lundi 7 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***

سورة النساء

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏
‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم، أو هو تفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله‏}‏ في سورة النساء ‏(‏84‏)‏‏.‏
والاستفهام للتعجيب واللَّوم‏.‏ والتعريف في ‏{‏المنافقين‏}‏ للعهد، و‏{‏فئتين‏}‏ حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله، الذي هو التوبيخ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام‏:‏ ‏{‏في المنافقين‏}‏ متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى «منقسمين»، ومعناه‏:‏ في شأن المنافقين، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين‏.‏
والفئة‏:‏ الطائفة‏.‏ وزنها فِلَة، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم‏.‏ وأصلها فَيّءٌ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء‏.‏
وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم‏.‏ قيل‏:‏ نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد‏:‏ عبد الله بن أبَيّ وأتباعه، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت قال‏:‏ رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد، وكان الناس فيهم فريقين، فريق يقول‏:‏ اقُتُلْهم، وفريق يقول‏:‏ لا، فنزلت «فما لكم في المنافقين فئتين»، وقال‏:‏ «إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام‏.‏ فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان، وهاجروا إلى المدينة، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين، فاختلف المسلمون في شأنهم‏:‏ أهم مشركون أم مسلمون‏.‏ ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة، فقال فريق من المسلمين‏:‏ نركب إليهم فنقاتلهم، وقال فريق‏:‏ كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام، فاختلف المسلمون في ذلك، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية‏.‏
وعن الضّحاك‏:‏ نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين، وهم الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏
‏{‏إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ الآية‏.‏ وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة‏.‏
والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة‏.‏
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين‏.‏ وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهلُ العلم في مثله‏.‏
وجملة ‏{‏والله أرْكَسَهم بما كسبوا‏}‏ حالية، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس، والركس قريب من الرجس‏.‏ وفي حديث الصحيح في الروث «إنّ هذا رِكْسٌ» وقيل‏:‏ معنى أركس نكس، أي ردّ ردّاً شنيعاً، وهو مقارب للأول‏.‏ وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيّيء يأتي بمنتهى المعاصي، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله‏}‏ استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين‏.‏ وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني، وتقديرها‏:‏ إنهم قد أضلّهم الله، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله، بناء على أنّ قوله‏:‏ ‏{‏والله أركسهم‏}‏ ليس المراد منه أنَّه أضلّهم، بل المراد منه أساءَ حالهم، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف‏.‏
وإن جعلتَ معنى ‏{‏والله أركسهم‏}‏ أنّه ردّهم إلى الكفر، كانت جملة ‏{‏أتريدون‏}‏ استئنافاً ابتدائياً، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار، بعد جملة ‏{‏والله أركسهم‏}‏ التي هي خبرية، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏
‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏‏}‏
الأظهر أنّ ضمير «ودوّا» عائد إلى المنافقين في قوله‏:‏ ‏{‏فمالكم في المنافقين فئتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏‏.‏ فضح الله هذا الفريق فأعلَم المسلمين بأنّهم مضمرون الكفر، وأنّهم يحاولون رَدّ من يستطيعون ردّه من المسلمين إلى الكفر‏.‏
وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله‏}‏ إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلاّ ما تقدّم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا يناسب ما في «الصحيح» عن زيد بن ثابت، فتعيّن تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأنّ غزوة أُحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبَيّ وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة‏.‏
وما أبلغ التعبيرَ في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله‏:‏ ‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏، وفي جانب محاولة المنافقين بالودّ، لأنّ الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأنّ الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أنّ المؤمنين لا يرتدّون عن دينهم، ويرون منهم محبّتهم إيّاه، فلم يكن طلبهم تكفيرَ المؤمنين إلاّ تمنيّا، فعبّر عنه بالودّ المجرّد‏.‏
وجملة ‏{‏فتكونون سواء‏}‏ تفيد تأكيد مضمون قوله‏:‏ ‏{‏بما كفروا‏}‏ قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حِبالة المنافقين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتّخذوا منهم أولياء حتّى يهاجروا في سبيل الله‏}‏ أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام، حتّى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم، وهي علامة بيّنة، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلاّ نفاق منافّقي المدينة‏.‏ والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي لأجل الوصول إلى الله، أي إلى دينه الذي أراده‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولّوا‏}‏ أي أعرضوا عن المهاجرة‏.‏ وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم، إذ المعنى‏:‏ فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبّلوه فخذوهم واقتلوهم، وهذا يدلّ على أنّ من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتّى يُتَقَدّم له، ويعرّف بما صدر منه، ويُعذَر إليه، فإن التزمه يؤاخذ به، ثمُّ يستتاب‏.‏ وهو الذي أفتى به سحنون‏.‏
والولّي‏:‏ الموالي الذي يضع عنده مولاه سِرّه ومَشورته‏.‏ والنصير الذي يدافع عن وليّه ويعينه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏
‏{‏إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏
الاستثناء من الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فخذوهم واقتلوهم‏}‏ أي‏:‏ إلاّ الذين آمنوا ولم هاجروا‏.‏ أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم‏.‏
ومعنى ‏(‏يَصلُونَ‏)‏ ينتسبون، مثل معنى اتَّصل في قول أحد بني نبهان‏:‏
ألاَ بَلْغَا خُلَّني رَاشِداً *** وصِنْوِي قديماً إذَا ما اتَّصل
أي انتسب، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد‏.‏ والمراد ب ‏(‏الذين يصلون‏)‏ قوم غير معيّنين، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين، ولذلك قال مجاهد‏:‏ هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لمّا نزلت‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي، وكان قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم على‏:‏ أن لا يعينه ولا يعين عليه، وأنّ من لَجَأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة، وقيل‏:‏ بنو بكر بن زيد مناءةَ كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين، ولم يكونوا آمنوا يومئذٍ وقيل‏:‏ هم بنو مُدْلِج إذ كان سراقة بن مالك المدلِجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر، على أن لا يعينوا على رسول الله، وأنّهم إن أسلمتُ قريش أسلموا وإن لم تُسلم قريش فهم لا يسلمون، لئلاّ تخشن قلوب قريش عليهم‏.‏ والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية‏.‏
ومعنى ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم‏}‏ الخ‏:‏ أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك‏.‏ وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفاً لهم، ولمن دخل في عهدهم، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجباً على كلّ من يدخل في الإسلام، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها‏.‏
وقرأ الجمهور «حَصِرَت» بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب «حَصِرةً» بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبةٌ منونّة‏.‏
و ‏{‏حصرت‏}‏ بمعنى ضاقت وحرجت‏.‏
و ‏{‏أن يقاتلوكم‏}‏ مجرور بحذف عن، أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم‏.‏
وقد دلّ قوله‏:‏ ‏{‏حصرت صدورهم‏}‏ على أنّ ذلك عن صدق منهم‏.‏ وأريد بهؤلاء بنو مدلِج‏:‏ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدَقوا، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سَخَّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلماً يودّونهم‏.‏ ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم‏}‏‏.‏ ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ أي إذْنا بعد أذْن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم‏.‏
والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ في سورة براءة ‏(‏91‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏
‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏
هؤلاء فريق آخر لا سَعْيَ لهم إلاّ في خُوَيْصْتِهِم، ولا يعبأون بغيرهم، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم، فلا هَمّ لهم إلاّ حظوظ أنفسهم، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمانَ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّما رُدّوا إلى الفتنة أُرْكسُوا فيها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقد مر بيان معنى ‏(‏أركسوا‏)‏ قريباً‏.‏ وهؤلاء هم غَطفان وبنُو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم، وبنو عبد الدار من أهل مكة، كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام‏.‏ وأمرْ الله المؤمنين في معامَلة هؤلاء ومُعَامَلَة الفريق المتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 90‏]‏ أمرٌ واحد، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم، وقتالُهم إذا ناصبوهم العَداء، إلاّ أن الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين‏:‏ أنّهم يعتزلون المسلمين، ويلقون إليهم السلم، ولا يقاتلونهم، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين، ولا يلقون إليهم السلم، ولا يكفّون أيديهم عنهم، نظراً إلى الحالة المترقبّة من كلّ فريق من المذكورين‏.‏ وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين، وبوصف ما في ضمير الفريقين‏.‏
والوجدان في قوله‏:‏ ‏{‏ستجدون آخرين‏}‏ بمعنى العثور والإطّلاع، أي ستطَّلعون على قوم آخرين، وهو من استعمال وَجد، ويتعدّى إلى مفعول واحد، فقوله‏:‏ ‏{‏يريدون‏}‏ جملة في موضع الحال، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتَجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏82‏)‏‏.‏
وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏ لزيادة تمييزهم‏.‏
‏(‏والسلطان المبين‏)‏ هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم، فلا يُخْشَى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏
‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏
انتقالُ الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض‏:‏ من وجوب كفّ عُدوان بعضهم على بعض‏.‏
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقَل إليه‏:‏ أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادثُ قتللِ مُؤمن خطأ بالمدينة ناشئ عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المَقتول كافراً‏.‏ وحادثُ قتل مؤمن عمداً ممّن كان يظهر الإيمان، والحادث المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 94‏]‏ وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك، فتزداد المناسبة وضوحاً لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل‏.‏
هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حَيّز ما لا يكون، فقال‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً‏}‏ فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ، أو أن يَقتُل قَتْلاً من القتل إلاّ قَتْل الخطأ، فكان الكلام حصراً وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمناً فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن، على نحو «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها، غير مراد بها التشريع، بل هي كالمقدّمة للتشريع، لقصد تفظيع حال قتل المؤمننِ المؤمنَ قتلاً غيرَ خطإ، وتكون خبرية لفظاً ومعنًى، ويكون الاستثناء حقيقيّاً من عموم الأحوال، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمناً في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية‏.‏
ولك أن تجعل قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن‏}‏ خبراً مراداً به النهي، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، وتجعل قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ خطئاً‏}‏ ترشيحاً للمجاز‏:‏ على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذوناً فيه للمؤمن، فهو قتل الخطأ، وقد عُلم أنّ المخطئ لا يأتِي فعلَه قاصداً امتثالاً ولا عصياناً، فرجع الكلام إلى معنى‏:‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً قتلاً تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبداً، فتكون الجملة مبدأ التشريع، وما بعدها كالتفصيل لها؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ خطئاً‏}‏‏.‏
وذهب المفسّرون إلى أنّ ‏{‏ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً‏}‏ مراد به النهي، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى ‏(‏لَكِن‏)‏ فراراً من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمناً خطأ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا‏.‏
وإنّما جيء بالقيد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خَطَئاً‏}‏ لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً‏}‏ مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ، فيستغنى عن تقييده به‏.‏
روى الطبري، والواحدي، في سبب نزول هذه الآية‏:‏ أنّ عيّاشاً بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخَاً أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه، فأتوه بالمدينة وقالوا له‏:‏ إنّ أمّك أقسمت أن لا يُظلِهَّا بيت حتّى تراك، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع، وأعطوه موثقاً من الله أن لا يُهجوه، ولا يحولوا بينه وبين دِينه، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه، ودخلوا به مكة، وقالوا له «لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به»‏.‏ وكان الحارثُ بنُ زيد يجلده ويعذّبه، فقال عيّاش للحارث «والله لا ألقاك خالياً إلاّ قتلتك» فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقُباء، وكان الحارثُ قد أسلم ولم يَعلم عياش بإسلامه، فضربه عياشٌ فقتله، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً‏}‏ فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة‏.‏
وفي ابن عطية‏:‏ قيل نزلت في اليمان، والد حذيفة بن اليمان، حين قتله المسلمون يوم أحُد خطأ‏.‏
وفي رواية للطبري‏:‏ أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة، فعدل إلى شعب فوجد رَجلاً في غنم له، فحمَل عليه أبو الدرداء بالسيف، فقال الرجل «لا إله إلاّ الله» فضربَه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ الفاء رابطة لِجواب الشرط، و‏(‏تحرير‏)‏ مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب‏:‏ لظهور أنّ المعنى‏:‏ فحكمهُ أو فشأنه تحرير رقبة كقوله‏:‏ ‏{‏فصبر جميل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ والتحرير تفعيل من الحُريّة، أي جعل الرقبة حرّة‏.‏ والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ، كما يقولون، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير‏.‏
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة‏:‏ وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديوان، والتخطّف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين‏.‏
فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأنّ العربي ما كان يتقيّ شيئاً من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة‏:‏
حذاراً على أن لا تُنال مَقادتي *** ولا نِسْوَتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا
ثم داوَى تلك الجراحَ البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة‏:‏ منها واجبة، ومنها مندوب إليها‏.‏ ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا‏.‏ وقد جُعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين‏:‏ أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بَدلاً من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يَخْل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف، وقد نَبهتْ الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبَدة‏.‏ وسنزيد هذا بياناً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال مُوسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏20‏)‏، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم‏.‏
وثانيهما الدية‏.‏ والديّةُ مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبراً لمصيبة أهله فِيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي‏.‏
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن‏.‏ وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضاً عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها‏.‏ قال الحَماسي‏:‏
فلَوْ أنّ حَيّا يقبل المال فدية *** لَسُقْنَا لهم سَيْباً من المال مُفْعَما
ولكن أبى قومٌ أصيب أخُوهُمُ *** رِضَى العارِ فاخْتاروا على اللبن الدّما
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه‏.‏ قال زهير‏:‏
تُعفَّى الكلوم بالمِئينَ فأصبحت *** يُنجِّمُها مَن ليس فيها بمجرم
وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل‏:‏ إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثمّ تبعهم العرب، وقيل‏:‏ أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عُمَيْلَةُ العَدواني، وكانت ديَة المَلِك ألفاً من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، وديّة الحليف نصف دية الصّميم‏.‏ وأوّل من وُدِي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن‏.‏ إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة‏.‏
وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مُخمسَّة أخماساً‏:‏ عشرون حقّة، وعشرون جَذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون‏.‏
ودية العمد، إذا رضي أولياء القتيل بالدية، مربَّعة‏:‏ خمسٌ وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل‏.‏ وتغلَّظ الدية على أحد الأبوين تغليظاً بالصنف لا بالعدد، إذا قتل ابنَه خطأ‏:‏ ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون خلفة، أي نوقاً في بطونها أجنّتُها‏.‏ وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريباً فجعلت على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الديّة على أهل البَقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألفيَ شاةٍ‏.‏ وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحُلل، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن، مائة حلّة‏.‏ والحلّة ثوبان من نوع واحد‏.‏
ومعيار تقدير الديات، باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السُّنَّة‏.‏ ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل‏.‏ ودية الكتابي على النصف من دية المسلم‏.‏ ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي‏.‏ وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلةِ القاتل‏.‏
والدية بتخفيف الياء مصدر وَدَي، أي أعطى، مثل رمَى، ومصدره وَدْي مثل وعد، حذفت فاء الكلمة تخفيفاً، لأنّ الواو ثقيلة، كما حذفت في عِدّة، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شِيَة من الوشي‏.‏
وأشار قوله‏:‏ مسلَّمَةٌ إلى أهله‏}‏ إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل‏.‏ وذُكر الأهل مجملاً فعُلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل، فإنّ الأهل هو القريب، والأحقّ بها الأقرب‏.‏ وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلاّ أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثاً للقتيل لا يرث من ديته‏.‏ وهي بمنزلة تعويض المتلفات، جعلت عوضاً لحياة الذي تسبّب القاتلُ في قتله، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية، ولذلك قالوا‏:‏ تَكايُل الدّماء، وقالوا‏:‏ هُما بَوَاء، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم‏.‏
وجَعَل عفوَ أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيباً في العفو‏.‏
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة، وذلك تقرير لِما كان عليه الأمر قبل الإسلام‏.‏
والعاقلة‏:‏ القَرابة من القبيلة‏.‏ تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن‏}‏ الآية أي إن كان القتيل مؤمناً وكان أهله كفاراً، بينَهم وبين المسلمين عداوة، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم، لأنّ الدية‏:‏ إذا اعتبرناها جبَراً لأولياء الدم، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم، وإذا اعتبرناها عِوضاً عن منافع قتيلهم، مثل قيم المتلفات، يَكون منعُها من الكفّار؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم، ولأنّا لا نعْطيهم مالَنا يَتقوون به علينا‏.‏
وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء، إن كان القتيل المؤمن باقياً في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّاراً، فقال ابن عبّاس، ومالك، وأبو حنيفة‏:‏ لا تسقط عن القاتل ديته، وتُدفع لبيت مال المسلمين‏.‏ وقال الشافعي، والأوزاعي، والثَّوري‏:‏ تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار‏.‏ وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم عدوّ‏}‏ أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها‏.‏
وأخبر عن ‏{‏قوم‏}‏ بلفظ ‏{‏عدوّ‏}‏ وهو مفرد، لأنّ فَعولاً بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفرداً مذكَّراً غيرَ مطابق لموصوفه، كقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الكافرين كانُوا لكم عدوّاً مبيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكلّ نبيء عدوّاً شياطين الأنس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عَدوّة‏.‏ وفي كلام عمر بن الخطاب في «صحيح البخاري» أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه «يا عدوّات أنفُسِهِنُّ»‏.‏ ويجمع بكثرة على أعداء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشر أعداء الله إلى النار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي إن كان القتيل المؤمن‏.‏ فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق، أيّ عهدٌ من أهل الكفر، ديةَ قتيلهم المؤمننِ اعتداداً بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل، وليست مالاً موروثاً عن القاتل، إذ لا يرث الكافر المسلم، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارثٌ مؤمنٌ في قوم معاهدَين، أو يكون المقتول معاهداً لا مؤمناً، بناء على أنّ الضمير في «كان» عائد على القتيل بدون وصف الإيمان، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قَتل مؤمناً خطأ‏.‏ ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏من قوم عدوَ لكم‏}‏ أن يَظُنَ أحد أنّه أيضاً عدوّ لنا في الدّين‏.‏ وشرط كون القتيل مؤمناً في هذا لحكم مدلول بحَمْل مطلقه هنا على المقيَّد في قوله هنالك ‏{‏وهو مؤمن‏}‏، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ومن قَتَل مؤمناً خطئاً‏}‏، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة‏.‏
وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهَد، يُقتل خطأ فتجب الدية وتحريرُ رقبة، وهو قول ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي، ولكنّهم قالوا‏:‏ إنّ هذا كان حكماً في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل، حتّى يسلموا أو يؤذَنوا بحَرب، وإنّ هذَا الحكم نسِخ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فصيام شهرين متتابعين‏}‏ وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما‏.‏ لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين‏.‏
وقوله‏:‏ «توبة من الله» مفعول لأجله على تقدير‏:‏ شرع الله الصيام توبة منه‏.‏ والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب ‏(‏من‏)‏، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏ في هذه السورة، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم‏.‏ ولك أن تجعل ‏{‏توبة‏}‏ مفعولاً لأجله راجعاً إلى تحرير الرقبة والدية وبَدلِهِما، وهو الصيام، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبهُ على أسباب الخطأ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم‏.‏ أو هو حال من «صيام»، أي سببَ توبة، فهو حال مجازية عقلية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏
‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخرّ لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏‏.‏
والمتعمّد‏:‏ القاصد للقتل، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب‏.‏ والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء‏.‏ ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء‏:‏ القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه‏.‏ وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار، ولم يُعرف قاتله، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافراً، وأنشد في شأن أخيه‏:‏
قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع
حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثاننِ أوّلَ راجع
وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فقتِل بسوق مكة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏خالداً فيها‏}‏ مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي‏.‏ قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر‏:‏
ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضضِ عامِرا
ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة‏.‏
وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً، كما تَرِد على غيرها من الكبائر، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية‏:‏ فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس‏:‏ أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به، أخذاً بهذه الآية، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال‏:‏ آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس، فسألتُه عنها، فقال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها‏}‏ الآية‏.‏
هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء، فلم يأخذ بطريق التأويل‏.‏ وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس‏:‏ فحمله جماعة على ظاهره، وقالوا‏:‏ إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل، فقد نَسخَت الآياتتِ التي قبلها، التي تقتضي عموم التوبة، مثل قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله ‏{‏واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68، 69‏]‏‏.‏ والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة‏.‏ فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه، وهو طولُ المدّة في العقاب، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد، وكيف يُحرم من قبول التوبة، والتوبةُ من الكفر، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة، فكيف بما هو دونه من الذنوب‏.‏
وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر، لئلاّ يجترئ الناس على قتل النفس عمداً، ويرجون التوبة، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال‏:‏ «ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة» فقال‏:‏ «لاَ إلاّ النار»، فلمّا ذهب قال له جلساؤه «أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة» فقال‏:‏ «إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً»، قل‏:‏ فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك‏.‏ وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له‏:‏ «توبتُك مقبولة» وإذا سأله من لم يقتل، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس، قال له‏:‏ لا توبةَ للقاتل‏.‏
وأقول‏:‏ هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد‏:‏ من محامِل التأويل، أو الجمععِ بين المتعارضات، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ‏(‏68، 69‏)‏‏:‏
‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر‏}‏ إلى قوله ‏{‏إلاّ من تاب‏}‏ لأنّ قوله‏:‏ ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها‏.‏ ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير‏:‏ إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء‏.‏ ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة‏.‏ وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، بناء على أنّ عموم ‏{‏من يشاء‏}‏ نَسَخ خصوصَ القتل‏.‏ وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسسٍ بن صُبابة، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ «من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه‏.‏ وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر‏.‏ على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود‏.‏ إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض‏.‏ وهو الوعيد، لا أنواعه‏.‏ وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة‏.‏ وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه، والتعويل عليه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحواللٍ قد يُتساهَل فيها وتعرِض فيها شبهٌ‏.‏ والمناسبة ما رواه البخاري، عن ابن عبّاس، قال‏:‏ كان رجل في غُنَيْمَة له فلَحقِه المسلمون، فقال‏:‏ السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتُه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية‏.‏ وفي رواية وقال‏:‏ لا إله إلاّ الله محمد رسول الله‏.‏ وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله وردّ غُنَيْمتَه واختلف في اسم القاتل والمقتول، بعد الاتّفاق على أنّ ذلك كان في سريّة، فروى ابن القاسم، عن مالك‏:‏ أنّ القاتل أسَامة بن زيد، والمقتول مِرْدَاس بن نَهِيك الفَزَاري من أهل فَدَكَ، وفي سيرة ابن إسحاق أنّ القاتل مُحلَّم من جَثامة، والمقتول عامر بن الأضْبط‏.‏ وقيل‏:‏ القاتل أبو قتادة، وقيل أبو الدرداء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وبّخ القاتل، وقال له‏:‏ ‏"‏ فَهَلاّ شققت عن بَطْنه فعلمتَ ما في قلبه ‏"‏‏.‏ ومخاطبتهم ب ‏{‏أيها الذين آمنوا‏}‏ تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه، ولو كان قصْد القاتل الحرصَ على تحقَّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول، فإنّ هذا التحقّق غيرُ مراد للشريعة، وقد ناطت صفة الإسلام بقول‏:‏ «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» أو بتحية الإسلام وهي «السلام عليكم»‏.‏
والضرب‏:‏ السير، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏156‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ في سبيل الله ظرف مستقرٌ هو حال من ضمير ‏{‏ضربتم‏}‏ وليس متعلّقاً ب«ضربتم» لأنّ الضرب أي السيّر لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىًّ‏}‏ الآية‏.‏
والتبيّن‏:‏ شدّة طلب البيان، أي التأمّل القويّ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل‏.‏ ودخول الفاء على فِعل «تبيّنوا» لما في ‏(‏إذا‏)‏ من تضمّن معنى الاشتراط غالباً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتبيّنوا‏}‏ بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون من التبيّن وهو تفعّل، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وخَلف‏:‏ ‏{‏فتثبّتوا‏}‏ بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة بمعنى اطلبوا الثابت، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بَدَا لَكم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف «السَّلَم» بدون ألف بعد اللام وهو ضدّ الحرْب، ومعنى ألقى السلَم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم، وقرأ البقية «السَّلام» بالألف وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب، ومعنى تحية الإسلام، فهي قول‏:‏ السلام عليكم، أي من خاطبَكم بتحية الإسلام علامةً على أنّه مسلم‏.‏
وجملة ‏{‏لست مؤمناً‏}‏ مَقول ‏{‏لا تقولوا‏}‏‏.‏ وقرأ الحمهور‏:‏ ‏{‏مؤمناً‏}‏ بكسر الميم الثانية بصيغة اسم الفاعل، أي لا تنْفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح الميم الثانية بصيغة اسم المفعول، أي لا تقولوا له لست مُحصّلاً تأمينَنَا إياك، أي إنّك مقتولا أو مأسُور‏.‏ و‏{‏عرض الحياة‏}‏‏:‏ متاح الحياة، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب ‏{‏عرض الحياة‏}‏ تحقيراً لها بأنّها نفع عارض زائل‏.‏
وجملة ‏{‏تبتغون‏}‏ حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله، فكان عدمُ تصديقه آئلاً إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل‏.‏ فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام‏:‏ لستَ مؤمناً، وقتَله غير آخذ منه مالاً لكان حكمه أوْلى ممّن قصَد أخذ الغنيمة، والقيد ينظر إلى سبب النزول، والحكمُ أعّم من ذلك‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فعند الله مغانم كثيرة‏}‏ أي لم يحصر الله مغانمَكم في هذه الغَنيمة‏.‏
وزاد في التوبيخ قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك‏.‏ وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده‏.‏ وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام‏.‏
وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين‏.‏ على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيماناً راسخاً، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم‏.‏
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمرَ فقال‏:‏ ‏{‏فتبَيّنوا‏}‏ تأكيداً ل ‏(‏تبينّوا‏)‏ المذكورِ قبْله، وذيَّله بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ وهو يجمع وعيداً ووعداً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏
‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏
ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد، عقَّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيْلا يكون ذلك اللومُ موهِماً انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعاً لليأس من الرحمة عن أنفُس المسلمين‏.‏
يقول العرب «لا يستوي وليس سواءً» بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر‏.‏ ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل‏.‏ قال السموأل أو غيره‏:‏
فليس سواءً عالم وجهول *** وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏، وقد يُتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية‏:‏ إمّا لخفائه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله‏:‏ ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وإذ قد كان وجه التفاضل معلوماً في أكثر مواقع أمْثال هذا التركيب، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزُهده فيما هو خير مع المكنة منه، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القَاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين، ولا في ثوابه على ذلك، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم‏.‏ وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏غيرَ أولي الضرر‏}‏ كيلا يحسِبَ أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيَخرجوا مع المسلمين، فيكلفّوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم، زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأنّ في استثنائهم إنصافاً لهم وعذراً بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا، فذلك الظنّ بالمؤمن، ولو كان المقصود صريحَ المعنى لما كان للاستثناء موقع‏.‏ فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود، وله موقع من البلاغة لايضاع، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ‏.‏ ويدلّ لهذا ما في «الصحيحين»، عن زيد بن ثابت‏.‏ أنّه قال‏:‏ نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال‏:‏ اكتُب، فكتبت في كَتف ‏(‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏)‏، وخَلْفَ النبي ابنُ أمّ مكتوم فقال‏:‏ يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت مكانها ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرَ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ الآية‏.‏ فابن أمّ مكتوم فَهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله، فإنّه من القاعدين، ولأجل هذا الظنّ عُدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وخلف‏:‏ ‏{‏غيرَ‏}‏ بنصب الراء على الحال من ‏{‏القاعدون‏}‏، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب بالرفع على النعت ل ‏{‏القاعدون‏}‏‏.‏
وجاز في «غير» الرفعُ على النعت، والنصب على الحال، لأنّ ‏(‏القاعدون‏)‏ تعريفهُ للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى‏.‏
والضرر‏:‏ المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زَمانةٍ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها، وأشهر استعماله في العمى، ولذلك يقال للأعمى‏:‏ ضرير، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه‏.‏
والضرر مصدر ضرِر بكسر الراء مثل مرض، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها، مثل عَمي وعَرج وحَصر، ومصدرها مفتوح العين مثل العَرج، ولأجل خفّته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه، فقيل‏:‏ ضَرَر بالفكّ، وبخلاف الضُرّ الذي هو مصدر ضَرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ‏.‏ ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العَاهات الضارّة؛ وأمّا ما روي من حديث ‏"‏ لا ضَرر ولا ضِرار ‏"‏ فهو نادرٌ أوْ جرى على الإتْباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضِرَار وهو مفكّك‏.‏ وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ، وفيه نظر؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين‏:‏ بذل النفس وبذل المال، إلاّ أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئاً، بل ولو كان كَلاًّ على المؤمنين، كما أنّ من بَذل المال لإعانة الغزاة، ولم يجاهد بنفسه، لا يسمّى مجاهداً وإن كان له أجر عظيم، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين، له فضل عظيم، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين‏.‏ /
وجملة‏:‏ ‏{‏فضّل الله المجاهدين‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏‏.‏
وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخرَ متّصل به، بحيث تتخطّى القدَم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود، وذلك مثل درجة العُلَيّة ودرجة السلَّم‏.‏
والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهنّ درجة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر‏.‏
وجيء ب ‏(‏درجة‏)‏ بصيغة الإفراد، وليس إفرادُها للوحدة، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيداً لها بصيغة الجمع بقوله‏:‏ ‏{‏درَجاتتٍ منه‏}‏ لأنّ الجمع أقوى من المفرد‏.‏
وتنوين ‏{‏درجة‏}‏ للتعظيم‏.‏ وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي ‏{‏درجات منه‏}‏‏.‏
وانتصب ‏{‏درجة‏}‏ بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل ‏{‏فَضْل‏}‏ إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل، فالتقدير‏:‏ فَضْل الله المجاهدين فَضْلاً هو درجة، أي درجةً فضلاً‏.‏
وجملة ‏{‏وكُلاً وعد الله الحسنى‏}‏ معترضة‏.‏ وتنوين «كلاً» تنوين عوض عن مضاف إليه، والتقدير‏:‏ وكلُّ المجاهدين والقاعدين‏.‏
وعُطف ‏{‏وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏}‏ على جملة ‏{‏فضّل الله المجاهدين‏}‏، وإن كان معنى الجملتين واحداً باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ فبذلك غايرت الجملةُ المعطوفة الجملةَ المعطوفَ عليها مغايرة سوّغت العطف، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها‏.‏
والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏المجاهدين‏}‏ المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستُغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق‏.‏ وانتصَب ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ على النيابة عن المفعول المطلق المبيِّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل، ووصف بأنّه عظيم‏.‏
وانتصب درجات على البدل من قوله ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها ‏{‏منه‏}‏ أي من الله‏.‏
وجُمع ‏{‏درجات‏}‏ لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارثَ بنَ جبلة ملِكَ غسان قولَه يستشفع لأخيه شَأس بن عبْدة‏:‏
وفي كلّ حي قد خَبَطْتَ بنعمة *** فحقّ لشَأس من نَداك ذَنُوب
قال له الملك «وأذنبة»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏
فلمّا جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتّبعوه ثمّ صدّهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتّى أرجعهوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمرّوا على ذلك حتّى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عمّا يجيش بنفوس السّامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافاً بيانياً لسائل متردّد، ولذلك فصلت، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد، فإنّ حالهم يوجب شكّاً في أن يكونوا ملحقين بالكفّار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام‏.‏ ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله‏.‏
والموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس، وليس المراد شخصاً أو طائفة بل جنس من مات ظالماً نفسه، ولِما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مأواهم جهنّم‏}‏، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم‏.‏
ومعنى ‏{‏توفّاهم‏}‏ تُميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى‏:‏ أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتُوفَّوْن إلى تَوفّاهم الملائكةُ ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت‏.‏
و«الملائكة» جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعُه، كما هنا، ومُفرده كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يتوفّاكم مَلَك الموتتِ الذي وكّل بكم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏ فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواحَ الناس واحِداً، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملَك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيّده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين توفّاهم الملائكة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قالوا فيم كُنتم‏}‏‏.‏
و ‏{‏تَوفّاهم‏}‏ فعل مضي يقال‏:‏ توفّاه الله، وتَوفّاه ملك الموت، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لَحاق تَاءِ التأنيث لفعلها، تقول‏:‏ غَزَتْ العربُ، وغَزَى العربُ‏.‏
وظلم النفس أن يفعل أحد فِعلا يؤول إلى مضرّته، فهو ظالم لنفسه، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه‏.‏ والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا تَرضى به النفوس السليمة والشرائعُ، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية‏.‏
وقد اختُلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ المراد به الكفر، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثَّروا سواد المشركين، فقُتلوا ببدر كافرين، فقال المسلمون‏:‏ كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏ رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا‏:‏ وكان منهم أبو قيس بن الفاكِه، والحارث بن زمْعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج؛ فهؤلاء قتلوا‏.‏
وكان العباس بن عبد المطلب، وعَقيلٌ ونوفلٌ ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسِروا وفَدَوْا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصحّ الأقوال في هذه الأية‏.‏
وقيل‏:‏ أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة‏.‏ قال السديّ‏:‏ كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافراً حتّى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك‏.‏ وقال غيره‏:‏ بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفّر تاركها‏.‏ فعلى قول السدّي فالظلم مراد به أيضاً الكفر لأنّه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أنّ الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكّن من ذلك، وهذا بعيد فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفّار‏.‏ وعلى قول غيره‏:‏ فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أنّ المسلمين لم يعُدّوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لأنّهم لم يتعيّن الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدّوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا فيمَ كنتم‏}‏ خبر ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم‏:‏ ‏{‏كنّا مسْتضعفين في الأرض‏}‏، فقالوا لهم ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏‏.‏
ويجوز أن يكون جملة‏:‏ ‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏ موضع بدل الاشتمال من جملة ‏{‏توفّاهم‏}‏، فإنّ توفّي الملائكة إيّاهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم ‏{‏فيم كنتم‏}‏‏.‏
وأمّا جملة ‏{‏قالوا كنّا مستضعفين في الأرض‏}‏ فهي مفصولة عن العاطف جرياً على طريقة المقاولة في المحاورة، على ما بيّناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجْعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة‏.‏ وكذلك جملة‏:‏ قالوا ألم تكن أرض الله واسعة‏}‏‏.‏ ويكون خبر ‏(‏إنّ‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً‏}‏ على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إنّ موصولاً فإنّه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيراً، وقد تقدّمت نظائره‏.‏ والإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم ‏(‏إنّ‏)‏ وخبرها بالمقاولة، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدلّ عليه أيضاً اسم الإشارة‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فيم كنتم‏}‏ مستعْمل للتقرير والتوبيخ‏.‏
و ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ استفهام عن حالة كما دلّ عليه ‏(‏في‏)‏‏.‏ وقد علم المسؤول أنّ الحالة المسؤولون أنّ الحالة المسؤول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة‏.‏
فقالوا معتذرين ‏{‏كنّا مستضعفين في الأرض‏}‏‏.‏
والمستضعف‏:‏ المعدود ضعيفاً فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزّة تُمَكِّنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطّر إلى كتمان إسلامه‏.‏ والأرض هي مكة‏.‏ أرادوا‏:‏ كنّا مكرهين على الكفر ما أقمنا في مكة، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذراً يبيح البقاء على الشرك، أو يبيح التخلّف عن الهجرة، على اختلاف التفسيرين، فلذلك ردّ الملائكة عليهم بقولهم‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها، فبذلك تظهرون الإيمان، أو فقد اتّسعت الأرض فلا تعدمون أرضاً تستطيعون الإقامة فيها‏.‏ وظاهر الآية أنّ الخروج إلى كلّ بلد غير بلد الفتنة يعدّ هجرة، لكن دلّ قوله‏:‏ ‏{‏مهاجراً إلى الله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ أنّ المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأمّا هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأنّ النبي وفريقاً من المؤمنين، كانوا بعدُ بمكة، وكانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ردّ مفحم لهم‏.‏
والمهاجرة‏:‏ الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلةٌ من هَجَر إذا ترك، وإنّما اشتقّ للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكلّ فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مأواهم جهنّم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إيّاهم وتهديدهم‏.‏
وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مأواهم جهنم‏}‏ للتنبيه على أنّهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجْل الصفات المذكورة قبله، لأنّهم كانوا قادرين على التخلّص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ المستضعفين‏}‏ استثناء من الوعيد، والمعنى إلاّ المستضعفين حقّاً، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلّة جهد، أو لإكراه المشركين إيّاهم وإيثاقهم على البقاء‏:‏ مثل عيّاش بن أبي ربيعة المتقدّم خبره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، ومثل سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد‏.‏ وفي «البخاري» أنّ رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء‏:‏ «اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة اللهمّ نجّ الوليد بن الوليد، اللهمّ نجّ سلمة بن هشام اللهمّ نجّ المستضعفين من المؤمنين»‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كنتُ أنا وأميّ من المستضعفين‏.‏
والتبيين بقوله‏:‏ ‏{‏من الرجال والنساء والولدان‏}‏ لقصد التعميم‏.‏ والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذراً لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة‏.‏ وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 75‏]‏، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ حال من المستضعفينَ موضّحة للاستضعاف ليظهر أنّه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم ‏{‏كُنَا مستضعفين في الأرض‏}‏، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إمّا لمنع أهل مكة إيّاهم، أو لفقرهم‏:‏ ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ أي معرفة للطريق كالأعمى‏.‏
وجملة ‏{‏فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم‏}‏ الفاء فيها للفصيحة، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنّهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة‏.‏
وفعل ‏{‏عسى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم‏}‏ يقتضي أنّ الله يرجو أن يعفو عنهم، وإذْ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنّه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعيّن أن يكون معنى الرجاء المستفاد من ‏{‏عسى‏}‏ هنا معنى مجازياً بأنّ عفوه عن ذنبهم عفوٌ عزيز المنال، فمُثِّل حال العفو عنهم بحال من لا يُقطع بحصول العفو عنه، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلاّ يتساهلوا في شروطه اعتماداً على عفو الله، فإنّ عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأنّ البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمةُ أن يكلّفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سُمَيَّة أمُّ عمّارٍ بن ياسر‏.‏
وهذا الاستعمال هو محمل موارد ‏{‏عسى‏}‏ و‏(‏لعلّ‏)‏ إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏53‏)‏، وهو معنى قول أبي عبيدة‏:‏ «عسى من الله إيجاب» وقول كثير من العلماء‏:‏ أنّ عسى ولعلّ في القرآن لليقين، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله‏:‏ ‏{‏وقل عَسَى أن يهديني ربّي لأقرب من هذا رشداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏‏.‏
ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرَف ‏(‏إنْ‏)‏ الشرطية في كلام الله تعالى، مع أنّ أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله‏.‏
وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبةً لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيّده حديث‏:‏ ‏"‏ لا هجرة بعد الفتح ولكنْ جِهَادٌ ونيَّة ‏"‏ فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلاّ المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ أللهمّ أمْضضِ لأصحابي هجرتهم ولا تَرُدُّهْم على أعقابهم ‏"‏ قاله بعدَ أن فتحت مكة‏.‏ غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظراً في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال‏:‏
الحالة الأولى‏:‏ أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغَم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمَه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصرّ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانِهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016‏.‏
الحالة الثانية‏:‏ أن يكون ببلدِ الكفر غيرَ مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمَّى الإقامةِ ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ‏.‏
الحالة الثالثة‏:‏ أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلاّ أنّهم لم يفتِنوا الناسَ في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكسروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأوّل قولَ مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال‏:‏ إنّ مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره‏.‏ وقال البرزلي عن ابن عرفة‏:‏ إن كان أمير تونس قويّاً على النصارى جاز السفر، وإلاّ لم يجز، لأنّهم يهينون المسلمين‏.‏
الحالة الرابعة‏:‏ أن يتغلّب الكفّار على بلدٍ أهلُه مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي‏.‏ وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يَعِب المهاجر على القاطن، ولا القاطنُ على المهاجر‏.‏
الحالة الخامسة‏:‏ أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرّفهم في قومهم، وولاية حُكَّامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدّة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتدَاب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها‏.‏
الحالة السادسة‏:‏ البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلِط عملاً صالحاً وآخرَ سَيّئاً ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلاّ بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلاً وهذه رُوي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يُحفظ أنّ أحداً من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة‏.‏ وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله‏.‏ وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضاً فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين‏.‏ ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنّها مراتب، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏
‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏ومن يهاجر‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنّ الذين توفّاهم الملائكة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، و‏(‏مَن‏)‏ شرطية‏.‏ والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله‏.‏ والسبيل استعارة معروفة، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية‏.‏ والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب‏.‏ أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام، أي التراب، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر، قال الحارث بن وعلة الذهلي‏:‏
لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغم
إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم‏.‏ ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة‏.‏ والسعة ضد الضيق، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة، وتطلق على رفاهية العيش، فهي سعة مجازية‏.‏ فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس، ومن جهة راحة الإقامة‏.‏
ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد من بلد الكفر، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه‏.‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله‏}‏ الخ‏.‏ ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله‏.‏ وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة‏.‏
ومعنى ‏{‏يدركه الموت‏}‏، أي في الطريق، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ثم يدركه الموت مهاجراً، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية‏:‏ فقيل‏:‏ الهجرة إلى المدينة، وقيل‏:‏ الهجرة إلى الحبشة‏.‏ واختلف في المعني بالموصول من قوله‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله‏}‏‏.‏ فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله‏:‏ وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97 100‏]‏ كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة، وكان هذا الرجل مريضاً، فقال‏:‏ إني لَذو مال وعبيد، فدعا أبناءَه وقال لهم‏:‏ احملوني إلى المدينة‏.‏
فحملوه على سرير، فلمّا بلغ التنعيم توفّي، فنزلت هذه الآية فيه، وتعمّ أمثاله، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول‏.‏
وكان هذا الرجل من كنانة، وقيل من خزاعة، وقيل من جُنْدَع، واختلف في اسمه على عشرة أقوال‏:‏ جندب بن حمزة الجندعي، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي‏.‏ ضمرة بن بغيض الليثي، ضمرة بن جندب الضمْري، ضمرة بن جندب الضمْري، ضمرة بن ضمرة بن نعيم‏.‏ ضمرة من خزاعة ‏(‏كذا‏)‏‏.‏ ضمرة بن العيص‏.‏ العيص بن ضمرة بن زنباع، حبيب بن ضمرة، أكثم بن صيفي‏.‏
والذين قالوا‏:‏ إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا‏:‏ إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات‏.‏ وسياق الشرط يأبى هذا التفسير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏
‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏
انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر، على عادة القرآن في تفنين أغراضه، والتماس مناسباتها‏.‏ والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها‏.‏ والضرب في الأرض‏:‏ السفر‏.‏
‏(‏وإذا‏)‏ مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط‏.‏ ‏(‏وإذا‏)‏ منصوبة بفعل الجواب‏.‏
وقصر الصلاة‏:‏ النقص منها، وقد عُلم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات، وقد بيّنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين‏.‏ وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء‏.‏ ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة، ولم تقصر المغرب لئلاّ تصير شفعاً فإنّها وتر النهار، ولئلاّ تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح‏.‏
وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك، وقد قيل‏:‏ إنّ قصر الصلاة في السفر شُرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ، وقيل‏:‏ في ربيع الآخر من سنة اثنتين، وقيل‏:‏ بعد الهجرة بأربعين يوماً‏.‏ وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ فُرِضت الصلاة ركعتين فأقِرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر، وهو حديث بيّن واضح‏.‏ ومحمل الآية على مقتضاه‏:‏ أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً نسخ ما كان من عددها، وكان ذلك في مبدأ الهجرة، وإذ قد كان أمر الناس مقاماً على حالة الحضر وهي الغالب عليهم، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أن تقصروا من الصلاة‏}‏ وإنّما قالت عائشة «أقرت صلاة السفر» حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة، فلا تعارض بين قولها وبين الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحَال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالِهم عليهم صلاتهم، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة، وهذا رأي مالك، يدلّ عليه ما أخرجه في «الموطأ»‏:‏ أنّ رجلاً من آل خالد بن أسِيد سأل عبد الله بن عُمر «إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر»، فقال ابن عمر‏:‏ «يابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل»، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر‏.‏
وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة، وأحدهما أسبق من الآخر، كما قال ابن عمر‏.‏ وعن يعلى بن أمية أنّه قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ إنّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إن خفتم‏}‏ وقد أمِن الناس‏.‏ فقال‏:‏ عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال ‏"‏ صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقَته ‏"‏‏.‏ ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ على فهمه تخصيصَ هذه الآية بالقصر لأجل الخوف، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة، وقوله‏:‏ له صدقة الخ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله، أي تخفيف، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته، فلا حاجة إلى ما تَمَحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وتقتصر الآية على صلاة الخوف، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس، وأبي حنيفة، ومحمد بن سحنون، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه، عن تأويل قوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ الآيات‏.‏
أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية، واتَّبعه جمهور الصحابة إلاّ عائشة وسعدَ بن أبي وقاص، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في «الموطأ» و«الصحيحين» لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها، فلو صلاّها رباعية لكانت زيادة في الصلاة، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة‏:‏ صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصر‏.‏ وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلاّ القصر، وكذلك الخلفاء من بعده‏.‏ وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان‏.‏ غير أنّ مالكاً لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ لمنافاته لصيغ الوجوب‏.‏ ولقد أجاد محامل الأدلّة‏.‏
وأخْبِر عن الكافرين وهو جمع بقوله‏:‏ ‏{‏عَدُوّاً‏}‏ وهو مفرد‏.‏ وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدوَ لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله‏:‏ ‏{‏فأقمت لهم الصلاة‏}‏‏.‏
واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف‏.‏ وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقَاع بموضع يقال له‏:‏ نَخلة بين عسفان وضجنان من نجد، حين لقوا جموع غطفان‏:‏ محارب وأنمار وثعلبة‏.‏ وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة، وأنّ أوّل صَلاة صلّيت بها هي صلاة العصر، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا‏:‏ هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غِرّة، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية‏.‏ غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ فاقتضى ببادئ الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلاّ إذا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خصوصية لإقامته‏.‏ وبهذا قال إسماعيل بن عُلية، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لِحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول، بخلاف غيره من الأيّمة، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام‏.‏ وهذا قول ضعيف‏:‏ لمخالفته فعل الصحابة، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان‏.‏ على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبداً‏.‏ ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلاّ للضرورة، كما في الحديث ‏"‏ لولا أنّ قوماً لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله ‏"‏ فليس المراد الاحترازَ عن كون غيره فيهم ولكن التنويهَ بكون النبي فيهم‏.‏ وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للملسمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏
وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال‏:‏ «فلتقم طائفة منهم معك» علم أنّ ثمة طائفة أخرى، فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وليأخذوا أسلحتهم‏}‏ للطائفة باعتبار أفرادها، وكذلك ضمير قوله‏:‏ ‏{‏فإذا سجدوا‏}‏ للطائفة التي مع النبي، لأن المعية معية الصلاة، وقد قال‏:‏ ‏{‏فإذا سجدو‏}‏‏.‏ وضمير قوله‏:‏ ‏{‏فليكونوا‏}‏ للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة، لظهور أنّ الجواب وهو ‏{‏فليكونوا من ورائكم‏}‏ متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى‏}‏ هذه هي المقابلة لقوله‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏‏.‏
وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة‏.‏ ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لأنّه قال‏:‏ ‏{‏فليصلوا معك‏}‏‏.‏ فجعلهم تابعين لصلاته، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى فلتصلّ بهم‏.‏
وبهذا يبطل قول الحسن البصري‏:‏ بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين بكلّ طائفة، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة‏:‏ نافلة له، فريضة للمؤمنين، إلاّ أن يلتزم الحسن ذلك‏.‏ ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل‏.‏ ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه‏.‏
وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة‏:‏ بالنسبة للمأمومين‏.‏ والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في «الموطأ»، عن سهل بن أبي حثمة‏:‏ إنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفّت طائفة معه وطائفة وِجاه العدوّ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام، وأتمّوا ركعة لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا وِجاه العدوّ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له، ثم سلّم، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلُّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية، والروايات غيرُ هذه كثيرة‏.‏
والطائفة‏:‏ الجماعة من الناس ذات الكثرة‏.‏ والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف‏.‏ وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على طائفتين مِن قبْلِنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏ استُعمل الأخذ في حقيقته ومجازه‏:‏ لأنّ أخذ الحِذر مجاز، إذ حقيقة الأخذ التناول، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه‏.‏ وأخذُ الأسلحة حقيقة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوّأوا الدار والإيمانَ من قبلهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏، فإنّ تَبَوّأ الإيماننِ الدخول فيه والاتّصافُ به بعد الخروج من الكفر‏.‏ وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول‏:‏ ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ود الذين كفروا‏}‏ الخ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقرباً عندهم، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلاً من المشركين لحقيقة الدين، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلاً يكونوا عند ظنّ المشركين، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان‏.‏
والأسلحة جمع سلاح، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد، وهي السيف والرمح والنبل والحَرْبَة وليس الدرع ولا الخُوذَة ولا التُّرس بسلاح‏.‏ وهو يذكّر ويؤنث‏.‏ والتذكير أفصح، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زِنات جمع المذكّر‏.‏
والأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخُوذات‏.‏ ‏{‏فيميلون‏}‏ مفرّع عن قوله‏:‏ ‏{‏لو تغفلون‏}‏» الخ، وهو محلّ الودّ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم‏.‏
والميل‏:‏ العدول عن الوسط إلى الطرف، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر، كما هنا، أي فيعدلون عن مُعسكرهم إلى جيشكم‏.‏ ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكَرُّ والشدُّ، عُدّي ب ‏(‏على‏)‏، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم‏.‏
وانتصب ‏(‏مَيلةً‏)‏ على المفعولية المطلقة لبيان العدد، أي شدّة مفردة‏.‏ واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعاً دون معاودة علاج، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ تنبيهاً على قصد معنى الكناية لئلاّ يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏فيميلون‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر‏}‏ الخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصةً هنا، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر‏.‏ وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلاً للفريقين كليهما، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ تذييل لتشجيع المسلمين؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحَذر، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذاباً مهيناً، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر، كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلاّ لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم، لأنّ الله إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه‏.‏ وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها، أي إن أخذتم حِذركم أمِنتم من عدوّكم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏
‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏
القضاء‏:‏ إتمام الشيء كقوله‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءهم أو أشدّ ذكراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ أنّ المراد من الذكر هنا النوافل، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد، ‏(‏فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيححِ ونحوه‏)‏، فرخّص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كلّ حال والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ تفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس علكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏ فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو، لأنّ في الرجوع إلى الأوطان سكوناً من قلاقل السفر واضطراب البدن، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا، وقد تقدّم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئنّ قلبي‏}‏ من سورة البقرة ‏(‏260‏)‏‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ صلّوها تامّة ولا تقصروها، هذا قول مجاهد وقتادة، فيكون مقابل قوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، وهو الموافق لما تقدّم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف، دون قصر السفر من غير خوف‏.‏ فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائماً أي تامّاً، على وجه التمثيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الوزن بالقسط‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنْ أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وهذا قول جمهور الأيّمة‏:‏ مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لاَ يؤدّي المجاهد الصلاة حتّى يزول الخَوف، لأنّه رأى مباشرة القتال فعلاً يفسد الصلاة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض إلى قوله‏:‏ فإذا اطمأننتم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101 103‏]‏ يرجْح قول الجمهور، لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها‏.‏
والموقوت‏:‏ المحدود بأوقات، والمنجّم عليها، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز‏.‏ والأول أظهر هنا‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏
‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وخذوا حذركم إنّ الله أعدّ للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ زيادة في تشجيعهم على قتال الأعداء، وفي تهوين الأعداء في قلوب المسلمين، لأنّ المشركين كانوا أكثر عدداً من المسلمين وأتمّ عُدّة، وما كان شرع قصر الصلاة وأحوال صلاة الخوف، إلاّ تحقيقاً لنفي الوهن في الجهاد‏.‏
والابتغاءُ مصدر ابتغى بمعنى بَغي المتعدّي، أي الطلب، وقد تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏أفغير دين الله تبغون‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏83‏)‏‏.‏
والمراد به هنا المُبادأة بالغزوِ، وأن لا يتقاعسوا، حتّى يكون المشركون هم المبتدئين بالغزو‏.‏ تقول العرب‏:‏ طلبنا بني فلان، أي غزوناهم‏.‏ والمبادئ بالغزو له رعب في قلوب أعدائه‏.‏ وزادهم تشجيعاً على طلب العدوّ بأنّ تَألّم الفريقين المتحاربين واحد، إذ كلٌ يخشى بأس الآخر، وبأنّ للمؤمنين مزية على الكافرين، وهي أنّهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفّار، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا، ورجاء الثواب في الأحوال كلّها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ متعلّق ب ‏{‏ترجون‏}‏‏.‏ وحذف العائد المجرور بمن من جملة ‏{‏ما لا يرجون‏}‏ لدلالة حرف الجرّ الذي جُرّ به اسم الموصول عليه، ولك أن تجعل مَا صْدق ‏{‏ما لا يرجون‏}‏ هو النصر، فيكون وعداً للمسلمين بأنّ الله ناصرهم، وبشارة بأنّ المشركين لا يرجون لأنفسهم نصراً، وأنّهم آيسون منه بما قذف الله في قلوبهم من الرعب، وهذا ممّا يفتّ في ساعدهم‏.‏ وعلى هذا الوجه يكون قوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ اعتراضاً أو حالاً مقدّمة على المجرور بالحرف، والمعنى على هذا كقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏
‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏
اتّصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا خُذوا حذركم فانفروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏ الآية، وتخلّل فيه من أحوال المنافقين في تربّصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد، وانتقل إلى ذكر الهجرة، وعقّب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق‏.‏
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏
وجمهور المفسّرين على أنّ هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها‏:‏ أنّ أخوةً ثلاثة يقال لهم‏:‏ بِشر وبَشير ومُبشّر، أبناء أبَيْرِق، وقيل‏:‏ أبناء طُعْمَةَ بن أبيرق، وقيل‏:‏ إنّما كان بشير أحدهم يكنى أبا طُعمة، وهم من بني ظَفَر من أهل المدينة، وكان بشير شرّهم، وكان منافقاً يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد، وكانت عِير قد أقبلت من الشام بدَرْمَككٍ وهو دقيق الحُوّارَى أي السميذ فابتاع منها رفاعة بن زيد حِملا من دَرْمك لطعامه، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيّد المنزل شيئاً لطعامه فجَعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح، فعدَى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح، فلمّا أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك، فجعل يتحسّس، فأنبئ بأنّ بني أبيرق استوقدُوا في تلك الليلة ناراً، ولعلّه على بعض طعام رفاعة، فلمّا افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مُليل الأنصاري‏.‏ وقيل‏:‏ في دار يهودي اسمه زيد بن السمين، وقيل‏:‏ لبيد بنُ سهل، وجاء بعض بني ظَفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكوا إليه أنّ رفاعة وابن أخيه اتَّهَما بالسرقة أهلَ بيت إيمان وصلاح، قال قتادة‏:‏ فأتَيت رسول الله، فقال لي ‏"‏ عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بيّنة ‏"‏‏.‏ وأشاعوا في الناس أنّ المسروق في دار أبي مُليل أو دار اليهودي‏.‏ فما لبث أن نزلت هذه الآية، وأطْلَعَ الله رسولَه على جِليّة الأمر، معجزة له، حتى لا يطمع أحد في أن يروّج على الرسول باطلاً‏.‏ هذا هو الصحيح في سَوق هذا الخبر‏.‏ ووقع في «كتاب أسباب النزول» للواحدي، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرتُه‏:‏ وأنّ بني ظَفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي، وأنّ رسول الله هَمّ بذلك، فنزلت الآية‏.‏ وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لام اليهودي وبَرّأ المتّهم، وهذه الرواية واهية، وهذه الزيادة خطأ بيِّنٌ من أهل القَصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن‏.‏
والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة، فهو غير مختصّ بها، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بما أراك الله‏}‏ الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ‏.‏ والرؤية في قوله‏:‏ ‏{‏أراك الله‏}‏ عرفانية، وحقيقتها الرؤية البصرية، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد‏.‏ والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحداً فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول، فأغنى عنه الموصول، وهو حذف كثير، والتقدير‏:‏ بما أراكَه الله‏.‏
فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وليس المراد أنّه يُعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له‏:‏ إن فلاناً على الحقّ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده، ولأنّه لا يُلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإنْ صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية، فأعلَمنا أنّ قَول الرجل لمن ليس ولده‏:‏ هذا ولدي، لا يجعل للمنسوب حقّاً في ميراثه‏.‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها، وقد يعرض الخطأ لغيره، وليس المراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس، ولذلك قال ‏"‏ إنّما أنا بَشَر وإنَّكُم تختصمون إليّ ولعَلّ بعضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بحجّته من بعضضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخُذْه فإنّما أقْتَطِعُ له قِطعَة من نار ‏"‏‏.‏ وغير الرسول يخطئ في الاندراج، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة‏.‏ وعن عمر بن الخطاب أنّه قال‏:‏ «لا يقولّن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلاّ لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علماً»، ومعناه هو ما قدّمناه من عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى الله عليه وسلم
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للخائنين خصيماً‏}‏ لام العلّة وليست لامَ التقوية‏.‏ ومفعول ‏{‏خصيماً‏}‏ محذوف دلّ عليه ذكر مقابله وهو ‏{‏للخائنين‏}‏ أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين، أي لا تخاصم عنهم‏.‏
فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله‏:‏ «كنت أنا خَصْمَه يوم القيامة»‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد الأمّة، لأنّ الخصام عن الخائنين لا يتوقّع من النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما المراد تحذير الذين دفعتهم الحميّة إلى الانتصار لأبناء أبيرق‏.‏
والأمرُ باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول، فالمراد بالأمر غيره، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه، أو أراد‏:‏ واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم‏.‏ وهذا نظير قوله‏:‏ ‏{‏ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا لله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه، كما أخطأ فيه مَن تَوهَّم ذلك، فركَّب عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطر بباله مَا أوجب أمره بالاستغفار، وهو هَمُّه أن يجادل عن بني أبيرق، مع علمه بأنّهم سرقوا، خشية أن يفتضحوا، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجادل‏}‏ للرسول، والمراد نهي الأمّة عن ذلك، لأنّ مثله لا يترقّب صدوره من الرسول عليه الصلاة والسلام كما دلّ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏‏.‏
و ‏{‏يختانون‏}‏ بمعنى يَخونون، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة‏.‏ ومعنى خيانتهم أنفسهم أنّهم بارتكابهم ما يضرّ بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله‏:‏ ‏{‏عَلم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ ولك أن تجعل ‏{‏أنفسهم‏}‏ هنا بمعنى بني أنفسهم، أي بني قومهم، كقوله ‏{‏تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏، وقولِه ‏{‏فسلّموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، أي الذين يختانون ناساً من أهلهم وقومهم‏.‏ والعرب تقول‏:‏ هو تميمي من أنفسهم، أي ليس بمولى ولا لصيق‏.‏
والمجادلة مفاعلة من الجدل، وهو القدرة على الخصام والحجّة فيه، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك، ومنه سمّي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه عِلْمَ الجدل، ‏(‏وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق‏)‏‏.‏ ولم يسمع للجدل فعل مجرّد أصلي، والمسموع منه جَادل لأنّ الخصام يستدعي خصمين‏.‏ وأمّا قولهم‏:‏ جَدَله فهو بمعنى غلبه في المجادلة، فليس فعلا أصلياً في الاشتقاق‏.‏ ومصدر المجادلة، الجدال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحجّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏ وأمّا الجَدَل بفتحتين فهو اسم المصدر، وأصله مشتقّ من الجَدْل، وهو الصرع على الأرض، لأنّ الأرض تسمّى الجَدَالة بفتح الجيم يقال‏:‏ جَدَله فهو مجدول‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏يستحقون من الناس‏}‏ بيان ل ‏{‏يختانون‏}‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏ولا يستخفون من الله‏}‏ حال، وذلك هو محلّ الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم‏.‏ والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنّه يستطيع أن يستخفي من الله‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وهو معهم‏}‏ حال من اسم الجلالة، والمعية هنا معية العلم والاطّلاع و‏{‏إذ يبيّتون‏}‏ ظرف، والتبييت جعل الشيء في البيَات، أي الليل، مثل التصبيح، يقال‏:‏ بيَّتهم العدوُّ وصبَّحهم العدوُّ وفي القرآن‏:‏ ‏{‏لنبيتَنَّه وأهلَه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 49‏]‏ أي لنأتينّهم ليلا فنقلتهم‏.‏ والمبيَّت هنا هو ما لا يُرضي من القول، أي دبّروه وزوّروه ليلا لقصد الإخفاء، كقول العرب‏:‏ هذا أمر قُضي بليل، أو تُشُورّ فيه بليل، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البُراء بتهمة السرقة‏.‏
وقوله ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم‏}‏ استئناف أثاره قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏، والمخاطب كلّ من يصلح للمخاطبة من المسلمين‏.‏ والكلام جار مجرى الفرض والتقدير، أو مجرى التعريض ببعض بني ظَفَر الذين جادلوا عن بني أبيرق‏.‏
والقول في تركيب ‏{‏هأنتم هؤلاء‏}‏ تقدّم في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ وتقدّم نظيره في آل عمران ‏(‏119‏)‏ ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم‏.‏
و ‏(‏أمْ‏)‏ في قوله‏:‏ أمَّن يكون عليهم وكيلاً‏}‏ مُنقطعة للإضراب الانتقالي‏.‏ و‏(‏مَن‏)‏ استفهام مستعمل في الإنكار‏.‏
والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 113‏]‏
‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏
اعتراض بتذييل بين جملة ‏{‏هَأنتم هَؤلاء جادلتم عنهم‏}‏ وبين جملة‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمَّت طائفة منهم أن يُضلّوك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 109 113‏]‏‏.‏
وعَمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه‏.‏ وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر، وأطلق أيضاً على ارتكاب المعاصي‏.‏ وأحسنُ ما قيل في تفسير هذه الآية‏:‏ أنّ عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس، وهو الاعتداء على حقوقهم، وأنّ ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصّة ما أمر به أو نُهيَ عنه‏.‏
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من اللَّهِ عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة، ومعنى ‏{‏يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ يتحقّق ذلك، فاستعير فعل ‏{‏يجد‏}‏ للتحقّق لأنّ فعل وَجد حقيقته الظَفَر بالشيء ومشاهدته، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة‏.‏ ومعنى ‏{‏غفوراً رحيماً‏}‏ شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل، فيصير المعنى يجد الله غافراً له راحماً له، لأنّه عامّ المغفرةِ والرحمةِ فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زَمناً، فكانت صيغة ‏{‏غفوراً رحيماً‏}‏ مع ‏{‏يجد‏}‏ دَالَّةً على القبول من كلّ تائب بفضل الله‏.‏
وذكر الخطيئة والإثممِ هنا يدلّ على أنّهما متغايران، فالمراد بالخطيئة المعصية الصغيرة، والمراد بالإثم الكبيرة‏.‏
والرمي حقيقته قذف شيء من اليد، ويطلق مجازاً على نسبة خبر أو وصف لصاحبه بالحقّ أو الباطل، وأكثر استعماله في نسبة غير الواقع، ومن أمثالهم «رَمتْنِي بِدائها وانْسَلَّتْ» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ وكذلك هو هنا، ومثله في ذلك القذف حقيقة ومجازا‏.‏
ومعنى ‏{‏يرم به بريئاً‏}‏ ينسبه إليه ويحتال لترويج ذلك، فكأنَّه ينزع ذلك الإثم عن نفسه ويرمي به البريء‏.‏ والبهتان‏:‏ الكذب الفاحش‏.‏ وجُعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثماً مبينا‏:‏ لأنّ رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حقّ الغير‏.‏ ودُلّ على عظم هذا البهتان بقوله‏:‏ ‏{‏احتمل‏}‏ تمثيلاً لحال فاعله بحال عناء الحامل ثِقلا‏.‏ والمبين الذي يَدلّ كلّ أحدٍ على أنّه إثم، أي إثماً ظاهراً لا شبهة في كونه إثماً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك‏}‏ عطف على ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏‏.‏
والمراد بالفضل والرحمة هنا نِعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه‏.‏ وظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل‏.‏ ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده، وأنّ بني ظَفَر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ، أوْ أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسِين خِيفة أن يُطلع الله رسوله على جليّة الأمر، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعاً لا هَمّا، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به، وإنّما كان انتفاءُ همّهم تضليلَه فضلاً ورحمة، لدلالته على وقاره في نفوس الناس، وذلك فضل عظيم‏.‏
وقيل في تفسير هذا الانتفاء‏:‏ إنّ المراد انتفاء أثره، أي لولا فضل الله لضلِلْت بهمّهم أن يُضلّوك، ولكن الله عصمك عن الضلال، فيكون كناية‏.‏ وفي هذا التفسير بُعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏}‏ أنّهم لو همُّوا بذلك لكان الضلال لاحقاً بهم دونك، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول، فحقّ عليهم الضلال بذلك، ثم لا يجدونك مصغِيا لضلالهم، و‏{‏من‏}‏ زائدة لتأكيد النفي‏.‏ و‏{‏شيء‏}‏ أصله النَّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله ‏{‏يضرّونك‏}‏ أي شيئاً من الضرّ، وجُرّ لأجل حرف الجرّ الزائد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ عطف على ‏{‏وما يضرونك من شيء‏}‏‏.‏ وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته‏}‏ ولذلك ختمها بقوله‏:‏ ‏{‏وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏، فهو مثل ردّ العجز على الصدر‏.‏ والكتاب‏:‏ والقرآن‏.‏ والحكمة‏:‏ النبوءة‏.‏ وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّباتتِ‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏
‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏
لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاوُر، سِرّا وجهراً، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفاً، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهللِ الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو ‏{‏ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ الآيات، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً، فقال‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏‏.‏ فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى، والمناسبةُ قد تبيّنت‏.‏
والنجوى مصدر، هي المسَارّة في الحديث، وهي مشتقّة من النجو، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه، ويطلق النجوى على المناجين، وفي القرآن ‏{‏إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى‏}‏، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين‏.‏ والضمير الذي أضيف إليه ‏{‏نجوى‏}‏ ضمير جماعة الناس كلّهم، نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يُعلنون‏}‏ في سورة هود ‏(‏5‏)‏، وليس عائداً إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏ إلى هنا؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏}‏‏.‏ وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث‏.‏ فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبد القدوس‏:‏
الستر دون الفاحشات ولا *** يَغشاك دون الخير مِنْ ستْرِ
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 10‏]‏‏.‏
وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات، بحيث لا تصير دأباً إلاّ لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى‏.‏
ومعنى ‏{‏لا خير‏}‏ أنّه شرّ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه، لعدم الاعتداد بالواسطة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ‏.‏
وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو مُتناجيِهم، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلاً من نجواهم فيه خير، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع‏.‏ والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ من أمر بصدقة‏}‏ على تقدير مضاف، أي‏:‏ إلاّ نجوى من أمر، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين، وهو مستثنى من ‏{‏كثير‏}‏، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم‏.‏ أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع، وليس فيها ضرر، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة، أو نكاح أو نحو ذلك‏.‏
وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور‏:‏ الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس‏.‏ وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم، وهو الكثير، موصوفاً بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعاً‏.‏ والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله‏.‏ فدلّ على أنّ كونها خيراً وصف ثابت لها لما فيها من المنافع، ولأنّها مأمور بها في الشرع، إلاّ أنّ الثواب لا يحصل إلاّ عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات»‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏(‏نُؤتيه‏)‏ بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏مرضاة الله‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏
‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏ بمناسبة تضادّ الحالين‏.‏ والمشاقّة‏:‏ المخالفة المقصودة، مشتقّة من الشِّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شِقّا يكون فيه غير شِقّ الآخر‏.‏
فيحتمل قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيداً للمرتدّ‏.‏ ومناسبتها هنا أن بشير بن أبَيْرق صاحب القصّة المتقدّمة، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة، ويحتمل أن يكون مراداً به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات، ولكنّه شاقَّه عناداً ونِواء للإسلام‏.‏
وسَبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها، كما يلازم قاصد المكان طريقاً يبلغه إلى قصده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقّوا الرسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 32‏]‏، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل، أو بناء الحصون، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين‏.‏ وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحَيطةُ لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الحُطيئة في ذلك‏:‏
أطعنا رسولَ اللَّه إذ كان بيننا *** فيا لعباد الله ما لأبي بكر
فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يُشَاقّوا الرسول‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏نوله ما تولى‏}‏ الإعراض عنه، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به، كما ورد في الحديث ‏"‏ وأمّا الآخر فأعرض الله عنه ‏"‏‏.‏ وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجّة، وأوّل من احتجّ بها على ذلك الشافعي‏.‏ قال الفخر‏:‏ «روي أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدلّ على أنّ الإجماع حجّة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتّى وجد هذه الآية‏.‏ وتقرير الاستدلال أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجباً‏.‏ بيان المقدمة الأولى‏:‏ أنّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتّبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقّة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتّباع غير سبيل المؤمنين موجباً له، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد، وأنّه غير جائز، فثبت أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتّباع سبيلهم واجباً»‏.‏ وقد قرّر غيره الاستدلال بالآية على حجّيّة الإجماع بطرق أخرى، وكلّها على ما فيها من ضعف في التقريب، وهو استلزام الدليل للمدّعي، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في «المختصر»‏.‏ واتّفقت كلمة المحقّقين‏:‏ الغزالي، والإمام في «المعالم»، وابننِ الحاجب، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الإجماع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي، جعل تمهيداً لما بعده من وصف أحوال شركهم‏.‏ وتعقيب الآية السابقة بهذه مشير إلى أنّ المراد باتّباع غير سبيل المؤمنين اتّباع سبيل الكفر من شرك وغيره، فعقّبه بالتحذير من الشرك، وأكّده بأنّ للدلالة على رفع احتمال المبالغة أو المجاز‏.‏ وتقدّم القول في مثل هذه الآية قريباً‏.‏ غير أنّ الآية السابقة قال فيها ‏{‏ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ وقال في هذه ‏{‏فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ وإنّما قال في السابقة ‏{‏فقد افترى إثماً عظيماً‏}‏ لأنّ المخاطب فيها أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 47‏]‏ فنبّهوا على أنّ الشرك من قبيل الافتراء تحذيراً لهم من الافتراء وتفظيعاً لجنسه‏.‏ وأمّا في هذه الآية فالكلام موجه إلى المسلمين فنبّهوا على أنّ الشرك من الضلال تحذيراً لهم من مشاقة الرسول وأحوال المنافقين فإنها من جنس الضلال‏.‏ وأكِّدَ الخبر هنا بحرف ‏(‏قَدْ‏)‏ اهتماماً به لأنّ المواجه بالكلام هنا المؤمنون، وهم لا يشكّون في تحقّق ذلك‏.‏
والبعيد أريد به القويّ في نوعه الذي لا يرجى لصاحبه اهتداء، فاستعير له البعيد لأنّ البعيد يُقصي الكائن فيه عن الرجوع إلى حيث صدر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 121‏]‏
‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏‏}‏
كان قوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون‏}‏ بياناً لقوله‏:‏ ‏{‏فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع‏.‏ وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادراً من العرب، وقد علم الناس حال المرأة بينهم، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها‏.‏ فالحصر في قوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏ قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي‏:‏ اللاّت، والعُزّى، ومَنَاة، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد‏.‏ وكانت العزّى لقريش، وكانت مناة للأوس والخزرج، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين‏:‏ مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام‏:‏ ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام‏.‏
ومعنى ‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان، والمراد جنس الشيطان، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام‏.‏ والمَريد‏:‏ العاصي والخارج عن المَلِك، وفي المثل «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» اسما حصنين للسموأل، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مردُ بضم الراء إذا عتا في العصيان‏.‏
وجملة ‏{‏لعنه الله‏}‏ صفة لشيطان، أي أبعده؛ وتحتمل الدعاء عليه، لكن المقام ينبو عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق‏.‏ وعطف ‏{‏وقال لأتخذن‏}‏ عليه يزيد احتمال الدعاء بُعداً‏.‏ وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله‏:‏ ‏{‏فاخرج إنّك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يُبعثون قال إنّك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 13 16‏]‏ الآية فكلّها أخبار‏.‏ وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر، وما كونّه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القُوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح، إلاّ بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض مَيل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها، فتلك خُلَس تعمل الشياطين فيها عملها، وهو ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا صراط عليّ مستقيم إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 41، 32‏]‏‏.‏ وتلك ألطاف من الله أوْدعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كلّ عصر، وبقي معها من الشرُور حظّ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه وَكَل الله أمرَ الذياد عنه إلى إرادة البشر، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة‏.‏
فمعنى الحكاية عنه بقوله‏:‏ ‏{‏لأتّخذّن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ أنّ الله خلق في الشيطان علماً ضرورياً أيقن بمقتضاه أنّ فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان، فذلك هو النصيب المفروض، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلّة‏.‏
وليس قوله‏:‏ ‏{‏من عبادك‏}‏ إنكاراً من الشيطان لعبوديته لله، ولكنّها جلافة الخطاب النَّاشئة عن خباثة التفكير المتأصّلة في جبلّته، حتّى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلاّ ما له فيه هوى، ولا يتفطّن إلى ما يحفّ بذلك من الغلظة، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة، فكلّ حظّ كان للشيطان في تصرّفات البشر من أعمالهم المعنوية‏:‏ كالعقائد والتفكيرات الشريرة، ومن أعمالهم المحسوسة‏:‏ كالفساد في الأرض، والإعلان بخدمة الشيطان‏:‏ كعبادة الأصنام، والتقريب لها، وإعطاء أموالهم لضلالهم، كلّ ذلك من النصيب المفروض‏.‏
ومعنى ‏{‏ولأضِلَّنَّهم‏}‏ إضلالهم عن الحق‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏ولأمنّينَّهم‏}‏ لأعدنَّهم مواعيد كاذبة، ألقيها في نفوسهم، تجعلهم يتمنّون، أي يقدّرون غير الواقع واقعاً، أغراقاً، في الخيال، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم‏.‏ يقال‏:‏ منَّاه، إذا وعده المواعيد الباطلة، وأطمعه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع، قال كعب‏:‏
فلا يغرنك ما منّت وما وعدت *** ومِنه سمّي بالتمنّي طلبُ ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏ولآمرنّهم فليبتْكن آذان الأنعام‏}‏ أي آمرنّهم بأن يبتّكوا آذان الأنعام فليبتّكنها، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين، فحذف مفعول أمَرَ استغناء عنه بما رُتّب عليه‏.‏ والتبتيك‏:‏ القطع‏.‏ قال تأبّط شراً‏:‏
ويجعلُ عينيه رَبيئَةَ قلبه *** إلى سَلّةٍ من حدّ أخلَقَ باتك
وقد ذكر هنا شيئاً ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخصّ أحوال العرب، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم، علامة على أنّها محرّرة للأصنام، فكانوا يشقّون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة، فكان هذا الشقّ من عمل الشيطان، إذ كان الباعثُ عليه غرضاً شيطانياً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله‏}‏ تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي، وهو البعير الذي حمَى ظهرَه من الركوب لكثرة ما أنْسَل، ويسيّب للطواغِيت‏.‏ ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشْم إذ أرادوا به التزيّن، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار‏.‏
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية‏.‏ كجعل الكواكب آلهة‏.‏ وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله‏.‏
وليس من تغيير خلق الله التصرّف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن؛ فإنّ الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحيّة، وكذلك حَلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار، وتقليمُ الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزيّن، وأمّا ما ورد في السنّة من لعن الواصلات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن فممّا أشكل تأويله‏.‏
وأحسب تأويله أنّ الغرض منه النهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلاّ فلو فرضنا هذه مَنهيّاً عنها لَما بلغ النهي إلى حدّ لَعن فاعلات ذلك‏.‏ وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنّما يكون إنما إذا كان فيه حظّ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لِنحلة شيطانية، كما هو سياق الآية واتّصال الحديث بها‏.‏ وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمّى‏:‏ «النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح»‏.‏
وجملة ‏{‏ومن يتُخذ الشيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ تذييل دالّ على أنّ ما دعاهم إليه الشيطان‏:‏ من تبتيك آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، إنّما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره، والتديّن بدعوته، وإلاّ فإنّ الشيطان لا ينفعه أن يبتّك أحد أذن ناقته، أو أن يغيّر شيئاً من خلقته، إلاّ إذا كان ذلك للتأثّر بدعوته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنّيهم‏}‏ استئناف لبيان أنّه أنجز عزمه فوعد ومنَّى وهو لا يزال يَعد ويمنّي، فلذلك جيء بالمضارع‏.‏ وإنّما لم يذكر أنّه يأمرهم فيبتّكون آذان الأنعام ويغيّرون خلق الله لظهور وقوعه لكلّ أحد‏.‏
وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك مأواهم جهنّم‏}‏ لتنبيه السامعين إلى ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر وأنّ المشار إليهم أحرياء به عقب ما تقدّم من ذكر صفاتهم‏.‏
والمحيص‏:‏ المراغ والملجأ، من حاص إذا نفَر وراغ، وفي حديث هرقل «فحَاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب»‏.‏ وقال جعفر بن عُلْبَةَ الحارثي‏:‏
ولم نَدْرِ إن حِصْنا من الموت حَيْصَة *** كَم العُمْرُ باققٍ والمدى متطاولُ
روي‏:‏ حِصنا وحيصة بالحاء والصاد المهملتين ويقال‏:‏ جاض أيضاً بالجيم والضاد المعجمة، وبهما روي بيت جعفر أيضاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏
‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏أولئك مأواهم جهنّم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 121‏]‏ جرياً على عادة القرآن في تعقيب الإنذار بالبشارة، والوعيدِ بالوعد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ مصدر مؤكّد لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏سندخلهم جنات تجري‏}‏ الخ، وهي بمعناه، فلذلك يسمّي النحاة مثلَه مؤكّداً لنفسه، أي مؤكّداً لما هو بمعناه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏حقاً‏}‏ مصدر مؤكّد لِمضمون ‏{‏سندخلهم جنات‏}‏، إذ كان هذا في معنى الوعد، أي هذا الوعد أحقّقه حقّاً، أي لا يتخلّف‏.‏ ولمّا كان مضمونُ الجملة التي قبله خالياً عن معنى الإحقاق كان هذا المصدر ممّا يسميّه النحاة مصدراً مؤكّداً لغيره‏.‏
وجملة ‏{‏ومن أصدق من الله‏}‏ تذييل للوعد وتحقيق له‏:‏ أي هذا من وعد الله، ووعود الله وعود صدق، إذ لا أصدقُ من الله قيلا‏.‏ فالواو اعتراضية لأنّ التذييل من أصناف الاعتراض وهو اعتراض في آخر الكلام، وانتصب ‏{‏قيلا‏}‏ على تمييز نسبة من ‏{‏أصدق من الله‏}‏‏.‏
والاستفهام إنكاري‏.‏
والقيل‏:‏ القول، وهو اسم مصدر بوزن فِعْل يجيء في الشرّ والخير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 124‏]‏
‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏‏}‏
الأظهر أنّ قوله‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم‏}‏ استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال، والتشويه بمساويها، وأنّ في ‏(‏ليس‏)‏ ضميراً عائداً على الجزاء المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏يجز به‏}‏، أي ليس الجزاء تابعاً لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديراً بحسب الأعمال، وممّا يؤيّد أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم‏}‏ استئنافاً ابتدائياً أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله‏:‏ ‏{‏ومن أصْدق من الله قيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏‏.‏ ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاماً في الضمير، ثم بياناً له بالحملة بعده، وهي‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏؛ وأنّ فيه تقديم جملة ‏{‏ليس بأمانيكم‏}‏ عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام، فكان تقديمها إظهاراً للاهتمام بها، وتهيئةً لإبهام الضمير‏.‏ وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم‏.‏ وجملة ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن جملة ‏{‏ليس بأمانيكم‏}‏ لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل‏.‏ ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه‏.‏ وجعل صاحب «الكشاف» الضمير المستتر عائداً على وعد الله، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالاً من ‏{‏وعْدَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏، وتكون جملة ‏{‏من يعمل سوءاً يحز به‏}‏ استئنافاً ابتدائياً محضاً‏.‏
روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق، وقتادةَ، والسدّي، والضحاك، وبعضُ الروايات يزيد على بعض، أنّ سبب نزولها‏:‏ أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى، كلّ فريق يقول للآخرين‏:‏ نحن خير منكم، ويحتجّ لذلك ويقول‏:‏ لن يدخل الجنة إلاّ من كان على ديننا‏.‏ فأنزل الله ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى، فبطل قول النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة، فبطل قول المسلمين واليهود‏:‏ لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكماً فصلاً بين الفرق، وتعليماً لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح، وتوفّر العمل الصالح معه، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏‏.‏ ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ، فهو كالعدم، فعقّب هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً‏}‏
‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏ والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين، لا لأنّ أمانيّهم كذلك، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ قالت اليهود والنصارى‏:‏ لن يدخل الجنّة إلاّ من كان منّا‏.‏ وقال المشركون‏:‏ لا نُبْعث‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأمانيكم‏}‏ للملابسة، أي ليس الجزاء حاصلاً حصولاً على حسب أمانيّكم، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية‏.‏
والأمانيّ جمع أمنية، وهي اسم للتمنّي، أي تقدير غير الواقع واقعاً‏.‏ والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة‏.‏ وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏78‏)‏‏.‏ وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به‏.‏ وما وافقه هو الحقّ، والمقصد المهمّ هو قوله‏:‏ ‏{‏ولا أمانيّ أهل الكتاب‏}‏ على نحو‏:‏ ‏{‏وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏ فإنّ اليهود كانوا في غرور، يقولون‏:‏ لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة‏.‏ وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏تلك أمانيّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك‏.‏
وقيل‏:‏ الخطاب لكفار العرب، أي ليس بأمانيّ المشركين، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله، وهو محمل للآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ زيادة تأكيد، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحداً يغني عن عذاب الله‏.‏
والوليّ هو المولى، أي المشارك في نسب القبيلة، والمراد به المدافع عن قريبه، والنصيرُ الذي إذا استنجدته نصرَك، أو الحليف، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين‏.‏
ووجه قوله‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ قصد التعميم والردّ على من يحرم المرأة حظوظاً كثيرة من الخير من أهل الجاهلية أو من أهل الكتاب‏.‏ وفي الحديث «ولْيَشْهَدْنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين»‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ لبيان الأبهام الذي في ‏(‏مَن‏)‏ الشرطية في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَدْخلون‏}‏ بفتح التحتية وضمّ الخاء‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، ورَوْح عن يعقوب بضمّ التحتيّة وفتح الخاء على البناء للنائب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏
‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏
الأظهر أنّ الواو للحال من ضمير ‏{‏يدخلون الجنّة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 124‏]‏ الذي ما صْدَقُه المؤمنون الصالحون، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم‏.‏ والاستفهامُ إنكاري‏.‏ وانتصب ‏{‏دينا‏}‏ على التمييز‏.‏ وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية، وهو أحسن الكنايات، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء، وفيه ما كان به الإنسان إنساناً، وفي القرآن ‏{‏فقُل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعني‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏ والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله‏:‏ ‏{‏لنسفعن بالناصية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 15‏]‏، ويقولون‏:‏ أخذ بساقه، أي تمكن منه، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ الطلاق لمن أخذ بالساق ‏"‏‏.‏ ويقولون‏:‏ ألقى إليه القياد، وألقى إليه الزمام، وقال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏
يَقُولُ أنفي لكَ عَاننٍ رَاغِم *** ويقولون‏:‏ يدي رهن لفلان‏.‏ وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته‏.‏ وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأوصى بها إبراهيم بنيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏‏.‏
وجملة «وهو محسن» حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهَه لله، أي خلع الشرك قاصداً الإحسان، أي راغباً في الإسلام لِمَا رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان‏.‏ ومعنى ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أُسس ملّة إبراهيم‏.‏ فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام، ولعلّها هي‏:‏ الإيمان، والإحسان، والإسلام‏.‏ ولك أن تجعل معنى ‏{‏أسلم وجهه لله‏}‏ أنّه دخل في الإسلام، وأنّ قوله‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ مخلص راغب في الخير، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد‏.‏ وتقدّم أنّ ‏{‏حنيفاً‏}‏ معناه مائلاً عن الشرك أو متعبّداً‏.‏ وإذا جعلت معنى قوله‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي عامل الصالحات كان قوله‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلاً‏.‏ والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخِلال، وهو النواحي المتخلّلة للمكان ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏فجّرنا خلالهما نهرا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل‏.‏ ويقال‏:‏ خِلّ وخُلّ بكسر الخاء وضمّها ومؤنّثهُ‏:‏ خُلّة بضمّ الخاء، ولا يقال بكسر الخاء، قال كعب‏:‏
أكرم بها خُلَّةً لو أنَّها صدقت
وجمعها خلائل‏.‏ وتطلق الخلّة بضمّ الخاء على الصحبة الخالصة ‏{‏لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏، وجمعها خِلال ‏{‏مِنْ قَبْلِ أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏ ومعنى اتُخاذ الله إبراهيم خليلاً شدّة رِضَى اللَّهِ عنه، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحِيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى، واستجابة الدعوة، وذكره بخير، ونحو ذلك‏.‏
وجملة ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الخ تذييل جعل كالاحتراس، على أنّ المراد بالخليل لازم معنى الخلّة، وليست هي كخلّة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل، فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة ‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏‏.‏ والمحيط‏:‏ العليم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏
‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏
عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة‏.‏ ولعلّ هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة‏.‏ فذكر حكمه عقبها معطوفاً‏.‏ وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ الخ‏.‏ وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنّه سأل عائشة عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى‏}‏ قالت‏:‏ يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويُعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيَها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنّتهنّ في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ‏.‏
وأنّ الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال؛ قالت‏:‏ فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجْل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏
فالمراد‏:‏ ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أنّ الاستفتاء لا يتعلّق بالذوات، فهو مثل قوله‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم أمّهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وأخصّ الأحكام بالنساء‏:‏ أحكام ولايتهنّ، وأحكام معاشرتهنّ‏.‏ وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قل الله يفتيكم فيهن‏}‏ وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضرب من تبشير السائل المتحيّر بأنّه قد وجد طلبته، وذلك مثل قولهم‏:‏ على الخبير سقطت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما يتلى عليكم‏}‏ عطف على اسم الجلالة، أي ويفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم في الكتاب، أي القرآن، وإسناد الإفتاء إلى ما يُتلى إسناد مجازي، لأنّ ما يتلى دالّ على إفتاء الله فهو سبب فيه، فآل المعنى إلى‏:‏ قل الله يفتيكم فيهنّ بما يتلى عليكم في الكتاب، والمراد بذلك بما تلي عليهم من أوّل السورة، وما سيتلى بعد ذلك، فإنّ التذكير به وتكريره إفتاء به مرّة ثانية، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضاً‏.‏ وقد ألّمت الآية بخلاصة ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2 6‏]‏‏.‏ وكذلك أشارت هذه الآية إلى فِقر ممّا تقدّم‏:‏ بقوله هنا‏:‏ ‏{‏في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهنّ ما كُتب لهنّ‏}‏ فأشار إلى قوله‏:‏
‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا إلى قوله‏:‏ فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
ولحذف حرف الجرّ بعد ‏{‏ترغبون‏}‏ هنا موقع عظيم من الإيجاز وإكثار المعنى، أي ترغبون عن نكاح بعضهنّ، وفي نكاح بعض آخر، فإنّ فعْل رغب يتعدّى بحرف ‏(‏عن‏)‏ للشيء الذي لا يُحَبّ؛ وبحرف ‏(‏في‏)‏ للشيء المحبوب‏.‏ فإذا حذف حرف الجرّ احتمل المعنيين إن لم يكن بينهما تناف، وذلك قد شمله قوله في الآية المتقدّمة ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ الخ‏.‏ وأشار بقوله هنا ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ إلى قوله هنالك ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم إلى كَبيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ وإلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله‏:‏ معروفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط إلى قوله هنالك وابتلوا اليتامى إلى حسيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏
ولا شكّ أنّ ما يتلى في الكتاب هو من إفتاء الله، إلاّ أنّه لمّا تقدّم على وقت الاستفتاء كان مغايراً للمقصود من قوله‏:‏ ‏{‏الله يفتيكم فيهنّ‏}‏، فلذلك صحّ عطفه عليه عطف السبب على المسبّب‏.‏ والإفتاء الأنف هو من قوله‏:‏ ‏{‏وإنِ امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً إلى واسعاً حكيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128 130‏]‏‏.‏
و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ للظرفية المجازية، أي في شأنهن، أو للتعليل، أي لأجلهنّ، ومعنى ‏{‏كُتب لهنّ‏}‏ فُرِض لهنّ إمّا من أموال من يرثْنَهم، أو من المهور التي تدفعونها لهنّ، فلا توفوهنّ مهور أمثالهنّ، والكلّ يعدّ مكتوباً لهنّ، كما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهنّ‏}‏ ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله‏:‏ ‏{‏ما كتب لهنّ‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهنّ‏}‏‏.‏ مقصودين على حدّ استعمال المشترك في معنييه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والمستضعفين‏}‏ عطف على ‏{‏يتامى النساء‏}‏، وهو تكميل وإدماج، لأنّ الاستفتاء كان في شأن النساء خاصّة، والمراد المستضعفون والمستضعفات، ولكنّ صيغة التذكير تغليبٌ، وكذلك الولدان، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا‏}‏ عطف على ‏{‏يتامى النساء‏}‏، أي وما يتلى عليكم في القيام لليتامى بالعدل‏.‏ ومعنى القيام لهم التدبير لشؤونهم، وذلك يشمل يتامى النساء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏
‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏
عطف لبقية إفتاء الله تعالى‏.‏ وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدّم بعضه في قوله‏:‏ ‏{‏واللاتي تخافون نشوزهنّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة، وهنا ذكر نشوز البعْل‏.‏ والبعل زوج المرأة‏.‏ وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله ‏{‏وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ في ذلك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏228‏)‏‏.‏
وصيغة ‏{‏فلا جناح‏}‏ من صيغ الإباحة ظاهراً، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما‏.‏ وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع‏:‏ أي عوَض مالي تعطيه المرأة، أو تنازل عن بعض حقوقها، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئاً إلاّ أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، فسمّاه هناك افتداء، وسمّاه هنا صلحاً‏.‏ وقد شاع في الاستعمال إطلاق الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ، وهو الأظهر هنا‏.‏ واصطلح الفقهاء من المالكية‏:‏ على إطّلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق، أو النفقة لها، أو لأولادها‏.‏
ويحتمل أن تكون صيغة ‏{‏لا جناح‏}‏ مستعملة في التحريض على الصلح، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً‏.‏ فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح‏.‏ والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي‏:‏ الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته‏}‏‏.‏
وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة‏:‏ تقوى وتضعف، وتختلف عواقبها،‏.‏ باختلاف أحوال الأنفس، ويجمعها قوله‏:‏ ‏{‏خافت من بِعَلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏‏.‏ وللصلح أحوال كثيرة‏:‏ منها المخالعة، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل‏.‏ ففي «صحيح البخاري»، عن عائشة، قالت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً‏}‏ قالت‏:‏ الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وروى الترمذي، بسند حسن عن ابن عباس، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة، وفي أسباب النزول للواحدي‏:‏ أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمراً، أيّ كِبَراً فأراد طلاقها، فقالت له‏:‏ أمسكني واقْسِم لي ما بدَا لك‏.‏
فنزلت الآية في ذلك‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن يصّالحا‏}‏ بتشديد الصاد وفتح اللام وأصله يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ «إن يُصْلِحَا» بضمّ التحتيّة وتخفيف الصاد وكسر اللام أي يُصلح كلّ واحد منهما شأَنهما بما يبدو من وجوه المصالحة‏.‏
والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفاً، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأنّ هذا، وإنّ صحّ معناه، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً‏.‏ ومن جعل الصلح الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة، وهي‏:‏ أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفاً باللام فهو عين الأولى‏.‏ وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في «مغني اللبيب» في الباب السادس، فقال‏:‏ يقولون‏:‏ «النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى»، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تَرُدّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن يصّالحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ ‏{‏زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏ والشيء لا يكون فوق نفسه ‏{‏أن النَّفْس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تُنَزّل عليهم كتاباً من السماء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضاً‏.‏ والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد، كما هنا‏.‏ وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏193‏)‏‏.‏ ويأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏37‏)‏‏.‏
وقوله ‏{‏خير‏}‏ ليس هو تفضيلاً ولكنّه صفة مشبّهة، وزنه فَعْل، كقولهم‏:‏ سَمْح وسَهْل، ويجمع على خيور‏.‏ أو هو مصدر مقابل الشرّ، فتكون إخباراً بالمصدر‏.‏ وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفْعَل، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه‏.‏
جمعه أخيار، أي والصلح في ذاته خير عظيم‏.‏ والحمل على كونه تفضيلاً يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض‏.‏، وليس فيه كبير معنى‏.‏
وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة‏:‏ وهي المصدر المؤكّد في قوله‏:‏ ‏{‏صلحاً‏}‏، والإظهارُ في مقام الإضمار في قوله‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعللِ سَجية‏.‏
ومعنى ‏{‏وأحضرت الأنفس الشحّ‏}‏ ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها‏.‏ ولكونه من أفعال الجبلّة بُني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوممِ الفاعل للمجهول، كقولهم‏:‏ شُغف بفلانة، واضطُرّ إلى كذا‏.‏
ف«الشحّ» منصوب على أنّه مفعول ثان ل«أحضرِت» لأنّه من باب أعطَى‏.‏
وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال، وفي الحديث ‏"‏ أنْ تَصْدّقَ وأنت صحيح شحيح تخشَى الفقر وتأمل الغنى ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها، ومنه المشاحّة، وعكسه السماحة في الأمرين‏.‏
فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال، وهو الفدية‏.‏ فالشحّ هو شحّ المال، وتعقيب قوله‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس‏}‏ على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها‏:‏ وما إخالك تفعل، لقصد التحريض‏.‏
ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس‏:‏ من المشاحّة، وعدم التساهل، وصعوبة الشكائم، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة‏.‏ وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏180‏)‏‏.‏ وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال، وذمّ من لا سماحة فيه، فكان هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيّل بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى‏.‏ ثم عذر الناس في شأن النساء فقال‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء‏}‏ أي تمامَ العدل‏.‏ وجاء ب ‏(‏لن‏)‏ للمبالغة في النفي، لأنّ أمر النساء يغالب النفس، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّراً أشدّ التأثير، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح، وأخرى ثقيلة حمقاء، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتاً في محبّة الزوج بعض أزواجه، ولو كان حريصاً على إظهار العدل بينهنّ، فلذلك قال ‏{‏ولو حرصتم‏}‏، وأقام الله ميزان العدل بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كلّ الميل‏}‏، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة‏.‏ فظهر أنّ متعلّق ‏{‏تميلوا‏}‏ مقدّر بإحداهنّ، وأنّ ضمير ‏{‏تذروها‏}‏ المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة، وهو إيجاز بديع‏.‏
والمعلّقة‏:‏ هي المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة، وفي حديث أمّ زرع «زوجي العَشَنَّق إنْ أنطِقْ أطَلَّقْ وإن أسكُتْ أعَلَّقْ»، وقالت ابنة الحُمَارس‏:‏
إنّ هي إلاّ حِظَةٌ أو تَطليق *** أو صلَف أو بينَ ذاك تَعْليق
وقد دلّ قوله‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا إلى قوله‏:‏ فلا تميلوا كلّ الميل‏}‏ على أنّ المحبّة أمر قهري، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد‏.‏
ما يقوم مقام الميل الطبيعي‏.‏ فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كلّ الميل‏}‏، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ‏.‏
ثم وسّع الله عليهما إن لم تنجح المصالحة بينهما فأذن لهما في الفراق بقوله‏:‏ ‏{‏وإن يتفرّقا يغن الله كلاًّ من سعته‏}‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏يغن الله كلاَ من سعته‏}‏ إشارة إلى أنّ الفراق قد يكون خيراً لهما لأنّ الفراق خير من سوء المعاشرة‏.‏ ومعنى إغناء الله كلاًّ‏:‏ إغناؤه عن الآخر‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أنّ إغناء الله كلاّ إنّما يكون عن الفراق المسبوق بالسعي في الصلح‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله واسعاً حكيماً‏}‏ تذييل وتنهية للكلام في حكم النساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 133‏]‏
‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنّة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقّوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتّقوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏ وبين جملة ‏{‏ولقد وصينا‏}‏ الآية‏.‏ فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب‏}‏ الخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله‏.‏
والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها‏:‏ وهي جملة ‏{‏يغن الله كُلاَ من سعته‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏ أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته‏.‏ وهذا تمجيد لله تعالى، وتذكير بأنّه ربّ العالمين، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى‏.‏
وجملة ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏
وجُعل الأمر بالتقوى وصيةً‏:‏ لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله‏.‏ والتقوى تجمع الخيرات، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا‏:‏ ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى، يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة‏.‏ وفي الحديث عن العرباض بن سارية‏:‏ وَعَظَنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله‏:‏ كأنَّهَا موعظة مُوَدّععٍ فأوْصِنا، قال‏:‏ «أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة»‏.‏ فذكْرُ التقوى في ‏{‏أن اتّقوا الله‏}‏ الخ تفسير لجملة ‏{‏وصيّنا‏}‏، فأنْ فيه تفسيرية‏.‏ والإخبارْ بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلْهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلاّ تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب، فإنّ للائتساء أثراً بالغاً في النفوس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد‏.‏
والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة ‏{‏وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏
وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم، كما قال ‏{‏إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ كناية عن عدم التضرّر بعصيَان من يعصونه، ولذلك جعلها جواباً للشرط، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم‏.‏ وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غنياً حميداً‏}‏ أي غنيّاً عن طاعتكم، محموداً لذاته، سواء حمده الحامدون وأطاعوه، أم كفروا وعصوه‏.‏
وقد ظهر بهذا أنّ جملة ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏أن اتّقوا الله‏}‏ فهي من تمام الوصية، أي من مقول القول المعبّر عنه ب ‏{‏وصيّنا‏}‏، فيحسن الوقف على قوله ‏{‏حميداً‏}‏‏.‏
وأمّا جملة ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفَى بالله وكيلاً‏}‏ فهي عطف على جملة ‏{‏ولقد وصيّنا‏}‏، أتى بها تميهداً لقوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكّن من التصرّف بالإيجاد والإعدام، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏وكيلاً‏}‏‏.‏ فقد تكرّرت جملة ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظاً ومعنى أصلياً، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها، وسبقتها جملة نظيرتهنّ‏:‏ وهي ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكلّ شيء محيطاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 126‏]‏‏.‏ فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق‏.‏ فأمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، ولقوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، والتذييللِ لهما، والاحتراس لجملة ‏{‏واتّخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، كما ذكرناه آنفاً‏.‏ وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏يغني الله كلاَّ من سعته‏}‏‏.‏ وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف، وهو جواب قوله‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا‏}‏؛ فالتقدير‏:‏ وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيّاً حميداً‏.‏ وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره‏:‏ وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلاً‏.‏
وجملة ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ واقعة موقع التفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏غنيّاً حميداً‏}‏‏.‏ والخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏أيها الناس‏}‏ للناس كلّهم الذين يسمعون الخطاب تنبيهاً لهم بهذا النداء‏.‏ ومعنى ‏{‏يَأت بآخرين‏}‏ يُوجد ناساً آخرين يكونون خيراً منكم في تلقيّ الدين‏.‏
وقد علم من مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏أيها الناس‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏آخرين‏}‏ أنّ المعنى بناس آخرين غير كافرين، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخرَ أو أخرى، بعد ذكرِ مقابِل للموصوف، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضاً من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلّم جنساً في كلامه، بالتصريح أو التقدير‏.‏ وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك، واحتفل بهذه المسألة الحريري في «درّة الغوّاص»‏.‏ وحاصلها‏:‏ أنّ الأخفش الصغير، والحريري، والرضيّ، وابن يسعون، والصقلي، وأبا حيان، ذهبوا إلى اشتراط اتّحاد جنس الموصوف بكلمة آخرَ وما تصرّف منها مع جنس ما عطف هو عليه، فلا يجوز عندهم أن تقول‏:‏ ركبت فرساً وحماراً آخر، ومثّلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيّاماً معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فعدّة من أيّام أخَر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ فوصف مناة بالأخرى لأنّها من جنس اللات والعزّى في أنّها صنم، قالوا‏:‏ ومِثل كلمة آخر في هذا كلمات‏:‏ سائر، وبقية، وبعض، فلا تقول‏:‏ أكرمت رجلاً وتركت سائر النساء‏.‏
ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتّى في الإفراد وضدّه‏.‏ قاله ابن يسعون والصقلي، وردّه ابن هشام في «التذكرة» محتجّاً بقول ربيعة بن مكدم‏:‏
ولقد شفعتهما بآخر ثالث *** وأبى الفرار لي الغداة تكرمي
وبقول أبي حيّة النميري‏:‏
وكنتُ أمشي على رجلين معتدلاً *** فصرت أمشي على أخرى من الشَّجَر
وقال قوم بلزوم الاتّحاد في التذكير وضدّه، واختاره ابن جنّي، وخالفهم المبّرد، واحتجّ المبرّد بقول عنترة‏:‏
والخيلُ تقتحم الغبارَ عَوابسا *** من بين شَيْظَمةٍ وآخرَ شَيْظم
وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتّحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى‏:‏ ويأت بخلق آخرين عير الإنس‏.‏
واتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدّمه ذكرُ مقابل له أصلاً، فلا تقول‏:‏ جاءني آخَر، من غير أن تتكلّم بشيء قبلُ، لأنّ معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف‏.‏ وأمّا قول كُثير‏:‏
صلّى على عَزّةَ الرحمانُ وابنتِها *** لُبْنَى وصلّى على جارَاتها الأُخَر
فمحمول على أنّه جعل ابنتها جارة، أو أنّه أراد‏:‏ صلى على حبائبي‏:‏ عزّة وابنتها وجاراتها حبائبي الأُخَر‏.‏
وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولم يأت عليه بشاهد‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل‏.‏ نحو‏:‏ رأيت فرساً وحماراً آخر بتأويل أنّه دابّة، وقول امرئ القيس‏:‏
إذا قلت هذا صاحبي ورضيتُه *** وقَرّتْ به العينان بُدِّلْتُ آخرا
قلت‏:‏ وقد يجعل بيت كثير من هذا، ويكون الاعتماد على القرينة‏.‏
وقد عدّ في هذا القبيل قول العرب‏:‏ «تربت يمين الآخِر»، وفي الحديث‏:‏ قال الأعرابي للنبيء صلى الله عليه وسلم «إنّ الآخر وقع على أهله في رمضان» كناية عن نفسه، وكأنّه من قبيل التجريد‏.‏ أي جرّد من نفسه شخصاً تنزيهاً لنفسه من أن يتحدّث عنها بما ذكره‏.‏ وفي حديث الأسلمي في «الموطأ»‏:‏ أنّه قال لأبي بكر ‏"‏ إنّ الآخر قد زنى ‏"‏ وبعض أهل الحديث يضبطونه بالقصر وكسر الخاء،‏.‏ وصوّبه المحقّقون‏.‏
وفي الآية إشارة إلى أنّ الله سيخلف من المشركين قوماً آخرين مؤمنين، فإنّ الله أهلك بعضَ المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية، ولم يشأ إهلاك جميعهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏
‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏
لمّا كان شأن التقوى عظيماً على النفوس، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضاً، فإن اتقوه نالوا الخيرين‏.‏
ويجوز أن تكون الآية تعليماً للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا، إذ الكلّ من فضل الله‏.‏ ويجوز أن تكون تذكيراً للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة، إذ الجمع بينهما أفضل، وكلاهما من عند الله، على نحو قوله‏:‏ «فمنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا» أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة، وليتطلّبوه من الحلال يُسهِّلْ لهم الله حصوله، إذ الخير كلّه بيد الله، فيوشك أن يَحرم من يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يباركَ له فيه‏.‏ والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع‏.‏ وعلى الاحتمالات كلّها فجواب الشرط ب«منَ كان يريد ثواب الدنيا» محذوف، تدلّ عليه علّته، والتقدير‏:‏ من كان يريد ثواب الدنيا فلا يُعرض عن دين الله، أو فلا يصدّ عن سؤاله، أو فلا يقتصر على سؤاله، أو فلا يحصّله من وجوه لا ترضي الله تعالى‏:‏ كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم، وليتطلّبه من وجوه البرّ لأنّ فضل الله يسع الخيرين، والكلّ من عنده‏.‏ وهذا كقول القطامي‏:‏
فمن تَكُن الحضارة أعجبته *** فأيُّ رجال بادية ترانا
التقدير‏:‏ فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة، فإنّ حالنا دليل على شرف البداوة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏
انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها، وما يقارنه من الشهادة الصادقة، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يَجرّ إلى فساد متسلسل‏.‏
وصيغة ‏{‏قوّامين‏}‏ دالّة على الكثرة المراد لازمها، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال‏.‏
والقِسط العدل، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏18‏)‏‏.‏ وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبَة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحُكم، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏شُهداء لله‏}‏ فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكممِ‏.‏
و ‏{‏لله‏}‏ ظرف مستقرّ حال من ضمير ‏{‏شهداء‏}‏ أي لأجل الله، وليست لام تعدية ‏{‏شهداء‏}‏ إلى مفعوله، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلَّقه وهو وصف ‏{‏شهداء‏}‏ لإشعار الوصف بتعيينه، أي المشهود له بحقّ‏.‏ وقد جمعت الآية أصليَ التحاكم، وهما القضاء والشهادة‏.‏
وجملة ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ حالية، و‏(‏لو‏)‏ فيها وصلية، وقد مضى القول في تحقيق موقع ‏(‏لو‏)‏ الوصلية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏
ويتعلّق ‏{‏على أنفسكم‏}‏ بكلَ من ‏{‏قوّامين‏}‏ و‏{‏شُهداء‏}‏ ليشمل القضاء والشهادة‏.‏
والأنفس‏:‏ جمع نفس؛ وأصلها أن تطلق على الذات، ويطلقها العرب أيضاً على صميم القبيلة، فيقولون‏:‏ هو من بني فلان من أنفسهم‏.‏
فيجوز أن يكون ‏{‏أنفسكم‏}‏ هنا بالمعنى المستعمل به غالباً، أي‏:‏ قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالباً لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأنّ حرف ‏(‏على‏)‏ مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّاً ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه‏.‏
ويجوز أن يراد‏:‏ ولو على قيبلتكم أو والديكم وقرابتكم‏.‏ وموقع المبالغة المستفادة من ‏(‏لو‏)‏ الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقّاً عليهم، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعاراً يقضي منه العجب‏.‏ قال مرّة بن عداء الفقسي‏:‏
رأيت مواليّ الآلَى يخذلونَني *** على حدثان الدهر إذ يتقلب
ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتّى يقولون في الدعاء‏:‏ ‏(‏فذاك أبي وأمي‏)‏، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم‏.‏
فإن أبيتَ إلاّ جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهديِنَ فاجعل عطف «الوالدين والأقربين» بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلاّ يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه، فهو أمير نفسه فيه، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثمّ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة، كقوله‏:‏ ‏{‏شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وقوله ‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً‏}‏ استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة ‏{‏كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله‏}‏‏:‏ أي إن يكن المُقْسَط في حقّه، أو المشهودُ له، غنيّاً أو فقيراً، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه‏.‏ والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يَلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوسَ إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها‏.‏ وتُغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل‏.‏ وتذهل عنه، فمن النفوس من يَتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره، يقول في نفسه‏:‏ هذا في غنية عن أكل حقّ غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة‏.‏ ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له، فيحسبه مظلوماً، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئاً؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله‏:‏ ‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً فاللهاُ أولى بهما‏}‏‏.‏ وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين، فالذي يعظّم الغنيّ يَدحض لأجله حقّ الفقير، والذي يَرقّ للفقير يَدحض لأجله حقّ الغنيّ، وكِلاَ ذلك باطل، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏فالله أولى بهما‏}‏ ليس هو الجواب، ولكنّه دليله وعلّته، والتقدير‏:‏ فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي، فالله أولى بالنظر في شأنهما، وإنّما عليكم النظر في الحقّ‏.‏
ولذلك فرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى‏.‏
والغنيّ‏:‏ ضد الفقير، فالغِنَى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء، وهو مقول عليه بالتفاوت، فيُعْرَف بالمتعلّق كقوله‏:‏ «كلانا غَنيّ عَن أخيه حياتَه»، ويُعْرف بالعرف يقال‏:‏ فلان غني، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه، فوجدان أجور الأجرَاء غنى، وإن كان المستأجر محتاجاً إلى الأجراء، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج، والغنى المطلق لا يكون إلاّ لله تعالى‏.‏
والفقير‏:‏ هو المحتاج إلاّ أنه يقال افتقر إلى كذا، بالتخصيص، فإذا قيل‏:‏ هو فقير، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته، وكلّ مخلوق فقيرٌ فقراً نسبياً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏
واسم ‏{‏يكن‏}‏ ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق، يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏قوّامين بالقسط شهداء لله‏}‏ من معنى التخاصم والتقاضي‏.‏ والتقدير‏:‏ أن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف، والمراد الجنسان، و‏(‏أو‏)‏ للتقسيم، وتثنية الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فالله أولى بهما‏}‏ لأنّه عائد إلى «غنياً وفقيراً» باعتبار الجنس، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني، ولا إلى فرد معيّين ذي فقر، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ محذوف منه حرف الجرّ، كما هو الشأن مع أن المصدرية، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلاً للنهي، أي لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا، واحتمل أن يكون المحذوف ‏(‏عن‏)‏، أي فلا تتّبعوا الهوى عن العدل، أي معرضين عنه‏.‏ وقد عرفتُ قاضياً لا مطعن في ثقته وتنزّهه، ولكنّه كان مُبتلًى باعتقاد أنّ مظنّة القدرة والسلطان ليسوا إلاّ ظلمة‏:‏ من أغنياء أو رجال‏.‏ فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمّل من حججهما‏.‏
وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذّر، عقّب ذلك كلّه بالتهديد فقال‏:‏ ‏{‏وإن تَلْوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تَلْوُوا‏}‏ بلام ساكنة وواوين بعدها، أولاهما مضمومة فهو مضارع لَوَى، واللّي‏:‏ الفَتل والثَّنْي‏.‏ وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة، منها‏:‏ عدول عن جانب وإقبالٌ على جانب آخر فإذا عُدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه، وإقبالٌ على المجرور بعلى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَلْوُون على أحد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ أي لا تعطفون على أحد‏.‏ ومن معانيه‏:‏ لوى عن الأمر تثاقل، ولوى أمره عنّي أخفاه، ومنها‏:‏ ليّ اللسان، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏78‏)‏، وقولِه‏:‏ ‏{‏ليَّا بألسنتهم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏46‏)‏‏.‏ فموقع فعل ‏{‏تَلووا‏}‏ هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلِّقِه المحذوففِ مجروراً بحرف ‏(‏عن‏)‏ أو مجروراً بحرف ‏(‏على‏)‏ فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم، والعدول عن الصدق في الشهادة، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها، أو الميْل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة‏.‏ وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ، وهو غير الليّ كما رأيت‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف‏:‏ ‏{‏وأن تَلُوا‏}‏ بلام مضمومة بعدها واو ساكنة فقيل‏:‏ هو مضارع وَلِيَ الأمرَ، أي باشره‏.‏ فالمعنى‏:‏ وإن تلوا القضاء بين الخصوم، فيكون راجعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة، إذ ليس أداء الشهادة بولاية‏.‏ والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف ‏{‏تَلْوُوا‏}‏ نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما، ويكون معنى القراءتين واحداً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ كناية عن وعيد، لأنّ الخبير بفاعل السوء، وهو قدير، لا يعوزه أن يعذبّه على ذلك‏.‏ وأكّدت الجملةُ ب«إنّ» و«كَانَ»‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏
تذييل عُقّب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله‏:‏ بأن يؤمنوا بالله ورُسُلِه وكُتبه، ويدُوموا على إيمانهم، ويَحذروا مَساربَ ما يخلّ بذلك‏.‏
ووصفُ المخاطبين بأنّهم آمنوا، وإرادفُه بأمرهم بأنْ يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلاً يستقيم به الجمع بين كونهم آمَنوا وكونهم مأمورين بإيماننٍ، ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك‏:‏
المسلك الأول‏:‏ تأويل الإيمان في قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا‏}‏ بأنّه إيمان مختلّ منه بعض ما يحقّ الإيمان به، فيَكون فيها خطاب لنَفَر من اليهود آمنوا، وهم عبد الله بن سَلام، وأسد وأسَيْد ابنا كعب، وثَعلبةُ بنُ قيس، وسَلاَم ابن أخت عبد الله بن سلام، وسَلَمةُ ابن أخيه، ويامين بن يامين، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وبكتابه، كما آمنوا بموسى وبالتوراة، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل، كَما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي، ورواه غيره عن ابن عباس‏.‏
المسلك الثاني‏:‏ أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنّه إيمانٌ كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله، تحذيراً من ذلك‏.‏ فالخطاب للمسلمين لأنّ وصف الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين، ولا شكّ أنّ المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا، فالظاهر أنّ المقصود بأمرهم بذلك‏:‏ إمّا زيادة تقرير ما يجب الإيمان به، وتكرير استحضارهم إيّاه حتّى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماماً بجميعه؛ وإمّا النهي عن إنكار الكتاب المنزّل على موسى وإنكار نبوءته، لئلاّ يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرّح به اليهود من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارِ نزول القرآن؛ وإمّا أريد به التعريضُ بالذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله ورسله ثم ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وينكرون القرآن، حسداً من عند أنفسهم، ويكرهون بعض الملائكة لذلك، وهم اليهود، والتنبيهُ على أنّ المسلمين أكمل الأمم إيماناً، وأولى الناس برسل الله وكتبه، فهم أحرياء بأنَ يَسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل، ويدلّ لذلك قوله عقبه «ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه»، ويزيد ذلك تأييداً أنّه قال‏:‏ ‏{‏واليوممِ الآخر‏}‏ فعطفه على الأشياء التي من يكفرُ بها فقد ضلّ، مع أنّه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به، لأنّ الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به، وذكَره بعد ذلك تعريضاً بالمشركين‏.‏
المسلك الثالث‏:‏ أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتاً لهم على ذلك، وتحذيراً لهم من الارتداد، فيكون هذا الأمر تمهيداً وتوطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالله وملائكته‏}‏، ولقوله‏:‏
‏{‏إنّ الذين آمنوا ثم كفروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏ الآية‏.‏
المسلك الرابع‏:‏ أنّ الخطاب للمنافقين، يعني‏:‏ يأيّها الذين أظهروا الإيمان أخْلِصُوا إيمانكم حقّاً‏.‏
المسلك الخامس‏:‏ رُوي عن الحسن تأويل الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا بالله‏}‏ بأنّه طلبٌ لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه، واختاره الجبائي‏.‏ وهو الجاري على ألسنة أهل العلم، وبناءً عليه جَعلوا الآية شاهداً لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام‏.‏ والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل الجنس، والتعريف للاستغراق يعني‏:‏ والكتب التي أنْزَلَ الله من قبللِ القرآن، ويؤيّده قوله بعدَه «وكُتُبِهِ ورُسُلهِ»‏.‏
وقرأ نافع‏.‏ وعاصم‏.‏ وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف‏:‏ «نَزّل وأنْزَل» كليهما بالبناء للفاعل وقرأه ابن كثير، وابنُ عامر، وأبو عَمرو بالبناء للنائب‏.‏
وجاء في صلة وصف الكتاب ‏{‏الذي نَزّل على رسوله‏}‏ بصيغة التفعيل، وفي صلة الكتاب ‏{‏الذي أنزل من قبل‏}‏ بصيغة الإفعال تفنّنا، أو لأنّ القرآن حينئذٍ بصدد النزول نجوماً، والتوراة يومئذٍ قد انقضى نزولها‏.‏ ومن قال‏:‏ لأنّ القرآن أنزل منجّماً بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دَفْعَة واحدة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏‏}‏
استئناف عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكْفُرْ بالله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏ الآية، لأنّه إذا كان الكفر كما علمت، فما ظنّك بكفر مضاعَف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق، فكفره بئس الكفر‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ الآية أشارت إلى اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ عبدوا العجل، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد، وعليه فالآية تكون من الذمّ المتوجّه إلى الأمّة باعتبار فعل سلفها، وهو بعيد، لأنّ الآية حكم لا ذَمّ، لقوله ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ فإنّ الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل، ولكنّهم تابوا فما استحقّوا عدم المغفرة وعدمَ الهداية، كيف وقد قيل لهم ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏، ولأنّ المتأخّرين منهم ما عبدوا العجل حتّى يُعَدَّ عليهم الكفرُ الأول، على أنّ اليهود كفروا غير مرّة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان، وكفروا في زمن بختنصر‏.‏ والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ أنّهم كفروا كَفْرَةً أخرى، بل المراد الإجمال، أي ثم كفروا بعد ذلك، كما يقول الواقِف‏:‏ وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث، ويكون المراد من الآية أنّ الذين عرف من دأبهم الخفّة إلى تكذيب الرسل، وإلى خلع ربقة الديانة، هم قوم لا يغفر لهم صُنعهم، إذْ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله‏.‏
وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا، ولا قصد حينئذٍ إلى عدد الإيمانات والكَفَرات‏.‏ وعندي‏:‏ أنّه يعني أقواماً من العرب من أهل مكة كانوا يتّجرون إلى المدينة فيؤمنون، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرّر منهم ذلك، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وعلى الوجوه كلّها فاسم الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏إنْ الذين‏.‏‏.‏‏.‏ كفروا‏}‏ مراد منه فريق معهود، فالآية وعيد لهم ونذارة بأنّ الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم، لأنّه حرمهم سبب المغفرة، ولذلك لم تكن الآية دالّة على أنّ من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده‏.‏ فقد أجمع المسلمون على أنّ الإيمان يجُبّ ما قبله، ولو كفر المرء مائة مرة، وأنّ التوبة من الذنوب كذلك، وقد تقدّم شِبْه هذه الآية في آل عمران ‏(‏190‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم‏}‏ فإن قلت‏:‏ إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنّهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة‏.‏
قلت‏:‏ الأشخاص الذين علم الله أنّهم لا يؤمنون، كأبي جهل، ولم يخبر نبيئَه بأنّهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمّة، لأنّ علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمَارة، كما عُلم من مسألة ‏(‏التكليف بالمحال العارض‏)‏ في أصول الفقه، وأمّا هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعدُ، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به، وليس ثمة ضابط يتحقّق به أنّهم دُعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها‏.‏
والنفي في قوله‏:‏ لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ أبلغ من‏:‏ لا يغفر الله لهم، لأنّ أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أنّ اسم كانَ لم يُجعل ليَصْدر منه خبرُها، ولا شكّ أنّ الشيء الذي لم يُجعل لشيء يكون نابياً عنه، لأنّه ضِدّ طبعه، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام التي بعدَ كان المنفية ‏(‏لامَ الجحود‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 141‏]‏
‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي ناشِئ عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضرباً من التهكّم بالإسلام وأهله، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين‏}‏، فإنّ البشارة هي الخبر بما يَفرحَ المخبَر به، وليس العذاب كذلك، وللعرب في التهكّم أساليب كقول شَقِيق ابن سُليك الأسدي‏:‏
أتاني من أبي أنَسسٍ وعيدٌ *** فَسُلىّ لِغَيظَةِ الضّحّاككِ جِسمِي
وقول النابغة‏:‏
فإنّك سوف تَحْلُم أو تَناهَى *** إذا ما شِبْت أو شَاب الغراب
وقول ابن زَيَّابة‏:‏
نُبِّئْتُ عَمْراً غارزاً رأسَه *** في سِنَةٍ يُوعدِ أخْوَالَهُ
وتلكَ منه غير مأمُونَةٍ *** أنْ يَفعل الشيءَ إذَا قالَهُ
ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين‏.‏ والمراد بالكافرين مشركو مكة، أو أحْبار اليهود، لأنّه لم يْبق بالمدينة مشركون صُرحاءَ في وقت نزول هذه السورة، فليس إلاّ منافقون ويهود‏.‏ وجملة ‏{‏أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله‏}‏ استئنافٌ بياني باعتبار المعطوف وهو ‏{‏فإنّ العزّة لله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أيَبْتَغَون‏}‏ هو منشأ الاستئناف، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة، لأنّ معظم المنافقين من اليهود، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ‏.‏ والاستفهامُ إنكار وتوبيخ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ العزّة لله جميعاً‏}‏ أي لا عزّة إلاّ به، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل‏.‏ كما قيل‏:‏ من اعتزّ بغير الله هَان‏.‏ وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل‏:‏ كالمستغيث من الرمضاء بالنار‏.‏ وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية‏.‏
وجملة ‏{‏وقد نزّل عليكم في الكتاب‏}‏ الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏بشرّ المنافقين‏}‏ تذكيراً للمسلمين بما كانوا أعلموا به ممّا يؤكّد التحذير من مخالطتهم، فضمير الخطاب موجّه إلى المؤمنين، وضمائر الغيبة إلى المنافقين، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير ‏(‏يتّخذون‏)‏، فيكون ضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وقد نزّل عليكم‏}‏ خطاباً لأصحاب الصلة من قوله‏:‏ ‏{‏الذين يتّخذون الكافرين أولياء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 139‏]‏ على طريقة الالتفات، كأنّهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معيّنين معروفين، فالتُفت إليهم بالخطاب، لأنّهم يعرفون أنّهم أصحاب تلك الصلة، فلعلّهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين‏.‏ وعليه فضمير الخطاب للمنافقين، وضمائر الغيبة للكافرين، والذي نزّل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن‏:‏ في شأن كفر الكافرين والمنافقين واستهزائهم‏.‏
قال المفسّرون‏:‏ إنّ الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة ‏(‏68‏)‏ الأنعام‏:‏ ‏{‏وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعْرِضْ عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ لأنّ شأن الكافرين يَسري إلى الذين يتُخذونهم أولياء، والظاهر أنّ الذي أحال الله عليه هو ما تكرّر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة‏:‏ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مشتهزءون‏}‏ ممّا حصل من مجموعه تقرر هذا المعنى‏.‏
و ‏(‏أنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أنْ إذا سمعتم‏}‏ تفسيرية، لأنّ ‏(‏نُزّل‏)‏ تضمّن معنى الكلام دون حروف القول، إذ لم يقصد حكاية لفظ ‏(‏ما نُزّل‏)‏ بل حاصل معناه‏.‏ وجعَلها بعضهم مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوفاً، وهو بعيد‏.‏
وإسناد الفعلين‏:‏ ‏{‏يُكْفَر‏}‏ و‏{‏يستهزأ‏}‏ إلى المجهول لتتأتّى، بحذف الفاعل، صلاحية إسناد الفعلين إلى الكافرين والمنافقين‏.‏ وفيه إيماء إلى أنّ المنافقين يركنون إلى المشركين واليهود لأنّهم يكفرون بالآيات ويستهزئون، فتنثلج لذلك نفوس المنافقين، لأنّ المنافقين لا يستطيعون أن يتظاهروا بذلك للمسلمين فيشفي غليلَهم أن يسمع المسلمون ذلك من الكفّار‏.‏
وقد جعل زمان كفرهم واستهزائهم هو زمن سماع المؤمنين آيات الله‏.‏ والمقصود أنّه زمن نزول آيات الله أو قراءة آيات الله، فعدل عن ذلك إلى سماع المؤمنين، ليشير إلى عجيب تضادُّ الحالين، فلفي حالة اتّصاف المنافقين بالكفر باللَّه والهزل بآياته يتّصف المؤمنون بتلّقي آياته والإصغاء إليها وقصدِ الوعي لها والعمل بها‏.‏
وأعقب ذلك بتفريع النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتّى ينتقلوا إلى غيرها، لئلاّ يَتَوسّل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن، لأنّ للأخلاق عَدْوى، وفي المثل «تُعدي الصّحاحَ مَبَارِك الجُرْب»‏.‏
وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها‏.‏ وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى‏:‏ وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏تُلْقُونَ إليهم بالمودّة وقد كَفروا بما جاءكم من الحقّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏‏.‏
و ‏(‏حتّى‏)‏ حرف يعطف غاية الشيء عليه، فالنهي عن القعود معهم غايته أم يكفّوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها‏.‏
وهذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين، جُعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليَظهرَ التمايزُ بين المسلمين الخُلَّص وبين المنافقين، ورخّص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر‏.‏ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكنُ تَرضَونَها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏
وجعل جواب القُعود معهم المنهي عنه أنّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال‏:‏ ‏{‏إنَّكم إذَنْ مثلُهم‏}‏ فإنِّ ‏(‏إذَنْ‏)‏ حرف جواب وجزاء لكلام مَلفوظ به أو مقدّر‏.‏
والمجازاة هنا لكلام مقدّر دلّ عليه النهي عن القعود معهم؛ فإنّ التقدير‏:‏ إن قعدتم معهم إذن إنّكم مثلهم‏.‏ ووقوع إذن جزاء لكلام مقدّر شائع في كلام العرب كقول العنبري‏:‏
لو كنتُ من مَازن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذُهْللِ شَيْبَانا
إذَنْ لقام بنصري مَعْشَر خُشُن *** عند الحَفيظة إن ذُو لَوْثَة لاَنا
قال المرزوقي في «شرح الحماسة»‏:‏ «وفائدة ‏(‏إذن‏)‏ هو أنّه أخرج البيت الثاني مَخرج جواب قائل له‏:‏ ولو استباحوا مَاذا كان يَفعل بنو مازن‏؟‏ فقال‏:‏ إذن لقام بنصري معشر خشن»‏.‏ قلت‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتابَ المُبطلون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ التقدير‏:‏ فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتابَ المبطلون‏.‏ فقد علم أنّ الجزاء في قوله‏:‏ ‏{‏إنّكم إذن مثلهم‏}‏ عن المنهي عنه لا عن النهي، كقول الراجز، وهو من شواهد اللغة والنحو‏:‏
لاَ تَتْرُكَنِّي فيهم شَطِيرا *** أنّي إذَنْ أهْلِكَ أو أطِيرا
والظاهر أنّ فريقاً من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقُومون عنهم تَقيةً لهم فنُهوا عن ذلك‏.‏ وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقاً بجلوسه إلى المنافقين، وأرَيد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنّم جميعاً‏}‏ تحذير من أن يكونوا مثلهم، وإعلام بأنّ الفريقين سواء في عدواة المؤمنين، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى إظهارهم الإسلام لهم‏.‏
وجملة ‏{‏الذين يتربّصون بكم‏}‏ صفة للمنافقين وحدَهم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏.‏
والتربّص حقيقة في المكث بالمكان، وقد مرّ قوله‏:‏ ‏{‏يتربّصن بأنفسهنّ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏228‏)‏‏.‏ وهو مجاز في الانتظار وترقّب الحوادث‏.‏ وتفصيله قوله‏:‏ ‏{‏فإن كان لكم فتح من الله‏}‏ الآيات‏.‏ وجُعل ما يحصل للمسلمين فتحاً لأنّه انتصار دائم، ونُسب إلى الله لأنّه مُقدّره ومريده بأسباب خفيّة ومعجزات بينّة‏.‏ والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظّ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيباً تحقيراً له، والمراد نصيب من الفوز في القتال‏.‏
والاستحواذ‏:‏ الغلبة والإحاطة، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفاً بعد الفتحة على خلاف القياس‏.‏ وهذا أحد الأفعال التي صُحّحت على خلاف القياس مثل‏:‏ استجوب، وقد يقولون‏:‏ استحاذ على القياس كما يقولون‏:‏ استجَاب واستصاب‏.‏
والاستفهام تقريري‏.‏ ومعنى ‏{‏ألم نستحوذ عليكم‏}‏ ألم نتولّ شؤونكم ونحيط بكم إحاطة العنايية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين، أي من أن ينالكم بأسهم، فالمنع هنا إمّا منعٌ مكذوبٌ يخَيِّلُونه الكفارَ واقعاً وهو الظاهر، وإمّا منع تقديري وهو كفّ النصرة عن المؤمنين، والتجسّس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين، وكلّ ذلك ممّ يضعف بأس المؤمنين إن وقع، وهذا القول كان يقوله من يندسّ من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات، وخاصّة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحْزاب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فالله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ الفاء للفصيحة، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمُهمّ المؤمنين، بأن فوّض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ تثبيت للمؤمنين، لأنّ مثيل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبّهم‏:‏ من عدوّ مجاهر بكفره‏.‏ وعدو مصانع مظهر للأخوّة، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يُخيِّل لهم مَهاوي الخيبة في مستقبلهم‏.‏ فكان من شأن التلطّف بهم أن يعقّب ذلك التحذير بالشدّ على العضد، والوعد بحسن العاقبة، فوَعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين، وإن تألّبت عصاباتهم‏.‏ واختلفت مناحي كفرهم، سبيلاً على المؤمنين‏.‏
والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة، بقرينة تعديته بعَلَى، ولأنّ سبيل العدوّ إلى عدوّه هو السعي إلى مضرّته، ولو قال لك الحبيب‏:‏ لا سبيل إليك، لتحسّرت؛ ولو قال لك العدوّ‏:‏ لا سبيل إليك لتهلّلت بشراً، فإذا عُدّي بعلى صار نصاً في سبيل الشرّ والأذى، فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبوّ المقام عن هذين‏.‏
فإن قلت‏:‏ إذا كان وعداً لم يجز تخلّفه‏.‏ ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصراً بيّناً، وربما تملّكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد‏.‏ قلتُ‏:‏ إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصّة فالإشكال زائل، لأنّ الله جعل عاقبة النصر أيّامئذٍ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتّلوا تقتيلاً ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبْحوا أنصاراً للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلّص الذين تلبّسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالاً، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي، فيه زيادة بيان لمساويهم‏.‏ والمناسبةُ ظاهرة‏.‏ وتأكيد الجملة بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله‏:‏ ‏{‏وهو خادعهم‏}‏‏.‏
وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة ‏(‏9‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين آمنوا‏}‏ وزادت هذه الآية بقوله‏:‏ وهو خادعهم‏}‏ أي فقابلهم بمثل صنيعهم، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعاً لله تعالى، كان إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم، وإنذارهُ المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم، وتقديرُ أخذه إيّاهم بأخَرَة، شبيهاً بفعل المخادع جزءاً وفاقاً‏.‏ فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم أستعارة تمثيلية، وحسنَّتَهْا المشاكلة؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار‏.‏ فالمشاكلة ترجع إلى التلميح، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقَعْمَق‏.‏
قالوا‏:‏
اقترْحْ شيئاً نجد لك طبخه *** قلتُ‏:‏ أطبخوا لي جُبَّةً وقَميصاً
و«كُسالى» جمع كسلان على وزن فُعالى، والكَسلان المتّصف بالكسل، وهو الفتور في الأفعال لسآمةٍ أو كراهية‏.‏ والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها، فلذلك كان من شيم المنافقين‏.‏ ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة، ففي الحديث ‏"‏ عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا ‏"‏‏.‏ ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته، وعن الصلاة عند حضور الطعام، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بَشَرهٍ وعزم، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيباً حتّى تتمكّن منها الكراهِية، ولا خطَر على النفس مثلُ أن تكره الخير‏.‏
و«كسالى» حال لازمة من ضمير ‏{‏قاموا‏}‏، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جواباً ل«إذا» التي شرطها «قاموا»، لأنّه لو وقع مجرّداً لكان الجواب عين الشرط، فلزم ذكر الحال، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏ وقول الأحوص الأنصاري‏:‏
فإذا تَزُولُ تَزُولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادره على الأقران
وجملة ‏{‏يراءَون الناس‏}‏ حال ثانية، أو صفة ل ‏(‏كسالى‏)‏، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل‏:‏ ماذا قَصْدُهم بهذا القيام للصلاة وهلاّ تركوا هذا القيام من أصله، فوقع البيان بأنّهم يُراءون بصلاتهم الناس‏.‏ ‏{‏ويُراءون‏}‏ فعل يقتضي أنّهم يُرون الناس صلاتهم ويُريهم الناس‏.‏ وليس الأمر كذلك، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة، وهذا كثير في باب المفاعلة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً‏}‏ معطوف على ‏{‏يُراءُون‏}‏ إن كان ‏{‏يراءون‏}‏ حالاً أو صفة، وإن كان ‏{‏يراءون‏}‏ استئناف فجملة ‏{‏ولا يذكرون‏}‏ حال، والواو واو الحال، أي‏:‏ ولا يذكرون الله بالصلاة ألاّ قليلاً‏.‏
فالاستثناء إإمّا من أزمنة الذكر، أي إلاّ وقتاً قليلاً، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذٍ فيذكرون الله بالتكبير وغيره، وإمّا من مصدر ‏{‏يذكرون‏}‏، أي إلاّ ذكراً قليلاً في تلك الصلاة التي يُراءون بها، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل‏:‏ التأمين، وقول ربنا لك الحمد، والتكبير، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسْبيححِ الركوع، وقراءةِ ركعات السرّ‏.‏ ولك أن تجعل جملة ‏{‏ولا يذكرون‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وإذا قاموا‏}‏، فهي خبر عن خصالهم، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلاّ حالا قليلاً أو زمناً قليلاً وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال، ويكثرون من ذكره، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرَهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه‏.‏
ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله‏:‏ ‏{‏مُذبذبينَ بينَ ذلك‏}‏ وهو حال من ضمير ‏{‏يُراءون‏}‏‏.‏
والمذَبْذَب اسن مفعول من الذّبْذَبة‏.‏ يقال‏:‏ ذبذبه فتذبذب‏.‏ والذبذبة‏:‏ شدّة الاضطراب من خوف أو خجل، قيل‏:‏ إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذَبّ إذا طَرد، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير، مثل زلزل ولَمْلَم بالمكان وصلصل وكبكب، وفيه لغة بدالين مهملتين، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم، يقولون‏:‏ رجل مدبدب، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق‏.‏ فقيل‏:‏ إنّها مشتقّة من الدْبَّة بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنّه يَسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق‏.‏
والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏بين ذلك‏}‏ إلى ما استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏يُراءون الناس‏}‏ لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذباً، إذ يجد في النماس أصنافاً متبايَنة المقاصد والشهوات‏.‏ ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر‏.‏
وجملة ‏{‏لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ صفة ل ‏{‏مذبذبين‏}‏ لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة، أو هي بيان لقوله‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏‏.‏ و‏{‏هؤلاء‏}‏ أحدهما إشارة إلى المؤمنين، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين، إذ ليس في المقام إلاّ فريقان فأيّها جعلته مشاراً إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك، ونظيره قوله تعالى «فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه»‏.‏
والتقدير لا هُم إلى المسلمين ولا هُم إلى الكافرين‏.‏ و‏(‏إلى‏)‏ متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر، والذهاب الذي دلّت عليه ‏(‏إلى‏)‏ ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب، أي هُم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على ‏(‏لا‏)‏ النافية مكرّرةً في غرضين‏:‏ تارة يقصدون به إضاعة الأمرين، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع «لا سَهْلٌ فيُرْتقَى ولا سمين فيُنْتَقَل» وقوله تعالى‏:‏
‏{‏فَلاَ صَدَّقَ ولا صلّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ ‏{‏لا ذلول تثير الأرض وَلا تسْقي الحرث‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وتارة يقصدون به إثبات حالة وسَط بين حالين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏لا فارض ولا بكر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏، وقول زهير‏:‏
فلاَ هُو أخفاها ولم يَتَقَدّمِ *** وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر، لأنّه لا طائل تحت معناه، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين‏.‏ وهم في التحقيق‏.‏، إلى الكافرين‏.‏ كما دَلّ عليه آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏الذين يتُخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 139‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 141‏]‏‏.‏ فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب‏.‏ والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتِهم لينبذهم الفريقان‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فلن تجد له سبيلاً‏}‏ الخطاب لغير مُعّين، والمعنى‏:‏ لم تجد له سيبلاً إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏
أقبل على المؤمنين بالتحذير من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم واستصناعهم للمنافقين لقصد أذى المسلمين، فعَلِم السامع أنّه لولا عداوة الكافرين لهذا الدين لما كان النفاق، وما كانت تصاريف المنافقين، فقال‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏، فهي استئناف ابتدائي، لأنّها توجيه خطاب بعد الانتهاء من الإخبار عن المنافقين بطريق الغيبة‏.‏ وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة الكافرين‏.‏ فالتحذير من موالاة الكافرين والمنافقين، ومن الوقوع في النفاق، لإن المنافقين تظاهروا بالإيمان ووالوا الكافرين تحذير من الاستشعار بشعار النفاق، وتحذير من موالاة المنافقين الذين هم أولياء الكافرين، وتشهير بنفاق المنافقين، وتسجيل عليهم أن لا يقولوا‏:‏ كنّا نجهل أنّ الله لا يحبّ موالاة الكافرين‏.‏
والظاهر أنّ المراد بالكافرين هنا مشركو مكة وأهل الكتاب من أهل المدينة، لأنّ المنافقين كانوا في الأكثر موالين لأهل الكتاب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏ استئناف بياني، لأنّ النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء ممّا يبعث الناس على معرفة جزاء هذا الفعل مع ما ذكرناه من قصد التشهير بالمنافقين والتسجيل عليهم، أي أنّكم إن استمررتم على موالاة الكافرين جعلتم لله عليكم سلطاناً مبيّناً، أي حجّة واضحة على فساد إيمانكم، فهذا تعريض بالمنافقين‏.‏
فالاستفهام مستعمل في معنى التحذير والإنذار مجازاً مرسلاً‏.‏
وهذا السلطان هو حجّة الرسول عليهم بأنّهم غير مؤمنين فتجري عليهم أحكام الكفر، لأنّ الله عالم بما في نفوسهم لا يحتاج إلى حجّة عليهم، أو أريد حجّة افتضاحهم يوم الحساب بموالاة الكافرين، كقوله‏:‏ ‏{‏لئلاّ يكون للناس على الله حِجّة بعد الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏ ومن هنا يجوز أيضاً أن يكون المراد من الحجّة قطع حجّة من يرتكب هذه الموالاة والإعذار إليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 146‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏‏}‏
عقّب التعريض بالمنافقين من قوله‏:‏ ‏{‏لا تتّخذوا الكافرين أولياء‏}‏ كما تقدّم بالتصريح بأنّ المنافقين أشدّ أهل النار عذاباً‏.‏ فإنّ الانتقال من النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء إلى ذكر حال المنافقين يؤذن بأنّ الذين اتّخذوا الكافرين أولياء معدودن من المنافقين، فإنّ لانتقالات جمل الكلام معاني لا يفيدها الكلام لما تدلّ عليه من ترتيب الخواطر في الفكر‏.‏
وجملة ‏{‏أن المنافقين‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، ثانياً إذ هي عود إلى أحوال المنافقين‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ لإفادة أنّه لا محِيصَ لهم عنه‏.‏
والدّرك‏:‏ اسم جَمع دَرَكة، ضدّ الدُّرج اسم جمع دَرجة‏.‏ والدركة المنزلة في الهبوط‏.‏ فالشيء الذي يقصد أسفله تكون منازل التدليّ إليه دركات، والشيء الذي يقصد أعلاه تكون منازل الرقيّ إليه درجات، وقد يطلق الأسمان على المنزلة الواحدة باختلاف الاعتبار وإنّما كان المنافقون في الدرك الأسفل، أي في أذلّ منازل العذاب، لأنّ كفرهم أسوأ الكفر لما حفّ به من الرذائل‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏في الدرَك بفتح الراء على أنّه اسم جمع دَرَكة ضدّ الدرجة‏.‏ وقرأه عاصم‏.‏ وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الراء وهما لغتان وفتح الراء هو الأصل، وهو أشهر‏.‏
والخطاب في ولن تجد لهم نصيراً‏}‏ لكلّ من يصحّ منه سماع الخطاب، وهو تأكيد للوعيد، وقطع لرجائهم، لأنّ العرب ألفوا الشفاعات والنجدات في المضائق‏.‏ فلذلك كثر في القرآن تذييل الوعيد بقطع الطمع في النصير والفداء ونحوهما‏.‏
واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين، وأصلح حاله، واعتصم بالله دون الاعتزاز بالكافرين، وأخلص دينه لله، فلم يشبْه بتردّد ولا تربّص بانتظار من ينتصر من الفريقين‏:‏ المؤمنين والكافرين، فأخبر أنّ من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين، وفي لفظ ‏(‏مع‏)‏ إيماء إلى فضيلة من آمن من أوّل الأمر ولم يَصِم نفسه بالنفاق لأنّ ‏(‏مع‏)‏ تدخل على المتبوع وهو الأفصل‏.‏
وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ لزيادة تمييز هؤلاء الذين تابوا، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة‏.‏
وقد علم الناس ما أعدّ الله للمؤمنين بما تكرّر في القرآن، ولكن زاده هنا تأكيداً بقوله‏:‏ ‏{‏وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏‏.‏ وحرف التنفيس هنا دلّ على أنّ المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن العاقبة وأجر الآخرة، إذ الكلّ مستقبل، وأن ليس المراد منه الثواب لأنّه حصل من قبل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏
‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏
تذييل لكلتا الجملتين‏:‏ جملة ‏{‏إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ مع الجملة المتضمنّة لاستثناء من يتوب منهم ويؤمن، وما تضمّنته من التنويه بشأن المؤمنين من قوله‏:‏ ‏{‏وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 146‏]‏‏.‏
والخطاب يجوز أن يراد به جميع الأمّة، ويجوز أن يوجّه إلى المنافقين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ارتفاقاً بهم‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ما يفعل الله بعذابكم‏}‏ أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري، أي لا يفعل بعذابكم شيئاً‏.‏
ومعنى ‏{‏يفْعَلُ‏}‏ يصنع وينتفع، بدليل تعديته بالباء‏.‏ والمعنى أنّ الوعيد الذي تُوعِّد به المنافقون إنّما هو على الكفر والنفاق، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله غفر لهم العذاب، فلا يحسبوا أنّ الله يعذّبهم لِكراهة في ذاتهم أو تشفّ منهم، ولكنّه جزاء السوء، لأنّ الحَكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الإحسان بالإحسان، وعلى الإساءة بالإساءة، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل الله جزاءه بالسوء، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب، ولكنّها المسبّبات تجري على الأسباب‏.‏ وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشُكرهم،‏.‏ وتجنّبوا موالاة المنافقين والكافرين، فالله لا يعذّبهم، إذ لا موجب لعذابهم‏.‏
وجملة ‏{‏وكان الله شاكراً عليماً‏}‏ اعتراض في آخر الكلام، وهو إعلام بأنّ الله لا يعطّل الجزاء الحسن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمَهُ الجمّة، والإيمان بالله وصفاته أوّل درجات شكر العبد ربّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏
‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏‏}‏
موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن، ونَهى المسلمين عن القعود معهم، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق، فيجاهِروهم بقول السوء، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه‏.‏
روى البخاري‏:‏ أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل‏:‏ أين مالك بن الدّخْشُم، فقال بعضهم‏:‏ ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ لا تقل ذلك ألا تراه قد قال‏:‏ لا إله إلاّ الله، يريد بذلك وجهَ الله، فقال‏:‏ فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين ‏"‏‏.‏ الحديثَ‏.‏ فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله‏.‏ فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً‏.‏ وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين‏.‏
وجملة ‏{‏لا يحبّ‏}‏ مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه‏:‏ الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب‏.‏
وصيغة ‏{‏لا يحبّ‏}‏، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن‏.‏ والأصل فيه التحريم‏.‏ وهذا المراد هنا؛ لأنّ ‏{‏لا يحبّ‏}‏ يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ‏"‏‏.‏ فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه‏.‏
والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ‏.‏ وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً‏.‏
واستثنى ‏{‏مَن ظُلم‏}‏ فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول‏.‏ والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير‏:‏ لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً، أي‏:‏ إلاّ جَهْرَ من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز‏.‏
ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم ‏{‏لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول‏}‏‏.‏ وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه‏:‏ أن يقول له‏:‏ ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس‏:‏ إنَّه ظالم‏.‏ ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة‏.‏ فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث ‏"‏ مَطْلُ الغنيّ ظلم ‏"‏ أي فللممطول أن يقول‏:‏ فلان مماطل وظالم‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ‏"‏‏.‏ وجملة ‏{‏وكان الله سميعاً عليماً‏}‏ عطف على ‏{‏لا يحبّ‏}‏، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها، عليم بالمقاصد والأمور كلّها، فذِكْرُ «عليماً» بعد «سميعاً» لقصد التعميم في العلم، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم‏.‏
وبعد أن نَهى ورَخّص، ندب المرخَّصَ لهم إلى العفو وقوللِ الخير، فقال‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفواعن سوء فإن الله كان عفواً قديراً‏}‏، فإبداء الخير إظهاره‏.‏ وعُطف عليه ‏{‏أو تخفوه‏}‏ لزيادة الترغيب أنْ لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة، كقوله‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏‏.‏ والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة، فهو أمر عدميّ‏.‏
وجملة ‏{‏فإنّ الله كان عفوّا قديرا‏}‏ دليل جواب الشرط، وهو علّة له، وتقدير الجواب‏:‏ يَعفُ عَنكم عند القدرة عليكم، كما أنّكم فعلتم الخير جهراً وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم، لأنّ المأذون فيه شرعاً يعتبر مقدوراً للمأذون، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنباً؛ فذكر ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه‏}‏ تكملة لما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول‏}‏ استكمالاً لموجبات العفو عن السيّئات، كما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وأتْبِع السيّئة الحسنةَ تَمْحُها‏}‏‏.‏
هذا ما أراه في معنى الجواب‏.‏ وقال المفسّرون‏:‏ جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أنّ فيه تخلّفاً بالكمال، لأنّ صفات الله غاية الكمالات‏.‏ والتقدير‏:‏ إن تبدو خيراً الخ تكونوا متخلّقين بصفات الله، فإنّ الله كان عفوّاً قديراً، وهذا التقدير لا يناسب إلاّ قوله‏:‏ ‏{‏أو نعفوا عن سوء‏}‏ ولا يناسب قوله‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه‏}‏ إلاّ إذا خصّص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم، وإخفائه عمّن ظلمهم‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ أن تَعْفُو عمّن ظلمك وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وتَصِلَ من قطعك ‏"‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 152‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏
عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال مَن أظهروا النِّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين، أو أهل الكتاب، أو المشركين إلى صفات الآخرين، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود وَالنصارى، قاله أهل التفسير‏.‏ والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين، وكان كثير من المنافقين يهوداً وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك‏.‏
وجُمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار، أو أراد بالجمع الاثنين، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع، لأنّ المقصود ذمّ مَن هذه صفتهم بدون تعيين فريق، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحداً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يبْخلون ويأمرون الناس بالبخل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ‏"‏‏.‏ وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ، لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ‏.‏
ومعنى كفرهم بالله‏:‏ أنَّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى، كما إذا كان أحد يظنّ أنَّه يعرف فلاناً فقلت له‏:‏ صفه لي، فوصفه بغير صفاته، تقول له‏:‏ «أنت لا تعرفه»؛ على أنّهم لمَّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث، فقد كفروا بإلهيته الحقّة، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله‏}‏ أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة، وفيه إيذان بأنَّه أمر صعب المنال، وأنَّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏ويريدون‏}‏ ولو بلغوا إليه لقال‏:‏ وفرّقوا بين الله ورسله‏.‏
ومعنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض، ويزعمون أنَّهم يؤمنون بالله، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه، وهذا استعارة تمثيليّة، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة‏.‏
وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، ‏{‏لا نفرّق بين أحد من رسله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏، وفي سورة آل عمران ‏{‏لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 84‏]‏ إلاّ أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله، ومآل الجميع واحد‏:‏ لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله‏.‏ وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض‏}‏ واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله، ولكنَّها عطفت؛ لأنّها شأن خاصّ من شؤونهم، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة، ومدلول ‏{‏يريدون‏}‏ هيئة حاصلة من كفرهم، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة، ولو فصلت لكان صحيحاً‏.‏
ومعنى ‏{‏يقولون نؤمن‏}‏ الخ أنّ اليهود يقولون‏:‏ نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى ومحمد، والنصارى يقولون‏:‏ نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهراً وفرّقوا بينه وبين بعض رسله‏.‏
والإرادة في قوله ‏{‏ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً‏}‏ إرادة حقيقية‏.‏ والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤخذة في الآخرة توهّماً أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل، أو سبيلاً بين دينَين، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق، فكأنّهما تهيئة للنفاق‏.‏
وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام، وهو أن يكون حرف العطف مشرِّكاً بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة ل ‏{‏لذين‏}‏، كان ما عطف عليه صِلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصِّلات كلّها‏.‏
ونُسِب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى ‏(‏أو‏)‏ وجعل الموصول شاملاً لِفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصِّلات المتعاطفة، فجعلَ المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قوماً أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهودَ والنصارى‏.‏ وسكت عن المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً‏}‏، ولو شاء لجعل أولئك فريقاً آخر‏:‏ وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر، بل كانوا بين الحالين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏‏.‏ والذي دعاه إلى هذا التأويل أنَّه لم يجد فريقاً جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يَستلزم الكفر بها نفي الإلهية‏.‏
وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال‏:‏ والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون‏:‏ نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما قال‏:‏
‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكافرون حقاً‏}‏ الجملة خبر إنّ والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أنّ المشار إليهم لاستحضارهم بتلك الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقِب لاسم الإشارة‏.‏
وأفاد تعريف جزأي الجملة والإتيانُ بضمير الفصل تأكيدَ قصرِ صفة الكفر عليهم، وهو قصر ادّعائي مجازيّ بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم، كقوله تعالى في المنافقين‏:‏ ‏{‏هم العدوّ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ومثل هذا القصر يدلّ على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة‏.‏
ووجه هذه المبالغة‏:‏ أنّ كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر، وعلى سفالة في الخُلُق، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصِلات، فإنّ كلّ خصلة منها إذا انفردت هي كفر، فكيف بها إذا اجتمعت‏.‏
و ‏{‏حقّا مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، أي حُقَّهم حقّا أيّها السامع بالِغين النهاية في الكفر، ونظير هذا قولهم‏:‏ ‏(‏جِدّاً‏)‏‏.‏ والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة، وليس هو لرفع المجاز، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأنّ القَصْر مستعمل في ذلك المعنى، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيّاً لظهور أنّ ذلك لا يستقيم، فقول بعض النحاة، في المصدر المؤكّد لمضمون الجملة‏:‏ إنَّه يفيد رفع احتمال المجاز، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد‏.‏
وأعتدنا‏}‏ معناه هيّأنا وقدّرنا، والتاء في ‏{‏أعتدنا‏}‏ بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة، وقال كثير منهم‏:‏ التاء أصلية، وأنّه بناء على حدة هو غير بناء عَدّ‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنّ عَتد هو الأصل وأنّ عدّ أدغمّت منه التاء في الدال، وقد ورد البناءان كثيراً في كلامهم وفي القرآن‏.‏
وجيء بجملة ‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله‏}‏ إلى آخرها؛ لمقابلة المسيئين بالمحسنين، والنذارةِ بالبشارة على عادة القرآن‏.‏ والمراد بالذين آمنوا المؤمنون كلّهم وخاصّة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام‏.‏ فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ أي غفوراً لهم ما سلف من كفرهم، رحيماً بهم‏.‏
والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بين أحد منهم‏}‏ تقدّم الكلام على مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏136‏)‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نؤتيهم‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بياء الغائب والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏
‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏‏}‏
لمَّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم‏.‏ والجملة استئناف ابتدائي‏.‏
ومجيء المضارع هنا‏:‏ إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله‏:‏ ‏{‏ويَصْنَعُ الفُلْك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 12‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وإمَّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألَحّوا في هذا السؤال لِقصد الإعنات، كقول طريف بن تميم العنبري‏:‏
بعثوا إليّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ *** أي يكرّر التوسّم‏.‏ والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال، ولذلك قال بعده‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى‏}‏‏.‏ والسَّائلُون هم اليهود، سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة‏.‏ فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود‏.‏
والكتاب هنا إمَّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى‏}‏ فاء الفصيحة دالّة على مقدّر دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة‏.‏
وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم، وإظهارُ أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامَّة والخاصّة، وهذا ممَّا يحُطّ من مقدار الرسالة‏.‏
وفي إنجيل متَّى‏:‏ أنّ قوماً قالوا للمسيح‏:‏ نريد أن نرى منك آية فقال‏:‏ «جِيل شِرّير يطلب آية ولا تعطى له آية»‏.‏ وتكرّر ذلك في واقعة أخرى‏.‏ وقد يُقبل ذلك من المؤمنين، كما حكى الله عن عيسى‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن يُنزّل علينا مائدة من السماء قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين إلى قوله قال الله إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنِّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112، 115‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْوِيفاً‏}‏
‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏
وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله، ولا التنعّم بالمشاهدة، ولكنَّهم أرادوا عَجَباً ينظرونه، فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أرِنا الله جهرة‏}‏، ولم يقولوا‏:‏ ليتنا نرى ربّنا‏.‏ ‏{‏وجَهْرَة‏}‏ ضدّ خُفية، أي عَلَناً، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من ‏(‏أرنا‏)‏، ويجوز أن يكون حالاً من المرفوع في ‏(‏أرنا‏)‏‏:‏ أي حال كونك مجاهراً لنا في رؤيته غير مخف رؤيته‏.‏
واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصاعقة بظلمهم‏}‏، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة ‏(‏55‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون‏.‏ وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً، ولذلك قال‏:‏ بظلمهم‏}‏ والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى‏:‏ حكاه الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك‏}‏ الآية في سورة الأعراف ‏(‏143‏)‏‏.‏ وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف ‏(‏ثمّ‏)‏ المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى‏.‏ فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم، فصار يزجرهم ويؤنّبهم‏.‏ ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً‏.‏
ثم ذكر آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي‏:‏ رفع الطور، والأمر بقتال أهل أريحا، ودخولهم بابها سجّداً‏.‏ والباب يحتمل أنّه باب مدينة أريحا، ويحتمل أنّه باب الممرّ بين الجبال ونحوها، كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون إلى قوله ادخلوا عليهم الباب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏23‏)‏؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت‏.‏ وقد مضى الكلام عليها جميعاً في سورة البقرة‏.‏
وأخذ الميثاق عليهم‏:‏ المراد به العهد، ووصفُه بالغليظ‏.‏ أي القويّ، والغلظ من صفات الأجسام، فاستعير لقوّة المعنى وكنّى به عن توثّق العهد لأنّ الغلظ يستلزم القوّة، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة، والمقصود من هذا إظهار تأصّلهم في اللجاج والعناد، من عهد أنبيائهم، تسلية للنبيء على ما لقي منهم، وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعدوا‏}‏ قرأه نافع في أصحّ الروايات، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه بفتح العين وتشديد الدال المضمومة أصله‏:‏ لا تعْتدوا، والاعتداء افتعال من العَدوْ، يقال‏:‏ اعتدى على فلان، أي تجاوز حدّ الحقّ معه، فلمّا كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحرّكة وقبلها ساكن، تهيّأ إدغامها، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها، وأدغمت في الدال إدغاماً لقصد التخفيف، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها؛ فقالوا‏:‏ تَعْتَدوا وتَعَدّوا، لأنَّها وقعت قبل الدال، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدّان‏.‏
وقرأ الجمهور، وقالون في إحدى روايتين عنه‏:‏ «لا تَعْدوا» بسكون العين وتخفيف الدال مضارع مجزوم من العدو، وهو العُدوان، كقوله‏:‏ ‏{‏إذ يَعْدون في السبت‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏163‏)‏؛ وفي إحدى روايتين عن قالون‏:‏ باختلاس الفتحة، وقرأه أبو جعفر‏:‏ بسكون العين وتشديد الدال، وهي رواية عن نافع أيضاً، رواها ابن مجاهد‏.‏ قال أبُو علي، في الحُجَّة‏}‏‏:‏ وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذ كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول منهما حرف لين، نحو دابَّة، يقولون‏:‏ المدّ يصير عوضاً عن الحركة، قال‏:‏ وإذا جاز نحو دُوَيْبَّة مع نقصان المدّ الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو‏:‏ تَعدُوا‏.‏ لأنّ ما بين حرف اللين وغيره يَسير، أي مع عدم تعذّر النطق به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏
‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏‏}‏
التفريع على قوله‏:‏ ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقا غليظا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 154‏]‏ والباء للسبيبة جَارّة ل ‏{‏نقضهم‏}‏، و‏(‏وما‏)‏ مزيدة بعد الباء لتوكيد التسبّب‏.‏ وحرف ‏(‏ما‏)‏ المزيد بعد الباء لا يكفّ الباء عن عمل الجرّ وكذلك إذا زيد ‏(‏ما‏)‏ بعد ‏(‏من‏)‏ وبعد ‏(‏عن‏)‏‏.‏ وأمّا إذا زيد بعد كاف الجرّ وبعد ربّ فإنّه يكفّ الحرف عن عمل الجرّ‏.‏
ومتعلَّق قوله ‏{‏بما نقضهم‏}‏‏:‏ يجوز أن يكون محذوفاً، لتذهب نَفْس السامع في مذاهب الهول، وتقديره‏:‏ فعَلْنا بهم ما فَعَلْنا‏.‏ ويجوز أن يتعلّق ب ‏{‏حرّمْنا عليهم طيّبات أحلّت لهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وما بينهما مستطردات، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هَادُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏ كالفذلكة الجامعة لِجرائمهم المعدودة من قبل‏.‏ ولا يصلح تعليق المجرور ب ‏{‏طَبَعَ‏}‏ لأنَّه وقع ردّا على قولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا غلف‏}‏، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلّق، لكن يجوز أن يكون «طبع» دليلاً على الجواب المحذوف‏.‏
وتقدّم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها‏.‏ وتقدّم المتعلِّق لإفادة الحصر‏:‏ وهو أن ليس التحريم إلاّ لأجللِ ما صنعوه، فالمعنى‏:‏ ما حرمنا عليهم طيّبات إلاّ بسبب نقضهم، وأكّد معنى الحصر والسَّبب بما الزائدة، فأفادت الجملة حصراً وتأكيداً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بل طبع الله عليها بكفرهم‏}‏ اعتراض بين المعَاطيف‏.‏ والطبع‏:‏ إحْكام الغلق بجعل طين ونحوه على سدّ المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرِج ما فيه إلاّ بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يَسِمُون على ذلك الغلق بسمة تترك رسماً في ذلك المجعول، وتسمّى الآلة الواسمة طابعاً بفتح الباء فهو يرادف الخَتْم‏.‏ ومعنى ‏{‏بكفرهم‏}‏ بسببه، فالكفرُ المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقّي الإرشاد، وأريد بقوله‏:‏ ‏{‏بكفرهم‏}‏ كفرهم المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وكفرهم بآيات الله‏}‏‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ من عموم المفعول المطلق‏:‏ أي لا يؤمنون إيماناً إلاّ إيماناً قليلا، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه إذ الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة، فالقليل من الإيمان عدم، فهو كفر‏.‏ وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون قلّة الإيمان كناية عن قلّة أصحابه مثل عبد الله بن سلاَم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 158‏]‏
‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏
‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن‏}‏‏.‏
عُطف ‏{‏وبكفرهم‏}‏ مرّة ثانية على قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ ولم يُستغن عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وكفرِهم بآيات الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصداً للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلّم يذكره ويُعيده‏:‏ يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد‏:‏
فتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظلالُه *** كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها
مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج *** كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها
فأعاد التشبيه بقوله‏:‏ ‏(‏كدُخان نَار‏)‏ ليحقّق معنى التشبيه الأوّل‏.‏ وفي «الكشاف» «تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم فعطف بعض كفرهم على بعض»، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفاً للذي قبله باعتبار عطف قوله‏:‏ ‏{‏وقولهم على مريم بهتاناً‏}‏‏.‏ ونظيره قول عويف القوافي‏:‏
اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه *** واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا
إذْ عطف قوله‏:‏ ‏(‏واللؤم أكرم من وبر‏)‏ باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه‏:‏ ‏(‏وما ولدا‏)‏‏.‏
والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت، وجمعه‏:‏ بُهُت وبُهْت‏.‏ وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم عليها السلام‏.‏ أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه‏:‏ هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين‏.‏
والمسيح كان لَقباً لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه‏:‏ لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسمه المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏45‏)‏، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقباً له بينهم‏.‏ وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له‏.‏ ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب‏:‏ مذمَّماً عصينا، وأمره أبينا‏.‏ فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد‏.‏
وقوله‏:‏ رسول الله‏}‏ إن كان من الحكاية‏:‏ فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ ‏{‏رسول الله‏}‏ على المدح، وإن كان من المحكي‏:‏ فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ وقول أهل مدين لشعيب
‏{‏أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ فيكون نصب «رسول الله» على النعت للمسيح‏.‏
وقوله ‏{‏وما قتلوه‏}‏ الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات‏:‏ إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد‏.‏
وعطف ‏{‏وما صلبوه‏}‏ لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏.‏‏.‏‏.‏ أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والمشهور في الاستعمال‏:‏ أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه‏.‏
وجملة ‏{‏ولكن شبَّه لهم‏}‏ استدراك، والمستدرك هو ما أفاده ‏{‏وما قتلوه‏}‏ من كون هذا القول لا شبهة فيه‏.‏ وأنَّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏شبّه لهم‏}‏ يحتمل أن يكون معناه‏:‏ أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏شبِّه‏}‏ فعلاً مبْنيّاً للمجهول، مشتقّاً من الشبه، وهو المماثلة في الصورة‏.‏ وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل ‏(‏شبّه‏)‏ للدلالة فعل ‏(‏شبّه‏)‏ عليه؛ فالتقدير‏:‏ شبِّه مشبَّه فيكون «لهم» نائباً عن الفاعل‏.‏ وضمير ‏(‏لهم‏)‏ على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول‏:‏ حصل لي ظنّ بكذا‏.‏ والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب‏:‏ خُيِّل إليك، واختُلِط على فلان‏.‏ وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل‏:‏ أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم‏.‏
أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم‏.‏
وفي الأخبار أنّ ‏(‏يهوذا الاسخريوطي‏)‏ أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضلّ ونافق، هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهُو الذي ألْقَى الله عليه شبهَ عيسى، وأنَّه الذي صُلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين، وهذا يلائم الاحتمال الأول‏.‏
ويقال‏:‏ إنّ ‏(‏بيلاطس‏)‏، وَاليَ فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وَصَلبه فأجاب بأنّه لا عِلم له بشيء من هذه القضية، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع، وإنَّما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني‏.‏
والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن‏:‏ أنّ المسيح لم يُقتل، ولا صُلب، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل‏.‏ وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ‏}‏ في سورة آل عمران ‏[‏55‏]‏ وقوله‏:‏ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه‏}‏ يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح‏.‏ والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين‏:‏ فجمهورهم يقولون‏:‏ قتلته اليهود، وبعضهم يقول‏:‏ لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ‏.‏ فالمراد بالظنّ هنا‏:‏ معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن ‏{‏إنّ بعض الظنّ إثم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث» فالاستثناء في قوله ‏{‏إلاّ اتّباع الظنّ‏}‏ مُنقطع، كقول النابغة‏:‏
حَلفت يميناً غير ذي مثنوية *** ولا عِلْمَ إلاّ حُسنَ ظنّ بصَاحب
يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ ويجُوز أن يعطف على قوله‏:‏ ‏{‏مالهم به من علم‏}‏‏.‏
واليقين‏:‏ العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسمُ مصدر، والمصدر اليَقَن بِالتحريك، يقال‏:‏ يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال‏:‏ أيقن يُوقن إيقاناً، وهو الشائع‏.‏
وقوله ‏{‏يقيناً‏}‏ يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله‏:‏ لأنّ مضمون‏:‏ ‏{‏وما قتلوه يقينا‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وقولهم إنّا قتلنا المسيح‏}‏ إلى قوله ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم‏}‏ يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون‏.‏
ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في ‏{‏قتلوه‏}‏، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً، بقرينة قوله قبله ‏{‏ومَا قتلوه وما صلبوه‏}‏، أي‏:‏ هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته‏.‏ وضمير النصب في ‏{‏قتلوه‏}‏ عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام‏.‏
ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم‏:‏ قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها، وقولهم‏:‏ قَتَل أرضاً عالِمُها، ومن شعر «الحماسة» في بَاب الهجاء‏:‏
يَروعك من سعدِ ابن عمرو جُسومها *** وتزهَد فيها حين تقتلُهَا خُبْراً
وقول الشاعر‏:‏
كذلِكَ تخبر عنهَا العالمات بها *** وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يَقَنا
وقول الآخر‏:‏
قتلتني الأيام حين قتلتها *** خبُرا فأبْصِرْ قَاتلاً مقتولاً
وضمير النصب في ‏{‏قتلوه‏}‏ عائد إلى العلم من قوله تعالى ‏{‏ما لهم به من علم‏}‏، فيكون ‏{‏يقيناً‏}‏ على هذا تمييزاً لنسبة ‏(‏قتلوه‏)‏‏.‏
ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله‏:‏ ‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ أي فلم يظفروا به‏.‏ والرفع‏:‏ إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، و‏(‏إلى‏)‏ إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى‏.‏
وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى عليه السّلام بقي حيّاً أوْ أماته الله، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّي متوفّيك ورافِعك إليّ‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏55‏)‏‏.‏
والتذييل بقوله‏:‏ وكان الله عزيزاً حكيماً‏}‏ ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه، ولمّا كان حكيماً فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏
‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وما قتلوه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏‏.‏ وهذا الكلام إخبار عنهم، وليس أمراً لهم، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية‏.‏ و‏{‏إن‏}‏ نافية و‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ صفة لموصوف محذوف تقديره‏:‏ أحد‏.‏
والضمير المجرور عائد لعيسى‏:‏ أيّ ليومنَنّ بعيسى، والضمير في ‏{‏موته‏}‏ يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابيّ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب ‏{‏إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏‏.‏ وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود‏.‏ والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه‏.‏ وقيل‏:‏ كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله‏.‏
وعندي أنّ ضمير ‏{‏به‏}‏ راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل ‏{‏رفعه الله إليه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏، ويعمّ قولُه ‏{‏أهللِ الكتاب‏}‏ اليهودَ، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب‏.‏
والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام‏.‏
وقيل‏:‏ الضمير في قوله ‏{‏موته‏}‏ عائد إلى عيسى، أي قبل موت عيسى، ففرّع القائلون بهذا تفاريع‏:‏ منها أنّ موته لا يقع إلاّ آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلاً؛ ومنها ما ورد في الحديث‏:‏ أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب، ولا يخفى أنّ عموم قوله‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ يبطل هذا التفسير‏:‏ لأنّ الَّذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم‏.‏
والشهيد‏:‏ الشاهد؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا، وبأنّ النّصَارى بدّلوا، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏ الآيَات في سورة العقود ‏(‏109‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 162‏]‏
‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏
إن كان متعلَّق قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم‏}‏ النساء‏:‏ 155‏)‏ محذوفاً على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله‏:‏ ‏{‏فبظلم‏}‏ مفرّعاً على مجموع جرائمهم السالفة‏.‏ فيكون المراد بظلمهم ظلماً آخر غير ما عُدّد من قبل، وإن كان قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ متعلّقاً بقوله‏:‏ ‏{‏حرّمنا عليهم‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فبظلم‏}‏ الخ بَدَل مطابق من جملة ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل‏.‏ وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله‏:‏ ‏{‏حرّمنا عليهم طيّبات‏}‏ إذ بَعُد ما بينه وبين متعلّقه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ ليقوى ارتباط الكلام‏.‏ وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه‏:‏ لأنّ نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتاناً، وقولهم قتلنا عيسى‏:‏ كلّ ذلك ظلم‏.‏ فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم، كأنَّه قيل‏:‏ فبذلك كلّه حرّمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّناً، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة‏.‏ وقد مرّ بيان ذلك قريباً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون ظلماً آخر أجْملَهُ القرآن‏.‏
وتنكير ‏(‏ظلم‏)‏ للتعظيم، والعدولُ عن أن يقول «فبظلمهم»، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم‏}‏ إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو ‏{‏الَّذين هادوا‏}‏ لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها‏:‏ وهي ‏{‏فبما نقضهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏إنّا هدنا إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب‏.‏
والآية اقتضت‏:‏ أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنَّما كان عقاباً لهم، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يتقضي تحريم تناولها، وإلاّ لحُرمّت عليهم من أوّل مجيء الشريعة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظُفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلى قوله ذلك جزيناهم ببغيهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏146‏)‏، فهذا هو الجزاء على ظلمهم‏.‏
نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنَّه قال‏:‏ نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يُجِز أن يكون التكليف جزاء على الجرم‏.‏ قال الفخر‏:‏ والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم‏.‏
وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تُخصّ بالمجرمين ثُمّ تنسخ‏.‏ فالذي يظهر لي في الجواب‏:‏ إمَّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوَة صار ذلك طبعاً في أمزجتهم فاقتضى أن يلطِّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقاباً للذين ظلموا وبغوا ثُمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذِكْرى ويكون للأوّلين سُوء ذِكر من باب قوله‏:‏
‏{‏واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأوللِ كِفْل من دمها»‏.‏ ذلك لأنّه أوّل من سَنّ القتل‏.‏ وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك‏.‏
وصَدّهم عن سبيل الله‏:‏ إن كان مصدرَ صَدّ القاصر الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد فالعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قِياس مضارعه بضمّ الصاد، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى، ويقولون‏:‏ سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات‏.‏ أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيراً، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذّبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وسوّلوا لكثير من النّاس، جهراً أو نفاقاً، البقاء على الجاهليّة، كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏ الآيات‏.‏ ولذلك وصف ب ‏{‏كثيراً‏}‏ حالاً منه‏.‏
وأخذُهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائليّين كما في الإصحاح23 من سفر التثنية «لا تقرض أخاك بربا ربَا قضّةٍ أو ربا طعام أو ربا شيء مّا ممّا يقرض بربا‏.‏ للأجنبي تقرض بربا»‏.‏ والربا محرّم عليهم بنصّ التوراة في سفر الخروج في الإصحاح22 «أن أقرضَت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا» وأكلُهم أموال النّاس بالباطل أعمّ من الربا فيشمل الرشوة المحرّمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك‏.‏
والاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون في العلم‏}‏ الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهَّم، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق‏.‏
والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏7‏)‏‏.‏ والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت، فليس بينه وبين الحقّ حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات‏.‏
وعطفُ المؤمنون‏}‏ على ‏{‏الراسخون‏}‏ ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارقَ للعادة‏.‏ فلذلك قال ‏{‏يؤمنون‏}‏، أي جميعهم بما أنزل إليك، أي القرآن، وكفاهم به آية، وما أنزل من قبلك على الرسل، ولا يعادون رسل الله تعصّباً وحميّة‏.‏ والمراد بالمؤمنين في قوله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنَ به‏.‏
وعطف ‏{‏المقيمين‏}‏ بالنصب ثبت في المصحف الإمام، وقرآه المسلمون في الأقطار دون نكير؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة، سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنْ البِرّ من آمن إلى قوله والصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ قال سيبويه في «كتابه» «بابُ ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جَعلته صفة فجرَى على الأول، وإن شئتَ قطعته فابتدأتَه»‏.‏ وذَكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال‏:‏ «فلو كان كلُّه رفعاً كان جيّداً»، ومثْله ‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّرّاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، ونظيره قول الخِرْنق‏:‏
لا يبْعَدَنْ قومي الذي هُمُو *** سُمّ العُداة وآفَة الجزر
النازلون بكلّ معترك *** والطيِّبيّين معاقِدَ الأزْر
في رواية يونس عن العرب‏:‏ برفع ‏(‏النازلون‏)‏ ونصب ‏(‏الطيِّبيين‏)‏، لتكون نظير هذه الآية‏.‏ والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏والصابون‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏69‏)‏‏.‏
وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب ‏{‏المقيمين‏}‏ خطأ، من كاتب المصحف وقد عَدّتْ من الخطأ هذه الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن البرّ من آمن بالله إلى قوله والصابرين في البأساء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ وقولهِ‏:‏ ‏{‏إِنّ هذَان لساحرانِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والصابُون‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏69‏)‏‏.‏ وقرأتْها عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبَي بن كعب، والحسن، ومالك بن دينار، والجحدري، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، وعمرو بن عبيد‏:‏ والمقيمون‏}‏ بالرفع‏.‏ ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة‏.‏
ومن النّاس من زعم أنّ نصب ‏{‏المقيمين‏}‏ ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم‏:‏ «أحسنتم وأجملتم وأرى لحناً قليلاً ستُقيمه العرب بألْسنتها»‏.‏ وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نُسبت إليهم‏.‏ ومن البعيد جدّاً أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّهِ‏.‏ ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً‏.‏
وقد علمتَ وجه عربيّته في المتعاطفات، وأمّا وجه عربية ‏{‏إنّ هذان لساحران‏}‏ فيأتي عند الكلام في سورة طه ‏(‏63‏)‏‏.‏
والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألِفات المحذوفة‏.‏ قال صاحب الكشاف‏}‏‏:‏ «وهُم كانوا أبْعَدَ همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يَلْحَق بهم»‏.‏ وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضرّاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏
والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنَّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد وقد ورد في الحديث الصّحيح‏:‏ أنّ لهم أجرين، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنَّهم سبقوا غيرهم بالإيمان‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ سنوتيهم‏}‏ بنون العظمة وقرأه حمزة وخلف بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون بالله‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 165‏]‏
‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏‏}‏
استأنفتْ هذه الآياتُ الردّ على سؤال اليهود أن يُنَزّل عليهم كتاباً من السماء، بعد أن حُمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏، واستُطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم، وما نالهم من جرّاء ذلك، فأقبل الآن على بيان أنّ إنزال القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم لم يكن بِدْعاً، فإنّه شأن الوحي للرسل، فلم يقدح في رسالتهم أنَّهم لم ينزّل عليهم كتاب من السماء‏.‏
والتأكيد ‏(‏بإنّ‏)‏ للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفيّة الوحي للرسل غير موسى، إذ لم يَجْروا على موجب علمهم حتّى أنكروا رسالة رسول لم يُنْزل إليه كتاب من السماء‏.‏
والوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام، مثل الإشارة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه من المحراب فأوحَى إليهم أن سبّحوا بكرة وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال داوود بن جرير‏:‏
يَرْمُون بالخُطب الطِواللِ وتارةً *** وَحْيُ اللواحِظِ خيفَةَ الرقباء
والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما أوحينا إلى نوح‏}‏ تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه، فإنّ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النّبيء صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي بخلاف الوحي إلى غيره ممّن سمّاهم الله تعالى فإنّه يحتمل بعض من الأنواع، على أنّ الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب‏.‏ وعدّ الله هنا جمعاً من النبيئين والمرسلين وذكر أنّه أوحي إليهم ولم يختلف العلماء في أنّ الرسل والأنبياء يُوحى إليهم‏.‏
وإنَّما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي‏.‏ ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة، وأنّ كلّ نبيء فهو رسول لأنَّه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته‏.‏ وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبؤة ثمّ يعقبها إرساله، فتلك النبوة تمهيد الرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه أخبر خديجة، ونزل عليه‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيريتك الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏‏.‏ والقول الصحيح أنّ الرسول أخصّ، وهو من أوحي إليه مع الأمر بالتبليغ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلّغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير، يعني بدون إنذار وتبشير‏.‏ وورد في بعض الأحاديث‏:‏ الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وعدّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً‏.‏ وقد ورد في حديث الشفاعة، في الصحيح‏:‏ أنّ نوحاً عليه السلام أوّل الرسل‏.‏ وقد دَلَّت آيات القرآن على أنّ الدّين كان معروفاً في زمن آدم وأنّ الجزاء كان معلوماً لهم، فقد قَرّب ابنَا آدَمَ قرباناً، وقال أحدهما للآخر
‏{‏إنَّما يتقبّل الله من المتّقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏، وقال له‏:‏ ‏{‏إني أخاف الله ربّ العالمين إني أريد أن تَبوء بإثمي وإثمك فتكونَ من أصحاب النّار وذلك جزاءُ الظّالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ ودلّ على أنَّه لم يكن يومئذٍ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القويّ، فإنَّما كان ما تعلّموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائليَة‏.‏
ونوح هو أوّل الرسل، وهو نوح بن لامَك، والعرب تقول‏:‏ لَمَك بن متوشالح بن أخنوخ‏.‏ ويسمّيه المصريون هُرمس، ويسمّيه العرب إدريس بن يارد بن مَهْلَلْئِيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، حسب قول التَّوْراة‏.‏ وفي زمنه وقع الطّوفان العظيم‏.‏ وعاش تسعمائة وخمسين سنة، وقيل تسعمائة وتسعين سنة، والقرآن أثبت ذلك‏.‏ وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وأربع وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمَدّ مِن كتابهم‏.‏
وإبراهيم هو الخليل، إبراهيم بن تارح والعرب تسمّيه آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح‏.‏ ولد سنة2893 قبل الهجرة، في بلد أوُر الكلدانيين، ومات في بلاد الكنعانيين، وهي سوريا، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة2718 قبل الهجرة‏.‏
وإسماعيل هو ابن إبراهيم مِن الجارية المصرية هَاجَر‏.‏ توفِّي بمكة سنة2686 قبل الهجرة تقريباً‏.‏ وكان إسماعيل رسولاً إلى قومه الذين حلّ بينهم من جُرهم وغيرهم، وإلى أبنائه وأهله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏‏.‏
وإسحاق هو ابن إبراهيم مِن سارة ابنة عمّه، توفّي قبل الهجرة سنة2613، وكان إسحاق نبيّاً مؤيّداً لشرع أبيه إبراهيم ولم يجئ بشرع‏.‏
ويعقوب هو ابن إسحاق، الملقّبُ بإسرائيل‏.‏ توفّي سنة2586 قبل الهجرة‏.‏ وكان يعقوب نبيّاً مؤيّداً لِشرع إبراهيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ووصى بها إبراهيم بَنيه ويعقوب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ ولم يجئ بشرع جديد‏.‏
والأسباط هم أسباط إسحاق، أي أحفاده، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابناً‏:‏ روبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزَبُولُون، ويوسف، وبنيامين، ومنسَّى، ودَان، وأَشير، وثَفتالي‏.‏ فأمّا يوسف فكان رسولاً لقومه بمصر‏.‏ قال تعالى خطاباً لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل، أو خطاباً من الله ‏{‏ولقد جاءكم يوسفُ من قبلُ بالبيِّنات فما زِلْتُمْ في شكّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وأمّا بقية الأسباط فكان كلّ منهم قائماً بدعوة شريعة إبراهيم في بنِيه وقومه‏.‏ والوحي إلى هؤلاء متفاوت‏.‏
وعيسى هو عيسى ابن مريم، وُلد من غير أب قبل الهجرة سنة622‏.‏ ورفع إلى السماء قبلها سنة589‏.‏ وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التّوراة‏.‏ ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين‏.‏
وأيوب هو نبيء‏.‏ قيل‏:‏ إنّه عربي الأصل من أرض عُوص، في بلاد أَدوم، وهي من بلاد حَوران، وقيل، هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم، وقيل‏:‏ اسمه عوض، وقيل‏:‏ هو يوباب ابن حفيد عيسو‏.‏
وقيل‏:‏ كان قبل إبراهيم بمائة سنة‏.‏ والصحيح أنَّه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة‏.‏ ويقال‏:‏ إنّ الكتاب المنسوب إليه في كتب اليَهود أصله مؤلف باللغة العربيّة وأنّ موسى عليه السّلام نقله إلى العبرانيّة على سبيل الموعظة، فظنّ كثير من الباحثين في التّاريخ أنّ أيوب من قبيلة عربيّة‏.‏ وليس ذلك ببعيد‏.‏ وكان أيوب رسولاً نبيّا‏.‏ وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الّذي شدّ أزره في الصبر، كما سنذكره في موضعه‏.‏ وإنّما منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد؛ لأنّ العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجماً، وإن كان أصلهم عربياً، ولذلك منعوا ثمودَ من الصرف إذ سكنوا الحِجر‏.‏
ويونس هو ابن متَّى من سبط زبولون من بني إسرائيل، بعثه الله إلى أهل نَيْنوَى عاصمة الأشوريين، بعد خراب بيت المقدس، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة‏.‏
وهارون أخو موسى بن عمران توفّي سنة 1972 قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل‏.‏
وسليمانُ هو ابن داود‏.‏ كان نبيّاً حاكماً بالتّوراة وَمَلِكاً عظيماً‏.‏ توفّي سنة1597 قبل الهجرة‏.‏ وممّا أوحى الله به إليه ما تضمّنه كتاب «الجامعة» وكتاب «الأمثال من الحكمة والمواعظ»، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إنّ الله أوحاها إليه؛ فعلمنا أنّها كانت موحى بمعانيها دون لفظها‏.‏
وداود أبُو سليمان هو داود بن يسي، توفّي سنة1626 قبل الهجرة، بعثه الله لنصر بني إسرائيل‏.‏ وأنزل عليه كتاباً فيه مواعظ وأمثال، كان بنو إسرائيل يترنّمون بفصوله، وهو المسمّى بالزبور‏.‏ وهو مصدر على وزن فَعول مثل قَبول‏.‏ ويقال فيه‏:‏ زبُور بضم الزاي أي مصدراً مثل الشُّكور، ومعناه الكتابة ويسمّى المكتوب زَبوراً فيجمع على الزّبر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بالبيّنات والزبر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 184‏]‏‏.‏ وقد صار علماً بالغلبة في لغة العرب على كتاب داود النبي، وهو أحد أسفار الكتاب المقدّس عند اليهود‏.‏
وعُطفت جملة ‏{‏وآتينا داوود زبورا‏}‏ على ‏{‏أوحينا إليك‏}‏‏.‏ ولم يعطف اسم داود على بقيّة الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أنّ الزبور موحى بأن يكون كتاباً‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏زَبورا‏}‏ بفتح الزاي، وقرأه حمزة وخلف بضمّ الزاي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ورُسلا قد قصصناهم عليك من قبل‏}‏ يعني في آي القرآن مثل‏:‏ هود، وصالح، وشعيب، وزكرياء، ويحيى، وإلياس، والْيسع، ولوط، وتبّع‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ لم يذكرهم الله تعالى في القرآن، فمنهم من لم يرد ذكره في السنّة‏:‏ مثل حنظلة بن صفوان نبيء أصحاب الرسّ، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة‏.‏
قال السهروردي في «حكمة الإشراق»‏:‏ «منهم أهل السفارة»‏.‏ ومنهم من ذكرته السنّة‏:‏ مثل خالد بن سنَان العبسي‏.‏
وإنَّما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأنّ المقصود محاجّتهم‏.‏ وإنَّما ترك الله أن يقصّ على النّبيء صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه، لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصاً ذات عبر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكلم الله موسى تكليما‏}‏ غُيّر الأسلوب فعُدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر، لأنّ لهذا النّوع من الوحي مزيد أهمّيّة، وهو مع تلك المزيّة ليس إنزال كتاب من السماء، فإذا لم تكن عبرة إلاّ بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم، فقد بطل أيضاً ما عدا الكلمات العشر المنزّلة في الألواح على موسى عليه السّلام‏.‏
وكلام الله تعالى صفة مستقلّة عندنا، وهي المتعلّقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسللِ، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع المِلّيِّين، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدلّ عليها الدليل العقليّ على التحقيق إذ لا تدلّ الأدلّة العقلية على أنّ الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يُوجد الموجودات ثم يتركها وشأنَها، فلا يتعلّق علمه بحملها على ارتكاب حَسَن الأفعال وتجنّب قبائحها‏.‏ ألا ترى أنّه خلق العجماوات فما أمرها ولا نهى، فلو ترك النّاس فوضى كالحيوان لما ستحال ذلك‏.‏ وأنّه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلاّتها، كما فطر النحل على إنتاج العسل، والشجر على الإثمار‏.‏ ولو شاء لحمل النّاس أيضاً على جِبِلّة لا يعدونها، غير أنَّنا إذ قد علمنا أنَّه عالم، وأنّه حكيم، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها، يريد حصول المنافع وانتفاء المضارّ، ويرضى بالأولى، ويكره الثّانية، وإذْ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلاً للتعلّم والصلاح، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير، وغايات الشرّ، والتفنّن فيهما، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شرّ إلى غاية فطر عليها لا يعدوها، فكان من المتوقّع طغيان الشرّ على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل النّاس على فعل الخير الذي يرضاه، وترككِ الشرّ الذي يكرهه، وحملُهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل النّاس وجبْلهم على الصلاح والخير، فيكونون دعاة للبشر، لكنّ حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير، وأن يعينهم على بلوغ ما جُبلوا عليه بإرشاده وهديه، فخلق النّفوس القابلة للنبوّة والرسالة وأمدّها بالإرشاد الدالّ على مراده المعبّر عنه بالوحي، كما اقتضاه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيثُ يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ فأثبت رسالة وتهيئة المرسَل لقبولها ومن هنا ثبتَت صفة الكلام‏.‏
فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أنّ الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور، كثيرة وذلك يدلّ على أنّ الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأنّ ذلك يسمّى كلاماً نفسياً، وهو أزلي‏.‏
ثُمّ إنّ حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلَّقات صفة العلم، أو من متعلَّقات صفة الإرادة، أو صفة مستقلّة متميّزة عن الصفتين الأخريين؛ فمنهم من يقول‏:‏ عَلم حاجة النّاس إلى الإرشاد فأرشدهم، أو أرادَ هَدي الناس فأرشدهم‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنّ الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال الّتي منها الرضا والكراهيّة والأمر والنهي للبشر أو الملائكة، فثبتت صفة مستقلّة هي صفة الكلام النفسي؛ وكلّ ذلك متقارب، وتفصيله في علم الكلام‏.‏
أمّا تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرِف منه الملَك أو الرسول أنّ الله يأمر أوْ ينهَى أو يخبر‏.‏ فالتكليم تعلُّق لصفة الكلام بالمخاطب على جَعْل الكلام صفة مستقِلّة، أو تعلّق العِلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب، أو تعلّق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب‏.‏ فالأشاعرة قالوا‏:‏ تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكاً من جهة السمع يتحصّل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات‏.‏ وقد ورد تمثيله بأنّ موسى سمع مِثْل الرعد عَلِم منه مدلول الكلام النفسي‏.‏ قلت‏:‏ وقد مثّله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ‏"‏ أنّ الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضرَبَتْ الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقولِهِ كأنَّه سِلْسِلَة على صَفْوَاننٍ فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربّكم، قالوا للّذي قالَ «الحقّ وهو العليّ الكبير ‏"‏ فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفاً وأصواتاً بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتّصل بكلام الله، وهو تعلّق من تعلّقات صفة الكلام النفسي بالمكلِّم فيما لا يَزال، فذلك التعلّق حادث لا محالة كتعلّق الإرادة‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ يخلق الله حروفاً وأصواتاً بلغة الرسول فيسمعها الرسول، فيعلم أنّ ذلك من عند الله، بعلم يجده في نفسه، يعلم به أنّ ذلك ورد إليه من قِبَل الله، إلاّ أنَّه ليس بواسطة الملك، فهم يفسّرونه بمثل ما نفسّر به نحن نزول القرآن؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد، على قولهم، لأنّ الله منزّه عن الحروف والأصوات‏.‏ والكلام حقيقة حروف وأصوات، وهذه سفسطة في الدليل لأنّه لا يقول أحد بأنّ الحروف والأصوات تتّصف بها الذات العليّة‏.‏ وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل، وهو المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوْ مِنْ وراء حِجاب‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏‏.‏
أمّا كلام الله الواردُ للرسول بواسطة الملَك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور‏:‏ فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلِّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها، يَعلَم بها الملَكُ أنّ الله يَدلّ، بالألفاظ المخصوصة الملقاةِ للملَك، على مدلولاتتِ تلك الألفاظ فيلقيها الملَك على الرسول كما هي قال تعالى‏:‏
‏{‏أو يرسلُ رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قبلك لتكون من المنذِرين بلسان عربيّ مُبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193 195‏]‏‏.‏ وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين‏.‏ ولكن أمسك بعض أيمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه، أو بكونه مخلوقاً، في مجالس المناظرة التي غشيتْها العامَّة، أو ظُلمة المكابرة، والتحفّز إلى النبز والأذَى‏:‏ دفعاً للإيهام، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام، وتنصّلاً من غوغاء الطغام، فَرَحم الله نفوساً فُتنت، وأجسَاداً أوجعت، وأفواهاً سكتت، والخير أرادوا، سواء اقتصدوا أم زادوا‏.‏ والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا‏.‏
وقوله ‏{‏تكليماً‏}‏ مصدر للتوكيد‏.‏ والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسْبة وتحقيقها مثل ‏(‏قَدْ‏)‏ و‏(‏إنّ‏)‏، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالاً لم تستعمل إلاّ مجازاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً‏}‏ فإنَّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية، أي الكمال النفسي، فلم يفد التأكيد رفع المجاز‏.‏ وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها رَوْح بن زِنْباع‏:‏
بَكَى الخَزّ من رَوْح وأنْكَرَ جِلْده *** وعجَّتْ عجيجاً من جُذَامَ المَطَارف
وليس العجيج إلاّ مجازاً، فالمصدر يؤكِّد، أي يُحقِّق حصول الفعْل الموكَّد على ما هو عليه من المعنى قبل التَّأكيد‏.‏
فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏تكليماً‏}‏ هنا‏:‏ أنّ موسى سمع كلاماً من عند الله، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام، أو أوحى إليه في نفسه‏.‏ وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفِرق، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الَّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف‏.‏ وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في «شرح التلقين»‏:‏ إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم‏:‏ إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خَلق الكلام لأنَّه أكَّده بالمصدر، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي، شيخ ابن عرفة، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة الشكّ عن الحديث لا عن المحدّث عنه‏.‏ وتعقّبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد ردّ ابن عبد السلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏رُسُلاً‏}‏ حال من المذكورين، وقد سمّاهم رسلاً لما قدّمناه، وهي حال موطّئة لصفتها، أعني مبشّرين؛ لأنَّه المقصود من الحال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏مبشرين ومنذرين‏}‏ ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك‏}‏ لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم‏:‏ ‏{‏حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏
‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏ فموقع قوله‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل‏.‏
والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير‏.‏ والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب‏.‏ فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم، واستحقّوا غضب الله وعقابه‏.‏ فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا‏:‏ ‏{‏لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 47‏]‏‏.‏
وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة‏.‏ ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار‏:‏ إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه‏.‏
فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد، والراجعة إلى العمل، وفي وجوب معرفة الله‏.‏ فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ‏.‏
فأمّا جمهورُ أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا‏:‏ لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها‏:‏ مثل ‏{‏وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وبالإجماع‏.‏ وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلاّ أن يقال‏:‏ إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضاً مجال للنظر، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله‏.‏ والجواب أن يقال‏:‏ إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة‏.‏ فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة‏.‏
وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول؛ فقالوا‏:‏ إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام، وحرمة كثير، لا سيما معرفة الله تعالى، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون، وهو الضرّ الأخروي، من لحاق العذاب في الآخرة، حيث أخبر عنه جمع كثير، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات، وهو ضرّ دنيويّ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلاً، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعاً، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع‏.‏
فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في «الكشاف» إذ قال‏:‏ «فإن قلت‏:‏ كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة، أي قبل الرسالة‏.‏ قلت‏:‏ الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميماً لإلزام الحجّة»‏.‏ يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلاً، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس‏:‏ ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا‏.‏
وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في «التوضيح» «أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور» وصرّح أيضاً بأنَّها تعرف بالشرع أيضاً‏.‏
وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا‏:‏ لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة‏.‏ ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد‏:‏ انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول‏:‏ لا أنظر ما لم يجب عليّ، لأنّ ترك غير الواجب جائز، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري‏.‏ وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال‏.‏
ولم أر للأشاعرة جواباً مقنعاً، سوى أنّ إمام الحرمين في «الإرشاد» أجاب‏:‏ بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة، فلمن دعاه الرسول أن يقول‏:‏ لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلاً، ولا يجب عليّ عقلاً ما لم أنظر، لأنّه وجوب نظري، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات، فأنا لا أرتّبها‏.‏
وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني‏.‏ وقال ابن عرفة في «الشامل»‏:‏ إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن‏.‏ والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا‏.‏
وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين‏:‏
أولهما‏:‏ بالمنع، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفاً على الإصغاء إليه، والنظر في معجزته، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة، ودعوتهم واحدة‏:‏ كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيماناً وكفراً، ونجاة وارتباقاً، استقراراً لا يجدون في نفوسهم سبيلاً إلى دفعه، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامععِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات، فوجب عليه وجوباً اضطرارياً استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة‏.‏ ولذلك فلو قَدّرْنا أحداً لم يخالط جماعات البشر، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده‏.‏ وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، ولا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها‏.‏
وثاني الجوابين‏:‏ بالتسليم، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ، فحرّكت فيه داعية النظر، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة، رويداً رويداً، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علماً لا يستطيع بعدَه أن يقول‏:‏ إنّي لا أنظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة‏.‏ فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذاً، فلو قدّرنا أحداً مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطباً، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة، ولكنّه خسر هديه، وسَفِه نفسه‏.‏
ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هارباً حينئذٍ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفى بهذا شعوراً منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذاً على استحبابِه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح‏:‏
‏{‏وإنّي كلَّما دعوتُهم أي إلى الإيمان لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 7‏]‏‏.‏
والإظهار في مقام الإضمار في قوله‏:‏ ‏{‏بعدَ الرسل‏}‏ دون أن يقال‏:‏ بعدَهم، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال‏.‏
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله‏:‏ ‏{‏عزيزاً حكيماً‏}‏‏:‏ أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يُسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات‏.‏ وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏
‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏‏}‏
هذا استدراك على معنًى أثارهُ الكلام‏:‏ لأنّ ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ مسوق مساق بيان تعنّتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحّة نسبة القرآن إلى الله تعالى، فكان هذا المعنى يستلزم أنَّهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول، وأنّ ذلك يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد‏}‏‏.‏ فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يُتوهَّم ثبوتُه أو نفيُه‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يشهد أهلُ الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم‏.‏
وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏282‏)‏، أنّ حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر، وتكذيب مخبر آخر‏.‏ وتقدّم أنّها تطلق على الخبر المحقّق الذي لا يتطرّقه الشكّ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏18‏)‏‏.‏ فالشهادة في قوله‏:‏ لكن الله يشهد‏}‏ أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقاً مجازياً، لأنّ هذا الخبر تضمّن تصديق الرسول وتكذيب معانديه، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله‏:‏ ‏{‏شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ فإنّه على طريقة المجاز المرسل‏.‏ وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله‏:‏ لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود، ولأنّ شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة حقيقة‏.‏ وإظهار فعل ‏{‏يشهدون‏}‏ مع وجود حرف العطف للتّأكيد‏.‏ وحَرف ‏(‏لكنْ‏)‏ بسكون النون مخفّف لكنَّ المشدّدة النون التي هي من أخوات ‏(‏إنّ‏)‏ وإذا خفّفت بطل عملها‏.‏
وقَوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ يَجري على الاحتمالين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليك أنزله بعلمه‏}‏ وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ليكون أوقع في النفس‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه؛ لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ لم يُفد المشهود به إلاّ ضمناً مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حقّ مدخوللِ الباء بعد مادّة شهد، فتكون جملة ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ مكمّلة معنى الشهادة‏.‏ وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ «موقع قوله‏:‏ ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك‏}‏ موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز»‏.‏ فلعلّه يجعل جملة ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك‏}‏ مستقلة بالفائدة، وأنّ معنى ‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ بصحّة ما أنزل إليك، وما ذكرتُه أعرق في البلاغة‏.‏
ومعنى ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ أي متلبّساً بعلمه، أي بالغاً الغاية في باب الكتب السماوية، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظاً ومعنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماءَ من أهل الحقائق العالية‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏وكفَى بالله شهيداً‏}‏ زائدة للتَّأكيد، وأصله‏:‏ كفى الله شهيداً كقوله‏:‏
كفَى الشيبُ والإسلام للمرء ناهياً *** أو يضمّن ‏(‏كفى‏)‏ معنى اقتنِعوا، فتكون الباء للتعدية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب، أي اليهود، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم‏.‏ وصدُّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صَدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصِدّ بكسر الصاد، أي أعرضوا عن سبيل الله‏.‏ أي الإسلام، أو هو من صَدّ المتعدي الذي قياس مضارعه بضمّ الصاد، أي صدّوا النّاس‏.‏ وحذف المفعول لقصد التكثير‏.‏ فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام‏.‏ وصدّهم عن سبيل الله، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور‏.‏
والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان، الذي هو طريق الخير والسعادة، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيَّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان‏.‏ ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه، بحيث لا يدرك مقداره، وهو تشبيه شائع في كلامهم‏:‏ أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم‏:‏ بَعيد الغور، وبعيد القعر، ولا نهاية له، ولا غاية له، ورجل بعيد الهمّة، وبعيد المرمَى، ولا منتهى لكبارها، وبحر لا ساحل له، وقولهم‏:‏ هذا إغراق في كذا‏.‏
ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامِي، فإذا اشتدّ التيه والضلال بَعُدَ صاحبه عن المعمور، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلاً عرفياً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 169‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏‏}‏
الجملة بيان لجملة ‏{‏قد ضلّوا ضلالاً بعيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 167‏]‏، لأنّ السامع يترقّب معرفة جزاء هذا الضلال قبيّنته هذه الجملة‏.‏
وإعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتُبنَى عليه صلة ‏{‏وظلموا‏}‏، ولأنّ في تكرير الصّلة تنديداً عليهم‏.‏ ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية الّتي قبلها أن يكون عطْفُ الظلممِ على الكفر في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وظلموا‏}‏ إمَّا أن يراد به ظلم النّفس، وظلم النبي والمسلمين، وذلك اللائق بأهل الكتاب؛ وإمَّا أن يراد به الشرك، كما هو شائع في استْعمال القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، فيكون من عطف الأخصّ على الأعمّ في الأنواع؛ وإمّا أن يراد به التعدّي على النّاس، كظلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه من أرضه، وتأليب النّاس عليه، وغير ذلك، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله، وإخراجهم، ومصادرتهم في أموالهم، ومعاملتهم بالنفاق والسخريّة والخداع؛ وإمّا أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم ممّا استقرّ عند أهل العقول أنَّه ظلم وعدوان‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ صيغة جحود، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏، فهي تقتضي تحقيق النفي، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيراً من البقاء على الكفر والظلم، لأنّ هذا الحكم نِيط بالوصف ولم يُنط بأشخاص معروفين، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الَّذين كفروا وظلموا‏.‏ ومعنى نفي أن يهديهم طريقاً‏:‏ إن كان طريقاً يومَ القيامة فهو واضح‏:‏ أي لا يهديهم طريقاً بوصلهم إلى مكان إلاّ طريقاً يوصل إلى جهنّم‏.‏ ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فنفي هديهم إليه إنذار بأنّ الكفر والظلم من شأنهما أن يخيّما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدي إليه، ليحذر المتلبّس بالكفر والظلم من التوغّل فيهما، فلعلَّه أن يصبح ولا مخلّص له منهما‏.‏ ونفي هدى الله أيّاهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها‏.‏ وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة، وكثيراً ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم، وآيات قبول التّوبة، وكذلك مشاهدة الواقع، ممّا يهدي إلى تأويل هذه الآية، وتقدّم نظير هذه الآية قريباً، أي ‏{‏الذين آمنوا ثُمّ كفروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏ الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلا طريق جهنم‏}‏ استثناء متّصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريقَ الحقيقي، ومنقطع إن أريد بالطريق الأوّل الهدى‏.‏ وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه‏:‏ لأنّ الكلام مسوق للإنذار، والاستثناء فيه رائحة إطماع، ثُمّ إذا سمع المستثنى تبيّن أنّه من قبيل الإنذار‏.‏ وفيه تهكّم لأنّه استثنى من الطريق المعمول ‏{‏لِيَهْدِيهم‏}‏، وليس الإقحام بهم في طريق جهنّم بهدي لأنّ الهدي هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب‏.‏
ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وكان ذلك‏}‏ أي الإقحام بهم في طريق النّار على الله يسيراً إذ لا يعجزه شيء، وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏‏}‏
بعد استفراغ الحِوار مع أهل الكتاب، ثُمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملاً لأهل الكتاب، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعاً‏:‏ ليكون تذييلاً وتأكيداً لما سبقه، إذ قد تهيَّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجَّة، واتّسعت المحَجَّة، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان‏.‏ وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع، ولانت الطباع‏.‏ ويسمَّى هذا بالمقصد من الخطاب، وما يتقدّمه بالمقدّمة‏.‏ على أنّ الخطاب بيأيُّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب، وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏‏.‏
والتعريف في ‏{‏الرسول‏}‏ للعهد، وهو المعهود بين ظهرانيهم‏.‏ ‏(‏والحقّ‏)‏ هو الشريعة والقرآن، و‏{‏من ربّكم‏}‏ متعلّق ب ‏{‏جاءكم‏}‏، أو صفة للحقّ، و‏(‏من‏)‏ للابتداء المجازي فيهما، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّاً بناس يكون حقّاً عليهم أن يتّبعوه، وأيضاً في طريق الإضافة من قوله ‏{‏ربّكم‏}‏ ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم، فلذلك أتي بالأمر بالإيمان مفرّعاً على هاته الجمل بقوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏‏.‏
وانتصب ‏{‏خيراً‏}‏ على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال، فجَرى مجرى الأمثال، وذلك فيما دلّ على الأمر والنهي من الكلام نحو ‏{‏انْتهوا خيراً لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ووراءك أوسعَ لك، أي تأخّر، وحسبك خيراً لك، وقول عمر بن أبي ربيعة‏:‏
فواعديه سَرْحَتَيْ مالِك *** أو الرّبى بينهما‏.‏ أسْهَلا
فنصبه ممّا لم يُخْتَلف فيه عن العرب، واتّفق عليه أيمّة النحو، وإنَّما اختلفوا في المحذوف‏:‏ فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمراً مدلولاً عليه من سياق الكلام، تقديره‏:‏ ايت أو اقصد، قالا‏:‏ لأنّك لمّا قلت له‏:‏ انته، أو افعل، أو حسبُك، فأنتَ تحمله على شيء آخر أفضل له‏.‏ وقال الفرّاء من الكوفيّين‏:‏ هو في مثله صفة مصدر محذوف، وهو لا يتأتّى فيما كان منتصباً بعد نهي، ولا فيما كان منتصباً بعد غير متصرّف، نحو‏:‏ وراءَك وحسبُك‏.‏ وقال الكسائي والكوفيّون‏:‏ نصب بكان محذوفة مع خبَرها، والتقدير‏:‏ يكن خيراً‏.‏ وعندي‏:‏ أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل، وحْدَه، أو مع حرف النهي، والتقدير‏:‏ فآمنوا حال كون الإيمان خيراً، وحسبك حال كون الاكتفاء خيراً، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيراً‏.‏ وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال، وشأن الأمثال قّوة الإيجاز‏.‏ وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء‏.‏
وقوله ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ أريد به أن تبقوا على كفركم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ لله ما في السموات الأرض‏}‏ هو دليل على جواب الشرط، والجواب محذوف لأنّ التقدير‏:‏ إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم لأنّ لله ما في السموات وما في الأرض، وصرّح بما حذف هُنا في سورة الزمر ‏(‏7‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم‏}‏ وفيه تعريض بالمخاطبين، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه، لأنَّكم عبيده، لأنّ له ما في السماوات وما في الأرض‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏
‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏
‏{‏ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏‏.‏
استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة‏.‏ وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضاً بأنَّهم خالفوا كتابهم‏.‏ وقرينةُ أنَّهم المراد هي قوله‏:‏ ‏{‏إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى قوله‏:‏ أن يكون عبداً لله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏ فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله‏:‏ ‏{‏لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ‏}‏ وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلَوا في تعظيم عيسى فادّعوا له بنوّة الله، وجعلوه ثالث الآلهة‏.‏
والغلوّ‏:‏ تجاوز الحدّ المألوف، مشتقّ من غَلْوَة السهم، وهي منتهى اندفاعه، واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول، أو المشْرُوع في المعتقدات، والإدراكات، والأفعال‏.‏ والغلوّ في الدّين أن يُظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدينُ‏.‏ ونهاهم عن الغلوّ لأنَّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين‏.‏ وغلّو أهل الكتاب تجاوزُهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم‏:‏ فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم، فتجاوزوه إلى بِغضة الرسل كعيسى ومحمدّ عليهما السّلام، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابنَ الله، مع الكفر بمحمدّ صلى الله عليه وسلم
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ‏}‏ عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع‏.‏ وفعل القول إذا عدّي بحرف ‏(‏على‏)‏ دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب ‏(‏على‏)‏ نسبة كاذبة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون على الله الكذب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏ ومعنى القول على الله هنا‏:‏ أن يقولوا شيئاً يزعمون أنَّه من دينهم، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنما المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده، فإنَّه مجمل؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ‏.‏
ولكونها تتنزّل من الَّتي قبلها منزلة البيان فُصلت عنها‏.‏ وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث‏:‏ صفة الرسالة، وصفةِ كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم، وصفة كونه روحاً من عند الله‏.‏ فالقصر قصر موصوف على صفة‏.‏ والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّاً أخرجها عن كنهها؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى، وهم مثبتون لها فلا يُنكر عليهم وصفُ عيسى بها، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة البُنوّة، وجعلوا الكلمة اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله سبحانه، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية‏.‏
والقصر إضافي، وهو قصر إفرادٍ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابناً لله واتِّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة‏.‏
ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل؛ ففي صدر إنجيل يوحنا «في البدء كان الكلمةُ، والكلامة كان عند الله، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا»‏.‏ وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية، فمعنى ذلك أنّه أثَر كلمة الله‏.‏ والكلمةُ هي التكوين، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح ب ‏(‏كُن‏)‏‏.‏ فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة، ولكنّه تعلّقُ القدرة‏.‏ ووصف عيسى بذلك لأنَّه لم يكن لتكوينه التّأثيرُ الظاهرُ المعروف في تكوين الأجنّة، فكان حدوثه بتعلّق القدرة، فيكون في ‏{‏كلمته‏}‏ في الآية مجازان‏:‏ مجاز حذف، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة‏.‏
ومعنى ‏{‏ألقاها إلى مريم‏}‏ أوصلها إلى مريم، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة، وإلاّ فإنّ المراد منها عيسى، أو أراد كلمة أمر التكوين‏.‏ ووصف عيسى بأنّه روح الله وصفٌ وقع في الأناجيل‏.‏ وقد أقرّه الله هنا، فهو ممّا نزل حقّاً‏.‏
ومعنى كون عيسى روحاً من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة، لكنّها نسبت إلى الله لأنَّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفةٍ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح‏.‏ ووُصف بأنّه مبتدأ من جانب الله، وقيل‏:‏ لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه‏.‏ وقيل‏:‏ الروح النفخة‏.‏ والعرب تسمّى النفس روحاً والنفخ روحاً‏.‏ قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد ناراً بحطب‏:‏
فقلت له ارفعها إليك فأَحيها *** برُوحك واقتُتْه لها قِيتة قَدْرا
‏(‏أي بنفخك‏)‏‏.‏
وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية على التقادير‏.‏
فإن قلت‏:‏ ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى، وهلاّ وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ فكان أصرح في بيان العبوديّة، وأنفى للضلال‏.‏
قلت‏:‏ الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل، أو في كلام الحواريّين وصفاً لعيسى عليه السّلام، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله‏.‏
وتصدير جملة القصر بأنّه ‏{‏رسول الله‏}‏ ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يُرسل الإله إلهاً مثله، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح‏.‏
‏{‏فامنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله واحد سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى السماوات وَمَا فِى الارض وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه‏.‏ أي إذا وضح كلّ ما بيَّنه الله من وحدانيَّته، وتنزيهه، وصدق رسله، يتفرّع أن آمُركم بالإيمان بالله ورسله‏.‏ وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين، أي النصارى، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيداً للأمر بالإيمان برُسله، وهو المقصود، وهذا هو الظاهر عندي‏.‏ وأريدَ بالرسل جميعهم، أي لا تكفروا بواحد من رسله‏.‏ وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ أي لا تنطقوا بهذه الكلمة، ولعلّها كانت شعاراً للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة‏:‏ الإبهام والخنصر والبنصر‏.‏ والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد‏.‏ لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلاّ عن اعتقاد، فالنهي هنا كناية بإرادةِ المعنى ولازمه‏.‏ والمخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا‏}‏ خصوص النّصارى‏.‏
و ‏{‏ثلاثة‏}‏ خبر مبتدأ محذوف كانَ حذفه ليصلحَ لكلّ ما يصلحُ تقديره من مذاهبهم من التثليث، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ ‏{‏ثلاثة‏}‏ من الأسماء الدّالة على الإله، وهي عدّة أسماء‏.‏ ففي الآية الأخرى ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وفي آية آخر هذه السورة ‏{‏أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، أي إلهين مع الله، كما سيأتي، فالمجموع ثلاثة‏:‏ كلّ واحد منهم إله؛ ولكنّهم يقولون‏:‏ أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد‏.‏ قال في «الكشّاف»‏:‏ ‏(‏ثلاثة‏)‏ خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنَّهم يقولون‏:‏ هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم، فتقديره الله ثلاثة وإلاّ فتقديره الآلهة ثلاثة اه‏.‏
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم، ولكنّهم مختلفون في كيفيته‏.‏‏.‏ ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى ‏(‏ثَالُوث‏)‏، أي أنَّه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم، واحدها أقْنُوم بضم الهمزة وسكون القاف‏.‏ قال في «القاموس»‏:‏ هو كلمة رومية، وفسّره القاموس بالأصل، وفسّره التفتزاني في كتاب «المقاصد» بالصفة‏.‏ ويظهر أنَّه معرّب كلمة ‏(‏قنوم بقاف معقد عجمي‏)‏ وهو الاسم، أي ‏(‏الكلمة‏)‏‏.‏ وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ‏(‏آبَا ابنَا رُوحا قُدُسا‏)‏ وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض‏:‏ فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات‏.‏
والأقنوم الثاني أقنوم العلم، وهو الابن، وهو دونَ الأقنوم الأول، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية‏.‏
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القُدس، وهو صفة الحياة، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات‏.‏
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية، مثل القِدم والبقاء، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب، وأقنوم العلم بالابن، وأقنوم الحياة بالروح القدس، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله، وأطلق الروح القدس على ما به كُوّن المسيح في بطن مريم، على أنَّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن، ‏(‏كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد‏)‏‏.‏ وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله، أي أنَّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلَّلاً بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة، وقاربوا عقيدة الشرك‏.‏
ثمّ جَرّهم الغُلوّ في تقديس المسيح فتوهَّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح، فقالوا‏:‏ إنّ المسيح صار ناسوتُه لاَهُوتاً، باتّحاد أقنُوم العلم به، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح، فقالوا‏:‏ الله هو المسيح‏.‏ هذا أصل التثليث عند النّصارى، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ وقولُه ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏ وقولُه‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وكانوا يقولون‏:‏ في عيسى لاهوتيةٌ من جهة الأب ونَاسوتيَّةٌ أي إنسانية من جهة الأمّ‏.‏
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ‏(‏آريوس‏)‏ قالو بالتوحيد وأنّ عيسى عبدُ الله مخلوق، وكان في زمن ‏(‏قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية‏)‏‏.‏ فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة327 تبع مقالة ‏(‏آريوس‏)‏، ثمّ رأى مخالفةَ معظممِ الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم، فجمع مجمعاً من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافاً كثيراً ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحدٍ ثلاثَمائة وبضعةَ عشر عالماً فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصَره، وهذه الطائفة تلقّب ‏(‏المَلْكَانِيَّة‏)‏ نسبة للمَلِك‏.‏
واتَّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتَّحدت بجسد عيسى، وتقمَّصت في ناسوته، أي إنسانيته، ومازجته امتزاج الخمر بالماء، فصارت الكلمةُ ذاتاً في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابناً لله تعالى، فالإلهُ مجموع ثلاثة أشياء‏:‏
الأوّل الأب ذُو الوجود، والثاني الابن ذُو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس‏.‏
ثمّ حدثت فيهم فرقة اليَعْقوبية وفرقة النَّسْطُورِيَّة في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان‏.‏ فاليعقوبيّة، ويسمّون الآن ‏(‏أرْثُودُكْسْ‏)‏، ظَهروا في أواسط القرن السادس المسيحي، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا‏:‏ انقلبت الإلهية لَحْماً ودَماً؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صُنْعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى‏.‏ وكان نصارى الحبشة يعاقبه، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏72‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 37‏]‏‏.‏
والنَّسطوريّة قالت‏:‏ اتَّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة مِن بلّور، فالمسح إنسان، وهو كلمة الله، فلذلك هو إنسان إله، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب ‏(‏جَاثِليق‏)‏‏.‏ وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب‏.‏ وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريققٍ نحلتَه بين قبائل العرب‏.‏ وكان الأكاسرة حُماة للنسطورية‏.‏ وقياصرةُ الرّوم حُمَاة لليعقوبية‏.‏ وقد شاعت النّصرانيّة بنحْلتيْها في بَكْر، وتَغلب، وربيعة، ولخم، وجُذام، وتَنُوخ، وكَلْب، ونَجْران، واليَمَن، والبحرين‏.‏ وقد بَسَطْتُ هذا ليعلم حُسن الإيجاز في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ وإتيانه على هذه المذاهب كلّها‏.‏ فللّه هذا الإعجاز العلمي‏.‏
والقول في نَصب ‏(‏خيراً‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏انتهوا خيراً لكم‏}‏ كالقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 170‏]‏‏.‏ والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما الله إله واحد‏}‏ قصر موصوف على صفة، لأنّ ‏(‏إنّما‏)‏ يليها المقصور، وهو هنا قصر إضافي، أي ليس الله بثلاثة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ إظهار لغلطهم في أفهامهم، وفي إطلاقاتهم لفظَ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنَّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامُها، فكلمة ‏(‏سبحانه‏)‏ تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد، والدلالةَ على غلط مثبتيهِ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذَ ابن، لاستحالة الفناء، والاحتياج، والانفصال، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى‏.‏ والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع، والناس يتطلّبونها لذلك، وللإعانةِ على لوازم الحياة، وفيها انفصال المولود عن أبيه، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبُوه مماثل له لا محالة‏.‏
و ‏(‏سبحان‏)‏ اسم مصدر سَبَّح، وليس مصدراً، لأنَّه لم يسمع له فعل سالم‏.‏ وجزم ابن جني بأنّه علَم على التسبيح، فهو من أعلام الأجناس، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة‏.‏ وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا‏}‏
في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ أنْ يكونَ له وَلَدَ‏}‏ متعلّق ب ‏(‏سبحان‏)‏ حرف الجرّ، وهو حرف ‏(‏عَن‏)‏ محذوفاً‏.‏
وجملة ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ لأنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد، ولأنّ من يُزْعَم أنَّه ولدٌ له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلا‏}‏ تذييل، والوكيل الحافظ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض، أي الموجودات كُلّها‏.‏ وحُذف مفعول ‏(‏كفى‏)‏ للعموم، أي كفى كلّ أحد، أي فتوكّلوا عليه، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابناً له‏.‏ وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ في هذه السورة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏
‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏‏}‏
استئناف واقع موقع تحقيق جملة ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملة ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏
والاستنكاف‏:‏ التكبّر والامتناع بأنفة، فهو أشد من الاستكبار، ونفي استنكاف المسيح‏:‏ إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم‏.‏ قال الله تعالى حكاية عنه ‏{‏قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ إلخ‏.‏ وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهُه وربّه، كما في مجادلته مع إبليس، فقد قال له المسيح «للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد»‏.‏
وعُدل عن طريق الإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏عبداً لِلّه‏}‏ فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه‏:‏ لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية، أي عبداً من جملة العبيد، ولو قال‏:‏ عبدَ اللّهِ لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخِصّيص، أو أنّ ذلك علَم له‏.‏ وأمّا ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله ‏{‏قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية‏.‏
وعطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذِكْر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبداً لله، إذ قد تقدّم قبله قوله‏:‏ ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، وقد قالت العرب‏:‏ إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ، ولأنَّه قد تقدّم أيضاً قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ومِنْ أفضل ما في السماوات الملائكة، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة‏.‏ وإن جعلتَ قوله‏:‏ ‏{‏لن يستنكف المسيح‏}‏ استدلالاً على ما تضمّنه قوله‏:‏ ‏{‏سبحانَه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ كان عطف ‏{‏ولا الملائكة المقرّبون‏}‏ محتمِلاً للتتميم كقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 3‏]‏ فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح، ولا على العكس؛ ومحتملاً للترقّي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين، وإلى هذا الأخير مال صاحب «الكشّاف» ومثله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حّتى تتّبع ملّتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏ وجعل، الآية دليلاً على أنّ الملائكة أفضل من المسيح، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وهو تضييق لواسع، فإنّ الكلام محتمل لوجوه، كما علمت، فلا ينهض به الاستدلال‏.‏
واعلم أنّ تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقاً هو قول جمهور أهل السنّة، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والبَاقِلاّني والحليمي من أهل السنّة، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل، ونسب إلى بعض الماتريدية، ولم يضبط ذلك التفصيل، والمسألة اجتهادية، ولا طائل وراء الخوض فيها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به‏.‏
و ‏{‏المقرّبون‏}‏، يحتمل أن يكون وصفاً كاشفاً، وأن يكون مقيِّداً، فيراد بهم الملقّبون ‏(‏بالكَرُوبيين‏)‏ وهم سادة الملائكة‏:‏ جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل‏.‏ ووصفُهم بالكَروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أميّة بن أبي الصلت‏.‏ وقد قالوا‏:‏ إنَّه وصف مشتقّ من كَرَب مرادف قَرُب، وزيد فيه صيغتا مبالغة، وهي زنة فَعول وياء النسب‏.‏ والَّذي أظنّ أنّ هذا اللّفظ نقل إلى العربيّة من العبرانيّة‏:‏ لوقوع هذا اللّفظ في التّوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج، وأنّه في العبرانيّة بمعنى القرب، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال‏:‏ ‏{‏المقرّبون‏}‏، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبوديّة لله بدلالة الأحرى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يستنكف عن عبادته‏}‏ الآية تخلّص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله‏:‏ ‏{‏وأمَّا الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذّبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله وليَّاً ولا نصيرا‏}‏‏.‏
وضمير الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏فسيحشرهم‏}‏ عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل إلى معلوم من المقام، أي فسَيَحْشُر النّاسَ إليه جميعاً كما دلّ عليه التفصيل المفرّع عليه وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ الخ‏.‏ وضمير ‏{‏ولا يجدون‏}‏ عائد إلى ‏{‏الَّذين استنكفوا واستكبروا‏}‏، أي لا يجدون وليّاً حين يحشر الله النّاس جميعاً‏.‏ ويجوز أن يعود إلى الَّذين ‏{‏استنكفوا واستكبروا‏}‏ ويكون ‏{‏جميعاً‏}‏ بمعنى مجموعين إلى غيرهم، منصوباً، فإنّ لفظ جميع له استعمالات جمّة‏:‏ منها أن يكون وصفاً بمعنى المجتمع، وفي كلام عمر للعبّاس وعليّ‏:‏ «ثم جئتُماني وأمركما جميع» أي متّفق مجموع، فيكون منصوباً على الحال وليس تأكيداً‏.‏ وذكر فريق المؤمنين في التفصيل يدلّ على أحد التقديرين‏.‏
والتوفية أصلها إعطاء الشيء وافياً، أي زائداً على المقدار المطلوب، ولمّا كان تحقّق المساواة يخفَى لقلّة المَوازين عندهم، ولاعتمادهم على الكيل، جعلوا تحقّق المساواة بمقدار فيه فضْل على المقدار المساوي، أطلقت التوفية على إعطاء المعادل؛ وتُقابَل بالخسان وبالغبن، قال تعالى حكاية عن شعيب ‏{‏أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 181‏]‏ ولذلك قال هنا‏:‏ ‏{‏ويزيدُهم من فضله‏}‏، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً‏}‏ تأييس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم، من أمم ذلك العصر، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفّوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء، قال النابغة‏:‏
يأمُلْنَ رِحلة نَصر وابن سيَّار *** ولذلك كثر في القرآن نفي الوليّ، والنصير، والفداء ‏{‏فلَن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليمٌ وما لهم من ناصرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 175‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏‏}‏
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل‏.‏ فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب خاصّة‏.‏ والبرهان‏:‏ الحجّة، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة، وهو غالب ما يقصد به في القرآن، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجَلّ أنواع الدليل، بُرهاناً‏.‏
والمراد هنا دلائل النبوءة‏.‏ وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا‏}‏ والقول في ‏{‏جاءكم‏}‏ كالقوللِ في نظيره المتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏قد جاءكم الرّسول بالحقّ من ربّكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 170‏]‏؛ وكذلك القول في ‏{‏أنزلنا إليكم‏}‏‏.‏
و ‏(‏أمّا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا بالله‏}‏ يجوز أن يكون للتفصيل‏:‏ تفصيلاً لِمَا دَلّ عليه ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ من اختلاف الفرق والنزعات‏:‏ بين قابل للبرهان والنّور، ومكابر جاحد، ويكون مُعادل هذا الشقّ محذوفاً للتهويل، أي‏:‏ وأمَّا الذين كفروا فلا تسل عنهم، ويجوز أن يكون ‏(‏أمّا‏)‏ لمجرد الشرط دون تفصيل، وهو شرط لِعموم الأحوال، لأنّ ‏(‏أمّا‏)‏ في الشرط بمعنى ‏(‏مَهما يكُنْ من شيء‏)‏ وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلاً‏.‏
والاعتصام‏:‏ اللوْذ، والاعتصام بالله استعارة لللوذ بدينه، وتقدّم في قوله ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏103‏)‏‏.‏ والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى‏.‏
وقوله‏:‏ ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏‏:‏ تعلَّق الجار والمجرور ب ‏(‏يهدي‏)‏ فهو ظرف لَغو، و‏{‏صراطاً‏}‏ مفعول ‏(‏يهدي‏)‏، والمعنى يهديهم صراطاً مستقيماً ليصلوا إليه، أي إلى الله، وذلك هو متمنّاهم، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏
‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏
لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللاّتي قبلها، فوقوعها عقبها لا يكون إلاّ لأجْل نزولها عقب نزول ما تقدّمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض؛ لأنّ في هذه الآية بياناً لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس له ولد‏}‏، وقد تقدّم في أوّل السّورة أنَّه ألحق بالكلالة المالك الّذي ليس له والد، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس‏.‏
فحكُم الكلالة قد بيّن بعضه في آية أول هذه السورة، ثمّ إنّ النّاس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صورة أخرى من صور الكلالة‏.‏ وثبت في الصحيح أنّ الذي سأله هو جابر بن عبد الله قال‏:‏ عادني رسول الله وأبُو بكر ماشيين في بني سَلِمة فوجداني مغمى عليّ فتوضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبّ عليّ وَضوءه فأفقتُ وقلت‏:‏ كيف أصنع في مالي فإنَّما يرثني كلالة‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متجهّز لحجّة الوداع في قضية جابر بن عبد الله‏.‏
فضمير الجماعة في قوله‏:‏ ‏{‏يستفتونك‏}‏ غير مقصود به جمع، بل أريد به جنس السائلين، على نحو‏:‏ «ما بال أقوام يشترطون شروطاً» وهذا كثير في الكلام‏.‏ ويجوز أن يكون السؤال قد تكرّر وكان آخرُ السائلين جابرَ بن عبد الله فتأخّر الجواب لمن سأل قبله، وعُجّل البيان له لأنّه وقتُ الحاجة لأنّه كان يظنّ نفسه ميّتاً من ذلك المرض وأراد أن يوصي بماله، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة‏.‏
والتعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة، نحو‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلّة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏ لأنّ شأن السؤال يتكرّر، فشاع إيراده بصيغة المضارع، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار‏:‏ كقول عائشة «يرحم الله أبا عبد الرحمن» ‏(‏تعني ابن عمر‏)‏‏.‏ وقولهم‏:‏ «يغفر الله له»‏.‏ ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تكرّر لا؛ نحو «فَلا رَجَع»‏.‏ على أنّ الكلالة قد تكرّر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها‏.‏ وقد قال عمر بن الخطّاب‏:‏ ما راجعتُ رسول الله في شيء مراجعتي إيَّاه في الكلالة، وما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها حتّى طعن في نحري، وقال‏:‏ ‏"‏ يكفيك آية الصيف الّتي في آخر سورة النساء ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في الكلالة‏}‏ يتنازعه في التعلّق كلّ من فعل ‏(‏يستفتونك‏)‏ وفعل ‏(‏يفتيكم‏)‏‏.‏
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بآية الصيف، وعُرِفت بذلك، كما عُرفت آية الكلالة التي في أوّل السورة بآية الشتاء، وهذا يدلّنا على أنّ سورة النّساء نزلت في مدّة متفرّقة من الشتاء إلى الصيف وقد تقدّم هذا في افتتاح السورة‏.‏
وقد روي‏:‏ أنّ هذه الآية في الكلالة نزلت في طريق حجّة الوداع، ولا يصحّ ذلك لأنّ حجّة الوداع كانت في زمن البرد لأنّه لا شكّ أنّ غزوة تبوك وقعت في وقت الحرّ حين طابت الثّمار، والنّاس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، وذلك يقتضي أن تكون غزوة تبوك في نحو شهر أغسطس أو اشتنبر وهو وقت طيب البسر والرطب، وكانت سنة تسع وكانت في رجب ونزل فيها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لا تَنفِروا في الحرّ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏ ثم كانت حجّة أبي بكر في ذي القعدة من تلك السنة، سنة تسع، وذلك يوافق دجنبر‏.‏ وكان حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع في ذي الحجّة من سنة عشر فيوافق نحو شهر دجنبر أيضاً‏.‏
وعن عمر بن الخطّاب‏:‏ أنَّه خطب فقال‏:‏ «ثلاث لو بيَّنَها رسول الله لكان أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها‏:‏ الجَدّ‏.‏ والكلالةُ، وأبوابُ الرّبا»‏.‏ وفي رواية والخِلافة‏.‏ وخطب أيضاً فقال‏:‏ والله إنّي ما أدع بعدي شيئاً هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة‏.‏ وقال في مجمع من الصحابة‏:‏ لأقضينّ في الكلالة قضاء تتحدّث به النّساء في خدورها‏.‏ وأنّه كتب كتاباً في ذلك فمكث يستخير الله فيه، فلمّا طعن دعا بالكتاب فمحاه‏.‏ وليس تحيّر عمر في أمر الكلالة بتحيْر في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه ولكنّه في اندراج ما لم يذكره القرآن تحت ما ذكره بالقياس‏.‏ وقد ذكر القرآن الكلالة في أربع آيات‏:‏ آيتَيْ هذه السورة المذكور فيها لفظ الكلالة، وآية في أوّل هذه السورة وهي قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وآية آخر الأنفال ‏(‏75‏)‏ وهي قوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ في كتاب الله عند من رأى توارث ذوي الأرحام‏.‏ ولا شكّ أنّ كلّ فريضة ليس فيها ولد ولا والد فهي كلالة بالاتّفاق، فأمّا الفريضة التي ليس فيها ولد وفيها والد فالجمهور أنَّها ليست بكلالة‏.‏ وقال بعض المتقدّمين‏:‏ هي كلالة‏.‏
وأمَره بأن يجيب بقوله‏:‏ الله يفتيكم‏}‏ للتنويه بشأن الفريضة، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر، إذ قد علم المستفتون أنّ الرسول لا ينطق إلاّ عن وحي، فهي لمّا استفتوه فإنّما طلبوا حكم الله، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة‏.‏
والمراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو الَّتي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأمّ المقصودة في آية الكلالة الأولى، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وهو يرثها‏}‏ لأنّ الأخ للأمّ لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأمّ ولد إذ ليس له إلاّ السدس‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك‏}‏ تقديره‏:‏ إن هلك امرؤ، فامرؤ مخبَر عنه ب ‏(‏هلَكَ‏)‏ في سياق الشرط، وليس ‏(‏هَلَك‏)‏ بوصف ل ‏(‏امرؤ‏)‏ فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنساً عامّاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وهو يرثها‏}‏ يعود الضمير فيه على لفظ ‏(‏امرؤ‏)‏ الواقع في سياق الشرط، المفيد للعموم‏:‏ ذلك أنَّه وقع في سياق الشرط لفظ ‏(‏امرؤ‏)‏ ولفظ ‏(‏أخ‏)‏ أو ‏(‏أخت‏)‏، وكلّها نكرات واقعة في سياق الشرط، فهي عامّة مقصود منها أجناس مدلولاتها، وليس مقصوداً بها شخص معيّن قد هلك، ولا أخت معيّنة قد ورثت، فلمّا قال ‏{‏وهو يرثها‏}‏ كان الضمير المرفوع راجعاً إلى ‏(‏امرؤ‏)‏ لا إلى شخص معيّن قَد هلك، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معيّن فلا يشكل عليك بأنّ قوله‏:‏ ‏{‏امرؤ هلك‏}‏ يتأكّد بقوله‏:‏ ‏{‏وهو يرثها‏}‏ إذ كيف يصير الهالك وارثاً‏.‏ وأيضاً كان الضمير المنصوب في «يرثها» عائداً إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معيّنة، إذ ليس لمفهوم اللّفظ هنا فرد معيّن، وعلم من قوله‏:‏ ‏{‏يرثها‏}‏ أنّ الأخت إن توفّيت ولا ولد لها يرثها أخوها، والأخ هو الوارث في هذه الصورة، وهي عكس التي قبلها‏.‏ فالتقدير‏:‏ ويرث الأختَ امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد‏.‏ وعلم معنى الإخوة من قوله‏:‏ ‏{‏وله أخت‏}‏، وهذا إيجاز بديع، ومَع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح، فلا يشكل بأنّ الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث، وتصير هي موروثة، لأنّ هذا لا يفرضه عالم بالعربية، وأنَّما يُتوهّم ذلك لو وقع الهلك وصفاً لامرئ؛ بأن قيل‏:‏ المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مَات وارثه قبله‏.‏ والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يبيّن الله لكم أن تضلّوا‏}‏ امتنان، و‏{‏أن تضلّوا‏}‏ تعليل ل ‏(‏يبيّنُ‏)‏ حذفت منه اللام، وحذفُ الجار مع ‏(‏أن‏)‏ شائع‏.‏ والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه؛ لأنّ البيان ينافي التضليل، فحُذفت لا النافية، وحذفها مَوجود في مواقع من كلامهم إذا اتّضح المعنى، كما ورد مع فعل القسم في نحو‏:‏
فآليْنَا علَيها أنْ تُبَاعا *** أي أن لا تباع، وقوله‏:‏
آليتُ حَبّ العِراق الدهرَ أطْعَمُه *** وهذا كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
نَزلتم منزل الأضياف منّا *** فعجَّلنا القِرى أنْ تشتمونا
أي أن لا تشتمونا بالبخل، وهذا تأويل الكوفيين، وتأوّل البَصريون الآية والبيت ونظائرهما على تقدير مضاف يدلّ عليه السياق هو المفعول لأجله، أي كراهة أن تضلّوا، وبذلك قدّرها في «الكشاف»‏.‏
وقد جعل بعض المفسّرين ‏{‏أن تضلّوا‏}‏ مفعولاً به ل ‏(‏يبيّن‏)‏ وقال‏:‏ المعنى أنّ الله فيما بيّنه من الفرائض قد بيّن لكم ضَلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية، وهذا بعيد؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالاً قبل مجيء الشريعة، لأنّ قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بيّنه إلاّ إذا كان فيها حرمَان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرّة، ولأنّ المصدر مع ‏(‏أن‏)‏ يتعيّن أن يكون بمعنى المستقبل، فكيف يصحّ أن يراد ب ‏{‏أن تضلّوا‏}‏ ضلالاً قد مضى، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنَّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏156‏)‏‏.‏
وعن عمر أنَّه كان إذا قرأ هذه الآية يقول‏:‏ اللَّهمّ من بُيِّنَتْ له الكلالةُ فلم تُبيَّنْ لي رواه الطبري، وفي سنده انقطاع، وقد ضعّفوه‏.‏
وقوله‏:‏ والله بكلّ شيء عليم‏}‏ تذييل‏.‏ وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام، كقوله‏:‏ ‏{‏هذا بلاغ للنّاس وليُنذروا به‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 52‏]‏ الآية، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى ‏{‏ذلك تأويل ما لم تسْطِع عليه صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ فتُؤذن بختام السورة‏.‏
سورة المائدة
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏‏}‏
‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود‏}‏‏.‏
تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه‏.‏ وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة‏:‏ هذا ظهير كريم يُتقبل بالطاعة والامتثال‏.‏ وذلك براعة استهلال‏.‏
فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لِشريعته، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏، ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا، ويقول لهم‏:‏ فمن وفى منكم فأجره على الله‏.‏
وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فسيحيوا في الأرض أربعةَ أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا آمِّين البيتَ الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم‏.‏
والإيفاء هو إعطاء الشيء وافياً، أي غير منقوص، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلاّ بالزيادة على القدر الواجب، صار الإيفاء مراداً منه عرفاً العدل، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏173‏)‏‏.‏
والعقود جمع عقد بفتح العين، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل مّا‏.‏ وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها، وشدّ الحبل في نفسه أيضاً عقد‏.‏ ثم استعمل مجازاً في الالتزام، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية، قال الحطيئة‏:‏
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العِناج وشدّوا فوقه الكَرَبَا
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة، وذكر الكَرَب وهو حبل آخر للقربة‏:‏ فرَجَعَ بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتَخيّل معه عناجاً وكرباً، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة‏.‏ فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد، وأطلق مجازاً على التزام من جانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة‏.‏ وأطلق العقد أيضاً على الشيء المعقود إطلاقاً للمصدر على المفعول، فالعهود عقود، والتحالف من العقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود، وهي المراد هنا‏.‏ ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمناً، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به‏.‏
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض، وكالسلم والقراض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح، إذ المهر لم يُعتبر عوضاً وإنَّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقاً للآخر‏.‏ والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول‏.‏
والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه، فلذلك يقضي به عليه، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ، فيكون إتمامها حاجيّاً؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمَّلِه‏:‏ إنْ ضروريّاً، أو حاجياً، أو تحسيناً‏.‏
وفي الحديث المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً‏.‏
فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها، كالنكاح والبيع‏.‏ والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم، ونحو المعاطاة في البيوع‏.‏ والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروعَ فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع، كالجُعل والقِراض‏.‏ وتمييزُ جزئيَّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد‏.‏
وقال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين‏:‏ إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنَّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيُخشى تطرّق الغرر إليه، فوسَّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلاّ بالشروع في العمل، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر‏.‏ ولذلك اختلف المالكيَّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع‏.‏ وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى‏:‏ أوفوا بالعقود‏}‏‏.‏ وذكر أنّ المالكيَّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث‏:‏ خيار المجلس؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلاً من أصول الشريعة، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها، وبذلك صار ما قرّرته مقدّماً عند مالك على خبر الآحاد، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا»‏.‏
واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم، كبيع الخيار، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه‏.‏
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب، والتعاقد على نصر المظلوم، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد، فبقي الأمر متعلّقاً بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه‏:‏ كحلف الفضول‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ أوفُوا بعقود الجاهلية ولا تُحدثوا عقداً في الإسلام ‏"‏ وبقي أيضاً ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحُدَيْبِية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش‏.‏ وقد رُوِي أنّ فرات بن حيّان العِجْلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال‏:‏ «لعلّك تسأل عن حلف لُجَيْم وتَيْمَ، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ لا يزيده الإسلام إلاّ شدّة»‏.‏ قلت‏:‏ وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه‏.‏ وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏
‏{‏الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏
أشعر كلام بعض المفسّرين بالتَّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏‏.‏ ففي «تلخيص الكواشي»، عن ابن عباس‏:‏ المراد بالعقود ما بَعد قوله‏:‏ ‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ اه‏.‏ ويتعيَّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبْدؤه قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏}‏ الآيات‏.‏
وأمّا قول الزمخشري ‏{‏أحلَّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ تفصيل لمجمل قوله‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعُقود‏}‏ فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقداً يجب الوفاء به إلاّ باعتبار ما بعده من قوله‏:‏ «إلاّ ما يتلى عليكم»‏.‏ وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلاً ممّا شمله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ الآيات‏.‏
والقول عندي أنّ جملة ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ تمهيد لما سَيَرِد بعدها من المنهيات‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏غيْر محِلّي الصّيد‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البِرّ والتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتناناً وتأنيساً للمسلمين، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة؛ فالمعنى‏:‏ إنْ حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلاّ صلاحهم واستقامتهم‏.‏ فجملة ‏{‏أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه‏.‏
والبهيمة‏:‏ الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسِيّها ووحشيّها، عدا السباعَ، فتشمل بقر الوحش والظباء‏.‏ وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ، وهي بيانية كقولهم‏:‏ ذبابُ النحل ومدينة بغداد‏.‏ فالمراد الأنعام خاصّة، لأنَّها غالب طعام الناس، وأمّا الوحش فداخل في قوله‏:‏ ‏{‏غير محلّي الصيد وأنتم حرم‏}‏، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها، فذكرت ‏(‏بهيمة‏)‏ لشمول أصناف الأنعام الأربعة‏:‏ الإبل، والبقر، والغنم، والمعز‏.‏
والإضافة البيانيَّة على معنى ‏(‏مِن‏)‏ التي للبيان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ ما يتلى عليكم‏}‏ من عموم الذوات والأحوال، وما يتلى هُو ما سيفصّل عند قوله‏:‏ ‏{‏حُرّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏غير مُحلِّي الصيد وأنتم حرم‏}‏، الواقع حالاً من ضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أحِلت لكم‏}‏، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة، لأنّ الحُرم جمع حرام مثل رَدَاح على رُدُح‏.‏ وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏ في هذه السورة ‏(‏97‏)‏‏.‏
والحرام وصف لمن أحرم بحجّ أو عمرة، أي نواهما‏.‏ ووصف أيضاً لمن كان حالاً في الحرم، ومن إطلاق المحرم على الحالّ بالحرم قول الراعي‏:‏
قَتَلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرِما *** أي حالاً بحرم المدينة‏.‏
والحَرَم‏:‏ هو المكان المحدود المحيط بمكة من جهاتها على حدود معروفة، وهو الذي لا يصاد صيده، ولا يُعضد شجره ولا تحلّ لقطته، وهو المعروف الذي حدّده إبراهيم عليه السلام ونصَب أنصاباً تعرف بها حدوده، فاحترمه العرب، وكان قُصّي قد جدّدها، واستمرّت إلى أن بَدَا لقريش أن ينزعوها، وذلك في مدّة إقامة النبي بمكة، واشتدّ ذلك على رسول الله، ثم إنّ قريشاً لم يلبثوا أن أعادوها كما كانت‏.‏ ولمَّا كان عامُ فتح مكة بعث النبي تميماً بن أسد الخُزاعي فجدّدها‏.‏ ثم أحياها وأوضحها عمر بن الخطاب في خلافته سنة سبع عشرة، فبعث لتجديد حدود الحرم أربعة من قريش كانوا يتبدّون في بوادي مكة، وهم‏:‏ مخرمة بن نوفل الزهري، وسعيد بن يربوع المخزومي، وحوَيطب بن عبد العزّى العامري، وأزهر بن عوف الزهري، فأقاموا أنصاباً جعلت علامات على تخطيط الحرم على حسب الحدود التي حدّدها النبي وتبتدئ من الكعبة فتذهب للماشي إلى المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم، والتنعيم ليس من الحرم، وتمتدّ في طريق الذاهب إلى العراق ثمانية أميال فتنتهي إلى موضع يقال له‏:‏ المقطع، وتذهب في طريق الطائف تسعة ‏(‏بتقديم المثناة‏)‏ أميال فتنتهي إلى الجعرانة، ومن جهة اليمن سبعة ‏(‏بتقديم السين‏)‏ فينتهي إلى أضاةِ لِبْن، ومن طريق جُدّة عشرة أميال فينتهي إلى آخر الحديبية، والحديبية داخلة في الحرم‏.‏ فهذا الحرم يحرم صيده، كما يحرم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة‏.‏
فقوله‏:‏ وأنتم حرم‏}‏ يجوز أن يراد به محرِمون، فيكون تحريماً للصيد على المحرم‏:‏ سواء كان في الحرم أم في غيره، ويكون تحريم صيد الحرم لغير المحرم ثابتاً بالسنّة، ويجوز أن يكون المراد به‏:‏ محرمون وحالّون في الحرم، ويكون من استعمال اللفظ في معنيين يجمعهما قدر مشترك بينهما وهو الحُرمة، فلا يكون من استعمال المشترك في معنييه إن قلنا بعدم صحّة استعماله فيهما، أو يكون من استعماله فيهما، على رأي من يصحّح ذلك، وهو الصحيح، كما قدّمناه في المقدّمة التاسعة‏.‏
وقد تفنّن الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ ما يتلى عليكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غير مُحِلّي الصيد‏}‏، فجيء بالأول بأداة الاستثناء، وبالثاني بالحالين الدالّين على مغايرة الحالة المأذون فيها، والمعنى‏:‏ إلاّ الصيد في حالة كونكم مُحْرمين، أو في حالة الإحرام‏.‏ وإنَّما تعرّض لحكم الصيد للمحرم هنا لمناسبة كونه مستثنى من بهيمة الأنعام في حال خاصّ، فذكر هنا لأنّه تحريم عارض غير ذاتيّ، ولولا ذلك لكان موضع ذكره مع الممنوعات المتعلّقة بحكم الحرم والإحرام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏
والصيد يجوز أن يكون هنا مصدراً على أصله، وأن يكون مطلقاً على اسم المفعول‏:‏ كالخَلْق على المخلوق، وهو إطلاق شائع أشهر من إطلاقه على معناه الأصليّ، وهو الأنسب هنا لتكون مواقعه في القرآن على وتيرة واحدة، فيكون التقدير‏:‏ غير محلي إصابة لصيد‏.‏
والصيد بمعنى المصدر‏:‏ إمساك الحيوان الذي لا يألف، باليد أو بوسيلة ممسكة، أو جارحة‏:‏ كالشباك، والحبائل، والرماح، والسهام، والكلاب، والبُزاة؛ وبمعنى المفعول هو المَصيد‏.‏ وانتصب ‏{‏غيرَ‏}‏ على الحال من الضمير المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏وأنتم حرم‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏(‏مُحلّي‏)‏، وهذا نسج بديع في نظم الكلام استفيد منه إباحة وتحريم‏:‏ فالإباحة في حال عدم الإحرام، والتحريم له في حال الإحرام‏.‏
وجملة ‏{‏إنّ الله يحكم ما يريد‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏، أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان، وعلى السمع والطاعة لله، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم‏.‏ والمعنى أنّ الله أعلم بصالحكم منكم‏.‏
وذكر ابن عطية‏:‏ أنّ النقّاش حكى‏:‏ أنّ أصحاب الكِندي قالوا له‏:‏ «أيّها الحكيم اعمل لنا مِثْلَ هذا القرآن، قال‏:‏ نعم أعْمَل لكم مثلَ بعضه، فاحتجبَ عنهم أيَّاماً ثمّ خرج فقال‏:‏ والله ما أقدر عليه‏.‏ ولا يطيق هذا أحد، إنِّي فتحت المصحف فخرجتْ سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونَهَى عن النكث وحلّل تحليلاً عامّاً ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبرَ عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجْلاد» جَمع جِلد أي أسفار‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏
‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا‏}‏‏.‏
اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏.‏ ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله‏:‏ يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏ وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون‏.‏
ومعنى ‏{‏لا تحلّوا شعائر الله‏}‏ لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لا تحلّوا‏}‏، فالتقدير‏:‏ لا تحلّوا مُحرّم شعائرِ الله، كما قال تعالى‏:‏ في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء ‏{‏فيحلّوا ما حرّم الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏؛ وإلاّ فمِن شعائر الله ما هو حلال كالحَلق، ومنها ما هو واجب‏.‏ والمحرّمات معلومة‏.‏
والشعائر‏:‏ جمع شعيرة‏.‏ وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏ وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم، فلذلك عدل عن عدّها هنا‏.‏ وهي أمكنة، وأزمنة، وذوات؛ فالصفا، والمروة، والمشعر الحرام، من الأمكنة‏.‏ وقد مضت في سورة البقرة‏.‏ والشهر الحرام من الشعائر الزمانية، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات‏.‏ فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به، والمراد به جنس الشهر الحرام، لأنَّه في سياق النفي، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منها أربعة حُرُم‏.‏‏.‏‏.‏ فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ فالتعريف تعريف الجنس، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع‏.‏ وقال ابن عطيّة‏:‏ الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، فإنَّما خُصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه، فلذلك كان يعرف برَجب مضر؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه‏.‏ وكان يقال له‏:‏ شهر بني أميّة أيضاً، لأنّ قريشاً حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص‏:‏
وشهرِ بني أميّة والهَدايا *** إذا حبست مُضرّجُها الدقاء
وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ‏.‏ والأظهر أنّ التعريف للجنس، كما قدّمناه‏.‏
والهدي‏:‏ هو ما يهدى إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من مِنى، أو بالمروة، من الأنعام‏.‏
والقلائد‏:‏ جمع قِلادة وهي ظفائر من صوف أو وَبَر، يربط فيها نعلان أو قطعة من لِحَاءِ الشجر، أي قِشره، وتوضع في أعناق الهدايا مشبَّهة بقلائد النساء، والمقصود منها أن يُعرف الهدي فلا يُتَعرّض له بغارة أو نحوها‏.‏ وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحُرُم، وأراد أن يرجع إلى وطنه، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يُتَعرّضُ له بسوء‏.‏
ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته، وهذا كقول أبي بكر‏:‏ والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه‏.‏
على أنّ القلائد ممّا ينتفع به، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالاً لفقرائهم، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن، وهي شُقق من ثياب توضع على كفل البدنة؛ فيتّخذون منها قُمصاً لهم وأزُراً، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال‏:‏ ‏{‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا آمّين البيت الحرام‏}‏ عطف على ‏{‏شعائر الله‏}‏‏:‏ أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج، فالمراد قاصدوه لحجّه، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ، ولذلك لم يقل‏:‏ ولا آمِّين مكة، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده‏.‏ ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال‏.‏ وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول‏:‏ وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم ‏(‏بوزن زُفر‏)‏، والمكنّى أيضاً بابننِ هند‏.‏ نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بننِ مَرْثَد، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل، من نزلاء اليمامة، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إلام تدعو» فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إلى شهاد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقاممِ الصلاة وإيتاء الزكاة ‏"‏ فقال‏:‏ حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه، وقال في ذلك رجزاً، وقيل‏:‏ الرجزُ لأحد أصحابه، وهو رَشِيد بن رَمِيض العَنَزي وهو‏:‏
هذا أوَانُ الشَّدّ فاشْتَدّي زِيَمْ *** قد لَفَّها الليلُ بسَوّاق حُطَم
ليسَ براعِي إبِللٍ ولا غَنَم *** ولا بَجَزّار على ظَهْر وَضَم
بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ *** باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَم
خَدَلَّجُ الساقَيْننِ خَفَّاقُ القَدَم *** ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا‏:‏ هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم، فنزلت الآية في النهي عن ذلك‏.‏ فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية‏.‏
والبيت الحرام هو الكعبة‏.‏ وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏
‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏ في هذه السورة‏.‏ وجملة ‏{‏يبتغون فضلاً من ربّهم‏}‏ صفة ل ‏{‏آمِّين‏}‏ من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمِّي البيت الحرام‏.‏
وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك، قال النابغة‏:‏
حيّاك ربّي فإنَّا لا يَحِلّ لنا *** لَهْوُ النساءِ وإنّ الدّين قد عَزَما
مشمّرين على خُوص مزمَّمة *** نرجو الإله ونرجو البِرّ والطُعَما
ويتنزّهون عن فحش الكلام، قال العجّاج‏:‏
وَرَبِّ أسْراب حَجيج كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَث التكلّم
ويظهرون الزهد والخشوع، قال النابغة‏:‏
بمُصطحبات من لَصَاففٍ وثَبْرة *** بَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهُنّ التَّدَافُعُ
عَلَيْهِنّ شُعْث عامدون لربّهم *** فهُنّ كأطراف الحَنِيّ خَوَاشِعُ
ووجه النَّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين‏:‏ أَنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام، حالة خَيْر وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويداً، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وتَعاونوا على البِرّ والتقوى‏}‏‏.‏
والفضلُ‏:‏ خير الدنيا، وهو صلاح العمل‏.‏ والرضوان‏:‏ رضي الله تعالى عنهم، وهو ثواب الآخرة، وقيل‏:‏ أراد بالفضل الربح في التجارة، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلاّ إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكَّة‏.‏
‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا‏}‏‏.‏
تصريح بمفهوم قوله‏:‏ ‏{‏غير محلّي الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ لقصد تأكيد الإباحة‏.‏ فالأمر فيه للإباحة، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهياً مستمرّاً، ثم الأمر به كذلك، وما هنا‏:‏ إنَّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر‏:‏ أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب‏.‏ فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة، وقد حُرّم في حالة الإحرام، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته‏.‏
و ‏{‏اصطادوا‏}‏ صيغة افتعال، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد‏.‏ ونظيره‏:‏ اضطرّه إلى كذا‏.‏ وقد نُزّل ‏{‏اصطادوا‏}‏ منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول‏.‏
‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ‏}‏‏.‏
عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لا تحِلّوا شعائر الله‏}‏ لِزيادة تقرير مضمونه، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب‏.‏
ومعنى ‏{‏يجر منّكم‏}‏ يكسبنّكم، يقال‏:‏ جرَمه يجرمه، مثل ضَرب‏.‏ وأصله كسب، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب، قالوا‏:‏ جَرم فلان لنفسه كذا، أي كسب‏.‏
وعدّي إلى مفعول ثان وهو ‏{‏أن تعتدوا‏}‏، والتقدير‏:‏ يكسبكم الشنآن الاعتداء‏.‏ وأمّا تعديته بعلى في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا‏}‏
‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ فلتضمينه معنى يحملنّكم‏.‏
والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفاً هو البغض‏.‏ وقيل‏:‏ شدّة البغض، وهو المناسب، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص‏:‏
أنمِي على البغضاء والشنآن *** وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس، فهو مثل الغَليان والنزَوان‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏شَنَئان‏}‏ بفتح النون‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر بسكون النون‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان، أي عدوّ، فالمعنى‏:‏ لا يجرمنّكم عدوّ قوم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف‏.‏ وإضافة شنآن إذا كان مصدراً من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي بُغضكم قوماً، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏أنْ صدّوكم‏}‏، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن صدّوكم‏}‏ بفتح همزة ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب‏:‏ بكسر الهمزة على أنَّها ‏(‏إن‏)‏ الشرطية، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط‏.‏
والمسجدُ الحرام اسم جعل علَماً بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏144‏)‏، وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبْده ليلاً من المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏
‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ‏}‏‏.‏
تعليل للنهي الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم‏}‏‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة، ولكنَّها عُطفت‏:‏ ترجيحاً لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل، يعني‏:‏ أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها، ولو كان عدوّاً، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى، فهم وإن كانوا كفّاراً يُعاونُون على ما هو برّ‏:‏ لأنّ البرّ يَهدي للتقوى، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام‏.‏ ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّاً عن المسجد الحرام، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً؛ فالضمير والمفاعلة في ‏{‏تعاونوا‏}‏ للمسلمين، أي ليعن بعضكم بعضاً على البرّ والتقوى‏.‏ وفائدة التعاون تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتّحاد والتناصر، حتّى يصبح ذلك خلقاً للأمّة‏.‏ وهذا قبل نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ تأكيد لمضمون ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتقوى‏}‏ لأنّ الأمر بالشيء، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه‏.‏ والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضاً عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله‏}‏ الآية تذييل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شديد العقاب‏}‏ تعريض بالتهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏
‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب‏}‏‏.‏
استئناف بيانيّ ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام‏.‏
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا‏.‏ وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها‏.‏ وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير، لاستيعاب محرّمات الحيوان‏.‏ وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف‏.‏ وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً، وهو من قياس الأدْون، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان ‏{‏الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية‏.‏ وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد‏:‏ يَجوز أكل الخيل‏.‏ وثبت في الصحيح، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه‏.‏ ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ‏.‏ وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل‏.‏
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر‏.‏ فقيل‏:‏ لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة‏.‏ وقيل‏:‏ نهى عنها أبداً‏.‏ وقال ابن عباس بإباحتها‏.‏ فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة‏.‏
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها‏.‏ وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها‏.‏
والدم هنا هو الدم المُهراق، أي المسفوح، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ‏(‏145‏)‏، حَملاً لمطلققِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق‏.‏
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة‏:‏ لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه، ولا تعرّض في الآية لذلك، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد‏.‏
وقد كانت العرب تأكل الدم، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء‏.‏ وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏173‏)‏‏.‏
وإنَّما قال‏:‏ ولحمَ الخنزير‏}‏ ولم يقل والخنزير كما قال‏:‏ ‏{‏وما أهلّ لغير الله به‏}‏ إلى آخر المعطوفات‏.‏ ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير‏.‏ ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر‏.‏ وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ‏(‏173‏)‏‏.‏ ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله‏.‏ وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة‏.‏ وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم «أيما إهاب دبغ فقد طهر» رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس‏.‏ وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة، منها مرض الديدان التي في المعدة‏.‏
‏{‏وما أهلّ لغير الله به‏}‏ هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله‏.‏ والإهلالُ‏:‏ الجهر بالصوتتِ ومنه الإهلال بالحجّ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً‏.‏ قيل‏:‏ ذلك مشتقّ من اسم الهلال، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته‏.‏ وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم، فقالوا‏:‏ باسم اللاّت، باسم العُزّى‏.‏
‏{‏والمنخنقة‏}‏ هي التي عرض لها ما يخنقها‏.‏ والخَنْق‏:‏ سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق، أو بسدّه، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها‏.‏ ولذلك قيل هنا‏:‏ المنخنقة، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله ‏{‏والموقوذة‏}‏، فهذا مراد ابن عباس بقوله‏:‏ كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها‏.‏
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله‏.‏
‏{‏والموقوذة‏}‏‏:‏ المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً‏.‏ وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة‏.‏ وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة‏.‏
‏{‏والمتردّية‏}‏‏:‏ هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به، والحكمة واحدة‏.‏
‏{‏والنطيحة‏}‏ فعيلة بمعنى مَفعولة‏.‏ والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر‏.‏ والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت‏.‏ وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء‏.‏
‏{‏وما أكل السبع‏}‏‏:‏ أي بهيمة أكَلَها السبع، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ ما ذكّيتم‏}‏ استثناء من جميع المذكور قبله من قوله‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها، يرجع إلى جميعها عند الجمهور، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها‏.‏ وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً، لأنّ الذكاة حالة، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله‏.‏ ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم، وكذا ما أهِلّ لغير الله به، لأنهم يهلّون به عند الذكاة، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء‏:‏ المنخنقة، والموقوذة، والتمردّية، والنطيحة، وما أكل السبع، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها‏.‏ والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة‏.‏ وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً‏.‏ فعَضّوا على هذا بالنواجذ‏.‏
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة‏:‏ فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة، قبل الذبح أو النحر، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً، وليس هو تحريك انطلاق الموت‏.‏
وهذا قول مالك في «الموطّأ»، ورواية جمهور أصحابه عنه‏.‏ وعن مالك‏:‏ أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة، لا تصحّ ذكاتها، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة‏.‏ وهذه رواية ابن القاسم عن مالك، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ ومن الفقهاء من قالوا‏:‏ إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح‏.‏ وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، واختاره ابن حبيب، وأحد قولين للشافعي‏.‏ ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة، إلاّ أنّ يقال‏:‏ إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات، وهو بعيد‏.‏ ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله‏:‏ ‏{‏وما أكل السبع‏}‏ على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة‏.‏
‏{‏وما ذُبح على النُصب‏}‏ هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب‏.‏ والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب، فهو مفرد مراد به الجنس، وقيل‏:‏ هو جمع وواحده نِصاب، ويقال‏:‏ نَصْب بفتح فسكون ‏{‏كأنّهم إلى نَصْب يوفضون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وهو قد يطلق بما يرادف الصنم، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد‏.‏ والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب‏.‏ وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها، فقد روى أيمَّة أخبار العرب‏:‏ أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة، وهم ولد إسماعيل، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا‏:‏ الكعبةُ حجر، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة، فنصبوا هذه الأنصاب، وربما طافوا حولها، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم‏.‏ وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة‏.‏
وعن أبي رجاء العطاردي في «صحيح البخاري»‏:‏ كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ‏(‏أي في بلاد الرمل‏)‏ جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به‏.‏
فالنصب‏:‏ حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل‏:‏ مِثل حجر الغَبْغَببِ الذي كان حول العُزّى‏.‏ وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة، قال الأعشى، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه‏:‏
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه *** وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ‏:‏ ‏{‏إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم‏}‏‏.‏ وفي حديث فتح مكَّة‏:‏ كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم‏.‏ وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل، فمن ذلك صخرة بيت المقدس، قيل‏:‏ إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح، لأنَّها تسقط فيها الدماء، والدمُ يسمّى رُوحاً‏.‏ ومن ذلك فيما قيل‏:‏ الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة‏.‏ ومنها حجر المقام، في قول بعضهم‏.‏ فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ‏.‏ وفي «البخاري» عن ابن عباس‏:‏ النصُب‏:‏ أنصاب يذبحون عليها‏.‏ قلت‏:‏ ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ، وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك‏.‏
ووجه عطف ‏{‏وما ذُبح على النصب‏}‏ على المحرّمات المذكورة هنا، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم، فقالوا‏:‏ كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن، وبخاصّة الصبيان، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة‏:‏ أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له‏:‏ أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ‏(‏صَنَممِ دوس‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ لا، أنا ضامن، فأسلمتْ، ونحو ذلك، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته‏.‏
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ الآيات‏.‏
‏{‏وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ‏}‏‏.‏
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله، وهي المحرّم أكلها‏.‏ فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة، فتكون السين والتاء في ‏{‏تستقسموا‏}‏ مزيدتين كما هما في قولهم‏:‏ استجاب واستراب‏.‏ والمعنى‏:‏ وأن تقسموا اللحم بالأزلام‏.‏
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله‏:‏ هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ‏؟‏‏.‏ وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب، أي طلب القِسم‏.‏ وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه، أي طلب معرفته‏.‏ كان العرب، كغيرهم من المعاصرين، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً‏.‏ والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له‏:‏ قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه‏.‏
وكيفية استقسام الميسر‏:‏ المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏219‏)‏‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وما استقسمتم عليه بالأزلام، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما، وذلك إدماج بديع‏.‏
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح‏:‏ أحدها مكتوب عليه «أمرني ربّي»، وربما كتبوا عليه «افْعَلْ» ويسمّونه الآمر‏.‏ والآخرُ‏:‏ مكتوب عليه «نَهاني ربّي»، أو «لا تَفْعَلْ» ويسمّونه الناهي‏.‏ والثالث‏:‏ غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة‏.‏ فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ، فإذا خرج الذي عليه كتابة، فعلوا ما رَسَم لهم، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة‏.‏ ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة، صنم خَثْعَم، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال‏:‏
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لم تَنْهَ عن قَتْللِ العُداة زُورا *** وقد ورد، في حديث فتح مكة‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال‏:‏ ‏"‏ كذَبوا والله إننِ استقسمَ بها قطّ ‏"‏
وهم قد اختلقوا تلك الصورة، أو توهّموها لذلك، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام، وتضليلاً للناس الذين يجهلون‏.‏ وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم، ومن حكّامهم، وكان مِنها عند ‏(‏هُبَل‏)‏ في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم، كتبوا على أحدها العقل في الديَة، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛ وأزلام لإثبات النسب، مكتوب على واحد «منكم»، وعلى واحد «من غَيْركم»، وفي آخر «مُلْصَق»‏.‏ وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها‏.‏ وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له‏:‏ أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها‏.‏ وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه، كما ورد في حديث الهجرة «أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره»‏.‏
والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم فسق‏}‏ راجعة إلى المصدر وهو ‏{‏أن تستقسموا‏}‏‏.‏ وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن‏.‏
والفسق‏:‏ الخروج عن الدين، وعن الخير، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضلّ به إلاّ الفاسقين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏
وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة، وفيه ما هو من شرائع الشرك، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً، ولا سبباً شرعيّاً، فتمحّض لأن يكون افتراء، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم، من الكذب على الله، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة‏:‏ هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل، أو من أدلّته، كالتجربة، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل‏:‏ كجعل الزوال سبباً للصّلاة‏.‏ وما عدا ذلك كذب وبهتان، فمن أجل ذلك كان فسقاً، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب‏.‏
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم، ومعنى عين أنها كثيرة المطر‏.‏ وأمَّا أزلام الميسر، فهي فسْق، لأنَّها من أكل المال بالباطل‏.‏
اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون‏}‏‏.‏
جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة، وبين آية الرخصة الآتِيَة‏:‏ وهي قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ في مخمصة‏}‏ لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها‏.‏ ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ الآية‏.‏
والمناسبة في هذا الاعتراض‏:‏ هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك، وهي ما أهِلّ لغير الله به، وما ذبح على النصب، وتحريم الاستقسام بالأزلام، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم، والتقليل من أقواتهم، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم‏:‏ فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر‏:‏ وهو ما أهلّ به لِغير الله، وما ذُبح على النُصُب‏.‏ والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم، وبمحاسن دينهم وإكماله، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء‏.‏ وذُكّروا بالنعمة، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين‏.‏ وكان المشركون، زماناً، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين، ويرجعوا إلى الشرك، كما قال المنافقون ‏{‏لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية‏:‏ بشارة للمؤمنين، ونكاية بالمشركين‏.‏ وقد روي‏:‏ أنَّها نزلت يوم فتح مكة، كما رواه الطبري عن مجاهد، والقرطبي عن الضحّاك‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها‏.‏ وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ‏.‏
ف ‏{‏اليوم‏}‏ يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر، وهو يوم نزول الآية، وهو إن أريد به يوم فتح مكة، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام، وظهر فيه من قوّة الدين، بين ظهراني من بقي على الشرك، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه‏:‏ التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية، وقوام شؤونهم، وتعارفهم، وفصل نزاعهم، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم‏:‏ من بقاء دين الشرك، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام‏.‏ فذلك اليوم على الحقيقة‏:‏ يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة‏.‏ فقد قال أبو سفيان يوم أحد «أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم»‏.‏ وقال صفوان بن أمية أو أخوه، يوم هوازن، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين‏:‏ «ألا بطل السحر اليوم»‏.‏
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير ‏"‏ أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم ‏"‏
و ‏{‏اليوم‏}‏ يجوز أن يراد به يوم معين، جدير بالامتنان بزمانه، ويجوز أن يجعل ‏(‏اليومَ‏)‏ بمعنى الآن، أي زمان الحال، الصادق بطائفة من الزمان، رَسخ اليأس، في خلالها، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك، فإنّ العرب يطلقون ‏(‏اليوم‏)‏ على زمن الحال، ‏(‏والأمس‏)‏ على الماضي، و‏(‏الغَد‏)‏ على المستقبل‏.‏ قال زهير‏:‏
وأعْلَمُ عِلم اليوممِ والأمسسِ قبلَه *** ولكِنَّنِي عن عِلممِ مَا في غد عَمِي
يريد باليوم زمان الحال، وبالأمس ما مضى، وَبالغد ما يستقبل، ومنه قول زياد الأعجم‏:‏
رأيتُك أمسسِ خيرَ بني مَعَدّ *** وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ
وأنت غَدا تزيد الخير خيراً *** كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس
وفعل ‏{‏يئس‏}‏ يتعدّى ب ‏(‏مِن‏)‏ إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ‏(‏من‏)‏ التي هي لتعدية ‏{‏يئس‏}‏ على قوله ‏{‏دينِكم‏}‏، إنّما هو بتقدير مضاف، أي يئسوا من أمر دينكم، يعني الإسلام، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله‏:‏ هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه‏.‏
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تَخشَوْهم‏}‏ على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين‏:‏ لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه، ويذهب حماسه، ويقعده عن طلب عدوّه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ونُصِرْتُ بالرّعْب»‏.‏ فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم، فقال‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم واخشون‏}‏ أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين، يوماً فيوماً، وذلك من تأييد الله لهم، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم‏.‏
وقد أفاد قوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم واخشون‏}‏ مفاد صيغة الحصر، ولو قيل‏:‏ فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات‏:‏ لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود، فلا يحسن طيّ إحداهما‏.‏ وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ‏:‏
تَسيل على حدّ الظّبَاتتِ نفوسنا *** ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل
ونظيره قوله الآتي ‏{‏فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏
‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏‏.‏
إن كانت آية ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ بنحو العامين، كما قال الضحّاك، كانت جملة مستقلّة، ابتدائية، وكان وقوعها في القرآن، عقب التي قبلها، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين، اعتقاداً وتشريعاً، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر، عام حجّة الوداع، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين‏.‏
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ، ولأجل ذلك‏:‏ أعيد لفظ ‏{‏اليوم‏}‏ ليتعلّق بقوله ‏{‏أكملت‏}‏، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله‏:‏ ‏{‏يَئِسَ‏}‏ فلم يقل‏:‏ وأكملت لكم دينكم‏.‏
والدّين‏:‏ ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد، والأعمال، والشرائع، والنظم‏.‏ وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الدين عند الله الإسلام‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏19‏)‏‏.‏ فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد، التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لتبيّن للناس ما نزّل إليهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏ بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون‏.‏ ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ‏.‏ وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية‏.‏ وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة‏.‏
فما نجده في هذه السورة من الآيات، بعد هذه الآية، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض‏.‏ فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم‏.‏ قال الشاطبي‏:‏ «القرآن، مع اختصاره، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏، وأنت تعلم‏:‏ أنّ الصلاة، والزكاة، والجهاد، وأشباه ذلك، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن، إنَّما بيّنتها السُنَّة، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال، وهي‏:‏ الضروريّات، والحاجيات، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة‏:‏ وهو السنّة، والإجماع، والقياس، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال‏:‏ «لَعَن الله والوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله» فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها‏:‏ أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت‏:‏ «لعنتَ كذا وكذا» فذكرَتْه، فقال عبد الله‏:‏ «وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله»، فقالت المرأة‏:‏ «لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف، فما وجدتُه»، فقال‏:‏ «لئن كنتتِ قرأتيه لقد وجدتيه»‏:‏ قال الله تعالى‏:‏
‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏» اه‏.‏
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة، المتلقّين عنه، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر‏:‏ حسبنا كتاب الله، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏آتوا حقّه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ و‏{‏كُتب عليكم الصيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ و‏{‏أتِمّوا الحجّ والعمرة لله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدئ ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر، وهو في ذلك كلّه دين، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة، ومعظم أهل المدينة، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة، وآدابها، وقوانين تعاملها، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين، وغلب الإسلام على بلاد العرب، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ، فأصبح مرهوباً بأسُه، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين‏:‏ بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية‏.‏
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه‏:‏ لأنّ الدين في كلّ يوم، من وقت البعْثة، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين‏.‏
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة‏.‏ وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة، كما يُروى عن مجاهد، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه، ومكّنه من قلب بلاد العرب‏.‏ فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك‏.‏
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن‏:‏ لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة، التي في آخر النساء، على القول بأنَّها آخر آية نزلت، وسورة ‏{‏إذا جاء نصر الله‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ كذلك، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ نحواً من تسعين يوماً، يوحى إليه‏.‏ ومعنى ‏(‏اليوم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ نظير معناه في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏.‏
وقوله‏:‏ وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ إتمام النعمة‏:‏ هو خلوصها ممّا يخالطها‏:‏ من الحرج، والتعب‏.‏ وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة ‏{‏أكملت لكم دينكم‏}‏ فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية‏.‏ وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين، مؤمنين، خالصين، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام‏:‏ إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة، وإن كان القول بذلك ضعيفاً، فتمام النعمة فيه على المسلمين‏:‏ أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم، وأحرصهم على استئصالهم، لكن يناكده قوله‏:‏ ‏{‏أكملت لكم دينكم‏}‏ إلاّ على تأويلات بعيدة‏.‏
وظاهر العطف يقتضي‏:‏ أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين، وهي نعمة النصر، والأخوّة، وما نالوه من المغانم، ومن جملتها إكمال الدين، فهو عطف عامّ على خاصّ‏.‏ وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين، وإتمامها هو إكمال الدين، فيكون مفاد الجملتين واحداً، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في «معاني القرآن»‏:‏
إلى الملك القرم وابننِ الهما *** م وليثثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه، ويقابله السخط‏:‏ فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول‏:‏ رضيتُ بكذا، وقد يرضى شيئاً لغيره، فهو بمعنى اختياره له، واعتقاده مناسبته له، فيعدّى باللام‏:‏ للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره، كما تقول‏:‏ اعتذرت له‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ‏"‏، وكذلك هنا، فلذلك ذكر قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ وعُدّي ‏{‏رَضيت‏}‏ إلى الإسلام بدون الباء‏.‏ وظاهر تناسق المعطوفات‏:‏ أنّ جملة ‏{‏رضيت‏}‏ معطوفة على الجملتين اللتين قبلها، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين، فيكون المعنى‏:‏ ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ‏.‏ وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب ‏{‏رضيت‏}‏؛ فتأوّله صاحب «الكشاف» بأنّ المعنى‏:‏ آذنتكم بذلك في هذا اليوم، أي أعلمتكم‏:‏ يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله ‏{‏اليوم‏}‏، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك، والإيذان به، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية‏.‏ فليس المراد أنّ «رضيت» مجاز في معنى «أذنت» لعدم استقامة ذلك‏:‏ لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم، وهو المقصود، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله‏:‏ ‏{‏الإسلام‏}‏‏.‏ وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة، فيكون من الكناية في التركيب‏.‏ ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه‏.‏
وقد يدلّ قوله‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ على أنّ هذا الدين دين أبَدي‏:‏ لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى‏.‏
‏{‏فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏
وجود الفاء في صدر هذه الجملة، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها‏.‏ وقد انفرد صاحب «الكشاف» ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً‏.‏
ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها‏:‏ اتّصال الكلام الناشئ عن كلام قبله، فتكون الفاء عنده للفصيحة، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات، معرّضة للمخمصة‏:‏ عند انحباس الأمطار، أو في شدّة كَلَب الشتاء، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض، كما طفحت به أقوال شعرائهم‏.‏
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّععٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير‏:‏ فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ‏.‏ ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف‏:‏ إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف «من اضطرّ في مخمصة» عليه‏.‏
والأحسن عندي أن يكون موقع ‏{‏فمن اضطرّ في مخمصة‏}‏ متّصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه، والفاء للتفريع‏:‏ تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات‏:‏ مرّة بوصفه في قوله ‏{‏دينكم‏}‏، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله‏:‏ ‏{‏نعمتي‏}‏، ومرّة باسمه في قوله‏:‏ ‏{‏الإسلام‏}‏؛ فقد تقرّر بينهم‏:‏ أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق، من آيات كثيرة قبل هذه الآية، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ الخ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة، وتفرّع على قوله‏:‏ ‏{‏ورضيتُ لكم الإسلام ديناً‏}‏ وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة‏.‏
والاضطرار‏:‏ الوقوع في الضرورة، وفعله غلب عليه البناء للمجهول، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اضطرّه إلى عذاب النار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏126‏)‏‏.‏
والمخمصة‏:‏ المجاعة، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن، لأنّ الجوع يضمر البطون، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً‏.‏
والتجانف‏:‏ التمايل، والجَنَف‏:‏ الميل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خَاف من موص جَنَفَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس، أو من مخالفة الدين‏.‏ وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة، وهذا بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين‏.‏
ووقع قوله‏:‏ «فإنّ الله غفور رحيم» مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له، وهي دليل عليه، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن‏.‏ والتقديرُ‏:‏ فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور، كما قال في الآية نظيرتها ‏{‏فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏‏}‏
‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات‏}‏‏.‏
إن كان الناس قد سألوا عمّا أحِلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة، أو قبل أن يسمعوا ذلك، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال، أي تكرّره أو توقّع تكرّره‏.‏ وعليه فوجه فصل جملة ‏{‏يسألونك‏}‏ أنّها استئناف بيانيّ ناشئ عن جملة ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ في مخمصة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏؛ أو هي استئناف ابتدائي‏:‏ للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات، وإن كان السؤال لم يقع، وإنَّما قصد به توقّع السؤال، كأنَّه قيل‏:‏ إن سَألوكَ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال، لأنَّه ممّا تتوجَّه النفوس إلى الإحاطة به، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عُدّد لهم في الآيات السابقة، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏189‏)‏‏:‏ أنّ صيغة يسألونك‏}‏ في القرآن تحتمل الأمرين‏.‏ فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلاً ثم ببيان الحلال، أو ببيان الحلال فقط، إذا كان بيان المحرّمات سابقاً على السؤال، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره‏.‏
و ‏{‏الطيّبات‏}‏ صفة لمحذوف معلوم من السياق، أي الأطعمة الطيّبة، وهي الموصوفة بالطيِّب، أي التي طابت‏.‏ وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلاً وآجلاً، فالشيء المستلذّ إذا كان وخِماً لا يسمّى طيِّباً‏:‏ لأنّه يعقب ألماً أو ضُرّاً، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه‏.‏ وقد أطلق الطيِّب على المباح شرعاً؛ لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيّباً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏‏.‏ والمراد بالطيّبات في قوله‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏ معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل ‏{‏أحِلّ‏}‏ إليها‏.‏ وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏168‏)‏، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيّب‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏58‏)‏‏.‏
والطيّبات‏}‏ وصف للأطعمة قُرِن به حكم التحليل، فدلّ على أنّ الطِّيبَ علّة التحليل، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث، كما قال في آية الأعراف، في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويحلّ لهم الطيّباتتِ ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏
وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات؛ فعن مالك‏:‏ الطيّبات الحلال، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيِّب في الطعام المباح، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله‏:‏ ‏{‏الطيّبات‏}‏ حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ، فيتَعيّن، إذن، أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏ غيْر مراد منه ضبط الحلال، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب، إبطالاً لِما اعتقدوه في زمن الشرك‏:‏ من تحريم ما لا موجب لتحريمه، وتحليل ما هو خبيث‏.‏
ويدلّ لذلك تكرّر ذكر الطيّبات مع ذكر الحلال في القرآن، مثل قوله‏:‏ ‏{‏اليومَ أحلّ لكم الطيّبات‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ وقولِه في الأعراف ‏(‏157‏)‏‏:‏ ‏{‏ويُحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏ وعن الشافعي‏:‏ الطيّبات‏:‏ الحلال المستلذّ، فكلّ مستقذر كالوزغ فهو من الخبائث حرام‏.‏ قال فخر الدين‏:‏ العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإنّ أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، وتتأكّد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ فهذا يقتضي التمكّن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلاُّ أنّه دخله التخصيص بحرمة الخبائث، فصار هذا أصلاً كبيراً في معرفة ما يحلّ ويحرم من الأطعمة‏.‏ منها أنّ لحم الخيل مباح عند الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس بمباح‏.‏ حجّة الشافعي أنّه مستلذّ مستطاب، والعلم بذلك ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏‏.‏ وفي «شرح الهداية» في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي «أنّ ما استطابه العرب حلال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحلّ لهم الطيّبات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، وما استخبثه العرب حرام، لقوله‏:‏ ‏{‏ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنّ القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به، ولم يُعتبر أهل البوادي لأنّهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة‏.‏ وما يوجد في أمصار المسلمين ممّا لا يعرفه أهل الحجاز رُدّ إلى أقرب مَا يشبهه في الحجاز اه‏.‏ وفيه من التحكّم في تحكيم عوائد بعض الأمّة دون بعض ما لا يناسب التشريع العامّ، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضبّ بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خالد بن الوليد‏:‏ «ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه» ومع ذلك لم يحرّمه على خالد‏.‏
والذي يظهر لي‏:‏ أنّ الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيّب فلا جرم أن يكون ذلك منظوراً فيه إلى ذات الطعام، وهو أن يكون غير ضارّ ولا مستقذر ولا مناف للدين، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرّمه الدّين، وأن يكون مقبولاً عند جمهور المُعتدلين من البشر، من كلّ ما يعدّه البشر طعاماً غير مستقذر، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات، وعن الطبائع المنحرفات، ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات، ويترك بعضهم ذلك البعض‏.‏ فمن العرب من يأكل الضبّ واليربوع والقنافذ، ومنهم من لا يأكلها‏.‏ ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذّر ذلك‏.‏ وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز، وفي أهل الصحاري تُستجاد لحوم الإبل وألبانُها، وفي أهل الحضر من يكره ذلك، وكذلك دوابّ البحر وسلاحفه وحيّاته‏.‏
والشريعة من ذلك كلّه فلا يقضي فيها طبعُ فريق على فريق‏.‏ وَالمحرّمات فيها من الطعوم ما يضرّ تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدّرات كالأفيون والحشيشة المخدّرة، وما هو نجسَ الذات بحكم الشرع، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيوب وأرواث النعام، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطاً للتحريم إلاّ المحرّمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله‏.‏ والقول بأنّ بعضها حلال دون بعض بدون نصّ ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل، فما الذي سوّغ الظبي وحرّم الأرنب، وما الذي سوّغ السمكة وحرّم حيّة البحر، وما الذي سوّغ الجَمَل وحرّم الفرس، وما الذي سوّغ الضبّ والقنفذ وحرّم السلحفاة، وما الذي أحلّ الجراد وحرّم الحلزون، إلاّ أن يكون له نصّ صحيح، أو نظر رَجيح، وما سوى ذلك فهو ريح‏.‏ وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردّد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نصّ فيه أو في مواقع المتشابهات‏.‏
‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏
يجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏الطيّبات‏}‏ عطف المفرد، على نيّة مضاف محذوف، والتقدير‏:‏ وصيد ما علّمتم من الجوارح، يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏‏.‏ فما موصولة وفاء ‏{‏فكلوا‏}‏ للتفريع‏.‏ ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة، وتكون ‏(‏ما‏)‏ شرطية وجواب الشرط ‏{‏فكلوا ممّا أمسكن‏}‏‏.‏
وخُصّ بالبيان من بين الطيّبات لأنّ طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد، لا سيما صيد الجوارح، وهو محلّ التنبيه هنا الخاصّ بصيد الجوارح‏.‏ وسيُذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تنالع أيديكم ورماحكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ والمعنى‏:‏ وما أمسك عليكم ما علّمتم بقرينة قوله بعدُ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلّمة‏.‏
والجوارح‏:‏ جمع الجارح، أو الجارحة، جرى على صيغة جمع فاعلة، لأنّ الدوابّ مراعى فيها تأنيث جمعها، كما قالت العرب للسباع‏:‏ الكواسب، قال لبيد‏:‏
غُبْس كواسِبُ ما يُمَنّ طعامها *** ولذلك تُجمعَ جمعَ التأنيث، كما سيأتي ‏{‏فكلوا ممّا أمسكن عليكم‏}‏‏.‏
‏{‏ومكلِّبين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏علّمتم‏}‏ مبيّنة لنوع التعليم وهو تعليم المكلِّب، والمكلِّب بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل مُعلّم الكلاب، يقال‏:‏ مكلِّب، ويقال‏:‏ كَلاَّب‏.‏
ف ‏{‏مكلِّبين‏}‏ وصف مشتقّ من الاسم الجامد اشتقّ من اسم الكلب جرياً على الغالب في صيد الجوارح، ولذلك فوقوعه حالاً من ضمير ‏{‏علّمتم‏}‏ ليس مخصّصاً للعموم الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏وما علّمتم‏}‏ فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فُهود وبُزَاة‏.‏
وخالف في ذلك ابن عمر، حكى عنه ابنُ المنذر أنّه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مكلّبين‏}‏ قال‏:‏ فأمّا ما يصاد به من البزاةِ وغيرها من الطير فما أدركتَ ذكاته فذكِّه فهو لك حلال وإلاّ فلا تَطْعَمْه‏.‏ وهذا أيضاً قول الضحّاك والسُدّي‏.‏
فأمَّا الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلَّمات منها، إلاّ ما شذّ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم، أي عامّ السواد، محتجّين بقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الكلب الأسود شيطان ‏"‏ أخرجه مسلم، وهو احتجاج ضعيف، مع أنّ النبي عليه السلام سمّاه كلباً، وهل يشكّ أحد أنّ معنى كونه شيطاناً أنَّه مظنّة للعقر وسوء الطبع‏.‏ على أنّ مورد الحديث في أنَّه يقطع الصلاة إذا مرّ بين يدي المصلّي‏.‏ على أنّ ذلك متأوّل‏.‏ وعن أحمد بن حنبل‏:‏ ما أعرف أحداً يرخّص فيه ‏(‏أي في أكل صيده‏)‏ إذا كان بهيماً، وبه قال إسحاق بن راهويه، وكيف يصْنع بجمهور الفقهاء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏تعلمونهن مما علمكم الله‏}‏ حال ثانية، قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان، إذ جعله معلَّماً بالجبلّة من يومَ قال‏:‏ ‏{‏يا آدم أنبئهم بأسمائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 33‏]‏، والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان، إذ جعله قابلاً للتعلّم‏.‏ فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزّل منزلة الحال المؤكّدة، وباعتبار كونها تضمّنت معنى الامتنان فهي مؤسّسة‏.‏ قال صاحب «الكشاف» «وفي تكرير الحال فائدةُ أنّ على كلّ آخذ عِلماً أن لا يأخذه إلاّ من أقْتَللِ أهلِه علماً وأنْحَرِهم دِراية وأغوصِهِم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكبادَ الإبل، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيّع أيّامه وعَضّ عند لقاء النَّحارير أنامله»‏.‏ اه‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ «فكلوا ممّا أمسكن عليكم» فاء الفصيحة في قوله‏:‏ ‏{‏وما علّمتم من الجوارح‏}‏ إن جعلت ‏(‏ما‏)‏ من قوله ‏{‏وما علّمتم‏}‏ موصولة، فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب‏.‏
وحرف ‏(‏من‏)‏ في قوله ‏{‏ممّا أمسكن عليكم‏}‏ للتبعيض، وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناوَلات، كقوله‏:‏ «كلوا من ثمره»‏.‏ وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد، ولا أنّ ذلك احتراس عن أكل الريش، والعظم، والجلد، والقرون؛ لأنّ ذلك كلّه لا يتوهّمه السامع حتّى يحترس منه‏.‏
وحرف ‏(‏على‏)‏ في قوله ‏{‏ممّا أمسكن عليكم‏}‏ بمعنى لام التعليل، كما تقول‏:‏ سجن على الاعتداء، وضُرب الصبيّ على الكذب، وقول علقمة بن شيبان‏:‏
ونُطاعن الأعداءَ عن أبنائنا *** وعَلَى بصائرنا وإن لم نُبْصِر
أي نطاعن على حقائقنا‏:‏ أي لحماية الحقيقة، ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏}‏‏.‏
ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح‏:‏ من كلاب، وفهود، وسباع طير‏:‏ كالبزاة، والصقور، إذا كانت معلّمة وأمسكت بعد إرسال الصائد‏.‏ وهذا مقدار اتّفق علماء الأمّة عليه وإنَّما اختلفُوا في تحقّق هذه القيود‏.‏
فأمَّا شرط التعليم فاتّفقوا على أنّه إذا أُشلي، فانْشلى، فاشتدّ وراء الصيد، وإذا دُعي فأقبل، وإذا زجر فانزجر، وإذا جاء بالصيد إلى ربّه، أنّ هذا معلّم‏.‏ وهذا على مراتب التعلّم‏.‏ ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك‏:‏ فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع‏.‏ وصفاتُ التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد، وأنَّه صار له معرفة، وبذلك قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي‏:‏ ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرّتيْن أو ثلاث، خلافاً لأحمد، وأبي يوسف، ومحمد‏.‏
وأمّا شرط الإمساك لأجل الصائد‏:‏ فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إيّاها، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدوداً، أو أمرُه إيّاها بلفظ اعتدات أن تفهم منه الأمر كقوله‏:‏ «هذا لَكِ» لأنّ الإرسال يقوم مقام نية الذكاة‏.‏ ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتّى يرجع إلى ربّه بالصيد‏.‏ واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربّه هل يبطل حكم الإمساك على ربّه‏:‏ فقال جماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية؛ لأنّه إنَّما أمسك على نفسه، لا على ربّه‏.‏ وفي هذا المعنى حديث عديّ بن حاتم في الصحيح‏:‏ أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب، فقال‏:‏ ‏"‏ وإذا أكَل فلا تأكل فإنَّما أمسك على نفسه ‏"‏ وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق‏.‏ وقال جماعة من الصحابة‏:‏ إذا أكل الجارح لم يضرّ أكله، ويؤكل ما بقي‏.‏ وهو قول مالك وأصحابه‏:‏ لحديث أبي ثَعْلبة الخُشَني، في «كتاب أبي داوود»‏:‏ أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «وإن أكل منه»‏.‏ ورام بعض أصحابنا أن يحتجّ لهذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ممّا أمسكن عليكم‏}‏ حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض، المؤذنة بأنّه يؤكل إذا بَقي بعضه، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفاً أنَّ ‏(‏مِن‏)‏ تدخل على الاسم في مِثل هذا وليس المقصود التَّبعيض، والكلب أو الجارح، إذا أشلاه القنّاص فانشلى، وجاء بالصيد إلى ربّه‏.‏ فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان‏.‏ ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أنّ أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه، والصواب أنّ ذلك لا يقدح في تعليمه، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد، وإنما هذا من الفلتة أو من التهوّر‏.‏ ومَال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصّة، لأنّها لا تفقه من التعليم مَا يَفقه الكلب، وروي هذا عن ابن عباس، وحمّاد، والنخعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور‏.‏
وقد نشأ عن شرط تحقّق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيداً لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيداً في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه؛ فعن مالك‏:‏ لا يؤكل، وعن بعض أصحابه‏:‏ يؤكل‏.‏ وأمَّا إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنَّه يؤكل لا محالة‏.‏
وأحسب أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما أمسكن عليكم‏}‏ احتراز عن أن يجد أحد صيداً لم يصده هو، ولا رأى الجارح حين أمسكه، لأنّ ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة، وأنَّه لا يحرم على من لم يتصدّ للصيد أن يأكل صيداً رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريباً، أو ابْتاعه من صائده، أو استعطاه إيَّاه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ أمر بذكر الله على الصيد، ومعناه أن يذكره عند الإرسال لأنه قد يموت بجرح الجارح، وأمَّا إذا أمسكه حيّاً فقد تعيّن ذبحه فيذكر اسم الله عليه حينئذٍ‏.‏ ولقد أبدع إيجازُ كلمة «عليه» ليشمل الحالتين‏.‏ وحكمُ نسيان التسمية وتعمّد تركها معلوم من كتب الفقه والخلاف، والدينُ يسر‏.‏
وقد اختلف الفقهاء‏:‏ في أنّ الصيد رخصة، أو صفة من صفات الذكاة‏.‏ فالجمهور ألحقوه بالذكاة، وهو الراجح، ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المَجوسي‏.‏ وقال مالك‏:‏ هو رخصَة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابيّ ولا المجوسي ولا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وهو دليل ضعيف‏:‏ لأنَّه وارد في غير بيان الصيد، ولكن في حُرمة الحَرم‏.‏ وخالفه أشهب، وابن وهب، من أصحابه‏.‏ ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلاّ رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واتَّقوا الله‏}‏ الآية تذييل عامّ ختمت به آية الصيد، وهو عامّ المناسبة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏
‏{‏اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ‏}‏‏.‏
يجيء في التقييد ‏(‏باليوم‏)‏ هنا ما جاء في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم، فلا يجيء هنا، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّماً، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏ورَضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ في تعلّق قوله‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ به، كما تقدّم‏.‏
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله ‏{‏اليوم يئسَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏اليوم أكملت‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أنّ هذا أيضاً منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين‏.‏
والكلام على الطيّبات تقدّم آنفاً، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أتوا الكتاب‏}‏‏.‏ وعطفُ جملة ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم‏}‏ على جملة ‏{‏اليومَ أحلّ لكم الطيّبات‏}‏ لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم‏.‏
والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت‏.‏ فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر‏.‏ والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس‏.‏ وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا، ولهذا قال كثير من العلماء‏:‏ أراد الله هنا بالطعام الذبائح، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح، ولكن هؤلاء قالوا‏:‏ إنّ غير الذبائح ليس مراداً، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله‏.‏ والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه‏.‏ ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح‏.‏
و ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏:‏ هم أتباع التوراة والإنجيل، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتّباع الدين، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختياراً؛ فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن، وتنصّر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، ونَجران، وبعض ربيعة وغسّان، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال‏:‏ لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب، وقال‏:‏ إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر‏.‏
وقال القرطبي‏:‏ هذا قول الشافعي، وروى الربيع عن الشافعي‏:‏ لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب‏.‏ وعن الشافعي‏:‏ من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلاّ الإسلام، ولا تقبل منه الجزية، أي كالمشركين‏.‏
وأمَّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذّ من جعلهم أهل كتاب‏.‏ وأمَّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف‏.‏
وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب‏:‏ لأنّهم على دين إلهي يُحرّم الخبَائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلهي، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان‏.‏ وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي، فمنهم أتباع ‏(‏زَرَادشْت‏)‏، لهم كتابُ ‏(‏الزندفستا‏)‏ وهؤلاء هم محلّ الخلاف‏.‏ وأمّا المجوس ‏(‏المَانَويَّة‏)‏ فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان، أو هم شرّ منهم‏.‏ وقد قال مالك‏:‏ ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة‏.‏ وفي «جامع الترمذي»‏:‏ أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس‏.‏ فقال له‏:‏ ‏"‏ أنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها ‏"‏ وفي البخاري‏:‏ أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنِيَة أهل الكتاب‏.‏ فقال له‏:‏ ‏"‏ إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها ‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ «فغسل آنية المجوس فرض، وغسل آنية أهل الكتاب ندب»‏.‏ يُريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم، وإنَّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه، ولم يبح لنا طعام المجوس، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين‏.‏
ثم الطعامُ الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاماً لهم إذاكانوا يستحلّونه في دينهم، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم، ولو كان ممّا ذكر القرآنُ أنَّه حرّمه عليهم، لأنَّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات، وهذا قول مالك‏.‏ وأرى أنّ دليله‏:‏ أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلاً للمسلمين، ولا التفات إلى ما حكَى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين، فكان عموم طعامهم في شرعنا مُباحاً ناسخاً للمحرّم عليهم، ولا نصِيرُ إلى الاحتجاج «بشرع من قبلنا‏.‏‏.‏‏.‏» إلاّ إذا لم يكن لنا دليل على حُكمهِ في شرعنا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يؤكل ما علِمْنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن، وهو قول بعض أهل العلم، وقيل به في مذهب مالك، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم‏.‏
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه‏:‏ كالخنزير والدم، ولا ما حرّمه علينا بوصفه، الذي ليس بذكاة‏:‏ كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك، فأمَّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفةَ تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق، فقال جمهور العلماء‏:‏ لا يؤكل‏.‏
وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية‏:‏ تؤكل‏.‏ وقال في «الأحكام»‏:‏ فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطْم الرأس فالجواب‏:‏ أنّ هذه ميتة، وهي حرام بالنصّ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحْن، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال‏:‏ ولقد سُئِلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاماً منه، فقلت‏:‏ تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا»‏.‏ وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم، والأوداج ولو بالخنق، وبين نحو الخنق لحبس النفَس، ورَضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وطعامكم حلّ لهم‏}‏ لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر ‏{‏وطعامكم حلّ لهم‏}‏‏.‏ والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم، فأباح لنا طعامهم، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم، وذلك أيضاً تمهيد لقوله بعد‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم‏.‏
‏{‏والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏
عُطف ‏{‏والمحصنات من المؤمنات‏}‏ على ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم‏}‏ عطفَ المفرد على المفرد‏.‏ ولم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حِلّ المحصنات من المؤمناتتِ في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب، وإباحةِ تزوّج نسائهم‏.‏ وعندي‏:‏ أنّه إيماء إلى أنَّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب، والمقصودُ هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباجة التزوّج بالكتابيات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ عطف على ‏{‏وطعام الذين أوتُوا الكتاب حلّ لكم‏}‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم‏.‏
والمُحصنات‏:‏ النسوة الّلاءِ أحْصَنَهُنّ ما أحْصَنَهُنّ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب، فأطلق الإحصان‏:‏ على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء ‏(‏24‏)‏ عطفاً على المحرّمات ‏{‏المحصنات من النساء‏}‏؛ وعلى المسلمات لأنّ الإسلام وَزَعَهن عن الخنا، قال الشاعر‏:‏
ويصدّهن عن الخنا الإسلام *** وأطلق على الحرائر، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية‏.‏ ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج، ولا الثاني لقوله‏:‏ من المؤمنات‏}‏ الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية، ففسّرها مالك بالحرائر، ولذلك منع نكاح الحرّ الأمةَ إلاّ إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طَوْلا، وجوّز ذلك للعبد، وكأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء ‏(‏25‏)‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ وهو تفسير بيِّن ملتئم‏.‏ وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد‏.‏ ومن العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف، ونقل عن الشعبي وغيره، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها وسوء خلقها‏.‏
وكذلك القول في تفسير قوله‏:‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ أي الحرائر عند مالك، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقاً للحرّ والعبد‏.‏ والذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك‏.‏
وشمل أهلُ الكتاب‏:‏ الذمّييّن، والمعاهدين، وأهل الحرب، وهو ظاهر، إلاّ أنّ مالكاً كره نكاح النساء الحربيّات، وعن ابن عبّاس‏:‏ تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب، فمنع نكاح الحربيات‏.‏ ولم يذكروا دليله‏.‏
والأجور‏:‏ المهور، وسمَّيت هنا ‏(‏أجوراً‏)‏ مجازاً في معنى الأعْواض عن المنافع الحاصلة من آثار عُقدة النكاح، على وجه الاستعارة أوْ المجاز المرسل‏.‏ والمَهْر شِعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة‏.‏ ولو كانت المهور أجوراً حقيقة لوجب تحْديد مدّة الانتفاع ومقدارِه وذلك مِمَّا تنزّه عنه عقدة النكاح‏.‏
والقول في قوله‏:‏ ‏{‏محصنات غير مسافحين ولا متخذي أخدان‏}‏ كالقول في نظيره ‏{‏محصنات غير مسافحات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ تقدّم في هذه السورة‏.‏
وجملة ‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏}‏ معترضة بين الجمل‏.‏ والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم، ولكن ذلك تيسير على المسلمين‏.‏ وقد ذُكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن «لولا أنّ الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا»‏.‏ والمرادُ بالإيمان الإيمانُ المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لُقّبوا بالمؤمنين، فالكفر هنا الكفر بالرسل، أي‏:‏ ينكر الإيمان، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات، إذ الإيمان صار لَقباً لمجموع ما يجب التصديق به‏.‏
والحبْط بسكون الموحّدة والحُبوط‏:‏ فساد شيء كان صالحاً، ومنه سمّي الحَبَط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخَضِر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت‏.‏ وفعل ‏(‏حَبِط‏)‏ يؤذن بأنّ الحابط كان صالحاً فانقلب إلى فساد‏.‏ والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان، وهو أشدّ الفساد، فدلّ فعل ‏(‏حبِط‏)‏ على أنّ الأعمال صالحة، وحُذف الوصف لدلالة الفعل عليه‏.‏ وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفَساد الذواتتِ النافعة، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها‏.‏ والمراد ضياع ثوابها وما يترقّبه العامل من الجزاء عليها والفوْز بها‏.‏
والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان، والترغيبُ في الدخول فيه كذلك، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم، ويعلم المشركون ذلك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص‏:‏ من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع‏:‏ وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ‏.‏ وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏43‏)‏ الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة‏.‏ وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ‏}‏ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، وكذلك اختار الواحدي في «أسباب النّزول»، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة‏:‏ أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ، أراد أن يذكر آية ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا‏}‏، وهي آية النّساء ‏(‏43‏)‏، فذكر آية يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ الآية‏.‏ فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة‏}‏ قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي‏:‏ أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة‏.‏
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآننٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة‏.‏ ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء‏.‏ قال أبو بكر ابن العربي في «الأحكام» «لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا‏:‏ إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة‏.‏
فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً» وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اه‏.‏
وفي «سيرة ابن إسحاق» ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اه‏.‏ وقولهم‏:‏ الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود‏.‏ وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة‏.‏ قال بعض علمائنا‏:‏ ولذلك قالوا في حديث عائشة‏:‏ فنزلت آية التّيمّم؛ ولم يقولوا‏:‏ آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية‏.‏
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن‏.‏ وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء‏.‏ ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا ‏{‏فاطَّهّروا‏}‏، وقوله هنالك ‏{‏تغتسلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء‏.‏
ومعنى ‏{‏إذا قمتم إلى الصّلاة‏}‏ إذا عزمْتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل، قال الشاعر‏:‏
فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل، قال النابغة‏:‏
قاموا فقالوا حمانا غيرُ مقروب *** أي عزموا رأيهم فقالوا‏.‏ والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ‏(‏إلى‏)‏ لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا‏.‏
وروى مالك في «الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السديُّ‏.‏ فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة‏.‏
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب ‏{‏إذا قمتم‏}‏ فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة‏.‏ والأمر ظاهر في الوجوب‏.‏ وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في «المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي‏.‏
وقال بريدة بن أبي بردة‏:‏ كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيفَ وهي مصدّرة بقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا‏}‏‏.‏ والجمهور حملوا الآية على معنى «إذا قمتُم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ‏(‏43‏)‏ المصدّرة بقوله‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله ولا جُنباً‏}‏ الآية‏.‏ وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة‏.‏ وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره‏.‏ والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء‏.‏ وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله‏:‏ ‏{‏وإنْ كنتم مرضى إلى قوله أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمّموا‏}‏ فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إمّا مانِععٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم، فمفهوم الشرط وهو قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ ومفهوم النّفي وهو ‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب‏.‏
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة‏.‏ وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو، ولذلك اقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏وأيديكم‏}‏ في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء‏.‏ وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما‏.‏
وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود‏.‏ وفي «المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها‏.‏ ثمّ قال للسائل بعد أيّام‏:‏ قرأت «كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود‏.‏ وفي مذهب مالك‏:‏ قولان في دخول المرافق في الغسل، وأوْلاهما دخولهما‏.‏ قال الشيخ أبو محمد‏:‏ وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد‏.‏ وعن أبي هريرة‏:‏ أنّه يغسل يديه إلى الإبطين، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ تكره الزيادة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأرجلكم‏}‏ قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على ‏{‏وأيديكم‏}‏ وتكون جملة ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ معترضة بين المتعاطفين‏.‏ وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه ‏"‏ وَيْلٌ للأعقاب من النّار ‏"‏
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بخفض ‏{‏وأرجلكم‏}‏‏.‏ وللعلماء في هذه القراءة تأويلات‏:‏ منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل، وروي هذا عن ابن عبّاس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وقتادة‏.‏ وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال‏:‏ «إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال‏:‏ صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم‏}‏‏.‏ ورويت عن أنس رواية أخرى‏:‏ قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النّار» مرّتين‏.‏ وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة، قالوا‏:‏ ليس في الرجلين إلاّ المسح، وإلاّ ابن جرير الطبري‏:‏ رأى التخيير بين الغسل والمسح، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح‏.‏
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء‏.‏ ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح‏.‏
وجملة ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه‏}‏ مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا‏.‏
وجملة ‏{‏مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ تعليل لرخصة التيمّم، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق‏.‏
واللام في ‏{‏ليجعل‏}‏ داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر، وهي لام زائدة على الأرجح، وتسمّى لام أَنْ‏.‏ وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُريد الله ليبيّن لكُم‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏26‏)‏، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود‏.‏
والحرج‏:‏ الضيق والشدّة، والحَرَجَة‏:‏ البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق، والجمع حَرَج‏.‏ والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها‏.‏
وقوله‏:‏ ولكن يريد ليطهّركم‏}‏ إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار‏:‏ منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع‏.‏ فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء، كما تقدّم في سورة النساء‏.‏
وقوله ‏{‏وليتمّ نعمته عليكم‏}‏ أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة‏.‏ فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لعلّكم تشكرون‏}‏ أي رجاء شكركم إيّاه‏.‏ جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire