. وجملة {إن وعد الله حق} تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبيء صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام.
والحق: مصدر حَقّ يحِقّ بمعنى ثبت، فالحق: الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة.
والاستخفاف: مبالغة في جعله خفيفاً فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو: استجاب واستمسك، وهو ضد الصبر. والمعنى: لا يحملُنّك على ترك الصبر. والخفة مستعارة لحالة الجزع وظهور آثار الغضب. وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل. وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال.
ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح، وذلك مما يستفز غضب الحليم، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر، ويأتي قوله تعالى {فاستَخَفّ قومَه فأطاعوه} في سورة الزخرف (54)، فانظره إكمالاً لما هنا. وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم.
والذين لا يوقنون: هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام، والظلم، والكفر، وعدم العلم؛ فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم. قيل: كان منهم النضر بن الحارث. ومعنى لا يوقنون} أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون.
{الم (1)}
تقدم الكلام على نظائرها في أول سورة البقرة.
{تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قصّ القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعاً للمؤمنين.
والإشارة ب {تِلْكَ} إلى ما سيذكر في هذه السورة، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله {ذلك الكِتَاب} في أول البقرة (2) وفي أول سورة الشعراء (2) والنمل (1) والقصص (2).
{وآيات الكتاب} خبر عن اسم الإشارة. وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر، وبما دلت عليه إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب فلاح.
و {الحكيم: وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة، أي لاشتماله على الحكمة. فوصف الكِتَاب} ب {الحَكِيم} كوصف الرجل بالحكيم، ولذلك قيل: إن الحكيم استعارة مكنية، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم. ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المُحْكَم بصيغة اسم المفعول وصفاً على غير قياس كقولهم: عَسل عقيد، لأنه أُحكم وأتقن فليس فيه فضول ولا مالا يفيد كمالاً نفسانياً. وفي وصف {الكِتَاب} بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان. وتقدم وصف الكتاب ب {الحَكِيم} في أول سورة يونس (1).
وانتصب {هدى ورحمة} على الحال من {الكِتَاب} وهي قراءة الجمهور. وإذ كان {الكِتَاب} مضافاً إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن {الكِتَاب} أضيف إليه ما هو اسم جزئه، أو على أنه حال من آيات. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقرأه حمزة وحده برفع {رحمةٌ} على جعل {هدىً} خبراً ثانياً عن اسم الإشارة.
ومعنى المحسنين: الفاعلون للحسنات، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها.
وزيادة وصف الكتاب ب {رحمة} بعد {هدى} لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبَّه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والخير الكثير: رحمة من الله تعالى.
و {الزكاة} هنا الصدقة وكانت موكولة إلى همم المسلمين غير مضبوطة بوقت ولا بمقدار. وتقدم الكلام على {بالآخرة هم يوقنون} إلى {هم المفلحون} في أول سورة البقرة (4 5).
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
عطف على جملة {تلك ءايات الكتاب الحكيم} [لقمان: 2]. والمعنى: أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلّوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب. وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس، وهذا تخلّص من المقدمة إلى مَدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالاً ولا حكمة.
وتقديم المُسند في قوله {من الناس} للتشويق إلى تلقي خبره العجيب. والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} في سورة البقرة (16)؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته: فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.
واللهو: ما يُقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة. ولهو الحديث} ما كان من الحديث مراداً للهو فإضافة {لهو} إلى {الحديث} على معنى {مِن} التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى {من} التبعيضية فيردها إلى معنى اللام.
وتقدم اللهو في قوله {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} في سورة الأنعام (32). والأصح في المراد بقوله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصّها على قريش في أسمارهم ويقول: إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام. ومن المفرسين من قال: إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كُتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشاً، أي بواسطة من يترجمها لهم. ويشمل لفظ {النَّاس} أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره {أولئك لهم عذاب مهين}.
وقيل المراد ب {من يشتري لهو الحديث} من يقتني القينات المغنيات. روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارةٍ فيهن وثمنُهن حرام» في مثل ذلك أُنزلت هذه الآية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمداً يعني البخاري يقول علي بن يزيد يضعف اه.
وقال ابن العربي في «العارضة»: في سبب نزولها قولان: أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث. الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم اه. وألفاظ الآية أنسب انطباقاً على قصة النضر بن الحارث.
ومعنى {ليضل عن سبيل الله} أنه يفعل ذلك ليلهي قريشاً عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى، أي إلى الدين الذي أراده، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله، وهذا زيادة في تفظيع عمله. وقرأ الجمهور {ليُضل} بضم الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليزداد ضلالاً على ضلاله إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس، وبذلك يكون مآل القراءتين متحدّ المعنى.
ويتعلق {ليضل عن سبيل الله} بفعل {يشتري} ويتعلق به أيضاً قوله {بغير علم} لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلَّق المبني عليه الكلام، فالمعنى: يشتري لهو الحديث بغير علم، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق. والضمير المنصوب في {يتخذها} عائد إلى {سبيل الله،} فإن السبيل تؤنث. وقرأ الجمهور {ويتخذُها} بالرفع عطفاً على {يشتري،} أي يشْغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤاً. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفاً على {ليضل،} أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءاً. ومآل المعنى متّحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه. وأما الإضلال فقد رُجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل.
والهزؤ: مصدر هَزأ به إذا سخر به كقوله {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} [البقرة: 231] ولما كان {من يشتري لهو الحديث} صادقاً على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع {أولئك لهم عذاب مهين}.
واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه لأجل ما سبق اسمَ الإشارة من الوصف.
وجملة أولئك لهم عذاب مهين} معترضة بين الجملتين جملة {من يشتري} وجملة {وإذا تتلى عليه آياتنا} فهذا عطف على جملة {يشتري} الخ. والتقدير: ومن الناس من يشتري الخ و{إذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبراً}؛ فالموصول واحد وله صلتان: اشتراء لهو الحديث للضلال، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن.
ودل قوله {تتلى عليه} أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه. وقوله {ولى} تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى {ثم أدبر يسعى} [النازعات: 22] و{مُسْتَكْبِراً} حال، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب.
وشُبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثراً يعقبه إعراضٌ كتأثر الوليد بن المغيرة.
و {كأنْ} مخففة من (كأنَّ) وهي في موضع الحال من ضمير {مستكبراً.} وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانياً بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى {كأن لم يسمعها.} ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد:
فتنازعا سَبِطاً يَطير ظلاله *** كدخان مُشْعَلَةٍ يشِبّ ضِرامها
مشموله غُلِثتْ بنابت عَرْفَج *** كدُخان نارٍ سَاطِع أسنامُها
والوقر: أصله الثقل، وشاع في الصمم مجازاً مشهوراً ساوى الحقيقة، وقد تقدم في قوله {وفي آذانهم وقراً} في سورة الأنعام (25). وقرأ نافع في أذْنيه} بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل. وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوعِده بعذاب أليم. وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية، كقول عمرو بن كلثوم:
فعجَّلْنا القِرى أنْ تشتمونا ***
وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبراً يوم بدر، فذلك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة أشد.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
لما ذكر عذاب من يُضل عن سبيل الله اتبع ببشارة المحسنين الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة إلى قوله {وأولئك هم المفلحون} [لقمان: 5].
وانتصب {وعدَ الله} على المفعول المطلق النائب عن فعله، وانتصب {حقاً} على الحال المؤكدة لمعنى عاملها كما تقدم في صدر سورة يونس. وإجراء الاسمين الجليلين على ضمير الجلالة لتحقيق وعده لأنه لعزته لا يعجزه الوفاء بما وعَد، ولحكمته لا يخطئ ولا يذهل عما وعد، فموقع جملة {وهو العزيز الحكيم} موقع التذييل بالأعم.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}
استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيرهُ أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعْراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئاً كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها. ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله {ترونها} و{بكم} للمشركين، وقد تقدم في سورة الرعد (2) قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} وتقدم في أول سورة النحل (15) قوله {وألقى في الأرض رواسيَ أن تَميدَ بكم} والمعنى خوفَ أن تميد بكم أو لئلا تُميدكم كما بين هنالك. وتقدم في سورة البقرة (164) قوله: {وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح} وقوله {أنزلنا من السماء ماء} وهو نظير قوله في سورة البقرة (164) {وما أنزل الله من السماء من ماء} وقوله في سورة الرعد (17) {أنزل من السماء ماء فسالتْ أوْديَةٌ} والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله وأنزلنا} للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دوراناً عند الناس. وضمير {فيها} عائد إلى الأرض.
والزوج: الصنف، وتقدم في قوله تعالى {فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} في طه (53) وقوله {وأنبتت من كل زوج بَهيج} في سورة الحج (5).
والكريم: النفيس في نوعه، وتقدم عند قوله تعالى {إنِّي ألقِيَ إليَّ كتابٌ كريم} في سورة النمل (29).
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله أن تميد بكم وبَث فيها من كل دابة} فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمَر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شملَ الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة.
وجملة {هذا خلق الله} إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله {خلق السماوات} إلى قوله {من كل زوج كريم.} والإتيان به مفرداً بتأويل المذكور. والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله {خلق الله} التفاتاً لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله {هذا خلق الله} وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله {ماذا خلق الذين من دونه} التفاتاً لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله {خَلق الله.} ويجوز أن تكون الرؤية من قوله {فأروني} علمية، أي فأنْبِئُوني، والفعل معلقاً عن العمل بالاستفهام ب {ماذا}.
فيتعين أن يكون {فأروني} تهكماً لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملاً في التعجيز، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعاً نظرياً.
وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئاً يدّعون أن آلهتهم خلقته. وهذا كقول حُطائط بن يعفر النهشلي وقيل حاتم الطائي:
أريني جواداً مات هَزلاً لعلني *** أرى ما تزين أو بخيلا مخلَّدا
أي: أحضرني جواداً مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه.
والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية، ولذلك يكثر أن يقول: ما رأتْ عيني، وانظر هل ترى. وقال امرؤ القيس:
فللَّه عيناً من رأى من تفرق *** أشتّ وأنأى من فراق المحصب
وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجاراة للمشركين إذ يعدُّونهم عقلاء. و{مِنْ دونه} صلة الموصول. و(دون) كناية عن الغير، و{مِن} جارّة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف.
و {بل} للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام، كما يقال في المناظرة: دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.
و {الظالمون: المشركون. والضلال المبين: الكفر الفظيع، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق، وذلك ضلال، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية، فذلك كفر فظيع. وجيء بحرف الظرفية لإفادة اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم، أي: شدة ملابسته إياهم.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}
الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان: 6] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤاً، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان؛ فقُطِع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سَنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطفَ القصص ولم تُفصل فَصْل النتائج عقب مقدماتها. وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى {يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم} في سورة البقرة (49)، {ويذبحون أبناءكم} في سورة [إبراهيم: 1]. وافتتاح القصة بحرفي التوكيد: لام القسم و(قد) للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع.
و {لقمان} اسم رجل حكيم صالح، وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود، فقيل هو من بلاد النوبة، وقيل من الحبشة.
وليس هو لقمان به عاد الذي قال المثل المشهور: إحدى حُظيات لقمان. والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله:
تراه يطوف الآفاق حرصاً *** ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور، وهو الذي له ابن اسمه لقيم وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في «الإصحاحين» (22 و23) من «سفر العدد»، ولعل ذلك وهَم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مَدْيَن كان نبيئاً في زمن موسى عليه السلام، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللّقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية. وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيماً أو نبيئاً. فالجمهور قالوا: كان حكيماً صالحاً. واعتمد مالك في «الموطأ» على الثاني، فذكره في «جامع الموطأ» مرتين بوصف لقمان الحكيم، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة. وذكر ابن عطية: أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لم يكن لقمان نبيئاً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسنَ اليقين أحبَّ الله تعالى فأحبه فمنَّ عليه بالحكمة " ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيئاً لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة. والاقتصارُ على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه أُلهم الحكمة ونطق بها، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى
{وهو يعظه} [لقمان: 13] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع.
وذهب عكرمة والشعبي: أن لقمان نبيء ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود {وءاتيناه الحكمة وفصلَ الخطاب} [ص: 20]. وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى {ومن يُؤْت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269] بما يشمل النبوءة. وأن الحكمة «معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه» وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفاً لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء. وسيأتي أن إيراد قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه} [لقمان: 14] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول.
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود. وبعضهم يقول: إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل. وذكر بعضهم أنه كان عبداً فأعتقه سيده، وذكر ابن كثير عن مجاهد: أن لقمان كان قاضياً في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين. قيل كان راعياً لغنم وقيل كان نجاراً وقيل خياطاً. وفي «تفسير ابن كثير» عن ابن وهب أن لقمان كان عبداً لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان.
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقرّبة للخفيات بأحسن الأمثال. وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة، وذكر منها مالك في «الموطأ» بلاغين في كتاب «الجامع» وذكر حكمة له في كتاب «جامع العتبية» وذكر منها أحمد بن حنبل في «مسنده» ولا نعرف كتاباً جمع حكمة لقمان. وفي «تفسير القرطبي» قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة.
وكان لقمان معروفاً عند خاصة العرب. قال ابن إسحاق في «السيرة»: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجّاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرِضها عليّ، فعرضها عليه، فقال: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله. قال ابن إسحاق: فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قبل يوم بعاث. وكان رجال من قومه يقولون: إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدْعُونه الكامل اه. وفي «الاستيعاب» لابن عبد البر: أنا شَاكّ في إسلامه كما شك غيري.
وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفاً للعرب. وقد انتهى إليّ حين كتابة هذا التفسير من حِكَم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمةً غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات.
والإيتاء: الإعطاء، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي.
و {لقمان}: اسم علَم مَادته مادة عربية مشتق من اللَّقْم، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة.
وتقدم تعريف الحكمة عند قوله تعالى {يؤتي الحكمة من يشاء} في سورة البقرة (269)، وقوله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} في سورة النحل (125).
وأنْ} في قوله {أن اشكر لله} تفسيرية وليست تفسيراً لفعل {ءاتينا} لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة، فتكون {أنْ} مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تُفسر ب {أنْ} التفسيرية، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يُعرف وهو من شواهد العربية:
إنْ تحملا حاجة لي خفّ محملها *** تستوجبا منة عندي بها ويَدا
أنْ تقرءان علي أسماء ويحكما *** مني السلامَ وأن لا تُخبرا أحدا
والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطرَ الأصفياء حجة ويسمونها إلهاماً. ومال إليه جمّ من علمائنا. وقد قال قطب الدين الشيرازي في «ديباجة شرحه على المفتاح»: أما بعد إني قَد ألقي إليَّ على سبيل الإنذار، من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام، إلاَّ كوَهَم من الأوهام، ما أورثني التجافيَ عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور، الخ.
وكان أول ما لُقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها. وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك. وأيضاً فإن شكر الله من الحكمة، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عُرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونِعم فيما خلق لأجله؛ فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه؛ فالشكر هو مبدأ الكمالات علماً، وغايتها عملاً.
وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله {ومَن يشكر فإنما يشكر لنفسه} لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئاً لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء، فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار. وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله {فإنما يشكر لنفسه} أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة. وزيد ذلك تبيناً بعطف ضده بقوله {ومَن كفر فإن الله غنيّ حميد} لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غنيّ عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم، والله غني عن جميع ذلك، وهو {حميد}، أي: كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى {ولله يسجد مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} سورة الرعد (15).
ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله أن اشكر لله} جامعاً لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان، ولأمره بالشكر على ذلك، فقد جمع قوله {أن اشكر لله} الإرشاد إلى الشكر، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيهاً على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة. وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان، وفي الحديث: «الحَمدُ رأس الشكر» فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر، أي: شاكر لعباده عبادتَهم إياه عُبر هنا باسمه {حميد}. وجيء في فعل {يشكر} بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد.
واللام في قوله {أن اشكر لي} [لقمان: 14] داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية، وتقدم في قوله {واشكُرُوا لي} في سورة البقرة (152).
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
عطف على جملة {ءاتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذْ قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.
و {إذ} ظرف متعلق بالفعل المقدّر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد. ويجوز أن يكون {إذْ قَالَ} ظرفاً متعلقاً بفعل (اذكر) محذوفاً.
وفائدة ذكر الحال بقوله {وهو يعظه} الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مُشركاً فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجرٌ مقترن بتخويف قال تعالى {فأعْرِضْ عنهم وعِظهم وقُل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} [النساء: 63] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله. ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبَى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضياً أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية.
وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي. وقد ذكر المفسرون اختلافاً في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه. وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.
وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازاً في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى {يا أبَتتِ إني رأيتُ أحَدَ عَشَر كوكباً} [يوسف: 4] وقوله {يا بُني لا تقصص رؤياك} في سورة يوسف (5) وقوله {إذْ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك أن يُنَزّل علينا مائدة من السماء} في سورة العقود (112) وقوله تعالى {إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسمع ولا يبْصر} في سورة مريم (42).
و {بُنَيّ} تصغير (ابن) مضافاً إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء. وقرأه الجمهور بكسر ياء {بُنَيِّ} مشدّدة. وأصله: يا بُنَيْيي بثلاث ياءات إذ أصله الأصيل يا بُنَيْوِي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صُغر ردّ إلى أصله، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا، ولما نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامِه الكسرَ في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم.
وتقدم في سورة يوسف. والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة.
ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتُها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدُهرية والإشراك، فكان قوله {لا تشرك بالله} يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته. وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة {يا بنيَّ} بفتح الياء مشددة على تقدير: يا بنَيَّا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها، وهذا سماع.
وجملة {إن الشرك لظلم عظيم} تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها. وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق، ودل عليه الحديث في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود قال: " لما نزلت {الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يا بنيِّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} ". وجوَّز ابن عطية أن تكون جملة {إن الشرك لظلم عظيم} من كلام الله تعالى، أي: معترضة بين كَلِم لقمان. فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم}، وانظر من روى هذا ومقدار صحته.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيئاً مبلغاً عن الله وإنما كان حكيماً مرشداً كان هذا الكلام اعتراضاً بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرَّتْه مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادَهم على الإشراك. وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بيَّن الله أنه تعالى أسبق منَّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاءً على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برَعْي حقه. ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر.
وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيئاً فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله {أن اشكر لله} [لقمان: 12] وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة. وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له: إن الله رضيني لك فلم يوصِني بك ولم يرضَك لي فأوصاكَ بي.
والمقصود من هذا الكلام هو قوله {وإن جاهداك على أن تشرك بي} إلى آخره... وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهياً عنه في أوْلى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوماً بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى.
وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصَى به.
والوهْن بسكون الهاء مصدر وَهَن يهِن من باب ضرَب. ويقال: وَهَنٌ بفتح الهاء على أنه مصدر وهِنَ يَوْهَن كوَجِلَ يَوجَل. وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء. وانتصب {وَهْناً} على الحال من {أمّه} مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهْن، أي واهنة في حمله، و{على وهن} صفة ل {وَهْناً} أي وهْناً واقعاً على وهْن، كما يقال: رجع عوْداً على بدء، إذا استأنف عملاً فرغ منه فرجع إليه، أي: بعد بدء، أو {على} بمعنى (مع) كما في قول الأحوص:
إني على ما قد علمِت محسَّد *** أنمي على البغضاءِ والشَنآنِ
فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن، والضُعفُ من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وَهْن على وَهْن.
وجملة {حملته أمه وهناً على وهن} في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصداً لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيداً، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبرّ بأمه ويستتبع البرّ بأبيه. وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصَاية بالأب أيضاً للقياس فإن الأب يلاقي مشاقّ وتعباً في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذبّ عنه حتى يبلغ أشدّه ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى {وقُلْ ربِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته، فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرَّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفاً. ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق. وقد نبَّه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله {أن اشكر لي ولوالديك} وقوله {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}. وحصل من هذا النظم البديع قضاء حق الإيجاز.
وأمّا رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضاً لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في «تفسيره»: شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل: مَن أُبِرُّ؟ قال: أمَّك. قال: ثم مَن؟ قال: أمَّك. قال: ثم مَن؟ قال: أمَّك. قال: ثم مَن؟ قال: أباك. فجعل له الربع من المبرّة. وهذا كلام منسوب مثله لابن بطّال في شرح «صحيح البخاري». ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتماداً على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه تَوَقَ من شدته عليهم، فهذا مساق الحديث ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البرّ بين الأم والأب أثلاثاً أو أرباعاً وهو ما استشكله القرافي في «فائدة من الفرق الثالث والعشرين»، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن.
وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه. وليس معنى «ثُمَّ» فيه إلا محاكاة قول السائل «ثُمَّ مَن» بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر. وإذ كان السياق مسوقاً للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض. ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البرّ. وقد قال مالك لرجل سأله: أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك: أطِعْ أباك ولا تعْصصِ أمك. وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما. وقال الليث: يرجح جانب الأم. وقال الشافعي: يرجح جانب الأب.
وجملة {وفصاله في عامين} عطف على جملة {حملتْه أمه} الخ، فهي في موقع الحال أيضاً. وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها، إذ التقدير: وفصالها إياه، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم.
والفِصال: اسم للفطام، فهو فصل عن الرضاعة. وتقدم في قوله {فإن أرادَا فِصالاً} في سورة البقرة (233). وذكر الفِصال في معرض تعليل حقية الأم بالبرّ، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفِصال، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدَر الشفقة على الرضيع حين فصاله، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه. وذُكر لمدة فِطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميعَ الظرف، ولذلك فموقع في أبلغ من موقع (من) التبعيضية في قول سبَرة بن عمرو الفقعسي:
ونَشْرَب في أثمانها ونُقَامِر ***
لأنه يصدق بأن يستغرق الشرابُ والمقامرة كامل أثمان إبله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {وارزقوهم فيها واكسوهم} في سورة النساء (5). وقد حمله علي بن أبي طالب أوْ ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعاً بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك.
وجملة أن اشكر لي ولوالديك} تفسير لفعل {وصينا.} و{أن} تفسيرية، وإنما فُسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمرُ بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيداً لقوله {وإن جاهداك على أن تُشْرِك بي} الخ.
وجملة {إلي المصير} استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له. وتعريف {المصير} تعريف الجنس، أي مصير الناس كلهم. ولك أن تجعل أل عوضاً عن المضاف إليه. وتقديم المجرور للحصر، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها. وتقدم الكلام على نظير قوله {وإن جاهداك لتشرك بي إلى فلا تطعهما} في سورة العنكبوت (8)، سوى أنه قال هنا على أن تُشرِك بي} وقال في سورة العنكبوت {لِتُشْرِك بِي} فأما حرف {على} فهو أدلّ على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة: شدة السعي والإلحاح. والمعنى: إن ألحَّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما. وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعَوَا إلى الإشراك. وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعداً كان غنياً عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه.
وقال القرطبي: إن امرأة لقمان وابنه كانا مُشركَيْن فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحاً.
والمصاحبة: المعاشرة. ومنه حديث معاوية بن حيدة «أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمَّك» الخ.
والمعروف: الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن، أي صاحبْ والديْك صحبةً حسنة، وانتصب {معروفاً} على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل {صاحِبْهُما،} أي صِحاباً معروفاً لأمثالهما. وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر، وشمل ذلك أن يدعو الوَالدُ إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يُطاعَان إذا أمرَا بمعصية. وفهم من ذكر {وصاحبْهما في الدنيا معروفاً} أثر قوله {وإن جاهداك على أن تشرك بي} الخ... أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما. وفي الحديث: أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي جاءت راغبة أفأصلها؟ فقال: نعم، صلي أمَّككِ، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى. وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منكراً للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه. واتباعُ سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم (33) عند قوله {منيبين إليه} وفي سورة هود (88). فالمراد بمن أناب: المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك.
وجملة {ثم إلي مرجعكم} معطوفة على الجمل السابقة و{ثم} للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها، أي وعلاوة على ذلك كله إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. وضمير الجمع للإنسان والوالدين، أي مرجع الجميع. وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام. وفرع على هذا {فأنبئكم} الخ... والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة. وجملة {ثم إليّ مرجعكم} وَعد ووعيد. وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف.
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
تكرير النداء لتجديد نشاط السامع لوعي الكلام. وقرأ نافع وأبو جعفر {إن تَكُ مثقالُ} برفع {مثقالُ} على أنه فاعل {تَكُ مِن (كان) التامة. وإنما جيء بفعله بتاء المضارعة للمؤنثة، وأعيد عليه الضمير في قوله بها} مؤنثاً مع أن {مثقال لفظ غير مؤنث لأنه أضيف إلى حبة} فاكتسب التأنيث من المضاف إليه، وهو استعمال كثير إذا كان المضاف لو حذف لما اختل الكلام بحيث يستغنى بالمضاف إليه عن المضاف، وعليه فضمير {إنها} للقصة والحادثة وهو المسمى بضمير الشأن، وهو يقع بصورة ضمير المفردة المؤنثة بتأويل القصة، ويختار تأنيث هذا الضمير إذا كان في القصة لفظ مؤنث كما في قوله تعالى {فإنها لا تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46]، ويكثر وقوع ضمير الشأن بعد (إنَّ) كقوله تعالى {إنه مَن يأتِ ربه مجرماً فإنَّ له جَهَنم لا يَمُوت فيها ولا يَحْيى} [طه: 74]، ومن ذلك تقدير ضمير الشأن اسماً لحرف (أنَّ) المفتوحة المخففة، وهو يفيد الاهتمام بإقبال المخاطب على ما يأتي بعده، فاجتمع في هذه الجملة ثلاثة مؤكدات: النداء، وإنَّ، وضمير القصة، لعظم خطر ما بعده المفيد تقرير وصفه تعالى بالعلم المحيط بجميع المعلومات من الكائنات، ووصفه بالقدرة المحيطة بجميع الممكنات بقرينة قوله {يأت بها الله.}
وقد أفيد ذلك بطريق دلالة الفحوى؛ فذُكر أدقُّ الكائنات حالاً من حيث تعلق العلم والقدرة به، وذلك أدق الأجسام المختفي في أصْلَب مكان أو أقصاه وأعزِّه منالاً، أو أوسعه وأشده انتشاراً، ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدّنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته. وقرأه الباقون بنصب {مثقالَ} على الخبرية ل {تكُ} مِن (كان) الناقصة، وتقدير اسم لها يدل عليه المقام مع كون الفعل مسنداً لمؤنث، أي إن تك الكائنة، فضمير {إنها} مراد منه الخصلة من حسنة أو سيئة أخذاً من المقام.
والمثقال بكسر الميم: ما يقدر به الثقل ولذلك صيغ على زنة اسم الآلة.
والحبة: واحدة الحَبّ وهو بذر النبات من سنابل أو قطنية بحيث تكون تلك الواحدة زريعة لنوعها من النبات، وقد تقدم في سورة البقرة (261) قوله {كَمَثَل حَبَّة أنبتَتْ سَبْع سَنَابل} وقوله {إنَّ الله فَالِق الحَب والنَّوى} في سورة الأنعام (95).
والخردل: نبت له جذر وساق قائمة متفرعة إسطوانية أوراقها كبيرة يُخرج أزهاراً صغيرة صُفْراً سنبلية تتحول إلى قرون دقيقة مربعة الزوايا تخرج بزوراً دقيقة تسمى الخردل أيضاً، ولبّ تلك البزور شديد الحرارة يلدغ اللسان والجلد، وهي سريعة التفتق ينفتق عنها قشرها بدقّ أو إذا بلت بمائع، فتستعمل في الأدوية ضَمَّادات على المواضع التي فيها التهاب داخلي من نزلة أو ذات جنْب وهو كثير الاستعمال في الطب قديماً وحديثاً. وقد أخذ الأطباء يستغنون عنه بعقاقير أخرى. وتقدم نظير هذا في سورة الأنبياء (47)
{فلا تُظْلَم نفس شيئاً وإن كان مثقالُ حَبة من خردل أتينَا بها} وقوله {أو في السموات} عطف على {في صخرة} لأن الصخرة من أجزاء الأرض فذكر بعدها {أو في السماوات} على معنى: أو كانت في أعزّ مَنَالاً من الصخرة، وعطف عليه {أو في الأرض} وإنما الصخرة جزء من الأرض لقصد تعميم الأمكنة الأرضية فإن الظرفية تصدق بهما، أي: ذلك كله سواء في جانب علم الله وقدرته، كأنه قال: فتكن في صخرة أو حيث كانت من العالم العلوي والعالم السفلي وهو معنى قوله {وما يعزب عن ربك مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين} [يونس: 61].
والإتيان كناية عن التمكن منها، وهو أيضاً كناية رمْزيَّة عن العلم بها لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعلم بوسائل استخراجها منه.
وجملة {إن الله لطيف خبير} يجوز أن تكون من كلام لقمان فهي كالمقصد من المقدمة أو كالنتيجة من الدليل، ولذلك فصلت ولم تعطف لأن النتيجة كبدل الاشتمال يشتمل عليها القياس ولذلك جيء بالنتيجة كلية بعد الاستدلال بجزئية. وإنما لم نجعلها تعليلاً لأن مقام تعليم لقمان ابنه يقتضي أن الابن جاهل بهذه الحقائق، وشرط التعليل أن يكون مسلَّماً معلوماً قبل العلم بالمعلَّل ليصح الاستدلال به. ويجوز أن تكون معترضة بين كلام لقمان تعليماً من الله للمسلمين.
واللطيف: مَن يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق، فهو وصف مؤذن بالعلم والقُدرة الكاملين، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته، وتقدم في قوله {وهو اللطيف الخبير} في سورة الأنعام (103). ففي تعقيب {يأت بها الله} بوصفه ب (اللطيف) إيماء إلى أن التمكن منها وامتلاكها بكيفية دقيقة تناسب فلق الصخرة واستخراج الخردلة منها مع سلامتهما وسلامة ما اتصل بهما من اختلال نظام صُنعه. وهنا قد استوفى أصول الاعتقاد الصحيح.
وجملة {إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16] يجوز أن تكون من كلام لقمان وأن تكون معترضة من كلام الله تعالى.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}
انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عِماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح. وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها. وتقدم في أول سورة البقرة. وشمل الأمرُ بالمعروف الإتيانَ بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلَّب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهيُ عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك. والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الآمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناسَ ونهيه إياهم. فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى، إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخيرَ وبثِّه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه. ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم بهما معاداةً من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما. ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عُدَّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله {ولا تصاعر خَدّك للناس} [لقمان: 18] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.
والصبر: هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن. وقد تقدم في قوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} في سورة البقرة (45).
وجملة إن ذلك من عزم الأمور} موقعها كموقع جملة {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
والإشارة ب {ذلك} إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب. والتأكيد للاهتمام.
والعزم مصدر بمعنى: الجزم والإلزام. والعزيمة: الإرادة التي لا تردد فيها. و{عزم} مصدر بمعنى المفعول، أي من معزوم الأمور، أي التي عزمها الله وأوجبها.
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}
انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم.
وقرأ الجمهور {ولا تُصاعر.} وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب {ولا تصعِّر.} يقال: صَاعَر وصَعَّر، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر، وهو مشتق من الصَعَر بالتحريك لِداء يصيبُ البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعَر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال. قال عمرو بن حُنَي التغلبي يخاطب بعض ملوكهم:
وَكُنّا إذا الجبَّار صَعَّر خدَّه *** أقمنا له من ميله فتقَوَّمِ
والمعنى: لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقاراً لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى {فلا تقل لهما أُفَ} [الإسراء: 23] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها.
وكذلك قوله {ولا تمش في الأرض مرحاً} تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره.
والمَرح: فرْط النشاط من فَرح وازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبختراً واختيالاً فلذلك يسمى ذلك المشي مَرَحاً كما في الآية، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق، أي مَشياً مرحاً، وتقدم في سورة الإسراء (37) وموقع قوله {في الأرض} بعد {لا تمش} مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويّهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحاً أنه مساو لسائر الناس.
وموقع {إن الله لا يحب كل مختال فخور} موقع {إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16] كما تقدم. والمختال: اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فِعل خَال إذا كان ذا خُيلاء، فهو خائل. والخُيلاء: الكبر والازدهاء، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً، فقوله {إن الله لا يحب كل مختال} مقابل قوله {ولا تصاعر خدك للناس}، وقوله {فخور} مقابل قوله {ولا تَمش في الأرض مرحاً}.
والفَخور: شديد الفخر. وتقدم في قوله {إن الله لا يحب من كان مختالاً فَخوراً} في سورة النساء (36).
ومعنى {إن الله لا يحب كل مختال فخور} أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفاده أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن {كُل} إذا وقع في حيز النفي مؤخراً عن أداته ينصبّ النفي على الشمول، فإن ذلك إنما هو في {كل} التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في {كل} التي يراد منها الأفراد، والتعويل في ذلك على القرائن. على أنّا نرى ما ذكره الشيخ أمرٌ أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ (كل) في قول أبي النجم العِجلي:
قد أصبحتْ أُمّ الخيار تدّعي *** عليَّ ذنباً كلَّه لم أصنع
وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز.
وموقع جملة {إن الله لا يحب كل مختال فخور} يجوز فيه ما مضى في جملة {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وجملة {إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، وجملة {إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17].
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
والقصد: الوسط العَدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه. فمعنى {اقْصِدْ في مشيك}: ارتكب القصد.
والغَضُّ: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غَضَّ بصره، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق. وتقدم قوله تعالى {قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم} في سورة النور (30). فغض الصوت: جعله دون الجهر. وجيء ب {مِن} الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه، أي بعضَ جهره، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
وجملة {إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير} تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهاً بليغاً، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات. ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة.
و {أنكَر:} اسم تفضيل في كون الصوت منكوراً، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ، ومنه قولهم في المثل: «أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ» أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل.
وإنما جمع {الحمير} في نظم القرآن مع أن {صوت} مفرداً ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه. ولذلك يقال: إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعِيَّة. وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] هي: حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير. وفواصل القرآن تعتمد كثيراً على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد. وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثِر من حِكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في «تفسيره» منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي:
قوله لابنه: أي بني، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحِشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزاً، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع.
وقوله: يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل.
وقوله: يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرِّئك على معصيته تعالى، وخَففِ الله سبحانه خوفاً لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه.
وقوله: من كَذب ذهب ماء وجهه، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.
وقوله: يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء، وذقت المِرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر.
يا بني لا تُرسِلْ رسولك جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسولَ نفسك.
يا بني، إياك والكذب، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.
يا بني، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا.
يا بني، لا تأكل شِبَعاً على شِبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.
يا بني، لا تكُن حُلواً فتُبلَعَ ولا تكن مُرّاً فتُلْفَظ.
وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.
وقوله: لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقوله: يا بني، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره.
وقوله: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقوله: يا بني، أنْزِل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه.
يا بنيّ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة.
وقوله: يا بني، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي. فمن ذلك ما في «الموطأ» فيما جاء في طلب العلم من كتاب «الجامع»: مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء. وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب «الجامع» أنه بلغه أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل؟ فقال: صدقُ الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعْنيني.
وفي «جامع المستخرجة» للعتبي قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة. وفي «أحكام القرآن» لابن العربي عن مالك: أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها.
وقال: ليس غنى كصحة، ولا نعمة كطِيب نفْس. وقال: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم، وقال: يا بني، جالس العلماء ومَاشِهِم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم. وفي «الكشاف»: أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض. وأن مولاه أمره بذبححِ شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْققِ منها أخبث مضغتين، فألقى اللسان والقلب؛ فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع، فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها داود لَبِسها وقال: نِعم لَبُوس الحرب أنتتِ. فقال لقمان: الصمتُ حكمة وقليل فاعله. وفي «تفسير ابن عطية»: قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس سيِّئاً أو مسيئاً.
وفي «تفسير القرطبي»: كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى. فقيل له، فقال: ألا أكتفِي إذا كُفِيتُ. وفيه: إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريِّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً. ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة. وفي «تفسير البيضاوي»: أن داود سأل لقمان: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحت في يَديْ غيري. وفي «درة التنزيل» المنسوب لفخر الدين الرازي: قال لقمان لابنه: إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي. وفي «الشفاء» لعياض: قال لقمان لابنه: إذا امتلأتْ المَعِدة نامت الفِكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وفي كتاب «آداب النكاح» لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي: أن من وصية لقمان: يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليِّن العروق ويحسن الشعر، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته. ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه: إذا تكلمتْ أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت. وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء.
يا بني، لأن تساكن الأسد والأسْوَد خير من أن تساكنها: تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها.
وفي «مجمع البيان» للطبرسي: يا بني، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسِقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله عز وجل.
يا بني، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريماً على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعِنْهم، واستعمِل طول الصمت وكثرة الصلاة، وسَخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهَد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تُجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل نعم ولا تقل (لا) فإن (لا) عِيٌّ ولؤم، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مُريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم. واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقِل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلِّها واسترح منها فإنها دَين، وصلِّ في جماعة ولو على رأس زَجّ. وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً وألينها تربة وأكثرها عشباً. وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبْعِد المذهب في الأرض. وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللتَ بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدئ فتتصدق منه فافعل. وعليك بقراءة كتاب الله لعله يعني الزبور ما دمت راكباً، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً. وإياك والسير في أول الليل إلى آخره. وإياك ورفع الصوت في مسيرك. فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}
{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير}
رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى: {خَلَق السَّماوات بِغَير عمد} [لقمان: 10] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض. وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى {الله الذي خلق السماوات والأرض} الآيات من سورة إبراهيم (32)، وكذلك في سورة النحل (3).
ومعنى {سخر لكم} لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها. والخطاب في {ألم تروا} يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال.
والاستفهام في {ألم تروا} تقرير أو إنكار لِعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية. والرؤية بصرية. ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله. ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك، والخطاب للمشركين كما في قوله {خلق السماوات بغير عَمد ترونها}.
وإسباغ النِعم: إكثارها. وأصل الإسباغ: جعل ما يلبس سابغاً، أي وافياً في الستر. ومنه قولهم: درع سابغة. ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سَرْد أو شُقَق أثواب، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فقيل: سوابغ النعم.
والنعمة: المنفعة التي يقصد بها فاعلُها الإحسان إلى غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر نِعَمهُ} بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النِعم. وقرأ الباقون {نِعْمَةً} بصيغة المفرد، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع.
والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم. وانتصب {ظاهرة وباطنة} على الحال على قراءة نافع ومن معه، وعلى الصفة على قراءة البقية.
والظاهرة: الواضحة. والباطنة: الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلاً.
وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله، قال تعالى: {باطنه فيه الرحمة} [الحديد: 13] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نِعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضُهم، أو لا يعلمها إلا العلماء، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية.
{وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير}
الواو في قوله {ومن الناس من يجادل} واو الحال. والمعنى: قد رأيتم أن الله سخّر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعماً ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وحدانيته. وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق. ولك أن تجعل الواو اعتراضيَّة والجملة معترضة بين جملة {ألم تروا أن الله سخر لكم} وبين جملة {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض} [لقمان: 25].
وقوله {ومِنَ النَّاس} من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: ومنكم، و{مِن} تبعيضية. والمراد بهذا الفريق: هم المتصدون لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وعبد الله بن الزِّبْعَرى.
وشمل قوله {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} مراتبَ اكتساب العلم وهي إما: الاجتهاد والاكتساب، أو التلقي من العالم، أو مطالعة الكتب الصائبة. وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج (8).
وجملة {وإذا قيل لهم} الخ عطف على صلة {مَن،} أي: مَن حالهم هذا وذاك، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة (170).
والضمير المنصوب في قوله {يدعوهم} عائد إلى الآباء، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يَدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون. و{لو} وصلية، والواو معها للحال.
والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار، وهذا ذم لهم. وهو وزان قوله في آية البقرة (170): {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً} والدعاء إلى عذاب السعير: الدعاء إلى أسبابه. والسعير تقدم في قوله تعالى: {كلما خَبَتْ زِدْنَاهم سعيراً} في سورة الإسراء (97).
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}
هذا مقابل قوله {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [لقمان: 20] إلى قوله: {يدعوهم إلى عذاب السعير} [لقمان: 21]، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا ءاباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آبائهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدّهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء؛ فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتّبعوا رضى الله.
وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله، وقد تقدم في قوله تعالى {بَلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن} في سورة البقرة (112)، وقوله {فَقُل أسلَمْتُ وجهيَ لله} في سورة آل عمران (20).
وتعدية فعل {يُسْلم} بحرف {إلى} هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة (112) وسورة آل عمران (20) عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي يدفعه صاحبه إلى آخر ويَكِلُه إليه. وحقيقته أن يعدى باللام، أي وجهه وهو ذاته سالماً لله، أي خالصاً له كما في قوله تعالى {فإن حاجُّوك فقل أسلمتُ وجهيَ لله} في سورة آل عمران (20).
والإحسان: العمل الصالح والإخلاص في العبادة. وفي الحديث: الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والمعنى: ومن يسلم إسلاماً لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهُوِيّ أو التزلزل.
وقوله {فقد استمسك بالعروة الوثقى} مضى الكلام على نظيره عند قوله تعالى {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} في سورة البقرة (25)، وهو ثناء على المسلمين. وتذييل هذا بقوله {وإلى الله عاقبة الأمور} إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة.
والتعريف في {الأمور} للاستغراق، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله.
والعاقبة: الحالة الخاتمة والنهاية. و{الأمور: جمع أمر وهو الشأن.
وتقديم {إلى الله} للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافياً.
{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}
لما خلا ذَمّ الذين كفروا عن الوعيد وانتقل منه إلى مدح المسلمين ووعدهم عطف عِنان الكلام إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتهوين كفرهم عليه تسلية له وتعريضاً بقلة العِبْءِ بهم لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد.
وأُسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزناً للرسول صلى الله عليه وسلم مجازاً عقلياً في نهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه. وقرأ نافع {يُحْزِنك} بضم التحتية وكسر الزاي مضارع أحزنه إذا جعله حزيناً. وقرأ البقية {يَحْزُنك} بفتح التحتية وضم الزاي مضارع حَزَنه بذلك المعنى، وهما لغتان: الأولى لغة تميم، والثانية لغة قريش، والأولى أقيس وكلتاهما فُصحى ولغة تميم من اللغات التي نزل بها القرآن وهي لغة عُلْيا تميم وهم بنو دارم كما تقدم في المقدمة السادسة. وزعم أبو زيد والزمخشري: أن المستفيض أحْزَن في الماضي ويُحْزن في المستقبل، يريدان الشائع على ألسنة الناس، والقراءة رواية وسنة. وتقدم في سورة يوسف (13) {إنّي لَيُحزنني} وفي سورة الأنعام (33) {قد نعلم أنه ليُحزنك الذي يقولون} وجملة {إلينا مرجعهم} واقعة موقع التعليل للنهي، وهي أيضاً تمهيد لوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يتولى الانتقام منهم المدلول عليه بقوله {فنُنبئهم} مفرعاً على جملة {إلينا مرجعهم} كناية عن المجازاة؛ استعمل الإنباء وأريد لازمه وهو الإظهار كما تقدم آنفاً.
وجملة {إن الله عليم بذات الصدور} تعليل لجملة {فننبئهم بما عملوا،} فموقع حرف {إنّ} هنا مغننٍ عن فاء التسبب كما في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير *** و{ذات الصدور: هي النوايا وأعراض النفس من نحو الحِقد وتدبير المكر والكفر. ومناسبته هنا أن كفر المشركين بعضُه إعلان وبعضه إسرار قال تعالى: {وأسِرُّوا قولكم أو اجهَروا به إنه عليم بذات الصدور} [الملك: 13]، وتقدم في قوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} في سورة الأنفال (43).
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}
استئناف بياني لأن قوله {إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا} [لقمان: 23] يثير في نفوس السامعين سؤالاً عن عدم تعجيل الجزاء إليهم، فبيّن بأن الله يُمهِلُهم زمناً ثم يوقعهم في عذاب لا يجدون منه منجى. وهذا الاستئناف وقع معترضاً بين الجمل المتعاطفة.
والتمتيع: العطاء الموقت فهو إعطاء المتاع، أي الشيء القليل. و{قليلاً} صفة لمصدر مفعول مطلق، أي تمتيعاً قليلاً، وقلته بالنسبة إلى ما أعدّ الله للمسلمين أو لقلة مدته في الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة، وتقدم عند قوله تعالى {ومتاع إلى حين} في الأعراف (24).
والاضطرار: الإلجاء، وهو جعل الغير ذا ضرورة، أي: لزوم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثم أضْطَرُّه إلى عذاب النار} في سورة البقرة (126).
والغليظ: من صفات الأجسام وهو القوي الخشن، وأطلق على الشديد من الأحوال على وجه الاستعارة بجامع الشدة على النفس وعدم الطاقة على احتماله. وتقدم قوله {ونجيناهم من عذاب غليظ} في سورة هود (58) كما أطلق الكثير على القوي.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)}
عطف على جملة {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} [لقمان: 21] باعتبار أن ما وَجَدوا عليه آباءهم هو الإشراك مع الله في الإلهية، وإن سألهم سائل: مَن خلق السماوات والأرض يقولوا خلقهن الله، وذلك تسخيف لعقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق وبين اعتقاد إلهية غيره.
والمراد بالسماوات والأرض: ما يشمل ما فيها من المخلوقات ومن بين ذلك حجارة الأصنام، وتقدم نظيرها في سورة العنكبوت. وعبر هنا ب {لا يعلمون} وفي سورة (العنكبوت63) ب {لا يعقلون} تفنناً في المخالفة بين القصتين مع اتحاد المعْنى.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}
موقع هذه الجملة من التي قبلها موقع النتيجة من الدليل في قوله: {لله ما في السماوات} فلذلك فصلت ولم تعطف لأنها بمنزلة بدل الاشتمال من التي قبلها، كما تقدم آنفاً في قوله {يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]؛ فإنه لما تقرر إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض لزمهم إنتاج أن ما في السموات والأرض ملك لله ومن جملة ذلك أصنامهم. والتصريح بهذه النتيجة لقصد التهاون بهم في كفرهم بأن الله يملكهم ويملك ما في السماوات والأرض، فهو غني عن عبادتهم محمود من غيرهم.
وضمير {هو} ضمير فصل مُفاده اختصاص الغِنى والحمْد بالله تعالى، وهو قصر قلب، أي ليس لآلهتهم المزعومة غنى ولا تستحق حمداً. وتقدم الكلام على الغني الحميد عند قوله {فإن الله غني حميد} في أول السورة لقمان (12).
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}
تكرر فيما سبق من هذه السورة وصف الله تعالى بإحاطة العلم بجميع الأشياء ظاهرةً وخفيةً فقال فيما حكى من وصية لقمان: {إنها إن تكُ مثقالُ حبة من خردل} إلى قوله {لطيف خبير} [لقمان: 16]، وقال بعد ذلك {فنُنبئُهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23] فعقب ذلك بإثبات أن لعلم الله تعالى مظاهرَ يبلّغ بعضها إلى من اصطفاه من رسله بالوحي مِما تقتضي الحكمة إبلاغه، وأنه يستأثر بعلم ما اقتضت حكمته عدم إبلاغه، وأنه لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفّت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكتابة فضلاً على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول. وقد سُلك في هذا مسلك التقريب بضرب هذا المثل؛ وقد كان ما قُصَّ من أخبار الماضين موطئاً لهذا فقد جرت قصة لقمان في هذه السورة كما جرت قصة أهل الكهف وذي القرنين في سورة الكهف (109) فعقبتا بقوله في آخر السورة: {قل لو كان البحر مِدَاداً لكلمات ربي لَنَفِد البحر قبل أن تَنْفَد كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مَدَداً} وهي مشابهة للآية التي في سورة لقمان. فهذا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من الآيات المتفرقة.
ولما في اتصال الآية بما قبلها من الخفاء أخذ أصحاب التأويل من السلف من أصحاب ابن عباس في بيان إيقاع هذه الآية في هذا الموْقع. فقيل: سبب نزولها ما ذكره الطبري وابن عطية والواحدي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن يسار بروايات متقاربة: أن اليهود سألوا رسول الله أو أغَروا قريشاً بسؤاله لمَّا سمعوا قول الله تعالى في شأنهم: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] فقالوا: كيف وأنت تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألوه: هي في علم الله قليل، ثم أنزل الله {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الآيتين أو الآيات الثلاثَ.
وعن السدّي قالت قريش: ما أكثر كلامَ محمدٍ فنزلت: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام}.
وعن قتادة قالت قريش: سيتِمّ هذا الكلام لمحمد وينحسِر أي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقول بعده كلاماً. وفي رواية: سينفَدُ هذا الكلام. وهذه يرجع بعضها إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة فيلزم أن يكون وضعها في هذا الموضع من السورة بتوقيف نبوي للمناسبة التي ذكرناها آنفاً، وبعضها يرجع إلى أنها مكية فيقتضي أن تكون نزلت في أثناء نزول سورة لقمان على أن توضع عقب الآيات التي نزلت قبلها.
و {كلمات} جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائلها}
[المؤمنون: 100] أي: الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرَهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها: كن فتكون، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم أي لو فُرض إرادة الله أن يكتب كلامَه كله صُحفاً ففُرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاماً، وفرض أن يكون البحر مداداً فكُتب بتلك الأقلام وذلك المدادِ لنفِد البحر ونفِدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر.
وأما قوله تعالى: {وتَمَّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً} [الأنعام: 115] فالتمام هنالك بمعنى التحقق والنفوذ، وتقدم قوله تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} في سورة الأنفال (7). وقد نُظمت هذه الآية بإيجاز بديع إذ ابتُدئت بحرف {لو} فعلم أن مضمونها أمر مفروض، وأن ل {لو} استعمالات كما حققه في «مغنى اللبيب» عن عبارة سيبويه. وقد تقدم عند قوله تعالى {ولو أسمعهم لتولَّوا وهم معرضون} في سورة الأنفال (23).
{ومن شجرة} بيان ل {ما} الموصولة وهو في معنى التمييز فحقه الإفراد، ولذلك لم يقل: من أشجار. والأقلام: جمع قلَم وهو العود المشقوق ليرفع به المداد ويكتب به، أي: لو تصير كل شجرة أقلاماً بمقدار ما فيها من أغصان صالحة لذلك. والأقلام هو الجمع الشائع لقلَم فيرَد للكثرة والقلة. و{يَمّده} بفتح الياء التحتية وضم الميم، أي: يزيده مِداداً. والمداد بكسر الميم الحِبر الذي يُكتب به. يقال: مَد الدَّوَاةَ يمدُها. فكان قوله {يمده} متضمناً فرض أن يكون البحر مداداً ثم يُزاد فيه إذا نشف مدادُه سبعةُ أبحر، ولو قيل: يُمده، بضم الميم من أمد لفات هذا الإيجاز.
والسبعة: تستعمل في الكناية عن الكثرة كثيراً كقول النبي صلى الله عليه وسلم " والكافر يأكل في سبعة أمعاء " فليس لهذا العدد مفهوم، أي والبحر يمده أبحر كثيرة.
ومعنى {ما نفدت كلمات الله} ما انتهت، أي: فكيف تحسب اليهود ما في التوراة هو منتهى كلمات الله، أو كيف يحسب المشركون أن ما نزل من القرآن أوشك أن يكون انتهاء القرآن، فيكون المَثل على هذا الوجه الآخر وارداً مورد المبالغة في كثرة ما سينزل من القرآن إغاظة للمشركين، فتكون {كلمات الله} هي القرآن، لأن المشركين لا يعرفون كلمات الله التي لا يحاط بها.
وجملة {إن الله عزيز حكيم} تذييل، فهو لعزته لا يَغلبه الذين يزعمون عدم الحاجة إلى القرآن ينتظرون انفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لحكمته لا تنحصر كلماته لأن الحكمة الحق لا نهاية لها.
وقرأ الجمهور برفع {والبحرُ} على أن الجملة الاسمية في موضع الحال والواو واو الحال وهي حال مِن {ما في الأرض من شجرة،} أي: تلك الأشجار كائنة في حال كون البحر مداداً لها، والواو يحصل بها من الربط والاكتفاء عن الضمير لدلالتها على المقارنة. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {والبحرَ} بالنصب عطفاً على اسم (إنّ).
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}
استئناف بياني متعلق بقوله {إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا} [لقمان: 23] لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه. وكانوا أيضاً يقولون: إن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً فكيف يبعثنا خلقاً جديداً في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنتها الأرض في القرون الكثيرة، وكان أُبَيّ بنُ خلف وأبو الأسد أو أبو الأسدين ونُبَيْه، ومُنبِّه، ابنا الحجاج من بني سهم، يقولون ذلك وربما أسرّ به بعضهم. وضميرَا المخاطَبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس، أي ما خلْقُ جميع الناس أول مرة ولا بَعْثُهم، أي خلقُهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة.
وفي قوله {ما خلقكم ولا بعثكم} التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المُفْحِم.
وفي قوله {كنفس واحدة} حذف مضاف دل عليه {ما خلقكم ولا بعثكم.} والتقدير: إلا كخلق وبعث نفس واحدة. وذلك إيجاز كقول النابغة:
وقد خِفت حتى ما تزيدُ مخافتي *** على وَعِل في ذي المَطارة عاقِل
التقدير: على مخافة وعل. والمقصود: إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة.
وجملة {إن الله سميع بصير}: إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالاً بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفاً: {إن الله عليم بذات الصدور} [لقمان: 23]، ولأجل هذا لم يقل: إن الله عليم قدير.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}
استدلال على ما تضمنته الآية قبلَها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالاً من الإنسان، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأُفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييراً يشبه طُروّ الموت على الحياة في دخول الليل في النهار، وطروّ الحياة على الموت في دخول النهار على الليل، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.
فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شؤون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله {إن الله سميع بصير} [لقمان: 28] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرعٌ عنها. والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة {وأن الله بما تعملون خبير}. والرؤية علْمية، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.
والإيلاج: الإدخال. وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37]. وتقدم الكلام على نظيره في قوله {تُولج الليل في النهار} أول سورة آل عمران (27)، وقوله {ذلك بأن الله يولج الليل في النهار} الآية في سورة الحج (61) مع اختلاف الغرضين.
والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشَى ظُلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تُلازم عملاً متماثلاً. والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.
وتنوين {كلٌّ} هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير: كلٌّ من الشمس والقمر يجري إلى أجل.
والجري: المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيهاً بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.
وزيادة قوله {إلى أجل مسمى} للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمداً يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث. فيجوز أن يكون {إلى أجل} ظرفاً لغواً متعلقاً بفعل {يجري،} أي: ينتهي جريه، أي سيره عند أجل معيَّن عند الله لانتهاء سيرهما. ويجوز أن يكون {إلى أجل} متعلقاً بفعل {سَخَّر} أي: جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهياً عند أجل مقدّر.
وحرف {إلى} على التقديرين للانتهاء. وليست {إلى} بمعنى اللام عند صاحب «الكشاف» هنا خلافاً لابن مالك وابن هشام، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى {وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} في سورة فاطر (13).
{وأن الله بما تعملون خبير} عطف على {أن الله يولج الليل في النهار}، فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجَب العلم، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يَجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}
كاف الخطاب المتصلُ باسم الإشارة موجه إلى غير معين، والمقصود به المشركون بقرينة قوله {وأن ما تدعون من دونه الباطل} بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. والمشار إليه هو المذكور آنفاً وهو الإيلاج والتسخير. وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته.
والمعنى: أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مُسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية، فالباء للسببية، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة. وضمير الفصل مفيد للاختصاص، أي: هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يُدّعى إلهية غيره تعالى.
و {الحق: هنا بمعنى الثابت، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله وأن ما تدعون من دونه الباطل،} والمعنى: لما كان ذلك الصنع البديع مسبباً عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضاً دليلاً على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب. والتعريف في {الحق} و{الباطل} تعريف الجنس. وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل. وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج (73) لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم.
والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في {بأن الله هو الحق} باء السببية أن يكون قوله {وأن ما تدعون من دونه الباطل} عطفاً على الخبر وهو مجموع {بأن الله.} فالتقدير: ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل. ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حُذف قبل {أنّ} وهو حرف (على) أي: ذلك دال. وهذا كما قدر حرف (عن) في قوله تعالى: {وترغبون أن تنكِحوهن} [النساء: 127] ولا يكون عطفاً على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، أو تقدر لام العلة، أي ذلك، لأن ما تدعونه باطل؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين. وقوله {وأن الله هو العلي الكبير} واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنَّ ما ذُكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية، ودال على أن ما يدعونه باطل، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم. وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم.
والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفاً مستقراً بل قال الرضِيُّ: إنها لا تكون إلاّ كذلك، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال:
وما لي بحمد الله لحم ولا دم ***
أي: حالة كوني ملابساً حمد الله، أي: غير ساخط من قضائه، ويقال: أنت بخير النظرين، أي: مستقر. فالتقدير: ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيَّة إلهية الله تعالى، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء، أي ملابس لكون الله إلهاً حقاً، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير. والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف، ويزداد وقوع جملة {ذلك بأن الله هو الحق} إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحاً.
وضمير الفصل في قوله وأن الله هو العلي الكبير} للاختصاص كما تقدم في قوله: {إن الله هو الغني الحميد} [لقمان: 26].
و {العلي}: صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف.
والكبير: وصف مشتق من الكِبَر المجازي وهو عظمة الشأن. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج (63) مع زيادة ضمير الفصل في قوله {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله {ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض} [لقمان: 20] وقوله: {ألم تر أن الله يُولج الليل في النهار} [لقمان: 29]، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل بينها، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلاً ثالثاً على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيّأه الله لانتفاعهم به. فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري. وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكر دواعي كفر.
فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسراً للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلاً لحمل المراكب العظيمة، وألْهَم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مَخرت بهم الفلك في البحر كانوا ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة، وقد سميت هذه النعمة أمراً في قوله {والفلك تجري في البحر بأمره} في سورة الحج (65)، أي: بتقديره ونظام خلقه.
وتقدم تفصيله في قوله {فإذا ركبوا في الفلك} في سورة العنكبوت (65)، وفي قوله: {هو الذي يُسيّركم في البرّ والبحر} الآيات من سورة يونس (22) وقوله: {ألم تر أن الله سخّر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره} في سورة الحج (65).
ويتعلق {ليريكم} ب {تجري} أي: تجري في البحر جرياً، علةُ خَلْقه أن يريكم الله بعض آياته، أي: آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله {ليريكم} وجريُ الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام، وخلق الخشب بنظام، وجعل لعقول الناس نظاماً فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر. والمعنى: أن جري السفن فيه حِكم كثيرة مقصودة من تسخيره، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته. وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلَّل في مدخولها لأن العلل جزئيةٌ لا كلية.
وجملة {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} لها موقع التعليل لجملة {ليريكم من ءاياته.} ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل: كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو {كل صبّار شكور}، ثناء على هذا الفريق صريحاً، وتعريضاً بالذين لم ينتفعوا بدلالتها.
واقتران الجملة بحرف {إنَّ} لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتسبب. وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة، أي: الذين لا يفارقهم الوصفان.
والصبَّار: مبالغة في الموصوف بالصبر، والشَّكور كذلك، أي: الذين لا يفارقهم الوصفان. وهذان وصفان للمؤمنين الموحِّدين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهما رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير. وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} [البقرة: 177]، وقال: {لئن شكرتم لأزِيدَنَّكم} [إبراهيم: 7] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مَصِيرهم إلى الله الذي أمَر ونهى، فصارا لهم خلقاً تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادراً؛ فأما المشركون فنظرهم قاصر على الحياة الحاضرة فهم أُسَراء العالم الحِسيّ فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بَطَروا، فهم أخلياء من الصبر والشكر، فلذلك كان قوله {لكل صبّار شكور} كنايةً رمزية عن المؤمنين وتعريضاً رمزياً بالمشركين. ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما، من بين شعب الإيمان، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر، كما تقدم في قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك} الآية في سورة يونس (22).
وفي قوله لكل صبّار شكور} حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله {وإذا غشيهم موج كالظُّلَل} الآية، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار، وغفلتهم عنها في حال السلامة، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت (65): {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} وقوله في سورة يونس (22): {حتى إذا كنتم في الفلك وجرَيْنَ بهم بريح طيبة} الآيات.
والغشيان: مستعار للمجيء المفاجئ لأنه يشبه التغطية، وتقدم في قوله تعالى: {يُغشي الليل النهار} في سورة الأعراف (54).
والظُّلَل: بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظُلّة بالضم وهي: ما أظلّ من سحاب.
والفاء في قوله فمنهم مقتصد} تدلّ على مقدر كأنه قيل: فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي. وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب {لمّا} أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب {لما بالفاء كما في مغني اللبيب}.
والمقتصد: الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله {وما يجحد بآياتنا إلاّ كل خَتّار كفور} ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت (65) {فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} وقد يطلق المقتصد على الذي يتوسط حالُه بين الصلاح وضده.
كما قال تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 66] والجاحد الكفور: هو المُفرط في الكفر والجَحد. والجُحود: الإنكار والنفي. وتقدم عند قوله تعالى: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} في سورة الأنعام (33). وعلم أن هنالك قسماً ثالثاً وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون. قال في سورة فاطر (32) {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وهذا الاقتصار كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم *** من العبيد وثلث من مواليها
أي: والثلث الآخر من أنفسهم.
والخَتَّار: الشديد الختر، والختر: أشدّ الغدر.
وجملة وما يجحد} إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه. والمعنى: ومنهم جاحد بآياتنا. وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله {بآياتنا} التفات.
والباء في {بآياتنا} لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]، وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً ***
وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً} [الإسراء: 59].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}
إن لم يكن {يا أيها الناس} خطاباً خاصاً بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بُعد السائرين عنها، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقَّب بما يصلح لِكِلا الفريقين، وإن كان الخطاب خاصاً بالمشركين جرْياً على ما روي عن ابن عباس أن {يا أيها الناس} خطاب لأهل مكة، فالمراد بالتقوى: الإقلاع عن الشرك.
وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخُطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيّأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة، وإن لاصطياد الحكماء فُرصاً يحرصون على عدم إضاعتها، وأحسن مُثُلها قول الحريري في «المقامة الحادية عشرة»: «فلما ألحدوا الميْت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رُباوة، متحضرٌ بهراوة، فقال: لِمثْل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيأيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون» الخ... فأما القلوب القاسية، والنفوس المتعاصية، فلن تأسُوَها آسية. ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافاً لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة.
والتقوى تبتدئ من الاعتراف بوجود الخالق ووحدانيته وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال. وتقدم تفصيلها عند قوله تعالى {هدىً للمتقين} في سورة البقرة (2) وتقدم نظير هذا في سورة الحج (32).
وخشية اليوم: الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته، فانتصب يوماً} على المفعول به. والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالى {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} [الفرقان: 21].
وجملة {لا يَجْزِي والدٌ عن ولده} الخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور ب (في) توسعاً بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقوله {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} في سورة البقرة (48).
وجَزى إذا عدي ب عن} فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه، ولذلك يقال للمتقاضي: المتجازي.
وجملة {ولا مولود} الخ عطف على الصفة و{مولود} مبتدأ. و{هو} ضمير فصل. و{جاز} خبر المبتدأ.
وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهم فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي، قال تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه} الآية [عبس: 34 35].
وابتدئ ب {الوالد} لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصاً من سوء إلا فعله. ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً} في سورة البقرة (123)، أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين، وربما كان الأب مسلماً والولد كافراً وربما كان العكس، وقد يتوهم بعضُ الكافرين حين تُداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يُدلّ به على رَبّ هذا الدين، وقد كان قاراً في نفوس العرب التعويل على المولَى والنصير تعويلاً على أن الحَمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم.
وهذا أيضاً وجه الجمع بين نفي جزاء الوالد عن ولده وبين نفي جزاء الولَد عن والده ليشمل الفريقين في الحالتين فلا يتوهم أن أحد الفريقين أرجى في المقصود.
ثم أوثرت جملة ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} بطرق من التوكيد لم تشتمل على مثلها جملة {لا يجزي والد عن ولده} فإنها نظمت جملة اسمية، ووُسِّط فيها ضمير الفصل، وجعل النفي فيها منصبّاً إلى الجنس. ونكتة هذا الإيثار مبالغة تحقيق عدم جَزْءِ هذا الفريق عن الآخر إذ كان معظمُ المؤمنين من الأبناء والشباببِ، وكان آباؤهم وأمهاتهم في الغالب على الشرك مثل أبي قحافة والد أبي بكر، وأبي طالب والد علي، وأم سعد بن أبي وقاص، وأم أسماء بنت أبي بكر، فأُريد حسم أطماع آبائهم وما عسى أن يكون من أطماعهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة بشيء. وعبر فيها ب {مولود} دون (ولد) لإشعار {مولود} بالمعنى الاشتقاقي دون (ولد) الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تُومئ إليه الموْلُودية من تجشّم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسماً لطمعه في الجزاء عنه، فهذا تعكيس للترقيق الدنيوي في قوله تعالى {وقل ربّ ارحمهما كما رَبَّيَاني صغيراً} [الإسراء: 24] وقوله: {وصاحبْهما في الدنيا معروفاً} [لقمان: 15].
وجملة {إن وعد الله حق} علة لجملتي {اتقوا ربّكم واخْشَوْا يوماً}. ووعدُ الله: هو البعث، قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخِرون عنه ساعةً ولا تستقدمون} [سبأ: 29 30].
وأكد الخبر ب {إنّ} مُراعاة لمنكري البعث، وإذ قد كانت شبهتهم في إنكاره مشاهدة الناس يموتون وبخلفهم أجيال آخرون ولم يرجع أحد ممن مات منهم {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] وقالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29].
فُرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله: {فلا تَغرنَّكم الحياة الدنيا}، أي لا تغرنّكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقاً والضرّ نفعاً، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شُبْهَتِه، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يُضِلّونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذُكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغَرور.
و {الغَرور بفتح الغين: من يكثر منه التغرير، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم.
وعطف ولا يغرنكم بالله الغرور} لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقاً ليهموا آراءهم. وإذا أريد بالغَرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان، كما قال تعالى: {يا بني آدم لا يَفْتِننَّكم الشيطان كما أخرج أبوَيْكم من الجَنة} [الأعراف: 27] وقال: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذُوه عدواً} [فاطر: 6]، ففي التحذير شوب من التنفير.
والباء في قوله {ولا يغرنكم بالله} هي كالباء في قوله تعالى {يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم} [الانفطار: 6]. وقرر في «الكشاف» في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية، وبالضرورة يكون السبب شأناً من شؤون الله يناسب المقام لا ذاتَ الله تعالى. والذي يناسب هنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوِّله الغَرور للمشركين كتوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث على احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم، أو يغرُّهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجّل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48] فذلك كله غرور لهم مُسبب بشؤون الله تعالى. ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله تعالى: {ولا يغرنكم بالله الغرور} وقد جاء مثله في سورة الحديد (14). وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته ب (من) الابتدائية في قول امرئ القيس:
أغرّككِ مني أن حبَّك قَاتِلي ***
أي: لا يغرنَّك مِن معاملتي معك أن حبك قاتلي.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارةً على أنه غير واقع. قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48] وقال: {وما يُدْرِيك لعلّ السَّاعة قريبٌ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 17، 18]، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله.
فجملة {إن الله عنده علم الساعة} مستأنفة استئنافاً بيانياً لوقوعها جواباً عن سؤال مقدَّر في نفوس الناس. والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليماً للأمة. وقال الواحدي والبغوي: إن رجلاً من محارب خصفة من أهل البادية سماه في «الكشاف» الحارث بن عمرو ووقع في «تفسير القرطبي» وفي «أسباب النزول» للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟ وماذا أكسب غداً؟ وبأي أرض أموت؟، فنزلت هذه الآية، ولا يُدرى سند هذا. ونُسب إلى عكرمة ومقاتل، ولو صح لم يكن منافياً لاعتبار هذه الجملة استئنافاً بيانياً فإنه مقتضى السياق.
وقد أفاد التأكيد بحرف {إن} تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة، وذلك يتضمن تأكيد وقوعها. وفي كلمة {عنده} إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار. وتقديم {عند} وهو ظرف مسند على المسند إليه يُفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي.
وجملة {وينزل الغيث} عطف على جملة الخبر. والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث. والمقصود أيضاً عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نُظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة.
وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض. ولا التفاتَ إلى من قدروا: {ينزل الغيث، بتقدير (أنْ)} المصدرية على طريقة قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى ***
للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة. وإذ قد جاء هذا نسقاً في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلاً خبراً عن مسند إليه مقدم مفيداً للاختصاص بالقرينة؛ فالمعنى: وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت.
وعطف عليه {ويعلم ما في الأرحام} أي: ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكراً أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق. وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال. والمعنى: ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيداً للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى: {والله يقدّر الليل والنهار.
وأما قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت} فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سَداه نفي علم أيَّة نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها، وكذلك مكانُ انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود. وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلمُ بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العِلْمين فكانا في ضميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما.
وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال: الله يدري كذا، فيفيد: انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه. والمعنى: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله {وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام}. وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما، أي ما تدري هذا السؤال، أي جوابه. وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز.
ولقبت هذه الخمسة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} [الأنعام: 59]. ففي «صحيح البخاري» من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَفاتح الغيب خمس " ثم قرأ: {إن الله عنده علم السَّاعة} الآية، ومن حديث أبي هريرة:... في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جواباً عن سؤال جبريل: متى الساعة؟....
ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنَّ وقوعها فَتح لما كان مغلقاً وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العَوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح عِلم في هذا العالم.
وجملة {إن الله عليم خبير} مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى: {إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا} [لقمان: 33] كموقع قوله في قصة [لقمان: 16]: {إن الله لطيف خبير} عقب قوله: {إنها إنْ تك مثقال حبة من خردل} الآية [لقمان: 16].
والمعنى: أن الله عليمٌ بمدى وعده خبيرٌ بأحوالكم مما جمعه قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} الخ ولذا جمع بين الصفتين: صفة {عليم} وصفة {خبير} لأن الثانية أخص.
{الم (1)}
تقدم ما في نظائره.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
افتتحت السورة بالتنويه بشأن القرآن لأنه جامع الهدى الذي تضمنته هذه السورة وغيرها ولأن جماع ضلال الضالّين هو التكذيب بهذا الكتاب، فالله جعل القرآن هدى للناس وخصّ العرب أن شَرفهم بجعلهم أولَ من يتلقّى هذا الكتاب، وبأنْ أنزله بلغتهم، فكان منهم أشد المكذبين بما جاء به، لا جرم أن تكذيب أولئك المكذبين أعرق في الضلالة وأوغل في أفَن الرأي. وافتتاح الكلام بالجملة الاسمية لدلالتها على الدَوام والثبات.
وجيء بالمسند إليه معرفاً بالإضافة لإطالته ليحصل بتطويله ثم تعقيبه بالجملة المعترضة التشويقُ إلى معرفة الخبر وهو قوله {من رب العالمين} ولولا ذلك لقيل: قرآن منزل من رب العالمين أو نحو ذلك. وإنما عدل عن أسلوب قوله {ألم ذلك الكِتِاب لا رَيْب فِيه} في سورة البقرة (1، 2) لأن تلك السورة نازلة بين ظهراني المسلمين ومن يُرجى إسلامهم من أهل الكتاب وهم {الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4]؛ وأما هذه السورة فقد جابَه الله بها المشركين الذين لا يؤمنون بالإله الواحد ولا يوقنون بالآخرة فهم أصلب عُوداً، وأشد كفراً وصُدوداً.
فقوله {تنزيل الكتاب} مبتدأ، وقوله {لا ريب فيه} جملة هي صفة للكتاب أو حال أو هي معترضة. وقوله {من رب العالمين} خبر عن المبتدأ و{من} ابتدائية.
والمعنى: من عنده ووحيه، كما تقول: جاءني كتاب من فلان. ووقعت جملة {لا ريب فيه} بأسلوب المعلوم المقرّر فلم تجعل خبراً ثانياً عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين.
ومعنى {لا ريب فيه} أنه ليس أهلاً لأن يرتاب أحد في تنزيله من ربِّ العالمين لما حفّ بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلاً عن مجموعه، وما عضده من حال المرسَل به من شهرة الصدق والاستقامة، ومجيء مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية. فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفاً في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب، فالذين ارتابُوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعْدُون أن يكونوا متعنّتين على علم، أو جُهّالاً يقولون قبل أن يتأملوا وينظروا؛ والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم، وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف {رب العالمين} دون الاسم العلَم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزّلاً للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية، كما قال تعالى: {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة: 48]. وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشراً منهم حسداً من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبئ عن أنه لا يُسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}
جاءت {أَمْ} للإضراب عن الكلام السابق إضرابَ انتقال، وهي {أَمْ} المنقطعة التي بمعنى بل التي للإضراب. وحيثما وقعت {أمْ} فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد {أمْ.} والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعُلِّمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقَّاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمراً غريباً يُقضى منه العجب لدى العقلاء ذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بَله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقاً للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهانُ السامعين كلفظ (تقول) في بيت هُذْلول العنبري من شعراء الحماسة:
تقول وصكّت صدرَها بيمينها *** أبعلي هذا بالرَّحَى المتقاعسُ
وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات رغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته.
والضمير المرفوع في {افتراه} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس، والضمير المنصوب عائد إلى {الكتاب} [السجدة: 2]. وأضرب على قولهم {افتراه} إضراب إبطال ب {بل هو الحق من ربك} لإثبات أن القرآن حق، ومعنى الحق: الصدق، أي: فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزَّل من الله تعالى. وتعريف {الحق} تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه. أي: هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل. وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو: أنت الحبيب وعمرو الفارس.
و {من ربك} في موضع حال من {الحق،} والحق الوارد من قِبل الله لا جرم أنه أكمل جنس الحق. وكاف الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم واستحضرت الذات العلية هنا بعنوان {ربك} لأن الكلام جاء رداً على قولهم {افتراه،} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم فكان مقام الرد مقتضياً تأييد من ألصقوا به ما هو بريء منه بإثبات أن الكتاب حق من ربِّ من ألصقوا به الافتراء تنويهاً بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتخلصاً إلى تصديقه لأنه إذا كان الكتاب الذي جاء به حقاً من عند الله فهو رسول الله حقاً.
وقد جاءت هذه الآية على أسلوب بديع الإحكام إذ ثبت أن الكتاب تنزيل من رب جميع الكائنات، وأنه يحق أن لا يرتاب فيه مرتاب، ثم انتقل إلى الإنكار والتعجيب من الذين جزموا بأن الجائي به مفتر على الله، ثم رد عليهم بإثبات أنه الحق الكامل من ربِّ الذي نَسبوا إليه افتراءه فلو كان افتراه لقدر الله على إظهار أمره كما قال تعالى:
{ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطعْنَا منه الوَتِين فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 44 47]. ثم جاء بما هو أنكى للمكذبين وأبلغ في تسفيه أحلامهم وأوغل في النداء على إهمالهم النظر في دقائق المعاني، فبين ما فيه تذكرة لهم ببعض المصالح التي جاء لأجلها هذا الكتاب بقوله: {لتُنْذِر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} فقد جمعوا من الجهالة ما هو ضِغْث على إبَّالَة، فإن هذا الكتاب، على أن حقيته مقتضية المنافسة في الانتفاع به ولو لم يُلفَتُوا إلى تقلده وعلى أنهم دعوا إلى الأخذ به وذلك مما يوجب التأمل في حقّيته؛ على ذلك كلِّه فهم كانوا أحوج إلى اتباعه من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء لم تسبق لهم رسالة مرسل فكانوا أبعد عن طرق الهدى بما تعاقب عليهم من القرون دون دعوة رسول فكان ذلك كافياً في حرصهم على التمسك به وشعورهم بمزيد الحاجة إليه رجاء منهم أن يهتدوا، قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين مِن قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدَف عنها} [الأنعام: 155 157]، فمثَل هؤلاء المكذبين كمَثل قول المعري:
هل تَزجرنَّكُمُ رِسالةُ مرسَل *** أم ليس ينفع في أُولاَك ألُوكُ
والقوم: الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر هو كالقِوام لهم من نسب أو موطن أو غرض تجمعوا بسببه. وأكثر إطلاقه على الجماعة الذين يرجعون في النسب إلى جَدّ اختصوا بالانتساب إليه. وتميزوا بذلك عمن يشاركهم في جدّ هو أعلى منه، فقُريش مثلاً قومٌ اختصوا بالانتساب إلى فِهر بن مالك بن النضر بن كنانة فتميزوا عمن عداهم من عقب كنانة فيقال: فلان قرشي وفلان كناني ولا يقال لمن هو من أبناء قريش كناني.
ووصف القوم بأنهم {ما أتاهم من نذير} قبلَ النبي صلى الله عليه وسلم والنبي حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلّهم من العرب فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قَبْل محمد عليه الصلاة والسلام فإما أن يكون المراد قريشاً خاصة، أو عرب الحجاز أهلَ مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان: عدنانيون وقحْطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مُضَرٌ وربيعةٌ وأنمار، وإيادٌ. وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم. وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فإنه وإن كان رسولاً نبيئاً كما وصفه الله تعالى في سورة مريم، فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جُرهُم ولم يكن مرسلاً إلى الذين وجُدوا بعده لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال تعالى:
{وكان يأمر أهلَه بالصلاة والزكاة} [مريم: 55].
وأما القحطانيون القاطنون بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيْء فإنهم قد تغيرت فرقهم ومواطنهم بعد سَيْل العَرم وانقسموا أقواماً جُدداً ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن وإن كان المنذِرون قد جاءوا أسلافَهم مثلُ هود وصالح وتُبع، فذلك كان قبل تقوُّم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرَب كلَّهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلّهم لا يعْدون أن يرجعوا إلى ذيْنك الجِذمين، وقد كان انقسامهم أقواماً ومواطن بعد سَيل العَرم ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانيين من أهل الحجاز. وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صَفوان صاحب أهل الرَّسّ، وخالد بن سِنان صاحب بني عَبْس فلم يثبت أنهما رسولان واختُلف في نبوّتهما. وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي عجوز وأنه قال لها: «مرحباً بابنة نبيء ضَيَّعه قومُه». وليس لذلك سند صحيح. وأيَّاً مَّا كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف {ما أتاهم من نذير} من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به: تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هُدى وأثارةُ هِمَمهم لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنزل إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتّباعه؛ فيكون للمؤمنين منه السبْق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يُسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق. وقد اهتم بعض أهل الأحلام من العَرب بتطلب الدين الحق فتهوّد كثير من عرب اليمن، وتنصّرتْ طيء وكَلْب وتغلب وغيرهم من نصارى العرب، وتتبع الحنيفية نفر مثل قُسّ بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نُفيل، وأمية بن أبي الصلت، وكان ذلك تطلباً للكمال ولم يأتهم رسول بذلك.
وهذا التعليل لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير، لأن لام العلة لا تقتضي إلا كون ما بعدها باعثاً على وقوع الفعل الذي تعلقت به دون انحصار باعثثِ الفعل في تلك العلة، فإن الفعل الواحد قد تكون له بواعث كثيرة، وأفعال الله تعالى منوطة بحكم عديدة، ودلائلُ عموم الرسالة متواترة من صريح القرآن والسنّة ومن عموم الدعوة.
وقيل: أُريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير من قبلُ جميعُ الأمم، وأن المراد بأنهم لم يأتهم نذير أنهم كلَّهم لم يأتهم نذير بعد أن ضلّوا، سواء منهم من ضلّ في شرعه مثل أهل الكتاب، ومن ضلّ بالخلو عن شرع كالعَرب. وهذا الوجه بعيد عن لفظ (قوم) وعن فعل {أتاهم} ومفيتٌ للمقصود من هذا الوصف كما قدمناه. وأما قضية عموم الدعوة المحمدية فدلائلها كثيرة من غير هذه الآية. و(لعلّ) مستعارة تمثيلاً لإرادة اهتدائهم والحرص على حصوله.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)}
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عُقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن.
وجيء باسم الجلالة مبتدأ لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به قطعاً لدابر عقيدة الشريك في الإلهية، وخَبَرُ المبتدأ جملة {ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع}، ويكون قوله: {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما صفة لاسم الجلالة.
وجيء باسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر وأنه الانفراد بالربوبية لجميع الخلائق في السماوات والأرض وما بينهما، ومن أولئك المشركون المعنيون بالخبر، والخطاب موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات.
والوليّ: مشتق من الولاء، بمعنى: العهد والحلف والقرابة. ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولَى. وأُريد بالولي: المشارك في الربوبية.
والشفيع: الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضرّ أو جلب نفع. والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة شركاء لله في الإلهية ثم قالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقالوا: {ما نعبدهم إلا لِيُقَرِّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3].
و {مِن} في قوله {من دونه} ابتدائية في محل الحال من ضمير {لكم}، و(دون) بمعنى غَير، و{مِن} في قوله {من ولي} زائدة لتأكيد النفي، أي: لا وليّ لكم ولا شفيع لكم غير الله فلا ولاية للأصنام ولا شفاعة لها إبطالاً لما زعموه لأصنامهم من الوصفين إبطالاً راجعاً إلى إبطال الإلهية عنها. وليس المراد أنهم لا نصير لهم ولا شفيع إلا الله لأن الله لا ينصرهم على نفسه ولا يشفع لهم عند نفسه، قال الله تعالى: {ذلك بأن الله مولَى الذين ءامنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] وقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255].
وتقدم تفسير نظيره {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} وبيان تأويل {ثم استوى على العرش} في سورة الأعراف (54).
وفُرّع على هذا الدليل إنكارٌ على عدم تدبرهم في ذلك وإهمالهم النظر بقوله: {أفلا تتذكرون} فهو استفهام إنكاري. والتذكر: مشتق من الذُكر الذي هو بضم الذال وهو التفكر والنظر بالعقل.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}
جملة {يدبر الأمر} في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى {الله الذي خلق السماوات والأرض} [السجدة: 4]، أي: خلق تلك الخلائق مدبِّراً أمرها. ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً، وقوله {من السماء} متعلق ب {يدبر} أو صفة للأمر أو حال منه، و{من} ابتدائية. والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيراً شاملاً لها من السماء إلى الأرض، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمورِ كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما.
والتدبير: حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو مشتق من دُبُر الأمر، أي: آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية. وهو إذا وصف به الله تعالى كنايةٌ عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد.
و {الأمر}: الشأن للأشياء ونظامُها وما به تقوُّمها. والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير الأمر يرجع إلى بعض هذا العموم.
والعروج: الصعود. وضمير {يَعْرُجُ} عائد على {الأَمْرَ}، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبَّرة تصعد إلى الله تعالى؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب. ولما كان الجلال يشبَّه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعُروج، كما قال تعالى: {إليه يصعَد الكَلِم الطّيب والعملُ الصالحُ يرفعُه} [فاطر: 10]، أي: يرفعه إليه.
و {ثم} للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب.
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كلٌّ بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيراً مناسباً لحقائقه؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها، أي: يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ.
واليوم من قوله {في يوم كان مقداره ألف سنة} هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج (47) بقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} ومعنى تقديره بألف سنة: أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات، أو بقطع المسافات، وقد فُرضت في ذلك عدة احتمالات.
والمقصود: التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره. ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس. ولم يُعيِّن واحداً منهما، وليس من غرض القرّاء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما.
وقوله في يوم} يتنازعه كل من فعلي {يُدبر} و{يعرج} أي يحصل الأمران في يوم.
و {ألف عند العرب منتهى أسماءِ العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
وألف يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال: زرتُك ألفَ مرة، وقوله تعالى: {يود أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة} [البقرة: 96]، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نَحْوَ، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تَعُدُّون} [الحج: 47]. ويجوز أن يكون {ألف} مستعملاً في صريح معناه. وقوله: {مما تعدون}، أي: مما تحسبُون في أعدادكم، و{ما} مصدرية أو موصولية وهو وصف ل {ألف سنة. وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ألف مستعملاً في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحاً للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعاً لاحتمال المجاز في العدد.
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}
جيء بالإشارة إلى اسم الجلالة بعدما أجري عليه مِن أوصاف التصرف بخلق الكائنات وتدبير أمورها للتنبيه على أن المشار إليه باسم الإشارة حقيق بما يَرِد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الصفات المتقدمة كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5)، لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالِمُ الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود. والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرضَ، ولذلك عقب بقوله بعده {وقالوا أإذا ضَلَلْنَا في الأرض إنَّا لفِي خلق جديد} [السجدة: 10]. وأما عطف {والشهادة} فهو تكميل واحتراس.
ومناسبة وصفه تعالى ب {العزيز الرحيم} عقب ما تقدم أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم فهو رحيم بهم فيما خلقهم إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها. فهذا سبب الجمع بين صفتي {العزيز والرحيم هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.
و {العزيز الرحيم} يجوز كونهما خبرين آخرين عن اسم الإشارة أو وصفين ل {عَالِم الغَيب.
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر ل {عالم الغيب} [السجدة: 6]، وهو ارتقاء في الاستدلال مشوبٌ بامتنان على الناس أنْ أحْسنَ خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر. والمقصود: أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقاً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، وأخرج أصله من تراب ثم كوَّن فيه نظام النسل من ماء، فكيف تعجزه إعادة أجزائه.
والإحسان: جعل الشي حَسناً، أي محموداً غير معيب، وذلك بأن يكون وافياً بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي؛ فصلابة الأرض مثلاً للسير عليها، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوقُ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يميناً وشمالاً لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.
وقوله {خَلَقَه} قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل {شيء} أي: كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيراً منها. وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من {كل شيء} بدل اشتمال. وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلْق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل.
و {الإنسان أُريد به الجنس، وبَدْءُ خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11]، أي: خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. ويدل على هذا المعنى هنا قوله: {ثم جَعَل نسله من سلالة} فإن ذلك بُدِئ من أول نسل لآدم وحواء، وقد تقدم خلْق آدم في سورة البقرة. و{من} في قوله {مِن طِين} ابتدائية.
والنسل: الأبناء والذرية. سمي نسلاً لأنه ينسل، أي: ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نَسَلَ الصوفُ والوَبَر إذا سقط عن جلد الحيوان، وهو من بابي كتب وضرب.
و {من} في قوله {من سلالة} ابتدائية. وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سُلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله {من ماء مهين} بيان ل {سلالة.} و{من} بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكوّن الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضلة، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون {من} في قوله {من ماء مهين} للتبعيض أو للابتداء.
والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يُعبأ به ولا يصان.
والتسوية: التقويم، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. والضمير المنصوب في {سَوّاه} عائد إلى {نسله} لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب {ثم} وإن كان آدم قد سُوِّي ونفخ فيه من الروح، قال تعالى: {فإذا سَوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين} [ص: 72]. وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك، فالكلام إيجاز.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصاً بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
والنفخ: تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإذا سوّيته ونفخْتُ فيه من رُوحي} في سورة الحجر (29).
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله: وجعل لكم} التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجَعْل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريق الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يُلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثرُ بالامتنان وأسعدُ بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله {قليلاً ما تشكرون}. والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى {جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلاً لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة {الأفئدة} أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعضٌ منها.
وأفرد {السَّمع} لأنه مصدر لا يجمع، وجمع {الأبصار والأفئدة} باعتبار تعدد الناس. وتقديم السمع على البصر تقدّم وجهه عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} في سورة البقرة (7). وتقديم السمع والأبصار} على {الأفئدة} هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل.
و {قليلاً} اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير {لكم،} و{ما تشكرون} في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية ب {قليلاً،} أي: أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر. ثم يجوز أن يكون {قليلاً} مستعملاً في حقيقته وهي كون الشيء حاصلاً ولكنه غير كثير. ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} [النساء: 46]. وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدمُ الشكر سواء.
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)}
الواو للحال، والحال للتعجيب منهم كيف أحالوا إعادة الخلق وهم يعلمون النشأة الأولى، وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق وخاصة بدء خلق آدم عن عدم، وخُلوّ الجملة الماضوية عن حرف (قد) لا يقدح في كونها حالاً على التحقيق.
والاستفهام في {أءذا ضللنا} للتعجب والإحالة، أي أظهروا في كلامهم استبعاد البعث بعد فناء الأجساد واختلاطها بالتراب، مغالطة للمؤمنين وترويجاً لكفرهم. والضّلال: الغياب، ومنه: ضلال الطريق، والضالة: الدابة التي ابتعدت عن أهلها فلم يعرف مكانها. وأرادوا بذلك إذا تفرقت أجزاء أجسادنا في خلال الأرض واختلطت بتراب الأرض. وقيل: الضلال في الأرض: الدخول فيها بناء على أنه يقال: أضلّ الناسُ الميت، أي: دفنوه. وأنشدوا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مُضِلّوه بعين جَلية *** وغُودر بالجَوْلان حَزم ونائل
وقرأه نافع والكسائي ويعقوب: {إنا لفي خلق جديد} بهمزة واحدة على الإخبار اكتفاء بدخول الاستفهام على أول الجملة ومتعلقها. وقرأ الباقون {أإنا لفي خلق جديد} بهمزتين أولاهما للاستفهام والثانية تأكيد لهمزة الاستفهام الداخلة على {أإذا ضللنا في الأرض.} وقرأ ابن عامر بترك الاستفهام في الموضعين على أن الكلام خبر مستعمل في التهكم.
وتأكيد جملة {إنَّا لفي خلق جديد} بحرف {إنَّ} لأنهم حكوا القول الذي تعجبوا منه وهو ما في القرآن من تأكيد تجديد الخلق فحكوه بالمعنى كما في الآية الأخرى: {وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل يُنَبِّئكم إذا مُزِّقْتُم كلَّ ممزَّق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7]، أي: يُحَقِّق لكم ذلك.
و {إذا} ظرف وهو معمول لما في جملة {إنا لفي خلق جديد} من معنى الكون. والخلق: مصدر. و{في} للظرفية المجازية ومعناها المصاحبة.
والجديد: المحدث، أي غير خلقنا الذي كنا فيه.
و {بل} من {بل هُم بلقاء ربهم كافرون} إضراب عن كلامهم، أي ليس إنكارهم البعث للاستبعاد والاستحالة لأن دلائل إمكانه واضحة لكل متأمل ولكن الباعث على إنكارهم إياه هو كفرهم بلقاء الله، أي كفرهم الذي تلقوه عن أيمتهم عن غير دليل، فالمعنى: بل هم قد أيقنوا بانتفاء البعث فهم متعنّتون في الكفر مُصرّون عليه لا تنفعهم الآيات والأدلة. فالكفر المثبت هنا كفر خاص وهو غير الكفر الذي دل عليه قولهم {أإذا ضَلَلْنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} فإنه كفر بلقاء الله لكنهم أظهروه في صورة الاستبعاد تشكيكاً للمؤمنين وترويجاً لكفرهم.
وتقديم المجرور على {كافرون} للرعاية على الفاصلة، والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على كفرهم والثبات عليه.
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}
استئناف ابتدائي جار على طريقة حكاية المقاولات لأن جملة {قل في معنى جواب لقولهم أإذا ضللنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]؛ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعيد إعلامهم بأنهم مبعوثون بعد الموت. فالمقصود من الجملة هو قوله {ثم إلى ربكم ترجعون} إذ هو مناط إنكارهم، وأما إنهم يتوفّاهم ملك الموت فذكره لتذكيرهم بالموت وهم لا ينكرون ذلك ولكنهم ألهتهم الحياة الدنيا عن النظر في إمكان البعث والاستعداد له فذكروا به ثم أدمج فيه ذكر ملك الموت لزيادة التخويف من الموت والتعريض بالوعيد من قوله {الذي وُكِّل بكم} فإنه موكل بكل ميت بما يناسب معاملته عند قبض روحه. وفيه إبطال لجهلهم بأن الموت بيد الله تعالى وأنه كما خلقهم يميتهم وكما يميتهم يحييهم، وأن الإماتة والإحياء بإذنه وتسخير ملائكته في الحالين. وذلك إبطال لقولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} [الجاثية: 24] فأعلمهم الله أنهم لا يخرجون عن قبضة تصرفه طرفة عين لا في حال الحياة ولا في حال الممات. وإذا كان موتهم بفعل ملك الموت الموكل من الله بقبض أرواحهم ظهر أنهم مردودة إليهم أرواحهم متى شاء الله.
والتوفّي: الإماتة. وتقدم في قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} في سورة الأنعام (60)، وقوله: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} في سورة الأنفال (50).
وملك الموت هو الملك الموكّل بقبض الأرواح وقد ورد ذكره في القرآن مفرداً كما هنا وورد مجموعاً في قوله: {ولو تَرى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} في سورة الأنفال (50)، وقوله: {تَوفّتْه رسُلُنا} في سورة الأنعام (61)، وذلك أن الله جعل ملائكة كثيرين لقبض الأرواح وجعل مُبلِّغ أمر الله بذلك عزرائيل فإسناد التوفّي إليه كإسناده إلى الله في قوله {الله يتوفّى الأنفس} [الزمر: 42]، وجعل الملائكة الموكلين بقبض الأرواح أعواناً له وأولئك يسلمون الأرواح إلى عزرائيل فهو يقبضها ويودعها في مقارها التي أعدها الله لها، ولم يرد اسم عزرائيل في القرآن. وقيل: إن ملك الموت في هذه الآية مراد به الجنس فتكون كقوله {توفته رسلنا} [الأنعام: 61].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}
أردف ذكر إنكارهم البعث بتصوير حال المنكرين أثر البعث وذلك عند حشرهم إلى الحساب، وجيء في تصوير حالهم بطريقة حذف جواب {لو} حذفاً يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم وهول موقفهم بين يدي ربهم، وبتوجيه الخطاب إلى غير معيّن لإفادة تناهي حالهم في الظهور حتى لا يختصّ به مخاطب. والمعنى: لو ترى أيها الرائي لرأيت أمراً عظيماً.
و {المجرمون هم الذين قالوا أإذا ضللنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]، فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد التسجيل عليهم بأنهم في قولهم ذلك مُجرمون، أي آتون بجُرم وهو جُرم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل الدليل.
والناكس: الذي يجعل أعلى شيء إلى أسفل، يقال: نكس رأسه، إذا طأطأه لأنه كمن جعل أعلى الشيء إلى أسفل. ونكْس الرؤوس علامة الذلّ والندامة، وذلك مما يُلاقون من التقريع والإهانة.
والعندية عندية السلطة، أي وهم في حكم ربهم لا يستطيعون محيداً عنه، فشبه ذلك بالكون في مكان مختص بربهم في أنهم لا يفلتون منه.
وجملة {ربنا أبصرنا وسمعنا} إلى آخرها مقول قول محذوف دلّ عليه السياق هو في موضع الحال، أي ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين: أبصرْنا وسمعنا، وهم يقولون ذلك ندامة وإقراراً بأن ما توعدهم القرآن به حق.
وحذف مفعول {أبصرنا} ومفعول {سمعنا} لدلالة المقام، أي أبصرنا من الدلائل المبصرَة ما يصدّق ما أُخبرنا به فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به، أي: فعلمنا أن ما دعانا إليه الرسول هو الحق الذي به النجاة من العذاب فأرجِعْنا إلى الدنيا نعمل صالحاً كما قالوا في موطن آخر {ربنا أخِّرْنا إلى أجل قريب نُجِبْ دعوتك ونتبع الرسل} [إبراهيم: 44].
وقوله {إنا موقنون} تعليل لتحقيق الوعد بالعمل الصالح بأنهم صاروا موقنين بحقية ما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانت {إنَّ} مغنية غناء فاء التفريع المفيدة للتعليل، أي ما يمنعنا من تحقيق ما وُعدنا به شك ولا تكذيب، إنَّا أيقنا الآن أن ما دُعينا إليه حق. فاسم الفاعل في قوله {موقنون} واقع زمان الحال كما هو أصله.
{وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}
اعتراض بين القول المقدر قبل قوله {ربنا أبصَرْنا وسمِعنا} [السجدة: 12] وبين الجواب عنه بقوله {فذوقوا بما نَسِيتم} [السجدة: 14] فالواو التي في صدر الجملة اعتراضية، وهي من قبيل واو الحال.
ومفعول فعل المشيئة محذوف على ما هو الغالب في فعل المشيئة الواقع شرطاً استغناء عن المفعول بما يدل عليه جواب الشرط. والمعنى: لو شئنا لجبلنا كل نفس على الانسياق إلى الهدى بدون اختيار كما جبلت العجماوات على ما ألهمت إليه من نظام حياة أنواعها فلكانت النفوس غير محتاجة إلى النظر في الهدى وضده، ولا إلى دعوة من الله إلى طريق الهدى، ولكن الله لما أراد أن يَكل إلى نوع الإنسان تعمير هذا العالم، وأن يجعله عنواناً لعلمه وحكمته، وأن يفضله على جميع الأنواع والأجناس العامرة لهذا العالم؛ اقتضى لتحقيق هذه الحكمة أن يخلق في الإنسان عقلاً يدرك به النفعَ والضرّ، والكمال والنقص، والصلاح والفساد، والتعمير والتخريب، وتنكشف له بالتدبر عواقب الأعمال المشتبهة والمموّهة بحيث يكون له اختيار ما يصدر عنه من أجناس وأنواع الأفعال التي هي في مكنته بإرادة تتوجه إلى الشيء وضده، وخلق فيه من أسباب العمل وآلاته من الجوارح والأعضاء إذا كانت سليمة فكان بذلك مستطيعاً لأن يعمل وأن لا يعمل على وفاق ميله واختياره وكسبه. وهذا المعنى هو الذي سماه الأشعري بالكسب وبالاستطاعة وتكفل له بإعانته على ما خُلق له من الإدراك يدعوه إلى ما يريده الله منه من الهدى والصلاح في هذا العالم بواسطة رسل من نوعه يبلغون إليه مراد ربهم فطرهم على الصفات الملكية وجعلهم وسائط بينه وبين الناس في إبلاغ مراد ربهم إليهم. ووعده الناس بالجزاء على فعل الخير وفعل الشر بما فيه باعث على الخير ورادع عن الشر.
وقد أراد الله أن يفضل هذا النوع بأن يجعل منه عُمّاراً لعالم الكمال الخالد عالم الروحانيات فجعل لأهل الكمال الديني مراتب سامية متفاوتة في عالم الخلد على تفاوت نفوسهم في ميدان السبق إلى الكمالات، وجعل أضداد هؤلاء عمّاراً لهُوة النقائص فملأ منهم تلك الهوة المسماة جهنم.
فهذا معنى قوله {ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين} البالغ من الإيجاز مبلغ الإعجاز، إذ حذف معظم ما أريد بحرف الاستدراك الوارد على قوله {ولو شئنا لآتينا كل نفس هُدَاها؛} فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر: ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] أي: الطريقين، وحققنا الأخبار عن الجزاءين بالوعد والوعيد بالجنة وجهنم فلأمْلأنّ جهنم بأهل الضلال من الجِنَّة والناس أجمعين، فدخل هذا في قوله (تعالى): {حَقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجِنَّة والنَّاس أجْمَعين} بما يشبه دلالة الاقتضاء، وقد أومأ إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم
«إن الله خلق الجنة وخَلَق لها مِلأْها وخلق النار وخلق لها مِلأْها». وإنما اختير الاقتصار في المنطوق به الدال على المحذوف على شق مصير أهل الضلال لأنه الأنسب بسياق الاعتراض إثْر كلام أهل الضلالة في يوم الجزاء، ولأنه أظهر في تعلق مضمون جملة الاعتراض بمضمون اقتراحهم، أي لو كان إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا الصالحات مقتضى لحكمتنا لكنا جبلناهم على الهدى في حياتهم الدنيا فكانوا يأتون الصالحات بالقَسر والإلجاء. فالمراد {القول} ما أوعد الله به أهل الشرك والضلال.
و {الجِنَّة: الجِنّ وهم الشياطين.
وجعل جمهور المفسرين قوله ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هُدَاها} إلى آخره جواباً موجهاً من قبل الله تعالى إلى المجرمين عن قولهم {ربّنا أبصرنا} [السجدة: 12] الخ.
ووجود الواو في أول هذا الكلام ينادي على أنه ليس جواباً لقول المشركين يومئذ فهم أقل من أن يجعلوا أهلاً لتلقي هذه الحكمة بل حقهم الإعراض عن جوابهم كما جاء في آية سورة المؤمنين (106 108): {قالوا ربنا غَلَبَتْ علينا شقوتُنا وكنّا قوماً ضالّين ربنا أخرجنا منها فإنْ عدنا فإنّا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تُكَلّمون} ولأنه لا يلاقي سؤالهم لأنهم سألوا الرجوع ليعملوا صالحاً ولم يكن كلامهم اعتذاراً عن ضلالهم بأن الله لم يؤتهم الهدى في الحياة الدنيا، وإنما هذا بيان من الله ساقه للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ليحيطوا علماً بدقائق الحكمة الربانية.
وعدل عن الإضافة حَقَّ القولُ مِني} فلم يقل: حقَّ قولي، لأنه أريد الإشارة إلى قول معهود وهو ما في سورة ص (85): {لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} أي حق القول المعهود. واجتلبت {مِن} الابتدائية لتعظيم شأن هذا القول بأنه من الله. وعدل عن ضمير العظمة إلى ضمير النفس لإفادة الانفراد بالتصرف ولأنه الأصل، مع ما في هذا الاختلاف من التفنن.
{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}
هذا جواب عن قولهم {ربنا أبصرْنَا وسمِعنا} [السجدة: 12] الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذّبون به، المؤذِن به قولهم {ربّنا أبصَرْنا وسمعنا.} فالفاء لتفريع جواب عن إقرارهم إلزاماً لهم بموجب إقرارهم، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار.
ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالى: {قال فاخرج منها فإنك رجيم} [الحجر: 34] وقوله {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغْوِينَّهم أجمعين} [ص: 79 82]، وقوله: {فالحقَّ والحقَّ أقول لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 84 85]؛ فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره. وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالى: {قال ومن ذريتي} في سورة (البقرة 124) واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالى: {ليَذوق وبالَ أمرِه} في سورة العقود (95). ومفعول (ذوقوا)} محذوف دل عليه السياق، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا.
والنسيان الأول: الإهمال والإضاعة، وتقدم في قوله تعالى {فنسي} في سورة طه (88).
والباء للسببية، أي: بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم. والنسيان في قوله {نسِيناكم} مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
واللقاء: حقيقته العثور على ذات، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة، ومنه: لقاء المرء ضالة أو نحوها. وقد جاء منه: شيء لَقىً، أي مطروح. ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عُثِر عليه.
وإضافة (يوم) إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جُعل كأنه أشد اختصاصاً بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل:
وأيامنا مشهورة في عدوِّنا *** لها غررٌ معلومة وحجول
ويقولون: أيامُ بني فلان على بني فلان، أي أيام انتصارهم. وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من المِلك، قال عمرو بن كلثوم:
وأيَّام لنا غُرَ طوالٍ ***
وقال تعالى: {ذلك اليوم الحق} [النبأ: 39]، أي: يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصراً مؤبَّداً، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل.
والإشارة ب {هذا} إلى اليوم تهويلاً له.
وجملة {إنَّا نسِيناكم} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله {فذوقوا بما نسِيتم لقاء يومكم هذا} تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المَذوق وهل لهم منه مخلص وهل يُجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق، فأعلموا بأن الله مُهمل شأنهم، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أُذيقوه.
وقد تقدم في سورة طه (126) قوله: {قال كذلك أتتك آياتنا فَنسِيتَها وكذلك اليوم تُنْسَى} فشبه بالنسيان إظهاراً للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المُجازَى عنه. وقد حُقّق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد. وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع.
وقوله وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} عطف على {فذوقوا بما نَسِيتُم}، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلِّقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى؛ فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالَهم التدبر في حلول هذا اليوم، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك.
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
استئناف ناشئ عن قوله {أم يقولون افتراه الآية} [السجدة: 3]، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله، بما أفادت اسمية جملة {بل هم بلقاء ربهم كافرون} [السجدة: 10] من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذُكرت أوصافهم هنا.
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله {الذين إذا ذُكِّروا بها} بتشديد الكاف، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامِعهم.
ومفاد {إنما} قصر إضافي، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيراً بما سبق لهم سماعه لم يتريّثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا {أإذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض إنَّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر.
وأوثرت صيغة المضارع في {إنما يؤمن} لما تشعر به من أنهم يتجدّدون في الإيمان ويزدادون يقيناً وقتاً فوقتاً، كما تقدم في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} في سورة البقرة (15)، وإلاَّ فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثرُ بحكاية حالهم في الكلام المتداوَل لولا هذه الخصوصية، ولهذا عُرِّفوا بالموصولية والصلةِ الدالّ معناها على أنهم راسخون في الإيمان، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يُفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيراً {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55]. وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عُرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا، وليست تقتضي أن من لم يسْجدوا عند سماع الآيات ولم يسبّحوا بحمد ربّهم من المؤمنين ليسوا ممّن يؤمنون، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد: هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا. جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنَّكاً، أي عالماً يجعل شُقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث. قال مالك رحمه الله: قلت لأُمي: أذهبُ فأكتبُ العلم، فقالت: تعالَ فالبسْ ثياب العلم. فألبستني ثياباً مشمّرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها.
والخرور: الهُوِيّ من علوّ إلى سفل.
والسجود: وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.
وانتصب {سُجداً} على الحال المبينة للقصد من {خرُّوا،} أي: سجداً لله وشكراً له على ما حبَاهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله {وسبَّحوا بحمد ربهم.
} والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء (107): {إن الذين أوتوا العلم مِن قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً} ودلّت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما. وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك، أي دون المشركين الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} [الفرقان: 21].
وقوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذُكِّروا بآيات الله سجدوا، فالقارئ يقتدي بهم.
وجملة {تتجافى جنوبهم} حال من الموصول، أي: الذين إذا ذُكِّروا بها خرّوا ومَن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أو استئناف. وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم.
والتجافي: التباعد والمتاركة. والمعنى: أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة، أي: يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله؛ وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي.
و {المضاجع: الفرش جمع مضجع، وهو مكان الضجع، أي: الاستلقاء للراحة والنوم. وأل فيه عوض عن المضاف إليه، أي عن مضاجعهم كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41]. وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام. وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد أصحاب هذا الشأن:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلتْ بالمشركين المضاجع
وجملة {يدعون ربهم} يجوز أن تكون حالاً من ضمير {جنوبهم} والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة {تتجافى جنوبهم}.
وانتصب خوفاً وطمعاً} على الحال بتأويل خائفين وطامعين، أي: من غضبه وطمعاً في رضاه وثوابه، أي هاتان صفتان لهم. ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته.
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لَذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال {ومما رزقناهم ينفقون} أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم. ثم عظم الله جزاءهم إذ قال: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، أي: لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لاَ عينٌ رأت ولا أذن سمعتْ ولا خَطر على قلب بشر» فدلّ على أن المراد ب {نفس} في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية.
فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركِّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسمُوعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أعدّ لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «ولا خطر على قلب بشر» وهذا كقولهم في تعظيم شيء: هذا لا يعلمه إلا الله. قال الشاعر:
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا *** عشية آناء الديار وشامها
وعُبر عن تلك النعم ب {مَا أُخفِيَ} لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود.
وقرة الأعين: كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى: {وقرِّي عيناً} في سورة مريم (26).
وقرأ الجمهور أُخفيَ} بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول. وقرأ حمزة ويعقوب {أُخْفِي} بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة، و{جزاء} منصوب على الحال من {ما أخفي لهم} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغرّ رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال: «قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: لقد سألتَ عن عظيم وإنه ليسير على من يَسَّره الله عليه: تَعبُدُ الله لا تشركُ به شيئاً وتقيمُ الصلاة وتؤتي الزكاة وتصومُ رمضان وتحجُّ البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير: الصومُ جُنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يُطفئ الماء النارَ وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون...}» الحديث.
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
فُرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البَون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكانَ الإنكار موجهاً إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني. والكاف للتشبيه في الجزاء.
وجملة {لا يستوون} عطف بيان للمقصود من الاستفهام.
والفاسق هنا هو: مَن ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده {وقيل لهم ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذبون.} فالمراد: الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن. ثم أكد كِلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة، فجملةُ {فلهم جنات المأوى} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فلا تعلم نفس ما أخْفِي لهم} [السجدة: 17] إلى آخرها.
وجملة {فمأواهم النار} إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إلى بما كنتم تعملون} [السجدة: 14].
و {مَن} الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله {أمَّا الذينَ آمنوا} الخ. و{أما الذين فسقوا}. فليست الآية نازلة في معيَّن كما قيل.
و {المأوى: المكان الذي يُؤْوَى إليه، أي يُرجع إليه.
والتعريف باللام فيه للعهد، أي مأوى المؤمنين، قال تعالى: {عندها جنة المأوى} [النجم: 15]. ولك أن تجعل اللام عوضاً عن المضاف إليه، أي مأواهم بقرينة قوله في مقابلح {فمأواهم النار.} وإضافة {جنات} إلى {المأوى} من إضافة الموصوف إلى الصفة لقصد التخفيف وهي واقعة في الكلام وإن اختلف البصريون والكوفيون في تأويلها خلافاً لا طائل تحته، وذلك مثل قولهم: مسجد الجامع، وقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي} [القصص: 44]، وقولهم: عِشاء الآخرةِ. والمعنى: فلهم الجنات المأوى لهم، أي الموعودون بها.
وانتصب {نزلاً} على الحال من {جنات المأوى.} والنُزُل بضمتين مشتق من النزول فيطلق على ما يُعد للنزيل من العطاء والقِرى قال في «الكشاف»: النزل: عطاء النازل، ثم صار عاماً، أي: يطلق على العطاء ولو بدون ضيافة مجازاً مرسلاً. قلت: ويطلق على محل نزول الضيف ولأجل هذه الإطلاقات يختلف المفسرون في المراد منه في بعض الآيات رعياً لما يناسب سياق الكلام. وفسره الزجاج في هذه الآية ونحوها بالمنزل، وفسره في قوله تعالى: {أذلك خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم} [الصافات: 62] فقال: «يقول أذلك خير في باب الأنزال التي تمكن معها الإقامة أم نُزل أهل النار» وقد تقدم في آخر سورة آل عمران (163)، والباء في {بما كانوا يعملون للسببية.
وقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} تقدم نظيره في سورة الحج (22).
ويتجه في هذه الآية أن يقال: لماذا أُظهر اسم النار في قوله ذُوقُوا عذاب النار} مع أن اسم النار تقدم في قوله {فمأواهم النار} فكان مقتضى الظاهر الإضمار بأن يقال: وقيل لهم ذوقوا عذابها. وهذا السؤال أورده ابن الحاجب في «أماليه» وأجاب بوجهين: أحدهما أن سياق الآية التهديد وفي إظهار لفظ النار من التخويف ما ليس في الإضمار، الثاني: أن الجملة حكاية لما يقال لهم يومئذ فناسب أن يحكى كما قيل لهم وليس فيما يقال لهم تقدُّم ذكر النار.
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
إخبار بأن لهم عذاباً آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا. والمقصود من هذا: التعريضُ بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم. وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما مُحنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل.
وجملة {لعلهم يرجعون} استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان. والمراد: رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم. وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة، أي لعل جماعتهم ترجع. وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجوّ مخصوصين من عموم {الذين فسقوا} في قوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها} الآية [السجدة: 20]، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
عطف على جملة {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكِّروا بها} [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: {أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] ليسوا كأولئك فانتُقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلماً لأنهم يُذَكِّرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويَلْغون فيها، فآيات الله مراد بها القرآن.
وجيء في عطف جملة {أعرضَ} بحرف {ثم} لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابنُ حرة *** يرى غمراتتِ الموت ثُم يزورها
أي: عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.
و {مَن} للاستفهام الإنكاري كقوله {ومن أظلم ممن مَنَع مساجدَ الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114] أي: لا أظلم منه، أي لا أحَد أظلم منه لأنه ظلَم نفسه بحرمانها من التأمل فيما فيه نفعه، وظلَم الآيات بتعطيل نفعها في بعضضِ مَن أريد انتفاعهم بها، وظَلَم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظَلَم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.
وجملة {إنا من المجرمين منتقمون} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تفظيع ظلم الذي ذُكِّر بآيات ربِّه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم. والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مَع أنهم ظالمون، وقد يقال: إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخولهم في الانتقام من المجرمين أحروِيّاً وتصير جملة {إنا من المجرمين منتقمون} تذييلاً.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)}
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، استطرد إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل. فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله {فيما كانوا فيه يختلفون} [السجدة: 25] معترضات. وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع {فلا تكن في مرية من لقائه} على الخبر الذي قبله.
وأريد بقوله {ءاتينا موسى الكتاب} أرسلنا موسى، فذِكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر {الكتاب} للتنويه بشأن موسى وليس داخلاً في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذِكر {الكتاب.
وجملة فلا تكن في مرية من لقائه} معترضة وهو اعتراض بالفاء، ومثله وارد كثيراً في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} الآية في سورة النساء (135). ويأتي عند قوله تعالى: {هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} في سورة ص (57).
والمرية: الشك والتردد. وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة، أي لا يكن الشك محيطاً بك ومتمكناً منك، أي لا تكن ممترياً في أنك مثله سينالك ما نالَه من قومه.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} [هود: 109]، وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل.
واللقاء: اسم مصدر لَقِيَ وهو الغالب في الاستعمال دون لِقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء: مصادفة فاعل هذا الفعل مفعولَه، ويطلق مجازاً على الإصابة كما يقال: لقيت عناء، ولقيت عَرق القِربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جارياً على التشبيه البليغ كقوله: هو البدر، أي: من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى: {ولقد استُهْزِئ برُسُل من قبلك} [الأنعام: 10] {فصبَروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا}
[الأنعام: 34]، وقوله: {وإن كادوا لَيَسْتَفِزُّونك من الأرض لِيُخرِجُوك منها وإذاً لا يلبثون خَلْفَك إلا قليلاً سُنَّةَ من قد أرسلنا من قبلك من رُسُلِنا} [الإسراء: 76، 77]. هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.
ويجوز أن يكون ضمير {لقائه} عائداً إلى موسى على معنى: من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه، وتأييده باهتداء بني إسرائيل، فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين. ويجوز أن يكون ضمير {لقائه} عائداً إلى الكتاب كما في «الكشاف» لكن على أن يكون المعنى: فلا تكن في شك من لقاء الكتاب، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقِّي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى. فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله {فلا تكن} لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد. وهذا كقوله تعالى: {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء قل مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} [الأنعام: 91]. فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن. وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بيِّن، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعَده الله به وحقَّقه له في هذه الآية قبل وقوعه. قال ابن عطية: وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة
وضمير النصب في {وجعلناه هدى} يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على {ءاتينا موسى الكتاب} وما بينهما اعتراض. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)}
أشير إلى ما مَنّ الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أيمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله {بآياتنا يُوقِنُونَ} دلائل صدق موسى عليه السلام، فالمعنى: أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا.
وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها مُعجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر. فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي: فوضع اليهودي يده على آية الرجم، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الراوي آية مشاكلة لكلام القرآن. وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أيمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم. وتقديم {بآياتنا} على {يوقنون} للاهتمام بالآيات.
وقرأ الجمهور {لَمَّا صَبَروا} بتشديد الميم وهي {لمّا التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية، أي: جعلناهم أيمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و(ما) المصدرية، أي جعلناهم أيمة لأجل صبرهم وإيقانهم.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}
استئناف بياني لأن قوله تعالى {وجعلنا منهم أيمة يَهْدُون بأمْرنا} [السجدة: 24] يثير سؤالاً في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهَد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلّين بما يناسب ما قامت به أيمتهم من الهداية فيودّ أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليماً للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
والخطاب للنبيء والمراد أمتُه تحذيراً من ذلك وإيماءً إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.
والفصل: القضاء والحكم، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من الهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جارٍ في مهيع أصل الشريعة؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].
وليس منه اختلاف أيمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنّف أحداً، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنّف بعضهم بعضاً. ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافاً بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقاً من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسَنَّته أنبياؤهم، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم.
وضمير {هو} في قوله {هو يفصل} ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعاً منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)}
عطف على جملة {ومَن أظلم ممّن ذُكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، ولما كان ذلك التذكير متصلاً كقوله {وقالوا أإذا ضَللنا إنّا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون} [السجدة: 10] كان الهدي، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملاً للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله {كم أهلكنا من قبلهم من القرون} معنين: أحدهما: إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه. وثانيهما: إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاستفهام إنكاري، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصَارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه. فضمير {لهم} عائد إلى المجرمين أو إلى من ذُكِّر بآيات ربه. و{يَهْدِ} من الهداية وهي الدلالة والإرشاد، يقال: هداه إلى كذا.
وضمن فعل {يَهْدِ} معنى يبيّن، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {أو لم يَهْدِ للذين يرثون الأرض} في سورة [الأعراف: 100]. واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيداً لقوله في آخرها {أفلا يسمعون}، ولأن كثرة ذلك المستفادة من {كَم} الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات.
وفاعل {يَهْدِ} ما دلت عليه {كم} الخبرية من معنى الكثرة. ولا يجوز عند الجمهور جعل كم فاعل يَهْدِ} لأن {كم} الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه.
ويجوز جعل كم فاعلاً عند من لم يشترطوا أن تكون كم الخبرية في صدر الكلام. وجوز في الكشاف} أن يكون الفاعل جملة {كم أهلكنا} على معنى الحكاية لهذا القول، كما يقال: تَعصمُ (لا إله إلا الله) الدماءَ والأموالَ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالاً عليه المقام، أي ألم يهدِ الله لهم فإن الله بَين لهم ذلك وذكّرهم بمصَارع المكذبين، وتكون جملة {كم أهلكنا} على هذا استئنافاً، وتقدم {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في أول الأنعام (6).
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها كم الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة.
{ويمشون في مساكنهم} حال من فاعل {أو لم يروا} [السجدة: 27] والمعنى: أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حِجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدةُ مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى: {وما نحن بِمَسْبُوقِين على أن نبدل أمثالكم ونُنْشِئَكم فيما لا تعلمون} [الواقعة: 60، 61]، ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة.
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشدّ دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه {أفلا يسمعون} استفهاماً تقريرياً مشوباً بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو {يسمعون} مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهَم عنه أوقعَ بخلاف ما بعده من قوله {أفلا يبصرون} [السجدة: 27]. وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي، وتقدم عند قوله تعالى {ألم يأتكم رسل منكم} في سورة الأنعام (130)، وقوله: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} في سورة الأعراف (148).
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}
(أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [27]) عطف على (أو لم يهد لهم). ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة. واختير المضارع في قوله (نسوق) لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة
والسوق: إزجاء الماشي من ورائه
والماء: ماء المزن وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة. والتعريف في (الأرض) تعريف الجنس
والجرز: اسم للأرض التي انقطع نبتها وهو مشتق من الجرز وهو: انقطاع النبت والحشيش إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي والجرز: القطع. وسمي السيف القاطع جرازا قال الراجز يصف أسنان ناقة:
تنحي على الشوك جرازا مقضبا *** والهرم تذريه إذدراء عجبا
فالأرض الجرز: التي انقطع نبتها. ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز. والزرع: ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه ثم ذكر أكل الأنعام يدل على تقدير: وكلأ. ففي الكلام اكتفاء. والتقدير: ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. والمقصود: الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال؛ فوجه الأول. وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله (تأكل منه أنعامهم وأنفسهم)
ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة (أفلا يبصرون). وتقدم بيان مثله آنفا في قوله (أفلا يسمعون). ونيط الحكم بالإبصار هنا دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
يجوز أن يكون عطفاً على جملة {ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، أي: أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها. ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل. ويجوز أن يعطف على جملة {وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10].
والمعنى: أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذّبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى: {ولنُذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} [السجدة: 21].
و {الفتح: النصر والقضاء. والمراد به: نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدوّ نصر لضِده وكان المسلمون يتحدّون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاماً مستعملاً في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه. وحكاية قولهم بصيغة المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه. والمعنى: إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته. وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالاً لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.
واسم الإشارة في {هذا الفتح} مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينهِ مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموتُ لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قَدْ قضيت قضاءها
إنباء بقلة اكتراثه بالموت ومنه قوله تعالى حكاية عنهم: {أهذا الذي يذكر ءالهتكم} [الأنبياء: 36] فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يومَ الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أملَ الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظاراً لتدارك ما فاتهم، أي إفادتُهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ {ربنا أبصَرْنا وسمِعْنا فارجعنا نعملْ صالحاً إنّا موقنون} [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به {لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158]. ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.
وإظهار وصف {الذين كفروا في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون متى هذا الفتح} لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم.
ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييساً من إيمان المجادلين منهم المتصدّين للتمويه على دهمائهم. وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتياً لا إعراض مستمر، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.
والانتظار: الترقب. وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع: أنظره، أي أراه فانتظر، أي: تكلف أن ينظُر. وحذف مفعول {انتظر} للتهويل، أي: انتظر أياماً يكون لك فيها النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إنْ كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.
وجملة {إنهم منتظرون} تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم. ومفعول {منتظرون} محذوف دل عليه السياق، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وقال: {ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء} [التوبة: 98] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدأوا بالظلم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire