samedi 5 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الصافات
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏
القسم لتأكيد الخبر مَزيدَ تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية، وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختَلف الأصناف، وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏فالتَّالِيَاتِ ذِكْراً‏}‏‏.‏
وعطف «الصِّفات» بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصللِ بعضها ببعض كقول امرئ القيس‏:‏
بِسِقط اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَل *** فتُوضِحَ فالمقرةِ
البيت‏.‏
وكقول لبيد‏:‏
بمشارق الجبليين أو بمحجر *** فتضمنتها فَردَه فمرخاها
فصدائق إن أيْمَنت فمظنة ***
البيت‏.‏
ويعطفون بها صفاتتِ موصوف واحد كقول ابن زيَّابة‏:‏
يا لهف زيَّابة للحارث ال *** صابح فالغَانم فالآيب
يريد صفات للحارث، ووصفه بها تهكماً به‏.‏
فعن جماعة من السلف‏:‏ أن هذه الصفات للملائكة‏.‏ وعن قتادة أن «التاليات ذكراً» الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين‏.‏ وقسَمُ الله بمخلوقاته يُومئ إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دَالّ على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرّفاً عند الله تعالى‏.‏
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرَائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحادٌ منهم‏.‏
و ‏{‏الصافات‏}‏ جمع‏:‏ صافة، وهي الطائفة المصطفّ بعضها مع بعض‏.‏ يقال‏:‏ صف الأمير الجيش، متعدياً إذا جعله صفاً واحداً أو صفوفاً، فاصطفوا‏.‏ ويقال‏:‏ فَصَفُّوا، أي صاروا مصطفِّين، فهو قاصر‏.‏ وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج‏:‏
قد جَبر الدينَ الإِله فجَبَر ***
وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا اسم اللَّه عليها صَوافّ‏}‏ في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 41‏]‏‏.‏
ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفّة صفوفاً، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب‏.‏ ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم من أمر الله تعالى قال تعالى، حكاية عنهم في هذه السورة ‏{‏وإنَّا لنحن الصَّافونَ وإنَّا لنحنُ المُسَبِحُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 165، 166‏]‏‏.‏
والزجرُ‏:‏ الحث في نهي أو أمر بحيث لا يُترك للمأمور تباطؤ في الإِتيان بالمطلوب، والمراد به‏:‏ تسخير الملائكة المخلوقاتتِ التي أمرهم الله بتسخيرها خلقاً أو فعلاً، كتكوين العناصر، وتصريف الرياح، وإزجاء السحاب إلى الآفاق‏.‏
و«التاليات ذكراً» المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضاً أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وبيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الذي قال الحق ‏"‏
والمراد ب«التاليات» ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقناً من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة‏.‏ والتلاوة‏:‏ القراءة، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته في‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏
والذكر ما يتذكر به مِن القرآن ونحوه، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏
‏(‏وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيباً في الفضل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصَّف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة والوسيلة دون المتوسَّل إليه، وأن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحَى به للرسل، أو بما تشتمل عليه التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها‏.‏
وقد جعل الله الملائكة قِسْماً وسَطاً من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثر‏.‏ فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه، وأدناها المتأثر الذي لا يُؤثر وهو سائر الأجسام، والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجرَّدات من الملائكة والأرواح فهي قابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإِلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام‏.‏ وجِهةُ قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايِرةٌ لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها، فقوله‏:‏ فالزاجِراتتِ زَجْراً‏}‏ إشارة إلى تأثيرها، وقوله‏:‏ ‏{‏فالتالِياتتِ ذِكراً‏}‏ إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبّد بالعمل به‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ إلهكم لَواحِدٌ‏}‏ جواب القسم ومناط التأكيد صفة «واحد» لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلها ولكنهم جعلوه عدة آلهة فأبطل اعتقادهم بإثبات أنه واحد غير متعدد، وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل بأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الربّ العظيم ولكنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الإله فإذا بطل التعدد تعيّن انحصار الإلهية في ربّ واحد هو الله تعالى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏‏}‏
أتبع تأكيد الإِخبار عن وحدانية الله تعالى بالاستدلال على تحقيق ذلك الإِخبار لأن القسم لتأكيده لا يُقنع المخاطبين لأنهم مكذِّبون مَن بلّغ إليهم القَسَم، فالجملة استئناف بياني لبيان الإله الواحد مع إدماج الاستدلال على تعيينه بذكر ما هو من خصائصه المقتضي تفرده بالإلهية‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ السمواتت والأرض‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ هو ربّ السماوات، أي إلهكم الواحد هو الذي تعرفونه بأنه ربّ السماوات والأرض إلى آخره‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّماواتتِ والأرضِ‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف جرَى حذفه على طريقة الاستعمال في حذف المسند إليه من الكلام الوارد بعد تقدم حديث عنه كما نبّه عليه صاحب «المفتاح»‏.‏
فإن المشركين مع غلوّهم في الشرك لم يتجرَّأوا على ادعاء الخالقية لأصنامهم ولا التصرف في العوالم العلوية، وكيف يبلغون إليها وهم لَقىً على وجه الأرض فكان تفرد الله بالخالقية أفحمَ حجةٍ عليهم في بطلان إلهية الأصنام‏.‏ وشمل ‏{‏السَّماواتتِ والأرضضِ وما بينهُمَا‏}‏ جميع العوالم المشهودة للناس بأجرامها وسكّانها والموجودات فيها‏.‏
وتخصيص ‏{‏المَشارِقِ‏}‏ بالذكر من بين ما بين السماوات والأرض لأنها أحوال مشهودة كل يوم‏.‏
وجمعْ ‏{‏المَشارِقِ‏}‏ باعتبار اختلاف مطلع الشمس في أيام نصف سنة دورتها وهي السنة الشمسية وهي مائة وثمانون شرقاً باعتبار أطوللِ نهار في السنة الشمسية وأقصرَه مكررة مرتين في السنة ابتداء من الرجوع الشّتوي إلى الرجوع الخَريفي، وهي مطالع متقاربة ليست متّحدة، فإن المشرق اسم لمكان شروق الشمس وهو ظهورها فإذا راعَوا الجهة دون الفصْل قالوا‏:‏ المشرق، بالإِفراد، وإذا روعي الفصلان الشتاء والصيف قيل‏:‏ رب المشرقين، على أن جمع المشارق قد يكون بمراعاة اختلاف المطالع في مبادئ الفصول الأربعة‏.‏ والآية صالحة للاعتبارين ليعتبر كل فريق من الناس بها على حسب مبالغ علمهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏
هذه الجملة تتنزل من جملة ‏{‏رَبُّ السماواتت والأرض وما بينهما‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 5‏]‏ منزلة الدليل على أنه رب السماوات‏.‏ واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأوْلى‏.‏ وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذّة للناظرين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏، ومنة على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظاً من تلقّي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العالم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإِسلام كما فتنوهم في الجاهلية، وليكون ذلك تشريفاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإِشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي، كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر‏.‏
و ‏{‏الكواكب‏}‏‏:‏ الكريات السماوية التي تلمع في الليل عَدا الشمس والقمر‏.‏ وتسمى النجوم، وهي أقسام‏:‏ منها العظيم، ومنها دونه، فمنها الكواكب السيارة، ومنها الثوابت، ومنها قِطع تدور حول الشمس‏.‏ وفي الكواكب حِكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء‏.‏ فإضافة ‏{‏زينة‏}‏ إلى ‏{‏الكواكِبِ‏}‏ إن جعلتَ ‏{‏زينة‏}‏ مصدراً بوزن فِعلة مثل نِسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله، أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول، أي بزينة الله الكواكب، أي جعلها زَيْناً‏.‏ وإن جعلتَ ‏{‏زينة‏}‏ اسماً لما يتزين به مثل قولنا‏:‏ لِيقة لما تُلاق به الدَّواة، فالإِضافة حقيقية على معنى «من» الابتدائية، أي زينة حاصلة من الكواكب‏.‏ وأَيًّا مَّا كان فإقحام لفظ ‏{‏زينة‏}‏ تأكيد، والباء للسببية، أي زيَّنا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل‏:‏ إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزييناً فكان ‏{‏بزِينةٍ الكواكب‏}‏ في قوّة‏:‏ بالكواكب تزيينا، فقوله‏:‏ ‏{‏بِزينَةٍ‏}‏ مصدر مؤكد لفعل ‏{‏زَيَّنَّا‏}‏ في المعنى ولكنْ حُوّل التعليق فجعل ‏{‏زينة‏}‏ هو المتعلق ب ‏{‏زَيَّنَّا‏}‏ ليفيد معنى التعليل ومعنى الإِضافة في تركيب واحد على طريقة الإِيجاز، لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل ‏{‏زيَّنَّا‏}‏ من غير حاجة إلى إعادة ‏{‏زينة‏}‏ لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد‏.‏
و ‏{‏الدنيا‏}‏‏:‏ أصله وصف هو مؤنث الأدنى، أي القربى‏.‏ والمراد‏:‏ قربها من الأرض، أي السماء الأولى من السماوات السبع‏.‏
ووصفها بالدنيا‏:‏ إمَّا لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات، والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة‏.‏ ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعّر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى‏.‏ ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا، ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات، والقرآن صالح لها، ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها‏.‏
والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإِسراء بالأولى‏.‏ وإمّا لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا‏.‏ ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلاً لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها‏.‏
والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب، وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا‏.‏ فالزينة متعلقة بالناس، والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا‏:‏ ازدان البحر بأضواء القمر‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بِزينَةِ الكواكِبِ‏}‏ بإضافة ‏{‏زينة‏}‏ إلى ‏{‏الكَواكِبِ‏.‏‏}‏ وقرأ حمزة ‏{‏بزينةٍ الكواكب‏}‏ بتنوين ‏{‏زينة‏}‏ وجر ‏{‏الكَواكِبِ‏}‏ على أن ‏{‏الكواكب‏}‏ بدل من ‏{‏زينة‏}‏‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين ‏{‏زينةٍ‏}‏ ونصب ‏{‏الكَواكِبَ‏}‏ على الاختصاص بتقدير‏:‏ أعني‏.‏
وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظاً من الشياطين عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏ وتقدم ذكر الكواكب في قوله‏:‏ ‏{‏رأى كوكباً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وانتصب حفظاً‏}‏ بالعطف على ‏{‏بِزِينَةٍ الكواكِبِ‏}‏ عطفاً على المعنى كما ذهب إليه في «الكشاف» وبَيَّنه ما بيَّناه آنفاً من أن قوله‏:‏ ‏{‏بِزِينَةٍ الكواكِبِ‏}‏ في قوة أن يقال‏:‏ بالكواكب زينةً، وعامله ‏{‏زَيَّنَّا‏.‏
والحفظ من الشياطين حكمة من حكم خلق الكواكب في علم الله تعالى لأن الكواكب خُلقت قبل استحقاق الشياطين الرجم فإن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أُطرد إبليس من عالم الملائكة فلم يحصل شرط اتحاد المفعول لأجْله مع عامله في الوقت، وأبو علي الفارسي لا يرى اشتراط ذلك‏.‏ ولعل الزمخشري يتابعه على ذلك حيث جعله مفعولاً لأجله وهو الحق لأنه قد يكون على اعتباره علّة مقدرة كما جوز في الحال أن تكون مقدرة‏.‏ ولك أن تجعل حفظاً‏}‏ منصوباً على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله فيكون في تقدير‏:‏ وحَفِظنا، عطفاً على ‏{‏زَيَّنَّا،‏}‏ أي حفظنا بالكواكب من كل شيطان مارد‏.‏ وهذا قول المبرد‏.‏ والمحفوظ هو السماء، أي وحفظناها بالكواكب من كل شيطان‏.‏
وليس الذي به الحفظ هو جميع الذي به التزيين بل العلة موزعة فالذي هو زينة مشاهَد بالأبصار، والذي هو حفظ هو المبين بقوله‏:‏ ‏{‏فأتْبعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏‏.‏
ومعنى كون الكواكب حفظاً من الشياطين أن من جملة الكواكب الشهبَ التي تُرجم بها الشياطين عند محاولتها استراق السمع فتفرّ الشياطين خشية أن تصيبها لأنها إذا أصابت أشكالها اخترقتها فتفككت فلعلها تزول أشكالها بذلك التفكك فتنعدم بذلك قوام ماهيتها أو تتفرق لحظة لم تلتئم بعد فتتألَّم من ذلك الخرق والالتئام فإن تلك الشهب التي تلوح للناظر قطعاً لامعة مثل النجوم جارية في السماء إنما هي أجسام معدنية تدور حول الشمس وعندما تقرب إلى الأرض تتغلب عليها جاذبية الأرض فتنزعها من جاذبية الشمس فتنقضّ بسرعة نحو مرْكز الأرض ولشدة سرعة انقضاضها تولد في الجو الكروي حرارة كافية لإِحراق الصغار منها وتَحمَى الكبار منها إلى درجة من الحرارة توجب لمعانها وتسقط حتى تقع على الأرض في البحر غالباً وربما وقعت على البَر، وقد يعثر عليها بعض الناس إذ يجدونها واقعة على الأرض قطعاً معدنية متفاوتة وربما أحرقت ما تصيبه من شجر أو منازل‏.‏
وقد أرخ نزول بعضها سنة ‏(‏616‏)‏ قبل ميلاد المسيح ببلاد الصين فكسر عدة مركبات وقتل رجالاً، وقد ذكرها العرب في شعرهم قبل الإِسلام قال دَوس بن حَجر يصف ثوراً وحشياً‏:‏
فانقضّ كالدَّريّ يتبعه *** نقع يثور تخالُه طُنبا
وقال بشر بن خازم أبي خازم أنشده الجاحظ في «الحيوان»‏:‏
والعَيْرُ يُرهقها الخَبَارَ وَجَحْشُها *** ينقض خلفهما انقاضا الكواكب
وفي سنة ‏(‏944‏)‏ سجل مرور كريات نارية في الجو أحرقت بيوتاً عدة‏.‏ وسقطت بالقطر التونسي مرتين أو ثلاث مرات، منها قطعة سقطت في أوائل هذا القرن وسط المملكة أحسب أنها بجهات تالة ورأيت شظيّة منها تشبه الحديد، والعامة يحسبونها صاعقة ويسمّون ذلك حجر الصاعقة، وتساقطها يقع في الليل والنهار ولكنا لا نشاهد مرورها في النهار لأن شعاع الشمس يحجبها عن الأنظار‏.‏
ومما علمت من تدحرج هذه الشهب من فلك الشمس إلى فلك الأرض تبين لك سبب كونها من السماء الدنيا وسبب اتصالها بالأجرام الشيطانية الصاعدة من الأرض تتطلب الاتصال بالسماوات‏.‏ وقد سُميت شهباً على التشبيه بقبس النار وهو الجمر، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو آتيكم بشهاب قبس‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 7‏]‏‏.‏
والمارد‏:‏ الخارج عن الطاعة الذي لا يلابس الطاعة ساعة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة مردوا على النفاق‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وفي وصفه بالمارد إشارة إلى أن ما يصيب إخوانه من الضرّ بالشهب لا يعظه عن تجديد محاولة الاستراق لما جبل عليه طبعه الشيطاني من المداومة على تلك السجايا الخبيثة كما لا ينزجر الفراش عن التهافت حول المصباح بما يصيب أطراف أجنحته من مسّ النار‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏
‏{‏لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ وجملة ‏{‏فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ قصد منه وصف قصة طرد الشياطين‏.‏
وعلى تقدير قوله‏:‏ ‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 7‏]‏ مصدراً نائباً مناب فعله يجوز جعل جملة ‏{‏لاَ يَسمعُونَ‏}‏ بياناً لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة ‏{‏وحِفْظَاً‏}‏ على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ الآية، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى‏.‏
وحرف ‏{‏إلى‏}‏ يشير إلى تضمين فعل ‏{‏يَسَّمَّعُونَ‏}‏ معنى ينتهون فيسمعون، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإِدراك، وسمعت المعدّى ب ‏{‏إلى‏}‏ يفيد الإصغاء مع الإدراك‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ بسكون السين وتخفيف الميم‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ‏{‏لا يسَّمَّعون‏}‏ بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله‏:‏ لا يَتسمعون فقلبت التاء سيناً توصلاً إلى الإِدغام، والتسمع‏:‏ تطلب السمع وتكلفه، فالمراد التسمع المباشر، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب، والقراءتان في معنى واحد‏.‏ وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح‏.‏
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئاً من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالماً كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ‏}‏، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك‏.‏
و ‏{‏الملأ‏}‏‏:‏ الجماعة أهل الشأن والقدر‏.‏ والمراد بهم هنا الملائكة‏.‏ ووصف ‏{‏المَلإِ‏}‏ ب ‏{‏الأعلى‏}‏ لتشريف الموصوف‏.‏
والقذف‏:‏ الرجم، والجانب‏:‏ الجهة، والدُّحور‏:‏ الطرد‏.‏ وانتصب على أنه مفعول مطلق ل ‏{‏يقذفون‏}‏‏.‏ وإسناد فعل ‏{‏يُقذفون‏}‏ للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8‏]‏‏.‏
والعذاب الواصب‏:‏ الدائم يقال‏:‏ وصب يصب وصوباً، إذا دام‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار ‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً‏}‏ في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته‏.‏
وجملة ولهم عذابٌ واصِبٌ‏}‏ معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة ‏{‏لا يسمعون إلى الملإ الأعلى‏}‏ وبين الاستثناء‏.‏
و ‏{‏من خطف الخطفة‏}‏ مستثنى من ضمير ‏{‏لا يسمعونَ‏}‏ فهو في محل رفع على البدلية منه‏.‏
والخطف‏:‏ ابتدار تناول شيء بسرعة، و‏{‏الخطفة‏}‏ المرة منه‏.‏ فهو مفعول مطلق ل ‏{‏خَطِفَ‏}‏ لبيان عدد مرات المصدر، أي خطفة واحدة، وهو هنا مستعار للإِسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وأتبعه بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية، وهي كهمزة أبان بمعنى بان‏.‏
والشهاب‏:‏ القبس والجمر من النار‏.‏ والمراد به هنا ما يُسمّى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فأتبعه شهاب مبين‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 18‏]‏‏.‏
‏(‏والثاقب‏:‏ الخارق، أي الذي يترك ثَقباً في الجسم الذي يصيبه، أي ثاقب له‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويَخْبِل، أي يفسُد قِوامه فتزول خصائصه، فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة اسْتراق السمع مرة أخرى، أي إلا من تمكّن من الدنوّ إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيُردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر، وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية‏.‏
وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 210، 211‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏
الفاء تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِنشاء، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظاماً ورفاتاً، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة‏؟‏
وضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فَاستفتِهِم‏}‏ عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات‏.‏ وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم، وهو سؤال محاجة وتغليط‏.‏
والاستفتاء‏:‏ طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو، ويقال‏:‏ الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء‏.‏ وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا‏.‏ وهي‏:‏
إمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 46‏]‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏الذي فيه تستفتيان‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 32‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء‏.‏
وهمزة‏:‏ أهُم أشدُّ خَلْقاً‏}‏ للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجئ المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام‏.‏ و‏{‏أشدّ‏}‏ بمعنى‏:‏ أصعب وأعسر‏.‏
و ‏{‏خَلْقاً‏}‏ تمييز، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه‏.‏
والمراد ب ‏{‏مَن خَلَقْنا‏}‏ ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفاً بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أشد خلقاً أم السماء‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏ ونحوه‏.‏
وجيء باسم العاقل وهو ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة تغليباً للعاقلين من المخلوقات‏.‏
وجملة ‏{‏إنا خلقناهم من طين لازب‏}‏ في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أهم أشد خلقاً أم من خلقنا‏}‏ من الإِقرار بأنهم أضعف خلقاً من خلق السماوات وعوالمها احتجاجاً عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفاً ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهم‏:‏ ‏{‏أإذَا مِتنا وكنا تُراباً وعِظاماً أءِنَّا لَمَبْعُوثونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16‏]‏‏.‏
والطينُ‏:‏ التراب المخلوط بالماء‏.‏
واللازب‏:‏ اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب «لازب» في قول النابغة‏:‏
ولا يحسبون الشر ضَربةَ لازب ***
وقد قيل‏:‏ إن باء لازب بدل من ميم لازم، والمعنى‏:‏ أنه طين عتيق صار حَمْأة‏.‏ وضمير ‏{‏إنَّا خلقناهُم‏}‏ عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب، فإذا كان أصلهم قد أنشئ من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏
‏{‏بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
‏{‏بَلْ‏}‏ للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ بفتح التاء للخطاب‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطببِ بقوله‏:‏ ‏{‏فَاستَفْتِهِم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو‏:‏ بِعت‏.‏ والمعنى‏:‏ اعجَبْ لهم‏.‏ ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملاً في حقيقته‏.‏ ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام، أي بل أعجبت‏.‏
والمعنى على الجميع‏:‏ أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏بَلْ عَجِبْتُ‏}‏ بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد‏:‏ أن الله أسند العجب إلى نفسه‏.‏ ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه، وهو استعظام الأمر المتعجب منه‏.‏ وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد ‏"‏ رواه النسائي بهذا اللفظ‏.‏ يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله‏.‏
وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلاً فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما «عجِب الله من فعالكما»‏.‏
ونزل فيه ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»‏.‏ وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله‏:‏ ‏{‏عَجِبْتُ‏}‏ ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث‏.‏ ويجوز أن يكون أطلق ‏{‏عجبت‏}‏ على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم أهم أشدُّ خلقاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم‏.‏ وأطلق على ذلك العقاب فعل ‏{‏عجبت‏}‏ كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قوله‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏
والواو في ‏{‏ويَسْخَرُونَ‏}‏ واو الحال، والجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏عَجِبْتَ‏}‏ أي كان أمرهم عجباً في حال استسخارهم بك في استفتائهم‏.‏ وجيء بالمضارع في ‏{‏يسخرون‏}‏ لإِفادة تجدد السخرية، وأنهم لا يرعوُون عنها‏.‏
والسخرية‏:‏ الاستهزاء، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحاق بالذين سخروا منهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏‏.‏
والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم، ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عناداً فأطلق ‏{‏لاَ يَذْكُرُونَ‏}‏ على أثر الفعل، أي لا يحصل فيهم أَثَر تذكُّر ما يذكَّرون به وإن كانوا قد ذَكروا ذلك‏.‏
ويجوز أن يراد لا يذكرون ما ذكروا به، أي لشدة إعْراضهم عن التأمل فيما ذكِّروا به لاستقرار ما ذُكّروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏
و ‏{‏وإذَا رَأوْا ءَايَةً‏}‏ أي خارق عادة أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالاً على صدقه لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في هذا العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله‏:‏ صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني‏.‏ وقد رأوا انشقاق القمر، فقالوا‏:‏ هذا سحر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشقّ القمر وإن يروا آية يُعرِضوا ويقولوا سحر مستمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
و ‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاستمسِك بالذي أوحي إليك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 43‏]‏‏.‏
فالسخرية المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏ويسخرون‏}‏ سخرية من محاجّة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالأدلة‏.‏ والسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات، أي يزيدون في السخرية بمن ظنّ منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم، ألا ترى أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏
‏{‏وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فاستفتهم أهم أشد خلقاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ الآية‏.‏ والإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ مبينٌ‏}‏ إلى مضمون قوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم أهم أشد خلقاً‏}‏ وهو إعادة الخلق عند البعث، ويبينه قوله‏:‏ ‏{‏أءِذَا مِتْنا وكنا تراباً وعِظاماً إنا لمبْعُوثون‏}‏، أي وقالوا في رد الدليل الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏أهُم أشد خلقاً أم مَّنْ خلقنا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ أي أجابوا بأن ادعاء إعادة الحياة بعد البِلَى كلام سحر مبين، أي كلام لا يفهم قصد به سحر السامع‏.‏ هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيراً يلتئم به نظمها خلافاً لما درج عليه المفسرون‏.‏
وقرأ نافع وحده ‏{‏إنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ بهمزة واحدة هي همزة ‏{‏إنْ‏}‏ باعتبار أنه جواب ‏{‏إذا‏}‏ الواقعة في حيّز الاستفهام فهو من حيز الاستفهام‏.‏ وقرأ غير نافع ‏{‏أَإِنا‏}‏ بهمزتين‏:‏ إحداهما همزة الاستفهام مؤكدة للهمزة الداخلة على ‏{‏إذا‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أوْ ءَاباؤُنَا‏}‏ قرأه قالون عن نافع وابن عامر وأبو جعفر بسكون واو ‏{‏أوْ على أن الهمزة مع الواو حرف واحد هو أو‏}‏ العاطفة المفيدة للتقسيم هنا ووجه العطف ب ‏{‏أو‏}‏ هو جعلهم الآباء الأولين قسماً آخر فكان عطفه ارتقاء في إظهار استحالة إعادة هذا القسم لأن آباءهم طالت عصور فنائهم فكانت إعادة حياتهم أوغل في الاستحالة‏.‏ وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الواو واو العطف والهمزة همزة استفهام فهما حرفان‏.‏ وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف حسب الاستعمال الكثير‏.‏ والتقدير‏:‏ وأآباؤنا الأولون مثلنا‏.‏
وعلى كلتا القراءتين فرفعه بالعطف على محل اسم ‏{‏إنّ الذي كان مبتدأ قبل دخول إنّ، والغالب في العطف على اسم إن يرفع المعطوف اعتباراً بالمحل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اللَّه بريء من المشركين ورسولُه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ أو يجعل معطوفاً على الضمير المستتر في خبر ‏{‏إن وهو هنا مرفوع بالنيابة عن الفاعل ولا يضر الفصل بين المعطوف عليه الذي هو ضمير متصل وبين حرف العطف، أو بين المعطوف عليه والمعطوف بالهمزة المفضِي إلى إعمال ما قبل الهمزة فيما بعدها وذلك ينافي صدارة الاستفهام لأن صدارة الاستفهام بالنسبة إلى جملته فلا ينافيها عمل عامل من جملة قبله لأن الإِعمال اعتبار يعتبره المتكلم ويفهمه السامع فلا ينافي الترتيب اللفظي‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ أإذا متنا‏}‏ إنكاري كما تقدم فلذلك كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَعَمْ‏}‏ جواباً لقولهم ‏{‏أءِذَا مِتْنَا‏}‏ على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين‏:‏ أيبعثون‏؟‏ فقيل لهم‏:‏ نعم، تقريراً للبعث المستفهم عنه، أي نعم تبعثون‏.‏ وجيء ب ‏{‏قل‏}‏ غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏
و ‏{‏أنتم داخرون‏}‏ جملة في موضع الحال‏.‏ والداخر‏:‏ الصاغر الذليل، أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بترقب العقاب لا بعث كرامة‏.‏
وفُرّع على إثبات البعث الحاصل بقوله‏:‏ ‏{‏نَعَمْ‏}‏، أن بعثهم وشيك الحصول لا يقتضي معالجة ولا زمناً إن هي إلا إعادة تنتظر زجرة واحدة‏.‏
والزجرة‏:‏ الصيحة، وقد تقدم آنفاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالزاجرات زجراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 2‏]‏‏.‏
و ‏{‏واحِدةٌ‏}‏ تأكيد لما تفيده صيغة الفعلة من معنى المرة لدفع توهم أن يكون المراد من الصيحة الجنس دون الوجود لأن وزن الفعلة يجيء لمعنى المصدر دون المرة‏.‏ وضمير ‏{‏هِيَ‏}‏ ضمير القصة والشأن وهو لا معادَ لهُ إنما تفسره الجملة التي بعده‏.‏ وفُرّع عليه ‏{‏فإذا هم ينظرون‏}‏ ودل فاء التفريع على تعقيب المفاجأة، ودل حرف المفاجأة على سرعة حصول ذلك‏.‏ وقد تقدم ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وكُني عن الحياة الكاملة التي لا دهش يخالطها بالنظر في قوله‏:‏ ‏{‏يَنْظُرُونَ‏}‏ لأن النظر لا يكون إلا مع تمام الحياة‏.‏ وأوثر النظر من بين بقية الحواس لمزيد اختصاصه بالمقام وهو التعريض بما اعْتراهم من البهت لمشاهدة الحشر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون الواو للحال، أي قائلين ‏{‏ياويلنا‏}‏ أي يقول جميعهم‏:‏ يا ويلنا يقوله كل أحد عنه وعن أصحابه‏.‏ ويجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏يَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 19‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ونظروا وقالوا‏.‏
والويل‏:‏ سوء الحال‏.‏ وحرف النداء للاهتمام‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والإِشارة إلى اليوم المشاهد‏.‏ و‏{‏الدّين‏}‏‏:‏ الجزاء، وتقدم في سورة الفاتحة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون هذا كلاماً موجهاً إليهم من جانب الله تعالى جواباً عن قولهم‏:‏ ‏{‏ياوَيْلنا هذا يومُ الدينِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 20‏]‏، والخبر مستعمل في التعريض بالوعيد، ويجوز أن يكون من تمام قولهم، أي يقول بعضهم لبعض ‏{‏هذا يومُ الفَصْلِ‏}‏‏.‏
و ‏{‏الفصل‏}‏‏:‏ تمييز الحق من الباطل، والمراد به الحكم والقضاء، أي هذا يوم يفضي عليكم بما استحققتموه من العقاب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏
‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
تخلُّص من الإِنذار بحصول البعث إلى الإِخبار عما يحلّ بهم عقبه إذا ثبتوا على شركهم وإنكارهم البعث والجزاء‏.‏
و ‏{‏احْشُرُوا‏}‏ أمر، وهو يقتضي آمراً، أي ناطقاً به، فهذا مقول لقول محذوف لظهور أنه لا يصلح للتعلق بشيء مما سبقه، وحَذْفُ القول من حديث البحر، وظاهر أنه أمر من قبل الله تعالى للملائكة الموكّلين بالناس يوم الحساب‏.‏
والحشر‏:‏ جمع المتفرقين إلى مكان واحد‏.‏
و ‏{‏الذين ظلموا‏}‏‏:‏ المشركون ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏
والأزواج ظاهره أن المراد به حلائلهم وهو تفسير مجاهد والحسن‏.‏ وروي عن النعمان بن بشير يرويه عن عمر بن الخطاب وتأويله‏:‏ أنهن الأزواج الموافقات لهم في الإِشراك، أما من آمن فهن ناجيات من تبعات أزواجهن وهذا كذكر أزواج المؤمنين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلال‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏ فإن المراد أزواجهم المؤمنات فأطلق حملاً على المقيّد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23‏]‏
وذكر الأزواج إبلاغ في الوعيد والإِنذار لئلا يحسبوا أن النساء المشركات لا تبعة عليهن‏.‏ وذلك مثل تخصيصهن بالذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ الأزواج‏:‏ الأصناف، أي أشياعهم في الشرك وفروعه قاله قتادة وهو رواية عن عمر بن الخطاب وابن عباس‏.‏
وعن الضحاك‏:‏ الأزواج المقارنون لهم من الشياطين‏.‏
وضمير ‏{‏يَعْبُدُونَ‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين ظلموا وأزواجَهُم‏}‏‏.‏ ومَا صدَقُ ‏{‏ما‏}‏ غير العقلاء، فأما العقلاء فلا تزِرُ وازرة وزر أخرى‏.‏
والضمير المنصوب في ‏{‏فَاهْدُوهُم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله،‏}‏ أي الأصنام‏.‏ وعطف ‏{‏فَاهدُوهُم‏}‏ بفاء التعقيب إشارة إلى سرعة الأمر بهم إلى النار عقب ذلك الحشر فالأمر بالأصالة في القرآن‏.‏
والهداية والهَدي‏:‏ الدلالة على الطريق لمن لا يعرفه، فهي إرشاد إلى مرغوب وقد غلبت في ذلك، لأن كون المهديّ راغباً في معرفة الطريق من لوازم فعل الهداية ولذلك تقابل بالضلالة وهي الحيرة في الطريق، فذكر ‏{‏اهدوهم‏}‏ هنا تهكّم بالمشركين، كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
قريناكم فعجلنا قراكم *** قُبيل الصبح مِرادة طَحونا
والصراط‏:‏ الطريق، أي طريق جهنم‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُم‏}‏ أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته، أي احبسوهم عن السير قَليلاً ليُسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تناصرون‏}‏، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه، وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين‏.‏
فالاستفهام في ‏{‏ما لكم لا تناصرونَ‏}‏ مستعمل في التعجيز مع التنبيه على الخطأ الذي كانوا فيه في الحياة الدنيا‏.‏ ‏[‏
وجملة ‏{‏ما لكم لا تناصرون‏}‏ مبيّنة لإبهام ‏{‏مَسْؤُولُونَ‏}‏ وهو استفهام مستعمل في التعجيب للتذكير بما يسوءهم، فظهر أن السؤال ليس على حقيقته وإنما أريد به لازمه وهو التعجيب، والمعنى‏:‏ أيّ شيء اختص بكم، ف ‏{‏ما الاستفهامية مبتدأ ولكم‏}‏ خبر عنه‏.‏
وجملة ‏{‏لا تَنَاصَرُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏لكم‏}‏ وهي مناط الاستفهام، أي أن هذه الحالة تستوجب التعجب من عدم تناصركم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لاَ تَنَاصَرُونَ‏}‏ بتخفيف المثناة الفوقية على أنه من حذف إحدى التاءين‏.‏ وقرأه البَزِّي عن ابن كثير وأبو جعفر بتشديد المثناة على إدغام إحدى التاءين في الأخرى‏.‏
والإِضراب المستفاد من ‏{‏بَل‏}‏ إضراب لإِبطال إمكان التناصر بينهم وليس ذلك مما يتوهمه السمع، فلذلك كان الإِضراب تأكيداً لما دل عليه الاستفهام من التعجيز‏.‏
والاستسلام‏:‏ الإِسلام القوي، أي إسلام النفس وترك المدافعة فهو مبالغة في أسلم‏.‏
وذكر ‏{‏اليَوْمَ‏}‏ لإِظهار النكاية بهم، أي زال عنهم ما كان لهم من تناصر وتطاول على المسلمين قبل اليوم، أي في الدنيا إذ كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏نحن جميع منتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 44‏]‏ وقد قالها أبو جهل يوم بدر، أي نحن جماعة لا تغلب فكان لذكر اليوم وقع بديع في هذا المقام‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 32‏]‏
‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏مستسلمون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 26‏]‏ أي استسلموا وعاد بعضهم على بعض باللائمة والمتسائلون‏:‏ المتقاولون وهم زعماء أهل الشرك ودهماؤهم كما تبينه حكاية تحاورهم من قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لنا عليكم من سُلطانٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأغْوَيْناكُم‏}‏ الخ‏.‏
وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي وهو مما سيقع في القيامة، تنبيهاً على تحقيق وقوعه لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم، وتحذيرِ دهمائهم من الاغترار بتغريرهم، مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا هم يَنظُرُون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 19‏]‏ الآية‏.‏
والإِقبال‏:‏ المجيء من جهة قُبُل الشيء، أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختّل الخائف‏.‏ واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر‏.‏
فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم، ودلالةُ التركيب عليه أن يكون الإِتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإِتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء، كقول النابغة‏:‏
آتاك امرؤ مسْتبطن لي بِغضَة ***
وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتَيْناكَ بالحَقّ‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 63- 64‏]‏‏.‏ أو أن يكون اليمين مراداً به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين‏.‏ وقد اشتقت من اليُمن وهو البركة، وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم‏.‏ وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمّن بالسانح، وهو الوارد من جهة يمين السائر، والتشاؤم، أي ترقب ورود الشر من جهة الشِمال‏.‏
وكان حقّ فعل ‏{‏تأتُوننا‏}‏ أن يعدّى إلى جهة اليمين بحرف «مِن» فلما عُدّي بحرف ‏{‏عن‏}‏ الذي هو للمجاوزة تعين تضمين ‏{‏تأتُونَنا‏}‏ معنى «تصدوننا» ليُلائم معنى المجاوزة، أي تأتوننا صادِّيننا عن اليمين، أي عن الخير‏.‏ فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها‏.‏ قال ابن عطية ما خلاصته‏:‏ اضطرب المتأولون في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏عَننِ اليمين‏}‏ فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة، وبعضهم أيضاً نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها‏:‏ أن يريد باليمين القوة والشدة ‏(‏قلتُ وهو عن ابن عباس والفرّاء‏)‏ فكأنهم قالوا إنكم كنتم تُغْروننا بقوة منكم، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا‏:‏ تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد ‏(‏وهو عن الزجاج والجبّائي‏)‏ ومما تحتمله الآية أن يريدوا‏:‏ إنكم كنتم تأتوننا، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن، فعبروا عنها باليمين، ومن المعاني أن يريدوا‏:‏ أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإِنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإِنسان في قلبه وقيل‏:‏ تحلفون لنا ا‏.‏
ه‏.‏
وجواب الزعماء بقولهم‏:‏ ‏{‏بَل لَمْ تَكُونوا مؤمِنينَ‏}‏ إضراب إبطال لزعم الأتباع أنهم الذين صدّوهم عن طريق الخير أي بل هم لم يكونوا ممن يقبل الإِيمان لأن تسليط النفي على فعل الكون دون أن يقال‏:‏ بل لم تؤمنوا، مشعر بأن الإِيمان لم يكن من شأنهم، أي بل كنتم أنتم الآبين قبول الإِيمان‏.‏ و‏{‏ما كان لنا عليكم من سلطان‏}‏ أي من قهر وغلبة حتى نُكرهكم على رفض الإِيمان، ولذلك أكدوا هذا المعنى بقولهم‏:‏ ‏{‏بل كنتم قوماً طاغِينَ‏}‏، أي كان الطغيان وهو التكبر عن قبول دعوة رجل منكم شأنَكم وسجيتكم، فلذلك أقحموا لفظ ‏{‏قوماً‏}‏ بين «كان» وخبرها لأن استحضارهم بعنوان القومية في الطغيان يؤذن بأن الطغيان من مقومات قوميتهم كما قدمنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏
وفرّعوا على كلامهم اعترافهم بأنهم جميعاً استحقُّوا العذاب فقولهم‏:‏ ‏{‏فحَقَّ علينا قولُ ربنا إنَّا لذائِقُونَ‏}‏، تفريعَ الاعتراض، أي كان أمر ربنا بإذاقتنا عذاب جهنم حقّاً‏.‏ وفعل «حقّ» بمعنى ثبت‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا لذائقون‏}‏ بيان ل ‏{‏قَوْلُ رَبِّنا‏.‏‏}‏ وحكي القول بالمعنى على طريقة الالتفات ولولا الالتفات لقال‏:‏ إنكم لذائقون أو إنهم لَذَائِقُونَ‏.‏ ونكتة الالتفات زيادة التنصيص على المعنيّ بذوق العذاب‏.‏
وحذف مفعول «ذائقون» لدلالة المقام عليه وهو الأمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وفرعوا على مضمون ردهم عليهم من قولهم‏:‏ ‏{‏بل لم تكونوا مؤمنين‏}‏ إلى ‏{‏قوماً طاغِينَ‏}‏ قولهم‏:‏ ‏{‏فأغْوَيْناكُمْ‏}‏، أي ما أكرهناكم على الشرك ولكنّا وجدناكم متمسكين به وراغبين فيه فأغويناكم، أي فأيدناكم في غوايتكم لأنّا كنّا غاوين فسوّلنا لكم ما اخترناه لأنفسنا فموقع جملة ‏{‏إنَّا كُنَّا غاوِينَ‏}‏ موقع العلة‏.‏
و«إن» مغنية غناء لام التعليل وفاء التفريع كما ذكرناه غير مرة‏.‏
وزيادة ‏{‏كنّا‏}‏ للدلالة على تمكين الغواية من نفوسهم، وقد استبان لهم أن ما كانوا عليه غواية فأقرّوا بها، وقد قدمنا عند قوله تعالى في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 101‏]‏‏:‏ ‏{‏فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون‏}‏ أن تساؤلهم المنفي هنالك هو طلب بعضهم مِن بعض النجدة والنصرة وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏
‏{‏فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏
هذا الكلام من الله تعالى موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويشبه أن يكون اعتراضاً بين حكاية حِوار الله أهل الشرك في القيامة وبين توبيخ الله إياهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّكم لذائِقُوا العذَاببِ الأليمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 38‏]‏‏.‏
والفاء للفصيحة لأنها وردت بعد تقرير أحوال وكان ما بعد الفاء نتيجة لتلك الأحوال فكانت الفاء مفصحة عن شرط مقدّر، أي إذا كان حالهم كما سمعتم فإنهم يوم القيامة في العذاب مشتركون لاشتراكهم في الشرك وتمالئهم، أي لا عذر للكلام للفريقين لا للزعماء بتسويلهم ولا للدهماء بنصرهم‏.‏ وقد يكون عذاب الدعاة المغوين أشدّ من عذاب الآخرين وذلك لا ينافي الاشتراك في جنس العذاب كما دلت عليه أدلة أخرى، لأن المقصود هنا بيان عدم إجداء معذرة كلا الفريقين وتنصّله‏.‏ وهذه الجملة معترضة بين جمل حكاية موقفهم في الحساب‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا كذلك نفعل بالمجرمين‏}‏ تعليل لما اقتضته جملة ‏{‏فإنَّهم يومئذٍ في العذاب مشتركون‏}‏ أي فإن جزاء المجرمين يكون مثل ذلك الجزاء في مؤاخذة التابع المتبوع‏.‏
والمراد بالمجرمين‏:‏ المشركون، أي المجرمين مثلَ جرمهم، وقد بينته جملة ‏{‏إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏
‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏
استئناف بياني أفاد تعليل جزائهم وبيان إجرامهم بذكر ما كانوا عليه من التكبر عن الاعتراف بالوحدانية لله ومن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه وصفاً يرمون به إلى تكذيبه فيما جاء به‏.‏ فحرف ‏(‏إنّ‏)‏ هنا ليس للتأكيد لأن كونهم كذلك مما لا منازع فيه وإنما هو للاهتمام بالخبرفلذلك تفيد التعليل والربط وتغني غناء فاء التفريع‏.‏
وذكر فعل الكون ليدل على أن ما تضمنه الخبر وصف متمكن منهم فهو غير منقطع ولا هُم حائدون عنه‏.‏
ومعنى ‏{‏قيل لهم لا إله إلا الله‏}‏ أنه يقال لهم على سبيل الدعوة والتعليم‏.‏
وفاعل القول المبنيّ فعله للنائب هو النبي صلى الله عليه وسلم فحذف للعلم به‏.‏
والاستكبار‏:‏ شدة الكبر، فالسين والتاء للمبالغة، أي يتعاظمون عن أن يقبلوا ذلك من رجل مثلهم، ولك أن تجعل السين والتاء للطلب، أي إظهار التكبر، أي يبدو عليهم التكبر والاشمئزاز من هذا القول‏.‏
ويقارن استكبارهم أن يقول بعضهم لبعض‏:‏ لا نترك آلهتنا لشاعر مجنون، وأتوا بالنفي على وجه الاستفهام الإِنكاري إظهاراً لكون ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أمر منكر لا يُطمع في قبولهم إياه، تحذيراً لمن يسمع مقالتهم من أن يجول في خاطره تأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏‏.‏ وقوّوا هذا التحذيرَ بجعل حرف الإِنكار مسلّطاً على الجملة الموكَّدة بحرف التوكيد للدلالة على أنهم إذا أتوا ما أنكروه كانوا قد تحقَّق تركُهم آلهتهم تنزيلاً لبعض المخاطبين منزلة من يشك في أن الإِيمان بتوحيد الإِله يفضي إلى ترك آلهتهم ليسدّوا على المخاطبين منافذ التردد أن يتطرق منها إلى خواطرهم‏.‏
واللام في ‏{‏لِشَاعِرٍ‏}‏ لام العلة والأجْل، أي لأجْل شاعر، أي لأجْل دعوته‏.‏
وقولهم‏:‏ «شاعر مجنون» قول موزع، أي يقول بعضهم‏:‏ هو شاعر، وبعضهم‏:‏ هو مجنون، أو يقولون مرة‏:‏ شاعر، ومرة‏:‏ مجنون، كما في الآية الأخرى ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
اعتراض في آخر الاعتراض قُصدت منه المبادرة بتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما قالوه‏.‏
و ‏{‏بل‏}‏ إضراب إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏لِشاعر مجنون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 36‏]‏ وبإثبات صفته الحقِّ لبيان حقيقة ما جاء به‏.‏ وفي وصف ما جاء به أنه الحق ما يكفي لنفي أن يكون شاعراً ومجنوناً، فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون إلا التنفير من اتِّباعه فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته، أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل جاءَ بالحقِ‏}‏ مثبتاً لكون الرسول على غير ما وصفوه إثباتاً بالبينة‏.‏
وأتبع ذلك بتذكيرهم بأنه ما جاء إلا بمثل ما جاءت به الرسل من قَبله، فكان الإِنصاف أن يلحقوه بالفريق الذي شابههم دون فريق الشعراء أو المجانين‏.‏
وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالاً وتفصيلاً، لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريراً لما جاءت به الشرائع السالفة فهو تصديق له ومصادقة عليه، أو أن يكون نسخاً لما جاءت به بعض الشرائع السالفة، والإِنباءُ بنسخه وانتهاءِ العمل به تصديق للرسل الذين جاءوا به في حين مجيئهم به، فكل هذا مما شمله معنى التصديق، وأول ذلك هو إثبات الوحدانية بالربوبية لله تعالى‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله، وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏
‏{‏إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏
هذا من كلام الله يومَ القيامة الموجّه إلى المشركين عقب تساؤلهم وتحاورهم فيكون ما بين هذا وبين محاورتهم المنتهية بقولهم‏:‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا غاوِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 32‏]‏ اعتراضاً، أي فلما انتهوا من تحاورهم خوطبوا بما يقطع طمعهم في قبول تنصل كِلا الفريقين من تبعات الفريق الآخَر ليزدادوا تحققاً من العذاب الذي عَلموه من قولهم‏:‏ ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنَّا لذائقون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 31‏]‏، وهذا ما تقتضيه دلالة اسم الفاعل في قوله‏:‏ ‏{‏لذائِقُوا العَذَابِ‏}‏ لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال، أي حال التلبس، فإنه لما قيل لهم هذا كانوا مشرفين على الوقوع في العذاب وذلك زمن حَاللٍ في العرف العربي‏.‏
ولما وصف عذابهم بأنه أليم عُطف عليه إخبارهم بأن ذلك المقدار لا حيف عليهم فيه لأنه على وفاق أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من آثار الشرك، والحَظُّ الأكبر من ذلك الجزاءِ هو حظ الشرك ولكن كني عن الشرك بأعماله وأما هو فهو أمر اعتقادي‏.‏ وفي هذا دليل على أن الكفار مجازَوْن على أعمالهم السيئة من الأقوال والأعمال كتمجيد آلهتهم والدعاءِ لها، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وأذاه وأذى المؤمنين، وقولِهم في أصنامهم إنهم شفعاء عند الله، وفي الملائكة إنهم بنات الله، ومن قتل الأنفس والغارة على الأموال ووأد البنات والزنا فإن ذلك كله مما يزيدهم عذاباً، وهو يؤيد قول الذين ذهبوا إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأن ذلك واقع‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 49‏]‏
‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏
استثناء منقطع في معنى الاستدراك، والاستدراك تعقيب الكلام بما يضاده، وهذا الاستدراك تعقيب على قوله‏:‏ ‏{‏فإنَّهم يومئذٍ في العذاببِ مشتركونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 33‏]‏ فإن حال عبَاد الله المخلصين تام الضدية لحال الذين ظلموا، وليس يلزم في الاستدراك أن يكون رفعَ توهّم وإنما ذلك غالب، فقول بعض العلماء في تعريفه هو‏:‏ تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوتُه أو نفيُه، تعريف أغلبي، أو أريد أدنى التوهم لأن الاستثناء المنقطع أعمّ من ذلك، فقد يكون إخراجاً من حكم لا من محكوم عليه ضرورة أنهم صرحوا بأن حرف الاستثناء في المنقطع قائم مقام لكن، ولذلك يقتصرون على ذكر حرف الاستثناء والمستثنى بل يردفونه بجملة تُبين محلّ الاستدراك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏، وكذلك قوله هنا‏:‏ ‏{‏إلاَّ عِبَادَ الله المُخلصين أُولئِكَ لهم رزقٌ معلومُ‏}‏‏.‏ ولو كان المعنى على الاستثناء لما أتبع المستثنى بأخبار عنه لأنه حينئذٍ يثبت له نقيض حكم المستثنى منه بمجرد الاستثناء، فإن ذلك مُفاد ‏{‏إلا، ونظيره مع لكن قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 19- 20‏]‏‏.‏
وذِكر المؤمنين بوصف العبودية المضافة لله تعالى تنويه بهم وتقريب، وذلك اصطلاح غالب في القرآن في إطلاق العبدِ والعبادِ مضافاً إلى ضميره تعالى كقوله‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏، وربما أطلق العبد غير مضاف مراداً به التقريب أيضاً كقوله‏:‏ ‏{‏ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏، أي العبد لله، ألا ترى أنه لما أريد ذكر قوم من عباد الله من المشركين لم يؤت بلفظ العباد مضافاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ إلاّ بقرينة مقام التوبيخ في قوله‏:‏ ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ لأن صفة الإِضلال قرينة على أن الإِضافة ليست للتقريب، وقوله‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ فقرينة التغليب هي مناط استثناء الغاوين من قوله ‏{‏عبادي وينسب إلى الشافعي‏:‏
ومما زادني شَرفاً وفخراً *** وكِدْتُ بأَخمَصي أَطأُ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن أرسلتَ أحمدَ لي نبيا
والمراد بهم هنا الذين آمنوا بالنبي فإنهم الذين يخطرون بالبال عند ذكر أحوال المشركين الذين كفروا به وقالوا فيه ما هو منه بريء خطورَ الضد بذكر ضده‏.‏
والمُخلَصين‏}‏ صفة عباد الله وهو بفتح اللام إذا أريد الذين أخلصهم الله لولايته، وبكسرها أي الذين أخلصوا دينهم لله‏.‏ فقرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بفتح اللام‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر اللام‏.‏
و ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏عِبادَ الله‏}‏ قصد منه التنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإِشارة لأجل مما أُثبت لهم من صفة الإِخلاص كما ذلك من مقتضيات تعريف المسند إليه بالإِشارة كقوله تعالى‏:‏
‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 2- 3‏]‏‏.‏
والرزق‏:‏ الطعام قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏‏.‏ والمعلوم‏:‏ الذي لا يتخلف عن ميعاده ولا ينتظره أهله‏.‏
و ‏{‏فَواكِهُ‏}‏ عطف بيان من ‏{‏رِزْقٌ‏.‏‏}‏ والمعنى‏:‏ أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل لأجل الشبع‏.‏ والفواكه‏:‏ الثمار والبقول اللذيذة‏.‏
‏{‏وهُم مُكْرمُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏لهم رزق معلوم،‏}‏ أي يعاملون بالحفاوة والبهجة فإنه وسط في أثناء وصف ما أعد لهم من النعيم الجسماني أن لهم نعيم الكرامة وهو أهم لأن به انتعاش النفس مع ما في ذلك من خلوص النعمة ممن يكدرها وذلك لأن الإِحسان قد يكون غير مقترن بمدح وتعظيم ولا بأذى وهو الغالب، وقد يكون مقترناً بأذى وذلك يكدِّر من صَفوه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ فإذا كان الإِحسان مع عبارات الكرامة وحسن التلقّي فذلك الثواب‏.‏
و ‏{‏سُرر‏}‏‏:‏ جمع سرير وهو ككرسيّ واسع يمكن الاضطجاع عليه، وكان الجلوس على السرير من شعار الملوك وأضرابهم، وذلك جلوس أهل النعيم لأن الجالس على السرير لا يجد مَللاً لأنه يُغيّر جِلسته كيف تتيسّر له‏.‏
و ‏{‏مُتَقابِلِينَ‏}‏ كل واحد قُبالة الآخر‏.‏ وهذا أتم للأُنس لأن فيه أنس الاجتماع وأنس نظر بعضهم إلى بعض فإن رؤية الحبيب والصديق تؤنس النفس‏.‏
والظاهر‏:‏ أن معنى كونهم متقابلين تقابل أفراد كل جماعة مع أصحابهم، وأنهم جماعات على حسب تراتيبهم في طبقات الجنة، وأن أهل كل طبقة يُقسمون جماعات على حسب قرابتهم في الجنة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلال‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏ وكثرة كل جماعة لا تنافي تقابلهم على السرر والأرائك وتحادثهم لأن شؤون ذلك العالم غير جارية على المتعارف في الدنيا‏.‏
ومعنى ‏{‏يُطَافُ‏}‏ يدار عليهم وهم في مجالسهم‏.‏ والكأس ‏(‏بهمزة بعد الكاف‏)‏‏:‏ إناء الخمر، مؤنث، وهي إناء بلا عُروة ولا أنبوب واسعة الفم، أي محل الصب منها، تكون من فضة ومن ذهب ومن خزف ومن زجاج، وتسمى قَدَحاً وهو مذكر‏.‏ وجمع كأس‏:‏ كاسات وكؤوس وأكؤس‏.‏ وكانت خاصة بسقي الخمر حتى كانت الكأس من أسماء الخمر تسمية باسم المحلّ، وجعلوا منه قول الأعشى‏:‏
وكأسسٍ شربتُ على لَذة *** وأخرى تداوَيت منها بها
وقد قيل‏:‏ لا يسمى ذلك الإِناء كأساً إلا إذا كانت فيه الخمر وإلا فهو قَدَح‏.‏ والمعنيُّ بها في الآية الخمرُ لأنه أفرد الكأس مع أن المَطُوف عليهم كثيرون، ولأنها وُصفت بأنها ‏{‏من مَعين‏}‏‏.‏ وروى ابن أبي شيبة والطبري عن الضحّاك أنه قال‏:‏ كل كأس في القرآن إنما عني بها الخمر‏.‏ وروي مثله عن ابن عباس وقال به الأخفش‏.‏
و ‏{‏مَعِين‏}‏ بفتح الميم، قيل أصله‏:‏ مَعْيون‏.‏ فقيل‏:‏ ميمه أصلية، وهو مشتق من مَعَنَ يقال‏:‏ ماء مَعْنٌ، فيكون ‏{‏مَعِين‏}‏ بوزن فَعيل مثال مبالغة من المَعْن وهو الإِبعاد في الفعل شبّه جريه بالإِبعاد في المشي، وهذا أظهر في الاشتقاق‏.‏
وقيل‏:‏ ميمه زائدة وهو مشتق من عانَهُ، إذا أبصره لأنه يظهر على وجه الأرض في سيلانه فوزنه مَفْعول، وأصله مَعْيُون فهو مشتق من اسم جامد وهو اسم العَين، وليس فعل عَانَ مستعملاً استغنوا عنه بفعل عَايَن‏.‏
و ‏{‏بَيْضَاءَ‏}‏ صفة ل«كأس»‏.‏ وإذ قد أريد بالكأس الخمر الذي فيها كان وصف ‏{‏بَيْضَاءَ‏}‏ للخمر‏.‏ وإنما جرى تأنيث الوصف تبعاً للتعبير عن الخمر بكلمة كأس، على أن اسم الخمر يذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر‏.‏ روى مالك عن زيد بن أسلم‏:‏ لونها مشرق حسن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حُمرة أو سواد‏.‏
واللذة‏:‏ اسم معناه إدراك ملائم نفس المدرك، يقال‏:‏ لذّهُ ولذّ به، والمصدر‏:‏ اللذة واللذاذة‏.‏ وفعله من باب فرح، تقول‏:‏ لذذت بالشيء ويقال‏:‏ شيء لَذٌّ، أي لذيذ فهو وصف بالمصدر فإذا جاء بهاء التأنيث كما في هذه الآية فهو الاسم لا محالة لأن المصدر الوصف لا يؤنث بتأنيث موصوفه، يقال‏:‏ امرأة عدل ولا يقال‏:‏ امرأة عدلة‏.‏ ووصف الكأس بها كالوصف بالمصدر يفيد المبالغة في تمكن الوصف، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَذَّةٍ‏}‏ هو أقصى مما يؤدي شدة الالتذاذ بكلمة واحدة، لأنه عُدل به عن الوصف الأصلي لقصد المبالغة، وعُدل عن المصدر إلى الاسم لما في المصدر من معنى الاشتقاق‏.‏
وجملة ‏{‏لا فِيها غَوْلٌ‏}‏ صفة رابعة لكأس باعتبار إطلاقه على الخمر‏.‏
والغَول، بفتح الغيْن‏:‏ ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم، اشتق من الغَول مصدرِ غاله، إذا أهلكه‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يصدعون عنها‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإِفادة التخصيص، أي هو منتففٍ عن خمر الجنة فقط دونَ ما يعرف من خمر الدنيا، فهو قصر قلب‏.‏ ووقوع ‏{‏غَوْلٌ‏}‏ وهو نكرة بعد ‏{‏لا‏}‏ النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله، ووجب رفعه لوقوع الفصل بينه وبين حرف النفي بالخبر‏.‏
وجملة ‏{‏ولا هم عنها يُنزفون‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏لا فيها غَوْلٌ‏.‏
وقدّم المسند عليه على المسند، والمسند فعل ليفيد التقديم تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي، أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا‏.‏
و يُنزَفُونَ‏}‏ مبني للمجهول في قراءة الجمهور يقال‏:‏ نُزف الشارب، بالبناء للمجهول إذا كان مجرداً ‏(‏ولا يُبنى للمعلوم‏)‏ فهو منزوف ونزيف، شبهوا عقل الشارب بالدم يقال‏:‏ نُزف دمُ الجريح، أي أُفرغ‏.‏ وأصله من‏:‏ نَزفَ الرجُلُ مَاءَ البئر متعدياً، إذا نَزحه ولم يُبق منه شيئاً‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏يُنزِفُونَ‏}‏ بضم اليَاء وكسر الزاي من أُنزف الشاربُ، إذا ذهب عقله، أي صار ذَا نَزَف، فالهمزة للصيرورة لا للتعدية‏.‏
و ‏{‏قاصِراتُ الطَّرْفِ‏}‏ أي حابسات أنظارهن حياء وغَنجاً‏.‏ والطرف‏:‏ العين، وهو مفرد لا جمع له من لفظه لأن أصل الطرف مصدر‏:‏ طَرَفَ بعينه من باب ضَرب، إذا حرّك جفنيه، فسُميّت العين طرفاً، فالطرف هنا الأعين، أي قاصرات الأعين، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 43‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وذكر «عند» لإِفادة أنهن ملابسات لهم في مجالسهم التي تُدار عليهم فيها كأس الجنة، وكان حضور الجواري مجالس الشراب من مكملات الأنس والطرب عند سادة العرب، قال طرفة‏:‏
نَداماي بيض كالنجوم وقَينة *** تروحُ علينا بين برد ومِجْسَد
و ‏{‏عِينٌ‏}‏ جمع‏:‏ عَيْنَاء، وهي المرأة الواسعة العين النجلاوتها‏.‏
والبَيْض المكنون‏:‏ هو بيض النعام، والنعام يُكنّ بيضَه في حُفر في الرمل ويفرش لها من دقيق ريشه، وتسمى تلك الحُفر‏:‏ الأَداحِيَّ، واحدتها أُدّحية بوزن أُثفية‏.‏ فيكون البَيض شديد لمعان اللون وهو أبيض مشوب بياضه بصفرة وذلك اللون أحسن ألوان النساء، وقديماً شبهوا الحسان بِبيض النعام، قال امرؤ القيس‏:‏
وبيضةِ خدر لا يُرام خباؤها *** تمتعت من لَهْو بها غيرَ مُعْجَل
تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 57‏]‏
‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع لأن شأن المتجالسين في مسرّة أن يشرعوا في الحديث فإن في الحديث مع الأصحاب والمنتدمين لذة كما قال محمد بن فياض‏:‏
وما بقيتْ من اللذات إلا *** أحاديثُ الكرام على الشراب
فإذا استشعروا أن ما صاروا إليه من النعيم كان جزاء على ما سبق من إيمانهم وإخلاصهم تذكر بعضُهم مَن كان يجادله في ثبوت البعث والجزاء فحمِد الله على أن هدَاه لعدم الإِصغاء إلى ذلك الصّادِّ فحدث بذلك جلساءه وأراهم إياه في النار، فلذلك حكي إقبال بعضهم على بعض بالمساءلة بفاء التعقيب‏.‏ وهذا يدلّ على أن الناس في الآخرة تعود إليهم تذكراتهم التي كانت لهم في الدنيا مصفاة من الخواطر السيّئة والأكدار النفسانية مدركة الحقائق على ما هي عليه‏.‏ وجيء في حكاية هذه الحالة بصيغ الفعل الماضي مع أنها مستقبلة لإِفادة تحقيق وقوع ذلك حتى كأنه قد وقع على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر اللَّه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، والقرينة هي التفريع على الأخبار المتعلقة بأحوال الآخرة‏.‏
والتساؤل‏:‏ أن يسأل بعضهم بعضاً، وحُذف المتساءل عنه لدلالة ما بعده عليه، وقد بَين نحواً منه قولهُ تعالى‏:‏ ‏{‏في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 40- 42‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏قَالَ قائِلٌ مِنهم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يَتَسَاءَلُونَ،‏}‏ أي قال أحدهم في جواب سؤال بعضهم، فإن معنى التساؤل يشتمل على معنى الجواب فلذلك جعلناه بدل اشتمال لا بدل بعض ولا عطف بيان، والقرين مراد به الجنس، فإن هذا القول من شأنه أن يقوله كثير من خلطاء المشركين قبل أن يُسْلموا‏.‏
والقرين‏:‏ المصاحب الملازم شبهت الملازمة الغالبة بالقرْن بين شيئين بحيث لا ينفصلان، أي يقول له صاحبه لما أَسلم وبقي صاحبه على الكفر يجادله في الإِسلام ويحاول تشكيكه في صحته رجاء أن يرجع به إلى الكفر كما قال سعيد بن زيد‏:‏ «لقد رأيتُني وأنَّ عُمر لمُوثقي على الإِسلام» أي جاعلني في وثاق لأجل أني أسلمت، وكان سعيد صهر عُمر زوْجَ أخته‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِقينَ‏}‏ مستعمل في الإِنكار، أي ما كان يحق لك أن تصدّق بهذا، وسلط الاستفهام على حرف التوكيد لإِفادة أنه بلغه تأكُّد إسلام قرينه فجاء ينكر عليه ما تحقق عنده، أي أن إنكاره إسلامه بعدَ تحقق خبره، ولولا أنه تحققه لما ظنّ به ذلك‏.‏ والمصدّق هو‏:‏ الموقن بالخبر‏.‏
وجملة ‏{‏أإِذَا مِتْنَا‏}‏ بيان لجملة ‏{‏أإِنَّكَ لمن المُصَدقين‏}‏ بينت الإِنكار المجمل بإنكار مفصل وهو إنكار أن يبعث الناس بعد تفرق أجزائهم وتحوُّلها تراباً بعد الموت ثم يجازَوا‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا لمَدِينُون‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏‏.‏ وقرنت بحرف التوكيد للوجه الذي علمته في قوله‏:‏ ‏{‏أإِنَّكَ لمِنَ المُصَدقين‏.‏
والمدين‏:‏ المجازَى يقال‏:‏ دانه يدينه، إذا جازاه، والأكثر استعماله في الجزاء على السوء، والدين‏:‏ الجزاء كما في سورة الفاتحة‏.‏ وقيل هنا أإِنا لمَدِينون‏}‏ وفي أول السورة
‏{‏إنَّا لمَبْعُوثون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16‏]‏ لاختلاف القائلين‏.‏
وقرأ الجميع ‏{‏أإنك‏}‏ بهمزتين‏.‏ وقرأ من عدا ابن عامر ‏{‏أإذَا مِتْنَا‏}‏ بهمزتين وابن عامر بهمزة واحدة وهي همزة ‏{‏إذا‏}‏ اكتفاء بهمزة ‏{‏أإنا لمدينون‏}‏ في قراءته‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏إِنَّا لَمَدِينُونَ‏}‏ بهمزة واحدة اكتفاء بالاستفهام الداخل على شرطها‏.‏ وقرأه الباقون بهمزتين‏.‏
وجملة ‏{‏قالَ هل أنتُم مُطَّلِعون‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏قالَ قَائِلٌ منهم‏}‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏هل أنتم مطلعون‏}‏ المحكي بها هو مما اشتمل عليه قوله الأول إذ هو تكملة للقول الأول‏.‏ والاستفهام بقوله ‏{‏هل أنتم مُطَّلعون‏}‏ مستعمل في العرض، عرض على رفقائه أن يتطلعوا إلى رؤية قرينه وما صار إليه، وذلك‏:‏ إمّا لأنه علم أن قرينه مات على الكفر بأن يكون قد سبقه بالموت، وإمّا لأنه ألقي في رُوعه أن قرينه صار إلى النار، وهو موقن بأن خازن النار يطلعهم على هذا القرين لعلمهم بأن لأهل الجنة ما يتساءلون قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم ما يدَّعون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 57‏]‏‏.‏
وحذف متعلق ‏{‏مُطَّلعون‏}‏ لدلالة آخر الكلام عليه بقوله‏:‏ ‏{‏في سَوَاءِ الجَحِيم‏.‏‏}‏ فالتقدير‏:‏ هل أنتم مطلعون على أهل النار لننظُره فيهم‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاطَّلعَ‏}‏ اكتفاء، أي فاطّلع واطّلعوا فرآه ورأوه في سواء الجحيم إذ هو إنما عرض عليهم الاطّلاع ليعلموا تحقيق ما حدّثهم عن قرينه‏.‏ واقتصر على ذكر اطلاعه هو دون ذكر اطلاع رفقائه لأنه ابتدأ بالاطّلاع ليميز قرينه فيريه لرفقائه‏.‏
و ‏{‏سَواءِ الجَحيمِ‏}‏ وسطها قال بلعاء بن قيس‏:‏
عضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا ***
وجملة ‏{‏قالَ تالله إن كِدتَ لتُرْدِينِ‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن وصف هذه الحالة يثير في نفس السامع أن يسأل‏:‏ فماذا حصل حين اطلع‏؟‏ فيجاب بأنه حين رأى قرينه أخذ يوبخه على ما كان يحاوله منه حتى كاد أن يلقيه في النار مثله‏.‏ وهذا التوبيخ يتضمن تنديمه على محاولة إرجاعه عن الإِسلام‏.‏
والقَسَم بالتاء من شأنه أن يقع فيما جواب قسَمِه غريب، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا تاللَّه لقد علمتم‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 73‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وتاللَّهِ لأكيدن أصنامكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ومحل الغرابة هو خلاصهُ من شبكة قرينه واختلاف حال عاقبتيهما مع ما كانا عليه من شدة الملازمة والصحبة وما حفّه من نعمة الهداية وما تورط قرينه في أوحال الغواية‏.‏
و ‏{‏إنْ‏}‏ مخففة من الثقيلة واتصل بها الفعل الناسخ على ما هو الغالب في أحوالها إذا أُهملت‏.‏ واللام الداخلة على خبر كاد هي الفارقة بين ‏{‏إن‏}‏ المخففة والنافية‏.‏ و«ترديني» تُوقِعُنِي في الرَّدَى وهو الهلاك، وأصل الردى‏:‏ الموت ثم شاعت استعارته لسوء الحال تشبيهاً بالموت لما شاع من اعتبار الموت أعظم ما يصاب به المرء‏.‏
والمعنى‏:‏ أنك قاربت أن تفضي بي إلى حال الردى بإلحاحك في صرفي عن الإِيمان بالبعث لفرط الصحبة‏.‏ ولولا نعمة هداية الله وتثبيته لكنت من المحضَرين معك في العذاب‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لَتُرْدِينِ‏}‏ بنون مكسورة في آخره دون ياء المتكلم على التخفيف، وهو حذف شائع في الاستعمال الفصيح وهو لغة أهل نجد‏.‏
وكتب في المصاحف بدون ياء‏.‏ وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء ولا يُنافي رسم المصحف لأن كثيراً من الياءات لم تكتب في المصحف، وقرأ القراء بإثباتها فإن كتّاب المصحف قد حذفوا مدوداً كثيرة من ألفات وياءات‏.‏
والمحضرون‏:‏ أريد بهم المحضرون في النار، أي لكنت من المحضرين معك للعذاب‏.‏ وقد كثر إطلاق المُحْضَر ونحوه على الذي يُحضر لأجل العقاب‏.‏ وقد فسر بعض المفسرين القرين هنا بالشيطان الذي يلازم الإِنسان لإِضلاله وإغوائه‏.‏ وطريقُ حكاية تصدّي القائل من أهل الجنة لإِخبار أهل مجلسه بحاله يبطل هذا التفسير لأنه لو كان المراد الشيطان لكان إخباره به غير مفيد فما من أحد منهم إلا كان له قرين من الشياطين، وما منهم إلا عالم بأن مصير الشياطين إلى النار‏.‏
وقيل‏:‏ نزلت في شريكين هما المشار إليهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب‏}‏ في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏‏.‏
وروي عن عطاء الخراساني‏:‏ أنها نزلت في أخوين مؤمن وكافر، كانا غنيين، وكان المؤمن ينفق ماله في الصدقات وكان الكافر ينفق ماله في اللذات‏.‏ وفي هذه الآية عبرة من الحذر من قرناء السوء ووجوب الاحتراس مما يدعون إليه ويزيّنونه من المهالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏
‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏
عَطفت الفاء الاستفهامَ على جملة ‏{‏قالَ هل أنتُم مُطَّلعون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 54‏]‏، فالاستفهام موجه من هذا القائل إلى بعض المتسائلين‏.‏ وهو مستعمل في التقرير المراد به التذكير بنعمة الخلود فإنه بعد أن أطلعهم على مصير قرينه السوء أقبل على رفاقه بإكمال حديثه تحدثاً بالنعمة واغتباطاً وابتهاجاً بها، وذكراً لها فإن لذكر الأشياء المحبوبة لذة فما ظنك بذكر نعمة قد انغمسوا فيها وأيقنوا بخلودها‏.‏ ولعل نظم هذا التذكر في أسلوب الاستفهام التقريري لقصد أن يسمع تكرر ذكر ذلك حين يجيبه الرفاق بأن يقولوا‏:‏ نعم ما نحن بميتين‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ مَوتَتَنَا الأولى‏}‏ منقطع لأن الموت المنفي هو الموت في الحال، أو الاستقبال كما هو شأن اسم الفاعل فتعيّن أن المستثنى غير داخل في المنفي فهو منقطع، أي لكن الموتة الأولى‏.‏ وذلك الاستدراك تأكيد للنفي‏.‏ وانتصابه لأجل الانقطاع لا لأجل النفي‏.‏
وعطف ‏{‏وما نحن بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ليتمحّض الاستفهام للتحدث بالنعمة لأن المشركين أيضاً ما هم بميتين ولكنهم معذَّبون فحالهم شرّ من الموت‏.‏ قيل لبعض الحكماء‏:‏ ما شرّ من الموت‏؟‏ فقال‏:‏ الذي يُتمنى فيه الموت‏.‏
والظاهر أن جملة ‏{‏إنَّ هذا لهو الفَوزُ العظِيمُ‏}‏ حكاية لبقية كلام القائل لرفاقه، فهي بمنزلة التذييل والفذلكة لحالتهم المشاهدِ بعضُها والمتحدثثِ عن بعضها بقوله‏:‏ ‏{‏أفما نحنُ بِمَيّتِين‏.‏
والفوز‏}‏‏:‏ الظفر بالمطلوب، أي حالنا هو النجاح والظفر العظيم‏.‏ وقد أُبدع في تصوير حسن حالهم بحصر الفوز فيه حتى كان كل فوز بالنسبة إليه ليس بفوز، فالحصر للمبالغة لِعدم الاعتداد بغيره ثم ألحقوا ذلك الحصر بوصفه ب ‏{‏العظيم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏
‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏
هذا تذييل لحكاية حال عباد الله المخلصين فهو كلام من جانب الله تعالى للتنويه بما فيه عباد الله المخلصون، وللتحريض على العمل بمثل ما عمِلوه مما أوجب لهم إخلاصَ الله إياهم، فالإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏لمِثللِ هذا‏}‏ إلى ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم رِزقٌ معلوم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 41‏]‏ الآيات، أي لمثل نعيمهم وأنسهم ومسرتهم ولذّاتهم وبهجتهم وخلود ذلك كله‏.‏
والمراد بمثله‏:‏ نظيره من نعيممٍ لِمخلصين آخرين‏.‏ والمراد بالعاملين‏:‏ الذين يعملون الخير ويسيرون على ما خطّت لهم شريعة الإِسلام، فحذف مفعول «يعمل» اختصاراً لظهوره من المقام‏.‏
واللام في ‏{‏لِمِثْلِ‏}‏ لام التعليل‏.‏ وتقديم المجرور على عامله لإِفادة القصر، أي لا لعمل غيره، وهو قصر قلب للرد على المشركين الذين يحسبون أنهم يعملون أعمالاً صالحة يتفاخرون بها من الميْسر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103- 104‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ لنوال مثل هذا، فحذف مضاف لدلالة اللام على معناه‏.‏
والفاء للتفريع على مضمون القصة المذكورة قبلها من قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ عِبَادَ الله المُخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 40‏]‏ الآيات‏.‏
والأمر في ‏{‏فليعمل‏}‏ للإِرشاد الصادق بالواجبات والمندوبات‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 68‏]‏
‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏‏}‏
استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن والكافر جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها‏.‏
فالمقصود بالخبر هو قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا جعلناهَا،‏}‏ أي شجرة الزقوم ‏{‏فتنة للظالمين‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه‏.‏
والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر‏.‏ وهو خطاب لكل سامع‏.‏
والإِشارة ب ‏{‏أذلك‏}‏ إلى ما تقدم من حال المؤمنين في النعيم والخلود، وجيء باسم الإِشارة مفرداً بتأويل المذكور، بعلامة بُعد المشار إليه لتعظيمه بالبعد، أي بعد المرتبة وسُموّها لأن الشيء النفيس الشريف يتخيل عالياً والعالي يلازمه البُعد عن المكان المعتاد وهو السفل، وأين الثريا من الثرى‏.‏
والنزُل‏:‏ بضمتين، ويقال‏:‏ نُزْل بضم وسكون هو في أصل اللغة‏:‏ المكان الذي ينزل فيه النازل، قاله الزجاج‏.‏ وجرى عليه صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس»، وأُطلق إطلاقاً شائعاً كثيراً على الطعام المهيّأ للضيف لأنه أعدّ له لنزوله تسمية باسم مكانه نظير ما أطلقوا اسم السكن بسكون الكاف على الطعام المعدّ للساكن الدار إذ المسكن يقال فيه‏:‏ سَكْن أيضاً‏.‏ واقتصر عليه أكثر المفسرين ولم يذكر الراغب غيره‏.‏ ويجوز أن يكون المراد من النزل هنا طعام الضيافة في الجنة‏.‏ ويجوز أن يراد به مكان النزول على تقدير مضاف في قوله‏:‏ ‏{‏أمْ شجرة الزقوم‏}‏ بتقدير‏:‏ أم مكان شجرة الزقوم‏.‏
وعلى الوجهين فانتصاب ‏{‏نُزُلاً‏}‏ على الحال من اسم الإِشارة ومتوجه الإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما يناسب الوجهين مما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏رزق معلومٌ فواكِه وهم مُكْرَمُونَ في جَنَّاتتِ النَّعِيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 41- 43‏]‏‏.‏
ويجري على الوجهين معنى معادل الاستفهام فيكون إمّا أن تُقدّر‏:‏ أم منزلُ شجرة الزقوم على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ فقد ذَكَر مكانين، وإما أن نقدر‏:‏ أم نزل شجرة الزقوم، وعلى هذا الوجه الثاني تَكون المعادلة مشاكَلة تهكماً لأن طعام شجرة الزقوم لا يحق له أن يسمى نزلاً‏.‏
وشجرة الزقوم ذكرت هنا ذِكر ما هو معهود من قبلُ لورودها معرِفة بالإِضافة ولوقوعها في مقام التفاوت بين حالي خير وشر فيناسب أن تكون الحوالة على مِثلين معروفين، فأما أن يكون اسماً جعله القرآن لشجرة في جهنم ويكون سبق ذكرها في ‏{‏ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 51- 52‏]‏، وكان نزولها قبل نزول سورة الصافات‏.‏ ويبين هذا ما رواه الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية ‏(‏أي آية سورة الواقعة‏)‏ قال ابن الزِّبَعْرَى‏:‏ أكثر الله في بيوتكم الزقوم، فإن أهل اليمن يسمّون التمر والزبد بالزقوم‏.‏ فقال أبو جهل لجاريته‏:‏ زقمينا فأتته بزُبد وتمر فقال‏:‏ تزقموا‏.‏
وعن ابن سيده‏:‏ بلغنا أنه لما نزلت‏:‏
‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ أي في سورة ‏[‏الدخان‏:‏ 43 44‏]‏ لم يعرفها قريش‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ يا جارية هاتي لنا تمراً وزبداً نزدقمه، فجعلوا يأكلون ويقولون‏:‏ أفبهاذا يخوفنا محمد في الآخرة ا‏.‏ ه‏.‏ والمناسب أن يكون قولهم هذا عندما سمعوا آية سورة الواقعة لا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة‏.‏ وإمّا أن يكون اسماً لشجر معروف هو مذموم، قيل‏:‏ هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإِنسان تورّم ومات منه في الغالب‏.‏ قاله قطرب وأبو حنيفة‏.‏
وتصدّي القرآن لوصفها المفصّل هنا يقتضي أنها ليست معروفة عندهم فذكرها مُجملة في سورة الواقعة فلما قالوا ما قالوا فصّل أوصافها هنا بهذه الآية وفي سورة الدخان بقوله‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلِي في البطون كغلْي الحميم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43- 46‏]‏‏.‏
وقد سماها القرآن بهذه الإِضافة كأنها مشتقة من الزقمة بضم الزاء وسكون القاف وهو اسم الطاعون، وقال ابن دريد‏:‏ لم يكن الزقوم اشتقاقاً من التزقم وهو الإِفراط في الأكل حتى يكرهه‏.‏ وهو يريد الرد على من قال‏:‏ إنها مشتقة من التزقم وهو البلْع على جَهد لكراهة الشيء‏.‏ واستأنف وصفها بأن الله جعلها ‏{‏فتنة للظالمين‏}‏، أي عذاباً مثل ما في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏، أي عذبوهم بأخدود النار‏.‏
وفسرت الفتنة أيضاً بأن خبر شجرة الزقوم كان فتنة للمشركين إذ أغراهم بالتكذيب والتهكم فيكون معنى ‏{‏جَعَلْناهَا‏}‏ جعلنا ذكرها وخبرها، أي لما نزلت آية سورة الواقعة، أي جعلنا ذكرها مثيراً لفتنتهم بالتكذيب والتهكم دون تفهم، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏، فإنه لما نزل قوله تعالى في وصف جهنم‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 30‏]‏ قال أبو جهل لقريش‏:‏ ثَكِلتكم أمهاتُكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدُّهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ‏(‏أي من خزنة النار‏)‏ فقال أبو الأشد الجمحي‏:‏ أنا أكفيكم سبعةَ عشر فاكْفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏ أي فليس الواحد منهم كواحد من الناس ‏{‏وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏
واستأنف لوصفها استئنافاً ثانياً مكرراً فيه كلمة ‏{‏إنَّهَا‏}‏ للتهويل‏.‏ ومعنى ‏{‏تَخْرُجُ‏}‏ تنبت كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب يخرجُ نباته بإذن ربه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏ ومن عجيب قدرة الله تعالى أن جعل من النار شجرة وهي نارية لا محالة‏.‏ صور الله في النار شجرة من النار، وتقريب ذلك ما يصور في الشماريخ النارية من صور ذات ألوان كالنخيل ونحوه‏.‏
وجعَل لها طلعاً، أي ثمراً، وأطلق عليه اسم الطلع على وجه الاستعارة تشبيهاً له بطلع النخلة لأن اسم الطلع خاصّ بالنخيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ عن السدي ومجاهد قال الكفار‏:‏ كيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها، فقولهم هذا ونحوه من الفتنة لأنه يزيدهم كفراً وتكذيباً‏.‏
و ‏{‏رُءُوسُ الشَّياطِينِ‏}‏ يجوز أن يكون مراداً بها رؤوس شياطين الجنّ جمع شيطان بالمعنى المشهور ورؤوس هذه الشياطين غير معروفة لهم، فالتشبيه بها حوالة على ما تصوّر لهم المخيّلة، وطلع شجرة الزقوم غير معروف فوُصف للناس فَظيعاً بَشِعاً، وشبهت بشاعته ببشاعة رؤوس الشياطين، وهذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإِيمان بالحياة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتنذر من كان حياً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏ والمقصود منه هنا تقريب حال المشبّه فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف ولا كون المشبه كذلك‏.‏
ونظيره قول امرئ القيس‏:‏
ومسنونة زرق كأنياب أغوال ***
وقيل‏:‏ أريد برؤوس الشياطين ثمر الأسْتن، والأسْتَن ‏(‏بفتح الهمزة وسكون السين وفتح التاء‏)‏ شجرة في بادية اليمن يشبه شخوص الناس ويسمى ثمره رؤوس الشياطين، وإنما سمّوه كذلك لبشاعة مرآه ثم صار معروفاً، فشبه به في الآية‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الشياطِينِ‏:‏‏}‏ جمع شيطان وهو من الحيات ما لرؤوسه أعراف، قال الراجز يشبه امرأته بحية منها‏:‏
عَنْجَرِدٌ تَحلف حينَ أحلف *** كمثل شيطاننِ الحَمَاط أعْرَفُ
الحماط‏:‏ جمع حَمَاطة بفتح الحاء‏:‏ شجر تكثر فيه الحيات، والعنجرِد بكسر الراء‏:‏ المرأة السليطة‏.‏
وهذه الصفات التي وصفت بها شجرة الزقوم بالغة حداً عظيماً من الذم وذلك الذم هو الذي عبّر عنه بالملعونة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشجرة الملعونة في القرآن‏}‏ في سورة ‏[‏الإِسراء‏:‏ 60‏]‏، وكذلك في آية ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم‏}‏ في سورة ‏[‏الدخان‏:‏ 43- 46‏]‏‏.‏
‏(‏وقد أنذروا بأنهم آكلون منها إنذاراً مؤكداً، أي آكلون من ثمرها وهو ذلك الطلع‏.‏ وضمير ‏{‏منها‏}‏ للشجرة جرى على الشائع من قول الناس أكلت من النخلة، أي من ثمرها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم آكلون منها كرهاً وذلك من العذاب، وإذا كان المأكول كريهاً يزيده كراهة سوءُ منظره، كما أن المشتهَى إذا كان حسن المنظر كان الإِقبال عليه بِشَرَه لظهور الفرق بين تناول تفاحة صفراء وتناول تفاحةَ مورّدة اللون، وكذلك محسنات الشراب، ألاَ ترَى إلى كعب بن زهير كيف أطال في محسنات الماء الذي مزجت به الخمر في قوله‏:‏
شُجَّت بذي شَبَم من ماء مَجْنيَة *** صاففٍ بأبطحَ أضحَى وهو مشمول
تنفي الرياح القذَى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
ومَلْءُ البطون كناية عن كثرة ما يأكلون منها على كراهتها‏.‏ وإسناد الأكل ومَلْءِ البطون إليهم إسناد حقيقي وإن كانوا مكرهين على ذلك الأكل والملْءِ‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَالِئُونَ‏}‏ فاء التفريع، وفيها معنى التعقيب، أي لا يلبثون أن تمتلئ بطونهم من سرعة الالتقام، وذلك تصوير لكراهتها فإن الطعام الكريه كالدواء إذا تناوله آكله أسرع ببلعه وأعظم لقمه لئلا يستقر طعمه على آلة الذوق‏.‏
و ‏{‏ثُم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إنَّ لهم عليها لشوْباً من حميمٍ‏}‏ للتراخي الرتبي لأنها عطفت جُملة، وليس للتراخي في الإِخبار معنى إلا إفادة أن ما بعد حرف التراخي أهم أو أعجب مما قبله بحيث لم يكن السامع يرقبه فهو أعلى رتبة باعتبار أنه زيادة في العذاب على الذي سبقه فوقْعه أشدّ منه، وقد أشعر بذلك قوله ‏{‏عليها‏}‏، أي بعدها أي بعد أكلهم منها‏.‏
والشَّوب‏:‏ أصله مصدر شاب الشيءَ بالشيء إذا خلَطه به، ويطلق على الشيء المشوب به إطلاقاً للمصدر على المفعول كالخلْق على المخلوق‏.‏ وكلا المعنيين محتمل هنا‏.‏ وضمير ‏{‏عليها‏}‏ عائد إلى ‏{‏شَجَرَة الزقُّومِ‏}‏ بتأويل ثمرها‏.‏ و‏(‏على‏)‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏، ويصح أن تكون للاستعلاء لأن الحميم يشربونه بعد الأكل فينزل عليه في الأمعاء‏.‏
والحميم‏:‏ القيح السائل من الدُّمَّل، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم شراب من حميم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏‏.‏
والقول في عطف ‏{‏ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم‏}‏ كالقول في عطف ‏{‏ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم‏.‏
والمرجع‏:‏ مكان الرجوع، أي المكان الذي يعود إليه الخارج منه بعد أن يفارقه‏.‏ وقد يستعار للانتقال من حالة طارئة إلى حالة أصلية تشبيهاً بمغادرة المكان ثم العود إليه كقول عُمر بن الخطاب في كلامه مع هُنَيْئ صاحب الحِمَى فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نَخْل وزرع، يعني عثمان بن عفان وعبد الرحمان بنَ عوف، فإنه إنما عَنى أنهما ينتقلان من الانتفاع بالماشية إلى الانتفاع بالنخل والزرع وكذلك ينبغي أن يفسر الرجوع في الآية لأن المشركين حين يطعمون من شجرة الزقوم ويشربون الحميم لم يفارقوا الجحيم فأريد التنبيه على أن عذاب الأكل من الزقوم والشراب من الحميم زيادةٌ على عذاب الجحيم، ألاَ ترى إلى قوله‏:‏ إنها شجرة تخرجُ في أصللِ الجحيمِ‏}‏ فليس ثمة مغادرة للجحيم حتى يكون الرجوع حقيقة، مثله قول النبي صلى الله عليه وسلم حين رجوعه من إحدى مغازيه «رجعْنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يريد مجاهدة النفس فإنه لم يعْننِ أنهم حين اشتغالهم بالجهاد قد تركوا مجاهدة أنفسهم وإنما عنى أنهم كانوا في جهاد زائد فصاروا إلى الجهاد السابق‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏
‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏
تعليل لِما جازاهم الله به من العذاب وإبداء للمناسبة بينه وبين جُرمهم، فإن جرمهم كان تلقياً لما وجدوا عليه آباءهم من الشرك وشُعَبه بدون نظر ولا اختيار لما يختاره العاقل، فكان من جزائهم على ذلك أنهم يطعمون طعاماً مؤلماً ويسقَون شراباً قذِراً بدون اختيار كما تلَقوا دين آبائهم تقليداً واعتباطاً‏.‏
فموقع ‏(‏إنَّ‏)‏ موقع فاء السببية، ومعناها معنى لام التعليل، وهي لذلك مفيدة ربط الجملة بالتي قبلها كما تربطها الفاء ولام التعليل كما تقدم غير مرة‏.‏
والمراد‏:‏ المشركون من أهل مكة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏ألْفَوا ءَابَآءَهُم ضَالِينَ‏}‏ إيماء إلى أن ضلالهم لا يخفى عن الناظر فيه لو تُركوا على الفطرة العقلية ولم يغشَوها بغشاوة العناد‏.‏
والفاء الداخلة على جملة ‏{‏فهم على آثارِهِم يُهرعُون‏}‏ فاء العطف للتفريع والتسبب، أي متفرّع على إلفائهم آباءهم ضالّين أنْ اقتفوا آثارهم تقليداً بلا تأمل، وهذا ذَمّ لهم‏.‏
والآثار‏:‏ ما تتركه خُطَى الماشِين من مَوطئ الأقدام فيَعلم السائر بعدَهم أن مواقعها مسلوكة موصلة إلى معمور، فمعنى ‏{‏على الاستعلاء التقريبي، وهو معنى المعية لأنهم يسيرون معها ولا يلزم أن يكونوا مُعْتَلِين عليها‏.‏
و يُهْرَعُونَ‏}‏ بفتح الراء مبنيّاً للمجهول مضارع‏:‏ أهرعه، إذا جعله هارعاً، أي حمله على الهرع وهو الإِسراع المفرط في السير، عبر به عن المتابعة دون تأمل، فشبه قبولُ الاعتقاد بدون تأمل بمتابعة السائر متابعة سريعة لقصد الالتحاق به‏.‏
وأسند إلى المجهول للدلالة على أن ذلك ناشئ عن تلقين زعمائهم وتعاليم المضلّلين، فكأنهم مدفوعون إلى الهرع في آثار آبائهم فيحصل من قوله‏:‏ ‏{‏يُهْرَعُونَ‏}‏ تشبيه حال الكفرة بحال من يُزْجَى ويدفع إلى السير وهو لا يعلم إلى أين يُسار به‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 74‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏
عُقّب وصفُ حال المشركين في الآخرة وما علّل به من أنهم ألْفَوْا آباءهم ضالّين فاتبعوا آباءهم بتنظيرهم بمن سلفوا من الضالّين وتذكيراً للرسول صلى الله عليه وسلم بذلك مسلاة له على ما يلاقيه من تكذيبهم، واستقصاء لهم في العبرة والموعظة بما حلّ بالأمم قبلهم، فهَذه الجملة معطوفة على مضمون الجملة التي قبلها إكمالاً للتعليل، أي اتبعوا آثار آبائهم واقتدوا بالأمم أشياعهم‏.‏
ووصف الذين ضلّوا قبلهم بأنهم ‏{‏أكْثَرُ الأوَّلِينَ‏}‏ لئلا يَغترّ ضعفاء العقول بكثرة المشركين ولا يعْتزّوا بها، ليعلموا أن كثرة العدد لا تبرّر ضلال الضالّين ولا خطأ المخطئين، وأن الهدى والضلال ليسا من آثار العدد كثرة وقلة ولكنهما حقيقتان ثابتتان مستقلتان فإذا عرضت لإِحداهما كثرة أو قلة فلا تكونان فتنة لقصار الأنظار وضعفاء التفكير‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏‏.‏
وأكملت العلة والتسلية والعبرة بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا فيهم مُنذرين‏}‏ أي رسلاً ينذرونهم، أي يحذرونهم ما سَيحل بهم مثل ما أرسلناك إلى هؤلاء‏.‏ وخصّ المرسلين بوصف المنذرين لمناسبة حال المتحدث عنهم وأمثالهم‏.‏ وضمير ‏{‏فِيهِم‏}‏ راجع إلى ‏{‏الأوَّلِينَ،‏}‏ أي أرسلنا في الأول منذِرين فاهتدى قليل وضلّ أكثرهم‏.‏
وفرّع على هذا التوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ترشيحاً لما في الكلام السابق من جانب التسلية والتثبيت مع التعريض بالكلام لتهديد المشركين بذلك، ويجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن فشمل النبي صلى الله عليه وسلم
والأمرُ بالنظر مستعمل في التعجيب والتهويل فإن أريد بالعاقبة عاقبتهم في الدنيا فالنظر بصريّ، وإن أريد عاقبتهم في الآخرة كما يقتضيه السياق فالنظر قلبي، ولا مانع من إرادة الأمرين واستعمال المشترك في المعنيين‏.‏
والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏المُنذَرِينَ‏}‏ تعريف العهد، وهم المنذَرون الذين أرسل إليهم المنذِرون، أي فهم الضالّون المعبر عنهم بأنهم ‏{‏أكْثَرُ الأوَّلين‏.‏‏}‏ فالمعنى‏:‏ فانظر كيف كان عاقبة الضالّين الذين أنذرناهم فلم ينتذروا كما فعل هؤلاء الذين ألْفَوْا آباءهم ضالّين فاتبعوهم، فقد تحقق اشتراك هؤلاء وأولئك في الضلال، فلا جرم أن تكون عاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك‏.‏ وفعل النظر معلق عن معموله بالاستفهام، والاستفهام تعجيبي للتفظيع‏.‏
واستثني ‏{‏عِبَادَ الله المُخلصين‏}‏ من ‏{‏الأوَّلِينَ‏}‏ استثناءً متّصلاً فإن عباد الله المخلصين كانوا من جملة المنذَرين فصدّقوا المنذِرين ولم يشاركوا المنذَرين في عاقبتهم المنظور فيها وهي عاقبة السوء‏.‏ وتقدم اختلاف القراء في فتح اللام وكسرها من قوله‏:‏ ‏{‏المخلصين‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 39- 40‏]‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 82‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏
أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسَل إليهم، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرَة، بتذكير وتسلية من جانب الإِخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذَوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً ويُلْقِم المشركين تبْكيتاً‏.‏ وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصيةً لها شبَهٌ بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته، ففي القِصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها‏.‏ واختير هؤلاء الرسل الستة‏:‏ لأن نوحاً القدْوة الأولى، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإِسلام، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإِسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول‏.‏ ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم‏.‏ فأما لوط فهو على ملة إبراهيم، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى‏.‏
وابتدى بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى‏.‏ وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله‏:‏ ‏{‏قال رب انصرني بما كذبون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً‏}‏ الآيات من سورة ‏[‏نوح‏:‏ 21‏]‏‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلَنِعْمَ المُجِيبونَ‏}‏ تفريع على ‏{‏نادَانَا،‏}‏ أي نادانا فأجبناه، فحذف المفرّع لدلالة ‏{‏فلنعم المجيبون‏}‏ عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه‏:‏ نعم المجيب‏.‏ والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلَنِعْم المجيبون نحن‏.‏ وضمير المتكلم المشارَك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم‏.‏ وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيراً للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحاً دعا فاستجيب له‏.‏
والتنجية‏:‏ الإِنجاء وهو جعل الغير ناجياً‏.‏ والنجاة‏:‏ الخلاص من ضر واقع‏.‏ وأطلقت هنا على السلامة من ذلك قبل الوقوع فيه لأنه لما حصلت سلامته في حين إحاطة الضر بقومه نُزلت سلامته منه مع قربه منه بمنزلة الخلاص منه بعد الوقوع فيه تنزيلاً لمقاربة وقوع الفعل منزلة وقوعه، وهذا إطلاق كثير للفظ النجاة بحيث يصح أن يقال‏:‏ النجاة خلاص من ضر واقع أو متوقع‏.‏
والمراد بأهله‏:‏ عائلته إلاّ مَن حق عليه القول منهم، وكذلك المؤمنون من قومه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم، أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى‏:‏
‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏
وأشعر قوله‏:‏ ‏{‏ونجَّيناهُ وأهلَهُ‏}‏ أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه‏.‏
و ‏{‏الكرب‏}‏‏:‏ الحزن الشديد والغمّ‏.‏ ووصفه ب ‏{‏العظيم‏}‏ لإِفادة أنه عظيم في نوعه فهو غمّ على غم‏.‏ والمعنيّ به الطوفان، وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه، فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر، وخوف في العاقبة والواقع فيه موقِن بالهلاك‏.‏ ولا يزال الخوف يزداد به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفَس ورعدة القَرّ والخوف وتحقق الهلاك حتى يغرق في الماء‏.‏
وإنجاء الله إياه نعمة عليه، وإنجاء أهله نعمة أخرى، وإهلاك ظالميه نعمة كبرى، وجُعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويُذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمه الله لأجله، وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة‏.‏
وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هُمُ الباقِينَ‏}‏ للحصر، أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجّاه الله مع نوح في السفينة من ذريته، ثُم مَن تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غيرُ ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة‏.‏
وظاهر هذا أن من آمن مع نوح من غير أبنائه لم يكن لهم نسل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا وُلده ونساءه‏.‏ وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود ‏{‏قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلَك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏، وهذا جار على أن الطوفان قد عمّ الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا مَن حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود‏.‏
وعمومُ الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة، ومن قالوا إن الطوفان لم يعمّ الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإِسرائيليين، وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عُمر الأرض وأَحداثها وذلك ليس من القواطع، ويكون القصر إضافياً أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم‏.‏ وقد يقال‏:‏ نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تُترك ظواهر الأخبار لأجلها‏.‏
وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه السلام قوله‏:‏ ‏{‏وتَرَكنا عليه في الآخِرِينَ‏}‏، فتلك نعمة خامسة‏.‏
والتَرك‏:‏ حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه‏.‏ وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعدُ، طالَ مُكثها أو قصر، فكأنَّ زوالَها استرجاعٌ من معطيها كما جاء في الحديث‏:‏ «لله ما أخذ وله ما أعطى»
فشرَف الله نوحاً بأن أبقى نعمهُ عليه في أمم بعده‏.‏
وظاهر ‏{‏الآخِرِينَ‏}‏ أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم، وقرينة المجاز تعليق ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ ب ‏{‏تركنا‏}‏ لأنه يناسب الإِبقاء، يقال‏:‏ أبقى على كذا، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر، وعلى هذا لا يكون ل ‏{‏تركنا‏}‏ مفعول، وبعضهم قدّر له مفعولاً يدل عليه المقام، أي تركنا ثناء عليه، فيجوز أن يراد بهذا الإِبقاء تعميره ألف سنة، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف‏.‏ ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم‏:‏ ‏{‏واجعل لي لسانَ صدْققٍ في الآخرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏ فكان نوح مذكوراً بمحامد الخصال حتى قيل‏:‏ لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحَاً وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم‏.‏ فجاء في «سفر التكوين» الإِصحاح التاسع‏:‏ كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله‏.‏ وورد ذكره قبل الإِسلام في قول النابغة‏:‏
فألفيتَ الأمانة لم تخنا *** كذلكَ كان نوح لا يخون
وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله‏:‏ ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وذكر ابن خلدون‏:‏ أن بعضهم يزعم أن نوحاً هو ‏(‏أفريدون‏)‏ ملك بلاد الفرس، وبعضهم يزعم أن نوحاً هو ‏(‏أوشهنك‏)‏ ملك الفرس الذي كان بعد ‏(‏كيومرث‏)‏ بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحاً كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإِسرائيلين‏.‏ على أن كيومرث يقال‏:‏ إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة‏.‏
ومتعلق ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه‏}‏ لم يَحُم أحد من المفسرين حوله فيما اطلعت، والوجه أن يتعلق ‏{‏عليه‏}‏ بفعل ‏{‏تركنا‏}‏ بتضمين هذا الفعل معنى ‏(‏أنعمنا‏)‏ فكان مقتضى الظاهر أن يعدّى هذا الفعل باللام، فلما ضمّن معنى أنعمنا أفاد بمادته معنى الإِبقاء له، أي إعطاء شيء من الفضائل المدخرة التي يشبه إعطاؤها ترك أحد متاعاً نفيساً لمن يُخليه هو له ويخلفه فيه‏.‏ وأفاد بتعليق حرف ‏(‏على‏)‏ به أن هذا الترك من قبيل الإِنعام والتفضيل، وكذلك شأن التضمين أن يفيد المضمَّن مفاد كلمتين فهو من ألطف الإِيجاز‏.‏ ثم إن مفعول ‏{‏تركنا‏}‏ لما كان محذوفاً وكان فعل ‏(‏أنعمنا‏)‏ الذي ضُمِّنه فعل ‏{‏تركنا‏}‏ مما يحتاج إلى متعلق معنى المفعول، كان محذوفاً أيضاً مع عامله فكان التقدير‏:‏ وتركنا له ثناء وأنعمنا عليه، فحصل في قوله‏:‏ ‏{‏تركنا عليه‏}‏ حذفُ خمس كلمات وهو إيجاز بديع‏.‏ ولذلك قدر جمهور المتقدمين من المفسرين ‏{‏وتَرَكنا‏}‏ ثناء حسناً عليه‏.‏
وجملة ‏{‏سَلامٌ على نُوححٍ في العالَمِينَ‏}‏ إنشاء ثناء الله على نوح وتحية له ومعناه لازم التحية وهو الرضى والتقريب، وهو نعمة سادسة‏.‏ وتنوين ‏{‏سَلامٌ‏}‏ للتعظيم ولذلك شاع الابتداء بالنكرة لأنها كالموصوف‏.‏
والمراد بالعالمين‏:‏ الأمم والقرون وهو كناية عن دوام السلام عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 15‏]‏ في حق عيسى عليه السلام وكقوله‏:‏
‏{‏سلام على آلْ يَاسينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 130‏]‏ ‏{‏سلام على إبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 109‏]‏‏.‏
وفي ‏{‏العالَمِينَ‏}‏ حال فهو ظرف مستقر أو خبر ثان عن ‏{‏سَلامٌ‏.‏
وذهب الكسائي والفراء والمبرد والزمخشري إلى أن قوله‏:‏ سَلامٌ على نوح في العالمين‏}‏ في محلّ مفعول ‏{‏تركنا‏}‏، أي تركنا عليه هذه الكلمة وهي ‏{‏سلامٌ على نوححٍ في العالَمِينَ‏}‏ وهو من الكلام الذي قصدت حكايته كما تقول قرأت ‏{‏سورة أنزلناها وفرضناها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏، أي جعلنا الناس يسلمون عليه في جميع الأجيال، فما ذكروه إلا قالوا‏:‏ عليه السلام‏.‏ ومثل ذلك قالوا في نظائرها في هذه الآيات المتعاقبة‏.‏
وزيد في سَلام نوح في هذه السورة وصْفُه بأنه في العالمين دون السلام على غيره في قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس للإِشارة إلى أن التنويه بنوح كان سائراً في جميع الأمم لأنهم كلهم ينتمون إليه ويذكرونه ذكر صدق كما قدمناه آنفاً‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا كذلك نجزي المُحسنين‏}‏ تذييل لما سبق من كرامة الله نوحاً‏.‏ و‏(‏إنّ‏)‏ تفيد تعليلاً لمجازاة الله نوحاً بما عده من النعم بأن ذلك لأنه كان محسناً، أي متخلقاً بالإِحسان وهو الإِيمان الخالص المفسّر في قول النبي صلى الله عليه وسلم «الإِحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته‏.‏
والمعنى‏:‏ إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين‏.‏ وفي هذا تنويه بنوح عليه السلام بأن جزاءه كان هو المثال والإِمامَ لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقَارُبِها من إحسان نوح عليه السلام وقوته في تبليغ الدعوة‏.‏ فهو أول من أوذي في الله فسَنَّ الجزاءَ لمن أوذي في الله، وكان على قَالَب جزائه، فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يُجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله، فثبت لنوح بهذا وصف الإِحسان، وهو النعمة السابعة‏.‏ وثبت له أنه مَثَل للمحسنين في جزائهم على إحسانهم، وهي النعمة الثامنة‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّه من عِبادنَا المُؤمنين‏}‏ تعليل لاستحقاقه المجازاة الموصوفة بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك نَجزي المحسنين‏}‏ فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها‏.‏
وأفاد وصفه ب ‏{‏إنَّه من عِبَادِنَا‏}‏ أنه ممن استحق هذا الوصف، وقد علمت غير مرة أن وصف ‏(‏عبد‏)‏ إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة، اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويهاً بشأن الإِيمان ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويقلع المشركون عن الشرك‏.‏ وهذه نعمة تاسعة‏.‏ وأقحم معها من ‏{‏عبادنا‏}‏ لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 40- 41‏]‏ وهذه نعمة عاشرة، وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإِيمان‏.‏
وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حلّ بقوم نوح وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وجعل نوح قدوة له، وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحاً على قومه وينجّيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أغرقنا الآخرينَ‏}‏ للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بيّن، ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذّبوه مع نجاته ونجاة أهله، أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه‏.‏
ومعنى ‏{‏الآخرِينَ‏}‏ مَن عَداهُ وعدا أهله، أي بقية قومه، وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار‏.‏ ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال‏:‏ «إن الآخر قد زنى» يعني نفسه على رواية الآخر بمدّ الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث‏.‏
وتقدم ذكر نوح وقصته عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏، وفي الأعراف، وفي سورة هود، وذكرُ سفينته في أول سورة العنكبوت‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏
‏{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏
تخلص إلى حكاية موقف إبراهيم عليه السلام من قومه في دعوتهم إلى التوحيد وما لاقاه منهم وكيف أيده الله ونجّاه منهم، وقع هذا التخلص إليه بوصفه من شيعة نوح ليفيد بهذا الأسلوب الواحِد تأكيد الثناء على نوح وابتداءَ الثناء على إبراهيم وتخليد منقبة لنوح إن كان إبراهيم الرسول العظيم من شيعته وناهيك به‏.‏ وكذلك جَمع محامد لإِبراهيم في كلمة كونه من شيعة نوح المقتضي مشاركته له في صفاته كما سيأتي، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏
والشيعة‏:‏ اسم لمن يناصر الرجل وأتباعِه ويتعصب له فيقع لفظ شيعة على الواحد والجمع‏.‏ وقد يجمع على شِيع وأشياع إذا أريد‏:‏ جماعات كلُّ جماعة هي شيعة لأحد‏.‏
وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك في شِيَع الأولين‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 10‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل أهلها شيعاً‏}‏ في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وكان إبراهيم من ذرية نوح وكان دينه موافقاً لدين نوح في أصله وهو نبذ الشرك‏.‏
وجعل إبراهيم من شيعة نوح لأن نوحاً قد جاءت رسل على دينه قبل إبراهيم منهم هود وصالح فقد كانا قبل إبراهيم لأن القرآن ذكرهما غير مرة عقب ذكر نوح وقبل ذكر لوط معاصر إبراهيم‏.‏ ولقول هود لقومه‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاءَ من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، ولقول صالح لقومه‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏، وقول شعيب لقومه‏:‏ ‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فجعل قوم لوط أقرب زمناً لقومه دون قوم هود وقوم صالح‏.‏ وكان لوط معاصر إبراهيم فهؤلاء كلهم شيعة لنوح وإبراهيم من تلك الشيعة وهذه نعمة حادية عشرة‏.‏
وتوكيد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ ولام الابتداء للردّ على المشركين لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدَّر للجار والمجرور الواقعين خبراً عن ‏{‏إنَّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإنَّ من شيعته لإبراهيم،‏}‏ أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة، أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح، فذلك وقتُ كونه من شيعته، أي لأن نوحاً جاء ربه بقلب سليم‏.‏ وفي ‏{‏إذْ‏}‏ معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض ل ‏{‏إذْ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة‏.‏
والباء في ‏{‏بِقَلببٍ سليمٍ‏}‏ للمصاحبة، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى‏:‏ إذ جاء ربه بسلامة قلب، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف ب ‏{‏سليمٍ‏}‏ لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه، ولذلك أوثر تنكير «قلب» دون تعريف‏.‏
و ‏{‏سَلِيمٍ‏:‏‏}‏ صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب ظهر أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقرّ الإِدراك والأخلاق‏.‏ فتعين أن المراد‏:‏ صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور، ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف‏.‏
وأطلق المجيء على معاملته به في نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحداً ملقياً إليه مَا طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكِية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه‏.‏ وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وقد جمع قوله‏:‏ ‏{‏بِقَلْببٍ سليمٍ‏}‏ جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ‏"‏‏.‏
وقد حكي عن إبراهيم قوله‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88- 89‏]‏، فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرّع عن قوله‏:‏ ‏{‏بقلب سليم،‏}‏ وذلك جُماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم أواه منيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏، فكان منزهاً عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل‏.‏
ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظاً كاملاً لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لِرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال‏:‏ ‏"‏ إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق ‏"‏، ولذلك أيضاً وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإِسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بُعِثت بالحنيفية السمحة ‏"‏ وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحِين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضاً يحصل من قوله‏:‏ ‏{‏وإنَّ من شيعتِه لإبراهيم‏}‏ إثبات مثل صفات نوح لإِبراهيم ومن قوله‏:‏ ‏{‏إذ جَاءَ ربَّهُ بقلْببٍ سليمٍ‏}‏ إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين، إلا أن ذلك أثبت لإِبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم‏.‏
و ‏{‏إذ قال لأبيهِ‏}‏ بدل من ‏{‏من جاء ربه بقلب سليم‏}‏ بدلَ اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه‏.‏
و ‏{‏ماذا تعبدون‏}‏ استفهام إنكاري على أن يعبدوا ما يعبدونه ولذلك أتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو ‏{‏أئِفكاً ءَالهَةً دونَ الله تريدون‏.‏‏}‏ وهذا الذي اقتضى الإِتيان باسم الإِشارة بعد «ما» الاستفهامية الذي هو مُشرَب معنى الموصول المشار إليه، فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإِبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنىً دون الحقيقي وهو معنى الإِنكار، بخلاف قوله‏:‏
‏{‏إذْ قالَ لأبيهِ وقومهِ ماذا تعبدون‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 70‏]‏ فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه ‏{‏قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 71‏]‏ وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجّة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقلَ إلى إبطاله، كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك، فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه، وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها‏.‏
وجملة ‏{‏أئِفكاً ءَالهة دون الله تريدون‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ماذا تعبدون‏}‏ بين به مصبّ الإِنكار في قوله‏:‏ ‏{‏ماذا تعبدون‏}‏ وإيضاحَه، أي كيف تريدون آلهة إفكاً‏.‏
وإرادة الشيء‏:‏ ابتغاؤه والعزم على حصوله، وحَقّ فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة‏:‏
تريدين قَتلي قد ظَفِرتتِ بذلك ***
فإذا عدي إلى الذوات كان على معنى يتعلق بتلك الذوات كقول عمرو بن شاس الأسدي‏:‏
أرادتْ عِراراً بالهوان ومن يُرِد *** عِراراً لعمري بالهوان فقد ظَلَم
فلذلك كانت تعدية فعل ‏{‏تُريدونَ‏}‏ إلى ‏{‏ءَالهة‏}‏ على معنى‏:‏ تريدونها بالعبادة أو بالتأليه، فكان معنى ‏{‏ءَالهة‏}‏ دليلاً على جانب إرادتها‏.‏
فانتصب ‏{‏ءَالهةً‏}‏ على المفعول به وقدم المفعول على الفعل للاهتمام به ولأن فيه دليلاً على جهة تجاوز معنى الفعل للمفعول‏.‏
وانتصب ‏{‏إفكاً‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏تُريدونَ‏}‏ أي آفكين‏.‏ والإِفك‏:‏ الكذب‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من آلهة، أي آلهة مكذوبة، أي مكذوب تأليهها‏.‏ والوصف بالمصدر صالح لاعتبار معنى الفاعل أو معنى المفعول‏.‏ وقدمت الحال على صاحبها للاهتمام بالتعجيل بالتعبير عن كذبهم وضلالهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏دُونَ الله‏}‏ أي خلاف الله وغيره، وهذا صالح لاعتبار قومه عبدة أوثان غير معترفين بإله غير أصنامهم، ولاعتبارهم مشركين مع الله آلهة أخرى مثل المشركين من العرب لأن العرب بقيت فيهم أثارة من الحنيفية فلم ينسوا وصف الله بالإلهية وكان قوم إبراهيم وهم الكلدان يعبدون الكواكب نظير ما كان عَليه اليونان والقبط‏.‏
وفرع على استفهام الإِنكار استفهام آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏فما ظنكم برب العالمين‏}‏ وهو استفهام أريد به الإِنكار والتوقيف على الخطأ، وأريد بالظن الاعتقاد الخطأ‏.‏
وسمي ظناً لأنه غير مطابق للواقع ولم يسمه علماً لأن العلم لا يطلق إلا على الاعتقاد المطابق للواقع ولذلك عرفوه بأنه‏:‏ «صفة توجِب تمييزاً لا يحتمل النقيض» ولا ينتفي احتمال النقيض إلا متى كان موافقاً للواقع‏.‏ وكثر إطلاق الظن على التصديق المخطئ والجهل المركب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 36‏]‏‏.‏
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ‏"‏
والمعنى‏:‏ أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكَر‏.‏
وفعل الظن إذا عدّي بالباء أشعر غالباً بظن صادق قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ومنه إطلاق الظنين على المتهم فإن أصله‏:‏ ظنين بِه، فحذفت الباء ووصل الوصف، وذلك أنه إذا عدي بالباء فالأكثر حذف مفعوله وكانت الباء للإِلصاق المجازي، أي ظن ظناً ملصقاً بالله، أي مدّعى تعلقه بالله وإنما يناسب ذلك ما ليس لائقاً بالله‏.‏
وتقدمت الإِشارة إليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏ في سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ فما ظنكم السيّئ بالله، ولما كان الظن من أفعال القلب فتعديته إلى اسم الذات دون إتباع الاسم بوصف متعينة لتقدير وصف مناسب‏.‏ وقد حذف المتعلق هنا لقصد التوسع في تقدير المحذوف بكل احتمال مناسب تكثيراً للمعاني فيجوز أن تعتبر من ذاتتِ ربّ العالمين أوصافُه‏.‏ ويجوز أن يعتبر منها الكنهُ والحقيقة، فاعتبار الوصف على وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ المعنى المشتق منه الرب وهو الربوبية وهي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً ورفقاً فإن المخلوق محتاج إلى البقاء والإِمداد وذلك يوجب أن يَشكر المُمَدّ فلا يصد عن عبادة ربه، فيكون التقدير‏:‏ فما ظنكم أن له شركاء وهو المنفرد باستحقاق الشكر المُتَمثل في العبادة لأنه الذي أمدكم بإنعامه‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن يعتبر فيه معنى المالكية وهي أحد معنيي الربّ وهو مستلزم لمعنى القهر والقدرة على المملوك، فيكون التقدير‏:‏ فما ظنكم ماذا يفعل بكم من عقاب على كفرانه وهو مالِككم ومالك العالمين‏.‏
وأما جواز اعتبار حقيقة رب العالمين وكنهه‏.‏ فالتقدير فيه‏:‏ فما ظنكم بكنهِ الربوبية فإنكم جاهلون الصفات التي تقتضيها وفي مقدمتها الوحدانية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 96‏]‏
‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏ فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏
مفرع على جملة ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 85‏]‏ تفريع قصص بعطف بعضها على بعض‏.‏
والمقصود من هذه الجمل المتعاطفة بالفاءات هو الإِفضاء إلى قوله ‏{‏فَراغَ إلى آلهتهم‏}‏ وأما ما قبلها فتمهيد لها وبيان كيفية تمكنه من أصنامهم وكسرها ليظهر لعبدتها عجزها‏.‏
وقال ابن كثير في «تفسيره» «قال قتادة‏:‏ والعرب تقول لمن تفكر‏:‏ نظر في النجوم، يعني قتادة‏:‏ أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يُلهيهم به» ا ه‏.‏ وفي «تفسير القرطبي» عن الخليل والمبرد‏:‏ يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره‏:‏ نظر في النجوم، أي أنه نظر في النجوم، مما جرى مجرى المثل في التعبير عن التفكير لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلاً بل المراد أنه نظر للسماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم‏.‏
وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر أنه نظر فيما نجم له من الرأي، يعني أن النجوم مصدر نجَم بمعنى ظهر‏.‏
وعن ثعلب‏:‏ نظر هنا تفكر فيما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة‏.‏
والمعنى‏:‏ ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال‏:‏ ‏{‏إني سقيمٌ‏}‏ ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل‏.‏ والوجه‏:‏ أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فنظَرَ‏}‏ تعقيب عرفي، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏ والتي تفرع عليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فراغ إلى أهله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 26‏]‏ الخ‏.‏
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله‏:‏ ‏{‏نظرةً‏}‏ إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا إبراهيم رشده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إني سقيمٌ‏}‏ عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها‏.‏ وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان‏.‏ وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله‏:‏ ‏{‏فتولوا عنه مُدبرينَ‏.‏
والسقيم‏:‏ صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏بقلبٍ سليمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 84‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ سَقِم بوزن مرِض، ومصدره السَّقم بالتحريك، فيقال‏:‏ سقام وسقم بوزن قُفْل‏.‏
والتولي‏:‏ الإِعراض والمفارقة‏.‏
لم ينطق إبراهيم فإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله‏:‏ ‏{‏إني سقيمٌ‏}‏ مقارناً لنظره في النجوم أوهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم‏.‏
و ‏{‏مُدبرينَ‏}‏ حال، أي ولَّوه أدبارهم، أي‏:‏ ظهورهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏مُدْبرينَ‏}‏ حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالباً لدفع توهّم أنه تولّي مخالفة وكراهة دون انتقال‏.‏
وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضلّ ديناً، واختل نظراً وتخميناً‏.‏ وقد دوّنوا كذباً كثِيراً في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم‏.‏
وقد ظهر من نظم الآية أن قوله‏:‏ ‏{‏إني سقيمٌ‏}‏ لم يكن مرضاً ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذَبات اثنتين منهن في ذات الله عزّ وجلّ ‏"‏ قوله‏:‏ ‏{‏إني سقيم،‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرهم هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏، وبينَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال‏:‏ «هي أختي» الحديث، فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبيء‏.‏
ودفع الإِشكال‏:‏ أن تسمية هذا الكلام كذباً منظور فيه إلى ما يُفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج، أو في التألم من كفرهم وأن قوله‏:‏ «هي أختي» أراد أخوّةَ الإِيمان، وأنه أراد التهكم في قوله‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرهم هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏ لظهور قرينة أن مراده التغليط‏.‏
وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالاً يتوجه على تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام بأنه كذبات‏.‏ وجوابه عندي‏:‏ أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ، ولا المجازُ، ولا التهكّم، فكان ذلك عند قومه كذباً وأن الله أذِن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثاً من عِصيّ فيضرب به ضربةً واحدة ليُبرّ قسَمَه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه السلام‏.‏
وفعل «راغ» معناه‏:‏ حاد عن الشيء، ومصدره الرَّوغ والروغان، وقد أطلق هنا على الذهاب إلى أصنامهم مخاتلة لهم ولأجل الإِشارة إلى تضمينه معنى الذهاب عدّي ب ‏{‏إلى‏}‏‏.‏
وإطلاق الآلهة على الأصنام مراعىً فيه اعتقاد عبدتها بقرينة إضافتها إلى ضميرهم، أي إلى الآلهة المزعومة لهم‏.‏
ومخاطبة إبراهيم تلك الأصنام بقوله‏:‏ ‏{‏ألا تأكلونُ ما لكم لا تَنطقونَ‏}‏ وهو في حال خلوة بها وعلى غير مسمع من عَبَدَتِها قصد به أن يثير في نفسه غضباً عليها إذ زعموا لها الإلهية ليزداد قوة عزم على كسرها‏.‏
فليس خطاب إبراهيم للأصنام مستعملاً في حقيقته ولكنه مستعمل في لازمه وهو تذكرُّ كذب الذين ألَّهوها والذين سَدَنوا لها وزعموا أنها تأكل الطعام الذي يضعونه بين يديها ويزعمون أنها تكلمهم وتخبرهم‏.‏
ولذلك عقب هذا الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فراغَ عليهم ضرباً باليمينِ‏.‏‏}‏ وقد استعمل فعل ‏(‏راغ‏)‏ هنا مضمّناً معنى ‏(‏أقبل‏)‏ من جهة مائلة عن الأصنام لأنه كان مستقبلها ثم أخذ يضربها ذات اليمين وذات الشمال نظير قوله تعالى‏:‏
‏{‏فيميلون عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏‏.‏
وانتصب ‏{‏ضَرْباً باليمين‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏فراغَ‏}‏ أي ضارباً‏.‏ وتقييد الضرب باليمين لتأكيد ‏{‏ضَرْباً‏}‏ أي ضرباً قوياً، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأخذنا منه باليمين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 45‏]‏ وقول الشماخ‏:‏
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد *** تَلقَّاها عَرابَةُ باليمين
فلما علموا بما فعل إبراهيم بأصنامهم أرسلوا إليه من يُحضره في ملئِهم حول أصنامهم كما هو مفصّل في سورة الأنبياء وأجمل هنا‏.‏
فالتعقيب في قوله‏:‏ ‏{‏فأقبلوا إليه‏}‏ تعقيب نسبي وجاءه المرسلون إليه مسرعين ‏{‏يزفون‏}‏ أي يعْدون، والزَّف‏:‏ الإِسراع في الجري، ومنه زفيف النعامة وزفها وهو عَدْوها الأول حين تنطلق‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ بفتح الياء وكسر الزاي على أنه مضارع زفّ‏.‏ وقرأه حمزة وخلف بضم الياء وكسر الزاي، على أنه مضارع أزفّ، أي شرعوا في الزفيف، فالهمزة ليست للتعدية بل للدخول في الفعل، مثل قولهم‏:‏ أَدنف، أي صار في حال الدنف، وهو راجع إلى كون الهمزة للصيرورة‏.‏
وجملة ‏{‏قال أتعبدون ما تَنْحِتون‏}‏ استئناف بيانيّ لأن إقبال القوم إلى إبراهيم بحالة تنذر بحنقهم وإرادة البطش به يثير في نفس السامع تساؤلاً عن حال إبراهيم في تلقّيه بأولئك وهو فاقد للنصير معرَّض للنكال فيكون ‏{‏قال أتعبدون ما تنحتون‏}‏ جواباً وبياناً لما يسأل عنه، وذلك منبئ عن رباطة جأش إبراهيم إذ لم يتلق القوم بالاعتذار ولا بالاختفاء، ولكنه لقِيهم بالتهكّم بهم إذ قال‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرهم‏}‏ هذا كما في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏‏.‏ ثم أنحى عليهم باللائمة والتوبيخ وتسفيه أحْلامهم إذ بلغوا من السخافة أن يعبدوا صوراً نحتوها بأيديهم أو نحتها أسلافهم، فإسناد النحت إلى المخاطبين من قبيل إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها كقولهم‏:‏ بَنو أسد قتلوا حُجْر بنَ عَمْرو أبا امرئ القيس‏.‏
والنحت‏:‏ بري العُود ليصير في شكل يُراد، فإن كانت الأصنام من الخشب فإطلاق النحت حقيقة، وإن كانت من حجارة كما قيل، فإطلاق النحت على نقشها وتصويرها مجاز‏.‏
والاستفهام إنكاري والإِتيان بالموصول والصلة لما تشتمل عليه الصلة من تسلط فعلهم على معبوداتهم، أي أن شأن المعبود أن يكون فاعلاً لا منفعلاً، فمن المنكر أن تعبدوا أصناماً أنتم نحتموها وكان الشأن أن تكون أقلّ منكم‏.‏
والواو في ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ واو الحال، أي أتيتم منكراً إذ عبدتم ما تصنعونه بأيديكم والحال أن الله خلقكم وما تعملون وأنتم مُعرِضون عن عبادته، أو وأنتم مشركون معه في العبادة مخلوقاتتٍ دونكم‏.‏ والحال مستعملة في التعجيب لأن في الكلام حذفاً بعد واو الحال إذ التقدير‏:‏ ولا تعبدون الله وهو خلقكم وخلق ما نحتموه‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ موصولة و‏{‏تَعملُونَ‏}‏ صلة الموصول، والرابط محذوف على الطريقة الكثيرة، أي وما تعملونها‏.‏ ومعنى ‏{‏تعملون‏}‏ تنحتون‏.‏ وإنما عدل عن إعادة فعل ‏{‏تنحتون‏}‏ لكراهية تكرير الكلمة فلما تقدّم لفظ ‏{‏تَنْحِتُونَ‏}‏ علم أن المراد ب ‏{‏ما تعملون‏}‏ ذلك المعمول الخاص وهو المعمول للنحت لأن العمل أعمّ‏.‏ يقال‏:‏ عملت قميصاً وعملتُ خاتماً‏.‏ وفي حديث صنع المنبر «أرسل رسوُل الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار أنْ مُري غلامك النجّارَ يعمَلْ لي أعواداً أُكلّم عليها الناس»
وخلق الله إياها ظاهر، وخلقه ما يعملونها‏:‏ هو خلق المادة التي تصنع منها من حجر أو خشب، ولذلك جمع بين إسناد الخلق إلى الله بواو العطف، وإسنادِ العمل إليهم بإسناد فعل ‏{‏تعملُونَ‏.‏
وقد احتج الأشاعرة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بهذه الآية على أن تكون ما‏}‏ مصدرية أو تكون موصولة، على أن المراد‏:‏ ما تعملونه من الأعمال‏.‏ وهو تمسك ضعيف لما في الآية من الاحتمالين ولأن المقام يرجح المعنى الذي ذكرناه إذ هو في مقام المحاجّة بأن الأصنام أنفسها مخلوقة لله فالأولى المصير إلى أدلة أخرى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏
‏{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏
‏{‏الجحيم‏}‏‏:‏ النار الشديدة الوقود، وكلّ نار على نار وجمر فوق جمر فهو جحيم‏.‏
وتقدمت هذه القصة ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء، وعبر هنا ب ‏{‏الأسْفَلِينَ‏}‏ وهنالك ب ‏{‏الأَخسرين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 70‏]‏ والأسفل هو المغلوب لأن الغالب يُتخيل معتلياً على المغلوب فهو استعارة للمغلوب، والأخسر هنالك استعارة لمن لا يحصل من سعيه على بغيته‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏
‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏‏}‏
لما نجا إبراهيم من نارهم صمّم على الخروج من بلده ‏(‏أُور الكلدانيين‏)‏‏.‏
وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله‏.‏ والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصداً بلاد حَران في أرض كنعان ‏(‏وهي بلاد الفينيقيين‏)‏‏.‏
والظاهر‏:‏ أن هذا القول قاله علنَاً في قومه ليكفوا عن أذاهُ، وكان الأمم الماضون يُعدّون الجلاء من مقاطع الحقوق، قال زهير‏:‏
وإن الحق مقطعه ثلاث *** يَمين أو نِفار أو جَلاء
ولذلك لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة لم يتعرض له قريش في بادئ الأمر ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه‏.‏
ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه فمعنى ‏{‏ذاهبٌ إلى ربي‏}‏ مهاجر إلى حيث أعبد ربّي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتَن في عبادته كما فتنت في بلدهم‏.‏
ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإِعلان توحيد الله فسلك به المسالك التي سلكها حتى بلغ به مكة وأودع بها أهلاً ونسلاً، وأقام بها قبيلة دينُها التوحيد، وبنى لله معبداً، وجعل نسله حفظة بيت الله، ولعلّ الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقاً عن علم أو عن توفيق‏.‏
وجملة ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ يجوز أن تكون حالاً وهو الأظهر لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم، ويجوز أن تكون استئنافاً؛ فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة، ولا يمنع من جعل الجملة حالاً اقترانها بحرف الاستقبال فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدّرة، والتقدير‏:‏ أني ذاهب إلى ربّي مقدِّراً، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولاً لعامل مستقبل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيدخلون جهنم داخرين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن معي ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ وقول سعد بن ناشب‏:‏
سأغسل عني العار بالسيف جالباً *** علي قضاءُ الله ما كان جالباً
وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإِثبات أو النفي مذهب بصري، وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال، وجوازه مذهب كوفي كما ذكره ابن الأنباري في «الإنصاف»، والحق في جانب نحاة الكوفة‏.‏ وقد تلقّف المذهب البصري معظمُ علماء العربية وتحيّر المحققون منهم في تأييده فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالاً وبين اقترانها بعلامة الاستقبال‏.‏ ونُبينُه بأن الحال ما سميت حالاً إلا لأن المراد منها ثبوت وصف في الحال وهذا ينافي اقترانها بعلامة الاستقبال تنافياً في الجملة‏.‏ هذا بيان ما وجّه به الرضيّ مذهب البصريين وتبعه التفتزاني في مبحث الحال من شرحه المطوّل على «تلخيص المفتاح»‏.‏
وفي مبحث الاستفهام ب ‏(‏هل‏)‏ منه‏.‏ وقد زيف السيد الجرجاني في «حاشية المطوّل» ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفاً رشيقاً‏.‏
ويجوز أن تكون جملة ‏{‏سيهدينِ‏}‏ مستأنفة وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلَم الاستقبال، فالاستئناف بياني بياناً لسبب هجرته‏.‏
وجملة ‏{‏ربّ هب لي من الصالِحِينَ‏}‏ بقية قوله فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلوّ بوجود قرابته وأصدقائه‏.‏
ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين ‏(‏الاصحاح الخامس عشر‏)‏ «وقال أبرام إنك لم تعطني نسلاً وهذا ابن بيتي ‏(‏بمعنى مولاه‏)‏ وارث لي ‏(‏أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه‏)‏»‏.‏ وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحواً من سبعين سنة‏.‏
وقال في «الكشاف»‏:‏ لفظ الهبة غلب في الولد‏.‏ لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد‏:‏ ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏‏.‏
فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه‏.‏
ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحاً فإن صلاح الأبناء قُرة عين للآباء، ومن صلاحهم برُّهم بوالديهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏
‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏
الفاء في ‏{‏فبشَّرناهُ‏}‏ للتعقيب، والبشارة‏:‏ الإِخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد؛ فإن كان الله بشّر إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه كما هو الظاهر وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولداً بعد زمان، فالتعقيب على ظاهره؛ وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة، فالتعقيب نسبي، أي بشرناه حين قدّرنا ذلك أول بشارة بغلام فصار التعقيب آئلاً إلى المبادرة كما يقال‏:‏ تزوج فولد له؛ وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو إسماعيل لا محالة‏.‏
والحليم‏:‏ الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق‏.‏ قيل‏:‏ ما نَعَتَ الله الأنبياء بأقلّ مما نعتهم بالحلم‏.‏
وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قَوم لوط في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏ فذلك وُصف بأنه ‏{‏عليم‏}‏‏.‏ وهذا وصُف ب ‏{‏حَلِيمٍ‏.‏‏}‏ وأيضاً ذلك كانت البشارة به بمحضر سَارَة أمِّه وقد جُعلت هي المبشرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت‏:‏ يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏، فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه‏.‏
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفة بالواو عطف القصة على القصة‏.‏
والفاء في ‏{‏فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي‏}‏ فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره‏:‏ فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شؤونه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏معه‏}‏ متعلق بالسعي والضمير المستتر في ‏{‏بلغ‏}‏ للغلام، والضمير المضاف إليه ‏{‏معه‏}‏ عائد إلى إبراهيم‏.‏ و‏{‏السعي‏}‏ مفعول ‏{‏بلغ‏}‏ ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات‏.‏
وكان عمُر إسماعيل يومئذٍ ثلاث عشرة سنة وحينئذٍ حدّث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام، وإنما كانت الرؤيا وحياً له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه، فقد رأى في المنام أنه يهاجِر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أُذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي الله عنه، ورأى بَقراً تُذبح فكان تأويل رؤياه مَن استشهد من المسلمين يوم أحد، ولقد يُرجَّح قول القائلين من السلف بأن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة، فإن في حديث الإِسراء أن الله فرَض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإِسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة فافهم‏.‏
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء‏.‏
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء‏.‏
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء‏.‏ فقابَل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ هذا لهو البلاء المبينُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 106‏]‏‏.‏
وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراماً لإِبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رُؤَى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فانظر ماذا ترى‏}‏ فاء تفريع، أو هي فاء الفصيحة، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى‏.‏ والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدّى إلى مفعولين ولكن علّقه الاستفهام عن العمل‏.‏ والمعنى‏:‏ تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأموراً بذبح ابنه جبراً، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين‏:‏ أحدهما بتلقي الوحي، والآخرِ بتبليغ الرسول إليه، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتُبر كافراً‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ماذا ترى‏}‏ بفتح التاء والراء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء، أي مَاذا تُريني من امتثال أو عدمه‏.‏ وحكى جوابه فقال‏:‏ ‏{‏يأبتتِ افعل ما تُؤمرُ‏}‏ دون عطف، جرياً على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏
‏(‏وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنّن‏.‏
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو ‏{‏ما تُؤمَرُ‏}‏ دون أن يقول‏:‏ اذْبَحني، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جَعل جوابه امتثالاً لذبحه‏.‏ وحُذف المتعلق بفعل ‏{‏تُؤمرُ‏}‏ لظهور تقديره‏:‏ أي ما تؤمر به‏.‏ وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإِيصال، كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏
أمرتك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به *** فقد تركتُكَ ذا مال وذا نشَب
وصيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏افْعَلْ‏}‏ مستعملة في الإِذن‏.‏ وعدل عن أن يقال‏:‏ اذبحني، إلى ‏{‏افعل ما تؤمرُ‏}‏ للجمع بين الإِذن وتعليله، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه‏.‏
وجملة ‏{‏ستَجِدُني‏}‏ هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أُمر به وَعَده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابراً، وفي ذلك تخفيف من عبْء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره‏.‏ وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، وقد قرن وعده ب ‏{‏إن شاء الله‏}‏ استعانةً على تحقيقه‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الصابِرينَ‏}‏ من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف‏:‏ بصابر، لأنه يفيد أنه سيجده في عِداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به، ألاَ ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابِراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 69‏]‏ لأنه حُمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏
‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏
‏{‏أسْلَمَا‏}‏ استسلما‏.‏ يقال‏:‏ سلَّم واستسلم وأسلم بمعنى‏:‏ انقاد وخضع، وحذف المتعلِّق لظهوره من السياق، أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيُّؤ لذبح ابنه، واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه‏.‏
و ‏{‏تلّه‏}‏‏:‏ صرعه على الأرض، وهو فعل مشتق من اسم التلّ وهو الصبرة من التراب كالكُدْية، وأما قوله في حديث الشُّرْب «فتلّه في يده» أي القَدح، فذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده‏.‏
واللام في ‏{‏لِلجَبِينِ‏}‏ بمعنى ‏(‏على‏)‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يخرون للأذقان سجداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏دعانا لجنبه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏، ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه‏.‏
والجبين‏:‏ أحد جانبي الجبهة، وللجبهة جبينان، وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خَطَّأوُا المتنبي في قوله‏:‏
وَخَلِّ زِيّاً لمن يُحقِّقه *** ما كُل دَاممٍ جبينُه عَابِدْ
وتبع المتنبيَ إطلاقُ العامة وهو خطأ، وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في «أدب الكتاب» ولم يتعقبه ابن السيِّد البطليوسي في «الاقتضاب» ولكن الحريري لم يعدّه في «أوهام الخواصّ» فلعله أن يكون غفل عنه، وذكر مرتضَى في «تاج العروس» عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازاً بعلاقة المجاورة، وأنشد قول زهير‏:‏
يَقيني بالجبين ومنكبيه *** وأدْفعه بمُطَّرد الكعوب
وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك‏.‏ وهذا لا يصح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهيراً أراد من الجبين الجبهة‏.‏ ولم يذكر هذا في الأساس‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال‏.‏ ومناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملك، أسندت المناداة إلى الله تعالى لأنه الآمر بها‏.‏
وتصديق الرؤيا‏:‏ تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال‏:‏ رؤيا صادقة، إذا حصل بَعدها في الواقع ما يماثل صورةَ ما رآه الرائي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وفي حديث عائشة‏:‏ «أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح»‏.‏ وبضد ذلك يقال‏:‏ كذبتْ الرؤيا، إذا حصل خلاف ما رأى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن ‏"‏، فمعنى ‏{‏قد صدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله‏.‏ وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك‏.‏
والمراد‏:‏ أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا كذلك نَجزي المحسنين‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏وناديناهُ‏}‏ لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه‏.‏ وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيمَ، ويجوز أن تكون معترضة بين جُمل خطاب إبراهيم، والإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ إلى المصدر المأخوذ من فعل ‏{‏صَدَّقتَ‏}‏ من المصدر وهو التصديق مثل عَود الضمير على المصدر المأخوذ من ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاءً عظيماً للمحسنين، أي الكاملين في الإِحسان، أي وأنت منهم‏.‏
ولِما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عُظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بُعداً اعتبارياً وهو الرفعة وعُظم القدر في الشرف، فالتقدير‏:‏ إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإِحسان الذي أحسنتَ به بتصديقك الرؤيا، مكافأة على مقدار الإِحسان فإنه بذل أعَزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيَّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعْد الصادق من جزاءِ القادر العظيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏‏.‏
ولِمَا أفاد اسم الإِشارة من عظمة الجزاء أُكّد الخبر ب ‏{‏إنَّ لدفع توهم المبالغة، أي هو فوق ما تعْهده في العظمة وما تُقدره العقول‏.‏
وفهم من ذكر المحسنين أن الجزاء إحسان بمثل الإِحسان فصار المعنى‏:‏ إنا كذلك الإِحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين، فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني، وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإِحسان، وقد كان إحسان الابن عظيماً ببذل نفسه‏.‏
وقد أكد ذلك بمضمون جملة إن هذا لهو البلاء المبين‏}‏ أي هذا التكليف الذي كلّفناك هو الاختبار البيّن، أي الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله‏.‏
واستعمل لفظ البلاء مجازاً في لازمه وهو الشهادة بمرتبةِ مَن لو اختُبر بمثل ذلك التكليف لعُلمت مرتبته في الطاعة والصبر وقوة اليقين‏.‏
وجملة ‏{‏إن هذا لهو البلاء المبين‏}‏ في محل العلة لجملة ‏{‏إنَّا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ على نحو ما تقدم في موقع جملة ‏{‏إنه من عبادنا المؤمنين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 81‏]‏ في قصة نوح‏.‏
وجواب ‏{‏فلمَّا أسلما‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وناديناهُ،‏}‏ وإنما جيء به في صورة العطف إيثاراً لما في ذلك من معنى القصة على أن يكون جواباً لأن الدلالة على الجواب تحصل بعطف بعض القصة دون العكس، وحذفُ الجواب في مثل هذا كثير في القرآن وهو من أساليبه ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، وجاءوا أباهم عشاء يبكون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 15- 16‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وفديناهُ‏}‏ يظهر أنها من الكلام الذي خاطب الله به إبراهيم‏.‏
والمعنى‏:‏ وقد فدينا ابنَك بذبح عظيم ولولا هذا التقدير تكون حكاية نداء الله إبراهيم غير مشتملة على المقصود من النداء وهو إبطال الأمر بذبح الغلام‏.‏
والفِدَى والفداء‏:‏ إعطاء شيء بدلاً عن حق للمعطَى، ويطلق على الشيء المفدَى به من إطلاق المصدر على المفعول‏.‏ وأسند الفداء إلى الله لأنه الآذِن به، فهو مجاز عقلي، فإن الله أوحى إلى إبراهيم أن يذبح الكبش فداء عن ذبح ابنه وإبراهيم هو الفادي بإذن الله، وابن إبراهيم مُفْدىً‏.‏
والذِبح بكسر الذال‏:‏ المذبوح ووزن فِعل بكسر الفاء وسكون عين الكلمة يكثر أن يكون بمعنى المفعول مما اشتق منه مثل‏:‏ الحِب والطِحن والعِدل‏.‏
ووصفه ب ‏{‏عَظِيمٍ‏}‏ بمعنى شرف قدر هذا الذِبح، وهو أن الله فدَى به ابن رسوللٍ وأبقى به من سيكون رسولاً فعِظمه بعظم أثره، ولأنه سخره الله لإِبراهيم في ذلك الوقت وذلك المكان‏.‏
وقد أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن لعله لئلا يثير خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح مِن ولدَيْ إبراهيم، وكان المقصد تألف أهل الكتاب لإِقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديققِ القرآن، ولم يكن ثَمة مقصد مهمّ يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه، وأمارة ذلك أن القرآن سمّى إسماعيل في مواضع غيرِ قصة الذبح وسمَّى إسحاق في مواضع، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لُوط، وذكر اسمَيْ إسماعيل وإسحاق أنهما وُهبا له على الكِبر ولم يسمّ أحداً في قصة الذبح قصداً للإِبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويهٌ عظيم بشأن إبراهيم وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ‏"‏ روى الحاكم في «المستدرك» عن معاوية بن أبي سفيان أن أحد الأعراب قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعني أنه من ولد إسماعيل وهو الذبيح وأن أباه عبدَ الله بن عَبد المطلب كان أبوه عبد المطلب نذر‏:‏ لئن رزقه الله بعشرة بنين أن يذبح العاشر للكعبة، فلما وُلد عبد الله وهو العاشر عزَم عبد المطلب على الوفاء بنذره، فكلّمه كبراء أهل البطاح أن يعْدِلَه بعشرة من الإِبل وأن يستقسم بالأزلام عليه وعلى الإِبل فإن خرج سَهم الإِبل نحرها، ففعل فخرج سهم عبد الله، فقالوا‏:‏ أرضضِ الآلهة، أي الآلهة التي في الكعبة يومئذٍ، فزاد عشرة من الإِبل واستقسم فخرج سهم عبد الله، فلم يزالوا يقولون‏:‏ أرْضضِ الآلهة ويزيد عبد المطلب عشرة من الإِبل ويعيد الاستقسام ويخرج سهم عبد الله إلى أن بلغ مائة من الإِبل واستقسم عليهما فخرج سَهم الإِبل فقالوا رَضِيتْ الآلهة فذبحها فداءً عنه‏.‏
وكانت منقبة لعبد المطلب ولابنه أبي النبي صلى الله عليه وسلم تشبه منقبة جدّه إبراهيم وإن كانت جرت على أحوال الجاهلية فإنها يستخلص منها غيرُ ما حفّ بها من الأعراض الباطلة، وكان الزمان زمان فترة لا شريعةَ فيه ولم يَرد في السنة الصحيحة ما يخالف هذا‏.‏ إلا أنه شاع من أخبار أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق بن إبراهيم بناء على ما جاء في «سفر التكوين» في «الإِصحاح» الثاني والعشرين وعلى ما كان يقصّه اليهود عليهم، ولم يكن فيما علموه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ولا كانوا يسألونه‏.‏
والتأمُّل في هذه الآية يقوّي الظن بأن الذبيح إسماعيل، فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله‏:‏ ‏{‏فبشَّرناهُ بغلاممٍ حَليمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏ وأنه هو الذي سأل إبراهيمُ ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإِبراهيم، ثم أعقبت قصته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناهُ بإسحاق نبيئاً من الصالِحِين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏، وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي مضى الكلام على قصته لأن الظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وبشرناه‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏ بشارة ثانية وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة‏.‏ فهذا دليل أول‏.‏
الدليل الثاني‏:‏ أن الله لما ابتلى إبراهيم بذبح ولده كان الظاهر أن الابتلاء وقع حين لم يكن لإِبراهيم ابنٌ غيره لأن ذلك أكمل في الابتلاء كما تقدم‏.‏
الدليل الثالث‏:‏ أن الله تعالى ذكر‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حليم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏ عَقِبَ ما ذكر من قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏رب هب لي من الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏، فدل على أن هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه هو المبشَّر به استجابةً لدعوته، وقد ظهر أن المقصود من الدعوة أن لا يكون عقيماً يرثه عبيدُ بيته كما جاء في «سفر التكوين» وتقدم آنفاً‏.‏
الدليل الرابع‏:‏ أن إبراهيم بنَى بيتاً لله بمكة قبل أن يبني بيتاً آخر بنحو أربعين سنة كما في حديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن شأن بيوت العبادة في ذلك الزمان أن تقرّب فيها القرابين فقربان أعز شيء على إبراهيم هو المناسب لكونه قرباناً لأشرف هيكل‏.‏ وقد بقيت في العرب سنة الهدايا في الحج كل عام وما تلك إلا تذكرة لأول عام أُمر فيه إبراهيم بذبح ولده وأنه الولد الذي بمكة‏.‏
الدليل الخامس‏:‏ أن أعرابياً قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يابن الذبيحين، فعلم مراده وتبسَّم، وليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم ذبيح غير عبد الله وإسماعيل‏.‏
الدليل السادس‏:‏ ما وقع في «سفر التكوين» في الإِصحاح الثاني والعشرين أن الله امتحن إبراهيم فقال له‏:‏ «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هنالك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» إلى آخر القصة‏.‏
ولم يكن إسحاق ابناً وحيداً لإِبراهيم فإن إسماعيل وُلد قبله بثلاث عشرة سنة‏.‏ ولم يزل إبراهيم وإسماعيل متواصلين وقد ذكر في الإِصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عند ذكر موت إبراهيم عليه السلام «ودفَنه إسحاق وإسماعيلُ ابناه»، فإقحام اسم إسحاق بعد قوله‏:‏ ابنَك وحيدَك، من زيادة كاتب التوراة‏.‏
الدليل السابع‏:‏ قال صاحب «الكشاف»‏:‏ ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بنِي إسماعيل إلى أن احترق البيت في حصار ابن الزبير ا‏.‏ ه‏.‏ وقال القرطبي عن ابن عباس‏:‏ والذي نفسي بيده لقد كان أول الإِسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس‏.‏ قلت‏:‏ وفي صحة كون ذلك الرأس رأسَ كبش الفداء من زمن إبراهيم نظر‏.‏
الدليل الثامن‏:‏ أنه وردت روايات في حكمة تشريع الرمي في الجمرات من عهد الحنيفية أن الشيطان تعرض لإِبراهيم ليصدّه عن المضيّ في ذبح ولده وذلك من مناسك الحجّ لأهل مكة ولم تكن لليهود سُنَّة ذبح معين‏.‏
وذكر القرطبي عن ابن عباس‏:‏ أن الشيطان عرض لإِبراهيم عند الجمرات ثلاث مرات فرجمه في كل مرة بحصيات حتى ذهب من عند الجمرة الأخرى‏.‏ وعنه‏:‏ أن موضع معالجة الذبح كان عند الجمار وقيل عند الصخرة التي في أصل جبل ثبير بمنى‏.‏
الدليل التاسع‏:‏ أن القرآن صريح في أن الله لمّا بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإِسحاق يعقوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ وكان ذلك بمحضر إبراهيم فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صورياً لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب لأن الله لا يخلف الميعاد‏.‏ ولمّا بشره بإسماعيل لم يَعِدْه بأنه سيُولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل‏.‏ فقد جاء في «سفر التكوين» الإِصحاح السابع عشر «وقال إبراهيم لله‏:‏ ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله‏:‏ بل سارة تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده»‏.‏ ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه‏.‏
الدليل العاشر‏:‏ أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذا‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبيئاً من الصالِحينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏ تكريراً لأن فعل‏:‏ بشرناه بفلان، غالب في معنى التبشير بالوجود‏.‏
واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ هو إسماعيل وممن قاله أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن عُمر وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان‏.‏ وقاله من التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد وعلقمة والكلبي والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القُرظي وأحمد بن حنبل‏.‏
وقال جماعة‏:‏ هو إسحاق ونقل عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وعمر وعلي من الصحابة، وقاله جمع من التابعين منهم‏:‏ عطاء وعكرمة والزهري والسّدِّي‏.‏ وفي «جامع العتبية» أنه قول مالك بن أنس‏.‏
فإن قلت‏:‏ فعلامَ جنحتَ إليه واستَدللت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق، فكيف تتأول ما وقع في «سفر التكوين»‏؟‏
قلت‏:‏ أرى أن ما في «سفر التكوين» نُقِل مشتّتاً غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم، فلما نقَل النقلةُ التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر، سجلت قضية الذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه السلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق‏.‏ ويدل لذلك قول الإِصحاح الثاني والعشرين «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك» الخ؛ فهل المراد من قولها‏:‏ بعد هذه الأمور، بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 111‏]‏
‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏‏}‏
القول في ‏{‏وتركنا عليه في الآخرينَ‏}‏ نظير الكلام المتقدم في ذكر نوح عليه السلام في هذه السورة وإعادته هنا تأكيد لما سبق لزيادة التنويه بإبراهيم عليه السلام‏.‏
ويَرد أن يقال‏:‏ لماذا لم تؤكد جملة ‏{‏كذلك نَجزي المحسنين‏}‏ ب ‏(‏إنَّ‏)‏ هنا وأكدت مع ذكر نوح وفيما تقدم من ذكر إبراهيم‏.‏ وأشار في «الكشاف» أنه لما تقدم في هذه القصة قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 80‏]‏ وكان إبراهيم هو المجزيّ اكُتفي بتأكيد نظيره عن تأكيده، أي لأنه بالتأكيد الأول حصل الاهتمام فلم يبق داع لإِعادته‏.‏
واقتصر على تأكيد معنى الجملة تأكيداً لفظياً لأنه تقرير للعناية بجزائه على إحسانه‏.‏ ولم يذكر هنا ‏{‏في العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79‏]‏ لأن إبراهيم لا يعرفه جميع الأمم من البشر بخلاف نوح عليه السلام كما تقدم في قصته‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏
‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏
هذه بشارة أخرى لإِبراهيم ومكرمة له، وهي غير البشارة بالغلام الحليم، فإسحاق غير الغلام الحليم‏.‏ وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وتسمية المبشَّر به إسحاقَ تحتمل أن الله عيّن له اسماً يسمّيه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من «سفر التكوين» «سارة امرأتك تلِد ابناً وتدعو اسمه إسحاق»‏.‏
وتحتمل أن المراد‏:‏ بشرناه بولدٍ الذي سمي إسحاق، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سُمي إسماعيل‏.‏ ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأنّ البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني‏.‏
وانتصب ‏{‏نبيئاً‏}‏ على الحال من ‏{‏إسحاق‏}‏، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالاً مقدّراً لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجوداً، فالمعنى‏:‏ وبشَّرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدراً حالُه أنه نبيء، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصافه بالحال على تقدير وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد، ومنه ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأتينا فرداً‏}‏ في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏‏.‏
واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدّر حصولها غير حاصلة الآن والمقدِّر هو الناطق بها، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان، فلا تحتفل بما أطال به في «الكشاف» ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات‏.‏ وإن كان وضعاً معترضاً في أثناء القصة كان تنويهاً بإسحاق وكان حالاً حاصلة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مِن الصالِحين‏}‏ حال ثانية، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بدّ أن يكون صالحاً، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة‏.‏
وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبركات عليك‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 48‏]‏‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي، أي تمكُّن البركةِ من الإِحاطة بهما‏.‏
ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال‏:‏ ‏{‏ومن ذُريتهما مُحسنٌ‏}‏، أي عامل بالعمل الحسن، ‏{‏وظالِمٌ لنفسهِ‏}‏ أي مشرك غير مستقيم للإِشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون؛ فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلّى الله عليهما، ونظيره قوله تعالى‏:‏
‏{‏قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيّب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر فقد يلد البَرُّ الفاجرَ والفاجر البَّر، وعلى أن فساد الأعقاب لا يُعدّ غضاضة على الآباء، وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتّسام بفضائل الخِلال، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم، وإنهّا مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإِسلام وأنهم الأوْلى بالمسجد الحرام‏.‏ قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا رجال حرمه وسَدنة بيته» فكان ذلك قبل الإِسلام وقال الله تعالى لهم بعد الإِسلام‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏
وقد ضرب الله هذه القصة مثلاً لحال النبي صلى الله عليه وسلم في ثباته على إبطال الشرك وفيما لقي من المشركين وإيماءً إلى أنه يهاجر من أرض الشرك وأن الله يهديه في هجرته ويهَب له أمّة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعاً، فقال‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏‏.‏
وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبينٌ‏}‏ مَثَل لحال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 116‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏
عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد نادانا نوحٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 75‏]‏، والمناسبة هي ما ذكر هنالك‏.‏
وذكر هنا ما كان منة على موسى وهارون وهو النبوءة فإنها أعظم درجة يُرفَع إليها الإِنسان، ولذلك اكتفي عن تعيين الممنون به لحمل الفعل على أكمل معناه‏.‏ وجعلت منة من الله عليهما لأن موسى لم يسأل النبوءة إذ ليست النبوءة بمكتسبة وكانت منّة على هارون أيضاً لأنه إنما سأل له موسى ذلك ولم يسأله هارون، فهي منة عليه وإرضاء لموسى، والمنة عليهما من قبيل إيصال المنافع فَإن الله أرسل موسى لإِنقاذ بني إسرائيل من استعباد القبط لإِبراهيم وإسرائيل‏.‏
وفي اختلاف مبادئ القصص الثلاث إشارة إلى أن الله يغضب لأوليائه؛ إما باستجابة دعوة، وإما لجزاء على سلامة طوية وقلب سليم، وإما لرحمة منه ومنّة على عباده المستضعفين‏.‏ وإنجاء موسى وهارون وقومهما كرامة أخرى لهما ولقومهما بسببهما، وهذه نعمة إزالة الضر، فحصل لموسى وهارون نوعا الإِنعام وهما‏:‏ إعطاء المنافع، ودفع المضار‏.‏
و ‏{‏الكرب العظيم‏}‏‏:‏ هو ما كانوا فيه من المذلة تحت سلطة الفراعنة ومن اتّباع فرعون إياهم في خروجهم حين تراءى الجمعان فقال أصحاب موسى ‏{‏إنّا لمدرَكون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61‏]‏ فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر فضربه فانفلق واجتاز منه بنو إسرائيل، ثم مد البحرُ أمواجه على فرعون وجنده، على أن الكرب العظيم أطلق على الغرق في قصة نوح السابقة وفي سورة الأنبياء على الأمم التي مرّوا ببلادها من العمالقة والأموريين فكان بنو إسرائيل منتصرين في كل موقعة قاتلوا فيها عن أمر موسى وما انهزموا إلا حين أقدموا على قتال العمالقة والكنعانيين في سهول وادي ‏(‏شكول‏)‏ لأن موسى نهاهم عن قتالهم هنالك كما هو مسطور في تاريخهم‏.‏
و ‏{‏هم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فكانوا هُمُ الغالِبينَ‏}‏ ضمير فصل وهو يفيد قصراً، أي هم الغالبين لغيرهم وغيرهم لم يغلبوهم، أي لم يغلبوا ولو مرة واحدة فإن المنتصر قد ينتصر بعد أن يُغلب في مواقع‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 122‏]‏
‏{‏وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏
‏{‏الكِتابَ المُسْتَبينَ‏}‏‏:‏ هو التوراة، والمستبين القوي الوضوح، فالسين والتاء للمبالغة يقال‏:‏ استبان الشيء إذا ظهر ظهوراً شديداً‏.‏
وتعدية فعل الإيتاء إلى ضمير موسى وهارون مع أن الذي أوتي التوراة هو موسى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 49‏]‏ من حيث إن هارون كان معاضداً لموسى في رسالته فكان له حظ من إيتاء التوراة كما قال الله في الآية الأخرى ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ وهذا من استعمال الإِيتاء في معنييه الحقيقي والمجازي‏.‏
و ‏{‏الصِّراطَ المُستقيمَ‏}‏‏:‏ الدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة، وقد كانت شريعة التوراة يوم أوتيها موسى عليه السلام هي الصراط المستقيم فلمّا نسخت بالقرآن صار القرآن هو الصراط المستقيم للأبد وتعطل صراط التوراة‏.‏ ويجوز أن يراد ب ‏{‏الصراط المستقيم‏}‏ أصول الديانة التي لا تختلف فيها الشرائع وهي التوحيد وكليات الشرائع التي أشار إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً إلى قوله‏:‏ وموسى وعيسى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏
والقول في تفسير ‏{‏وتركنا عليهما في الآخرينَ‏}‏ إلى آخر الآيات الأربع كالقول في نظائره عند ذكر نوح في هذه السورة، إلا أن احتمال أن تكون جملة ‏{‏سلامٌ على موسى وهارون‏}‏ مفعولاً لفعل ‏{‏تركنا عليهما‏}‏ على إرادة حكاية اللفظ هنا أضعف منه فيما تقدم إذ ليس يطرد أن يكون تسليم الآخرين على موسى وهارون معاً لأن الذي ذكر موسى يقول‏:‏ السلام على موسى والذي يجري على لسانه ذكر هارون يقول‏:‏ السلام على هارون ولا يجمع اسميهما في السلام إلا الذي يجري على لسانه ذكرهما معاً كما يقول المحدث عن جابر‏:‏ رضي الله عنه، ويقول عن عبد الله بن حرام رضي الله عنه فإذا قال‏:‏ عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ رضي الله عنهما‏.‏
وفي ذكر قصة موسى وهارون عبرة مثَل كامل للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته وإنزال القرآن عليه وهدايته وانتشار دينه وسلطانه بعد خروجه من ديار المشركين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 132‏]‏
‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏
أتبع الكلام على رسل ثلاثة أصحاب الشرائع‏:‏ نوح وإبراهيم وموسى بالخبر عن ثلاثة أنبياء وما لقوه من قومهم وذلك كله شواهد لتسلية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقوارع من الموعظة لكفار قريش‏.‏ وابتدئ ذكر هؤلاء الثلاثة بجملة ‏{‏وإنَّ إلياسَ لَمِنَ المُرسلينَ‏}‏ لأنهم سواء في مرتبة الدعوة إلى دين الله، وفي أنهم لا شرائع لهم‏.‏ وتأكيد إرسالهم بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر لأنه قد يغفل عنه إذ لم تكن لهؤلاء الثلاثة شريعة خاصة‏.‏ و‏{‏إلياس‏}‏ هو ‏(‏إيلياء‏)‏ من أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعة التوراة، وأطلق عليه وصف الرسول لأنه أمر من جانب الله تعالى بتبليغ ملوك إسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام، فإطلاق وصف الرسول عليه مثل إطلاقه على الرسل إلى أهل أنطاكية المذكورين في سورة يس‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏المرسلين‏}‏، أي أنه من حين ذلك القول كان مبلغاً رسالة عن الله تعالى إلى قومه‏.‏
وقد تقدم ذكر إلياس في سورة الأنعام، والمراد بقومه‏:‏ بنو إسرائيل وكانوا قد عبدوا بَعْلاً معبودَ الكنعانيين بسبب مصاهرة بعض ملوك يهوذا للكنعانيين ولذلك قام إلياس داعياً قومه إلى نبذ عبادة بَعْل الصنم وإفرادِ الله بالعبادة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ألاَ‏}‏ كلمتان‏:‏ همزة الاستفهام للإِنكار، و‏{‏لا‏}‏ النافية، إنكار لعدم تقواهم، وحذف مفعول ‏{‏تتَّقُونَ‏}‏ لدلالة ما بعده عليه‏.‏
و ‏(‏بَعْل‏)‏ اسم صنم الكنعانيين وهو أعظم أصنامهم لأن كلمة بعل في لغتهم تدل على معنى الذكورة‏.‏ ثم دلت على معنى السيادة فلفظ البعل يطلق على الذكر، وهو عندهم رمز على الشمس ويقابله كلمة ‏(‏تانيت‏)‏ بمثنّاتين، أي الأنثى وكانت لهم صنمة تسمى عند الفينيقيين بقرطاجنة ‏(‏تانيت‏)‏ وهي عندهم رمز القمر وعند فينيقيي أرض فينيقية الوطن الأصلي للكنعانيين تسمى هذه الصَّنَمَة ‏(‏العشتاروث‏)‏‏.‏ وقد أطلق على بعل في زمن موسى عليه السلام اسم «مُولك» أيضاً، وقد مثلوه بصورة إنسان له رأس عجل وله قرنان وعليه إكليل وهو جالس على كرسي مادّاً يديه كمن يتناول شيئاً وكانت صورته من نحاس وداخلها مجوف وقد وضعوها على قاعدة من بناء كالتنور فكانوا يوقدون النار في ذلك التنور حتى يحمى النحاس ويأتون بالقرابين فيضعونها على ذراعيه فتحترق بالحرارة فيحسبون لجهلهم الصنم تقبلها وأَكَلَها من يديه، وكانوا يقربون له أطفالاً من أطفال ملوكهم وعظماء ملتهم، وقد عبده بنو إسرائيل غير مرة تبعاً للكنعانيين، والعمونيين، والمؤوبيين وكان لبَعل من السدنة في بلاد السامرة، أو مدينة صرفة أربعُمائة وخمسون سادناً‏.‏ وتوجد صورة بعل في دار الآثار بقصر اللُّوفر في باريس منقوشة على وجه حجارة صوروه بصورة إنسان على رأسه خوذة بها قرنان وبيده مقرعة‏.‏ ولعلها صورته عند بعض الأمم التي عبدته ولا توجد له صورة في آثار قرطاجنة الفينيقية بتونس‏.‏
وجيء في قوله‏:‏ ‏{‏وتَذرونَ أحسن الخالقِينَ‏}‏ بذكر صفة الله دون اسمه العَلَم تعريضاً بتسفيه عقول الذين عبدوا بَعلاً بأنهم تركوا عبادة الرب المتصف بأحسن الصفات وأكملها وعبدوا صنماً ذاته وخش فكأنه قال‏:‏ أتَدْعون صنماً بشعاً جمع عنصري الضعف وهما المخلوقية وقبح الصورة وتتركون من له صفة الخالقية والصفات الحسنى‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏إليَاسَ‏}‏ بهمزة قطع في أوله على اعتبار الألف واللام من جملة الاسم العلم فلم يحذفوا الهمزة إذا وصلوا ‏{‏إنَّ‏}‏ بها‏.‏ وقرأه ابن عامر بهمزة وصل فحذفها في الوصل مع ‏{‏إنَّ‏}‏ على اعتبار الألف واللام حرفا لِلَمح الأصل‏.‏ وأن أصل الاسم ياس مراعاة لقوله‏:‏ ‏{‏سَلامٌ على آلْ يَاسِينَ‏}‏‏.‏
وللعرب في النطق بالأسماء الأعجمية تصرفات كثيرة لأنه ليس من لغتهم فهم يتصرفون في النطق به على ما يناسب أبنيَة كلامهم‏.‏
وجملة ‏{‏الله ربُّكُم وربُّ ءَابآئِكُمُ الأوَّلينَ‏}‏ قرأ الأكثر برفع اسم الجلالة وما عطف عليه فهو مبتدأ والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً والخبر مستعمل في التنبيه على الخطأ بأن عبدوا ‏{‏بعلاً‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بنصب اسم الجلالة على عطف البيان ل ‏{‏أحْسنَ الخالِقِينَ‏}‏، والمقصود من البيان زيادة التصريح لأن المقام مقام إيضاح لأصل الديانة، وعلى كلتا القراءتين فالكلام مسوق لتذكيرهم بأن من أصول دينهم أنهم لا ربّ لهم إلا الله، وهذا أول أصول الدين فإنه ربّ آبائهم فإن آباءهم لم يعبدوا غير الله من عهد إبراهيم عليه السلام وهو الأب الأول من حيث تميزت أمتهم عن غيرهم، أو هو يعقوب قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن اللَّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، واحتراز ب ‏{‏الأوَّلِينَ‏}‏ عن آبائهم الذين كانوا في زمان ملوكهم بعد سليمان‏.‏
وجمع هذا الخبر تحريضاً على إبطال عبادة «بعل» لأن في الطبع محبة الاقتداء بالسلف في الخير‏.‏ وقد جمع إلياس من معه من أتباعه وجعل مكيدة لسدنة ‏(‏بعل‏)‏ فقتلهم عن آخرهم انتصاراً للدّين وانتقاماً لمن قتلتهم ‏(‏إيزابل‏)‏ زوجة ‏(‏آخاب‏)‏‏.‏
وفي «مفاتيح الغيب»‏:‏ «كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول‏:‏ لو قيل‏:‏ أتدعُون بعلاً وتدَعون أحسن الخالقين، أوْهَم أنه أحسن»، أي أوهم كلام الرشيد أنه لو كانت كلمة ‏(‏تدعون‏)‏ عوضاً عن ‏{‏تذرون‏}‏‏.‏ وأجاب الفخر بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجْل قوة المعاني وجزالة الألفاظ ا ه‏.‏ وهو جواب غير مقنع إذ لا سبيل إلى إنكار حسن موقع المحسنات البديعية بعد استكمال مقتضيات البلاغة‏.‏ قال السّكّاكي‏:‏ «وأصل الحسن في جميع ذلك ‏(‏أي ما ذكر من المحسنات البديعية‏)‏ أن تكون الألفاظُ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع، أعني أن لا تكون متكلفة»‏.‏ فإذا سلمنا أن ‏(‏تذرون‏)‏ و‏(‏تدعون‏)‏ مترادفان لم يكن سبيل إلى إبطال أن إيثار ‏(‏تدعون‏)‏ أنسب‏.‏
فالوجه إما أن يجاب بما قاله سعد الله محشي البيضاوي بأن الجناس من المحسنات فإنما يناسب كلاماً صادراً في مقام الرضى لا في مقام الغضب والتهويل‏.‏
يعني أن كلام إلياس المحكيَّ هنا محكي عن مقام الغضب والتهويل فلا تناسبه اللطائف اللفظية ‏(‏يعني بالنظر إلى حال المخاطَبين به لأن كلامه محكي في العربية بما يناسب مصدره في لغة قائله وذلك من دقائق الترجمة‏)‏، وهو جواب دقيق، وإن كابر فيه الخفاجي بكلام لا يليق، وإن تأمّلتَه جزمت باختلاله‏.‏ وقد أجيب بما يقتضي منع الترادف بين فعلي ‏{‏تذرون‏}‏ و«تدعون» بأن فعل ‏(‏يدع‏)‏ أخص‏:‏ إما لأنه يدل على ترك شيء مع الاعتناء بعدم تركه كما قال سعد الله، وإما لأن فعل يدع يدل على ترك شيء قبل العلم، وفعل ‏(‏يذر‏)‏ يدل على ترك شيء بعد العلم به كما حكاه سعد الله عن بعض الأيمة عازياً إياه للفخر‏.‏
وعندي‏:‏ أن منع الترادف هو الوجه لكن لا كما قال سعد الله ولا كما نُقل عن الفخر بل لأن فعل ‏(‏يدع‏)‏ قليل الاستعمال في كلام العرب ولذلك لم يقع في القرآن إلا في قراءة شاذّة لا سند لها خلافاً لفعل ‏(‏يذر‏)‏‏.‏ ولا شك أن سبب ذلك أن فعل ‏(‏يذر‏)‏ يدل على ترك مع إعراض عن المتروك بخلاف ‏(‏يدع‏)‏ فإنه يقتضي تركاً مؤقتاً وأشار إلى الفرق بينهما كلام الراغب فيهما‏.‏ وهنالك عدة أجوبة أخرى، هي بالإِعراض عنها أَحْرى‏.‏
ومعنى ‏{‏فكذَّبُوهُ‏}‏ أنهم لم يطيعوه تملّقاً لملوكهم الذين أجابوا رغبة نسائهم المشركات لإِقامة هياكل للأصنام فإن ‏(‏إيزابل‏)‏ ابنة ملك الصيدونيين زوجة ‏(‏أخاب‏)‏ ملك إسرائيل لما بلغها ما صنع إلياس بسدنة بَعْل ثَأراً لمن قتلته ‏(‏إيزابل‏)‏ من صالحي إسرائيل أرسلت إلى إلياس تتوعده بالقتل فخرج إلى موضع اسمه ‏(‏بئر سبع‏)‏ ثم ساح في الأرض وسأل الله أن يقبضه إليه فأمره بأن يعهد إلى صاحبه ‏(‏اليسع‏)‏ بالنبوءة مِن بعده، ثم قبضه الله إليه فلم يعرفَ أحد مكانه‏.‏
وفي كتاب «إيلياء» من كتب اليهود أن الله رفعه إلى السماء في مركبة يجرها فرسان، وأن ‏(‏اليسع‏)‏ شاهده صاعداً فيها ولذلك كان بعض السلف يقول‏:‏ إن إلياس هو إدريس الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏إنه كان صديقاً نبيئاً ورفعناه مكاناً عليّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 56- 57‏]‏، وقيل كان عبد الله بن مسعود يقرأ‏:‏ ‏{‏إن إدريس لمن المرسلين‏}‏ عوض ‏{‏وإنَّ إلياس‏}‏ ويقرأ ‏(‏سلام على إدراسين‏)‏ على أنه لغة في إدريس‏.‏ ولا يقتضي ما في كتب اليهود من رفعه أن يكون هو إدريس لأن الرفع إذا صحّ قد يتكرر وقد رفع عيسى عليه السلام‏.‏
ومعنى ‏{‏فإنَّهمُ لمُحضرونَ‏}‏ أن الله يُحضرهم للعقاب، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين‏}‏ في هذه السورة ‏[‏الصافات‏:‏ 57‏]‏‏.‏
واستثني من ذلك عبادُ الله المخلَصون وهم الذين اتبعوا إلياس وأعانوه على قتل سدنة ‏(‏بعل‏)‏‏.‏
وتقدم القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاَّ عِبَادَ الله المُخلصين‏}‏ فيما سبق من هذه السورة ‏[‏74‏]‏‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وتركنا عليهِ في الآخرينَ سلامٌ على آل ياسينَ‏}‏ إلى آخر الآية تقدم نظيره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آلْ ياسينَ‏}‏ قيل أريد به إلياس خاصة وعبر عنه ب ‏{‏ياسين‏}‏ لأنه يُدعَى به‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ ولعل لزيادة الألف والنون في لغتهم معنى ويكون ذكر ‏{‏آل‏}‏ إقحاماً كقوله‏:‏ ‏{‏أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ على أحد التفسيرين فيه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ إن ياسين هو أبو إلياس‏.‏ فالمراد‏:‏ سلام على إلياس وذويه من آل أبيه‏.‏
وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏ءال يَاسِينَ بهمزة بعدهَا ألف على أنهما كلمتان آل و‏(‏ياسين‏)‏‏.‏ وقرأه الباقون بهمزة مكسورة دون ألف بعدها وبإسكان اللام على أنها كلمة واحدة هي اسم إلياس وهي مرسومة في المصاحف كلها على قطعتين آل ياسينَ‏}‏ ولا منافاة بينها وبين القراءتين لأن آل قد ترسم مفصولة عن مدخولها‏.‏ والأظهر أن المراد ب ‏{‏آلْ ياسينَ‏}‏ أنصاره الذين اتّبعوه وأعانوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ آل محمد كلّ تَقي ‏"‏ وهؤلاء هم أهل ‏(‏جبل الكرمل‏)‏ الذين استنجدهم إلياس على سدنة بعل فأطاعوه وأنجدوه وذبحوا سدنة بعل كما هو موصوف بإسهاب في الإِصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الأول‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ سلام على ياسين وآله، لأنه إذا حصلت لهم الكرامة لأنهم آلُهُ فهو بالكرامة أولى‏.‏
وفي قصة إلياس إنباء بأن الرسول عليه أداء الرسالة ولا يلزم من ذلك أن يشاهد عقاب المكذِّبين ولا هلاكَهم للرد على المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل ربِّ إمَّا تُرينِّي ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 93- 95‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 77‏]‏ وفي الآية الأخرى ‏{‏وإلينا يرجعون‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 40‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 136‏]‏
‏{‏وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏
هذا ثاني الأنبياء الذين جمعهم التنظير في هذه الآية، ولوط كان رسولاً للقُرى التي كان ساكناً في إحداها فهو رسول لا شريعةَ له سوى أنه جاء ينهى الأقوام الذين كان نازلاً بينهم عن الفاحشة وتلك لم يسبق النهي عنها في شريعة إبراهيم‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏المُرسلين‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه في حين إنجاء الله إياه وإهلاك الله قومَه كان قائماً بالرسالة عن الله تعالى ناطقاً بما أمره الله، وإنما خصّ حين إنجائه بجعله ظرفاً للكون من المرسلين لأن ذلك الوقت ظرف للأحوال الدالة على رسالته إذ هي مماثلة لأحوال الرسل من قبل ومن بعد‏.‏ وتقدمت قصة لوط في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف‏.‏
والعجوز‏:‏ امرأة لوط، وتقدم خبرها وتقدم نظيرها في سورة الشعراء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 138‏]‏
‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏
الخطاب لقريش الذين سيقت هذه القصص لعظتهم‏.‏ والمرور‏:‏ مجاوزة السائر بسيره شيئاً يتركه، والمراد هنا‏:‏ مرورهم في السفر، وكان أهل مكة إذا سافروا في تجارتهم إلى الشام يمرّون ببلاد فلسطين فيمرون بأرض لوط على شاطئ البحر الميّت المسمّى بُحيرة لوط‏.‏ وتعدية المرور بحرف ‏(‏على‏)‏ يعيِّن أن الضمير المجرور بتقدير مضاف إلى‏:‏ على أرضهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو كالذي مر على قرية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ مر عليه ومرّ به، وتعديته بحرف ‏(‏على‏)‏ تفيد تمكّن المرور أشدّ من تعديته بالباء، وكانوا يمرّون بديار لوط بجانبها لأن قُراهم غمرها البحر الميت وآثارها باقية تحت الماء‏.‏
والمُصبح‏:‏ الداخل في وقت الصباح، أي تمرّون على منازلهم في الصباح تارة وفي الليل تارة بحسب تقدير السير في أول النهار وآخره، لأن رحلة قريش إلى الشام تكون في زمن الصيف ويكون السيرُ بُكرة وعشيّاً وسُرىً؛ والباء في ‏{‏وباللَّيلِ‏}‏ للظرفية‏.‏
والخبر الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمُرُّون عليهم‏}‏ مستعمل في الإِيقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإِخبار، وتأكيدُه بحرف التوكيد وباللام تأكيد للمعنى الذي استعمل فيه، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم في سورة الحجر‏}‏ ‏(‏76‏)‏‏.‏ وفرع على ذلك بالفاء استفهام إنكاري من عدم فطْنتهم لدلالة تلك الآثار على ما حلّ بهم من سخط الله وعلى سبب ذلك وهو تكذيب رسول الله لوط‏.‏
وقد أشرنا إلى وجه تخصيص قصة لوط مع القصص الخمس في أول الكلام على قصة نوح وتزيد على تلك القصص بأن فيها مشاهدة آثار قومه الذين كذبوا وأصرّوا على الكفر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 144‏]‏
‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏
يونس هو ابن متّى، واسمه بالعبرانية ‏(‏يُونان بن آمتاي‏)‏، وهو من أهل فلسطين، وهو من أنبياء بني إسرائيل أرسله الله إلى أهل ‏(‏نينوَى‏)‏ وكانت نينَوى مدينة عظيمة من بلاد الأشوريين وكان بها أسرى بني إسرائيل الذين بأيدي الأشوريين وكانوا زهاء مائة ألف بقُوا بعد ‏(‏دانيال‏)‏‏.‏ وكان يونس في أول القرن الثامن قبل المسيح، وقد تقدم ذكره وذكر قومه في الأنعام وسورة يونس‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏المُرسلينَ‏}‏، وإنما وُقتت رسالته بالزمن الذي أبَق فيه إلى الفُلك لأن فَعلته تلك كانت عندما أمره الله بالذهاب إلى نينَوى لإِبلاغ بني إسرائيل أن الله غضب عليهم لأنهم انحرفوا عن شريعتهم‏.‏
فحينما أوحى الله إليه بذلك عَظم عليه هذا الأمر فخرج من بلده وقصد مرسى ‏(‏يافا‏)‏ ليذهب إلى مدينة ‏(‏ترشيش‏)‏ وهي طرطوسِية على شاطئ بلاد الشام فهال البحر حتى اضطر أهل السفينة إلى تخفيف عدد ركابها فاستهموا على من يطرحونه من سفينتهم في البحر فكان يونس ممن خرج سهم إلقائه في البحر فالْتَقَمه حوت عظيم وجرت قصته المذكورة في سورة الأنبياء، فلما كان هروبه من كلفة الرسالة مقارناً لإِرساله وُقّت بكونه من المرسلين‏.‏
و ‏{‏أبَقَ‏}‏ مصْدره إِباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد مِن مالكه‏.‏ وفعله كضرب وسمع‏.‏ والمراد هنا‏:‏ أن يونس هرب من البلد الذي أوحي إليه فيه قاصداً بلداً آخر تخلصاً من إبلاغ رسالة الله إلى أهل ‏(‏نِينْوَى‏)‏ ولعله خاف بأسَهم واتّهم صبرَ نفسه على أذاهم المتوَّقعَ لأنهم كانوا من بني إسرائيل في حماية الأشوريين‏.‏ ففِعل ‏{‏أبَق‏}‏ هنا استعارة تمثيلية، شبّهت حالة خروجه من البلد الذي كلّفه ربه فيه بالرسالة تباعداً من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي كلّفه عملاً‏.‏
و ‏{‏الفُلك المشحون‏}‏‏:‏ المملوء بالراكبين، وتقدم معناه في قصة نوح‏.‏
وساهم‏:‏ قَارع‏.‏ وأصله مشتق من اسم السَّهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتُسمّى الأزلام‏.‏
وتفريع ‏{‏فَسَاهَمَ‏}‏ يؤذن بجمل محذوفة تقديرها‏:‏ فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم‏.‏ وهذا نظير التفريع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ والمذكور في كتاب «يونان» من كتب اليهود‏:‏ أن بعضهم قال لبعض‏:‏ هلمّ نُلْققِ قرعة لنعرف مَن هو سبب هذه البلية فألقَوا قرعة فوقعت على يونس‏.‏ وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن القرعة خرجت ثلاث مرات على يونس‏.‏
وسنُة الاقتراع في أسفار البحر كانت متَّبعة عند الأقدمين إذا ثقُلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع‏.‏ وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في «شرح الطغرائية»‏:‏ أن بعض الأصحاب يدعي أن مركباً فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر ليخفّ المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا‏:‏ نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه‏.‏
فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال‏:‏ ليس هذا حكماً مرضياً وإنما نَعدّ الجماعة فمن كان تاسعاً ألقيناه فارتضَوْا بذلك فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون وهذه صورة ذلك ‏(‏وصوَّر دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداءُ العَدّ وهو إلى جهة الشِمال‏)‏ قال‏:‏ ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال‏:‏ كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب فقلت له‏:‏ الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو‏:‏
اللَّه يقضي بكل يسر *** ويرزق الضيف حين كانا
وكانت القرعة طريقاً من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء‏.‏ وقد تقدم في سورة آل عمران ‏(‏44‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم‏}‏ وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييزَ صاحب الحق عند التنازع‏.‏ ولعلها من مخترعات الكهنة وسَدنة الأصنام‏.‏ فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال، ولكن الشرائع الحقَّ لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يُصار إليها إلا عند التساوي في الحقّ وفقداننِ المرجِّح، الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه، فهي من بقايا الأوهام‏.‏ وقد اقتصرت الشريعة الإِسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه‏.‏ مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسِمين إذ تشاحوا في أحدها، قال ابن رشد في المقدمات‏}‏‏:‏ «والقرعة إنما جعلت تطييباً لأنفس المتقاسمين وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس‏:‏ ‏{‏فساهم فكان من المدحضين‏.‏
وعندي‏:‏ أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعاً صحيحاً كان قبل الإِسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجرَوْا الاستهام على يونس، على أن ما أُجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام‏.‏ فلو صح أن ذلك كان شرعاً لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصياً أن يقتل ولا أن يرمَى به في النار والبحر‏.‏ وإنما تجري عليه الحدود والتعزيرُ على مقدار جنايته‏.‏ وظَنّ بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفاً، وهذا فاسد فلا تُخفَّف برَمْي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبِرون على قضاء الله‏.‏ وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم‏.‏
وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن‏:‏
الأول‏:‏‏}‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه‏.‏
الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه أن رجلاً أعتق في مَرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين وهما معادل الثلث وأرقّ أربعة‏.‏
الثالث‏:‏ أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست، فقال‏:‏ اذهبا وتوخيا الحق واستَهِما وليُحَلل كل واحد منكما صاحبَه‏.‏
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين‏:‏ الصحيح منهما الاقتراعُ، وبه قال أكثر فقهاء الأمصار، وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة‏.‏
قال القرافي في «الفرق» ‏(‏240‏)‏‏:‏ متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعاً للضغائن فهي مشروعة بين الخُلَفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية والأيمةِ والمؤذنين إذ استووا والتقدم للصف الأول عند الازدحام وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم وبين الحاضنات والزوجات في السفر والقسمة والخصوم عند الحكام في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث‏.‏ وقاله الشافعي وابن حنبل‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تجوز القرعة ‏(‏بينهم‏)‏‏.‏ ويعتق من كل واحِد ثلثُه ويستسعَى في قيمته ووافق في قيمة الأرض‏.‏ قال‏:‏ والحق عندي أنها تجري في كل مشكل ا‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وفي «الصحيح» «عن أم العلاء الأنصارية أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم عثمانُ بن مظعُون» الحديث‏.‏ وقال الجصاص‏:‏ ‏(‏احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض‏.‏ وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدلّ على أنه خاص فيه‏)‏‏.‏ وقال في سورة آل عمران‏:‏ «ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم» على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مَرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا ‏(‏أي إلقاء الأقلام‏)‏ من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحِد منهم مَريمَ جائزٌ في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية، وقد كان عتق الميّت نافذاً في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه‏.‏
والإِدحاض‏:‏ جعل المرء داحضاً، أي زالقاً غير ثابتتِ الرِجلين وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية‏.‏
والالتقام‏:‏ البلْع‏.‏ والحوت الذي التقمه‏:‏ حوتٌ عظيم يبتلع الأشياء ولا يعضّ بأسنانه ويقال‏:‏ إنه الحوت الذي يسمّى ‏(‏بَالَيْن‏)‏ بالافرنجية‏.‏
والمُليم‏:‏ اسم فاعل من ألام، إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهو ألاَمَهم على نفسه‏.‏
وكان غرقه في البحر المسمّى بحر الروم وهو الذي نسميه البحر الأبيضَ المتوسط، ولم يكن بنهرِ دجلة كما غلط فيه بعض المفسرين‏.‏
و ‏{‏كان من المسبحين‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين كما في سورة الأنبياء‏}‏ ‏(‏87‏)‏، فأنجاه الله بسبب تسبيحه وتوبته فقذفه الحوت من بطنه إلى البر بعد أن مكث في جوف الحوت ثلاث ليال، وقيل‏:‏ يوماً وليلة، وقيل‏:‏ بضع ساعات‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إلى يوم يُبعثون‏}‏ التأبيد بأن يميت الله الحوت حين ابتلاعه ويبقيهما في قعر البحر، أو بأن يختطف الحوت في حجر في البحر أو نحوه فلا يطفوَ على الماء حتى يبعث يونس يوم القيامة من قعر البحر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 146‏]‏
‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏‏}‏
الفاء فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المُسبحين للبِثَ في بطنِهِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143- 144‏]‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ يسبح ربه في بطن الحوت أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له ونجاه كما في سورة الأنبياء‏.‏ والمعنى‏:‏ فلفظه الحوت وقاءهُ، وحَمِلهُ الموج إلى الشاطئ‏.‏
والنبذ‏:‏ الإِلقاء وأسند نَبذه إلى الله لأن الله هو الذي سخر الحوت لقذفه من بطنه إلى شاطئ لا شجَر فيه‏.‏ والعراء‏:‏ الأرض التي لا شجر فيها ولا ما يغطيها‏.‏
وكان يونس قد خرج من بطن الحوت سقيماً لأن أمعاء الحوت أضرّت بجلده بحركتها حوله فإنه كان قد نزع ثيابه عندما أريد رميه في البحر ليخف للسباحة، ولعل الله أصاب الحوت بشبه الإِغماء فتعطلت حركة هضمه تعطلاً مّا فبقي كالخَدر لئلا تضر أمعاؤه لحم يونس‏.‏ وأنبت الله شجرة من يقطين لتظلله وتستره‏.‏ واليقطين‏:‏ الدُّبَّاء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع، فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأظلته‏.‏ واختير له اليقطين ليُمكن له أن يقتات من غِلته فيصلح جسده لطفاً من ربه به بعد أن أجرى له حادثاً لتأديبه، شأن الرب مع عبيده أن يُعْقِب الشدة باليسر‏.‏
وهذا حدث لم يعهد مثيله من الرسل ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونُس بن متّى»، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه إذ لا يحتمل أن يكون أراد أحداً آخر إذ لا يخطر بالبال أن يقوله أحد غير الأنبياء‏.‏ والمعنى نفي الأخيريّة في وصف النبوءة، أي لا يظنَنّ أحد أن فعلة يونس تسلب عنه النبوءة‏.‏
فذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم «لا تفضّلوا بين الأنبياء»، أي في أصل النبوءة لا في درجاتها فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏‏.‏
واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في صبره على ذلك وعدم تذمّره ولإِعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحِه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون‏:‏ لا تَغْشنَا في مجالسنا فمن جاءك فمنّا فاسمعه، كما قال عبد الله بن أُبيّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه يونس من غضب ربه ألاَ ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48- 49‏]‏
وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحداً للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏147- 148‏]‏
‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏‏}‏
ظاهر ترتيب ذكر الإِرسال بعد الإِنجاء من الحوت أنه إعادة لإِرساله‏.‏ وهذا هو مقتضى ما في كتاب يونس من كتب اليهود إذ وقع في الإِصحاح الثالث‏:‏ ثم صار قول الرب إلى يونس ثانية‏:‏ قم اذهب إلى نينوَى وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها‏.‏
والمرسل إليهم‏:‏ اليهود القاطنون في نينوَى في أسر الأشوريين كما تقدم‏.‏ والظاهر أن الرسول إذا بعث إلى قوم مختلطين بغيرهم أن تعم رسالته جميع الخليط لأن في تمييز البعض بالدعوة تقريراً لكفر غيرهم‏.‏ ولهذا لما بعث الله موسى عليه السلام لتخليص بني إسرائيل دعا فرعون وقومه إلى نبذ عبادة الأصنام، فيحتمل أن المقدرين بمائة ألف هم اليهود وأن المعطوفين بقوله‏:‏ ‏{‏أوْ يَزِيدُونَ‏}‏ هم بقية سكان ‏(‏نينوَى‏)‏‏.‏ وذكر في كتاب يونس أن دعوة يونس لمّا بلغت ملكَ نينوَى قام عن كرسيه وخلع رداءه ولبس مِسحاً وأمر أهل مدينته بالتوبة والإِيمان الخ‏.‏ ولم يذكر أن يونس دعا غير أهل نينوَى من بلاد أشور مع سعتها‏.‏
وروى الترمذي عن أُبيّ بن كعب قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناهُ إلى مائة ألففٍ أو يَزِيدونَ‏}‏ قال‏:‏ «عشرون ألفاً»‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث غريب‏.‏
فحرف ‏{‏أو‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أوْ يزيدونَ‏}‏ بمعنى ‏(‏بل‏)‏ على قول الكوفيين واختيار الفراء وأبي علي الفارسي وابن جنّي وابن بَرْهان‏.‏ واستشهدوا بقول جرير‏:‏
ماذا ترى في عيال قد برَمْت بهم *** لم أُحصصِ عدتهم إلا بعَدَّاد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية *** لولا رجاؤك قد قَتَّلْتُ أولادي
والبصريون لا يجيزون ذلك إلا بشرطين أن يتقدمها نفي أو نهي وأن يعاد العامل، وتأولوا هذه الآية بأن ‏{‏أو‏}‏ للتخيير، والمعنى إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول‏:‏ هم مائة ألف، أو يقول‏:‏ يزيدون‏.‏
ويرجحه أن المعطوف ب ‏{‏أو‏}‏ غير مفرد بل هو كلام مبيّن ناسب أن يكون الحرف للإِضراب‏.‏ والفاء في ‏{‏فَآمَنُوا‏}‏ للتعقيب العرفي لأن يونس لما أرسل إليهم ودعاهم امتنعوا في أول الأمر فأخبرهم بوعيد بهلاكهم بعد أربعين يوماً ثم خافوا فآمنوا كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏
‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏‏}‏
تفريع على ما تقدم من الإِنكار على المشركين وإِبطال دعاويهم، وضرب الأمثال لهم بنظرائهم من الأمم ففرع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإبطال ما نسبه المشركون إلى الله من الولد‏.‏ فضمير الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم‏}‏ عائد على غير مذكور يُعلَم من المقام‏.‏ مثل نظيره السابق في قوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم أهم أشد خلقاً أمن خلقنا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والمراد‏:‏ التهكم عليهم بصورة الاستفتاء إذ يقولون‏:‏ ولد الله، على أنهم قسموا قسمة ضِيزَى حيث جعلوا لله البنات وهم يرغبون في الأبناء الذكور ويكرهون الإِناث، فجعلوا لله ما يكرهون‏.‏ وقد جاءوا في مقالهم هذا بثلاثة أنواع من الكفر‏:‏
أحدها‏:‏ أنهم أثبتوا التجسيم لله لأن الولادة من أحوال الأجسام‏.‏
الثاني‏:‏ إيثار أنفسهم بالأفضل وجعلهم لله الأقل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏‏.‏
الثالث‏:‏ أنهم جعلوا للملائكة المقربين وصف الأنوثة وهم يتعيرون بأبي الإِناث، ولذلك كرر الله تعالى هذه الأنواع من كفرهم في كتابة غير مرة‏.‏
فجملة ‏{‏ألِرَبك البنَاتُ‏}‏ بيان لجملة ‏{‏فاستفتهم‏}‏‏.‏ وضمير ‏{‏لربك‏}‏ مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حكاية للاستفتاء بالمعنى لأنه إذا استفتاهم يقول‏:‏ ألربكم البنات، وكذلك ضمير ‏{‏ولهم‏}‏ محكي بالمعنى لأنه إنما يقول لهم‏:‏ ولكم البنون‏.‏ وهذا التصرف يقع في حكاية القول ونحوه مما فيه معنى القول مثل الاستفتاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏
‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏
‏{‏أمْ‏}‏ منقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏ وهي لا يفارقها معنى الاستفهام، فالكلام بعدها مقدّر بهمزة الاستفهام، أي بل أخلقنا الملائكة إناثاً‏.‏ وضمير ‏{‏خَلَقنا‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم وهو إذا استفتاهم يقول لهم‏:‏ أم خلق الملائكة، كما تقدم، والاستفهام إنكاري وتعجيبي من جرأتهم وقولهم بلا علم‏.‏
وجملة ‏{‏وهُم شاهِدُونَ‏}‏ في موضع الحال وهي قيد للإِنكار، أي كانوا حاضرين حين خلقنا الملائكة فشهدوا أنوثة الملائكة لأن هذا لا يثبت لأمثالهم إلا بالمشاهدة إذ لا قبل لهم بعلم ذلك إلا المشاهدة‏.‏ وبَقي أن يكون ذلك بالخبر القاطع فذلك ما سينفيه بقوله‏:‏ ‏{‏أم لكم سلطان مبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 156‏]‏، وذلك لأن أنوثة الملائكة ليست من المستحيل ولكنه قول بلا دليل‏.‏
وضمير‏:‏ ‏{‏وهُم شاهِدونَ‏}‏ محكي بالمعنى في الاستفتاء‏.‏ والأصل‏:‏ وأنتم شاهدون، كما تقدم آنفاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 152‏]‏
‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏
ارتقاء في تجهيلهم بأنهم يقولون المستحيل فضلاً على القول بلا دليل فلذلك سماه إفكاً‏.‏ والجملة معترضة بين جُمل الاستفتاء‏.‏
و ‏{‏ألاَ‏}‏ حرف تنبيه للاهتمام بالخبر‏.‏ والإِفك‏:‏ الكذب أي قولهم هذا بعض من أكذوباتهم‏.‏ ولذلك أعقبه بعطف ‏{‏وإنهم لكاذِبُونَ‏}‏ مؤكداً ب ‏(‏إن‏)‏ واللام، أي شأنهم الكذب في هذا وفي غيره من باطلهم، فليست الجملة تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏مِن إفكِهم‏}‏ كيف وهي معطوفة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 157‏]‏
‏{‏أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏
عود إلى الاستفتاء، ولذلك لم تعطف لأن بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال، فالمعنى‏:‏ وقل لهم‏:‏ اصطفى البنات‏.‏
قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أصْطَفَى‏}‏ بهمزة قطع مفتوحة على أنها همزة الاستفهام وأما همزة الوصل التي في الفعل فمحذوفة لأجل الوصل‏.‏ وقرأه أبو جعفر بهمزة وصل على أن همزة الاستفهام محذوفة‏.‏
والكلام ارتقاء في التجهيل، أي لو سلمنا أن الله اتخذ ولداً فلماذا اصطفى البنات دون الذكور، أي اختار لذاته البنات دون البنين والبنون أفضل عندكم‏؟‏
وجملة ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ بَدَل اشتمال من جملة ‏{‏أصْطفى البنات على البنين‏}‏ فإن إنكار اصطفاء البنات يقتضي عدم الدليل في حكمهم ذلك، فأبدل ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ من إنكار ادعائهم اصطفاء الله البنات لنفسه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم‏}‏‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ استفهام عن ذات وهي مبتدأ و‏{‏لكم‏}‏ خبر‏.‏
والمعنى‏:‏ أي شيء حصل لكم‏؟‏ وهذا إبهام فلذلك كانت كلمة «ما لك» ونحوها في الاستفهام يجب أن يُتلى بجملةِ حاللٍ تُبيّن الفعل المستفهم عنه نحو‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تنطقون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 92‏]‏ ونحو ‏{‏ما لك لا تأمننا على يوسف‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 11‏]‏ وقد بُينتْ هنا بما تضمنته جملة استفهام ‏{‏كيف تحكمون‏}‏ فإن ‏{‏كيف‏}‏ اسم استفهام عن الحال وهي في موضع الحال من ضمير ‏{‏تحكمون‏}‏ قدمت لأجل صدارة الاستفهام‏.‏ وجملة ‏{‏تحكمُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏لكم‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ فحصل استفهامان‏:‏ أحدهما عن الشيء الذي حصل لهم فحكموا هذا الحكم‏.‏ وثانيهما عن الحالة التي اتصفوا بها لما حكي هذا الحكم الباطل‏.‏ وهذا إيجاز حذف إذ التقدير‏:‏ ما لكم تحكمون هذا الحكم، كيف تحكمونه‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏تحكمون‏}‏ لما دل عليه الاستفهامان من كون ما حكموا به مُنكراً يحق العَجَب منه فكلا الاستفهامين إنكار وتعجيب‏.‏
وفرّع عليه الاستفهام الإِنكاري عن عدم تذكرهم، أي استعمال ذُكرهم بضم الذال وهو العقل أي فمنكر عدم تفهمكم فيما يصدر من حكمكم‏.‏
و ‏{‏أمْ لكم سلطانٌ مبينٌ‏}‏ إضراب انتقالي ف ‏{‏أم‏}‏ منقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏ التي معناها الإضراب الصالح للإِضراب الإِبطالي والإِضراب الانتقالي‏.‏ والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ والمُبين‏:‏ الموضح للحق‏.‏ والاستفهام الذي تقتضيه ‏{‏أم‏}‏ بعدها إنكاري أيضاً‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما لكم سلطان مبين، أي على ما قلتم‏:‏ إن الملائكة بنات الله‏.‏
وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا بالإِتيان بكتاب من عند الله على ذلك إن كانوا صادقين فيما زعموا، أي فإن لم تأتوا بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين‏.‏ والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فَأتُوا‏}‏ أمر تعجيز مثل قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب ممّا نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية، أي كتاب مرسل إليكم‏.‏ ومجادلتهم بهذه الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة؛ فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين‏:‏ دعوى أن الملائكة بنات الله، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله‏:‏
‏{‏فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149- 150‏]‏‏.‏
ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوماً من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث‏.‏ وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم، فذلك الانتقال ابتداء مِن قوله‏:‏ ‏{‏وهم شاهِدونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 150‏]‏ وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى، ثم قوله‏:‏ ‏{‏أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكِتابِكم إن كنتم صادِقينَ‏}‏ فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبراً مقطوعاً بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلاّ من عند الله تعالى، لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك، فدليل المشاهدة منتف بالضرورة، ودليل العقل والنظر منتف أيضاً إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور‏.‏
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة‏:‏ أشير إلى دليل الحس بقوله‏:‏ ‏{‏وهُم شاهِدونَ‏}‏، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله‏:‏ ‏{‏أم لكم سلطانٌ مبين‏}‏، ثم فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فأتوا بكتابِكم إن كنتم صادقين‏}‏ وهو دليل السمع‏.‏ فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيرُه‏.‏
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله‏.‏ وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحداً من خلقه، فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخباراً من الله في أن ينزَّل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوّزون ذلك لقولهم‏:‏ ‏{‏ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏، ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب‏.‏
فذكر لفظ «كتابكم» إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فأتوا به، أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتاباً من عند الله‏.‏ وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإِيصال، والتقدير‏:‏ بكتاب إليكم، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه بل بواسطة حرف الجر وهو ‏(‏إلى‏)‏‏.‏
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموه فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلاً باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد اللَّه وإنهم لكاذبون‏}‏
‏[‏الصافات‏:‏ 151- 152‏]‏ الواقععِ معترضاً بين الترديد في الدليل‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏أصطفى البنات على البنين‏}‏ فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه، وهذا يسمى المعارضة‏.‏ وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخرُ الجدل معهم هو الدليلَ الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله‏:‏ ‏{‏أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادِقينَ‏}‏‏.‏ فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الذال بعد قلبها ذالاً لقرب مخرجيهما‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏
‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ليقُولونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 151‏]‏ أي شفَّعوا قولهم‏:‏ ‏{‏ولَدَ الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 152‏]‏، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسباً بتلك الولادة، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسباً‏.‏
و ‏{‏الجنّة‏}‏‏:‏ الجماعة من الجن، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة، الطائفة من الرجال، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سَروات الجن، أي من فريققِ نساء من الجن من أشراف الجن، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 184‏]‏‏.‏
والنسب‏:‏ القرابة العَمودية أو الأُفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى، أي جعلوا لله تعالى نسباً للجِنّة وللجنة نسباً لله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بينه وبين الجِنَّة‏}‏ يجوز أن يكون حالاً من ‏{‏نَسَباً‏}‏ أي كائناً بينه وبين الجنة، أي أن نسبه تعالى، أي نسله سبحانه ناشئ من بينه وبين الجن‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقاً ب ‏{‏جعلوا‏}‏، أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسباً له، أي جعلوا من ذلك نسباً يتولد له، فقوله‏:‏ ‏{‏بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ هو كقولك‏:‏ بين فلان وفلانة بنُون، أي له منها ولها منه بنون، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهاراً لله تعالى، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير، لأن هذا الإِطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغتررْ به‏.‏ ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ إعادةً لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 151- 152‏]‏ ومن قوله‏:‏ ‏{‏أم خلقنا الملائِكَة إناثا وهم شاهِدونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 150‏]‏‏.‏
ومن ذهب إلى أن المراد من ‏{‏الجِنَّةِ‏}‏ أصل الجِنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية‏:‏ أنهم جعلوا الله نسيباً للشيطان نسب الأخوة، تعالى الله عن ذلك‏.‏ على أنه إشارة إلى قول الثَّنَوية من المجوس بوجود إله للخير هو الله، وإله للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إله الخير ‏(‏يَزْدَانَ‏)‏ وإله الشر ‏(‏أَهْرُمُنْ‏)‏ وقالوا‏:‏ كان إله الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إله الشر هو ‏(‏أهرمُن‏)‏ وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله‏:‏
قال أناسٌ باطلٌ زعمهم *** فراقبوا الله ولا تزعُمُنْ
فَكَّر ‏(‏يزدانُ‏)‏ على غِرة *** فصيغ من تفكيره ‏(‏أهرمُن‏)‏
وهذا الدين كان معروفاً عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفاً بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات، ولأن الجِنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم‏.‏
وجملة ‏{‏ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ وبين جملة ‏{‏سُبحانَ الله عمَّا يصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159‏]‏ و‏{‏جعلوا بينه‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ حال والواو حالية، وضمير ‏{‏أنهم‏}‏ عائد إلى المشركين أو إلى الجِنة، والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان‏.‏ والمحضَرون‏:‏ المجلوبون للحضور، والمراد‏:‏ محضَرون للعقاب، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد، والغالب في فعل الإِحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 57‏]‏ ولذلك حذف متعلِّق «محضرون»، فأما الإِتيان بأحد لإِكرامه فيطلق عليه المجيء‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذباً فاحشاً يُجازَون عليه بالإِحضار للعذاب، فجعل «محضرون» كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك‏.‏ وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى، ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع‏.‏ ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، أي ستعلم الجِنة ذلك يوم القيامة‏.‏ والمقصود‏:‏ أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏
‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏
أتبعت حكاية قولهم الباطللِ والوعيدِ عليه باعتراض بين المستثنى منه والمستثنى يتضمن إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه، فهو إنشاء من جانب الله تعالى لتنزيهه، وتلقينٌ للمؤمنين بأن يقتدوا بالله في ذلك التنزيه، وتعجيب من فظيع ما نسبوه إليه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏
‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏سبحان الله عمَّا يصفون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159‏]‏ وجملة ‏{‏فإنكم وما تعبدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 161‏]‏ الآية، والاستثناء منقطع، قيل نشأ عن قولهم‏:‏ ‏{‏إنهم لمُحضرونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ والمعنى لكن عباد الله المخلصين لا يُحضَرون، وقيل نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏عمَّا يَصفونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159‏]‏ أي لكن عباد الله المخلصين لا يَصفونه بذلك، وقيل من ضمير ‏{‏وجعلوا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ أي لكن عباد الله المخلصين لا يجعلون ذلك‏.‏ وهو من معنى القول الثاني، فالمراد بالعباد المخلصين المؤمنون‏.‏
والوجه عندي‏:‏ أن يكون استثناءً منقطعاً نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏سبحانَ الله عمَّا يصفونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159‏]‏ فهو مرتبط به لأن «ما يصفون» أفاد أنهم يصفون الله بأن الملائكة بناته كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ألربك البنات‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لكن الملائكة عباد الله المخلصين، فالمراد من ‏{‏عباد الله المخلصين‏}‏ الملائكة فهذه الآية في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 163‏]‏
‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏‏}‏
عُقب قولهم في الملائكة والجن بهذا لأن قولهم ذلك دعاهم إلى عبادة الجن وعبادة الأصنام التي سوّلها لهم الشيطان وحرّضهم عليها الكهانُ خدَمَةُ الجنّ فعقب ذلك بتأييس المشركين من إدخال الفتنة على المؤمنين في إيمانهم بما يحاولون منهم من الرجوع إلى الشرك، أو هي فاء فصيحة، والتقدير‏:‏ إذا علمتم أن عباد الله المخلصين منزّهون عن مثل قولكم، فإنكم لا تفتنون إلا من هو صالي الجحيم‏.‏
فيجوز أن يكون هذا الكلام داخلاً في حيز الاستفتاء من قوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم ألربك البنات‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏]‏ الآية‏.‏ ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ الآية‏.‏ والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وما تعبُدُونَ‏}‏ واو العطف أو واو المعية وما بعدها مفعول معه والخبر هو ‏{‏ما أنتم عليه بفاتِنينَ‏}‏‏.‏ وضمير ‏{‏أنتُمْ‏}‏ خطاب للمشركين مثل ضمير «إنكم»‏.‏
والمعنى‏:‏ أنكم مصطحبين بالجن الذين تعبدونهم لا تَفتنون أحداً‏.‏ ووجه ذكر المفعول معه أنهم كانوا يموهون للناس أن الجن تنفع وتضر وأن الأصنام كذلك وكانوا يخوّفون الناس من بأسها وانتقامها كما قالت امرأة الطفيل بن عَمرو الدوسي لما أسلم ودعاها إلى الإسلام «ألا تخشى على الصِبية من ذي الشّرى‏؟‏ قال‏:‏ لا» فأسلمتْ وكانوا يزعمون أن من يسبّ الأصنام يصيبه البرص أو الجذام‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ لما قدم ضمام بن ثعلبة وافدُ بني سعد بننِ بكر على قومه من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله‏:‏ باسَت اللاتُ والعُزى‏.‏ فقالوا‏:‏ يا ضمام اتق الجذام اتق الجنون‏.‏ ولا يستقيم أن تكون الواو عاطفة لأن الأصنام لا يسند إليها الإِفتان‏.‏
وجوّز في «الكشاف» أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وما تعبدونَ‏}‏ مفعولاً معه سادّاً مسدّ خبر ‏(‏إن‏)‏، والمعنى‏:‏ فإنكم مع ما تعبدون، أي فإنكم قرناء لآلهتكم لا تبرحون تَعبدونها، وهذا كما يقولون «كل رجل وضيعتَه» أي مع ضيعته، أي مقارن لها‏.‏
و ‏{‏ما تعبدون‏}‏ صادق على الجن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏ لأن الجن تَصدر منهم فتنة الناس بالإِشراك دون الأصنام إذ لا يتصور ذلك منها قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون اللَّه فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏
وضمير ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ يجوز أن يكون عائداً إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ليقولون ولَدَ الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 151- 152‏]‏ أو في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ عباد الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 160‏]‏، ويجوز أن يعود إلى ‏{‏ما تعبدون‏}‏ بمراعاة إفراد اسم الموصول وهو ‏{‏ما‏.‏
وحذف مفعول فاتنين‏}‏ لقصد العموم‏.‏ والتقدير‏:‏ بفاتنين أحداً، ومعياره صحة الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ من هُو صَاللِ الجحيم‏}‏ فالاستثناء مفرغ والمستثنى مفعول ‏{‏بفاتِنِينَ‏}‏‏.‏ وحرف ‏(‏على‏)‏ يتعلق ب«فاتنين» إمّا لتضمين «فاتنين» معنى مفسدين إن كان الضمير المجرور بها عائداً إلى اسم الجلالة كما يقال‏:‏ فسد العبدُ على سيّده وخَلّق فلان المرأةَ على زوجها، وتكون ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي لأن تضمين مفسدين فيه معنى الغلبة‏.‏
وإما لتضمينه معنى حاملين ومسؤولين ويكون ‏(‏على‏)‏ بمعنى لام التعليل كقوله‏:‏ ‏{‏ولتكبروا اللَّه على ما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ ويكون تقدير مضاف بين ‏(‏على‏)‏ ومجرورها تقديره‏:‏ على عبادة ما تعبدون، والمعنى‏:‏ أنكم والشياطين لا يتبعكم أحد في دينكم إلا من عرض نفسه ليكون صاليَ الجحيم، وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42- 43‏]‏‏.‏
‏(‏ورسم في المصحف ‏{‏صَاللِ الجحيمِ‏}‏ بدون ياء بعد اللام اعتباراً بحالة الوصل فإن الياء لا ينطق بها فرسمه كاتبُ المصحف بمثل حالة النطق، ولذلك ينبغي أن لا يوقف على ‏{‏صَالِ‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 166‏]‏
‏{‏وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏‏}‏
فيجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ عبادَ الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 160‏]‏ على أول الوجهين في المعنيّ بعباد الله المخلَصين فيكون عطفاً على معنى الاستثناء المنقطع لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى، وعُطف عليه أنهم يتبرأون من ذلك فالواو عاطفة قولاً محذوفاً يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل‏.‏ والتقدير‏:‏ ويقولون ما منّا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصّافون وإنّا لنحن المسبّحون، وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ له مقام معلوم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الصَّافون المُسبّحُونَ‏}‏‏:‏ الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن كما تقدم في أول السورة وصفُهم بالصّافّات، ووصفُهم بالتسبيح كثير كقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏، وذكر مقاماتهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 20- 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 13- 14‏]‏‏.‏
وفي أحاديث كثيرة مثلاً حديث الإِسراء أن جبريل وجد في كل سماء ملكاً يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ويسأله المَلك‏:‏ من أنت‏؟‏ ومن معك‏؟‏ وهل أُرسل إليه‏؟‏ فإذا قال‏:‏ نعم، فَتح له‏.‏ وعن مقاتل أن قوله‏:‏ ‏{‏وما منَّا إلا له مقامٌ معلوم‏}‏ إلى ‏{‏المُسبحونَ‏}‏ نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى فتأخَّر جبريلُ فقال له النبي‏:‏ أهنا تفارقني فقال‏:‏ لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة ‏{‏وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلومٌ‏}‏ الآيتين‏.‏
ويجوز أن يكون هذا مما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين عطفاً على التفريع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فإنَّكم وما تعبدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 161‏]‏ إلى آخره ويتصل الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم ألربك البنات‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏]‏ إلى هنا‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أنتم بفاتنيننا فتنةَ جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم‏:‏ الملائكة بنات الله والجنُ أصهار الله فما منا إلاّ له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقيّة لله والعبودية له‏.‏
والمنفي ب ‏{‏ما‏}‏ محذوف دل عليه وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏مِنَّا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وما أحد منا كما في قول سحيم بن وثيل‏:‏
أنا ابن جلا وطَلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني
التقدير‏:‏ ابن رجل جلا‏.‏ والخبر هو قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ له مقامٌ معلومٌ‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم‏.‏
والمقام‏:‏ أصله مكان القيام‏.‏ ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حُكيَ في قول نوح‏:‏ ‏{‏إن كان كبر عليكم مقامي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ أي عملي‏.‏
والمعلوم‏:‏ المعيّن المضبوط، وأطلق عليه وصف ‏{‏مَعْلُومٌ‏}‏ لأن الشيء المعيّن المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمّلَه عَلِمَه‏.‏ والمعنى‏:‏ ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه فيه الوساوس فلا تطمعوا أن تزِلونا عن عبادة ربنا‏.‏
فالمقام هو صفة العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة عقب قوله‏:‏ ‏{‏فإنَّكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتِنينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 161- 162‏]‏، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوّة لله تعالى ولا نُشبّه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لِجلاله كقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا للَّه شركاء الجن وخلقهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏وإنَّا لنحنُ الصافُّونَ وإنا لنحن المُسبحون‏}‏ أي وإنا معشر المسلمين، الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفاً بالصلاة‏.‏ ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبهاً بنظام الملائكة‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم‏:‏ «جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة»، والمراد بالمسبحين المنزّهون لله تعالى عن أن يتخذ ولداً أو يكون خلق صهراً له أو صاحبة خلافاً لشرككم إذ عبادتكم مُكاء وتصدية وخلافاً لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهاراً‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏الصَّافون‏.‏‏.‏‏.‏ المسبحون‏}‏ لدلالة قوله ‏{‏ما أنتم عليه بفاتنينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 162‏]‏ عليه، أي الصافّون لعبادته المسبّحون له، فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشؤون الله تعالى‏.‏ وتعريف جزأي الجملة، وضميرُ الفصل من قوله‏:‏ ‏{‏لنَحْنُ‏}‏ يفيدان قصراً مؤكداً فهو قصر قلب، أي دون ما وصفتموه به من البنوّة لله‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 170‏]‏
‏{‏وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏
انتقال من ذكر كفر المشركين بتعدد الإله وبإنكار البعث وما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من السحر والجنون ثم بما نسبوا لله مما لا يليق بإلهيته وما تخلل ذلك من المواعظ والوعيد لهم والوعد للمؤمنين والعبرة بمصارع المكذبين السابقين وما لقيه رسل الله من أقوامهم‏.‏
فانتقال الكلام إلى ذكر ما كفر به المشركون من تكذيب القرآن الذي أنزله الله هدى لهم، فالمقصود من هذا هو قولُه‏:‏ ‏{‏فكَفَروا به‏}‏ أي الذكرِ، وإنما قدم له في نظم الكلام ما فيه تسجيل عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين يودّون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين ويرجُون لو كان ذلك أن يكونوا عباداً لله مخلصين له فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به وذلك أفظع الكفر لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره إذ كانوا يتمنّونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثلُه فلم يكن كفرهم عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏{‏إِنْ‏}‏ المخففة من الثقيلة وبلام الابتداء الفارقة بين المخففة والنافية للتسجيل عليهم بتحقيق وقوع ذلك منهم ليُسدّ عليهم باب الإِنكار‏.‏ وإقحام فعل ‏{‏كانُوا‏}‏ للدلالة على أن خبر ‏(‏كان‏)‏ ثابت لهم في الماضي‏.‏ والتعبيرُ بالمضارع في «يقولون» لإِفادة أن ذلك تكرر منهم‏.‏
و ‏{‏لو‏}‏ شرطية وسدّت ‏{‏أنّ‏}‏ وصلتها مسدّ فعل الشرط وهو كثير في الكلام‏.‏
والذكر‏:‏ الكتاب المقروء، سمي ذِكراً لأنه يذكر الناس بما يجب عليهم مُسمّى بالمصدر‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏
و ‏{‏مِن الأوَّلين‏}‏ صفة ل ‏{‏ذِكراً،‏}‏ والمراد ب ‏{‏الأوَّلين‏}‏ الرسل السابقون، و‏{‏من‏}‏ ابتدائية، أي ذكراً جائياً من الرسل الأولين، أي مثل موسى وعيسى‏.‏ ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين، فذكر في جواب ‏{‏لو‏}‏ ما هو أخص من الإِيمان ليفيد معنى الإِيمان بدلالة الفحوى‏.‏
وفي جملة ‏{‏لكُنَّا عِبَاد الله المخلصين‏}‏ صيغة قصر من أجل كون المسند إليه معرفة بالإِضمار والمسند معرفة بالإِضافة، أي لكنا عباد الله دون غيرنا، ولما وصف المسند ب ‏{‏المخلصين‏}‏ وهو معرَّف بلام الجنس حصل قصر عباد الله الذين لهم صفة الإِخلاص في المسند إليه، وهذا قصر ادعائي للمبالغة في ثبوت صفة الإِخلاص لهم حتى كانوا شبيهين بالمنفردين بالإِخلاص لعدم الاعتداد بإخلاص غيرهم في جانب إخلاصهم‏.‏ وهو يؤول إلى معنى تفضيل أنفسهم في الإِخلاص لله حينئذٍ، كما صرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فكفروا به‏}‏ للتعقيب على فعل ‏{‏ليقُولُونَ‏}‏، أي استمرّ قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به، أو للفصيحة، والتقدير‏:‏ فكان عندهم ذكر فكفروا به، فالضمير عائد إلى الذكر وهو القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا باللَّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونُنّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 42‏]‏‏.‏
‏(‏وبهذا كان للوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يعلَمُون‏}‏ موقعُه المصادفُ المِجَزَّ من الكلام، وهوْلُه بما ضمنه من الإِبهام‏.‏ و«سوف» أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 173‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏
تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏فكَفرُوا به‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 170‏]‏ وبيان لبعض الوعيد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 170‏]‏ بمنزلة بدل البعض من الكل ولكنه غلب عليه جانب التسلية فعطف بالواو عطف القصة على القصة‏.‏
والكلمة مراد بها الكلامُ، عبر عن الكلام بكلمة إشارة إلى أنه منتظم في معنى واحد دال على المقصود دلالة سريعة فشبه بالكلمة الواحدة في سرعة الدلالة وإيجاز اللفظ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏
ألا كل شيء ما خلا الله باطل» وبُينت الكلمة بجملة ‏{‏إنَّهم لهم المنصُورُونَ‏}‏، أي الكلام المتضمن وعدهم بأن ينصرهم الله على الذين كذبوهم وعادَوهم وهذه بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم عقب تسليته لأنه داخل في عموم المرسلين‏.‏
وعطف ‏{‏وإنَّ جُندنا لهم الغالِبُونَ‏}‏ بشارة للمؤمنين فإن المؤمنين جند الله، أي أنصاره لأنهم نصروا دينه وتلقوا كلامه، كما سموا حزب الله في قوله‏:‏ ‏{‏كتب اللَّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللَّه قوي عزيز‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك حزب اللَّه ألا إن حزب اللَّه هم المفلحون‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهُمُ الغالِبُونَ‏}‏ يشمل علوّهم على عدوّهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوّهم عليهم في الآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏ فهو من استعمال ‏{‏الغالِبُونَ‏}‏ في حقيقته ومجازه‏.‏
ومعنى ‏{‏المنصُورون‏}‏ و‏{‏الغالِبُونَ‏}‏ في أكثر الأحوال وباعتبار العاقبة، فلا ينافي أنهم يُغلبون نادراً ثم تكون لهم العاقبة، أو المراد النصر والغلبة الموعود بهما قريباً وهما ما كان يوم بدر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 175‏]‏
‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏‏}‏
هذا مفرع على التسلية التي تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏ولقد سبقَتْ كلِمتُنا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏‏.‏ والتولي حقيقته‏:‏ المفارقة كما تقدم في قصة إبراهيم ‏{‏فتولَّوا عنه مُدبرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 90‏]‏، واستعمل هنا مجازاً في عدم الاهتمام بما يقولونه وترك النكد من إعراضهم‏.‏
والحين‏:‏ الوقت‏.‏ وأجمل هنا إيماء إلى تقليله، أي تقريبه، فالتنكير للتحقير المعنوي وهو التقليل‏.‏ ومعنى ‏{‏أبصرهم‏}‏ انظر إليهم، أي من الآن، وعدّي ‏(‏أبصر‏)‏ إلى ضميرهم الدال على ذواتهم، وليس المراد النظر إلى ذواتهم لكن إلى أحوالهم، أي تأملْ أحوالهم ترَ كيف ننصرك عليهم، وهذا وعيد بما حلّ بهم يوم بدر‏.‏
وحذف ما يتعلق به الإِبصار من حال أو مفعول معه بتقدير‏:‏ وأبصرهم مأسورين مقتولين، أو وأبصرهم وما يُقضى به عليهم من أسر وقتل لدلالة ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏إنَّهُم لهمُ المنصُورون وإن جُندنا لهم الغالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 172، 173‏]‏ عليه، إذ ليس المأمور به أيضاً ذواتهم، وهذا من دلالة الاقتضاء‏.‏ وصيغة الأمر في ‏{‏وأبْصرهُم‏}‏ مستعملة في الإِرشاد على حد قول‏:‏
إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ *** فدعه وواكل أمره واللياليا
أي إذا شئت أن تتحقق قرارة حاله فانتظره‏.‏
وعبر عن ترتب نزول الوعيد بهم بفعل الإِبصار للدلالة على أن ما توعدوا به واقع لا محالة وأنه قريب حتى أن الموعود بالنصر يتشوف إلى حلوله فكان ذلك كناية عن تحققه وقربه لأن تحديق البصر لا يكون إلا إلى شيء أشرف على الحلول‏.‏
وتفريع ‏{‏فسوف يبصرون‏}‏ على ‏{‏وأبصرهم‏}‏ تفريع لإِنذارهم بوعيد قريب على بشارة النبي بقربه فإن ذلك المبصر يَسرّ النبي صلى الله عليه وسلم ويحزن أعداءه، ففي الكلام اكتفاء، كأنه قيل‏:‏ أبصرهم وما يَنزل بهم فسوف تُبصر ما وعدناك وليُبصروا ما ينزل بهم فسوف يبصرونه‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يُبصرون‏}‏ لدلالة ما دلت عليه دلالة الاقتضاء‏.‏ واعلم أن تفريع ‏{‏فسوف يُبصرون‏}‏ على ‏{‏وأبصرهم‏}‏ يمنع من إرادة أن يكون المعنى‏:‏ وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب بعد ذلك الحين كما لا يخفى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 177‏]‏
‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏‏}‏
هذا تفريع على التأجيل المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏حتى حينٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 174‏]‏ فإن ذلك ما أنذرهم بعذاب يحلّ بهم تُوقع أنهم سيقولون على سبيل الاستهزاء أَرنا العذاب الذي تُخوفنا به وعجِّله لنا‏.‏
وبعض المفسرين ذكر أنهم قالوه فلوحظ ذلك وفرع عليه استفهام تعجيبي من استعجالهم ما في تأخيره والنظرة به رأفة بهم واستبقاء لهم حيناً‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإذَا نزل بساحتهم‏}‏ فاء الفصيحة، أي إن كانوا يستعجلون بالعذاب فإذا نزل بهم فبئس وقت نزوله‏.‏ وإسناد النزول إلى العذاب وجعله في ساحتهم استعارة تمثيلية مكنية، شبهت هيئة حصول العذاب لهم بعد ما أُنذروا به فلم يعبأوا بهيئة نزول جيش عدوّ في ساحتهم بعد أن أنذرهم به النذير العريان فلم يأخذوا أُهبتهم حتى أناخ بهم‏.‏
وذكر الصباح لأنه من علائق الهيئة المشبه بها فإن شأن الغارة أن تكون في الصباح ولذلك كان نذير المجيء بغارة عدوّ ينادي‏:‏ يا صباحاه نداء ندبة وتفجع‏.‏ ولذلك جعل جواب «إذا» قوله‏:‏ ‏{‏فَسَاءَ صباحُ المُنذَرِينَ‏}‏ أي بئس الصباح صباحهم‏.‏
وفي وصفهم ب ‏{‏المُنْذَرِينَ‏}‏ ترشيح للتمثيل وتورية في اللفظ لأن المشبهين منذرون من الله بالعذاب‏.‏ والذين يسوء صباحهم عند الغارة هم المهزومون فكأنه قيل‏:‏ فإذا نزل بساحتهم كانوا مغلوبين‏.‏ وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه في التشبيه بأن يشبه العذاب بالجيش، وحلوله بهم بنزول الجيش بساحة قوم وما يلحقهم من ضر العذاب بضر الهزيمة، ووقت نزول العذاببِ بهم بتصبيح العدوّ محلة قوم‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تُحِس بها ويروقُك موردها على نفسك وطبعِك إلاّ لمجيئها على طريقة التمثيل»‏.‏
واعلم أن في اختيار هذا التمثيل البديع معنى بديعاً من الإِيماء إلى أن العذاب الذي وُعِدوه هو ما أصابهم يوم بدر من قَتل وأسر على طريقة التورية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 179‏]‏
‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فإذا نزل بساحتهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 177‏]‏ الآية لأن معنى المعطوف عليها الوعد بأن الله سينتقم منهم فعطف عليه أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهتمّ بعنادهم‏.‏
وهذه نظير التي سبقتها المفرعة بالفاء فلذلك يحصل منها تأكيد نظيرتها، على أنه قد يكون هذا التولّي غيرَ الأول وإلى حيننٍ آخرَ وإبصارٍ آخر، فالظاهر أنه توَلَ عمن يبقى من المشركين بعد حلول العذاب الذي استُعجلوه، فيحتمل أن يكون حيناً من أوقات الدنيا فهو إنذار بفتح مكة‏.‏ ويحتمل أن يكون إلى حين من أحيان الآخرة، وإنما جعل ذلك غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه العذاب عنهم غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه عنهم مستمر إلى يوم القيامة فإن مدة لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لما كانت متصلة بتوليه عنهم جعلت تلك المدة كأنها ظرف للتولي ينتهي بحين إحضارهم للعقاب، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏حتى حِيْنَ‏}‏ مراداً به الأبد‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏وأبصر‏}‏ في هذه الآية لدلالة ما في نظيرها عليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏
‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم تذييلاً لخطابه المبتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستفتهم ألربك البنات‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏]‏ الآية‏.‏ فإنه خلاصة جامعة لما حوته من تنزيه الله وتأييده رسله‏.‏ وهذه الآية فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمة على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم‏.‏
وهذه المقاصد الثلاثة هي أصول كمال النفوس في العاجل والآجل، لأن معرفة الله تعالى بما يليق به تنقذ النفس من الوقوع في مهاوي الجهالة المفضية إلى الضلالة فسوءِ الحالة‏.‏ وإنما يتم ذلك بتنزيهه عما لا يليق به‏.‏ فأشار قوله‏:‏ ‏{‏سبحان ربِّكَ‏}‏ الخ إلى تنزيهه، وأشار وصف ‏{‏رَبّ العِزَّة‏}‏ إلى التوصيف بصفات الكمال، فإن العزة تجمع الصفاتتِ النفسية وصفاتتِ المعاني والمعنوية لأن الربوبية هي كمال الاستغناء عن الغير، ولما كانت النفوس وإن تفاوتت في مراتب الكمال لا تسلم من نقص أو حيرة كانت في حاجة إلى مرشدين يبلغونها مراتب الكمال بإرشاد الله تعالى وذلك بواسطة الرسل إلى الناس وبواسطة المبلغين من الملائكة إلى الرسل‏.‏ وكانت غاية ذلك هي بلوغ الكمال في الدنيا والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة‏.‏ وتلك نعمة تستوجب على الناس حمد الله تعالى على ذلك لأن الحمد يقتضي اتصاف المحمود بالفضائل وإنعامَه بالفواضل وأعظمُها نعمة الهداية بواسطة الرسل فهم المبلغون إرشاد الله إلى الخلق‏.‏
و ‏{‏رَبّ‏}‏ هنا بمعنى‏:‏ مالك‏.‏ ومعنى كونه تعالى مالك العزة‏:‏ أنه منفرد بالعزة الحقيقية وهي العزة التي لا يشوبها افتقار، فإضافة ‏{‏رَبّ‏}‏ إلى ‏{‏العِزَّةِ‏}‏ على معنى لام الاختصاص كما يقال‏:‏ صاحب صِدق، لمن اختص بالصدق وكان عريقاً فيه‏.‏ وفي الانتقال من الآيات السابقة إلى التسبيح والتسليم إيذان بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم‏.‏
والتعريف في ‏{‏العِزَّةِ‏}‏ كالتعريف في ‏{‏الحمد‏}‏ هو تعريف الجنس فيقتضي انفراده تعالى به لأن ما يثبت لغيره من ذلك الجنس كالعَدم كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏
وتنكير ‏{‏سلام‏}‏ للتعظيم‏.‏ ووصف ‏{‏المُرْسَلِينَ‏}‏ يشمل الأنبياء والملائكة فإن الملائكة مُرسلون فيما يقومون به من تنفيذ أمر الله‏.‏
روى القرطبي في «تفسيره» بسنده إلى يحيى بن يحيى التميمي النيسابُوري إلى أبي سعيد الخدْري قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول آخر صلاته أو حينَ ينصرف‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون وسلامٌ على المُرسلينَ‏}‏‏.‏
ومن المروي عن علي بن أبي طالب «مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخرَ مجلسه حينَ يريد أن يقوم ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ إلى آخر السورة، وفي بعض أسانيده أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح»‏.‏

سورة ص
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏‏}‏
‏{‏ص‏}‏ القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل بعض السور بدون فرق أنها مقصودة للتهجِّي تحدِّياً لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتورُّكاً عليهم إذ عجزوا عنه واتفق أهل العدّ على أن ‏{‏ص‏}‏ ليس بآية مستقلة بل هي في مبدأ آية إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذِي الذِّكرِ‏}‏ وإنما لم تعد ‏{‏ص‏}‏ آية لأنها حرف واحد كما لم يعد ‏{‏ق‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏ن‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏ ‏;‏ ‏{‏والقرءان ذِىلذِّكْرِ‏}‏
الواو للقسم أقسم بالقرآن قسَم تنويه به‏.‏ ووصف ب ‏{‏ذِي الذِّكر‏}‏ لأن ‏{‏ذي‏}‏ تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به‏.‏
و ‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ التذكير، أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون‏.‏ ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى‏:‏ الذي يُذكر، بالبناء للنائب، أي والقرآن المذكور، أي الممدوح المستحِق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 10‏]‏ أي شرفكم‏.‏
وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين‏:‏ أولهما أن يكون محذوفاً دلّ عليه حرف ‏{‏ص‏}‏ فإن المقصود منه التحدّي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضته بأنه كلام بلُغتهم ومؤلَّفٌ من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته‏.‏ فالتقدير‏:‏ والقرآن ذي الذكر أنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإِتيان بمثله‏.‏
وثانيهما‏:‏ الذي أرى أن الجواب محذوف أيضاً دل عليه الإِضراب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏بَللِ الذين كفروا في عزَّة وشِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏ بعد أن وُصف القرآن ب ‏{‏ذِي الذِّكر‏}‏، لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذِكر ومُوقظ للعقول فكأنه قيل‏:‏ إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقاق يجحدون أنه ذكر ويقولون‏:‏ سِحر مفترىً وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏، فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق، وليس حرف ‏{‏ص‏}‏ هو المقسم عليه مقدماً على القسم، أي ليس دليلُ الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق‏.‏
والغرض من حذف جواب القسم هنا الإِعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عناداً أو شقاقاً منهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏
‏{‏بل‏}‏ للإِضراب الإِبطالي وهذا نوع من الإِضراب الإِبطالي نبّه عليه الراغب في «مفردات القرآن» وأشار إليه في «الكشاف»، وتحريرُه أنه ليس إبطالاً محضاً للكلام السابق بحيث يكون حرفُ ‏{‏بل‏}‏ فيه بمنزلة حرف النفي كما هو غالب الإِضراب الإِبطالي، ولا هو إضراب انتقالي، ولكن هذا إبطال لتوهممٍ ينشأ عن الكلام الذي قبله إذّ دل وصف القرآن ب ‏{‏ذِي الذِّكر‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1‏]‏ أن القرآن مذكِّرٌ سامعيه تذكيراً ناجعاً، فعقب بإزالة توهم مَن يتوهم أن عدم تذكّر الكفار ليس لضعففٍ في تذكير القرآن ولكن لأنهم متعزّزون مُشاقُّون، فحرف ‏{‏بل‏}‏ في مثل هذا بمنزلة حرف الاستدراك، والمقصود منه تحقيق أنه ذُو ذكر، وإزالة الشبهة التي قَد تعرض في ذلك‏.‏
ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 1، 2‏]‏، أي ليس امتناعهم من الإِيمان بالقرآن لنقص في علوّه ومجده ولكن لأنهم عجبوا أن جاءهم به رجل منهم‏.‏
ولك أن تجعل ‏{‏بل‏}‏ إضرابَ انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه، لأن في بيان ذلك السبب تحقيقاً للتنويه بالقرآن كما يقال‏:‏ دع ذا وخذ في حديث‏.‏‏.‏، كقول امرئ القيس‏:‏
فدَع ذا وَسَلِّ الهمَّ عنك بجَسرة *** ذمول إذا صام النهارُ وهَجرا
وقال زهير‏:‏
دَع ذا وعَدِّ القولَ في هَرم *** خير البُداة وسيد الحَضر
وقول الأعشى‏:‏
فَدع ذا ولكن ما ترى رأيَ كاشح *** يرى بيننا من جهله دَقَّ مَنْشم
وقول العَجاج‏:‏
دع ذا وبَهِّجْ حَسباً مُبَهَّجاً ***
ومعنى ذلك أن الكلام أخذ في الثناء على القرآن ثم انقطع عن ذلك إلى ما هو أهم وهو بيان سبب إعراض المعرضين عنه لاعتزازهم بأنفسهم وشقاقهم، فوقع العدول عن جواب القسم استغناء بما يفيد مُفاد ذلك الجواب‏.‏
وإنما قيل‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ دون ‏(‏الكافرون‏)‏ لما في صلة الموصول من الإِيماء إلى الإِخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق‏.‏ والعزة تَحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جارياً على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزوَّرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل له اتقّ اللَّه أخذته بالعزّة بالإثم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏، أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان، وهي هنا عزة باطلة أيضاً لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس‏.‏ وضدُّ العزة الذلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ وقال السمَوْأل أو غيره‏:‏
وما ضَرنا أنَّا قليل وجارنا *** عزيزٌ وجار الأكثرين ذَليل
و‏{‏في للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة‏.‏ والمعنى‏:‏ متلبسون بعزة على الحق‏.‏
والشقاق‏:‏ العناد والخصام‏.‏ والمراد‏:‏ وشقاق لله بالشرك ولرسوله بالتكذيب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏
استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاقَ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بياناً له، وهذه الجملة معترضة بين جملة ‏{‏بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏، وبين جملة ‏{‏وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وكان هذا البيان إخبَاراً مُرفَقاً بحجة من قبيل قياس تمثيل، لأن قوله‏:‏ ‏{‏مِن قبلهم‏}‏ يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمناً تحذيراً من التريث عن إجابة دعوة الحق، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم‏.‏ فالتقدير‏:‏ سيجازَوْن على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جُوزِيَتْ أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب‏.‏
و ‏{‏كم‏}‏ اسم دال على عدد كثير‏.‏ و‏{‏مِن قَرنٍ‏}‏ تمييز لإِبهام العدد، أي عدداً كثيراً من القرون، وهي في موضع نصب بالمفعولية ل ‏{‏أهْلَكنا‏}‏‏.‏
والقرن‏:‏ الأمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 42‏]‏‏.‏ و‏{‏من قبلهم‏}‏ يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً جعل صفة ل ‏{‏قَرْنٍ‏}‏ مقدمة عليه فوقعت حالاً، وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمامُ إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العِزّة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقاً ب ‏{‏أهلكنا‏}‏ على أنه ظرف لغو، وقدم على مفعول فعله مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماماً به إيماء إلى الإِهلاك كما في الوجه الأول‏.‏
وفرع على الإِهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم، تحذيراً من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم‏.‏ والمراد بالنداء في ‏{‏فنَادوا‏}‏ نداؤهم الله تعالى تَضرعاً، وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏ولاَتَ حينَ منَاصٍ‏}‏ في موضع الحال، والواو واو الحال، أي نادوا في حال لا حين مناص لهم‏.‏
و ‏{‏لات‏}‏ حرف نفي بمعنى ‏(‏لا‏)‏ المشبهة ب ‏(‏ليس‏)‏ و‏{‏لات‏}‏ حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها‏.‏ وهي مركبة من ‏(‏لا‏)‏ النافية وصُلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثاً لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم‏:‏ رُبَّت وثُمَّت‏.‏ والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطَأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال‏:‏
لقد تَصبرت حتى لاتَ مصطبَر *** والآن أقحم حتى لات مقتحم
وأغفل شارحو ديوانه كلُّهم وقد أدخل ‏{‏لات على غير اسم زمان‏.‏ وأيًّا مَّا كان فقد صارت ‏(‏لا‏)‏ بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفاً مستقلاً خاصاً بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو‏:‏ رُبَّت وثَمَّتَ‏.‏
وزعم أبو عبيد القاسم بن سلام أن التاء في ولاَتَ حينَ مناصٍ‏}‏ متصلة ب ‏{‏حِينَ‏}‏ وأنه رآها في مصحف عثمان متصلة ب ‏{‏حين‏}‏ وزعم أن هذه التاء تدخل على‏:‏ حين وأوان وآن يريد أن التاء لاحقة لأول الاسم الذي بعد ‏(‏لا‏)‏ ولكنه لم يفسر لدخولها معنى‏.‏ وقد اعتذر الأيمة عن وقوع التاء متصلة ب ‏{‏حين‏}‏ في بعض نسخ المصحف الإِمام بأن رسم المصحف قد يخالف القياس، على أن ذلك لا يوجد في غير المصحف الذي رآه أبو عبيد من المصاحف المعاصرة لذلك المصحف والمرسومة بعده‏.‏ والمناص‏:‏ النجاء والفوت، وهو مصدر ميمي، يقال‏:‏ ناصه، إذا فاته‏.‏
والمعنى‏:‏ فنادَوا مبتهلين في حال ليس وقت نجاء وفَوت، أي قد حق عليهم الهلاك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة اللَّه التي قد خلت في عباده‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏
‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏
‏{‏وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ، أَجَعَلَ اَلَهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هّذَا لَشَيٌ عُجَابٌ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏ فهو من الكلام الواقع الإِضراب للانتقال إليه كما وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 1- 2‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه استقرّ في نفوسهم استحالة بعثة رسول منهم فذلك سبب آخر لانصرافهم عن التذكر بالقرآن‏.‏
والعجب حقيقته‏:‏ انفعال في النفس ينشأ عن علم بأمر غير مترقب وقوعه عند النفس، ويطلق على إنكار شيء نادر على سبيل المجاز بعلاقة اللزوم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتعجبين من أمر اللَّه‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 73‏]‏ فإن محل العتاب هو كون امرأة إبراهيم أحالت أن تلد، وهي عجوز وكذلك إطلاقه هنا‏.‏ والمعنى‏:‏ وأنكروا وأحالوا أن جاءهم منذر منهم‏.‏
والمنذر‏:‏ الرسول، أي منذر لهم بعذاب على أفعال هم متلبسون بها‏.‏
وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف المنذر‏:‏ ووُصف بأنه منهم للإِشارة إلى سوء نظرهم من عجبهم لأن شأن النذير أن يكون من القوم ممن ينصح لهم فكونه منهم أولى من أن يكون من غيرهم‏.‏
ثم إن كان التبعيض المستفاد من حرف ‏(‏من‏)‏ مراداً به أنه بعض العرب أو بعض قريش فأمر تجهيلهم في عجبهم من هذا النذير بيّن؛ وإن كان مراداً به أنه بعض البشر وهو الظاهر فتجهيلهم لأن من كان من جنسهم أجدرُ بأن ينصح لهم من رسول من جنس آخر كالملائكة، وهذه جدارة عرفية‏.‏ وهذا العجب تكرر تصريحهم به غير مرة فهو مستقر في قرارة نفوسهم، وهو الأصل الداعي لهم إلى الإِعراض عن تصديقه فلذلك ابتُدئت به حكاية أقوالهم التي قالوها في مجلس شيخ الأباطح كما تقدم في ذكر سبب النزول‏.‏
‏{‏مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا ساحر‏}‏ ‏{‏كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ‏}‏‏.‏
بعد أن كُشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك، إشارةً بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏الكافِرونَ‏}‏ وضْعُ الظاهر موقع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ «وقالوا هذا ساحر» الخ، وهذا لقصد وصْفهم بأنهم كافرون بربهم مقابَلَة لما وَصَمُوا به النبي صلى الله عليه وسلم فوُصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروباً من الشتم تأصيلاً وتفريعاً وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال‏.‏
ولفظ ‏{‏هذا‏}‏ أشاروا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعملوا اسم الإِشارة لتحقير مثله في قولهم‏:‏ ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكورِ في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإِشارة إليه‏.‏
وجَعلوا حالهُ سحراً وكذباً لأنهم لما لم تقبَل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه مثل كون الإله واحداً أو كونه يعيد الموتى أحياء سحراً إذ كانوا يألفون من السحر أقوالاً غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذباً‏.‏ وبينوا ذلك بجملتين‏:‏ إحداهما ‏{‏أجعل الآلهة إلها واحداً‏}‏، والثانية جملة ‏{‏أءُنزلَ عليه الذكر من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏‏.‏
‏(‏فجملة ‏{‏أجَعَلَ الآلهة إلهاً واحداً‏}‏ بيان لجملة ‏{‏هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏، أي حيث عدوه مباهتاً لهم بقلب الحقائق والأخبار بخلاف الواقع‏.‏
والهمزة للاستفهام الإِنكاري التعجيبي ولذلك أتبعوه بما هو كالعلة لقولهم‏:‏ ‏{‏ساحر‏}‏ وهو ‏{‏إنَّ هذا لشيء عجاب‏}‏ أي يتعجب منه كما يتعجب من شعوذة الساحر‏.‏
و ‏{‏عُجاب‏}‏‏:‏ وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيراً لأن وزن فُعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل‏:‏ طُوال، بمعنى المفرط في الطول، وكُرام بمعنى الكثير الكرم، فهو أبلغ من كريم، وقد ابتدأوا الإِنكار بأول أصل من أصول كفرهم فإن أصول كفرهم ثلاثة‏:‏ الإِشراكُ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار البعث، والجزاءِ في الآخرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏
الانطلاق حقيقته‏:‏ الانصراف والمشي، ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه، ونظيره في ذلك‏:‏ ذَهب بفعل كذا، كما في قول النبهاني‏:‏
فإن كنتَ سيِّدنَا سدْتَنا *** وإن كنت للخال فاذْهب فَخلْ
وكذلك قام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قاموا فقالوا‏}‏ في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 14‏]‏‏.‏
‏(‏وقيل‏:‏ إن الانطلاق هنا على حقيقته، أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب‏.‏ و‏{‏الملأ‏}‏‏:‏ سادة القوم قال ابن عطية‏:‏ قائل ذلك عقبة بن أبي معيط‏.‏ وقال غير ابن عطية‏:‏ إن من القائلين أبا جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد يغوث‏.‏
و ‏{‏أن‏}‏ تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسيرٍ بكلام مقول، وإن كان الانطلاقُ على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل ‏{‏هذا ساحِرٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ماذا يصنعون‏.‏ ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ماذا يصنعون فكان ذلك مقتضياً تحاوراً وتقاولاً احتيج إلى تفسيره بجملة ‏{‏أن امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم‏}‏ الخ‏.‏ والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم‏.‏ ويجوز أن يكون مجازاً في الاستمرار على دينهم كما يقال‏:‏ كما سار الكرام، أي اعمل كما عملوا، ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة‏.‏
والصبر‏:‏ الثبات والملازمة، يقال‏:‏ صبر الدابة إذا ربطها، ومنه سمي الثبات عند حلول الضُرّ صبراً لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع، ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وحرف ‏{‏على‏}‏ يدلّ على تضمين ‏{‏اصبروا‏}‏ معنى‏:‏ اعكفوا وأثبتوا، فحرف ‏{‏على‏}‏ هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن مثل ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وليس هو حرف ‏{‏على‏}‏ المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏ فإن ذلك بمعنى ‏(‏مع‏)‏، ولذلك يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏، ولا بدّ هنا من تقدير مضاف، أي على عبادة آلهتكم، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان‏.‏
وجملة ‏{‏إن هذا لشيءٌ يُرادُ‏}‏ تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أرادهُ لغرض أي ليس صادقاً ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال‏:‏ هذا أمر دُبِّر بليل، فالإِشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أن يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة‏}‏ من كلام المَلأ‏.‏
والإِشارة إلى ما أشير إليه بقولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا لشيء يراد‏}‏، أي هذا القول وهو ‏{‏أجعَلَ الآلهة إلها واحداً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة ‏{‏إنَّ هذا لشيءٌ يُرادُ‏}‏ لأن عدم سماع مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع‏.‏ وإعادة اسم الإِشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏بهذا‏}‏ تقدير مضاف، أي بمثل هذا الذي يقوله‏.‏ ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتّهام بالكذب‏.‏
و ‏{‏الملة‏}‏‏:‏ الدين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللَّه وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 37- 38‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏الآخِرة‏}‏‏:‏ تأنيث الآخِر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اللَّه ينشئ النشأة الآخرة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 20‏]‏‏.‏
‏(‏والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏في الملة الآخرةِ‏}‏ يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من اسم الإِشارة بياناً للمقصود من الإِشارة متعلقاً بفعل ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتدّ به‏.‏ ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد ب ‏{‏الملَّةِ الآخرة‏}‏ دين النصارى، وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإله بأن دين النصارى الذي ظهر قبل الإِسلام أثبتَ تعدد الآلهة، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة‏.‏ ويجوز أن يريدوا ب ‏{‏الملَّةِ الآخِرة‏}‏ الملّة التي هُم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احْتضاره حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا عَم قُلْ لا إله إلاّ الله كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله‏.‏ فقالوا له جميعاً‏:‏ أترغب عن ملة عبد المطلب» فقولهم‏:‏ ‏{‏في الملة الآخِرَةِ‏}‏ كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى‏.‏
وجملة ‏{‏إن هذا إلاَّ اختلاقٌ‏}‏ مبينة لجملة ‏{‏ما سمعنا بهذا‏}‏ وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء ب ‏{‏امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم‏}‏ فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم‏.‏
والاختلاق‏:‏ الكذب المخترع الذي لا شبهة لقائله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏‏}‏
‏{‏أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏‏.‏
يجوز أن يكون ‏{‏أءُنزِلَ عليه الذكر من بيننا‏}‏ من كلام عموم الكافرين المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏وقال الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ فيكون متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏أجعَلَ الآلِهة إلها واحداً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ ويكون قوله ‏{‏أءُنزلَ عليه الذكرُ‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏، لأن تقديره‏:‏ هذا كذّاب إذ هو خبر ثان ل ‏(‏كان‏)‏، ولكونه بياناً للذي قبله لم يعطف عليه ويكون ما بينهما من قوله‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأُ منهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا اختلاقٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏ اعتراضاً بين جملتي البيان‏.‏
ويجوز أن يكون من تمام كلام الملأ واستغني به عن بيان جملة ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ لأن نطق الملأ به كاففٍ في قول الآخرين بموجَبه فاستغنوا عن بيان جملة ‏{‏كذابٌ‏}‏‏.‏
والاستفهام إنكاري، ومناط الإِنكار هو الظرف ‏{‏من بيننا‏}‏ وهو في موضع حال من ضمير ‏{‏عليه‏}‏، فأنكروا أن يُخص محمد صلى الله عليه وسلم بالإِرسال وإنزاللِ القرآن دون غيره منهم، وهذا هو المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ أي من مكة أو الطائف ولم يريدوا بهذا الإِنكار تجويز أصل الرسالة عن الله وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد فإنهم أنكروا أصل الرسالة كما اقتضاه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَجِبوا أن جاءَهم مُنذرٌ منهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ وغيره من الآيات، وهذا الأصل الثاني من أصول كفرهم التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلها واحداً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ وهو أصل إنكار بعثه رسول منهم ‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِ‏}‏
يجوز أن يكون هذا جواباً عن قولهم‏:‏ ‏{‏أءُنزِلَ عليه الذكر من بيننا‏}‏ أي ليس قصدهم الطعن في اختصاصك بالرسالة ولكنهم شاكُّون في أصل إنزاله، فتكون ‏{‏بل‏}‏ إضراباً إبطالياً تكذيباً لما يظهر من إنكارهم إنزال الذكر عليه من بينهم على ما تقدم، أي إنما قصدهم الشك في أن الله يوحي إلى أحد بالرسالة، فيكون معنى ‏{‏في شَكّ من ذِكري‏}‏ شكّاً من وقوعه‏.‏ والشك يطلق على اليقين مجازاً مرسلاً بعلاقة الإِطلاق والتقييد فيكون كمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون انتقالاً من خبر عنهم إلى خبر آخر فيكون استئنافاً وتكون ‏{‏بل‏}‏ للإِضراب الانتقالي، والمعنى‏:‏ وهم في شك من ذكري، أي في شك من كنه القرآن، فمرة يقولون‏:‏ افتراه، ومرة يقولون‏:‏ شعر، ومرة‏:‏ سحر، ومرة‏:‏ أساطير الأولين، ومرة‏:‏ قول كاهن‏.‏ فالمراد بالشك حقيقتهُ أي التردد في العلم‏.‏ وإضافة الذكر إلى ضمير المتكلم وهو الله تعالى إضافة تشريف ولتحقيق كونه من عند الله‏.‏ والذكر على هذا الوجه هو عين المراد من قوله‏:‏ ‏{‏أءُنزل عليه الذكر‏}‏ وإنما وقع التعبير عنه بالظاهر دون الضمير توصلاً إلى التنويه به بأنه من عند الله‏.‏
و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية، جُعلت ملابسة الشك إياهم بمنزلة الظرف المحيط بمحويه في أنه لا يخلو منه جانب من جوانبه‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن ذِكري‏}‏ ابتدائية لكون الشك صفة لهم، أي نشأ لهم الشك من شأن ذكري، أي من جانب نفي وقوعه، أو في جانب ما يصفونه به‏.‏
‏{‏ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ‏}‏‏.‏
أتبع ذلك الإِضراب بإضراب آخر يبين أن الذي جرّأهم على هذا الشقاق أنهم لما تأخر حلول العذاب بهم ظنوا وعيده كاذباً فأخذوا في البذاءة والاستهزاء ولو ذاقوا العذاب لألقمت أفواههم الحجر‏.‏
و ‏{‏لمّا‏}‏ حرف نفي بمعنى ‏(‏لم‏)‏ إلاّ أن في ‏{‏لمّا‏}‏ خصوصية، وهي أنها تدلّ على المنفي بها متصل الانتفاء إلى وقت التكلم بخلاف ‏(‏لم‏)‏ فلذلك كان النفي ب ‏{‏لمّا‏}‏ قد يُفهم منه ترقب حصول المنفي بعد ذلك قال صاحب «الكشاف» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ في سورة الحجرات‏}‏ ‏(‏14‏)‏ ما في ‏{‏لمّا من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ، أي دال بطريق المفهوم الحاصل من معنى غاية النفي إلى زمن التكلم، أي لا أضمن ما بعد ذلك، وقد ذاقوا عذاب السيف يوم بدر بعد نزول هذه الآية بأربع سنين‏.‏
وإضافة عذاب‏}‏ إلى ياء المتكلم لاختصاصه بالله لأنه مُقدِّره وقاض به عليهم ولوقوعه على حالة غير جارية على المعتاد إذ الشأن أن يستأصل الجيش القوي الجيشَ القليل‏.‏ وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً للفاصلة، وأبقيت الكسرة دليلاً عليها وهو حذف كثير في الفواصل والشعر على نحو حذفها من المنادَى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ منقطعة وهي للإِضراب أيضاً وهو إضراب انتقالي فإن ‏{‏أم‏}‏ مشعرة باستفهام بعدها هو للإِنكار والتوبيخ إنكاراً لقولهم‏:‏ ‏{‏أءُنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ أي ليست خزائن فضل الله تعالى عندهم فيتصدّوا لحرمان من يشاءون حرمانه من مواهب الخير فإن المواهب من الله يصيب بها من يشاء فهو يختار للنبوءة من يصطفيه وليس الاختيار لهم فيجعلوا من لم يقدموه عليهم في دينهم غير أهل لأن يَختاره الله‏.‏
وتقديم الظرف للاهتمام لأنه مناط الإِنكار وهوَ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهم يقسمون رحمة ربك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏‏.‏
والخزائن‏:‏ جمع خزانة بكسر الخاء‏.‏ وهي البيت الذي يخزن فيه المال أو الطعام، ويطلق أيضاً على صندوق من خشب أو حديد يخزن فيه المال‏.‏
والخزن‏:‏ الحِفْظ والحِرْز‏.‏ والرحمة‏:‏ ما به رفق بالغير وإحسان إليه، شبهت رحمة الله بالشيء النفيس المخزون الذي تطمح إليه النفوس في أنه لا يُعطَى إلا بمشيئة خازنه على طريقة الاستعارة المكنية‏.‏ وإثبات الخزائن‏:‏ تخييل مثل إثبات الأظفار للمنية، والإِضافة على معنى لام الاختصاص‏.‏ والعدول عن اسم الجلالة إلى وصف لأن له مزيد مناسبة للغرض الذي الكلام فيه إيماء إلى أن تشريفه إياه بالنبوءة من آثار صفة ربوبيته له لأن وصف الربّ مؤذن بالعناية والإِبلاغ إلى الكمال‏.‏ وأجري على الرب صفة ‏{‏العَزِيزِ‏}‏ لإِبطال تدخلهم في تصرفاته، وصفة ‏{‏الوَهَّابِ‏}‏ لإِبطال جعلهم الحرمان من الخير تابعاً لرغباتهم دون موادة الله تعالى‏.‏
و ‏{‏العزيز‏}‏‏:‏ الذي لا يغلبه شيء، و‏{‏الوهاب‏}‏‏:‏ الكثير المواهب فإن النبوءة رحمة عظيمة فلا يخول إعطاؤها إلا لشديد العزة وافر الموهبة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ‏(‏10‏)‏‏}‏
إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مزاعمهم ويشمل بإجماله جميع النقوض التفصيلية لمزاعمهم بكلمة جامعة كالحوصلة فيشبه التذييل لما يتضمنه من عموم المُلك وعموم الأماكن المقتضي عموم العلم وعمومَ التصرف ينعَى عليهم قولهم في المغيبات بلا علم وتحكمهم في مراتب الموجودات بدون قدرة ولا غنى‏.‏
والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة تهكمي وليس إنكارياً لأن تفريع أمر التعجيز عليه يعيّن أنه تهكمي‏.‏ فالمعنى‏:‏ إن كان لهم مُلك السماوات والأرض وما بينهما فكان لهم شيء من ذلك فليصعدوا إن استطاعوا في أسباب السماوات ليَخبُروا حقائق الأشياء فيتكلموا عن علم في كنه الإله وصفاته وفي إمكان البعث وعدمه وفي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضده وليفتحوا خزائن الرحمة فيفيضوا منها على من يعجبهم ويحرموا من لا يرْمقونه بعين استحسان‏.‏
والأمر في ‏{‏فليرتقوا‏}‏ للتعجيز مثل قوله‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏
والتعريف في ‏{‏الأسْبابِ‏}‏ لعهد الجنس لأن المعروف أن لكل محل مرتفع أسباباً يُصعد بها إليه كقول زهير‏:‏
ومن هاب أسباب المنايَا ينلْنه *** وإن يرق أسباب السماء بسلّم
وقول الأعشى‏:‏
فلو كنتَ في حِبّ ثمانين قامة *** ورُقيتَ أسباب السماء بسُلّم
والسبب‏:‏ الحبل الذي يَتعلق به الصاعد إلى النخلة للجذاذ، فإن جعل من حبلين ووصل بين الحبلين بحبال معترضة مشدودة أو بأعواد بين الحبلين مضفورٍ عليها جنبتَا الحبلين فهو السُلَّم‏.‏ وحرف الظرفية استعارة تبعية للتمكن من الأسباب حتى كأنها ظروف محيطة بالمرتقين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون استئنافاً يتصل بقوله‏:‏ ‏{‏كمْ أهلكنا من قبلهم من قَرنٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 3‏]‏ الآية أريد به وصل الكلام السابق فإنه تقدم قوله‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏ وتلاه قوله‏:‏ ‏{‏كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ الآية‏.‏ فلما تقضى الكلام على تفصيل ما للذين كفروا من عزة وشقاق وما لذلك من الآثار ثُني العِنان إلى تفصيل مَا أَهلَك من القرون أمثالهم من قبلهم في الكفر ليفضي به إلى قوله‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 12‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فحَقَّ عِقَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 14‏]‏‏.‏
فتكون جملة ‏{‏كذبت قبلهم قومُ نوح‏}‏ بدلاً من جملة ‏{‏جندٌ ما هنالِكَ مهزومٌ من الأحزابِ‏}‏ بدلَ بعض من كلّ‏.‏ ويجوز أن يَكون استئنافاً ابتدائياً مستقلاً خارجاً مخرج البشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء جند من الأحزاب مهزوم، أي مقدّر انهزامه في القريب، وهذه البشارة معجزة من الإِخبار بالغيب ختم بها وصف أحوالهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر‏.‏ وقال الفخر‏:‏ إشارة إلى فتح مكة‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ إشارة إلى نصر يوم الخندق‏.‏
وعادة الأخبار الجارية مجرى البشارة أو النذارة بأمر مغيب أن تكون مرموزة، والرمز في هذه البشارة هو اسم الإِشارة من قوله‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ فإنه ليس في الكلام ما يصلح لأن يشار إليه بدون تأوُّل فلْنجعله إشارة إلى مكان أَطْلَع الله عليه نبيئه صلى الله عليه وسلم وهو مكان بدر‏.‏ ويجوز أن يكون لفظ ‏{‏الأحزابِ‏}‏ في هذه الآية إشارة خفية إلى انهزام الأحزاب أيام الخندق فإنها عرفت بغزوة الأحزاب‏.‏ وسمّاهم الله ‏{‏الأحزابِ‏}‏ في السورة التي نزلت فيهم، فتكون تلك التسمية إلهاماً كما ألهم الله المسلمين فسمَّوا حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم حجَّة الوَداع وهو يومئذٍ بينهم سليم المزاج، وهذا في عداد المعجزات الخفية التي جمعنا طائفة منها في كتاب خاص‏.‏ ولعل اختيار اسم الإشارة البعيد رمزٌ إلى أن هذا الانهزام سيكون في مكان بعيد غير مكة فلا تكون الآية مشيرة إلى فتح مكة لأن ذلك الفتح لم يقع فيه عذاب للمكذبين بل عفا الله عنهم وكانوا الطلقاء‏.‏
وهذه الإِشارة قد علمها النبي صلى الله عليه وسلم وهي من الأسرار التي بينه وبين ربه حتى كان المستقبل تأويلَها كما علم يعقوب سرَّ رؤيا ابنه يوسف، فقال له‏:‏ ‏{‏لا تقصص رؤياك على إخوتك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ولم يعلَم يوسف تأويلها إلا يوم قال‏:‏ ‏{‏يا أبتتِ هذا تأويل رؤياي من قبلُ قد جعلها ربي حقّاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ يشير إلى سجود أبويه له‏.‏
وأما ظاهر الآية الذي تلقاه الناس يوم نزولها فهو أن الجند هم كفار أهل مكة وأن التنوين فيه للنوعية، أي ما هم إلا جند من الجنود الذين كذبوا فأُهلكوا، وأن الإِشارة ب ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ إلى مكان اعتباري وهو ما هم فيه من الرفعة الدنيوية العرفية وأَن الانهزام مستعار لإِضعاف شوكتهم، وعلى التفسيرين الظاهر والمؤول لا تعدو الآية أن تكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له وبشارة بأن دينه سيظهر عليهم‏.‏
والجند‏:‏ الجماعة الكثيرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 17- 18‏]‏‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ حرف زائد يؤكد معنى مَا قبله فهي توكيد لما دلّ عليه ‏{‏جُندٌ‏}‏ بمعناه، وتنكيره للتعظيم، أي جند عظيم، لأن التنوين وإن دلّ على التعظيم فليس نصاً فصار بالتوكيد نصاً‏.‏ وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، فإن كانت الآية مشيرة إلى يوم بدر فتعظيم ‏{‏جُندٌ‏}‏ لأن رجاله عظماء قريش مثل أبي جهل وأمية بن خلف، وإن كانت مشيرة إلى يوم الأحزاب فتعظيم ‏{‏جُندٌ‏}‏ لكثرة رجاله من قبائل العرب‏.‏
ووصف ‏{‏جُندٌ‏}‏ ب ‏{‏مَهْزومٌ‏}‏ على معنى الاستقبال، أي سيهزم، واسم المفعول كاسم الفاعل مجاز في الاستقبال، والقرينةُ حاليَّة وهو من باب استعمال ما هو للحال في معنى المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه فكأنه من القرب بحيث هو كالواقع في الحال‏.‏
و ‏{‏الأحزاب‏}‏‏:‏ الذين على رأي واحد يتحزَّب بعضهم لبعض، وتقدم في سورة الأحزاب‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ للتبعيض‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الجند من جملة الأمم وهو تعريض لهم بالوعيد بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30- 31‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏
‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
لما كان قوله‏:‏ ‏{‏جندٌ ما هُنالكَ مهزومٌ من الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ووَعْداً له بالنصر وتعريضاً بوعيد مكذِّبيه بأنهم صائرون إلى ما صارت إليه الأحزاب الذين هؤلاء منهم كما تقدم آنفاً جيء بما هو كالبيان لهذا التعريض‏.‏ والدليللِ على المصير المقصود على طريقة قياس المساواة وقد تقدم آنفاً أن هذه الجملة‏:‏ إمّا بدل من جملة ‏{‏جُندٌ ما هُنَالِكَ‏}‏ الخ، وإمّا استئناف ولذلك فصلت عن التي قبلها‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏كذَّبَتْ‏}‏ لأنه سيرد ما يُبيّنه في قوله‏:‏ ‏{‏إن كلٌّ إلاَّ كذَّبَ الرُّسُلَ‏}‏ كما سيأتي‏.‏ وخصّ فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل فكذب موسى فأمر الله موسى بمجادلة فرعون لإِبطال كفره فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون، ثم كان فرعون عقب ذلك مضمراً أذى موسى ومعلناً بتكذيبه‏.‏
ووُصف فرعون بأنه ب ‏{‏ذُو الأوْتَادِ‏}‏ لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله‏.‏ وأصل ‏{‏الأوتاد‏}‏ أنه‏:‏ جمع وتد بكسر التاء‏:‏ عود غليظ له رأس مفلطح يدقّ في الأرض ليشد به الطُّنُب، وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقّة البيت والخَيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت قال الأفوه الأوديّ‏:‏
والبيتُ لا يبتنَى إلا على عَمَد *** ولا عِماد إذا لم تُرْسَ أوتاد
و‏{‏الأوْتَادِ‏}‏ في الآية مستعار لثبات الملك والعز، كما قال الأسود بن يعفر‏:‏
ولقد غَنُوا فيها بأنعم عيشة *** في ظلّ ملك ثَابت الأوتاد
وقيل‏:‏ ‏{‏الأوتاد‏}‏‏:‏ البناءات الشاهقة‏.‏ وهو عن ابن عباس والضحّاك، سميت الأبنية أوتاداً لرسوخ أسسها في الأرض‏.‏ وهذا القول هو الذي يتأيّد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعنيّ في هذه الآية هو ‏(‏منفتاح الثاني‏)‏ الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في زمنه وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأُسَر التي تداولت ملك مصر، وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر وكانت مدة حكمهم مائة وأربعاً وسبعين سنة من سنة ‏(‏1462‏)‏ قبل المسيح إلى سنة ‏(‏1288‏)‏ ق‏.‏ م‏.‏
وقال الأستاذ محمد عبده في «تفسيره» للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر‏:‏ وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي مَنظر الوتد الضخم المغروز في الأرض ا‏.‏ ه‏.‏ وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون موسى منفتاح الثاني فكان منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها وليس يفيد قوله‏:‏ ‏{‏ذُو الأوْتَادِ‏}‏ أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام‏.‏ وذلك كما يقال‏:‏ ذو النيل، وقال تعالى حكاية عنه‏:‏
‏{‏وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏
وأما ‏{‏ثمود وقوم لوط‏}‏ فتقدم الكلام عليهم غير مَرة‏.‏ و‏{‏أصحاب لَيكة‏}‏‏:‏ هم أهل مدين، وقد تقدم خبرهم وتحقيق أنهم من قوم شعيب وأنهم مختلطون مع مدين في سورة الشعراء‏.‏
وتقديم ذكر فرعون على ثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة مع أن قصته حدثت بعد قصصهم لأن حالهُ مع موسى أشبه بحال زعماء أهل الشرك بمكة من أحوال الأمم الأخرى فإنه قاوم موس بجيش كما قاوم المشركون المسلمين بجيوش‏.‏
وجملة ‏{‏أولئك الأحزابُ‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏كذبت قبلهم‏}‏ وجملة ‏{‏إن كلٌّ إلاَّ كذَّبَ الرُّسلَ‏}‏‏.‏ واسم الإِشارة مستعمل في التعظيم، أي تعظيم القوة‏.‏
والتعريف في ‏{‏الأحزاب‏}‏ استغراق ادعائي وهو المسمى بالدلالة على معنى الكمال مثل‏:‏ هُمُ القوم وأنت الرجلُ‏.‏ والحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند إليه حصر ادعائي، قُصرت صفة الأحزاب على المشار إليهم ب ‏{‏أولئك‏}‏ بادعاء الأمم وأن غيرهم لمّا يبلغوا مبلغ أن يُعَدُّوا مِن الأحزاب فظاهر القَصر ولام الكمال لتأكيد معنى الكمال كقول الأشهب بن رُميلة‏:‏
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القومُ كلُّ القوم يا أم خالد
والمعنى‏:‏ أولئك المذكورون هم الأمم لا تُضاهيهم أمم في القوة والشدة‏.‏ وهذا تعريض بتخويف مشركي العرب من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض فأخذهم اللَّه بذنوبهم وما كان لهم من اللَّه من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم اللَّه إنه قويٌّ شديد العقاب‏}‏ في سورة ‏[‏غافر‏:‏ 21- 22‏]‏‏.‏
وجملة إن كلٌّ إلا كذَّبَ الرسل‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏كذَّبتْ قبلهم قوم نوح‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأصحابُ لَيْكَةِ‏}‏، أخبر أوَّلاً عنهم بأنهم كذبوا وأُكد ذلك بالإِخبار عنهم بأنهم ليسوا إلاّ مُكذبين على وجه الحصر كأنهم لا صفة لهم إلا تكذيب الرسل لتوغلهم فيها وكونها هِجِّيراهم‏.‏ و‏{‏إنْ‏}‏ نافية، وتنوين ‏{‏كل‏}‏ تنوين عوض، والتقدير‏:‏ إنْ كُلُّهم‏.‏
وجيء بالمسند فعلاً في قوله‏:‏ ‏{‏كذَّبَ الرُّسُلَ‏}‏ ليفيد تقديمُ المسند إليه عليه تخصيصَ المسند إليه بالمسند الفعلي فحصل بهذا النظم تأكيد الحصر‏.‏
وتعدية ‏{‏كذَّبَ‏}‏ إلى ‏{‏الرُّسُلَ‏}‏ بصيغة الجمع مع أن كل أمة إنما كذبت رسولها، مقصود منه تفظيع التكذيب لأن الأمة إنما كذّبت رسولها مستندة لحجة سفسطائية هي استحالة أن يكون واحد من البشر رسولاً من الله فهذه السفسطة تقتضي أنهم يكذبون جميع الرسل‏.‏ وقد حصل تسجيل التكذيب عليهم بفنون من تقوية ذلك التسجيل وهي إبهام مفعول ‏{‏كَذَّبَتْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كذَّبتْ قبلهم‏}‏ ثم تفصيله بقوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كذَّبَ الرُّسُلَ‏}‏ وما في قوله‏:‏ ‏{‏إن كلٌّ إلاَّ كذَّبَ الرُّسُلَ‏}‏ من الحصر، وما في تأكيده بالمسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كذَّبَ‏}‏، وما في جعل المكذَّب به جميعَ الرسل، فأنتج ذلك التسجيلُ استحقاقهم عذاب الله في قوله‏:‏ ‏{‏فَحَقَّ عِقَابِ‏}‏، أي عقابي، فحذفت ياء المتكلم للرعاية على الفاصلة وأبقيت الكسرة في حالة الوصل‏.‏
وحق‏:‏ تحقق، أي كان حقّاً، لأنه اقتضاه عظيم جُرمهم‏.‏ والعقاب‏:‏ هو ما حلّ بكل أُمة منهم من العذاب وهو الغرق والتمزيق بالريح، والغرقُ أيضاً، والصيحة، والخسف، وعذاب يوم الظِّلة‏.‏
وفي هذا تعريض بالتهديد لمشركي قريش بعذاببٍ مثل عذاب أولئك لاتحادهم في موجِبِه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏
لما أشعر قوله‏:‏ ‏{‏فحَقَّ عِقَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 14‏]‏ بتهديد مشركي قريش بعذاب ينتظرهم جَرْياً على سنة الله في جزاء المكذبين رسلَه، عطف على جملة الإِخبار عن حلول العذاب بالأحزاب السابقين جملةُ تَوعد بعذاب الذين ماثلوهم في التكذيب‏.‏
و ‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى كفار قريش لأن تجدد دعوتهم ووعيدهم وتكذيبهم يوماً فيوماً جعلهم كالحاضرين فكانت الإِشارة مفهوماً منها أنها إليهم، وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل ‏{‏هؤلاء‏}‏ ولم يكن معه مشار إليه مذكور‏:‏ أنه يريد به المشركين من أهل مكة كما نبهتُ عليه فيما مضى غير مرة‏.‏
و ‏{‏يَنظُرُ‏}‏ مشتق من النظر بمعنى الانتظار قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، أي ما ينتظر المشركون إلا صيحة واحدة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 102‏]‏‏.‏
والمتبادر من الآية أنها تهديد لهم بصيحة صاعقة ونحوها كصيحة ثمود أو صيحة النفخ في الصور التي يقع عندها البعث للجزاء، ولكن ما سبق ذكره آنفاً من أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جُندٌ ما هُنالكَ مهزومٌ منَ الأحزابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ إيماءٌ إلى بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن معانديه سيهزمون ويَعمل فيهم السيف يوم بدر، يقتضي أن الصيحة صيحة القتال وهي أن يصيح النذير‏:‏ يَا صباحاه كما صَاح الصارخ بمكة حين تعرَّض المسلمون لعير قريش ببدر‏.‏ ووصفها ب ‏{‏واحِدَةً‏}‏ إشارة إلى أن الصاعقة عظيمة مهلكة، أو أن النفخة واحدة وهي نفخة الصعق، وفي خفيّ المعنى إيماء إلى أن القوم يبتدرون إلى السلاح ويخرجون مسرعين لإِنقاذ غيرهم فكانت الوقعة العظيمة وقعة يوم بدر أو صيحة المبارزين للقتال يومئذٍ‏.‏
وأسند الانتظار إليهم في حين أنهم غافلون عن ذلك ومكذبون بظاهره إسناد مجازي على طريقة المجاز العقلي فإنهم يَنتظر بهم ذلك المسلمون الموعودون بالنصر، أو ينتظِر بهم الملائكة الموكّلون بحشرهم عند النفخة، فلما كانوا متعلَّق الانتظار أسند فعل ‏{‏يَنظُرُ‏}‏ إليهم لملابسة المفعولية على نحو ‏{‏في عيشةٍ راضية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏‏.‏
والفواق، بفتح الفاء وضمها‏:‏ اسم لما بين حلبتي حالب الناقة ورضعتي فَصيلها، فإن الحالب يحلب الناقة ثم يتركها ساعة ليرضعها فصيلها ليَدر اللبن في الضرع ثم يعودون فيحلبونها، فالمدة التي بين الحلبتين تسمى فَواقاً‏.‏ وهي ساعة قليلة وهم قبل ابتداء الحلب يتركون الفصيل يرضعها لتدرّ باللبن‏.‏ وجمهور أهل اللغة على أن الفتح والضم فيه سواء، وذهب أبو عبيدة والفراء إلى أن بين المفتوح والمضموم فَرقاً فقالا‏:‏ المفتوح بمعنى الراحة مثل الجَواب من الإِجابة، والمضمومُ اسم للمدة‏.‏ واللبن المجتمع في تلك الحصة يسمى‏:‏ الفِيقَة بكسر الفاء، وجمعُها أفاويق‏.‏
ومعنى ‏{‏ما لَها من فَواقٍ‏}‏ ليس بعدها إمهال بقدر الفواق، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصِّمون فلا يستطيعون توصية‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 49- 50‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فَوَاقٍ‏}‏ بفتح الفاء‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بضم الفاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏‏}‏
حكاية حالة استخفافهم بالبعث والجزاء وتكذيبهم ذلك، وتكذيبهم بوعيد القرآن إياهم فلمّا هدّدهم القرآن بعذاب الله قالوا‏:‏ ربّنا عجل لنا نصيبنا من العذاب في الدنيا قبل يوم الحساب إظهاراً لعدم اكتراثهم بالوعيد وتكذيبه، لئلا يظن المسلمون أن استخفافهم بالوعيد لأنهم لا يؤمنون بالبعث فأبانوا لهم أنهم لا يصدّقون النبي صلى الله عليه وسلم في كل وعيد حتى الوعيد بعذاب الدنيا الذي يعتقدون أنه في تصرف الله‏.‏ فالقول هذا قالوه على وجه الاستهزاء وحكي عنهم هنا إظهاراً لرقاعتهم وتصلبهم في الكفر‏.‏
وهذا الأصل الثالث من أصول كفرهم المتقدم ذكرها وهو إنكار البعث والجزاء فهو عطف على ‏{‏وقال الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ فذكر قولهم‏:‏ ‏{‏أجعل الآلِهَةَ إلها واحِداً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏، ثم ذكر قولهم‏:‏ ‏{‏أءُنزِلَ عليهِ الذِكرُ مِن بينِنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ وما عقبه من عواقب مثل ذلك القول، أفضى القول إلى أصلهم الثالث‏.‏ قيل‏:‏ قائل ذلك النضر بن الحارث، وقيل‏:‏ أبو جهل والقوم حاضرون راضون فأسند القول إلى الجميع‏.‏
والقط‏:‏ هو القسط من الشيء، ويطلق على قِطعة من الوَرق أو الرقّ أو الثوب التي يكتب فيها العَطاء لأحد ولذلك يفسر بالصكّ، وقد قال المتلمس في صحيفة عمرو بن هند التي أعطاه إياها إلى عامله بالبحرين يوهمه أنه أمر بالعطاء وإنما هي أمر بقتله وعرف المتلمس ما تحتوي عليه فألقاها في النهر وقال في صحيفته المضروب بها المثل‏:‏
وألقيتُها بالثني من جنب كافر *** كذلك يلقى كل قِطَ مضلِّل
فالقط يطلق على ما يكتب فيه عطاء أو عقاب، والأكثر أنه ورقة العطاء، قال الأعشى‏:‏
ولا الملك النعمان يوماً لقيتُه *** بأُمته يعطي القُطوط ويَأْفق
ولهذا قال الحسن‏:‏ إنما عَنوا عجّل لنا النعيم الذي وعدتَنا به على الإِيمان حتى نراه الآن فنُوقِن‏.‏
وعلى تسليم اختصاص القطّ بصكّ العطاء لا يكون ذلك مانعاً من قصدهم تعجيل العقاب بأن يكونوا سموا الحظ من العقاب قِطًّا على طريق التهكم، كما قال عمرو بن كلثوم إذ جعل القتال قِرى‏:‏
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قُبيل الصبح مِرْدَاة طحونا
فيكونون قد أدمجوا تهكماً في تهكم إغراقاً في التهكم‏.‏
وتسميتهم ‏{‏يَوممِ الحسابِ‏}‏ أيضاً من التهكم لأنهم لا يؤمنون بالحساب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏
‏{‏اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏
أعقب حكاية أقوالهم من التكذيب ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ الكافرون هذا ساحِرٌ كذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ إلى هنا، بأمرِ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم إذ كان جميعها أذى‏:‏ إما صريحاً كما قالوا‏:‏ ‏{‏ساحر كذَّاب‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا اختلاقٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏إن هذا لشيء يُرادُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏، وإمّا ضِمناً وذلك ما في سائر أقوالهم من إنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بقولهم‏:‏ ‏{‏ربَّنَا عَجِل لنا قِطَّنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ من إثبات أن الإله واحد، ويشمل ما يقولونه مما لم يحك في أول هذه السورة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داوودَ‏}‏ إلى آخره يجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏ بأن أُتبع أمره بالصبر وبالائتساء ببعض الأنبياء السابقين فيما لَقُوه من الناس ثم كانت لهم عاقبة النصر وكشف الكرب‏.‏ ويجوز أن يكون عطفاً على مجموع ما تقدّم عطْفَ القصة على القصة والغرض هو هو‏.‏ وابتدئ بذكر داود لأن الله أعطاه مُلْكاً وسلطاناً لم يكن لآبائه ففي ذكره إيماء إلى أن شأن محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى العزة والسلطان، ولم يكن له سلف ولا جند فقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بحال داود عليه السلام‏.‏
وأدمج في خلال ذلك الإِيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى واتقاءِ مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة إبعاداً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلَل وتأديباً له في أول أمره وآخره مما أن يتلقى بالعَذَل‏.‏ وكان داود أيضاً قد صبر على ما لقِيَه من حسد شاول ‏(‏طالوت‏)‏ ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين‏.‏
فالمصدر المتصرِّف منه ‏{‏واذكر عبدنا داوود‏}‏ هو الذكر بضم الذال وهو التذكرُّ وليس هو ذِكر اللسان لأنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لتسليته وحفظ كماله لا لِيُعْلمه المشركين ولا لِيُعْلِمه المسلمين على أن كِلا الأمرين حاصل تبعاً حين إبلاغ المنزَّل في شأن داود إليهم وقراءته عليهم‏.‏ ومعنى الأمر بتذكر ذلك تذكر ما سبق إعلام النبي صلى الله عليه وسلم به من فضائله وتذكير ما عسى أن يكون لم يعلمه مما يعلم به في هذه الآية‏.‏
ووصفُ داود ب ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ وصفُ تشريف بالإِضافة بقرينة المقام كما تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏إلا عباد اللَّه المخلصين‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 40‏]‏‏.‏
و ‏{‏الأَيْد‏}‏‏:‏ القوة والشدة، مصدر‏:‏ آدَ يئيد، إذا اشتدّ وقَوي، ومنه التأييد التقوية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فآواكم وأيدكم بنصره‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏‏.‏
‏(‏وكان داود قد أعطي قوة نادرة وشجاعة وإقداماً عجيبين وكان يرمي الحجر بالمقلاع فلا يخطئ الرميَّة، وكان يلوي الحديد ليصنعه سرداً للدروع بأصابعه، وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّه أوَّابٌ‏}‏ تعليل للأمر بذكره إيماء إلى أن الأمر لقصد الاقتداء به، كما قال تعالى‏:‏
‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏، فالجملة معترضة بين جملة ‏{‏واذكُرْ‏}‏ وجملةِ بيانها وهي ‏{‏إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ معه‏.‏
والأوّاب‏:‏ الكثير الأوْب، أي الرجوع‏.‏ والمراد‏:‏ الرجوع إلى ما أمر الله به والوقوف عند حدوده وتدارك ما فرط فيه‏.‏ والتائب يطلق عليه الأوّاب، وهو غالب استعمال القرآن وهو مجاز ولا تسمّى التوبة أوباً، وزبور‏}‏ داود المسمى عند اليهود ب«المزامير» مشتمل على كثير من الاستغفار وما في معناه من التوبة‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا سخرنا الجبال معه‏}‏ بيان لجملة ‏{‏واذكر عبدنا‏}‏ أي اذكر فضائله وما أنعمنا عليه من تسخير الجبال وكيْت وكَيْتَ، و‏{‏معهُ‏}‏ ظرف ل ‏{‏يُسَبِحْنَ‏}‏، وقدم على متعلقه للاهتمام بمعيته المذكورة، وليس ظرفاً ل ‏{‏سَخَّرْنَا‏}‏ لاقتضائه، وتَقدم تسخير الجبال والطيرِ لداود في سورة الأنبياء‏.‏
وجملة ‏{‏يُسَبِحْنَ‏}‏ حال‏.‏ واختير الفعل المضارع دون الوصف الذي هو الشأن في الحال لأنه أريد الدلالة على تجدد تسبيح الجبال معه كلما حضر فيها، ولِمَا في المضارع من استحضار تلك الحالة الخارقة للعادة‏.‏ والتسبيح أصله قول‏:‏ سبحان الله، ثم أطلق على الذكر وعلى الصلاة، ومنه حديث عائشة‏:‏ «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الصبح وإني لأُسبحها»، وليس هذا المعنى مراداً هنا لأن الجبال لا تصلي والطير كذلك ولأن داود لا يصلي في الجبال إذ الصلاة في شريعتهم لا تقع إلا في المسجد وأما الصلاة في الأرض فهي من خصائص الإِسلام‏.‏
والعشي‏:‏ ما بعد العصر‏.‏ يقال‏:‏ عَشِيّ وعَشِيَّة‏.‏ و‏{‏الإِشراق‏}‏‏:‏ وقت ظهور ضوء الشمس واضحاً على الأرض وهو وقت الضحى، يقال‏:‏ أشرقت الأرض ولا يقال‏:‏ أشرقت الشمس، وإنما يقال‏:‏ شَرَقَت الشمس وهو من باب قَعَد، ولذلك كان قياس المكان منه المَشرَق بفتح الراء ولكنه لم يجئ إلاّ بكسر الراء‏.‏ ووقت طلوع الشمس هو الشروق ووقت الإِشراق الضحى، يقال‏:‏ شَرقت الشمس ولمَّا تُشْرِق، ويقال‏:‏ كُلَّما ذَرَّ شَارق، أي كلما طلعت الشمس‏.‏ والباء في ‏{‏بالعَشِي‏}‏ للظرفية فتعين أن المراد بالإِشراق وقت الإِشراق‏.‏
والمحشورة‏:‏ المجتمعة حوله عند قراءته الزبور‏.‏ وانتصب ‏{‏مَحْشُورَةً‏}‏ على الحال من ‏{‏الطير‏.‏ ولم يؤت في صفة الطير بالحشر بالمضارع كما جيء به في يُسبِحْنَ‏}‏ إذ الحشر يكون دفعة فلا يقتضي المقام دلالة على تجدد ولا على استحضار الصورة‏.‏
وتنوين ‏{‏كُلٌّ له أوَّابٌ‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ كل المحشورة له أواب، أي كثير الرجوع إليه، أي يأتيه من مكان بعيد‏.‏ وهذه معجزة له لأن شأن الطير النفور من الإِنس‏.‏ وكلمة ‏{‏كل‏}‏ على أصل معناها من الشمول‏.‏ و‏{‏أوَّابٌ‏}‏ هذا غير ‏{‏أوَّابٌ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنه أوّاب‏}‏ فلم تتكرر الفاصلة‏.‏ واللام في ‏{‏لَهُ أوَّابٌ‏}‏ لام التقوية، وتقديم المجرور على متعلقه للاهتمام بالضمير المجرور‏.‏
والشد‏:‏ الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه، فيكون لقصد النفع كما هنا، ويكون لقصد الضرّ كقوله‏:‏ ‏{‏واشدد على قلوبهم في سورة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏.‏
فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه‏.‏
وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت‏.‏
و ‏{‏الحكمة‏}‏‏:‏ النبوءة‏.‏ والحكمة في الأعم‏:‏ العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي، وقد اشتمل كتاب «الزبور» على حِكَم جمَّة‏.‏
و ‏{‏فصل الخطاب‏}‏‏:‏ بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان، ووصف القول ب ‏(‏الفصل‏)‏ وصف بالمصدر، أي فاصل‏.‏ والفاصل‏:‏ الفارق بين شيئين، وهو ضدّ الواصل، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده‏.‏ وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل كان ميقاتاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء، وحسبك بكتابه «الزبور» المسمّى عند اليهود ب«المزامير» فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم‏.‏
وعن أبي الأسود الدؤلي‏:‏ ‏{‏فصل الخطاب‏}‏ هو قولُه في خطبه «أما بعد» قال‏:‏ وداود أول من قال ذلك، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود‏.‏ فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر، والإِضافة حقيقية‏.‏ وأول من قال‏:‏ «أما بعد» هو سحبان وائل خطيب العرب، وقيل‏:‏ ‏{‏فصل الخطاب‏}‏ القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب‏.‏
واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً، وهو القائل‏:‏ «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة‏.‏ وشدّ الله مُلك الإِسلام له، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل، وآتاه الحكمة، وآتاه فصل الخطاب قال‏:‏ «أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً» بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته، قال تعالى في وصف القرآن‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل وما هو بالهزل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13- 14‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏
‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏وهل أتاكَ نَبأ الخصمالخطاب * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الخطاب * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى‏}‏ إلى آخرها معطوفة على جملة ‏{‏إنَّا سخرنا الجبال معه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18‏]‏‏.‏ والإِنشاء هنا في معنى الخبر، فإن هذه الجملة قصت شأناً من شأن داود مَع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها‏.‏
والاستفهام مستعمل في التعجيب أو في البحث على العلم فإن كانت القصة معلومة للنبيء صلى الله عليه وسلم كان الاستفهام مستعملاً في التعجيب وإن كان هذا أول عهده بعلمها كان الاستفهام للحث مثل ‏{‏هل أتاكَ حديثُ الغاشِيَةِ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والخطاب يجوز أن يكون لكل سامع والوجهان الأولان قائمان‏.‏ والنبأ‏:‏ الخبر‏.‏
والتعريف في ‏{‏الخَصْمِ‏}‏ للعهد الذهني، أي عهد فرد غير معيّن من جنسه أي نبأ خصم معيّن هذا خبره، وهذا مثل التعريف في‏:‏ ادخل السوق‏.‏ والخصام والاختصام‏:‏ المجادلة والتداعي، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏
و ‏{‏الخصم‏}‏‏:‏ اسم يطلق على الواحد وأكثر، وأريد به هنا خصمان لقوله بعده ‏{‏خَصْمَانِ‏}‏‏.‏ وتسميتهما بالخصم مجاز بعلاقة الصورة وهي من علاقة المشابهة في الذات لا في صفة من صفات الذات، وعادة علماء البيان أن يمثلوها بقول القائل إذَا رأى صورة أسد‏:‏ هذا أَسد‏.‏
وضمير الجمع مراد به المثنى، والمعنى‏:‏ إذ تسورا المحراب، والعرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة لأن في صيغة التثنية ثقلاً لنْدرة استعمالها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ أي قلباكما‏.‏
و ‏{‏إذْ تَسَوَّرُوا‏}‏ إذا جعلت ‏{‏إذ‏}‏ ظرفاً للزمن الماضي فهو متعلق بمحذوف دل عليه ‏{‏الخَصم‏}‏، والتقدير‏:‏ تحاكم الخصم حين تَسوروا المحراب لداود‏.‏
ولا يستقيم تعلقه بفعل ‏{‏أتاكَ‏}‏ ولا ب ‏{‏نَبَأ‏}‏ لأن النبأ الموقت بزمننِ تسوّر الخصم محراب داود لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم
ولك أن تجعل ‏{‏إذ‏}‏ اسماً للزمن الماضي مجرداً عن الظرفية وتجعله بدل اشتمال من ‏{‏الخصم‏}‏ لما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 16‏]‏، فالخصم مشتمل على زمن تسورهم المحراب، وخروج ‏{‏إذ‏}‏ عن الظرفية لا يختص بوقوعها مفعولاً به بل المراد أنه يتصرف فيكون ظرفاً وغير ظرف‏.‏
والتسور‏:‏ تفعل مشتق من السور، وهو الجدار المحيط بمكان أو بلدٍ يقال‏:‏ تَسوّر، إذا اعتلى على السور، ونظيره قولهم‏:‏ تسنم جملَهُ، إذا علا سَنامه، وتَذَرأه إذا علا ذروته، وقريب منه في الاشتقاق قولهم‏:‏ صَاهى، إذا ركب صهوة فرسه‏.‏
والمعنى‏:‏ أن بيت عبادة داود عليه السلام كان محوطاً بسُور لئلا يدخله أحد إلا بإذن من حارس السور‏.‏
و ‏{‏المحراب‏}‏‏:‏ البيت المتّخذ للعبادة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعملون له ما يشاء من محاريب‏}‏ في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏
و ‏{‏إذْ دَخلُوا‏}‏ بدل من ‏{‏إذْ تَسَوَّرُوا‏}‏ لأنهم تسوروا المحراب للدخول على داود‏.‏
والفزع‏:‏ الذُّعر، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ قال ابن العربي في كتاب «أحكام القرآن»‏:‏ إن قيل‏:‏ لِم فَزع داود وقد قويت نفسه بالنبوءة‏؟‏ وأجاب بأن الله لم يضمن له العصمة ولا الأمن من القتل وكان يخاف منهما وقد قال الله لموسى ‏{‏لا تَخَف‏}‏ وقبلَه قيل للوط‏.‏ فهم مُؤمَّنون من خوف ما لم يكن قيل لهم إنكم منه معصومون اه‏.‏
وحاصل جوابه‏:‏ أن ذلك قد عرض للأنبياء إذ لم يكونوا معصومين من إصابة الضرّ حتى يؤمّن الله أحدَهم فيطمئن والله لم يؤمن داود فلذلك فزع‏.‏ وهو جواب غير تام الإِقناع لأن السؤال تضمن قول السائل وقد قويت نفسه بالنبوءة فجعل السائل انتفاءَ تطرّق الخوف إلى نفوس الأنبياء أصلاً بنى عليه سؤاله، وهو أجاب بانتفاء التأمين فلم يطابق سؤال السائل‏.‏ وكان الوجه أن ينفي في الجواب سلامة الأنبياء من تطرق الخوف إليهم‏.‏ والأحسن أن نجيب‏:‏
أولاً‏:‏ بأن الخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادِئ ذي بَدءٍ ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه، فأمَّا إذا أمَّن الله نبيئاً فذلك مقام آخر كقوله لموسى ‏{‏لا تخف‏}‏ وقوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏فسيكفيكهم اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏
وثانياً‏:‏ بأن الذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف‏.‏ والفَزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإِحساس بشيء شأنُه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعاً، أي مسرعاً مبادراً للصلاة توقّعاً أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب ‏"‏، ولذلك قال القرآن ‏{‏فَفَزِعَ منهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ خاف‏.‏ وقال في إبراهيم عليه السلام ‏{‏فأوجس منهم خِيفَة‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏ أي توجُّساً ما لم يبلغ حدّ الخوف‏.‏ وأما قول الخصم لداود ‏{‏لاَ تَخَف‏}‏ فهو قول يقوله القادِم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر‏.‏
وثالثاً‏:‏ أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سبباً في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته‏.‏ وقد جاء في حديث عائشة‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة فقال‏:‏ ليَت رجلاً صالحاً من أصحابي يَحرسنِي الليلةَ إذ سمعنا صوت السلاح فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال‏:‏ سَعد بن أبي وقاص جئتُ لأحرسك‏.‏ قالت‏:‏ فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه»‏.‏
وروى الترمذي‏:‏ أن العباس كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ فتركت الحراسة‏.‏
ومعنى ‏{‏بَغَى بعضنا‏}‏ اعتدى وظلم‏.‏ والبغي‏:‏ الظلم، والجملة صفة ل ‏{‏خَصْمَانِ‏}‏ والرابط ضمير ‏{‏بعضنا‏}‏، وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعياً لمعنى ‏{‏خصمان‏}‏‏.‏
ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإِيجاز بالإِجمال ثم يعقبه التفصيل، ولإِظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما‏:‏ ‏{‏لقد ظلمكَ بسؤاللِ نعجتك إلى نعاجه‏}‏‏.‏
والفاء في ‏{‏فاحْكم بيننا بالحق‏}‏ تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏خصمان‏}‏ لأن داود عليه السلام لمّا كان مَلِكاً وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرعاً على ذلك‏.‏
والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، وهي متعلقة ب ‏{‏احكم‏.‏‏}‏ وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبيء صلى الله عليه وسلم الذي افتدى ابنَه ممن زنى بامرأته‏:‏ فاحكم بيننا بكتاب اللَّه‏.‏
والنهي في ‏{‏لا تشطط‏}‏ مستعمل في التذكير والإِرشاد‏.‏
و ‏{‏تشطط‏}‏‏:‏ مضارع أشط، يقال‏:‏ أشط عليه، إذا جَار عليه، وهو مشتق من الشطط وهو مجاوزة الحد والقدر المتعارف‏.‏
ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي، وهو من قبيل‏:‏ اتَّق الله في أمري‏.‏ وصدوره قبل الحكم أقرب إلى معنى التذكير وأبعد عن الجفاء، فإن وقع بعد الحكم كان أقرب إلى الجفاء كالذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم في قسمة قسمها «اعْدِل، فقال له الرسول‏:‏ ويلك فمن يعدل إن لم أعدل»‏.‏
وقد قال علماؤنا في قول الخصم للقاضي‏:‏ ‏(‏اتق الله في أمري‏)‏ إنه لا يعد جفاء للقاضي ولا يجوز للقاضي أن يعاقبه عليه كما يعاقب من أساء إليه‏.‏ وأفتى مالك بسجن فتى، فقال أبوه لمالك‏:‏ اتق الله يا مالك، فوالله ما خُلقت النار باطلاً، فقال مالك‏:‏ من الباطل ما فعله ابنك‏.‏ فهذا فيه زيادة بالتعريض بقوله فوالله ما خلقت النار باطلاً‏.‏ وقولهما‏:‏ ‏{‏واهدنا إلى سواء الصراطِ‏}‏ يصرف عن إرادة الجفاء من قولهما‏:‏ ‏{‏ولا تُشْطِط‏}‏ لأنهما عرفا أنه لا يقول إلا حقاً وأنهما تطلبا منه الهُدى‏.‏
والهدى‏:‏ هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب‏.‏ و‏{‏سواء الصراط‏}‏‏:‏ مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل لأن الصراط الطريق الواسع، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شُعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالاً إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب‏.‏
ومجموع ‏{‏اهدنا إلى سواء الصراط‏}‏ تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق الموصلة فهو من التمثيل القابِل تجزئة التشبيه في أجزائه، ويؤخذ من هنا أن حكم القاضي العدل يُحمل على الجري على الحق وأن الحكم يجب أن يكون بالحق شرعاً لأنه هدي فهو والفتيا سواء في أنهما هدي إلا أن الحكم فيه إلزام‏.‏
ومعنى ‏{‏أكفِلْنِيها‏}‏ اجعلها في كفالتي، أي حفظي وهو كناية عن الإِعطاء والهبة، أي هَبْهَا لي‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّ هذا أخِي‏}‏ إلى آخرها بيان لجملة ‏{‏خصمان بغى بعضنا على بعضٍ‏}‏ وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوّة النسب‏.‏ وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات، ثم يجوز أن يكون ‏{‏أخِي‏}‏ بدلاً من اسم الإِشارة‏.‏ ويجوز أن يكون خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ وهو أولى لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه‏.‏
و ‏{‏عَزّني‏}‏ غلبني في مخاطبته، أي أظهر في الكلام عزّة عليّ وتطاولاً‏.‏ فجَعل الخطاب ظرفاً للعزّة مجازاً لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه سأله أن يعطيه نعجته، ولمّا رأى منه تمنّعاً اشتدّ عليه بالكلام وهدّده، فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك ليصدّه عن معاملة أخيه معاملة الجفاء والتطاول ليأخذ نعجته عن غير طيب نفس‏.‏ وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإِنصاف في معاملة القرابة لئلا يفضي الخلافُ بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم‏.‏
وقد عَلم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما، أو كان المدعَى عليه قد اعترف‏.‏ فحكم داود بأن سؤال الأخ أخاه نعجته ظلم لأن السائل في غنى عنها والمسؤول ليس له غيرها فرغبة السائل فيما بيد أخيه من فرط الحرص على المال واجتلاب النفع للنفس بدون اكتراث بنفع الآخر‏.‏ وهذا ليس من شأن التحابّ بين الأخوين والإِنصاف منهما فهو ظلم وما كان من الحق أن يسأله ذلك أعطاه أو منعه، ولأنه تطاول عليه في الخطاب ولامه على عدم سماح نفسه بالنعجة، وهذا ظلم أيضاً‏.‏
والإِضافة في قوله‏:‏ ‏{‏بسؤال نعجتِكَ‏}‏ للتعريف، أي هذا السؤال الخاص المتعلق بنعجة معروفة، أي هذا السؤال بحذافره مشتمل على ظلم، وإضافة سؤال من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏ وتعليق ‏{‏إلى نعاجه‏}‏ ب«سؤال» تعليق على وجه تضمين «سؤال» معنى الضم، كأنه قيل‏:‏ بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه‏.‏
فهذا جواب قولهما‏:‏ ‏{‏فاحكم بيننا بالحق ولا تُشطط‏}‏ ثم أعقبه بجواب قولهما‏:‏ ‏{‏واهدنا إلى سواءِ الصراط‏}‏ إذ قال‏:‏ ‏{‏وإنَّ كثيراً من الخُلطاءِ ليبغي بعضهم على بعضضٍ إلاَّ الذين ءَامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ‏}‏ المفيد أن بَغْي أحد المتعاشرين على عشيره متفشَ بين الناس غير الصالحين من المؤمنين، وهو كناية عن أمرهما بأن يكونا من المؤمنين الصالحين وأن ما فعله أحدهما ليس من شأن الصالحين‏.‏
وذِكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكرّه إليهما الظلم والاعتداء‏.‏ ويستفاد من المقام أنه يَأسف لحالهما، وأنه أراد تسلية المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأن له أسوة في أكثر الخلطاء‏.‏
وفي تذييل كلامه بقوله‏:‏ ‏{‏وقليلٌ ما هُم‏}‏ حثّ لهما أن يكونا من الصالحين لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرةُ الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏‏.‏ والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع، فالإِنسان محفوف بجواذب السيئات، وأمّا دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني وأعرض عن الداعي الشهواني، فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة‏.‏
وزيادة ‏{‏ما‏}‏ بَعد ‏{‏قليل‏}‏ لقصد الإِبهام كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏جند ما هنالك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏، وفي هذا الإِبهام إيذان بالتعجب من ذلك بمعونة السياق والمقام كما أفادت زيادتها في قول امرئ القيس‏:‏
وحديث الركب يوم هُنا *** وحديث مَّا على قِصره
معنى التلهف والتشوق‏.‏
وقد اختلف المفسرون في ماهية هاذين الخصمين، فقال السديّ والحسن ووهب بن مُنبّه‏:‏ كانا ملَكَيْن أرسلهما الله في صورة رجلين لداود عليه السلام لإِبلاغ هذا المثل إليه عتاباً له‏.‏ ورواه الطبري عن أنس مرفوعاً‏.‏ وقيل كانا أخوين شقيقين من بني إسرائيل، أي ألهمهما الله إيقاع هذا الوعظ‏.‏
واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به لدفع مَا قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب «صمويل الثاني» من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن له عندنا لزُلفى وحُسن مئابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وبهذا تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالمقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه من الأنبياء‏.‏
وهذا النبأ الذي تضمنته الآية يُشير به إلى قصة تزوج داود عليه السلام زوجة ‏(‏أُوريا الحثّي‏)‏ من رجال جيشه وكان داود رآها فمال إليها ورام تزوجها فسأله أن يتنازل له عنها وكان في شريعتهم مباحاً أن الرجل يتنازل عن زوجه إلى غيره لصداقة بينهما فيطلقها ويتزوجها الآخر بعد مضيّ عدتها وتحقق براءة رحمها كما كان ذلك في صدر الإِسلام‏.‏ وخرج أُوريا في غزو مدينة ‏(‏رَبة‏)‏ للعمونيّين وقيل في غزو عَمَّان قصبة البلقاء من فلسطين فقُتل في الحرب وكان اسم المرأة ‏(‏بثشبع بنت اليعام وهي أم سليمان‏)‏‏.‏ وحكى القرآن القصة اكتفاء بأن نبأ الخصمين يشعر بها لأن العبرة بما أعقبه نبأ الخصمين في نفس داود فعتب الله على داود أن استعمل لنفسه هذا المباح فعاتبه بهذا المثل المشخص، أرسل إليه ملكين نزلا من أعلى سور المحراب في صورة خصمين وقصّا عليه القصة وطلبا حكمه وهديه فحكم بينهما وهداهما بما تقدم تفسيره لتكون تلك الصورة عظة له ويشعر أنه كان الأليق بمقامه أن لا يتناول هذا الزواج وإن كان مباحاً لما فيه من إيثار نفسه بما هو لغيره ولو بوجه مباح لأن الشعور بحسن الفعل أو قبحه قد لا يحصل عليه حين يفعله فإذا رأى أو سمع أن واحداً عمله شعر بوصفه‏.‏
ووقع في سفر «صمويل الثاني» من كتب اليهود سوق هذه القصة على الخلاف هذا‏.‏
وليس في قول الخصمين‏:‏ ‏{‏هذا أخِي‏}‏ ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكابُ الكذب لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبِر بها أن يظن المخبَر ‏(‏بالفتح‏)‏ وقوعَها إلاّ ريثما يحصل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع‏.‏ وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقعة فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير وعلى نية المشابهة‏.‏
وفي هذا دليل شرعي على جواز وضع القِصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة ولا يتحمل واضعها جرحة الكذب خلافاً للذين نبزوا الحريري بالكَذب في وضع «المقامات» كما أشار هو إليه في ديباجتها‏.‏ وفيها دليل شرعي لجواز تمثيل تلك القصص بالأجسام والذوات إذا لم تخالف الشريعة، ومنه تمثيل الروايات والقصص في ديار التمثيل، فإن ما يجري في شرع من قبلنا يصلح دليلاً لنا في شرعنا إذا حكاه القرآن أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد في شرعنا ما ينسخه‏.‏
وأخذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد، قالوا‏:‏ وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى هذه الآية بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة‏.‏ وقد حكيت هذه القصة في سفر «صمويل الثاني» في الإِصحاح الحادي عشر على خلاف ما في القرآن وعلى خلاف ما تقتضيه العصمة لنبوءة داود عليه السلام فاحذروه‏.‏
والذي في القرآن هو الحق، والمنتظم مع المعتاد وهو المهيمن عليه، ولو حكي ذلك بخبر آحاد في المسلمين لوجب ردُّه والجزم بوضعه لمعارضته المقطوع به من عصمة الأنبياء من الكبائر عند جميع أهل السنة ومن الصغائر عند المحققين منهم وهو المختار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏
‏{‏قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏
أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع ‏(‏أُوريا‏)‏ وقد أشعره بذلك ما دلّه عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة، فعلم أنهما ملَكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عَتْباً له على متابعة نفسه زوجةَ ‏(‏أوريا‏)‏ وطلبه التنازل عنها‏.‏ وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة وكثيراً ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر‏.‏
و ‏{‏أنما مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَھَابٍ‏}‏ مفتوحة الهمزة أخت ‏(‏إنما‏)‏ تفيد الحصر، أي ظنّ أن الخصومة ليست إلاّ فتنة له، أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة‏.‏ ومعنى ‏{‏فتنَّاهُ‏}‏ قدّرنا له فتنة، فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل ‏(‏أوريا‏)‏ فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفةً للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره، وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم، فيكون المعنى‏:‏ وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس‏.‏ وإنما علم ذلك بعد أن أحسّ من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان‏.‏
ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار، كقوله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وفتناك فتوناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏، أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين، يصور أن له صورةً شبيهةً بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به‏.‏ وتفريع ‏{‏فاستغفر ربَّهُ‏}‏ على ذلك الظنّ ظاهر على كلا الاحتمالين، أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لِما صنع‏.‏
وخرّ خروراً‏:‏ سقط، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخر عليهم السقف من فوقهم في سورة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏
والركوع‏:‏ الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏تراهم ركعاً سجداً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، فذكر شيئين‏.‏ قالوا‏:‏ لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع، وعليه فتقييد فعل ‏{‏خرّ‏}‏ بحال ‏{‏رَاكِعاً‏}‏ تمَجَّز في فعل ‏{‏خرّ‏}‏ بعلاقة المشابهة تنبيهاً على شدة الانحناء حتى قارب الخرور‏.‏ ومن قال‏:‏ كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازاً بعلاقة الإِطلاق‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ لا خلاف في أن الركوع هاهنا السجود، قلت‏:‏ الخلافُ موجود‏.‏
والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإِسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخروا له سجداً‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وكان ركوع داود عليه السلام تضرعاً لله تعالى ليقبل استغفاره‏.‏
والإِنابة‏:‏ التوبة‏:‏ يقال‏:‏ أناب، ويقال‏:‏ نَاب‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏منيبين إليه‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وهنا موضع سجدة من سجود القرآن من العزائم عند مالك لثبوت سجود النبي صلى الله عليه وسلم عندها‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن مجاهد «سألتُ ابن عباس عن السجدة في ص فقال‏:‏ أوَ ما تقرأ ‏{‏ومن ذريته داود وسليمان‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ فكان داود ممن أُمر نبيئكم أن يقتدِيَ به فسجدها داود فسجدها رسول الله»‏.‏ وفي «سنن أبي داود» عن ابن عباس «ليس ص من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها»‏.‏ وفيه عن أبي سعيد الخُدْري قال‏:‏ «قرأ رسول الله وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس للسجود ‏(‏أي تهيّأَوا وتحركوا لأجله‏)‏ فقال رسول الله‏:‏ إنما هي توبة نبيء ولكني رأيتكم تشزَّنْتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا»، وقول أبي حنيفة فيها مثل قول مالك ولم يرَ الشافعي سجوداً في هذه الآية إمَّا لأجل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما هي توبة نبيء ‏"‏ فرجع أمرُها إلى أنها شرْعُ من قبلنا، والشافعي لا يرى شرع من قبلنا دليلاً‏.‏
ووجه السجود فيها عند من رآه أن ركوع داود هو سجود شريعتهم فلما اقتدى به النبي صلى الله عليه وسلم أتى في اقتدائه بما يساوي الركوع في شريعة الإِسلام وهو السجود‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الركوع يقوم مقام سجود التلاوة أخذاً من هذه الآية‏.‏
واسم الإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فغفرنا له ذلك‏}‏ إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين، وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثَّل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإِشارة، وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة وهو أنه من المقرّبين عند الله المرضيّ عنهم وأنه لم يوقف به عند حد الغفران لا غير‏.‏ والزلفى‏:‏ القربى، وهو مصدر أو اسم مصدر‏.‏ وتأكيد الخبر لإِزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلاً لمقام الاستغراب منزلة مقام الإِنكار‏.‏
والمئاب‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الأوْب‏.‏ وهو الرجوع‏.‏ والمراد به‏:‏ الرجوع إلى الآخرة‏.‏ وسمي رجوعاً لأنه رجوع إلى الله، أي إلى حكمة البحْت ظاهراً وباطناً قال تعالى‏:‏ ‏{‏إليه أدعو وإليه مئاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏‏.‏
وحسن المئاب‏:‏ حسن المرجع، وهو أن يرجع رجوعاً حسناً عند نفسه وفي مرأى الناس، أي له حسن رجوع عندنا وهو كرامة عند الله يوم الجزاء، أي الجنة يؤوب إليها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏
‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏‏}‏
مقول قول محذوف معطوف على ‏{‏فغفرنا له ذلك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏ أي صفَحنا عنه وذكرناه بنعمة المُلك ووعظناه، فجمع له بهذا تنويهاً بشأنه وإرشاداً للواجب‏.‏ وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وَعْيه واهتمامه بما سيقال له‏.‏
والخليفة‏:‏ الذي يخلف غيره في عمللٍ، أي يقوم مقامه فيه، فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل‏:‏ هو خليفة فُلان، وإن كان بعدما مضى المخلوف قيل‏:‏ هو خليفة مِن فلان‏.‏ والمراد هنا‏:‏ المعنى الأول بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بين الناس بالحق‏}‏‏.‏
فالمعنى‏:‏ أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها‏.‏ وخليفةٌ عن موسى عليه السلام وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقُضاة، أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول‏.‏
و ‏{‏الأرض‏}‏‏:‏ أرض مملكته المعهودة، أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل‏.‏ ويجوز أن يجعل الأرض مراداً به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ويَخاف بأسَه ملوكُ الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته، وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 14‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 62‏]‏‏.‏
وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الأرضية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفةُ الذي قبلَه، ألاَ ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرّروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ يا خليفة رسول الله، وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته، فلما ولي عمر قالوا‏:‏ يا خليفةَ خليفة رسول الله فطال ورأوْا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عُمر أميرَ المؤمنين، وقصر هذا على الخلفاء، وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوّز كما قال ابنُ قيسسِ الرقياتِ‏:‏
خليفة الله في بريته *** جَفَّت بذاك الأقلام والكتب
وفُرع على جعله خليفة أمرُه بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل، ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي تُرفع إليه مظالم الظلمة من الولاة فإذا كان عادلاً خشيهُ الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم فلا يُقر ما يجري منه في رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقتص من الظالم، وأمّا إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يُغضبه إذا رفعت إليه مظلمة شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم‏.‏
وفي «الكشاف»‏:‏ أن بعض خلفاء بني أمية قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري‏:‏ هل سمعتَ ما بلغَنا‏؟‏ قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تُكتب له معصية، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء، ثم تلا هذه الآية‏.‏ والمراد ب ‏{‏النَّاسِ‏}‏ ناس مملكته فالتعريف للعهد أو هو للاستغراق العرفي‏.‏
والحق‏:‏ هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضاً وتصرفاتهم في خاصّتهم وعامّتهم ويتعين الحق بتعيين الشريعة‏.‏ والباء في ‏{‏بالحَقِّ‏}‏ باء المجازية، جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك‏:‏ قطعه بالسكين، وضربه بالعصا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَتَّبِععِ الهوى‏}‏ معطوف على التفريع، ولعله المقصود من التفريع‏.‏ وإنما تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سَدًّا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل‏.‏ والتعريف في ‏{‏الهوى‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق، فالنهي يعمّ كل ما هو هوى، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده، وصديقه، أو هوى الجمهور‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏‏.‏
ومعنى الهوى‏:‏ المحبة، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة، أي ولو كان هوى شديداً تعلقُ النفس به‏.‏ والهوى‏:‏ كناية عن الباطل والجور والظلم لِما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالباً، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيّد بالحِفظ أو العصمة‏.‏
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذّر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت، وقد قال سهل بن حُنيْف رضي الله عنه‏:‏ «اتهموا الرَّأي»، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج المَلكية، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصَقَها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لِداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب، ولهذا جُعل هنا الضلال عن سبيل الله مسبباً على اتباع الهوى، وهو تسبب أغلبي عرفي، فشبه الهوى بسائرٍ في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله، فإن الذي يتبع سائراً غيرَ عَارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مَقطعة طريق‏.‏
واتّباع الهوى قد يكون اختياراً، وقد يكون كرهاً‏.‏ والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه؛ فأما الاتّباع الاختياري فالحذر منه ظاهر، وأما الاتباع الاضطراري فالتخلص منه بالانسحاب عما جرّه إلى الإِكراه، ولذلك اشترط العلماء في الخليفة شروطاً كلّها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل، وهي‏:‏ التكليف، والحُرّية، والعدالة، والذكورة، وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة‏.‏
وانتصب ‏{‏فَيُضِلَّكَ‏}‏ بعد فاء السببية في جواب النهي‏.‏ ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سبباً في الضلال‏.‏ وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي‏.‏
و ‏{‏سبيل الله‏}‏‏:‏ الأعمال التي تحصُل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها، شُبّهت بالطريق الموصل إلى الله، أي إلى مرضاته‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يضلون عن سبيل الله‏}‏ إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود، وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله‏:‏ ‏{‏ياداود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض‏}‏ إلى ‏{‏يومَ الحِسَابِ‏}‏، فهي في موقع العلة للنهي، فكانت ‏(‏إنّ‏)‏ مغنية عن فاء التسبب والترتب، فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن يُنهى عنه، وإن كانت الجملة كلاماً منفصلاً عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان خطر الضلال عن سبيل الله‏.‏
والعموم الذي في قوله ‏{‏الذين يضلون عن سبيل الله‏}‏ يُكسب الجملة وصف التذييل أيضاً وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها‏.‏ وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب‏.‏ واللام في ‏{‏لهُم عَذَابٌ‏}‏ للاختصاص، والباء في ‏{‏بِما نسُوا يومَ الحِسَابِ‏}‏ سببية‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بسبب نسيانهم يوم الحساب، وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُم عَذَابٌ‏}‏‏.‏
والنسيان‏:‏ مستعار للإِعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ودونه مراتب كثيرة تكون على وفق مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعاً لذلك‏.‏
والمراد ب ‏{‏يَوْمَ الحسابِ‏}‏ ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر، فهو في المعنى على تقدير مضاف، أي جزاء يوم الحساب على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونسي ما قدمت يداه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏، أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال‏.‏ وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإِعراض عن مراقبة الجزاء‏.‏ وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ذريته داود‏}‏ في ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏ في ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏‏}‏
لما جرى في خطاب داود ذكرُ نسيان يوم الحساب وكان أقصى غايات ذلك النسيان جحودُ وقوعه لأنه يفضي إلى عدم مراعاته ومراقبته أبداً اعتُرِض بين القصتين بثلاث آيات لبيان حكمة الله تعالى في جعل الجزاء ويومه احتجاجاً على منكريه من المشركين‏.‏
والباطل‏:‏ ضد الحق، فكل ما كان غير حقّ فهو الباطل، ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 39‏]‏‏.‏
‏(‏والمراد بالحقّ المأخوذِ من نفي الباطل هنا، هو أن تلك المخلوقات خلقت على حالة لا تخرج عن الحق؛ إمّا حَالاً كخلق الملائكة والرسل والصالحين، وإمّا في المآل كخلق الشياطين والمفسدين لأن إقامة الجزاء عليهم من بعد استدراك لمقتضى الحق‏.‏
وقد بنيت هذه الحجة على الاستدلال بأحوال المشاهدات وهي أحوال السماوات والأرض وما بينهما، والمشركون يعلمون أن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، فأقيم الدليل على أساس مقدمة لا نزاع فيها، وهي أن الله خلق ذلك وأنهم إذا تأملوا أدنى تأمل وجدوا من نظام هذه العوالم دلالةً تحصل بأدنى نظر على أنه نظام على غاية الإِحكام إحكاماً مطرداً، وهو ما نبههم الله إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً‏}‏‏.‏
ومصب النفي الحالُ وهو قوله‏:‏ ‏{‏باطِلاً‏}‏ فهو عام لوقوعه في سياق النفي، وبعد النظر يعلم الناظر أن خالقها حكيم عادل وأن تصرفات الفاعل يستدل بالظاهرِ منها على الخَفي، فكان حقاً على الذين اعتادوا بتحكيم المشاهدات وعدم تجاوزها أن ينظروا بقياس من خفي عنهم على ما هو مشاهد لهم، فلما استقرّ أن نظام السماء والأرض وما بينهما كان جارياً على مقتضى الحكمة وكامل النظام، فعليهم أن يتدبّروا فيما خفي عنهم من وقوع البعث والجزاء فإن جميع ما في الأرض جارٍ على نظام بديع إلا أعمال الإِنسان، فمن المعلوم بالمشاهدة أن من الناس صالحين نافعين، ومنهم دون ذلك إلى صنف المجرمين المفسدين، وإن من الصالحين كثيراً لم ينالوا من حظوظ الخيرات الدنيوية شيئاً أو إلاّ شيئاً قليلاً هو أقلّ مما يستحقه صلاحه وما جاهده من الارتقاء بنفسه إلى معارج الكمال‏.‏ ومن المفسدين من هم بعكس ذلك‏.‏
والفساد‏:‏ اختلال اجتلبه الإِنسان إلى نفسه باتِّباعه شهواته باختياره الذي أودعه الله فيه، وبقواه الباطنية قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4- 6‏]‏ وفي هذه المراتب يدنو الناس دُنُوّاً متدرّجاً إلى مراتب الملائكة أو دُنُوًّا متدلِّياً إلى أحضية الشياطين فكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يلتحق كل فريق بأشباهه في النعيم الأبدي أو الجحيم السرمدي‏.‏
ولولا أن حكمة نظام خلق العوالم اقتضت أن يُحال بين العوالم الزائلة والعوالم السرمدية في المدة المقدرة لبقاء هذه الأخيرة لأطار الله الصالحين إلى أوج النعيم الخالد، ولَدَسّ المجرمين في دركات السعير المؤبد، لعلل كثيرة اقتضت ذلك جُماعها رْعيُ الإِبقاء على خصائص المخلوقات حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها، وهي خصائص قد تتعارض فلو أوثر بعضها على غيره بالإِبقاء لأفضى إلى زوال الآخر، فمكّن الله كل نوع وكل صنف من الكدَح لنوال ملائمه وأرشد الجميع إلى الخير وأمر ونهى وبيّن وحدد‏.‏
وجعل لهم من بعد هذا العالم الزائل عالَماً خالداً يكون فيه وجود الأصناف محوطاً بما تستحقه كمالاتُها وأضدادُها من حُسْن أو سوء، ولو لم يجعل الله العالمَ الأبدي لذهب صلاح الصالحين باطلاً أجهدوا فيه أنفسهم وأضاعوا في تحصيله جمّاً غفيراً من لذائذهم الزائلة دون مقابل، ولعاد فساد المفسدين غُنما أرضَوْا به أهواءَهم ونالوا به مشتهاهم فذهب ما جَرُّوه على الناس من أرزاء باطلاً، فلا جرم لو لم يكن الجزاء الأبدي لعاد خلق الأرض باطلاً ولفاز الغويّ بغوايته‏.‏
فإذا استقرت هذه المقدمة تعين أن إنكار البعث والجزاء يلزمه أن يكون منكرُه قائلاً بأن خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل، وقد دلّت الدلائل الأخرى أن لا يكون في خلق ذلك شيء من الباطل بقياس الخفي على الظاهر، فبطل ما يفضي إلى القول بأن في خلق بعض ما ذكر شيء من الباطل‏.‏
والمشركون وإن لم يصدر منهم ذلك ولا اعتقدوه لكنهم آيلون إلى لزومه لهم بطريق دلالة الالتزام لأن من أنكر البعث والجزاء فقد تقلد أن ما هو جارٍ في أحوال الناس باطل، والناس من خلق الله فباطلهم إذا لم يؤاخِذهم خالقهم عليه يكون مما أقرّه خالقهم، فيكون في خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل، فتنتقض كلية قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً،‏}‏ وهو ما ألزمهم إياه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ظنُّ الذين كفروا‏.‏‏}‏ والإِشارة إلى القضية المنفية لا إلى نفيها، أي خَلق المذكورات باطلاً هو ظن الذين كفروا، أي اعتقادهم‏.‏ وأُطلق الظن على العلم لأن ظنهم علم مخالف للواقع فهو باسم الظن أجدر لأن إطلاق الظن يقع عليه أنواع من العلم المُشْبِه والباطل‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولاً، وأن لازم المذهب مذهب وهو الذي نحاه فقهاء المالكية في موجبات الردة من أقوال وأفعال‏.‏
وفرع على هذا الاستدلال وعدممِ جري المشركين على مقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فويلٌ للذين كفروا مِنَ النَّارِ‏}‏ أي نار جهنم‏.‏ وعُبر عنهم بالموصول لما تشير إليه الصلة من أنهم استحقوا العقاب على سوء اعتقادهم وسوء أعمالهم، وأن ذلك أيضاً من آثار انتفاء الباطل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما، لأنهم كانوا على باطل في إعراضهم عن الاستدلال بنظام السماوات والأرض، وفي ارتكابهم مفاسد عوائد الشرك وملته، وقد تمتّعوا بالحياة الدنيا أكثر مما تمتع بها الصالحون فلا جرم استحقوا جزاء أعمالهم‏.‏
ولفظ‏:‏ «وَيل» يدل على أشدّ السوء‏.‏ وكلمة‏:‏ وَيْلٌ له، تقال للتعجيب من شدة سوء حالة المتحدث عنه، وهي هنا كناية عن شدة عذابهم في النار‏.‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبير حين شرب دم حِجامته‏:‏ ‏"‏ ويل لك من الناس وويل للناس منك ‏"‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏(‏28‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ منقطعة أفادت إضراباً انتقالياً وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق، بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجُمليّ، وقد كان هذا الانتقال بناء على ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏ذلك ظنُّ الذين كفروا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏ فلأجْل ذلك بني على استفهام مقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ وهو من لوازم استعمالها، وهو استفهام إنكاري‏.‏ والمعنى‏:‏ لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال الصالحين وأحوال المفسدين‏.‏
والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كالمُفْسِدِينَ‏}‏ للتسوية‏.‏ والمعنى‏:‏ إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله، أي إذا لم يُجاز كلَّ فريق بما يستحقه على عمله، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاَفُ ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث‏.‏ وقد أُخذ في الاستدلال جانبُ المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوِينَ في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة، فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة، وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولي النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس، وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر‏.‏
و ‏{‏أم‏}‏ الثانية منقطعة أيضاً ومفادها إضراب انتقال ثاننٍ للارتقاء في الاستدلال على أن الحكمة الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعثَ لأجله‏.‏
ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه ‏{‏أم‏}‏ الثانية‏:‏ الإِنكار كالذي اقتضته ‏{‏أم‏}‏ الأولى‏.‏ وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مُساوين للفجّار في أحوال وجود الفريقين، وتقريره مِثلَ ما قُرّر به الاستدلال الأول‏.‏
والمتّقون‏:‏ هم الذين كانت التقوى شعارهم‏.‏ والتقوى‏:‏ ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن، وقد تقدم في أول سورة البقرة‏.‏
والفجّار‏:‏ الذين شعارهم الفجور، وهو أشد المعصية، والمراد به‏:‏ الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 42‏]‏ وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه يبدأ الخلق ثم يُعيدُهُ لِيَجْزِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتتِ بالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِنْ حَمِيممٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمس ضياءَ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بِالحَقِّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 4- 5‏]‏‏.‏
والمقصود من هذا الإِطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنّاً يفضي إلى أن الله خلق شيئاً من السماء والأرض وما بينهما باطلاً فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإِنكار شأناً عظيماً من فضح أمر الضالين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏‏}‏
عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجاً هو لشبهاتهم مقلع، وأنه إن حَرَم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون‏.‏ وفي ذلك إدماجُ الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين‏.‏ وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحَقِّ يُفَصِّلُ الأَياتتِ لِقَوممٍ يَعْلَمُون‏}‏ في أول سورة ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والجملة استئناف معتَرضضٍ وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة ‏{‏والقُرءَاننِ ذي الذِكرِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1‏]‏ إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا ذكر‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏كِتابٌ‏}‏ يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ هذا كتاب، وجملة ‏{‏أنزلناهُ‏}‏ صفة ‏{‏كِتابٌ‏.‏‏}‏ ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة ‏{‏أنزلناهُ‏}‏ صفة ‏{‏كِتاب‏}‏ و‏{‏مُبارَكٌ‏}‏ خبراً عن ‏{‏كِتابٌ‏}‏‏.‏
وتنكير كِتابٌ للتعظيم، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة ‏{‏أنزلناهُ‏}‏ و‏{‏مُبارَكٌ‏}‏ هو الخبر‏.‏ ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغاً للابتداء وتجعل جملة ‏{‏أنزلناهُ‏}‏ خبراً أول و‏{‏مُبارَكٌ‏}‏ خبراً ثانياً و‏{‏لِيدَّبَّرُوا‏}‏ متعلق ب ‏{‏أنزلناهُ‏}‏ ولكن لا يجعل ‏{‏كِتابٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وتقدره‏:‏ هذا كتاب، إذ ليس هذا بمحَزّ كبير من البلاغة‏.‏
والمبارك‏:‏ المُنبَثّة فيه البركة وهي الخير الكثير، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها‏:‏ إمّا مرشدة إلى خير، وَإمّا صارفة عن شرّ وفساد، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك‏.‏
والتدبر‏:‏ التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشفت له معان لم تكن بادية له بادئ النظر‏.‏ وأقربُ مثل للتدبر هنا هو ما مر آنفاً من معاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً إلى قوله‏:‏ أم نجعل المتقين كالفجار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27- 28‏]‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ليَدَّبَّرُوَا‏}‏ بياء الغيبة وتشديد الدال‏.‏ وأصل «يدبروا» يتدبروا، فقلبت التاء دالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى الإِدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل‏:‏ دَبَرَ بوزن ضرب، إذا تبع، فتدبَّره بمنزلة تتبَّعه، ومعناه‏:‏ أنه يتعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يدبروا القول‏}‏ في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 68‏]‏‏.‏
وقرأ أبو جعفر ‏{‏لتَدَبروا‏}‏ بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها‏:‏ لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصاراً، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين‏.‏
والتذكُّر‏:‏ استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يُغفل عنه وهو ما يهمّ العلم به، فجُعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها، وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم‏.‏
وضمير «يدبروا» على قراءة الجمهور عائد إلى ‏{‏أولوا الألباب‏}‏ على طريقة الإِضمار للفعل المهمل عن العمل في التنازع، والتقدير‏:‏ ليدَبَّر أولو الألباب آياته ويتذكروا، وأما على قراءة أبي جعفر فإسناد «يتذكر» إلى ‏{‏أُولُوا الألبابِ‏}‏ اكتفاء عن وصف المتدبرين بأنهم أولو الألباب لأن التدبر مُفْضضٍ إلى التذكر‏.‏ والتذكر من آثار التدبر فوصف فاعل أحد الفعلين يُغني عن وصف فاعل الفعل الآخر‏.‏
و ‏{‏أولوا الألباب‏}‏‏:‏ أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول، وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا، ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقاً كان عليه أن يرعاه، والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏
جُعل التخلصُ إلى مناقب سليمان عليه السلام من جهة أنه من مِنن الله على داود عليه السلام، فكانت قصة سليمان كالتكملة لقصة داود‏.‏ ولم يكن لحال سليمان عليه السلام شَبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك جزمنا بأن لم يكن ذكر قصته هنا مِثالاً لحال محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها إتمام لما أنعم الله به على داود إذ أعطاه سليمان ابناً بهجةً له في حياته وورث ملكه بعد مماته، كما أنبأ عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا لداوُود سُليمان‏}‏ الآية‏.‏
ولهذه النكتة لم تفتتح قصة سليمان بعبارة‏:‏ واذكر، كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب، والقصص بعدها مفصَّلها ومجملها غير أنها لم تخل من مواضع إسوة وعبرة وتحذير على عادة القرآن من افتراض الإِرشاد‏.‏
ومن حسن المناسبة لذكر موهبة سليمان أنه ولد لداود من المرأة التي عوتب داود لأجل استنزال زوجها أوريا عنها كما تقدّم، فكانت موهبة سليمان لداود منها مكرمة عظيمة هي أثر مغفرة الله لداود تلك المخالفة التي يقتضي قدره تجنبها وإن كانت مباحة وتحققه لتعقيب الأخبار عن المغفرة له بقوله‏:‏ ‏{‏وإنَّ له عندنا لزلفى وحُسن مئَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 40‏]‏ فقد رضي الله عنه فوهب له من تلك الزوجة نبيئاً ومَلِكاً عظيماً‏.‏
فجملة ‏{‏ووهبنا لداود سُليمانَ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنا سخرنا الجبال معه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18‏]‏ وما بعدها من الجمل‏.‏ وجملة ‏{‏نِعْمَ العَبْدُ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏سُلَيْمانَ‏}‏ وهي ثناء عليه ومدح له من جملة من استحقوا عنوان العبد لله، وهو العنوان المقصود منه التقريب بالقرينة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 40- 41‏]‏‏.‏
والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله‏:‏ ‏{‏سُلَيْمان‏}‏ والتقدير‏:‏ نعم العبد سليمان‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّه أوَّابٌ‏}‏ تعليل للثناء عليه ب ‏{‏نِعْمَ العَبْدُ‏.‏‏}‏ والأوّاب‏:‏ مبالغة في الآيب أي كثير الأوْب، أي الرجوع إلى الله بقرينة أنه مادحه‏.‏ والمراد من الأوب إلى الله‏:‏ الأوب إلى أمره ونهيه، أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب، أي فتاب، وتقدم ذلك آنفاً في ذكر داود‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏
‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏
يتعلق ‏{‏إذْ عُرِضَ‏}‏ ب ‏{‏أوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وتعليق هذا الظرف ب ‏{‏أوَّابٌ‏}‏ تعليق تعليل لأن الظروف يراد منها التعليل كثيراً لظهور أن ليس المراد أنه أوّاب في هذه القصة فقط لأن صيغة أوّاب تقتضي المبالغة‏.‏ والأصل منها الكثرة فتعين أن ذكر قصة من حوادث أوبته كان لأنها ينجَلي فيها عِظم أوبته‏.‏ والعَرض‏:‏ الإِمرار والإِحضار أمام الرائِي، أي عرَض سُواس خيله إياها عليه‏.‏
والعَشيّ‏:‏ من العصر إلى الغروب‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏بالغداة والعشي‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وذلك وقت افتقاد الخيل والماشية بعد رواحها من مراعيها ومراتعها‏.‏ وذكر العشي هنا ليس لمجرد التوقيت بل ليبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏حتَّى توارتْ بالحجابِ،‏}‏ فليس ذكر العشيّ في وقع هذه الآية كوقعه في قول عمرو بن كلثوم‏:‏
ملوك من بني جشم بن بكر *** يساقون العشيةَ يُقتلونا
و‏{‏الصافنات‏}‏‏:‏ وصف لموصوف محذوف استغنى عن ذكره لدلالة الصفة عليه لأن الصافن لا يكون إلا من الخيل والأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم وطرف حافر القائمة الرابعة لا يمكّن القائمة الرابعة من الأرض، وتلك من علامات خفته الدالة على كرم أصل الفرس وحسن خلاله، يقال‏:‏ صفن الفرس صُفوناً، وأنشده ابن الأعربي والزجّاج في صفة فرس‏:‏
ألفَ الصُّفون فلا يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاثثِ كَسيرا
‏{‏الجِياد‏}‏‏:‏ جمع جواد بفتح الواو وهو الفرس ذو الجَودة، أي النفاسة، وكان سليمان مولَعاً بالإِكثار من الخيل والفرسان، فكانت خيله تعد بالآلاف‏.‏
وأصل تركيب ‏{‏أحْببتُ حبَّ الخيرِ‏:‏‏}‏ أحببتُ الخير حُبًّا، فحول التركيب إلى ‏{‏أحببتُ حب الخيرِ‏}‏ فصار ‏{‏حُبَّ الخيرِ‏}‏ تمييزاً لإِسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض الإِجمال ثم التفصيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفجرنا الأرض عيوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏ وقول كعب بن زهير‏:‏
أكرم بها خلة ***
وقولهم‏:‏ لله دره فَارساً‏.‏
وضمن ‏{‏أحْبَبْتُ‏}‏ معنى عَوَّضت، فعدِّي ب ‏{‏عن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏عن ذِكرِ ربي‏}‏ فصار المعنى‏:‏ أحببت الخير حبّاً فجاوزت ذكر ربي‏.‏ والمراد بذكر الرّب الصلاة، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب‏.‏
و ‏{‏الخير‏}‏‏:‏ المال النفيس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ والخيل من المال النفيس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الخير بالراء من أسماء الخيل‏.‏ والعرب تعاقب بين اللام والراء كما يقولون‏:‏ انهملت العين وانهمرت‏.‏ وختل وختر إذا خدع‏.‏
وقلت‏:‏ إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس فلعلهم سموها الخير تفاؤلاً لتتمحض للسعد والبخت‏.‏ وضمير ‏{‏تَوارَتْ‏}‏ للشمس بقرينة ذكر العشي وحرف الغاية ولفظ الحجاب، على أن الإِضمار للشمس في ذكر الأوقات كثير في كلامهم‏.‏ كما قال لبيد‏:‏
حتى إذا ألقتْ يداً في كافر *** وأجنّ عَورات الثغور ظلامها
أي ألقت الشمس يدها في الظلمة، أي ألقت نفسها فهو من التعبير عن الذات ببعض أعضائها‏.‏
والتواري‏:‏ الاختفاء، والحجاب‏:‏ الستر في البيت الذي تحتجب وراءه المرأة وغيرها ومنه قول أنس بن مالك‏:‏ فأنزل الله آية الحجاب‏.‏
والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار؛ فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية، ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري، ولأُفق غروب الشمس استعير الحجاب‏.‏
والمعنى‏:‏ عرضت عليه خيله الصافنات الجياد فاشتغل بأحوالها حباً فيها حتى غربت الشمس ففاتته صلاة كان يصليها في المساء قبل الغروب، فقال عقب عرض الخيل وقد انصرفت‏:‏ إني أحببتُ الخيل فغفلت عن صلاتي لله‏.‏
وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر كقول أم مريم ‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏رُدّوها عليَّ‏}‏ لسواس خيله‏.‏ والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة، أي أرجعوا الخيل إليّ، وقيل‏:‏ هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة، وهذا في غاية البعد ولولا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم التعرض له‏.‏ وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملاً في التعجيز، أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبها، كقول مهلهل‏:‏
يَا لَبَكْر انشروا لي كليبا ***
وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل‏:‏
رُدوا علينا شيخَنا ثم بَجل ***
يريد‏:‏ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلا استبعاد في هذا المحمل‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَطَفِقَ‏}‏ تعقيبية، وطفق من أفعال الشروع، أي فشرع‏.‏
و ‏{‏مَسْحاً‏}‏ مصدر أقيم مقام الفعل، أي طفق يمسح مَسحاً‏.‏ وحرف التعريف في ‏{‏بالسُّوققِ والأعناقِ‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والمسح حقيقته‏:‏ إمرار اليد على الشيء لإِزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد وبخرقة أو ثوب، وقد يطلق المسح مجازاً على معان منها‏:‏ الضرب بالسيف يقال‏:‏ مسحه بالسيف‏.‏ ويقال‏:‏ مسحَ السيفَ به‏.‏ ولعل أصله كناية عن القتل بالسيف لأن السيف يمسح عنه الدم بعد الضرب به‏.‏
والسُّوق‏:‏ جمع ساق‏.‏ وقرأه الجمهور بواو ساكنة وبوزن فُعْل مثل‏:‏ دار ودُور، ووزن فُعل في جمع مثلِه قليل‏.‏ وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو جعفر «السُّؤق» بهمزة ساكنة بعد السين جمع‏:‏ سأق بهمزة بعد السين وهي لغة في ساق‏.‏
و ‏{‏الأعناق‏}‏‏:‏ جمع عنق وهو الرقبة‏.‏ والباء في ‏{‏بالسُّوقِ‏}‏ مزيدة للتأكيد، أي تأكيد اتصال الفعل بمفعوله كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وفي قول النابغة‏:‏
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا *** وأصبح جد الناس يضلع عاثرا
وقد تردد المفسرون في المعنى الذي عنى بقوله‏:‏ ‏{‏فَطَفِق مسْحَاً بالسُّوققِ والأعناقِ،‏}‏ فعن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب‏:‏ طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حُبًّا لها‏.‏ وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبيءٍ والأوفق بحقيقة المسح ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله‏:‏ ‏{‏رُدُّوهَا عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق‏}‏ متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏إذ عرض عليه بالعشي الصافنات‏}‏ أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال‏:‏ ‏{‏ردُّوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناقِ‏}‏ إكراماً لها ولحبها‏.‏
ويجعل قوله‏:‏ ‏{‏فقَالَ إني أحببتُ حبَّ الخيرِ عن ذِكرِ ربي حتى توارتْ بالحجابِ‏}‏ معترضاً بينهما، وإنما قدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره، أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده، إذ لا يناسب أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ردوها عليَّ فطفِقَ‏}‏ الخ من آثار ندمه وتحسّره على هذا التفسير، وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أمر به بقوله‏:‏ ‏{‏ردُّها عليَّ‏}‏ فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بَقي ما يكفي من الوقت للذكر فلما حملته بهجته بها على أن أمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسُوقها خرج وقت ذكره فتندّم وتحسّر‏.‏
وعن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابننِ وَهب والفراء وثعلب‏:‏ أن سليمان لما ندِم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أمر أن تُردّ عليه الخيل التي شغلتْه فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه‏.‏ واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال فأجابوا‏:‏ بأنه أراد ذبحها ليأكلها الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فساداً في الأرض‏.‏
وتجنّب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعاراً للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كَشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد، فشبهت تلك الإِزالة بإِزالة المَسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به، وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول وهو معزو لبعض المفسرين في «أحكام القرآن» لابن العربي‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ إنه وَهَم‏.‏ وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سبباً في الهفوة‏.‏
وعلى هذين التأويلين يكون قوله‏:‏ ‏{‏فطفق‏}‏ تعقيباً على ‏{‏ردُّوها عليَّ‏}‏ وعلى محذوف بعده‏.‏ والتقدير‏:‏ فردُّوها عليه فطفق، كقوله‏:‏ ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ردوها عليَّ‏}‏ من مقول‏:‏ ‏{‏فقال إني أحببت حبَّ الخير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏‏}‏
قد قلت آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا لداود سليمان‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏ إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإِرشاد بالترغيب والترهيب، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة‏.‏ والفَتن والفتون والفتنة‏:‏ اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنة في سورة البقرة‏}‏ ‏(‏102‏.‏
‏(‏وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه‏.‏ ومن أغربها قولهم‏:‏ إنه ولد له ابن فخاف عليه الناسَ أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه دَرّ ماء المُزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت‏.‏ وهذا ما نظمه المعري تبعاً لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان‏:‏
خَاف غدْر الأناممِ فاستودع الري *** حَ سَليلاً تغذوه دَرَّ العِهَاد
وتوخّى النجاةَ وقد أيْ *** قَنَ أن الحِمام بالمرصاد
فرمتْه به على جَانب الكُر *** سِيِّ أمّ اللّهَيْم أُخْتُ النّآد
والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقينا على كرسيه جسداً‏}‏ إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله‏:‏ ‏{‏ثمَّ أنابَ‏}‏ بذلك‏.‏
ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته‏.‏ وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما في «صحيح البخاري» «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال سليمان لأَطُوفَنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله‏.‏ فقال له صاحبه‏:‏ قل إن شاء الله‏.‏ فلم يقل‏:‏ إن شاء الله‏.‏ فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشقِّ رَجل، وأيْم الذي نفس محمد بيده لو قال‏:‏ إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون»‏.‏ وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديثَ في التفسير من كتابيهما‏.‏ قال جماعة‏:‏ فذلك النصف من الإِنسان هو الجَسد الملقَى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبُه‏.‏
وإطلاق الجسد على ذلك المولود؛ إمّا لأنه وُلِد ميتاً، كما هو ظاهر قوله‏:‏ «شق رجل»، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد‏.‏ وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّاً ولا أنه جلس على كرسي سليمان‏.‏
وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلّف‏.‏
وقال وهب بن منبه وشَهْر بن حَوْشَب‏:‏ تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها، وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر، وقيل‏:‏ كانت تعبد صنماً لها من ياقوت خُفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم‏.‏ وهذا القول مختزل مما وقع في «سفر الملوك» الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإِصحاح الحادي عشر‏:‏ وأحَب سليمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات، وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل‏:‏ لا تدخلون إليهم لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم‏.‏ فبنى هيكلاً للصنم ‏(‏كموش‏)‏ صنَم المؤابيين على الجبل الذي تُجاه أورشليم فقال الله له‏:‏ من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقاً وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سِبطاً واحداً الخ‏.‏
ويؤخذ من ذلك كله‏:‏ أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدْن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدْنَ فيها فلم يرضَ الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبيء أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة لا يتجاوز إليه‏.‏
وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جَسداً في قوله‏:‏ ‏{‏فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 88‏.‏
‏(‏ويكون معنى إلقائه على كرسيّه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه‏.‏
وعطف ‏{‏ثُمَّ أنابَ‏}‏ بحرف ‏{‏ثمّ‏}‏ المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإِنابة أعظم ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏فقال إنِّي أحببتُ حُبَّ الخيرِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ والإِنابة‏:‏ التوبة‏.‏
وجملة ‏{‏قال ربّ اغفر لي‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏أنَابَ‏}‏ لأن الإِنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضي الله تعالى صدوره من أمثاله‏.‏
وإردافه طلب المغفرة باستيهاب مُلْك لا ينبغي لأحدٍ من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين‏:‏ العقاب في الآخرة، وسلب النعمة في الدنيا إذ قصّر في شكرها، وكان سليمان يومئذٍ في مُلْك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ وتنكير ‏{‏مُلْكاً‏}‏ للتعظيم‏.‏
وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكاً أنه لا ينبغي لأحد من بعده، أي لا يتأتى لأحد من بعده، أي لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده‏.‏
فكنّى ب ‏{‏لا ينبغي‏}‏ عن معنى لا يُعطَى لأحد، أي لا تعطيه أحداً من بعدي‏.‏
ففعل‏:‏ ‏{‏ينبغِي‏}‏ مطاوع بغاه، يقال‏:‏ بغاه فانبغى له وليس للملْك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطي والميسّر فإسناد الانبغاء إلى الملك مجاز عقلي، وحقيقته‏:‏ انبغاء سببه‏.‏ وهذا من التأدّي في دعائه إذ لم يقل‏:‏ لا تعطه أحداً من بعدي‏.‏
وسأل الله أن لا يقيم له منازعاً في ملكه وأن يبقى له ذلك الملكُ إلى موته، فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده ‏(‏يربعام بن نباط‏)‏ من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى ‏(‏شيشق‏)‏ فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان‏.‏ فهذا أيضاً مما حمل سليمان أن يسأل الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحداً غيره‏.‏ وكان لسليمان عدوَّان آخران هما ‏(‏هدد‏)‏ الأدومي و‏(‏رزون‏)‏ من أهل صرفة مقيمين في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإِزالة ملكه‏.‏
واستعمل ‏{‏مِن بعدي‏}‏ في معنى‏:‏ من دوني، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، فيكون معنى ‏{‏لا ينبغِي‏}‏ أنه لا ينبغي لأحد غيري، أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يُسلط أحد على ملكه مدة حياته‏.‏
وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعدّ من الحسد‏.‏
ويجوز أن يبقى ‏{‏مِن بعدي‏}‏ على ظاهره، أي بعد حياتي‏.‏ فمعنى ‏{‏لا يَنبغِي‏}‏‏:‏ لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي‏.‏ وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإِشفاق من أن يلِي مثل ذلك الملك من ليس له من النُبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للمَلِك على مُلْكه، فينتفِي أيضاً على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطَى أحد غيرُه مثلَ ملكه ‏(‏مما تشمّ منه رائحة الحسد‏)‏‏.‏
وقد تضمنت دعوته شيئين‏:‏ هما أن يعطى ملكاً عظيماً، وأن لا يُعطَى غيرُه مثلَه في عظمته‏.‏ وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إياه، وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبتِه‏.‏ ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده‏.‏
وفي «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن عفريتاً من الجن تفلَّتَ البارحةَ ليقطع عليَّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردتُ أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلُّكُم فذكرتُ دعوة أخي سليمان‏:‏ «رب هَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأحَدٍ مِنْ بَعْدي فرددته خاسِئاً»‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّك أنتَ الوهابُ‏}‏ علة للسؤال كله وتمهيد للإِجابة، فقامت ‏(‏إنّ‏)‏ مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في ‏{‏الوَهَّابُ‏}‏ على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة‏.‏ و‏{‏أنْتَ‏}‏ ضميرُ فصل، وأفاد الفصل به قصراً فصار المعنى‏:‏ أنت القوي الموهبة لا غيرك، لأن الله يَهَب ما لا يملك غيره أن يهبه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏
‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏‏}‏
اقتضت الفاء وترتيب الجمل أن تسخير الريح وتسخير الشياطين كانا بعد أن سأل الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده أن أعطاه هاتين الموهبتين زيادة في قوة ملكه وتحْقِيقاً لاستجابة دعوته لأنه إنما سأل ملكاً لا ينبغي لأحد غيره ولم يسأل الزيادة فيما أعطيه من الملك‏.‏ ولعل الله أراد أن يعطيه هاتين الموهبتين وأن لا يعطيهما أحداً بعده حتى إذا أعطى أحداً بعده مُلكاً مثل ملكه فيما عدا هاتين الموهبتين لم يكن قد أخلف إجابته‏.‏
والتسخير الإِلجاء إلى عمل بدون اختيار، وهو مستعار هنا لتكوين أسباب صرف الريح إلى الجهات التي يريد سليمان توجيه سفنه إليها لتكون معينة سفنَه على سرعة سيرها، ولئلا تعاكس وجهه سفنه، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر‏}‏ في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وقرأ أبو جعفر ‏{‏الرّياحَ‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏
وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏‏.‏
واللام في ‏{‏له‏}‏ للعلة، أي لأجله، أي ذلك التسخير كرامَة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدّراً على نحو رغبته‏.‏
والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏بِأمْرِهِ‏}‏ مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه، أو يرغب ذلك في نفسه، فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيّات‏.‏
والرُّخاء‏:‏ اللينة التي لا زعزعة في هبوبها‏.‏ وانتصب ‏{‏رُخَاءً‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏تَجْرِي‏}‏ أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفياتُ هبوبِها، وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة، وقد قال تعالى في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح عاصفة ومعناه‏:‏ سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف، فمعنى فسخَّرْنَا لهُ‏}‏ جعلناها له رخاء‏.‏ فانتصب ‏{‏عاصفة‏}‏ في آية سورة الأنبياء على الحال من ‏{‏الريح‏}‏ وهي حال منتقلة‏.‏ ولما أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏تجري بأمره‏}‏ علم أن عصفها يصير إلى لَيْن بأمر سليمان، أي دعائه، أو بعزمه، أو رغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال، فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين‏.‏
و ‏{‏أصَابَ‏}‏ معناه قصد، وهو مشتق من الصَّوْب، أي الجهة، أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير إليها‏.‏ حكَى الأصمعي عن العرب‏:‏ «أَصَابَ الصواب فأخطأ الجواب» أي أراد الصواب فلم يُصب‏.‏ وقيل‏:‏ هذا استعمال لها في لغة حِمير، وقيل في لغة هَجَر‏.‏
و ‏{‏الشياطين‏}‏ جمع شيطان، وحقيقته الجنّي، ويستعمل مجازاً للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيراً خارقاً للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء، وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب الأمم فكانوا يأتون طوعاً للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبأ‏.‏
فيجوز أن يكون ‏{‏الشياطين‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه‏.‏
و ‏{‏كُلَّ بناءٍ‏}‏ بدل من ‏{‏الشَيَاطِينَ‏}‏ بدل بعض من كل، أي كل بنّاء وغوّاص منهم، أي من الشياطين‏.‏ و‏{‏كُلَّ‏}‏ هنا مستعملة في معنى الكثير، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ثم كلي من كل الثمرات‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وقال النابغة‏:‏
بها كلُّ ذَيَّال وخنساءَ ترعوي ***
وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏
والبنَّاء‏:‏ الذي يَبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نَجَّار وقصَّار وحدَّاد‏.‏
والغواص‏:‏ الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ، وهو أيضاً مما صِيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة، قال النابغة‏:‏
أو درّة صدفية غوَّاصها *** بَهج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ
قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقد بلغت الصناعة في مُلك سليمان مبلغاً من الإِتقان والجودة والجلال، وناهيك ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سُمي في الإِسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من مواد إقامته من الممالك المجاورة له، وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبَأ‏.‏
و ‏{‏ءَاخَرِينَ‏}‏ عطف على ‏{‏كُلَّ بناءٍ وغوَّاصٍ‏}‏ فهو من جملة بدل البعض‏.‏ وجمع آخر بمعنى مغاير، فيجوز أن تكون المغايرة في النوع من غير نوع الجن، ويجوز أن تكون المغايرة في الصفة، أي غير بنائين وغوّاصين‏.‏ وقد كان يجلب من الممالك المجاورة له والداخلة تحت ظل سلطانه ما يحتاج إليه في بناء القصور والحصون والمدن وكانت مملكته عظيمة وكل الملوك يخشون بأسه ويصانعونه‏.‏
والمقرَّن‏:‏ اسم مفعول من قرنه مبالغة في قرنه أي جعله قريناً لغيره لا ينفك أحدهما عن الآخر‏.‏
و ‏{‏الأصفاد‏}‏‏:‏ جمع صَفَد بفتحتين وهو القيد‏.‏ يقال‏:‏ صفده، إذا قيّده‏.‏ وهذا صنف ممن عبر عنهم بالشياطين شديد الشكيمة يخشى تفلته ويرام أن يستمر يعمل أعمالاً لا يجيدها غيرُه فيصفد في القيود ليعمل تحت حراسة الحراس‏.‏ وقد كان أهل الرأي من الملوك يَجعلون أصحاب الخصائص في الصناعات محبوسين حيث لا يتصلون بأحد لكيلا يستهويهم جواسيس ملوك آخرين يستصنعونهم ليتخصص أهل تلك المملكة بخصائص تلك الصناعات فلا تشاركها فيها مملكة أخرى وبخاصة في صنع آلات الحرب من سيوف ونبال وقِسِيّ ودرق ومَجَانَ وخُوذ وبيضات ودروع، فيجوز أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏مُقَرَّنينَ في الأصفَادِ‏}‏ حقيقة، ويجوز أن يكون تمثيلاً لمنع الشياطين من التفلت‏.‏
وقد كان ملك سليمان مشتهراً بصنع الدروع السابغات المتقنة‏.‏ يقال‏:‏ دروع سليمانية‏.‏ قال النابغة‏:‏
وكل صَموت نثلة تُبَّعِيّة *** ونَسْج سُلَيم كلَّ قمصاء ذائل
أراد نسج سليمان، أي نسج صنّاعه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏
‏{‏هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏
والإِشارة إلى التسخير المستفاد من ‏{‏فسخرنا له الريح‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والشياطين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 37‏]‏ أي هذا التسخير عطاؤنا‏.‏ والإِضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل‏:‏ هذا عطاء عظيم أعطيناكه‏.‏ والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل الخلق بمعنى المخلوق‏.‏
و«امنن» أمر مستعمل في الإِذن والإِباحة، وهو مشتق من المنّ المكنّى به عن الإِنعام، أي فأنعم على مَن شئت بالإِطلاق، أو أمسك في الخدمة من شئت‏.‏
فالمنّ‏:‏ كناية عن الإِطلاق بلازم اللام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما مناً بعدُ وإما فداء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وجملتا ‏{‏فامنن أو أمْسِك‏}‏ معترضتان بين قوله‏:‏ ‏{‏عَطَاؤُنَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيرِ حسَابٍ‏}‏، وهو تفريع مقدّم من تأخير‏.‏
والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة، ونظيره قوله تعالى من بعد‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 57‏]‏ وقول عنترة‏:‏
ولقد نزلت فلا تظنِّي غيرَه *** مني بمنزلة المُحَب المكْرَم
وقول بشارة‏:‏
كقائلة إن الحمار فنحِّه *** عن القَتِّ أهلُ السمسم المتهذب
مجازاً وكناية في التحديد والتقدير، أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتَّر فيه، أي عطاؤنا واسعاً وافياً لا تضييق فيه عليك‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏بغيرِ حسابٍ‏}‏ حالاً من ضمير «أمنن أو أمسك»‏.‏ ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنّى بها عن المُؤاخذة‏.‏ والمعنى‏:‏ أُمنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن منَنْتَ عليه بالإِطلاق إن كان مفسداً، ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏
تقدم نظيره آنفاً في قصة داود وبيان نكتة التأكيد بحرف ‏{‏إن‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏
‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏
هذا مَثَل ثاننٍ ذُكّر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر، وهو معطوف على ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ ولكونه مقصوداً بالمَثل أعيد معه فعل ‏{‏اذْكُر‏}‏ كما نبهنا عليه في قوله‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء‏.‏ وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام‏.‏
وإذ كانت تعدية فعل ‏{‏اذكر‏}‏ إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربّه‏}‏ بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب‏.‏ وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه‏.‏
والنداء‏:‏ نداء دُعاء لأن الدعاء يفتتح ب‏:‏ يا رب، ونحوه‏.‏
و ‏{‏أنِّي مسَّنِي الشيطانُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏نادى‏}‏ بحذف الباء المحذوفة مع ‏(‏أن‏)‏، أي نادى‏:‏ بأنّي مسني الشيطان، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة ‏{‏نادى ربَّهُ‏}‏ ولولا وجود ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة ‏{‏نادى‏}‏، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل ‏{‏نادى‏}‏ وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء‏.‏ فقولهم‏:‏ إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب تفرقة بين موقع ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة وموقع ‏(‏إنَّ‏)‏ المكسورة ولهذا الفرق بين الفتححِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتححِ الهمزة وكسرِها في نحو «خيرُ القَول أني أحمد»‏.‏
وقد ذكرنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين في سورة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ رأينا في كون ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من ‏(‏أَنْ‏)‏ التفسيرية ‏(‏وأنَّ‏)‏ الناسخة‏.‏ والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية، كقوله‏:‏ ‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏، وقد قال في آية سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين‏}‏ والنُصْب، بضم النون وسكون الصاد‏:‏ المشقة والتعب، وهي لغة في نَصَب بفتحتين، وتقدم النَصَب في سورة الكهف‏.‏ وقرأ أبو جعفر بِنُصُبٍ‏}‏ بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون‏.‏
والعذاب‏:‏ الألم‏.‏ والمراد به المرض يعني‏:‏ أصابني الشيطان بتعَب وألم‏.‏ وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى ‏{‏أني مسني الضر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏‏.‏
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏أني مسني الضر‏}‏ فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب‏.‏ وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها‏.‏
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله‏:‏ بِنُصبٍ‏}‏ على أنها باء التعدية لتعدية فعل ‏{‏مَسَّنِي‏}‏، أو باء الآلة مثل‏:‏ ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى‏.‏
والوجه عندي‏:‏ أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك‏.‏ أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب ‏{‏أني مسَّني الشيطانُ بنُصببٍ وعذابٍ‏}‏ كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام‏:‏ ‏{‏وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وتنوين «نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله‏.‏
وجملة ‏{‏اركض برِجلِك‏}‏ الخ مقولة لقول محذوف، أي قلنا له اركض برجلك، وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه‏.‏
والرّكْض‏:‏ الضرب في الأرض بالرجل، فقوله‏:‏ ‏{‏بِرِجْلِكَ‏}‏ زيادة في بيان معنى الفعل مثل‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقد سمّى الله ذلك استجابة في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 84‏]‏ إذ قال‏:‏ ‏{‏فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر‏.‏ وجملة هذا مُغْتسلٌ‏}‏ مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول، وفي الكلام حذف دلّت عليه الإِشارة‏.‏ فالتقدير‏:‏ فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له‏:‏ هذا مغتسل بارد وشراب‏.‏ فالإِشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب‏.‏
ووصْف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشَرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربّه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو‏.‏ و‏{‏مغتسل‏}‏ اسم مفعول من فعل اغتسل، أي مغتسل به فهو على حذف حرف الجر وإيصال المغتسل القاصر إلى المفعول مثل قوله‏:‏
تَمرُّون الديارَ ولم تعُوجوا ***
ووصفه ب ‏{‏بَارِدٌ‏}‏ إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحُمى من فَيْح جهنم فأطفئوها بالماء ‏"‏، أي نافع شاف، وبالتنوين استُغني عن وصف ‏{‏شراب‏}‏ إذ من المعلوم أن الماء شراب فلولا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإِخبار عن الماء بأنه شراب إخباراً بأمر معلوم، ومرجع تعظيم ‏{‏شراب‏}‏ إلى كونه عظيماً لأيوب وهو شفاء ما به من مرض‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏
‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏
اقتصار أيوب في دعائه على التعريض بإزالة النُّصْب والعذاب يشعر بأنه لم يُصب بغير الضر في بدنه‏.‏ ويحتمل أن يكون قد أصابه تلف المال وهلاك العيال كما جاء في كتاب «أيوب» من كتب اليهود فيكون اقتصاره على النُّصْب والعذاب في دعائه لأن في هلاك الأهل والمال نُصْباً وعذاباً للنفس‏.‏ ولم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رُزِئ أهله فيجوز أن يكون معنى ‏{‏ووهبنا له أهله ومثلهم معهم‏}‏ أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة‏.‏
ويكون فعل ‏{‏وهبنا‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه‏.‏ ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة ‏{‏معهم‏}‏ عقب كلمة ‏{‏ومثلهم‏}‏ فإن ‏(‏مع‏)‏ تشعر بأن الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم فليس في الآية تقدير مضاف في قوله‏:‏ ‏{‏ووهبنا له أهله‏}‏‏.‏
وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالاً عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة‏.‏ ويحتمل أن يكون مما أصابه أنه هلَك وأولاده في مدة ضرّه كما جاء في كتاب «أيوب» من كتب اليهود وأقوال بعض السلف من المفسرين فيتعين تقدير مضاف، أي وهبنا له عوض أهله‏.‏ وألفاظ الآية تنبو عن هذا الوجه الثاني‏.‏
ومعنى ‏{‏ومثلهم‏}‏ مماثلهم‏.‏ والمراد‏:‏ مماثل عددهم، أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة‏.‏
وتقدم نظير هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 84‏]‏‏.‏ وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنّن في التعبير لا يقتضي تفاوتاً في البلاغة‏.‏ وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا‏:‏ ‏{‏وذِكرى لأُوْلِي الألباب‏}‏ وقوله في سورة الأنبياء ‏{‏وذكرى للعابدين، فأما قوله هنا وذِكرى لأُوْلِي الألباب‏}‏ فإن الذكر التذكير بما خفي أو بما يخفَى وأولو الألباب هم أهل العقول، أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال‏.‏ فإن في قصة أيوب مجملها ومفصَّلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبِرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج أن ينتظر الفرج، فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ كما تقدم حُقّ أن يشار إليهم «بأولي الألباب»‏.‏
وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهداً على أن النبوءة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعْتريهم من الأحداث ما يعْتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله، ابتداءً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ وأنهم معرَّضون لأذَى الناس مما لا يخلّ بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت من قوله‏:‏
‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏‏.‏
وإذ كان المشركون يقولون‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏، وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله، ثم من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 48، 49‏]‏، وذُكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبَر، ومن ابتلي من غيرهم فصبَر، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه‏.‏ فكانت في ذلك آيات للعابدين، أي المْمتثلين أمر الله المجتَنبين نهيَه، فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضرّ لا يستطيع دفعَه لكون دفعه خارجاً عن طاقته فختم بخاتمة أن في ذلك لآيات للعابدين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏
‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ‏}‏ مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام، والتقدير‏:‏ وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله‏:‏ ‏{‏اركض برجلك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة، وذلك له قصته، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة‏.‏ وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره‏.‏
ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب، وأنه لم يكن مثله معلوماً في الدّين الذي يدين به أيوبُ إبقاء على تقواه، وإكراماً له لحبه زوجه، ورفقاً بزوجه لبرّها به، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين‏.‏
فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي‏:‏ أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية‏.‏ فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجهورُ الشافعية وجميعُ الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع مَن قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطَّوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثلُه في فقه الإِسلام في الإِفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلاً للقياس في كل ضَرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص، وهل يتعدّى به إلى جعله أصلاً للقياس أيضاً لإِثبات أصل مماثل وهو التحيّل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليففٍ شرعي، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة‏.‏
فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلّف بأن شرع لنا كفارات الأيمان‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير ‏"‏، فصار ما في شرعنا ناسخاً لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها، ومذهب الحنفية العمل بذلك استناداً لكونه شرعاً لمن قبلنا وهو قول الشافعي‏.‏
وقال مالك‏:‏ هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئاً‏.‏ وحكى القرطبي عن الشافعي أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مُخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد‏.‏ وأما القياس على فتوى أيوب في كلّ ضرب معيّن بعدد في غير اليمين، أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات‏.‏ ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثاً‏.‏ وما وقع في «سنن أبي داود» من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار «أنّ رجلاً منهم كان مريضاً مضنى فدخلت عليه جارية فهشّ لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظْم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدة‏.‏ ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة‏.‏ وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات‏.‏
أولها‏:‏ أن ذلك الرجل كان مريضاً مضنى ولا يُقام الحد على مثله‏.‏
الثاني‏:‏ لعلّ المرض قد أخل بعقله إخلالاً أقدمه على الزنا فكان المرض شبهة تدْرأ الحدَّ عنه‏.‏
الثالث‏:‏ أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابتُ في إقامة الحدود‏.‏
الرابع‏:‏ حمله على الخصوصية‏.‏ ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضَافرة على أن المريض والحامل يُنتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ، فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مُجرماً، ولا يدفع مأثماً، وفي «أحكام الجصّاص» عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي‏.‏ وحكى الخطابي أن أبا حنيفة ومالكاً اتفقا على أنه لا حدّ إلا الحد المعروف‏.‏ فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة‏.‏
‏{‏تَحْنَثْ إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ‏}‏‏.‏
علة لجملة ‏{‏اركض برجلِكَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ وجملة ‏{‏ووهبنا له أهلهُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 43‏]‏، أي أنعمنا عليه بجبر حاله، لأنا وجدناه صابراً على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏ صلى الله عليه وسلم فكانت ‏(‏إِنَّ‏)‏ مغنية عن فاء التفريع‏.‏
ومعنى ‏{‏وجدناهُ‏}‏ أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏نِعم العبد إنَّهُ أوَّابٌ‏}‏ مثل قوله في سليمان ‏{‏نِعم العبد إنَّه أوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏، فكان سليمان أوَّاباً لله من فتنة الغنى والنعيم، وأيوب أوَّاباً لله من فتنة الضرّ والاحتياج، وكان الثناء عليهما متماثلاً لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي‏.‏ قال سفيان‏:‏ أثنى الله على عبدين ابتليا‏:‏ أحدهما صابر، والآخر شاكر، ثناءً واحداً‏.‏ فقال لأَيوب ولسليمان ‏{‏نِعْمَ العبد إنَّه أوَّابٌ‏}‏‏.

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏
‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏‏}‏
القول فيه كالقول في نظائره لغةً ومعنى‏.‏ وذِكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم، فأما إبراهيم عليه السّلام فيما عرف من صبره على أذى قومه، وإلقائه في النار، وابتلائه بتكليف ذبح ابنه، وأما ذِكر إسحاق ويعقوبَ فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله‏:‏ ‏{‏أُولي الأيدِي والأبصارِ‏}‏ ليقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الدين والبصيرة في حقائق الأمور‏.‏
وابتدئ بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة، وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابِنه ابنه يعقوب‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏واذكر عبادنا‏}‏ بصيغة الجمع على أن ‏{‏إبراهيم‏}‏ ومن عطف عليه كله عطف بيان‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏عَبدنا‏}‏ بصيغة الإفراد على أن يكون ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ عطف بيان من ‏{‏عبدنا‏}‏ ويكون ‏{‏إسحاق ويعقوب‏}‏ عطف نسق على ‏{‏عبدنا‏}‏‏.‏ ومآل القراءتين متّحد‏.‏
و ‏{‏الأيدي‏}‏‏:‏ جمع يد بمعنى القوة في الدين‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأيد‏}‏ في سورة ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏الأبصار‏}‏‏:‏ جمع بصر بالمعنى المجازي، وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة، أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخّي مرضاته‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا أخلصناهُم‏}‏ علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير‏.‏ و‏{‏أخْلَصْناهُم‏}‏‏:‏ جعلناهم خالصين، فالهمزة للتعدية، أي طهرناهم من درَن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر، وهذا الإِخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة‏.‏
والعصمة‏:‏ قوة يجعلها الله في نفس النبي تَصْرِفُه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمداً أو سهواً، وعمّا هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره‏.‏ وأركان العصمة أربعة‏:‏
الأول‏:‏ خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان‏.‏
الثاني‏:‏ حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات‏.‏
الثالث‏:‏ تأكد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى‏.‏
الرابع‏:‏ العتاب من الله على ترك الأوْلى وعلى النسيان‏.‏
وإسناد الإِخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لَدُنِيّة بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تُقلع النفس عنها سريعاً بمجرد خطورها، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لُيَغَانُ على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»‏.‏
والباء في ‏{‏بخالصةٍ‏}‏ للسببية تنبيهاً على سبب عصمتهم‏.‏ وعبر عن هذا السبب تعبيراً مجملاً تنبيهاً على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه، ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل ‏{‏أخلصناهم‏}‏ على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن اقْتناعه من أكل لحم الضبّ ‏"‏ أني تحضرني من اللَّه حاضرة ‏"‏
أي حاضرة لا توصف، ثم بُيّنت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها ‏{‏ذِكرى الدَّارِ‏}‏‏.‏
والذكرى‏:‏ اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرّجعى والبُقيا لأن زيادة المبنَى تقتضي زيادة المعنى‏.‏ والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة، أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا، فالدار التي هي محلّ عنايتهم هي الدار الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فأقول مَا لي وللدنيا ‏"‏‏.‏ وأشار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بخالصةٍ ذكرى الدَّارِ‏}‏ إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإِلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحذر من المعصية وحبُّ الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نُهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبيء يكره بها المعاصي، فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف، وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا‏:‏ العصمة عدم خَلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية، وقوللِ المعتزلة‏:‏ إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي، فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية، وبه يظهر أيضاً أن العصمة لا تنافي التكليف وترتَّب المدححِ على الطاعات‏.‏
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر «خالصة» بدون تنوين لإِضافته إلى ‏{‏ذكرى الدارِ‏}‏ والإضافة بيانية لأن ‏{‏ذِكرى الدَّارِ‏}‏ هي نفس الخالصة، فكأنه قيل‏:‏ بذكرى الدار، وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله، وإنما ذكر لفظ «خالصة» ليقع إجمال ثم يفصل بالإِضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا إليه‏.‏ والتعريفُ بالإِضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام‏.‏ وقرأ الجمهور بتنوين «خالصةً» فيكون ‏{‏ذكرى الدار‏}‏ عطف بيان أو بدلاً مطابقاً‏.‏ وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر‏.‏ وإضافة «خالصة» إلى ‏{‏ذِكرى الدَّارِ‏}‏ في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذِكرى‏}‏ مرادف الذكر بكسر الذال، أي الذكر الحسن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا لهم لسان صدق علياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 50‏]‏ وتكون ‏{‏الدَّارِ‏}‏ هي الدار الدنيا‏.‏ ويجوز أن يكون مرادفاً للذُّكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين‏.‏ و‏{‏الدار‏}‏‏:‏ الدار الآخرة‏.‏
وعطف عليه‏:‏ ‏{‏إنهم عندنا لمن المصطفَيْن الأخيار‏}‏ لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخياراً‏.‏
و ‏{‏الأخيار‏}‏‏:‏ جمع خيّر بتشديد الياء، أو جمع خيْر بتخفيفها مثل الأموات جمعاً لميّت وميْت، وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏
‏{‏وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏
فُصل ذكر إسماعيل عن عدّه مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية، أي معظمِها فإنه أبو العدنانيين‏.‏ وجدّ للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا‏.‏
وأمّا قرنه ذِكرَه بذكر اليسَع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وكُلٌّ مِنَ الأخيارِ‏}‏، لأن التماثل في الخيريّة والاصطفاء ثابت لجميع الأنبياء والمرسلين، فلا يكون ذكرُهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء، فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في «المفتاح»، قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله‏:‏
لا والذي هو عالم أن النوى *** صبر وأن أبا الحسين كريم
حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعلق علم الله بهما وذلك مساوٍ لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية‏.‏
فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسّنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل‏.‏ فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس ‏(‏إيليا‏)‏ وكان إلياس يدافع ملوك يهوذا وملوكَ إسرائيل عن عبادة الأصنام، وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم، وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبيّن في سفر «الملوك الثاني» الإصحاح ‏(‏1 2‏.‏
‏(‏وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء ‏(‏85‏)‏ ‏{‏وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين‏.‏ وقرأ الجمهور الْيسع‏}‏ بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف، فدع عنك ما أطالوا به‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجميّ معرب، والهمزة واللام، أوْ واللامان أصلية‏.‏
وتنوين ‏{‏كلٌ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وكُلٌّ من الأخيارِ‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار‏.‏ وتقدم ذكر اليَسع في سورة الأنعام، وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏
‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ‏(‏51‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏
‏{‏هذا ذِكْرٌ‏}‏ جملة فَصلت الكلامَ السابق عن الكلام الآتي بعدها قصداً لانتقال الكلام من غرض إلى غرض مثل جملة‏:‏ أما بعد فكذا ومثل اسم الإِشارة المجرّد نحو ‏{‏هذا وإن للطاغين لشر مئاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك ومن يعظم حرمات الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏، ‏{‏وذلك ومن يعظم شعائر الله‏}‏، في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وهو كما يقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر‏:‏ هذا وقد كان كيْتَ وكَيت اه‏.‏ وهذا الأسلوب من الانتقال هو المسمى في عرف علماء الأدب بالاقتضاب وهو طريقة العرب ومن يليهم من المخضرمين، ولهم في مثله طريقتان‏:‏ أن يذكروا الخبر كما في هذه الآية وقوللِ المؤلفين‏:‏ هذا باب كذا، وأن يحذفوا الخبر لدلالة الإِشارة على المقصود، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ومن يعظم حرمات الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏، أي ذلك شأن الذي عمِلوا بما دعاهم إليه إبراهيم وذكروا اسم الله على ذبائحهم ولم يذكروا أسماء الأصنام، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك ومن يعظم شعائر الله، أي ذلك مثل الذين أشركوا بالله، وقوله بعد آيات هذا وإن للطاغين لشر مئاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ أي هذا مآب المتقين، ومنه قول الكاتب‏:‏ هذا وقد كان كَيْت وكَيْتتِ، وإنما صرح بالخبر في قوله‏:‏ ‏{‏هذا ذِكرٌ‏}‏ للاهتمام بتعيين الخبر، وأن المقصود من المشار إليه التذكر والاقتداء فلا يأخذ السامع اسم الإِشارة مأخذ الفصل المجرَّد والانتقاللِ الاقتضابي، مع إرادة التوجيه بلفظ ‏{‏ذكر‏}‏ بتحميله معنى حُسن السمعة، أي هذا ذكر لأولئك المسمَّيْن في الآخرين مع أنه تذكرة للمقتدِين على نحو المعْنَيَيْن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك في سورة الدخان‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏
ومن هنا احتمل أن تكون الإِشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن، أي القرآن ذِكر، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتنويه بشأن القرآن رَاجعاً إلى غَرض قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏
والواو في ‏{‏وإن للمتقين‏}‏ الخ، يجوز أن تكون للعطف الذكري، أي انتهى الكلام السابق بقولنا ‏{‏هذا‏}‏ ونعطف عليه ‏{‏إنَّ للمُتَّقينَ‏}‏ الخ‏.‏ ويجوز أن تكون واو الحال‏.‏ وتقدم معنى ‏{‏حسن مئاب‏.‏‏}‏ واللام في ‏{‏للمُتَّقينَ‏}‏ لام الاختصاص، أي لهم حسن مآب يوم الجزاء‏.‏ وانتصب ‏{‏جنَّاتتِ عدنٍ‏}‏ على البيان من ‏{‏حسن مئاب‏.‏‏}‏ والعدن‏:‏ الخلود‏.‏
و ‏{‏مُفَتَحَةً‏}‏ حال من ‏{‏جنَّاتتِ عدنٍ‏}‏، والعامل في الحال ما في ‏{‏للمُتَّقينَ‏}‏ من معنى الفعل وهو الاستقرار فيكون ‏(‏ال‏)‏ في ‏{‏الأبوابُ‏}‏ عوضاً عن الضمير‏.‏ والتقدير‏:‏ أبوابها، على رأي نحاة الكوفة، وأما عند البصريين ف ‏{‏الأبواب‏}‏ بدل من الضمير في ‏{‏مُفتَّحَةً‏}‏ على أنه بدل اشتمال أو بعض والرابط بينه وبين المبدل منه محذوف تقديره‏:‏ الأبواب منها‏.‏ وتفتيح الأبواب كناية عن التمكين من الانتفاع بنعيمها لأن تفتيح الأبواب يستلزم الإِذن بالدخول وهو يستلزم التخلية بين الداخل وبين الانتفاع بما وراء الأبواب‏.‏
وقوله ‏{‏مُتَّكِئينَ فيها‏}‏ تقدم قريب منه في سورة يس‏.‏
و ‏{‏يَدْعُونَ‏}‏‏:‏ يَأمرون بأن يجلب لهم، يقال‏:‏ دعا بكذا، أي سأل أن يحضر له‏.‏ والباء في قولهم‏:‏ دعا بكذا، للمصاحبة، والتقدير‏:‏ دعا مدعُوَّاً يصاحبه كذا، قال عدي بن زيد‏:‏
ودعَوا بالصَّبوح يوماً فجاءت *** قينَة في يمينها إبريق
قال تعالى في سورة ‏[‏يس‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏لهم فيها فاكهة ولهم ما يَدّعون‏}‏
وانتصب مُتَّكِئينَ‏}‏ على الحال من «المتقين» وهي حال مقدرة‏.‏ وجملة ‏{‏يَدْعُونَ‏}‏ حال ثانية مقدرة أيضاً‏.‏
والشراب‏:‏ اسم للمشروب، وغلب إطلاقه على الخمر إذا لم يكن في الكلام ذكر للماء كقوله آنفاً ‏{‏هذا مغتسَل بارد وشراب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وتنوين ‏{‏شراب‏}‏ هنا للتعظيم، أي شراب نفيس في جنسه، كقول أبي خراش الهذلي‏:‏
لقد وقعت على لحم ***
و ‏{‏عندهم قاصِراتُ الطَّرْفِ‏}‏ عند‏:‏ ظرف مكان قريب و‏{‏قَاصِرات الطرف‏}‏ صفة لموصوف محذوف، أي نساء قاصرات النظر‏.‏ وتعريف ‏{‏الطرف‏}‏ تعريف الجنس الصادقُ بالكثير، أي قاصرات الأطراف‏.‏ و‏{‏الطرف‏}‏‏:‏ النظر بالعَين، وقصر الطرف توجيهه إلى منظور غير متعدد، فيجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهن قاصرات أطرافَهن على أزواجهن‏.‏ فالأطراف المقصورة أطرافهن‏.‏ وإسناد ‏{‏قاصرات‏}‏ إلى ضميرهن إسناد حقيقي، أيْ لا يوجّهْن أنظارهن إلى غيرهم وذلك كناية عن قصر محبتهن على أزواجهن‏.‏
ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهن يقصرن أطرافَ أزواجهن عليهن فلا تتوجه أنظار أزواجهن إلى غيرهن اكتفاء منهم بحسنهن وذلك كناية عن تمام حسنهن في أنظار أزواجهن بحيث لا يتعلق استحسانهم بغيرهن، فالأطراف المقصورة أطراف أزواجهن، وإسناد ‏{‏قاصرات‏}‏ إليهن مجاز عقلي إذْ كان حسنهن سببَ قصْر أطراف الأزواج فإنهن ملابسات سَبب سَبَببِ القصر‏.‏
و ‏{‏أَتراب‏}‏‏:‏ جمع تِرْب بكسر التاء وسكون الراء، وهو اسم لمن كان عمره مساوياً عُمرَ من يُضاف إليه، تقول‏:‏ هو تِرب فلان، وهي ترب فلانة، ولا تلحق لفظَ ترب علامةُ تأنيث‏.‏ والمراد‏:‏ أنهن أتراب بعضُهن لبعض، وأنهن أتراب لأزواجهن لأن التحابَّ بين الأقران أمكن‏.‏
والظاهر أن ‏{‏أتْرَابٌ‏}‏ وصف قائم بجميع نساء الجنة من مخلوقاتتِ الجنةِ ومن النساء اللاتي كنّ أزواجاً في الدنيا لأصحاب الجنة، فلا يكون بعضهن أحسن شباباً من بعض فلا يلحق بعضَ أهل الجنة غَضّ إذا كانت نساء غيره أجدّ شباباً، ولئلا تتفاوت نساء الواحد من المتقين في شرخ الشباب، فيكون النعيم بالأقل شباباً دون النعيم بالأجدّ منهن‏.‏ وتقدم الكلام على ‏{‏وعندهم قاصرات الطرف عين‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 48‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏
‏{‏هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏53‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي فيجوز أن يكون كلاماً قيل للمتقين وقت نزول الآية فهو مؤكِّد لمضمون جملة ‏{‏وإن للمتقين لحسن مئابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏ والإِشارة إذن إلى ما سبق ذكره من قوله‏:‏ ‏{‏لحسن مئاب‏}‏ فاسم الإِشارة هنا مغاير لاستعماله المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏هذا ذِكرٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وجيء باسم الإِشارة القريب تنزيلاً للمشار إليه منزلة المشار إليه الحاضر إيماء إلى أنه محقق وقوعه تبشيراً للمتقين‏.‏ والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ على ظاهره‏.‏
ويجوز أن يكون كلاماً يقال للمتقين في الجنة فتكون الجملة مقولَ قول محذوف هو في محل حال ثانية من «المتقين»‏.‏ والتقدير‏:‏ مقولاً لهم‏:‏ هذا ما توعدون ليوم الحساب‏.‏ والقول‏:‏ إما من الملائكة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏، وإما من جانب الله تعالى نظير قوله لضدهم‏:‏ ‏{‏ونقول ذوقوا عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏‏.‏
والإِشارة إذن إلى ما هو مشاهد عندهم من النعيم‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ بتاء الخطاب فهو على الاحتمال الأول التفات من الغيبة إلى الخطاب لتشريف المتقين بعزّ الحضور لخطاب الله تعالى، وعلى الاحتمال الثاني الخطاب لهم على ظاهره‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحده «يوعدون» بياء الغيبة فهو على الاحتمال الأول التفات عن توجيه الخطاب إليهم إلى توجيهه للطاغين لزيادة التنكيل عليهم‏.‏ والإِشارةُ إلى المذكور من «حسن المئاب»، وعلى الاحتمال الثاني كذلك وُجّه الكلام إلى أهل المحشر لتنديم الطاغين وإدخال الحسرة والغمّ عليهم‏.‏ والإِشارة إلى النعيم المشاهد‏.‏
واللام في ‏{‏لِيَوْممِ الحِسَابِ‏}‏ لام العلة، أي وعدتموه لأجل يوم الحساب‏.‏ والمعنى لأجل الجزاء يوم الحساب، فلما كان الحساب مؤذناً بالجزاء جعل اليوم هو العلة‏.‏ وهذه اللام تفيد معنى التوقيت تبعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ تنزيلاً للوقت منزلة العلة‏.‏ ولذلك قال الفقهاء‏:‏ أوقات الصلوات أسباب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏
يجري محمل اسم الإِشارة هذا على الاحتمالين المذكورين في الكلام السابق‏.‏
والعدول عن الضمير إلى اسم الإِشارة لكمال العناية بتمييزه وتوجيه ذهن السامع إليه‏.‏ وأطلق الرزق على النعمة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدهم قال حين يضاجع أهله‏:‏ اللهم جنّبنا الشيطانَ وجنّب الشيطان ما رزَقْتنا ثم وُلِد لهما ولد لم يمسه شيطان أبداً» فسمّى الولد رزقاً‏.‏
والتوكيد ب ‏{‏إن‏}‏ للاهتمام‏.‏ والنفاد‏:‏ الانقطاع والزوال‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏
‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏‏}‏
اسم الإِشارة ‏{‏هذا‏}‏ مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله‏.‏ والقول فيه كالقول في ‏{‏هذا ذِكرٌ وإنَّ للمتقين لحُسنَ مئَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ هذا شأن المتقين، أو هذا الشأن، أو هذا كما ذُكر‏.‏
وجملة ‏{‏يَصْلَونَهَا‏}‏ حال من ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ وهي حال مؤكدة لمعنى اللام الذي هو عامل في «الطاغين» فإن معنى اللام أنهم تختصّ بهم جهنم واختصاصها بهم هو ذَوْق عذابها لأن العذاب ذاتي لجهنم‏.‏
والطاغي‏:‏ الموصوف بالطغيان وهو‏:‏ مجاوزة الحد في الكِبر والتعاظم‏.‏ والمراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبَّروا بعظمتهم على قبول الإِسلام، وأعرضوا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بكبر واستهزاء، وحكموا على عامة قومهم بالابتعَاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين وعن سماع القرآن، وهم‏:‏ أبو جهل وأميةُ بن خلف، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، والعاصي بن وائل وأضرابهم‏.‏
والفاء في ‏{‏فَبِئْسَ المِهَادُ‏}‏ لترتيب الإِخبار وتسببه على ما قبله، نظير عطف الجمل ب ‏(‏ثُمّ‏)‏ وهي كالفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تقتلوهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فلا تولوهم الأدبار في‏}‏ سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذا استعمال بديع كثير في القرآن وهو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة ولم يكشف عنه في «مغني اللبيب»‏.‏
والمعنى‏:‏ جهنم يصلونها، فيتسبب على ذلك أن نذكر ذَم هذا المقرّ لهم، وعبر عن جهنم ب ‏{‏المِهَادُ‏}‏ على وجه الاستعارة، شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد وهو فراش النائم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم من جهنم مهاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 41‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏
‏{‏هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏
اسم الإِشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏هذا ما توعدون ليوم الحساب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 53‏]‏ والقول فيه مثله‏.‏ وإشارة القريب لتقريب الإِنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏جهنَّم يصلونها‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 56‏]‏ من الصلي ومن معنى العذاب، أو الإِشارة إلى شرّ من قوله‏:‏ ‏{‏لَشَرَّ مئابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏{‏حميم‏}‏ خبر عن اسم الإِشارة‏.‏ ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيرِه من شكله، والمعنى‏:‏ أن ذلك لهم لقوله‏:‏ ‏{‏وإنّ للطاغِينَ لشرَّ مَئابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ فما فُصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام‏.‏ والحميم‏:‏ الماء الشديد الحرارة‏.‏
والغَساق‏:‏ قرأه الجمهور بتخفيف السين‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها‏.‏ قيل هما لغتان وقيل‏:‏ غَسَّاق بالتشديد مبالغة في غَاسق بمعنى سائل، فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسماً لأن الأسماء التي على زنة فَعَّال قليلة في كلامهم‏.‏
والغساق‏:‏ سائل يسيل في جهنم، يقال‏:‏ غَسَق الجُرح، إذا سال منه ماء أصفر‏.‏ وأحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يُسْقَوْنه كقوله‏:‏ ‏{‏بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب، وبذلك يومئ كلام الراغب‏.‏ وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه‏.‏ والأظهر‏:‏ أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسماً لشيء يشبه ما يغسِقَ به الجرح، ولذلك سمّي بالمهل والصديد في آيات أخرى‏.‏
وجملة ‏{‏فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏ معترضة بين اسم الإِشارة والخبر عنه، وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو، والفاء فيه كالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبئس المِهادُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 56‏]‏ وقد تقدمت آنفاً‏.‏
وموقع الجملة كموقع قوله‏:‏ ‏{‏فامنن أو أمسك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39‏]‏ كما تقدم آنفاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وءَاخَرُ‏}‏ صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ وضمير ‏{‏فليذوقوه‏}‏ ووصفُ آخر يدل على مغاير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن شَكلِهِ‏}‏ يدل على أنه مغاير له بالذات وموافق في النوع، فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر‏.‏
والشَّكل بفتح الشين‏:‏ المثل، أي المماثل في النوع، أي وعذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم والغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب والألم‏.‏ وأفرد ضمير ‏{‏شَكلهِ‏}‏ مع أن معاده ‏{‏حَميمٌ وغسَّاقٌ‏}‏ نظراً إلى إفراد اسم الإِشارة، أو إلى إفراد ‏(‏مذوق‏)‏ المأخوذ من ‏(‏يذوقوه‏)‏، فقوله‏:‏ ‏{‏مِن شكلهِ‏}‏ صفة ل ‏{‏آخر‏.‏
والأزواج‏:‏ جمع زوج بمعنى النوع والجنس، وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 3‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ وعذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة‏.‏ ولما كان اسماً شائعاً في كل مغاير صحّ وصفه ب ‏{‏أزواج‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وءَاخَرُ‏}‏ بصيغة الإِفراد‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب ‏{‏وأُخَر‏}‏ بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف، أي وأزواج أخر من شكل ذلك العذاب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏
‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏‏}‏
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره‏:‏ ‏{‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏، وبه فسر قتادة وابن زيد، وجريانه بينهم ليزدادوا مقتاً بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة‏.‏
وأسلوب الكلام يقتضي متكلماً صادراً منه، وأسلوبُ المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية‏.‏ فالتقدير‏:‏ يقولون، أي الطاغون بعضهم لبعض‏:‏ هذا فوج مقتحم معكم، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أُقحم فيهم لَيسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا، وذلك ما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أنتم قدمتموه لنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏ أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا‏.‏ وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم تكسبون‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 39‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأَقْبَلَ بَعْضُهُم على بَعْضضٍ يَتَسَآءَلُونَ‏}‏ الآيات من سورة ‏{‏الصافات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وأوضحُ من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية ‏{‏إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهللِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏‏.‏
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين‏.‏ وجملة ‏{‏هذا فوجٌ‏}‏ إلى آخرها مقول القول المحذوف‏.‏
والفوج‏:‏ الجماعة العظيمة من الناس، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ويوم نحشر من كل أمة فوجاً‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 83‏]‏‏.‏
والاقتحام‏:‏ الدخول في الناس، و‏(‏مع‏)‏ مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون، وأن الفوج المقتحم أتباع لهم، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا مرحباً بهم‏}‏ معترضة مستأنفة لإِنشاء ذم الفوج‏.‏ و‏{‏لاَ مَرْحَباً‏}‏ نفيٌ لكلمةٍ يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد‏.‏ و‏{‏مرحباً‏}‏ مصدر بوزن المفعل، وهو الرُّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب، أي أتيت رحباً، أي مكاناً ذا رحب، فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا‏:‏ لا مرحباً به، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة‏:‏
لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح‏:‏ حبّذا، فإذا أرادوا ذمّاً قالوا‏:‏ لا حبّذا‏.‏ وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة‏:‏
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه *** إذا ذكرت ميَّ فلا حبّذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله‏:‏ السعة المجازية، وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد، وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جرياً على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء‏.‏
وجملة ‏{‏إنهم صَالُوا النَّارِ‏}‏ خبر ثان عن اسم الإِشارة، والخبر مستعمل في التضجّر منهم، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم‏:‏ ‏{‏مقتحِم معكم لا مرحباً بهم‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏
‏{‏قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏‏}‏
فسَمِعَهُم الأتباع فيقولون‏:‏ ‏{‏بل أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ إضراباً عن كلامهم‏.‏ وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرّد من حرف العطف، أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال‏:‏ لاَ مرحباً بِكم، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر‏.‏ و‏{‏بل‏}‏ للإِضراب الإِبطالي لردّ الشتم عليهم وأنهم أولى به منهم‏.‏
وذكر ضمير المخاطَبين في قوله‏:‏ ‏{‏أنتُم لا مرحَباً بكم‏}‏ للتنصل من شتمهم، أي أنتم المشتومون، أي أولى بالشتم منا، وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإِبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصراً ولا تقَوِّياً لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية، أي أنتم يقال لكم‏:‏ لا مرحباً بكم‏.‏
وإذا قد كان قول‏:‏ مَرْحباً، إنشاءَ دعاء بالخير، وكان نفيُه إنشاءَ دعاء بضده، كان قوله «بهم» بياناً لمن وُجّه الدعاء لهم، أي إيضاحاً للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ و«بهم» بيان لمدعوّ عليهم‏.‏ وقال الهمذاني في شرحه «للكشاف»‏:‏ يعني‏:‏ البيان المصطلح، كأن قائلاً يقول‏:‏ بمن يحصل هذا الرحب‏؟‏ فيقول‏:‏ بهم‏.‏ وهذا كما في ‏{‏هيتَ لك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين‏.‏ وهذا المعنى أغفله ابن هشام في معاني الباء‏.‏ وأشار الهمذاني إلى أنه متولد من معنى السببية‏.‏ والأحسن عندي أن يكون متولداً من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإِخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل‏.‏
وجملة ‏{‏أنتم قدتمتوهُ لنا‏}‏ علة لقلب سبب الشتم إليهم، أي لأنكم قدمتم العذاب لنا، فضمير النصب في ‏{‏قدَّمْتُمُوهُ‏}‏ عائد إلى العذاب المشاهد، وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ، مثل ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ووقوع ‏{‏أنتُمْ‏}‏ قبل ‏{‏قدَّمْتُمُوهُ‏}‏ المسندِ الفعلي يفيد الحصر، أي لم يُضلنا غيركم فأنتم أحقّاء بالعذاب‏.‏
والتقديم‏:‏ جعل الشيء قُدَّام غيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181، 182‏]‏‏.‏ فتقديم العذاب لهم جعله قُدامهم، أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم‏.‏ وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سبباً في تقديم العذاب لأتباعهم بإِغوائِهم وكان العذاب جزاءً عن الغواية‏.‏ وجُعل العذاب مقدماً وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب، وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله‏:‏ ‏{‏قدَّمْتُمُوهُ‏}‏ مجازان عقليان‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ القَرَارُ‏}‏ موقعه كموقع قوله آنفاً ‏{‏فبئس المهاد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وهو ذَم لإِقامتهم في جهنم تشنيعاً عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه‏.‏ والمعنى‏:‏ فبئس القرار ما قدَّمتموه لنا، أي العذاب‏.‏ والقرار‏:‏ المكث‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏
‏{‏قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏‏}‏
‏{‏قالوا‏}‏ أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع، فهذا من كلام الذين قالوا ‏{‏بل أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏ لأن قولهم‏:‏ ‏{‏من قدَّم لنا هذا‏}‏ يعين هذا المحمل‏.‏ ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل ‏{‏قالوا‏}‏ وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول‏.‏
فأما إعادة فعل القول فلإِفادة أن القائلين هم الأتباع فأعِيد فعل القول تأكيداً للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعاً لأنه محتمل لضمير القائلين‏.‏
والمقصود من حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم‏.‏ وأما تجريد فعل ‏{‏قالوا‏}‏ عن العاطف فلأنهُ قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي يكون على مثال الموكَّد‏.‏
ولا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأن الدعاء بعنوان ‏{‏من قدَّم لنا هذا‏}‏ يعين أن قائليه هم القائلون ‏{‏أنتُم قدَّمْتُمُوهُ لَنَا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏، وأن الذين قدّموا لهم هم الطاغون‏.‏ وفي معنى هذه الآية آية سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏قالت أُخراهم لأُولاهم ربنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏
و ‏{‏مَن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من قدَّمَ لنا هذَا‏}‏ موصولة، وجملة ‏{‏فَزِدْهُ‏}‏ خبر عن ‏{‏مَن‏}‏، واقتران الخبر بالفاء جرى على معاملة الموصول معاملة الشرط في قرن خبره بالفاء وهو كثير، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 34‏]‏‏.‏
والضعف، بكسر الضاد‏:‏ يستعمل اسم مصدر ضَعَّف وضاعف، فهو اسم التضعيف والمضاعفة، أي تكرير المقدار وتكرير القوة، وهو من الألفاظ المتضايفة المعاني كالنصف والزوج‏.‏
ويستعمل اسماً بمعنى الشيء المضاعف، وهذا هو قياس زنة فِعْل بكسر الفاء وسكون العين، فهو بمعنى‏:‏ الشيء الذي ضوعف لأن زنه فِعْل تدلّ على ما سلط عليه فعل نحو ذِبْح، أي مذبوح‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏
‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏هذا فوجٌ مُقتحمٌ معكُم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 59‏]‏ على ما قدّر فيه من فعللِ قَول محذوففٍ كما تقدم، فهذا من قول الطاغين فإنهم الذين كانوا يحقِّرون المسلمين‏.‏
والاستفهام في ‏{‏ما لنا لا نرى رِجالاً‏}‏ استفهام يلقيه بعضهم لبعض تلهّفاً على عدم رؤيتهم من عرفوهم من المسلمين مكنًّى به عن ملام بعضهم لبعض على تحقيرهم المسلمين واعترافهم بالخطأ في حسبانهم‏.‏ فليس الاستفهام عن عدم رؤيتهم المسلمين في جهنم استفهاماً حقيقياً ناشئاً عن ظن أنهم يجدون رجال المسلمين معهم إذ لا يخطر ببال الطاغين أن يكون رجال المسلمين معهم، كيف وهم يعلمون أنهم بضد حالهم فلا يتوهمونهم معهم في العذاب، ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقياً استفهموا عن مصير المسلمين لأنهم لم يروهم يومئذٍ، إذ قد علموا أن الناس صاروا إلى عالَم آخر وهو الذي كانوا يُنذرون به، ويكون قولهم‏:‏ ‏{‏ما لنا لا نرى رِجالاً‏}‏ الخ تمهيداً لقولهم‏:‏ ‏{‏أتخذناهم سخرِيّاً‏}‏ على كلتا القراءتين الآتي ذكرهما‏.‏
و ‏{‏الأشرار‏}‏‏:‏ جمع شرَ الذي هو بمعنى الأشر، مثل الأخيار جمع خَيْر بمعنى الأَخْيَر، أو هو‏:‏ جمع شِرِّير ضد الخيِّر، أي الموصوفين بشر الحالة، أي كُنا نحسبهم أشقياء قد خسروا لذة الحياة باتّباعهم الإِسلام ورضاهم بشظف العيش، وهم يعنون أمثال بلال، وعمار بن ياسر، وصهيب، وخباب، وسلمان‏.‏ وليس المراد أنهم يعدونهم أشراراً في الآخرة مستحقين العذاب فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ‏{‏أَتَّخَذْناهُم‏}‏ بهمزة قطع هي همزة الاستفهام، وحذفت همزة الوصل من فعل ‏(‏اتخذنا‏)‏ لأنها لا تثبت مع همزة الاستفهام لعدم صحة الوقف على همزة الاستفهام، فجملة ‏{‏أتخذناهم‏}‏ بدل من جملة ‏{‏ما لنا لا نرى رِجالاً‏}‏‏.‏ و‏{‏أم‏}‏ حرف إضراب، والتقدير‏:‏ بل زاغت عنهم أبصارنا‏.‏
والزيغ‏:‏ الميل عن الجهة، أي مالت أبصارنا عن جهتهم فلم تنظرهم‏.‏
و ‏(‏أل‏)‏ في ‏{‏الأبْصَارُ‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي أبصارنا، فيكون المعنى‏:‏ أكان تحقيرنا إياهم في الدنيا خطأ‏.‏ وكنّى عنه باتخاذهم سخرياً لأن في فعل ‏{‏أتخذناهم‏}‏ إيماء إلى أنهم ليسوا بأهل للسخرية، وهذا تندم منهم على الاستسخار بهم‏.‏
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف ‏{‏أتخَذْناهُم‏}‏ بهمزة وصل على أن الجملة صفة ‏{‏رِجَالاً‏}‏ ثانية وعليه تكون ‏{‏أم منقطعة للإِضراب عن قولهم اتخذناهم سِخرياً‏}‏ أي بل زاغت عنهم الأبصار‏.‏
والسخريَّ‏:‏ اسم مصدر سَخِر منه، إذا استهزأ به، فالسخريُّ الاستهزاء، وهو دال على شدة الاستهزاء لأن ياءَه في الأصل ياء نسب وياء النسب تأتي للمبالغة في الوصف‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم السين‏.‏ وقرأه الباقون بكسر السين كما تقدم في سورة المؤمنين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏
‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏‏}‏
تذييل وتنهية لوصف حال الطاغين وأتباعهم، وعذابهم، وجدالهم‏.‏ وتأكيد الخبر بحرف التوكيد منظور فيه لما يلزم الخبر من التعريض بوعيد المشركين وإثبات حشرهم وجزائهم بأنه حق، أي ثابت كقوله‏:‏ ‏{‏وإن الدين لواقع‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والإِشارة إلى ما حُكي عنهم من المقاولة‏.‏ وسميت المقاولة تخاصماً، أي تجادلاً وإن لم تقع بينهم مجادلة، فإن الطاغين لم يجيبوا الفوج على قوله‏:‏ ‏{‏بلْ أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 60‏]‏، ولكن لمّا اشتمَلت المقاولة على ما هو أشد من الجدال وهو قول كل فريق للآخر ‏{‏لا مرحباً بكم‏}‏ كان الذم أشد من المخاصمة فأطلق عليه اسم التخاصم حقيقة‏.‏ وتقدم ذكر الخصام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان‏}‏ في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وأضيف هذا التخاصم إلى أهل النار كلهم اعتباراً بغالب أهلها لأن غالب أهل النار أهل الضلالات الاعتقادية وهم لا يَعدون أن يكونوا دعاة للضلال أو أتباعاً للدعاة إليه فكلهم يجري بينهم هذا التخاصم، أما من كان في النار من العصاة فكثير منهم ليس عصيانه إلا تبعاً لهواه مع كونه على علم بأن ما يأتيه ضلالة لم يُسَوّله له أحد‏.‏
و ‏{‏أهْللِ النَّارِ‏}‏ هم الخالدون فيها، كقولهم‏:‏ أهل قرية كذا، فإنه لا يشمل المغترب بينهم، على أن وقت نزول هذه الآية لم يكن في مكة غير المسلمين الصالحين وغير المشركين، فوصف أهل النار يومئذٍ لا يتحقق إلا في المشركين دون عصاة المسلمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تخاصُمُ أهللِ النارِ‏}‏ إمّا خبرُ مبتدأ محذوف، تقديره‏:‏ هو تخاصم أهل النار، والجملة استئناف لزيادة بيان مدلول اسم الإِشارة، أو هو مرفوع على أنه خبر ثان عن ‏{‏إنّ،‏}‏ أو على أنه بدل من ‏{‏لَحَقٌّ‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏
‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏‏}‏
هذا راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقال الكافرونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أءُنزِلَ عليهِ الذكرُ من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏، فلما ابتدرهم الجواب عن ذلك التكذيب بأن نظَّر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الأنبياء الذين صبروا، واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه فأمره الله أن يقول‏:‏ ‏{‏إنمَّا أنا مُنذِرٌ‏}‏ مقابل قولهم‏:‏ ‏{‏هذا ساحِرٌ كذَّابٌ‏}‏، وأن يقول‏:‏ ‏{‏ما من إله إلا الله‏}‏ مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم‏:‏ ‏{‏أجَعَلَ الآلهة إلها واحداً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ فالجملة استئناف ابتدائي‏.‏ وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول ‏{‏ما من إله إلا الله‏}‏ إماء إلى رد إنكارهم‏.‏ وذكر صفة ‏{‏القهّار‏}‏ تعريض بتهديد المشركين بأن الله قادر على قهرهم، أي غلبهم‏.‏ وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏‏.‏
‏(‏وإتباع ذلك بصفة رَبُّ السمواتتِ والأرضِ وما بينهما‏}‏ تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها‏.‏ ووصف ‏{‏العزيزُ‏}‏ تمهيد للوصف ب ‏{‏الغَفَّارُ‏}‏، أي الغفّار عن عزّة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو‏.‏ والمقصود من وصف ‏{‏الغفَّارُ‏}‏ هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف ‏{‏القهَّارُ‏}‏ لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جرياً على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏
‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏
إعادة الأمر بالقَول هنا مستأنَفاً‏.‏ والعدولُ عن الإِتيان بحرف يعطف المقول أعني ‏{‏هُوَ نَبؤٌا عَظِيمٌ‏}‏ على المقول السابق أعني ‏{‏أنا مُنذِرٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 65‏]‏، عدول يشعر بالاهتمام بالمقول هنا كي لا يؤتى به تابعاً لمقوللٍ آخر فيضعف تصدي السامعين لوعيه‏.‏
وجملة ‏{‏قُلْ هو نبؤا عظيمٌ أنتُم عنه مُعرضونَ‏}‏ يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالاً من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان، فيكون ضمير ‏{‏هُوَ‏}‏ ضميرَ شأن يفسره ما بعده وما يُبيّن به ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 71‏]‏ جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقاً لتلقّيها فيكون المراد بالنبأ نبأَ خَلق آدم وما جرى بعده، ويكون ضمير ‏{‏يَخْتصِمُونَ‏}‏ عائداً إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة‏.‏ ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلَّغ إليه من الملائكة أمرَ الله بالسجود لآدم، فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعُدّ منهم قبل أن يطرد من السماء‏.‏
ويجوز أن تكون جملة ‏{‏قُلْ هو نبؤا عظيمٌ‏}‏ الخ تذييلاً للذي سبق من قوله‏:‏ ‏{‏وإنَّ للمتَّقينَ لحُسنَ مئابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏ إلى هنا، تذييلاً يشعر بالتنويه به وبطلب الإِقبال على التدبر فيه والاعتبار به‏.‏ وعليه يكون ضمير ‏{‏هُوَ‏}‏ ضميراً عائداً إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أُتِي لتعريفه بضمير المفرد‏.‏
والمراد بالنبأ‏:‏ خبر الحشر وما أُعد فيه للمتقين من حسن مآب، وللطاغين من شر مآب، ومن سوء صحبة بعضهم لبعض، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب، وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يَعدّونهم من الأشرار‏.‏ ووصف النبأ ب ‏{‏عَظِيمٌ‏}‏ تهويل على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله‏:‏ ‏{‏فساد كبير‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏، فتم الكلام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنتم عنه معرضون‏}‏‏.‏
فتكون جملة ‏{‏ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نَذِيرٌ مبينٌ‏}‏ استئنافاً للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏، ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن‏.‏
وتكون جملة ‏{‏إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 71‏]‏ إلى آخره استئنافاً ابتدائياً‏.‏
وعلى هذا فضمير ‏{‏يختصمون‏}‏ عائد إلى أهل النار من قوله‏:‏ ‏{‏تخاصُمُ أهللِ النارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏ إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان لي من علم بعالَم الغيب وما يجري فيه من الإِخبار بما سيكون إذ يَختصم أهل النار في النار يوم القيامة‏.‏
وعلى كلا التفسيرين فمعنى ‏{‏أنتُم عنهُ مُعْرِضُونَ‏}‏، أنهم غافلون عن العلم به فقد أُعلموا بالنبأ بمعناه الأول وسيَعلَمون قريباً بالنبأ بمعناه الثاني‏.‏
وجيء بالجملة الاسمية في قوله‏:‏ ‏{‏أنتُم عنه معرِضُونَ‏}‏ لإِفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم، فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنُه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخِرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارْعَوَوْا عن كفرهم‏.‏ وأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني، فتأويلُ تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاهُ من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصداً للشَّرّ بهم‏.‏
ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر قِصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود، فإن هذه السورة في ترتيب نزول سور القرآن لا يُوجد ذكر قصة آدم في سورة نزلت قبلَها‏.‏ فذلك وجهُ التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرُها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه‏.‏ وأيًّا مَّا كان فقوله‏:‏ ‏{‏أنتُم عنْهُ مُعرِضُونَ‏}‏ توبيخ لهم وتحميق‏.‏
وجملة ‏{‏ما كَانَ لي من علممٍ بالملأ الأعلى إذ يختصمونَ‏}‏ اعتراض إبلاغ في التوبيخ على الإِعراض عن النبأ العظيم، وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحىً به من الله وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلى عمله لولا وحي الله إليه به‏.‏ وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ دال على أن المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 44‏]‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالمَلأ الأعلى‏}‏ على كلا المعنيين للنبأ، لتعدية ‏{‏عِلم‏}‏ لتضمينه معنى الإِحاطة، وهو استعمال شائع في تعدية العلم‏.‏ ومنه ما في حديث سؤال الملكين في «الصحيح» فيقال له‏:‏ ما علمك بهذا الرجل‏.‏ ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية، أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى، أي ما كنت حاضراً في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله‏:‏ ‏{‏وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 44‏]‏‏.‏
والملأُ‏:‏ الجماعة ذات الشأن، ووصفه ب ‏{‏الأعلى‏}‏ لأن المراد ملأُ السماوات وهم الملائكة ولهم علوّ حقيقي وعلوّ مجازيّ بمعنى الشرف‏.‏
و ‏{‏إذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ ظرف متعلق بفعل ‏{‏ما كانَ لي من عِلم‏}‏ أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين، أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء‏.‏ والتعبير بالمضارع في موضع المضيّ لقصد استحضار الحالة، أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى، أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر، والمضارع على أصله من الاستقبال‏.‏
والاختصام‏:‏ افتعال من خَصمَه، إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خَصَم‏.‏
وجملة ‏{‏إن يوحى إليَّ إلاَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏ما كانَ لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون‏}‏، أي ما علمتُ بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحَى الله إليّ ذلك لأكون نذيراً مبيناً‏.‏
وقد رُكّبت هذه الجملة من طريقين للقصر‏:‏ أحدهما طريق النفي والاستثناء، والآخر طريق ‏{‏أَنما‏}‏ المفتوحة الهمزة وهي أخت ‏(‏إنما‏)‏ المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر، ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة و‏(‏ما‏)‏ الكافّة وليست ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة إلا ‏(‏إِن‏)‏ المكسورة تُغَيَّر كسرة همزتها إلى فتحة لتفيد معنىً مصدرياً مشرباً ب ‏(‏أَنْ‏)‏ المصدرية إشراباً بديعاً جعل شعاره فتح همزتها لتشابه ‏(‏أَنْ‏)‏ المصدرية في فتح الهمزة وتشابه ‏(‏أَنَّ‏)‏ في تشديد النون، وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية‏.‏ وتكون ‏{‏أَنما‏}‏ مفتوحةَ الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام‏.‏ والذي يقتضيه مقام الكلام هنا أن فتح همزة ‏{‏أَنما‏}‏ لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها ‏{‏أنما‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إلاّ لأَنما أنا نذير، أي إلا لعلّة الإِنذار، أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به، أي ليس لمجرد القصص‏.‏
فالاستثناء من علل، وقد نُزِّل فعل ‏{‏يوحى‏}‏ منزلة اللازم، أي ما يوحى إلي وحيٌ فلا يقدّر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي‏.‏
وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة ‏{‏ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون‏}‏ المبيّنة بها جملةُ ‏{‏قُل هُوَ نبؤا عظيم أنتم عنه مُعرضون‏}‏، إذ لا مناسبة لو جعل ‏{‏أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ‏}‏ مستثنى من نائب فاعل الوحي بأن يقدر‏:‏ إن يوحى إليّ شيء إلا أنما أنا نذير مبين، أي ما يوحى إليّ شيء إلا كوني نذيراً، وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتّضح رجحان تقدير العلة عليه‏.‏
فأفادت جملة ‏{‏إن يوحى إليَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ‏}‏ حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإِنذار وحصر صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة النذارة، ويستلزم هذان الحصران حصراً ثالثاً، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا‏.‏ فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور‏:‏ اثنان منها بصريح اللفظ، والثالث بكناية الكلام، وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وهذه الحصور‏:‏ اثنان منها إضافيان، وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة النذارة، وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعباً واعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون‏.‏ وعلم من هذا أن ذكر نبأ خلق آدم قصد به الإِنذار من كيد الشيطان‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏إلاَّ إنَّما‏}‏ بكسر همزة ‏{‏إنما‏}‏ على تقدير القول، أي ما يوحى إلا هذا الكلام‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 74‏]‏
‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏
موقع ‏{‏إذْ قالَ ربُّكَ للملائِكة‏}‏ صالح لأن يكون استئنافاً فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون ‏{‏إذْ قَالَ‏}‏ متعلقاً بفعل محذوف تقديره‏:‏ أُذكر، على أسلوب قوله‏:‏ ‏{‏وإنك لتلقى القرآن من لَدُن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 6، 7‏]‏، ونظائِرِه‏.‏
فإمّا على جعل النبأ بمعنى نبأ خلق آدم فإن جملة ‏{‏إذْ قال ربك‏}‏ بدل من ‏{‏إذْ يختصمون‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69‏]‏ بدلَ بعض من كل لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس، فقد روى الترمذي بسنده عن مالك بن يخامر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه رأى ربه تعالى فقال له‏:‏ يا محمد فِيمَ يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قلت‏:‏ لا أدري‏.‏ قالها ثلاثاً‏.‏ ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه، قلت‏:‏ في الكفارات‏.‏ قال‏:‏ ما هن‏؟‏ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد ‏"‏ وذكرَ أشياء من الأعمال الصالحة ‏(‏ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق آدم‏)‏‏.‏ وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقال عن البخاري‏:‏ إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في «صحيحه» وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية، وإنما جعله الترمذي في كتاب «التفسير» لأن ما ذُكر فيه بعضٌ مما يختصم فيه أهل الملأ الأعلى مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصة خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الملائكةُ‏}‏ يقتضي أنهم قالوا كلاماً دَل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به، بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبيّن ما أجمل هنا وإن كان متأخراً إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتّعاظ بكبِرْ إبليس دون ما نشأ عن ذلك‏.‏ ويَجوز أن يكون ‏{‏إذْ قالَ ربُّكَ‏}‏ منصوباً بفعل مقدر، أي اذكر إذ قال ربك للملائكة، وهو بناء على أن ضمير ‏{‏هُو نبؤا عظيمٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 67‏]‏ ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن ‏{‏إذْ يختصمون‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69‏]‏ مراد به خصومة أهل النار‏.‏ وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر، وأبينُها ما في سورة البقرة‏.‏
ووقع في سورة الحِجْر ‏(‏31‏)‏ ‏{‏إلا إبليس أبى‏}‏ وفي هذه السورة ‏{‏إلا إبليس استكْبَر‏}‏ فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإِباية‏.‏ ووقعت هنا زيادة ‏{‏وكانَ مِنَ الكافِرينَ‏}‏، وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر ‏(‏31‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أن يكون مع الساجدين‏}‏ الإِبَاية من الكون من الساجدين لله، أي المنزهي الله عن الظلم والجهل‏.‏
ووقع في هذه السورة ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏، ومعناه أنه كان كافراً ساعتئذٍ، أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبلُ كافراً، ففعل ‏{‏كان‏}‏ الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت‏.‏
قال الزجّاج‏:‏ «‏(‏كان‏)‏ جَارٍ على باب سائر الأفعال الماضية إلاّ أن فيه إخباراً عن الحَالة فيما مضى، إذا قلت‏:‏ كان زيد عالماً، فقد أنبأتَ عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا، وإذا قلت‏:‏ سيكون عالماً فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال» اه‏.‏
وقد بدتْ من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان‏.‏ فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأُمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك مورِياً زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره‏.‏
وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها‏.‏ وقد مُدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير، فقال عمر‏:‏ هل أريتموه الأبيضَ والأصفر‏؟‏ يعني الدراهم والدنانير‏.‏ وقال الشاعر‏:‏
لا تمدحَنَّ امرأً حتّى تُجرّبه *** ولا تذمَّنَّه من قبل تجريب
إن الرجال صناديقُ مقفَّلة *** وما مفاتيحها غَير التجاريب
ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعلمه، وذلك كفر لا محالة، وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حَقّ خلافاً للخوارج وكذلك المعتزلة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏
‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏
أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذٍ كان بواسطة ملَك من الملائكة لأن إبليس لما استكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد بعد أهلاً لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏، وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملَك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير ‏{‏يختَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69‏]‏ عائداً إلى الملأ الأعلى كما تقدم‏.‏
وجيء بفعل ‏{‏قال‏}‏ غير معطوف حسب طريقة المقاولات‏.‏ وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا ‏{‏ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ‏}‏، أي ما منعك من السجود، ووقع في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏أن لا تسجد‏}‏ على أن لا زائدة‏.‏ وحُكي هنا أن الله قال له‏:‏ لِمَا خلقْتُ بِيدي‏}‏، أي خلقته بقدرتي، أي خلقاً خاصّاً دفعة ومباشرة لأمر التكوين، فكان تعلق هذا التكوين تعلقاً أقربَ من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتَّبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها‏.‏ ولا شكّ في أن خلق آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب‏.‏ فاليدان تمثيل لتكوّن آدم من مُجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخَّاري للإِناء من طين إذ يسوّيه بيديه‏.‏ وكان السلف يُقِرّون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله، أو أن تحمل العقول القاصرة صفاتتِ الله على ما تعارفته ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ وقال مرة ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقد تقدم القول في الآيات المشاهبة في أول سورة آل عمران‏.‏
وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته‏.‏ والمعنى‏:‏ أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو، والمراد بالعلو الشرف، أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني‏.‏ فتبين أنه يعدّ نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، يعني والنار أفضل من الطين، أي في رأيه‏.‏ وعبر عن آدم باسم «مَا» الموصولة وهو حينئذٍ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة‏.‏ ويؤيد قول أهل التحقيق أن «ما» لا تختص بغير العاقل وشواهده كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏أنَا خيرٌ منه‏}‏ قولٌ من الشيطان حكي على طريقة المحاورات‏.‏ وجملة ‏{‏خلقتني من نارٍ وخلقته من طِينٍ‏}‏ بيان لجملة ‏{‏أنا خيرٌ منه‏}‏‏.‏ وقد جعل إبليس عذره مبْنياً على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعى باطلاً وعصى ربّه استكباراً‏:‏ وطَرْدُه أجمع لإِبطال علمه ودحض دليله، غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملْتهبة التي تسمّى ناراً، وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تَعْدُ أن يكون كيانها مخلوطاً بما يُلهبها‏.‏
ومعنى كون الشيطان مخلوقاً من النار أَنَّ ابتداء تكوّن الذَّرة الأصلية لقوام ماهيته من عنصر النار، ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به‏.‏ ومعنى كون آدم مخلوقاً من الطين أن ابتداء تكوّن ذَرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ماهية الإِنسان‏.‏
وتكون ‏{‏من‏}‏ في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية‏.‏
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ويعبر عنه بالأرض لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون‏.‏
وقال الشيرازي في «شرح كليات القانون»‏:‏ إن النار وإن ترَجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات، وغيرُ مفسدة ببردها، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرّها لكونه في الغاية إلى غير ذلك‏.‏
والحق‏:‏ أن أفضليّة العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأَة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر، والأجسامُ الإِنسانية مركبة من العناصر كلّها‏.‏ والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوَّق بها الإِنسان على جميع المركبات بأن كان فيه جزء ملَكي شارك به الملائكة، ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدّس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملاً في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا‏:‏ إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تمحض النورانية وتميُّز فريق الأنبياء بأنهم لَحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة، فليس لإِبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأِ الأعلى‏.‏
وإنما بسطنا القول هنا لردّ شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعناً في الدين لا إيماناً بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مُقتضياً أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجزاء متفاوتة والتركيب قد يُدخل على المادة الأولى شرفاً وقد يدخل عليها حَقارة، والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏
‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏‏}‏
عاقبه الله على ما برز من نفسانيته فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة، وضمير ‏{‏قَالَ‏}‏ عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولات‏.‏ وفُرّع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى‏.‏ وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر‏.‏
واللعنة‏:‏ الإِبعاد من رحمة الله، وأضيف إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون‏.‏
وجعل ‏{‏يَوْممِ الدِينِ‏}‏ غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدةَ هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها، وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير ب ‏{‏يَوْممِ الدينِ‏}‏ دون‏:‏ ‏{‏يوم يبعثون‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 79‏]‏، أو ‏{‏يوم الوقت المعلوم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 81‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏
‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏‏}‏
أي قال إبليس‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏
‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريع من تركيب كلام متكلم على كلام متكلم آخر‏.‏ وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏
أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقاً لقيامه بالإِغواء دون تخلف، وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القَسَم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإِغواء والوسوسة وقد قال في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 39‏]‏‏:‏ ‏{‏رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين‏}‏
والعزة‏:‏ القهر والسلطان، وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها، وقَسَم إبليس بها ناشئ عن علمه بأنه لا يستطيع الإِغواء إلا لأن الله أقدره ولولا ذلك لم يستطع نقض قدرة الله تعالى‏.‏
وتقدم تفسير نظير‏:‏ ‏{‏ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين في سورة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏
‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏
أي قال الله تعالى تفريعاً، وهذا التفريع نظير التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فبعزَّتِكَ لأُغوينهم أجمعينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قولُه ‏{‏فبعزتك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ بتأكيدٍ مثله، وهو لفظ ‏{‏الحقَّ‏}‏ الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يتخلف، ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ ‏{‏الحق‏}‏ تذكيراً بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قَسَم عليه ترفعاً من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقَسَم مثله‏.‏ ولذلك زاد هذا المعنى تقريراً بالجملة المعترضة وهي ‏{‏والحقّ أقول‏}‏ الذي هو بمعنى‏:‏ لا أقول إلا الحق، ولا حاجة إلى القَسَم‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فالحقّ‏}‏ بالنصب وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلاً عن فعل من لفظه محذوففٍ تقديره‏:‏ أُحقّ، أي أُوْجب وأحقّق‏.‏ وأصله التنكير، فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في‏:‏ أرسلَها العِراك، فهو في حكم النكرة وإنما تعريفه حِلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدم بيانه في أول الفاتحة‏.‏
وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لمَّا تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائباً عن الفعل‏.‏ وهذا الرفع إما على الابتداء، أي فالحق قولي، أو فالحق لأملأنّ جهنم الخ، على أن تكون جملة القَسَم قائمة مقام الخبر، وإمّا على الخبرية، أي فقولي الحقّ وتكون جملة ‏{‏لأملأنَّ جهنَّمَ‏}‏ مُفسر القول المحذوف، ولا خلاف في نصب الحق من قوله‏:‏ ‏{‏والحق أقول‏.‏‏}‏ وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة‏.‏
وجملة ‏{‏لأملأنَّ جهنَّمَ منكَ‏}‏ الخ مبيّنة لجملة ‏{‏فالحق‏}‏ وهي مؤكدة بلام القسم والنون‏.‏
وتقدم المفعول في ‏{‏والحق أقول‏}‏ للاختصاص، أي ولا أقول إلا الحق‏.‏
و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏منك وممن تبعك‏}‏ بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقدير معناها‏.‏ وتدخل على تمييز ‏(‏كَم‏)‏ في نحو ‏{‏كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 3‏]‏، وهي هنا بيان لما دل عليه ‏{‏لأملأن‏}‏ من مقدار مبهم فبيّن بآية ‏{‏منك وممن تبعك‏}‏ ولما كان شأن مدخول «من» البيانية أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس، أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس مِلأً لجهنم‏.‏ وإذ قد عطف عليه ‏{‏وممن تبعك منهم أي من تبعك من الذين أغويتهم من بني آدم، فلا جائز أن يبْقى من عدَا هذين من الشياطين والجِنة غير مِلْءٍ لجهنم‏.‏
وأجْمعينَ‏}‏ توكيد لضمير ‏{‏مِنْكَ‏}‏ و«لمَن» في قوله‏:‏ ‏{‏ومِمَّن تَبِعَكَ‏.‏
واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خَلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه، وما جرى في إرادة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكورة فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعدّ مجازاة الله تعالى الشيطانَ عليه تنازلاً من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى‏.‏
وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوالُ التي ألقاها الله عليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏
‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏
لمّا أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلاً عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالباً من ذلك جزاء، أي لو سألهم عليه أجراً لراج اتّهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه، فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبه على أن يكذب لغير نفع يرجوه لِنفسه‏.‏
والمعنى عموم نفي سؤالِه الأجرَ منهم من يوم بعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو قياس استقراء لأنهم إذا استقرَوْا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما مضى وجدوا انتفاء سؤاله أجراً أمراً عاماً بالاستقراء التام الحاصل من جميع أفراد المشركين في جميع مخالطاتهم إياه، فهو أمر متواتر بينهم فهذا إبطال لقولهم ‏{‏كذاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ المحكي عنهم في أول السورة وإقامة الحجة على صدق رسالته كما سيجيء‏.‏
وضمير ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ عائد إلى القرآن المعلوم من المقام فإن مبدأ السورة قوله ‏{‏والقراننِ ذي الذِكرِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1‏]‏ فهذا من رد العجز على المصدر‏.‏
وعطف ‏{‏وما أنا من المتكلفين‏}‏ أفاد انتفاء جميع التكلف عن النبي صلى الله عليه وسلم
والتكلف‏:‏ معالجة الكلفة، وهي ما يشقّ على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل، فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه‏.‏
فالمعنى هنا‏:‏ ما أنا بمُدَّع النبوءة باطلاً من غير أن يوحى إليّ وهو رد لقولهم‏:‏ ‏{‏كذاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏ وبذلك كان كالنتيجة لقوله‏:‏ ‏{‏ما أسألكم عليه من أجْرٍ‏}‏ لأن المتكلف شيئاً إنما يطلب من تكلُّفِه نفعاً، فالمعنى‏:‏ وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم‏.‏ ومنه حديث الدارقطني عن ابن عمر قال‏:‏ خرج رسول الله في بعض أسفاره فمرّ على رجل جالس عند مقراة له ‏(‏أي حوض ماء‏)‏، فقال عُمر‏:‏ يا صاحبَ المَقراة أَوَلَغَتْ السباع الليلة في مَقراتك‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا صاحب المَقراة لا تخبره، هذا متكلف لها مَا حملتْ في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور‏.‏ وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ «يا أيها الناس من علِم منكم علماً فليقل به ومن لم يعلم فليقل‏:‏ الله أعلم، قال الله لرسوله‏:‏ ‏{‏قُلْ ما أسألُكُم عليهِ من أجْرٍ وما أنا مِن المتكلفين‏}‏‏.‏
وأخذ من قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المتكلفين‏}‏ أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه، أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإِسلام، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسباً ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بِشَرَاشِره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به‏.‏
وتركيب ‏{‏ما أنا من المتكلفين‏}‏ أشدّ في نفي التكلّف من أن يقول‏:‏ ما أنا بمتكلف، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏.‏
‏(‏وجملة ‏{‏إن هُو إلا ذِكرٌ للعالمين‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏وما أنا منَ المتكلفين‏}‏ اشتمال نفي الشيء على ثبوت ضده، فلما نفَى بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المتكلفين‏}‏ أن يكون تَقَوَّل القرآن على الله، ثبت من ذلك أن القرآن ذكرٌ للناس ذكّرهم الله به، أي ليس هو بالأساطير أو الترهات‏.‏ ولك أن تجعلها تذييلاً إذ لا منافاة بينهما هنا‏.‏ وهذا الإِخبار عن موقع القرآن لدى جميع أمة الدعوة لا خصوص المشركين الذين كان في مجادلتهم لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجو من معانديه أجراً‏.‏ وثبت بذلك أنه ليس بمتقول ما لم يُوحَ إليه انتقل إلى إثبات أن القرآن ذكر للناس قاطبة فيدخل في ذلك مشركو أهل مكة وغيرهم من الناس، فكأنه قيل يستغني الله عنكم بأقواممٍ آخرين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإن الله غني عنكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وعموم العالمين يكسب الجملة معنى التذييل للجملتين قبلها‏.‏
والقصر الذي اشتملت عليه جملة ‏{‏إن هو إلا ذِكرٌ للعالمين‏}‏ قصر قلب إضافي، أي هو ذكر لا أساطير ولا سِحر ولا شعر ولا غير ذلك للردّ على المشركين ما وسَموا به القرآن من غير صفاته الحقيقية‏.‏
وجملة ‏{‏ولتعلمن نبأهُ بعد حينٍ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن هُوَ إلا ذِكرٌ للعالمين‏}‏ باعتبار ما يشتمل عليه القصر من جانب الإِثبات، أي وستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علماً جزماً فيزول شكُّكُم فيه، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد‏.‏
والنبأ‏:‏ الخبر، وأصل الخبر‏:‏ الصدق، أي الموافقة للواقع، فإذا قيل‏:‏ أتاني نبأُ كذا، فمعناه الخبر عن حاله في الواقع، فإضافة النبأ إلى ما يضاف إليه على معنى اللام إذ معنى اللام هو أصل معاني الإِضافة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نبأ الخصم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 21‏]‏، أي ستعلمون صدق وصف هذا القرآن أنه الحق، وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وفُسر النبأ بمعنى المفعول، أي ما أَنبأَ به القرآن من إنذاركم بالعذاب، فهو تهديد‏.‏ وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجّل له عذاب السيف يوم بدر، وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم مَن علموا دخول الناس في الإِسلام فماتوا بغيظهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا، أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجاً فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيماناً‏.‏
وحين كلِّ فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق‏.‏ والحين‏:‏ الزمن من ساعة إلى أربعينَ سنة‏.‏ فختم الكلام بتسجيل التبليغ وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبيء صلى الله عليه وسلم وختم بالمواعدة لوقتتِ يقينهم بنبيئه، وهذا مؤذن بانتهاء الكلام ومراعاة حسن الختام‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire