lundi 7 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***

سورة المائدة

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية الواقعة تذييلاً لقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏
والكلام مرتبط بما افتتحت به السورة من قوله‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ لأنّ في التذكير بالنعمة تعريضاً بالحثّ على الوفاء‏.‏
ذكّرهم بنعم مضت تذكيراً يقصد منه الحثّ على الشكر وعلى الوفاء بالعهود، والمراد من النّعمة جنسها لا نعمة معيّنة، وهي ما في الإسلام من العزّ والتمكين في الأرض وذهاب أحوال الجاهلية وصلاح أحوال الأمّة‏.‏
والميثاق‏:‏ العهد، وواثق‏:‏ عاهد‏.‏ وأطلق فعل وَاثق على معنى الميثاق الّذي أعطاه المسلمون، وعلى وعد الله لهم ما وعدهم على الوفاء بعهدهم‏.‏ ففي صيغة ‏{‏واثقكم‏}‏ استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان عُرّف هنا بالإضافة إلى قول معلوم عند المخاطبين‏.‏
والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّة عهود‏:‏ أوّلها عهد الإسلام كما تقدّم في صدر هذه السورة‏.‏ ومنها عهد المسلمين عندما يلاقون الرّسول عليه الصلاة والسلام وهو البيعة أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف، وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات، كما ورد في الصّحيح أنّه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك، ومنها بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحجّ سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة‏.‏ وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً التقَوا برسول الله بعد الموسم في العقبة ومعهم العبّاس بن عبد المطلب، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله كما يمنعون نساءهم وأبناءهم، وعلى أنّهم يأوونه إذا هاجر إليهم‏.‏ وقد تقدّم هذه البيعةَ بيعتان إحداهما سنة إحدى عشرة من البعثة، بايعة نَفَر من الخزرج في موسم الحجّ‏.‏ والثّانية سنة اثنتي عشرة من البعثة، بايع اثنا عشر رجلاً من الخزرج في موسم الحجّ بالعقبة ليبلّغوا الإسلام إلى قومهم‏.‏ ومن المواثيق ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ستّ من الهجرة، وفي كلّ ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمَكْرَه‏.‏
ومعنى ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ الاعتراف بالتّبليغ، والاعتراف بأنّهم سمعوا ما طُلب منهم العهد عليه‏.‏ فالسمع أريد به العلم بما واثقوا عليه، ويجوز أن يكون ‏{‏سمعنا‏}‏ مجازاً في الامتثال، ‏{‏وأطعنا‏}‏ تأكيداً له‏.‏ وهذا من استعمال سَمِع، ومنه قولهم‏:‏ بايَعوا على السمع والطّاعة‏.‏ وقال النّابغة يذكر حالة من لدغته حيّة فأخذوا يرقونه‏:‏
تَنَاذَرَهَا الرّاقُون من سُوء سمعها *** أي من سوء طاعتها للرقية، أي عدم نجاح الرقية في سمّها‏.‏ وعقّب ذلك بالأمر بالتّقوى؛ لأنّ النعمة تستحقّ أن يشكر مُسديها‏.‏ وشكر الله تَقواه‏.‏
وجملة ‏{‏إنّ الله عليم بذات الصدور‏}‏ تذييل للتحذير من إضمار المعاصي ومن توهّم أنّ الله لا يعلم إلاّ ما يبدو منهم‏.‏ وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ أفاد أنّ الجملة علّة لما قبلها على الأسلوب المقرّر في البلاغة في قول بشّار‏:‏
إنّ ذاك النجَاح في التبكير
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏
لمّا ذكّرهم بالنَعمة عقّب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم‏.‏
فالجملة استئناف نشأ عن ترقّب السامعين بعد تعداد النعم‏.‏ وقد تقدّم نظير هذه الآية في سورة النساء، ولكن آية سورة النساء ‏(‏135‏)‏ تقول‏:‏ ‏{‏كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله‏}‏ وما هنا بالعكس‏.‏
ووجه ذلك أنّ الآية الّتي في سورة النّساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله‏:‏ ‏{‏إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏، ثمّ تعرّضت لقضية بني أبيرق في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَكُن للخائنين خصيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏، ثمّ أردفت بأحكام المعاملة بين الرّجال والنّساء، فكان الأهمّ فيها أمرَ العدل فالشهادةِ‏.‏ فلذلك قدّم فيها ‏{‏كونوا قوامين بالقسط شهداء لله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء، ولذلك عدّي إليه بالباء، إذ قال‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين بالقسط‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏
وأمّا الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله، فكان المقام الأوّل للحصّ على القيام لله، أي الوفاء له بعهودهم له، ولذلك عدّي قوله‏:‏ ‏{‏قوّامين‏}‏ باللام‏.‏ وإذ كان العهد شهادة أتبع قولُه‏:‏ ‏{‏قوّامين لله‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏شهداء بالقسط‏}‏، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها، وأولَى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى‏.‏ وقد حصل من مجموع الآيتين‏:‏ وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له‏.‏
وتقدّم القول في معنى ‏{‏ولا يجرمنَّكم شنئان قوم‏}‏ قريباً، ولكنّه هنا صرّح بحرف ‏(‏على‏)‏ وقد بيّناه هنالك‏.‏ والكلام على العدل تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏
والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏هو أقرب‏}‏ عائد إلى العدل المفهوم من ‏{‏تعدلوا‏}‏، لأنّ عود الضمير يُكتفى فيه بكلّ ما يفهم حتّى قد يعودُ على ما لا ذكر له، نحو ‏{‏حتّى توارتْ بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ على أنّ العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب‏:‏
المرتبة الأولى‏:‏ أن تدخُل عليه ‏(‏أن‏)‏ المصدرية‏.‏
الثّانية‏:‏ أن تُحذف ‏(‏أن‏)‏ المصدريّة ويبقى النصب بها، كقول طرفة‏:‏
ألا أيّهذَا الزاجري أحْضُرَ الوغى *** وأن أشهدَ اللذاتتِ هَلْ أنت مُخلدي
بنصب ‏(‏أحضرُ‏)‏ في رواية، ودلّ عليه عطف ‏(‏وأن أشهد‏)‏‏.‏
الثّالثة‏:‏ أن تُحذف ‏(‏أن‏)‏ ويُرفع الفعل عملاً على القرينة، كما روي بيت طرفة ‏(‏أحضرُ‏)‏ برفع أحضرُ، ومنه قول المثل ‏(‏تَسْمَعُ بالمعيدي خير من أن تراه‏)‏، وفي الحديث «تحمل لأخِيك الركابَ صدقة»
الرابعة‏:‏ عود الضمير على الفعل مراداً به المصدر، كما في هذه الآية‏.‏ وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتّى يخيّل للنّاظر أنّه مثال فَذٌّ في بابه، وليس كذلك بل منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينذر الّذين قالوا اتّخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأمثلته كثيرة‏:‏ منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم به من علم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، فضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى القول المأخوذ من ‏{‏قالوا‏}‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏، فضمير ‏{‏فهو‏}‏ عائد للتعظيم المأخوذ من فعل ‏{‏يعظّم‏}‏، وقول بشّار‏:‏
واللَّه ربّ محمَّد *** مَا إن غَدَرْت ولا نوَيتُه
أي الغدر‏.‏
ومعنى ‏{‏أقرب للتقوى‏}‏ أي للتقوى الكاملة الّتي لا يشذّ معها شيء من الخير، وذلك أنّ العدل هو ملاك كبح النّفس عن الشهوة وذلك ملاك التّقوى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏
‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏‏}‏
عُقّب أمرهم بالتّقوى بذكر ما وَعد الله به المتّقين ترغيباً في الامتثال، وعطف عليه حال أضداد المتّقين ترهيباً‏.‏ فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً‏.‏ ومفعول ‏{‏وعد‏}‏ الثّاني محذوف تنزيلاً للفعل منزلة المتعدّي إلى واحد‏.‏
وجملة ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏وعد الله الذين آمنوا‏}‏، فاستغني بالبيان عن المفعول، فصار التقدير‏:‏ وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً لهم‏.‏ وإنَّما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرّر‏.‏
والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ قصر ادّعائي لأنّهم لمّا كانوا أحقّ النّاس بالجحيم وكانوا خالدين فيه جعلوا كالمنفردين به، أو هو قصر حقيقي إذا كانت إضافة ‏{‏أصحاب‏}‏ مؤذنة بمزيد الاختصاص بالشيء كما قالوه في مرادفها، وهو ذو كذا، كما نبّهوا عليه في قوله‏:‏ ‏{‏والله عزيز ذُو انتقام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ فيكون وجه هذا الاختصاص أنّهم الباقون في الجحيم أبداً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏
بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏ أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم، تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنّها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشّم مشاقّ الحرب ومتالفها‏.‏ وافتتاح الاستئناف بالنّداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه‏.‏ ولفظ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأنّ الحادثة تتعلّق بجماعة المؤمنين كلّهم‏.‏ وقد أجمل النعمة ثُمّ بيّنها بقوله‏:‏ ‏{‏إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم‏}‏‏.‏
وقد ذكر المفسّرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية‏.‏ والّذي يبدو لي أنّ المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذٍ؛ فيتعيّن أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة‏.‏ ولم أر فيما ذكروه ما تطمئنّ له النّفس‏.‏ والّذي أحسب أنّها تذكير بيوم الأحْزاب؛ لأنّها تشبه قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏
ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما كان من عزم أهل مكّة على الغدْر بالمسلمين حين نزول المسلمين بالحديبية عام صلح الحديبية ثُمّ عدلوا عن ذلك‏.‏ وقد أشارت إليها الآية‏:‏ ‏{‏وهو الّذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏ ويجوز أن تكون الإشارة إلى عزم أهل خيبر وأنصارهم من غطفان وبني أسد على قتال المسلمين حين حصار خيبر، ثم رجعوا عن عزمهم وألقَوا بأيديهم، وهي الّتي أشارت إليها آية‏:‏ ‏{‏وَعَدَكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه وكفّ أيديَ النّاس عنكم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وعن قتادة‏:‏ سبب الآية ما همَّت به بنو محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر فأشعر الله رسولَه بذلك، ونزلت صلاةُ الخوف، وكفّ الله أيديهم عن المؤمنين‏.‏
وأمّا ما يذكر من غير هذا ممّا همّ به بنو النضِير من قتل النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءهم يستعينهم على دية العامريَّيْننِ فتآمروا على أن يقتلوه، فأوحى الله إليه بذلك فخرج هو وأصحابه‏.‏ وكذا ما يذكر من أنّ المراد قصّة الأعرابي الّذي اخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل في مُنصرفه من إحدى غزواته، فذلك لا يناسب خطاب الّذين آمنوا، ولا يناسب قصّة الأعرابي لأنّ الّذي أهمّ بالقتل واحد لا قوم‏.‏
وبسط اليد مجاز في البطش قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويبسطوا إليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏ ويطلق على السلطة مجازاً أيضاً، كقولهم‏:‏ يجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على كلّ من بُسطت يدُه في الأرض؛ وعلى الجُود، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يَداه مبسوطتان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وهو حقيقة في محاولة الإمساك بشيء، كما في قوله تعالى حكاية عن ابن آدم ‏{‏لَئِن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَ إليك لأقتلك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وأمّا كفّ اليد فهو مجَاز عن الإعراض عن السوء خاصّة ‏{‏وكفّ أيديَ النّاس عنكم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏‏.‏ والأمر بالتقوى عقب ذلك لأنّها أظهر للشكر، فعطف الأمر بالتَّقوى بالواو للدلالة على أنّ التّقوى مقصودة لذاتها، وأنّها شكر لله بدلالة وقوع الأمر عقب التذكير بنعمة عظمى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكّل المؤمنون‏}‏ أمر لهم بالاعتماد على الله دون غيره‏.‏ وذلك التّوكل يعتمد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات فناسب التّقوى‏.‏ وكان من مظاهره تلك النّعمة الّتي ذُكّروا بها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏‏}‏
ناسب ذكرُ ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله‏:‏ ‏{‏وميثاقه الّذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏ تحذيراً من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم‏.‏ ومحلّ الموعظة هو قوله‏:‏ ‏{‏فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل‏}‏‏.‏ وهكذا شأن القرآن في التفنّن ومجيء الإرشاد في قالب القصص، والتنقّل من أسلوب إلى إسلوب‏.‏
وتأكيد الخبر الفعلي بقَد وباللام للاهتمام به، كما يجيء التأكيد بإنّ للاهتمام وليس ثَمّ متردّد ولا مُنزّل منزلتَه‏.‏ وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدّم في سورة البقرة‏.‏
والبعث أصله التوجيه والإرسال، ويطلق مجازاً على الإقامة والإنهاض كقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ بعثنا من مرقَدنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فهذا يوم البعث‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ثم شاع هذا المجاز حتّى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازية ‏{‏إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، ثُمّ أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس‏.‏ قال مُتمم بن نويرة‏:‏
فقلت لهم إنّ الأسى يَبْعَثُ الأسى *** أي أنّ الحزن يثير حزناً آخر‏.‏ وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثّالث‏.‏
والعدولُ عن طريق الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله‏}‏ إلى طريق التكلّم في قوله‏:‏ ‏{‏وبعثَنا‏}‏ التفات‏.‏
والنقيب فَعيل بمعنى فاعل‏:‏ إمّا من نَقَب إذا حفر مجازاً، أو من نقَّب إذا بعث ‏{‏فنقَّبُوا في البلاد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 36‏]‏، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمعَ في قول عمرو بن معد يكرب‏:‏
أمِن ريحانةَ الداعي السمِيع *** أي المُسْمع‏.‏
ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المُحكم للأمور‏.‏ فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم، لأنّ ذلك يجعله باحثاً عن أحوالهم؛ فيطلق على الرّئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أنّ نقباء الأنصار يومئذٍ كانوا اثني عشر رجلاً‏.‏
والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش، ويجوز أن يكونوا رُواداً وجواسيس، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل‏.‏
فأمّا الأوّل فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة، وقد أقام موسى عليْه السّلام من بني إسرائيل اثني عشر رئيساً على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجنّدين، فجعل لكلّ سبط نقيباً، وجعل لسبط يوسف نقيبين، ولم يجعل لسبط لاوي نقيباً، لأنّ اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة، فقد جاء في أوّل سفر العَدد‏:‏ كلّم الله موسى‏:‏ أحصوا كلّ جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعداً كلّ خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم، تحسبهم أنت وهارون، ويكون معكما رجل لكلّ سبط رؤوس ألوف إسرائيل «وكلّم الربّ موسى قائلاً‏:‏ أمّا سبط لاوي فلا تعدّه بل وكِّلْ اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته»‏.‏ وكان ذلك في الشهر الثّاني من السنة الثّانية من خروجهم من مصر في برية سينا‏.‏
وأمّا الثّاني فيناسب أن يكون البعث فيه بمعناه الأصلي، فقد بعث موسى اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل لاختبار أحوال الأمم الَّتي حولهم في أرض كنعان، وهم غير الاثني عشر نقيباً الذين جعلهم رؤساء على قبائلهم‏.‏ ومن هؤلاء يوشع بن نون من سبط أفرايم، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏، كما سيأتي في هذه السورة‏.‏ وقد ذُكرت أسماؤهم في الفصل الثالث عشر من سفر العدد‏.‏ والظاهر أنّ المراد هنا النقباء الّذين أقيموا لجند إسرائيل‏.‏
والمعيّة في قوله‏:‏ ‏{‏إنّي معكم‏}‏ معيّة مجازية، تمثيل للعناية والحفظ والنصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنِّي معكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والظاهر أنّ هذا القول وقع وعداً بالجزاء على الوفاء بالميثاق‏.‏
وجملة ‏{‏لئن أقمتم الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ واستئناف محْض ليس منها شيء يتعلّق ببعض ألفاظ الجملة الّتي قبلها وإنَّما جمعهما العامل، وهو فعل القول، فكلتاهما مقول، ولذلك يحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏إنّي معكم‏}‏، ثم يُستأنف قوله‏:‏ ‏{‏لئن أقمتم الصّلاة‏}‏ إلى آخره‏.‏ ولام ‏{‏لئن أقمتم‏}‏ موطّئة للقسم، ولام ‏{‏لأكَفِّرَنَّ‏}‏ لام جواب القسم، ولعلّ هذا بعض ما تضمّنه الميثاق، كما أنّ قوله‏:‏ ‏{‏لأكفرنّ عنكم سيّئاتكم‏}‏ بعض ما شمله قوله‏:‏ ‏{‏إنِّي معكم‏}‏‏.‏
والمراد بالزكاة ما كان مفروضاً على بني إسرائيل‏:‏ من إعطائهم عشر محصولات ثمارهم وزرعهم، ممّا جاء في الفصل الثامن عشر من سفر العدد، والفصل الرابع عشر والفصل التاسع عشر من سفر التثنية‏.‏ وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏43‏)‏‏.‏
والتعزيرُ‏:‏ النصر‏.‏ يقال‏:‏ عزَره مخفّفاً، وعزّره مشدّداً، وهو مبالغة في عزَرَهُ عزراً إذا نصره، وأصله المنع، لأنّ النّاصر يمنع المعتدي على منصوره‏.‏
ومعنى وأقرضتم الله قرضاً حسناً‏}‏ الصدقات غير الواجبة‏.‏
وتكفير السيّئات‏:‏ مغفرة ما فرط منهم من التعاصي للرسول فجعل الطاعة والتوبة مُكفّرتين عن المعاصي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فقد ضلّ سواء السبيل‏}‏ أي فقد حاد عن الطريق المستقيم، وذلك لا عذر للسائر فيه حين يضلّه، لأنّ الطريق السوي لا يحوج السائر فيه إلى الروغان في ثنيّاتتٍ قد تختلط عليه وتفضي به إلى التيه في الضلال‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم‏}‏ قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏160‏)‏‏.‏
واللعن هو الإبعاد، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق‏.‏
وجَعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ قساوة القلب مجاز، إذْ أصلها الصلابة والشدّة، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قاسية‏}‏ بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏قَسِيَّة‏}‏ فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو‏.‏
وجملة ‏{‏يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه‏}‏ استئناف أو حال من ضمير ‏{‏لَعنّاهم‏}‏‏.‏ والتحريف‏:‏ الميل بالشيء إلى الحرف، والحرف هو الجانب‏.‏ وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه؛ فمن ذلك قولهم‏:‏ السلوك، والسيرة؛ والسعي؛ ومن ذلك قولهم‏:‏ الصراط المستقيم، وصراطاً سوياً، وسواء السبيل، وجادّة الطريق، والطريقة الواضحة، وسواء الطريق؛ وفي عكس ذلك قالوا‏:‏ المراوغة، والانحراف، وقالوا‏:‏ بنيَّات الطريق، ويعْبُد الله على حرف، ويشعِّبُ الأمور‏.‏ وكذلك ما هنا، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية‏.‏ وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة، قيل‏:‏ ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم‏.‏ وعن ابن عبّاس‏:‏ ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل‏.‏ وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه‏}‏ في سورة النساء ‏(‏46‏)‏‏.‏ وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم‏.‏
وجملة ونسوا حظّاً‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏يحرّفون‏}‏‏.‏ والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً‏.‏ وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد، فإذا حصل مضى، حتّى يُذكّره مُذكِّر‏.‏ وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى‏.‏
والحظّ النصيب، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ‏.‏ وما ذكّروا به هو التّوراة‏.‏
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك‏:‏ وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشئ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به‏.‏
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها‏.‏ وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس‏:‏ يجوز أن يقال‏:‏ هو دين الله، ولا يجوز أن يُقال‏:‏ قاله الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تزال تطّلع على خائنة منهم‏}‏ انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل ‏{‏لا تزال‏}‏ يدلّ على استمرار، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال‏:‏ يدوم اطّلاعك‏.‏ فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم‏.‏
والاطّلاع افتعال من طَلع‏.‏ والطلوع‏:‏ الصعود‏.‏ وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع، فاطّلع بمنزلة تطّلع، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم‏.‏
والخائنة‏:‏ الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة، كالعاقبة، والطاغية‏.‏ ومنه ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وأصْل الخيانة‏:‏ عدم الوفاء بالعهد، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏خائنة‏}‏ صفة لمحذوف، أي فرقة خائنة‏.‏
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية، فلا يعارض هذا قوله في براءة ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏
‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى‏.‏ وجاءت الجملة على سبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قُدّم متعلِّق ‏{‏أخَذْنا ميثاقهم‏}‏ وفيه اسْم ظاهر، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلِّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه الظاهر وبضميره، فالتقدير‏:‏ وأخذنا، من الذين قالوا‏:‏ إنّا نصارى، ميثاقهم، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر‏.‏ وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏ميثاقهم‏}‏ عائد إلى اليهود، والإضافة على معنى التشبيه، أي من النصارى أخذنا ميثاقَ اليهود، أي مثلَه، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به‏.‏ وهذا بعيد، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى‏.‏
وعبّر عن النصارى ب ‏{‏الذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ هُنا وفي قوله الآتي‏:‏ ‏{‏ولتجدنّ أقبربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏ تسجيلاً عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصاراً لِما يأمر به الله، ‏{‏كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاريَ إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدّين بعْد عيسى من أتباعه، مثل بُولس وبَطرس وغيرهما من دعاة الهدى؛ وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبيءَ المبشَّر به في التَّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلِّص النّاس من الضلال ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمِنُنّ به ولتَنْصُرُنَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ الآية‏.‏ فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصّة النّصارى، فهذا اللقب، وهو النصارى، حجّة عليهم قائمة بهم متلبّسة بجماعتهم كلّها‏.‏
ويفيد لفظ ‏{‏قالوا‏}‏ بطريق التعريض الكنائي أنّ هذا القول غير موفًّى به وأنّه يجب أن يوفّى به‏.‏ هذا إذا كان النصارى جمعاً لنَاصرِيّ أو نصْرانِي على معنى النسبة إلى النّصر مبالغة، كقولهم‏:‏ شَعْرَاني، ولِحيَاني، أي النّاصر الشديد النصر؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ، بمعنى المنسوب إلى الناصري، والناصري عيسى، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة‏.‏ فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السّلام في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏قالوا إنَّا نصارى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ النصارى جمع نصراني، منسوب إلى النصْر‏:‏ كما قالوا‏:‏ شعراني، ولِحياني، لأنّهم قالوا‏:‏ نحن أنصار الله‏.‏ وعليه فمعنى ‏{‏قالوا‏:‏ إنّا نصارى‏}‏ أنّهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيّدوه بفعلهم‏.‏
وقد أخذ الله على النصارى ميثاقاً على لسان المسيح عليه السّلام‏.‏ وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فأغرينا بينهم العداوة‏}‏ حقيقة الإغراء حَثّ أحدٍ على فعل وتحسينُه إليه حتّى لا يتوانى في تحصيله؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم، أي لزومهما لهم فيما بينهم، شُبّه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحداً بعمل يعمل تشبيه معقول بمحسوس‏.‏ ولمّا دلّ الظرف، وهو ‏{‏بينَهم‏}‏، على أنّهما أغْرِيَتَا بهم استُغني عن ذكر متعلّق ‏{‏أغرينا‏}‏‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ فأغرينا العداوة والبغضاء بِهم كائنتين بينهم‏.‏ ويُشبه أن يكون العدول على تعدية «أغرينا» بحرف الجرّ إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريداً لبيان أنّ المراد ب ‏{‏أغرينا‏}‏ ألْقينا‏.‏
وما وقع في «الكشاف» من تفسير ‏{‏أغرينا‏}‏ بمعنى ألصقنا تطوّح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغِرَاءِ، وهو الدهن الذي يُلْصق الخشب به، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال‏.‏ والعداوة والضمير المجرور بإضافة بينَ إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضّمائر‏.‏
والعداوَة والبغضاءُ اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة، فهما ضدّان للمحبّة‏.‏
وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب بُبعِّد أن يكون لمجرّد التّأكيد، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد، كقوله عَدِي‏:‏
وألْفَى قَولهَا كَذِبا وَمَيْنا *** وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء، وتابعهم المفسّرون على ذلك؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي، فقال في «تفسيره» «العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة، وقد يتمادى على ذلك» اه‏.‏
ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب «الكليّات» أنّه قال‏:‏ «العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض، وقد يُبغِض من ليس بعدوّ»‏.‏ وهو يخالف كلام ابن عرفة‏.‏ وفي تعليليْهما مصادرة واضحة، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادتْ فائدةُ العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلاّ للتّأكيد، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعْضضٍ مُطلققٍ من معنى الموكَّذ، فيتقرّر المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد‏.‏
وعندي‏:‏ أنّ كلا الوجهين غير ظاهر، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها‏:‏ معاملةٌ بجفاء، أو قطيعة، أو إضرار، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإنّ مشتقّات مادة ‏(‏ع د و‏)‏ كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام‏.‏ وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض، وليس في مادة ‏(‏ب غ ض‏)‏ إلاّ معنَى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها‏.‏ نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب، وهو من علامات الاشتقاق، فإنّ مقلوب بَغِض يكون غَضِب لا غير، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بَعَدوْ، فهي مضمرة في النفس‏.‏
فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضضٍ آخر‏.‏ فوقع في هذا النظم إيجاز بديع، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد‏.‏
ومن اللّطائف ما ذكره ابن هشام، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب‏:‏
لكنَّها خُلّة قد سِيط من دَمها *** فَجْع وولْع وإخلاف وتبديل
أنّ الزمخشري قال‏:‏ إنّه رأى نفسه في النّوم يقول‏:‏ العداوة مشتقّة من عُدوة الوادي، أي جانبه، لأنّ المتعاديين يكون أحدهما مفارقاً للآخر فكأنّ كلّ واحد منهما على عدوة اه‏.‏ فيكون مشتقّاً من الاسم الجامد وهو بعيد‏.‏
وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقاباً في الدنيا لقوله‏:‏ ‏{‏إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون‏}‏ جزاء على نكثهم العهد‏.‏ وأسباب العداوة والبغضاء شدّة الاختلاف‏:‏ فتكون من اختلافهم في نحَل الدّين بين يعاقبة، وملكانية، ونسطورية، وهراتقة ‏(‏بروتستانت‏)‏؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدّنيا، كما كان بين ملوك النّصرانية، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلْبا على المسلمين‏؟‏ فجوابه‏:‏ أنّ العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فِرقاً، كما قدّمناه في سورة النساء ‏(‏171‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه‏}‏، وذلك الانقسام يجرّ إليهم العداوة وخذْل بعضهم بعضاً‏.‏ ثمّ إنّ دولهم كانت منقسمة ومتحاربة، ولم تزل كذلك، وإنّما تألّبوا في الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن‏.‏ وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم، وكان اختلافهم لطفاً بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكُّن العداوة فيما بينهم، وكفى بذلك عقاباً لهم على نسيانهم ما ذكّروا به‏.‏
وقيل‏:‏ الضمير عائد على الفريقين، أي بين اليهود والنصارى، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين‏.‏
وقوله‏:‏ وسوف ينبّئُهم الله‏}‏ تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم، كقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 135‏]‏‏.‏ وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته، ويحتمل أن يحصل في الدنيا، فالأنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏
‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبَائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة؛ إذ قد تهيَّأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم، ولذلك ابتدئ وصفُ الرسول بأنّه يبيَّن لهم كثيراً ممّا كانوا يخفون من الكتاب، ثم أعقبه بأنَّه يعفو عن كثير‏.‏
ومعنى ‏{‏يعفو‏}‏ يُعرض ولا يُظهر، وهو أصل مادّة العفو‏.‏ يقال‏:‏ عفا الرسم، بمعنى لم يظهر، وعفاه‏:‏ أزال ظهوره‏.‏ ثم قالوا‏:‏ عفا عن الذنب، بمعنى أعرض، ثم قالوا‏:‏ عفا عن المذنب، بمعنى ستر عنه ذنبه، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جلهكم‏.‏
وجملة ‏{‏قد جاءكم من الله نور‏}‏ بدل من جملة ‏{‏قد جاءكم رسولنا‏}‏ بدل اشتمال، لأنّ مجيء الرسول اشتمَل على مجيء الهُدى والقرآن، فوزانها وزان ‏(‏عِلمُه‏)‏ من قولهم‏:‏ نفعني زيد علمه، ولذلك فصلت عنها، وأعيد حرف ‏(‏قَد‏)‏ الداخل على الجملة المبدل منها زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل، لأنّ تعلّق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلّق البدل المطابق‏.‏
وضمير ‏{‏به‏}‏ راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين‏.‏
وسُبلُ السلام‏:‏ طرق السلامة الّتي لا خوف على السائر فيها‏.‏ وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة، مثل وادي السباع، الذي قال فيه سُحيم بن وثيل الرياحي‏:‏
ومررتُ على وادي السباع ولا أرى *** كوادِي السباع حين يُظلِم وادِيا
أقَلّ به ركبٌ أتوهَ تَئِيَّةً *** وأخوفَ إلاّ ما وقى اللّهُ ساريا
فسبيل السلام استعارة لطرق الحقّ‏.‏ والظلماتُ والنّور استعارة للضلال والهدى‏.‏ والصراط المستقيم مستعار للإيمان‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏
هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى‏.‏ كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى عليه السلام، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم، فاستأنف هذه الجملة ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ استئنافَ البيان‏.‏ وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً‏.‏
وحُكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة ‏{‏إنّ الله هو المسيحُ ابن مريم‏}‏، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حَقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به، من تركيبه، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلَمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصوداً للإخبار بأَحداث لِذواتتٍ، المسمّى في الاصطلاح‏:‏ حملَ اشتقاق بل هو حمل مواطأة، وهو ما يسمّى في المنطق‏:‏ حمل ‏(‏هُوَ هُوَ‏)‏، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوماً للمخاطب ويراد بيان أنّها شيء واحد، كقولك حين تقول‏:‏ قال زياد، فيقول سامعك‏:‏ من هو زياد، فتقول‏:‏ زياد هو النّابغة، ومثله قولك‏:‏ ميمون هو الأعشى، وابن أبي السّمْط هو مروان بن أبي حَفْصة، والمُرعَّث هو بشّار، وأمثال ذلك‏.‏ فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصداً لتأكيد الاتّحاد، فليس في مثل هذا التّركيب إفادةُ قصر أحد الجزأين على الآخر، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئاً سوى التّأكيد‏.‏ وكذلك وجود حرف ‏(‏إنّ‏)‏ لزيادة التّأكيد، ونظيره قول رُوَيشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة‏:‏
وَقُلْ لَهم بَادِروا بالعُذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إنّي أنَا الموت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه، وهو الأصحّ؛ أو العكس، وهو قليل، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر‏.‏ وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب «الكشّاف» عقب قوله‏:‏ ‏{‏الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ «معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير»‏.‏ ومحلّ الشاهد من كلام «الكشّاف» ما عدا قوله ‏(‏لا غير‏)‏، لأنّ الظاهر أن ‏(‏لا غير‏)‏ يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب، وهو بعيد‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئاً عن صيغة قصر‏.‏
ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى‏.‏
ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح‏.‏
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى‏.‏ وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول‏.‏ وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد، هو مجموع ثلاثة أقانيم ‏(‏جمع أقنوم بضمّ الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها‏:‏ الأصل، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب‏:‏ مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية ‏(‏الكاثوليك‏)‏، ومذهب النَّسْطُورية، ومذهب اليَعقوبية‏.‏ وتفصيله في كتاب «المقاصد»‏.‏ وتقدّم مفصّلاً عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ في سورة ‏[‏النّساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وهذا قول اليعاقبة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البرذعاني، وكان راهباً بالقسطنطينية، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية، ويقال لِليعاقبة‏:‏ أصحاب الطبيعة الواحدة، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم‏.‏ ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة‏.‏
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة‏.‏ وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏
وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله‏:‏ قل فمن يملك من الله شيئاً‏}‏ الآية، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم‏:‏ إنّ الله هو المسيح، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع، فهي للتعقيب الذِكري، وهذا استعمال كثير في كلامهم، فلا حاجة إلى ما قيل‏:‏ إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق، أي ليس الأمر كما زعمتم، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئاً، إلخ‏.‏
ومعنى يملك شيئاً هنا يَقْدِر على شيء، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك، فاستطاعةُ التحويل، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرادَ بكم ضَرّا‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء‏.‏
فالتنكير في قوله شيئاً‏}‏ للتقليل والتحقير‏.‏ ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضياً نفي الكثير بطريق الأولى، فالمعنى‏:‏ فمن يقدر على شيء من الله، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه، ونظيره
‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وسيأتي لمعنى «يملك» استعمال آخر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرّاً ولا نفعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 76‏]‏ في هذه السورة، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً في هذه السورة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وحرف الشرْط من قوله‏:‏ ‏{‏إن أراد‏}‏ مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف، ولأنّ إهلاك المسيح، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة، وهو أيضاً واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا‏:‏ إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنّي متوفّيك ورافعك إليّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال‏.‏ والمضارع المقترن بأن وهو ‏{‏أن يهلك‏}‏ مستعمل في مجرّد المصدرية‏.‏ والمرادُ ب ‏{‏مَن في الأرض‏}‏ حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة‏.‏ والتّقدير‏:‏ مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ‏.‏
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل ‏{‏من في الأرض جميعاً‏}‏ بمعنى نوع الإنسان، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل ‏{‏يُهلك‏}‏ على طريقة التغليب؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعاً، أي إهلاك جميع النّوع، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع‏.‏
والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليباً للمعنى الحقيقي، لأنّ ‏{‏مَنْ في الأرض‏}‏ يعمّ الجميع وهو الأكثر‏.‏ ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان‏.‏ وقد هلكت مريم أمّ المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح‏.‏
والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء‏}‏ فيه تعظيم شأن الله تعالى‏.‏ وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يَظهر المسيح، فالله هو الإله حقّاً، وأنّه يخلق ما يشاء، فهو الّذي خلق المسيح خلقاً غير معتاد، فكان موجِب ضلال من نسب له الألوهية‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏والله على كلّ شيء قدير‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏
مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدلّ على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى، ثمّ هو مناقض لمقالاتهم الأخرى‏.‏ عُطف على المقال المختصّ بالنصارى، وهو جملة ‏{‏لقد كَفَر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقد وقع في التّوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله؛ ففي سفر التثنية أوّل الفصل الرابع عشر قول موسى «أنتُم أولاد للربّ أبيكم»‏.‏ وأمّا الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح، وبأبي المؤمنين به، وتسمية المؤمنين أبناءَ الله في متّى في الإصحاح الثّالث «وصوت من السماء قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وفي الإصْحاح الخامس «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناءَ الله يُدعون»‏.‏ وفي الإصحاح السادس «وأبوكم السماوي يقُوتها»‏.‏ وفي الإصحاح العاشر «لأِنْ لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم»‏.‏ وكلّها جائية على ضرب من التشبيه فتوهّمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها‏.‏
وعطف ‏{‏وأحبّاؤه‏}‏ على ‏{‏أبناءُ الله‏}‏ أنّهم قصدوا أنّهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوباً عليه‏.‏
وقد علَّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقْضَيْن‏:‏ أولهما من الشريعة، وهو قوله ‏{‏قل فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم‏}‏ يعنِي أنّهم قائلون بأنّ نصيباً من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم، وشأن المحبُّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه‏.‏ رُوي أنّ الشِّبْلي سأل أبا بكر بن مجاهد‏:‏ أين تَجد في القرآن أنّ المُحبّ لا يعذِّب حبيبَه فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله‏:‏ ‏{‏قل فلِم يعذّبكم بذنوبكم‏}‏‏.‏ وليس المقصود من هذا أنّ يَردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، مِن تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للردّ به، إذ يصير الردّ مُصَادَرَة، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا‏.‏ فأمّا اليهود فكُتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لَنْ تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكراً لِعذاب الآخرة إلاّ أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصاً وشافعاً وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يُلزمهم الاعترافَ بأنّ العذاب كان مكتوباً على الجميع لولا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا‏.‏
ثم أُخذت النتيجةُ من البرهان بقوله‏:‏ ‏{‏بل أنتم بشر ممّن خلق‏}‏ أي يَنالكم ما ينال سائر البشر‏.‏ وفي هذا تعريض أيضاً بأنّ المسيح بَشَر، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل‏.‏
وجملة قوله‏:‏ ‏{‏يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء‏}‏ كالاحتراس، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تَبِعة خطيئة آدم فقال‏:‏ ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏، أي من البشر ‏{‏ويعذّب من يشاء‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏
كَرّر الله موعظتهم ودعوتَهم بعد أن بيّن لهم فسادَ عقائدهم وغرورَ أنفسهم بياناً لا يدع للمنصف متمسَّكاً بتلك الضلالات، كما وعظهم ودعَاهُم آنفاً بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق‏.‏ فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏ الآيات، إلاّ أنّه ذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكِّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بِدعاً من الرسل إذ كانوا يَجيئون على فِتَر بينهم‏.‏ وذُكِر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذُكر قبلَ الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة، وما ذكر قبلَ الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون عِلمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يبيّن‏}‏ لظهور أنّ المراد بيان الشريعة‏.‏ فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لِجملة ‏{‏يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏، فلذلك فصلت‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏على فَترة من الرسل‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يبيّن لكم‏}‏، فهو ظرف مستقرّ، ويجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلّقاً ب ‏{‏جاءكم‏}‏‏.‏ ويجوز تعلّقه بفعل ‏{‏يبيّن‏}‏ لأنّ البيان انقطع في مدّة الفترة‏.‏
و ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي بمعنى ‏(‏بَعْد‏)‏ لأنّ المستعليَ يستقرّ بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه، فشبّه استقراره بعده باستعلائه عليه، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء‏.‏
والفترة‏:‏ انقطاع عمل مّا‏.‏ وحرف ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن الرسل‏}‏ للابتداء، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدّة وجود الرسل، أي أيام إرسال الرسل‏.‏
والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدّين، فكما سمّي الرسول رسولاً سمّى تبليغه مجيئاً تشبيهاً بمجيء المُرسَل من أحَدٍ إلى آخر‏.‏
والمراد بالرسل رُسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح، أو أريد المسيح خاصّة‏.‏ والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة‏.‏ وأمّا غيرُ أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان‏.‏
و ‏{‏أن تقولوا‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏قد جاءكم‏}‏ لبيان بعض الحِكَم من بعثة الرسول، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة، أو تقريعهم في الدّنيا على ما غيّروا من شرائعهم، لئلاّ يكون من معاذيرهم أنّهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الدّيانة، فلعلّهم أن يعتذروا بأنّهم لمّا مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتّجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنّهم لو جاءهم رسول لاهتدَوا‏.‏ فالمعنى أن تقولوا‏:‏ ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى‏.‏ وليس المراد أن يقولوا‏:‏ ما جاءنا رسول إلينا أصلاً، فإنّهم لا يدّعون ذلك، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى‏.‏
فكان قوله‏:‏ ‏{‏أنّ تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏ تعليلاً لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ومتعلّقاً بفعل ‏{‏ما جَاءنا‏}‏‏.‏ ووجب تقدير لام التّعليل قبل ‏(‏أنْ‏)‏ وهو تقدير يقتضيه المعنى‏.‏ ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجرّ قبل ‏(‏أنْ‏)‏ حذفاً مطّرداً، والمقام يعيّن الحرف المحذوف؛ فالمحذوف هنا حرف اللام‏.‏
ويُشكل معنى الآية بأنّ علّة إرسال الرسول إليهم هي انتفاءُ أن يقولوا ‏{‏ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏ لا إثباتُه كما هو واضح، فلماذا لم يُقَل‏:‏ أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
فعجّلنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا *** أراد أن لا تشتمونا‏.‏ فاختلف النحْويون في تقدير ما به يتقوّم المعنى في الآيات وغيرها‏:‏ فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولاً لأجله لفعل ‏{‏جاءكم‏}‏، وقدّروه‏:‏ ‏(‏كراهية أن تقولوا‏)‏، وعليه درج صاحب «الكشّاف» ومتابعوه من جمهور المفسّرين؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد ‏(‏أنْ‏)‏، والتقدير‏:‏ أنْ لا تقولوا، ودرج عليه بعض المفسّرين مثل البَغوي؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتماداً على قرينة السياق والمقام‏.‏ وزعم ابن هشام في «مغني اللبيب» أنّه تعسّف، وذكر أنّ بعض النحويين زعم أنّ من معاني ‏(‏أنْ‏)‏ أن تكون بمعنى ‏(‏لَئِلاّ‏)‏‏.‏
وعندي‏:‏ أنّ الذي ألجأ النحويين والمفسّرين لهذا التأويل هو البناء على أنّ ‏(‏أنْ‏)‏ تُخلِّصُ المضارع للاستقبال فتقتضي أنّ قول أهل الكتاب‏:‏ ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية، وأنه مقدّر حصوله في المستقبل‏.‏ ويظهر أنّ إفادة ‏(‏أنْ‏)‏ تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكْثريَّة وليست بمطّردة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيّان وذكر أنّ أبا بكر الباقلاني ذهب إليه، بل قد تفيد ‏(‏أن‏)‏ مجرد المصدرية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، وقول امرئ القيس‏:‏
فإمَّا تَرَيْني لا أغمّض ساعة *** مِن الليل إلاّ أن أكبّ وأنْعَسَا
فإنّه لا يريد أنّه ينعس في المستقبل‏.‏ وأنّ صَرْفَها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن، فيكون المعنى هنا أنّ أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الّذين اتّبعوا الحنيفية، كأمية بن أبي الصلت وزيدِ بن عمرو بن نُفيل، أو قاله اليهود لنصارى العرب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بشير ونذير‏}‏ الفاء فيه للفصيحة، وقد ظهر حسن موقعها بما قرّرتُ به معنى التعليل، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير‏.‏ ونظير هذا قول عباس بن الأحنف‏:‏
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثم القُفُول فقد جئْنا خُراسانا
تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
عطف القصة على القصص والمواعظ‏.‏ وتقدّم القول في نظائر ‏{‏وإذ قال‏}‏ في مواضع منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة‏}‏ في البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيداً لطلب امتثالهم‏.‏
وقدّم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليُهيّئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليُوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم، فذكر نعمة الله عليهم، وعَدّ لهم ثلاث نعم عظيمة‏:‏
أولاها‏:‏‏}‏ أنّ فيهم أنبياء، ومعنى جَعْل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياءَ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه، وذلك بعد موت أخيه هارون، لأنّ هذه القصّة وقعتْ بعد موت هارون؛ فيكون قوله ‏{‏أنبياءَ‏}‏ جمعاً أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع، لأنّ الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية، وهذا الجِنس انحصر في فرد يومئذٍ، كقوله تعالى ‏{‏يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء‏.‏ فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة، كما هو صريح التوراة ‏(‏إصحاح 15 من الخروج‏)‏‏.‏ وكذلك ألْدَاد ومَيْدَاد كانا نبيئين في زمنَ موسى، كما في التّوراة ‏(‏إصحاح11 سفر العدد‏)‏‏.‏ وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمانَ الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم، وفيه أيضاً حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال‏.‏
والثانية‏:‏ أنْ جعلهم ملوكاً، وهذا تشبيه بليغ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها، من الآموربين، والعَناقيين، والحشبونيين، والرفائيين، والعمالقة، والكنعانيين، أو استعمل فعل ‏{‏جعلكم‏}‏ في معنى الاستقبال مثل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ قصداً لتحقيق الخبر، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم‏.‏
والنعمة الثالثة‏:‏ أنّه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ومَا صدقُ ‏(‏ما‏)‏ يجوز أن يكون شيئاً واحداً ممّا خَصّ الله به بني إسرائيل، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة، وأيّدهم بالنّصر في طريقهم، وساق إليهم رزقَهُم المنّ والسلوى أربعين سنة، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رُسله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة‏}‏ هو الغرض من الخطاب، فهو كالمقصد بعد المقدّمة، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب ‏{‏يَا قَوم‏}‏ لزيادة استحضار أذهانهم‏.‏ والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه، أي تهيَّأوا للدخول‏.‏ والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة، أي الّتي بارك الله فيها، أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون‏.‏
وهي هنا أرض كنعان من برية ‏(‏صِين‏)‏ إلى مدخل ‏(‏حَمَاة وإلى حبرون‏)‏‏.‏ وهذه الأرض هي أرض فلسطين، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ‏(‏حماة‏)‏ شمالاً وإلى ‏(‏غَزّة وحبرون‏)‏ جنوباً‏.‏ وفي وصفها ب ‏{‏التي كتب الله‏}‏ تحريض على الإقدام لدخولهَا‏.‏
ومعنى ‏{‏كتب الله‏}‏ قَضَى وقدّر، وليس ثمّة كتابة ولكنّه تعبير مجازي شائع في اللّغة، لأنّ الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه، كما قال الحارث بن حلّزة‏:‏
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء *** فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله، وذلك أنّ الله وعد إبراهيم أن يورثها ذرّيته‏.‏ ووعدُ الله لا يُخلف‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا ترتَدّوا على أدباركم‏}‏ تحذير ممّا يوجب الانهزام، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال‏.‏ والارتداد افتعال من الردّ، يقال‏:‏ ردّه فارتدّ، والردّ‏:‏ إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه‏.‏ والأدبار‏:‏ جمع دُبُر، وهو الظهر‏.‏ والارتداد‏:‏ الرجوع، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره، كما يقُولون‏:‏ نكص على عقبيه، وركبوا ظهورهم، وارتدّوا على أدبارهم، وعلى أعقابهم، فعدّي ب ‏{‏على‏}‏ الدالّة على الاستعلاء، أي استعلاء طريق السير، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه‏.‏
والانقلاب‏:‏ الرجوع، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 174‏]‏‏.‏ والمراد به هنا مطلق المصير‏.‏ وضمائر ‏{‏فيها‏}‏ و‏{‏منها‏}‏ تعود إلى الأرض المقدّسة‏.‏
وأرادوا بالقوم الجبّارين في الأرض سكّانها الكنعانيين، والعمالقة، والحثيين، واليبوسيين، والأموريين‏.‏ والجبّار‏:‏ القوي، مشتقّ من الجَبْر، وهو الإلزام لأنّ القويّ يجبر النّاس على ما يريد‏.‏
وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الّذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم بجودة الأرض وبقوّة سكّانها‏.‏ وهذا كناية عن مخالفتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدّسة، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفاً من أهلها، وأكّدوا الامتناع من دخول أرض العدوّ توكيداً قويّاً بمدلول ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏لنْ‏)‏ في ‏{‏إنّا لن ندخلها‏}‏ تحقيقاً لخوفهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون‏}‏ تصريح بمفهوم الغاية في قوله‏:‏ ‏{‏وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها‏}‏ لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبّارين الذين فيها‏.‏
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد‏:‏ «أنّ الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلاً جواسيس يتجسّسون أرض كنعان الّتي وعدَها الله بني إسرائيل من كلّ سبط رجلاً؛ فعيّن موسى اثني عشر رجلاً، منهم‏:‏ يوشع بن نون من سبط أفرايم، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا، ولم يسمّوا بقية الجواسيس‏.‏
فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكّانها معتزّين، طوال القامات، ومُدنهم حصينة‏.‏ فلمّا سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمّروا على موسى وقالوا‏:‏ لوْ متنا في أرض مصر كان خيراً لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا، فقال يوشع وكالب للشعب‏:‏ إن رَضي الله عنّا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الربّ ولا تخافوا من أهلها، فالله معنا‏.‏ فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم‏.‏ وقال لموسى‏:‏ لا يدخل أحد مَن سِنُّه عشرون سنة فصاعداً هذه الأرض إلاّ يوشع وكالباً وكلّكم ستدفنون في هذا القفر، ويكون أبناؤكم رُعاة فيه أربعين سنة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏
‏{‏قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
فُصلت هذه الجمل الأربع جرياً على طريقة المحاورة كما بيّنّاه سالفاً في سورة البقرة‏.‏ والرجلان هما يوشع وكالب‏.‏ ووُصف الرجلان بأنّهم ‏{‏من الّذين يخافون‏}‏ فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله‏:‏ ‏{‏يخافون‏}‏ الخوفُ من العدوّ؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل‏.‏ جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمّة الخوف وعدم الشجاعة، فيكون «مِن» في قوله‏:‏ ‏{‏من الذين يخافون‏}‏ اتّصالية وهي الّتي في نحو قولهم‏:‏ لستُ منك ولستَ منّي، أي ينتسبون إلى الذين يخافون‏.‏ وليس المعنى أنّهم متّصفون بالخوف بقرينة أنّهم حرّضوا قومهم على غزو العدوّ، وعليه يكون قوله‏:‏ ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ أنّ الله أنعم عليهما بالشجاعة، فحذف متعلّق فعل «أنعم» اكتفاء بدلالة السياق عليه‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوفَ من الله تعالى، أي كان قولهما لقومها «ادخلوا عليهم الباب» ناشئاً عن خوفهما الله تعالى، فيكون تعريضاً بأنّ الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ استئنافاً بيانياً لبيان منشأ خوفهما الله تعالى، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما‏.‏ وهذا يقتضي أنّ الشجاعة في نصر الدّين نعمة من الله على صاحبها‏.‏
ومعنى ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة‏.‏
و ‏{‏الباب‏}‏ يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعْرَيْن، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا الأرض المقدّسة‏}‏، فأرادَا‏:‏ فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم‏.‏ وقد يسمّى الثغر البحري باباً أيضاً، مثل باب المندب، وسمّوا موضعاً بجهة بخاري الباب‏.‏ وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف، وهو باب البلد الذي في سوره، فقالوا‏:‏ أرادا باب قريتهم، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكاً لجميع تلك الأرض‏.‏ والظاهر أن هذه القرية هي ‏(‏أريحا‏)‏ أو ‏(‏قادش‏)‏ حاضرة العمالقة يومئذٍ، وهي المذكورة في سورة البقرة‏.‏ والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح تُوصل بجزأيّ جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّاً لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها؛ فيسمّى السَّد به غلقاً وإزالة السدّ فتحاً‏.‏
وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله، ولذلك ذيّلا بقولهما‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان‏.‏ وإنّما خاطبوا موسى عقبَ موعظة الرجلين لهم، رجوعاً إلى إبايتِهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا‏:‏ ‏{‏إنّ فيها قوماً جبّارين‏}‏، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات‏:‏ ‏(‏إنّ‏)‏، و‏(‏لن‏)‏، وكلمة ‏(‏أبداً‏)‏‏.‏
ومعنى قولهم‏:‏ ‏{‏فاذهب أنت وربّك فقاتلا‏}‏ إن كان خطاباً لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى، وهذا بعيد، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جواباً عن مقالتهم هذه إلاّ وصفهم بالفاسقين‏.‏ والفسق يطلق على المعصية الكبيرة، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين، وعن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ أتى المقدادُ بن الأسود النبيءَ وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال‏:‏ «يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل» ‏{‏فاذْهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون‏}‏ الحديث‏.‏
فَلا تَظُنَّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُحدّثهم به عن بني إسرائيل، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ‏.‏
«قال» أي موسى، مناجياً ربّه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمرَ ربّهم ‏{‏ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي‏}‏، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلاّ على نفسي وأخي، وإنّما لم يعُدّ الرجلين الذين قالا ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏، لأنّه خشي أن يستهويهما قومهما‏.‏ والذي في كتب اليهود أنّ هارون كان قد توفّي قبل هذه الحادثة‏.‏ ويجوز أن يريد بأخيه يوشَع بنَ نون لأنّه كان ملازِمَه في شؤونه، وسمّاه الله فتاه في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لفتاه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 60‏]‏ الآية‏.‏ وعطفه هنا على نفسه لأنّه كان محرّضاً للقوم على دخول القرية‏.‏
ومعنى ‏{‏افرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ أن لا تؤاخذنا بجرمهم، لأنّه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النّجاة، ولا يصحّ أن يريد الفرق بينهم في الآخرة؛ لأنّه معلوم أنّ الله لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم، ولأنّ براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله، ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضّالين على غلطهم‏.‏
وقوله الله تعالى له‏:‏ ‏{‏فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة‏}‏ الخ جواب عن قول موسى ‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصاراً لموسى‏.‏ فإن قلت‏:‏ هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومَه، فإنّه بقي معهم في التِيه حتّى توفّي‏.‏ قلت‏:‏ كان ذلك هَيِّناً على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة، أمَّا هم فكانوا في مشقّة‏.‏
‏{‏يتيهون‏}‏ يضلّون، ومصدره التَّيْه بفتح التّاء وسكون الياء والتيه بكسر التّاء وسكون التحتية‏.‏ وسمّيت المفازة تيهاء وسمّيت تِيهاً‏.‏ وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيّقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتّى بلغوا جبل ‏(‏نيبُو‏)‏ على مقربَة من نهر ‏(‏الأردن‏)‏، فهنالك توفّي موسى عليه السلام وهنالك دُفن‏.‏ ولا يُعرف موضع قبره كما في نصّ كتاب اليهود‏.‏ وما دَخلوا الأرض المقدسة حتّى عَبَروا الأرْدُن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى‏.‏ وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنَّة، لأنّهما لم يقولا‏:‏ لن ندخلها‏.‏ وأمّا بَقية الرّوّاد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ تفريع على الإخبار بهذا العقاب، لأنّه علم أنّ موسى يحزنه ذلك، فنهاه عن الحزن لأنّهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم‏.‏ والأسى‏:‏ الحزن، يقال أسِي كفرح إذا حَزن‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏
‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏
عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور‏.‏ والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ‏.‏ فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى‏:‏ فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين‏.‏ وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة؛ فبنو إسرائيل قالوا‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وربّك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏، وابن آدم قال‏:‏ لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه‏.‏ وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد‏.‏
ومعنى ‏{‏ابني آدم‏}‏ هنا ولداه‏.‏ وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو‏:‏ «يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك»، أو مجموعاً نحو ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالحقّ‏}‏ للملابسة متعلِّقاً ب ‏{‏اتْلُ‏}‏‏.‏ والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت، والصدق هو الثّابت، والكذب لا ثبوت له في الواقع، كما قال‏:‏ ‏{‏نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو‏.‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏بالحق‏}‏ مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه‏.‏
‏{‏وإذ‏}‏ ظرف زمان ل ‏{‏نبأ‏}‏، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً، فينتصب ‏(‏إذ‏)‏ على المفعول فيه‏.‏
وفِعْلُ ‏{‏قرّبا‏}‏ هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد، وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة، فاشتقّ من القرآن قرّب، كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ، ومن الأضحيّة ضَحَّى، ومن العقيقة عَقّ‏.‏ وليس ‏{‏قرّبا‏}‏ هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا‏.‏
وفي التّوراة هما ‏(‏قايين‏)‏ والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه ‏(‏هَابِيل‏)‏‏.‏ وكان قابيل فلاّحاً في الأرض، وكان هابيل راعياً للغنم، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً‏.‏ ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة‏.‏ فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل‏.‏ والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم‏.‏
وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا‏.‏ وقيل‏:‏ كان كافراً، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً‏.‏
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً‏.‏ ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة‏.‏ وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول‏.‏ والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض‏.‏
وقوله في الجواب ‏{‏إنّما يتقبّل الله من المتّقين‏}‏ موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله‏.‏ يقول‏:‏ القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره‏.‏ يعرّض به أنّه ليس بتَقِي، ولذلك لم يتقبّل الله منه‏.‏ وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس‏.‏ ولذا فلا ذَنب، لمن تقبّل الله قربانه، يستوجبُ القتلَ‏.‏ وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين‏.‏ فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان، فيكون على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدى للمتّقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، أي هدى كاملاً لهم، وقوله‏:‏ ‏{‏والآخرة عند ربّك للمتّقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 35‏]‏، أي الآخرة الكاملة؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان، أي المريدين به تقوى الله، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة‏.‏ ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لئن بسطتّ إليّ يدك لتقتلني‏}‏ الخ موعظة لأخيه ليذكّره خطر هذا الجرم الّذي أقدم عليه‏.‏ وفيه إشعار بأنّه يستطيع دفاعه ولكنّه منعه منه خوفُ الله تعالى‏.‏ والظاهر أنّ هذا اجتهاد من هابيل في استعظام جُرم قتل النّفس، ولو كان القتل دفاعاً‏.‏ وقد عَلم الأخوان ما هو القتل بما يعرفانه من ذبح الحيوان والصّيد، فكان القتل معروفاً لهما، ولهذا عزم عليه قابيل، فرأى هابيل للنّفوس حرمة ولو كانت ظالمة، ورأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النّفوس لإكمال مراد الله من تعمير الأرض‏.‏ ويمكن أن يكونا تلقّيا من أبيهما الوصاية بحفظ النّفوس صغيرها وكبيرها ولو كان في وقت الدّفاع، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إنّي أخاف الله ربّ العالمين‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إنّي أخاف الله‏}‏ يدلّ على أنّ الدّفاع بما يفضي إلى القتل كان محرّماً وأنّ هذا شريعة منسوخة لأنّ الشّرائع تبيح للمُعتدَى عليه أن يدافع عن نفسه ولو بقتل المعْتدي، ولكنّه لا يتجاوز الحدّ الّذي يحصل به الدّفاع‏.‏
وأمّا حديث «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار» فذلك في القتال على المُلْك وقصد التغالب الّذي ينكفّ فيه المعتدي بتسليم الآخر له؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصْلَح الفريقين بالتّسليم للآخر وحمل التَبِعَة عليه تجنّباً للفتنة، وهو الموقف الّذي وقفه عثمان رضي الله عنه رجاء الصلاح‏.‏
ومعنى ‏{‏أريد‏}‏‏:‏ أريد من إمساكي عن الدفاع‏.‏ وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 27‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ فالجملة تعليل للّتي قبلها، ولذلك فصلت وافتتحت ب ‏(‏إنّ‏)‏ المشعرة بالتَّعليل بمعنى فاء التفريع‏.‏
و ‏{‏تبوء‏}‏ ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين‏.‏ والأظهر في معنى قوله ‏{‏بإثمي‏}‏ مَا له من الآثام الفارطة في عمره، أي أرجو أن يغفر لي وتُحمل ذنوبي عليك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتّى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات المظلوم فتطرح عليه ‏"‏ رواه مسلم‏.‏ فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شُرع في الإسلام، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نُبوءة‏.‏
ومصدر ‏{‏أن تبوء‏}‏ هو مفعول ‏{‏أريد‏}‏، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم‏.‏ وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإثمك‏}‏ تذكيراً له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فعطفُ قوله‏:‏ ‏{‏وإثمك‏}‏ إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فنكون من أصحاب النار‏}‏ تذكيراً لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء‏.‏ ومعنى ‏{‏من أصحاب النّار‏}‏ أي ممّن يطول عذابه في النّار، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فطوّعت له نفسه قتل أخيه‏}‏ دلّت الفاء على التفريع والتعقيب، ودلّ ‏(‏طَوّع‏)‏ على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف، تقديره‏:‏ فتردّد مَليّاً، أو فترصّد فُرصاً فَطوّعت له نفسه‏.‏ فقد قيل‏:‏ إنّه بقي زماناً يتربّص بأخيه، ‏(‏وطوّع‏)‏ معناه جعله طائعاً، أي مكَّنه من المطوّع‏.‏ والطوع والطواعية‏:‏ ضدّ الإكراه، والتطويع‏:‏ محاولة الطوع‏.‏ شُبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشيةِ‏.‏ وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي، فكان ‏(‏طوّعت‏)‏ استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سَوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة‏.‏
وقد سُلك في قوله‏:‏ ‏{‏فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله‏}‏ مسلكُ الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف ‏{‏فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه‏}‏ ويقتصر على قوله ‏{‏فقتَلَه‏}‏ لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق، فلم يكن ذلك إطناباً‏.‏
ومعنى ‏{‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ صار، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة، ويجوز إبقاء ‏(‏أصبح‏)‏ على ظاهرها، أي غدا خاسراً في الدّنيا، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاءَ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏
‏{‏فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى‏}‏‏.‏
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان، أي فألْهم الله غراباً ينزل بحيث يراه قابيل‏.‏ وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس‏.‏ ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا‏:‏ غُراب البين‏.‏
والضمير المستتر في «يُريَه» إن كان عائداً إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان، وإن كان عائداً إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ‏.‏ و‏{‏كيف‏}‏ يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مراداً منها الكيفية، أو للاستفهام، والمعنى‏:‏ ليريه جواب كيف يُواري‏.‏
وَالسَّوْأة‏:‏ مَا تَسُوء رؤيتُه، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه‏.‏
وكلمة ‏{‏يَا ويلتا‏}‏ من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب، وأصله يا لَوَيْلَتِي، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم‏:‏ يا عَجَباً، ويجوز أن يجعل الألف عوضاً عن ياء المتكلم، وهي لغة، ويكون النّداء مجازاً بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أعجزت‏}‏ إنكاري‏.‏
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة‏.‏ وهو أيضاً مشهد أوّللِ علممٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة، وهو أيضاً مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق‏.‏
‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين‏}‏‏.‏
القول فيه كالقول في ‏{‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏من النادمين‏}‏ أصبح نادماً أشدّ ندامة، لأنّ ‏{‏من النادمين‏}‏ أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه، من أن يقال «نادماً»‏.‏ كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فتكونا من الظالمين في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏‏.‏
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترئ على قتل أخيه، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه‏.‏
ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئاً عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه‏.‏ فجاء في الصّحيح ‏"‏ ما مِن نفس تُقْتَل ظُلماً إلاّ كان على ابننِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل ‏"‏ ويحتمل أن يكون دليلاً لمن قالوا‏:‏ إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها‏}‏ الآية من سورة النّساء ‏(‏93‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏
‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بنى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏‏.‏
يتعيّن أن يكون ‏{‏من أجل ذلك‏}‏ تعليلاً ل ‏{‏كتبنا‏}‏، وهو مبدأ الجملة، ويكون منتهى التي قبلها قوله‏:‏ ‏{‏من النّادمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وليس قوله ‏{‏من أجل ذلك‏}‏ معلّقاً ب«النّادمين» تعليلاً له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله ‏{‏فأصبح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 31‏]‏‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء، والأجْل الجَرّاء والتسبّب أصله مصدر أجَلَ يأجُل ويأجِل كنصر وضرب بمعنى جَنَى واكتسب‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاصّ باكتساب الجريمة، فيكون مرادفاً لجَنَى وَجَرَم، ومنه الجناية والجريمة، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجْل على المكتسب مطلقاً بعلاقة الإطلاق‏.‏ والابتداء الذي استعملت له ‏(‏مِن‏)‏ هنا مجازي، شُبّه سبب الشيء بابتداء صدوره، وهو مثار قولهم‏:‏ إنّ من معاني ‏(‏مِنْ‏)‏ التعليل، فإنّ كثرة دخولها على كلمة «أجل» أحدث فيها معنى التّعليل، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل، كما في قول الأعشى‏:‏
فآليْت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حَفى حتّى ألاقي محمّداً
واستفيد التّعليل من مفاد الجملة‏.‏ وكان التّعليل بكلمة مِن أجل أقوى منه بمجرّد اللام، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه‏.‏ وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص ‏{‏ذلك‏}‏ قصدُ استيعاب جميع المذكور‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏منْ أجل ذلك‏}‏ بسكون نون ‏(‏مِن‏)‏ وإظهار همزة ‏(‏أجل‏)‏‏.‏ وقراءة ورش عن نافع بفتح النّون وحذف همزة أجل على طريقته‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏مِننِ اجْل ذلك‏}‏ بكسر نون ‏(‏من‏)‏ وحذففِ همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير منطوق بها‏.‏
ومعنى ‏{‏كتبنا‏}‏ شرعنا كقوله ‏{‏كُتب عليكم الصّيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏‏.‏ ومفعول ‏{‏كتبنا‏}‏ مضمون جملة ‏{‏أنّه مَن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً‏}‏‏.‏ و‏(‏أنَّ‏)‏ من قوله ‏{‏أنَّه‏}‏ بفتح الهمزة أخت ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة، وضمير «أنّه» ضمير الشأن، أي كتبنا عليهم شأناً مهمّاً هو مماثلةُ قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاسَ أجمعين‏.‏
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوح الهمزة المشدّد النّون، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلاّ معمولاً لعامل قبله يقتضيه، فتعيّن أنّ الجملة بعد ‏(‏أنّ‏)‏ بمنزلة المفرد المعمول للعامل، فلزم أنّ الجملة بعد ‏(‏أنّ‏)‏ مؤوّلة بمصدر يسبك، أي يؤخذ من خبر ‏(‏أنّ‏)‏‏.‏
وقد اتّفق علماء العربيّة على كون ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختاً لحرف ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة الهمزة، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها‏.‏
واتّفقوا على كون ‏(‏أنْ‏)‏ المفتوحة الهمزة من الموصولات الحَرْفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر‏.‏
وبهذا تزيد ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة على ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة‏.‏ وخبر ‏(‏أنّ‏)‏ في هذه الآية جملة ‏{‏من قَتل نفساً بغير نفس‏}‏ الخ‏.‏ وهي مع ذلك مفسّرة لضمير الشأن‏.‏ ومفعول ‏{‏كتبنا‏}‏ مأخوذ من جملة الشّرط وجوابه، وتقديرُه‏:‏ كتبنا مُشابهةَ قتِل نفس بغير نفس الخ بقتل النّاس أجمعين في عظيم الجرم‏.‏
وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسّرين والنحويين‏.‏ ووقع في «لسان العرب» عن الفرّاء ما حاصله‏:‏ إذا جاءت ‏(‏أنّ‏)‏ بعد القول وما تصرّف منه وكانت تفسيراً للقول ولم تكن حكاية له نصبتَها ‏(‏أي فتحت همزتها‏)‏، مثل قولك‏:‏ قد قلتُ لك كلاماً حَسناً أنّ أباك شريف، تفتَح ‏(‏أنّ‏)‏ لأنّها فسَّرت «كلاماً»، وهو منصوب، ‏(‏أي مفعول لفعل قُلت‏)‏ فمفسِّره منصوب أيضاً على المفعوليّة لأنّ البيان له إعراب المبيَّن‏.‏ فالفراء يثبت لِحرف ‏(‏أنّ‏)‏ معنى التفسير عِلاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدريّة، فصار حرف ‏(‏أنّ‏)‏ بالجمع بين القولين دَالاّ على معنى التّأكيد باطّراد ودالاّ معه على معنى المصدريّة تارة وعلى معنى التّفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام‏.‏ ولعلّ الفرّاء ينحُو إلى أنّ حرف ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة مركّب من حرفين هما حرف ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة الهمزة المشدّدة النّون، وحرف ‏(‏أنْ‏)‏ المفتوحة الهمزة الساكنة النّون الّتي تكون تارة مصدريّة وتارة تفسيرية؛ ففتْحُ همزته لاعتبار تركيبه من ‏(‏أنْ‏)‏ المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة الهمزة المشدّدة النّون، وأصله و‏(‏أنْ إنّ‏)‏ فلمّا رُكِّبَا تداخلت حروفهما، كما قال بعض النّحويين‏:‏ إن أصل ‏(‏لن‏)‏ ‏(‏لا أنْ‏)‏‏.‏
وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جُرم فظيع، كفظاعة قتل النّاس كلّهم‏.‏ والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ الآية‏.‏
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطميناً لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيتْ مصالحُها، كمشروعية القصاص، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوَى منه حتّى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذَنْب آخر، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المُجازاة بالقتل؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القُوّة الغضبيّة، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع، وإذا طمِع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة، ثُمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه‏.‏ وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم، قال قائلهم، وهو قيس بن زهير العبسي‏:‏
شَفيت النفسَ من حَمل بن بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفَانِي
ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏‏.‏
ومعنى التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏فكأنّما قتل النّاس جميعاً‏}‏ حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس‏.‏ فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعاً، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس‏.‏ على أنّ فيه معنى نفسانياً جليلاً، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشئ عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم، فالّذي كان من حيلته ترجيحُ ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دَوْماً إلى هضم الحقوق، فكلّما سنحت له الفرصة قَتل، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعاً لفعل‏.‏ ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلاّ بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلاً‏:‏ كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبُيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعاً‏.‏ وقد ذُكرتْ وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر‏.‏
ومعنى ‏{‏ومن أحياها‏}‏ من استنقذها من الموت، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيى الناس جميعاً بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفاً، أو من غلَّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب‏.‏
‏{‏وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِى الارض لَمُسْرِفُونَ‏}‏‏.‏
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون، كما أشعر به قوله ‏{‏بعد ذلك‏}‏، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات‏.‏ ٍ وحذف متعلِّق «مسرفون» لقصد التّعميم‏.‏ والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر ‏{‏في الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ مع ذكر الإفساد‏.‏
وجملة ‏{‏ثمّ إنّ كثيراً منهم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات‏}‏‏.‏ و‏(‏ثُمّ‏)‏ للتراخي في الرتبة، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب‏.‏ وذِكر ‏{‏في الأرض‏}‏ لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وتقديم ‏{‏في الأرض‏}‏ للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنَها‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏رسُلنا‏}‏ بضمّ السّين‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسْكان السّين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏
‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏
تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل‏.‏ ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل‏.‏ نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ‏.‏ ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه‏:‏ ‏"‏ قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْللٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض، فقال لهم‏:‏ هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها ‏"‏ فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا‏.‏ فبعث رسول الله في آثارهم، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم، فأمر بهم، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا‏.‏ وقيل‏:‏ أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا‏.‏ قال جماعة‏:‏ وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة‏.‏ نقل ذلك مَوْلى ابننِ الطلاع في كتاب «الأقضيَة المَأثورة» بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع‏.‏ وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة‏.‏ قال أبو قِلابة‏:‏ فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله‏.‏ وفي رواية للطبري‏:‏ نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض‏.‏ رواه عن ابن عبّاس والضحّاك‏.‏ والصّحيح الأوّل‏.‏ وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية‏.‏
فالحصر ب ‏{‏إنّما‏}‏ في قوله ‏{‏إنّما جزاء الّذين يحَاربُون‏}‏ الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة‏.‏ وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه‏.‏ وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً‏.‏
وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة‏.‏ والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً‏.‏
ومعنى ‏{‏يحاربون‏}‏ أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدواناً لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي، لأنّ حقيقة الحرب القتال‏.‏ ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقاباً على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام‏.‏ ثُمّ إنّ الله شرع حكماً للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده، وسوّى عقوبتها، فتعيّن أن يصير تأويل ‏{‏يحاربون الله ورسوله‏}‏ المحاربة لجماعة المسلمين‏.‏ وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة‏.‏ ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين، فلهذا المعنى عُدّي ‏{‏يحاربون‏}‏ إلى ‏{‏الله ورسوله‏}‏ ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ‏.‏
وعُطف ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله، فصار الجزتء على مجموع الأمرين، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها‏.‏
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة؛ فقال مالك‏:‏ هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح، سواء في البادية أو في المِصر، وقال به الشّافعي وأبو ثور‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكون المحارب في المصر محارِباً، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق‏.‏ والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر‏.‏ وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه «ونّاس» أخاف أهل تونس بحيله في السرقة، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقاً بباب سويقة‏.‏
ومعنى ‏{‏يسعون في الأرض فساداً‏}‏ أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ويقولون‏:‏ سعَى فلان لأهله، أي اكتسب لهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لتجزي كُلّ نفس بما تسعى‏}‏
‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وصاحب «الكشاف» جعله هنا بمعنى المشي، فجعل ‏{‏فساداً‏}‏ حالاً أو مفعولاً لأجله، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل، ويكون الفعل منزّلاً منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله‏.‏ وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد، فَجَعل ‏{‏فساداً‏}‏ مفعولاً مطلقاً‏.‏ ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد‏.‏
والفساد‏:‏ إتلاف الأنفس والأموال، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك‏.‏
و ‏{‏يُقتّلوا‏}‏ مبالغة في يُقْتلوا، كقول امرئ القيس‏:‏
في أعشار قَلْببٍ مُقَتَّل *** قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديداً عليهم، وكذلك الوجه في قوله ‏{‏يُصَلَّبوا‏}‏‏.‏
والصّلب‏:‏ وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدوداً على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعناً بالرّمح في موضع القتل‏.‏ وقيل‏:‏ الصّلب بَعْد القتل‏.‏ والأول قول مالك، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي‏.‏
و ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله ‏{‏مِن خلاف‏}‏ ابتدائية في موضع الحال من ‏{‏أيديهم وأرجلُهم‏}‏، فهي قيد للقطع، أي أنّ القطع يبتدئ في حال التخالف، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفاً ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ‏.‏ وقد علم من قوله‏:‏ ‏{‏من خلاف‏}‏ أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف‏.‏ فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز‏.‏ والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة‏.‏
قال علماؤنا‏:‏ تقطع يده لأجل أخذ المال، ورجلُه للإخافة؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم‏.‏
والنّفي من الأرض‏:‏ الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود‏.‏ والمراد الإبعاد، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم‏.‏ يقال‏:‏ نفوا فلاناً، أي أخرجوه من بينهم، وهو الخليع، وقال النّابغة‏:‏
ليُهنئ لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا *** أي أقصيتمونا عن دياركم‏.‏ ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا‏.‏ وقال أبو حنيفة وبعض العلماء‏:‏ النّفي هو السجن‏.‏ وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين‏.‏ وهو نظر يَحمل على التّأويل، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته، قال امرؤ القيس‏:‏
به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل *** وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده‏.‏ على أنّ من العلماء من قال‏:‏ ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور‏.‏
قال أبو الزناد‏:‏ كان النّفي قديماً إلى ‏(‏دَهْلَكَ‏)‏ وإلى ‏(‏بَاضِع‏)‏ وهما جزيرتان في بحر اليمن‏.‏
وقد دلّت الآية على أمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ التخيير في جزاء المحاربين؛ لأنّ أصل ‏(‏أو‏)‏ الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير، نحو ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس، وسعيدُ بن المسيّب، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، وأبو حنيفة، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل؛ قُتل دون تَخيير، وهو مُدرك واضح‏.‏ ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده‏.‏ وذهب جماعة إلى أنّ ‏(‏أو‏)‏ في الآية للتّقسيم لا للتخيير، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب‏:‏ فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالاً عُزّر، ومن أخاف الطريق نُفي، ومن أخذ المال فقط قطع، وهو قول ابن عبّاس، وقتادة، والحسن، والسديّ، والشافعي‏.‏ ويقرب خلافهم من التّقارب‏.‏
والأمر الثّاني‏:‏ أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ ‏{‏إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم‏}‏ الآية وهو بيّن‏.‏ ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة‏.‏
وقوله ‏{‏ذلك لهم خِزي في الدّنيا‏}‏، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا‏.‏ والخزي‏:‏ الذلّ والإهانة ‏{‏ولا تُخزنا يوم القيامة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏‏.‏ وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين‏:‏ عقاباً في الدّنيا وعقاباً في الآخرة‏.‏ فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين، كما قيل به، فاستحقاقهم العذابين ظاهر، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية ‏{‏إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ الخ فقال‏:‏ «فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له» فقوله‏:‏ فهو كفارة له، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظاً على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا‏.‏
والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين تابوا‏}‏ راجع إلى الحُكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏مِن قبل أن تقدروا عليهم‏}‏، لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم‏.‏ وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة؛ فتمّ الكلام بها، خز لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب، وعند جمهور العلماء‏.‏ فليس المستثنى مسكوتاً عنه كما يقول الحنفية، ولولا الاستثناء لما دلّت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة‏.‏ فلو قيل‏:‏ فإن تابوا، لم تدلّ إلاّ على قبول التّوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة‏.‏
ومعنى ‏{‏من قبللِ أن تقدروا عليهم‏}‏ ما كان قبل أن يتحقّق المحارب أنّه مأخوذ أو يضيَّق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه، فإن أتى قبل ذلك كلّه طائعاً نادماً سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة، لأنّه قد دلّ على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه‏.‏ ولمّا لم تتعرّض الآية إلى غُرْم ما أتلفه بحرابته علم أنّ التّوبة لا تؤثّر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق النّاس من مال أو دم، لأنّ ذلك معلوم بأدلّة أخرى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنّ الله غفور رحيم‏}‏ تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعجّب من سقوط العقاب عنهم‏.‏ فالفاء فصيحة عمّا دلّ عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرْم، والمعنى‏:‏ إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن يقدر عليه فاعلموا أنّ الله غفور رحيم‏.‏
وقد دلّ قوله ‏{‏فاعلموا‏}‏ على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظراً لاستعظامهم هذا العفو‏.‏ وقد رأيتُ أنّ شأن فعل ‏(‏اعلم‏)‏ أن يدلّ على أهميّة الخبر، كما سيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏24‏)‏ وقوله فيها‏:‏ ‏{‏واعلموا أنّما غنمتم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏
اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 36‏]‏ الآية‏.‏ خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس، كما قال الحريري‏:‏ «فلمّا دَفنوا الميْتْ، وفاتَ قول ليتْ، أقبل شَيخ من رِباوَة، متأبّطاً لهراوة،‏.‏ فقال‏:‏ لمثل هذا فليعمل العاملون، إلخ‏.‏ فعُقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله‏.‏ وقابل قتالاً مذموماً بقتال يحمد فاعله عاجلاً وآجلاً»‏.‏
والوسيلة‏:‏ كالوصيلة‏.‏ وفعل وَسَل قريب من فعل وَصَلَ، فالوسيلة‏:‏ القُربة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي متوسّل بها أي اتبعوا التقرّب إليه، أي بالطاعة‏.‏
و ‏{‏إليه‏}‏ متعلّق ب ‏{‏الوسيلة‏}‏ أي الوسيلة إلى الله تعالى‏.‏ فالوسيلة أريد بها ما يبلغ به إلى الله، وقد علم المسلمون أنّ البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنّه بلوغ زلفى ورضى‏.‏ فالتّعريف في الوسيلة تعريف الجنس، أي كلّ ما تعلمون أنّه يقرّبكم إلى الله، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه‏.‏ فالوسيلة ما يقرّب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه‏.‏ وفي الحديث القُدسي‏:‏ ‏"‏ ما تَقَرّب إلَيّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه ‏"‏ الحديث‏.‏ والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏ متعلّق ب ‏{‏ابتغوا‏}‏‏.‏ ويجوز تعلّقه ب ‏{‏الوسيلة‏}‏، وقدم على متعلّقه للحصر، أي لا تتوسّلوا إلاّ إليه لا إلى غيره فيكون تعريضاً بالمشركين لأنّ المسلمين لا يظنّ بهم ما يقتضي هذا الحصر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏‏}‏
الأظهر أنّ هذه الجملة متّصلة بجملة ‏{‏ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ اتّصال البيان؛ فهي مبيّنة للجملة السابقة تهويلاً للعذاب الّذي توعّدهم الله به في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ فإنّ أولئك المحاربين الّذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله، فلمّا ذكر جزاؤهم عقّب بذكر جزاء يَشملهم ويشمل أمثالهم من الّذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مراداً بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين‏.‏
والشرط في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أنّ لَهُمْ مَا في الأرض‏}‏ مقدّر بفعل دلّت عليه ‏(‏أنّ‏)‏، إذ التّقدير‏:‏ لو ثبت ما في الأرض مِلكاً لهم؛ فإنّ ‏(‏لَوْ‏)‏ لاختصاصها بالفعل صحّ الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت ‏(‏أنّ‏)‏ بعدها‏.‏ وقوله ‏{‏ومثلَه معه‏}‏ معطوف على ‏{‏ما في الأرض‏}‏، ولا حاجة إلى جعله مفعولاً معه للاستغناء عن ذلك بقوله ‏{‏معه‏}‏‏.‏ واللام في ‏{‏ليفتدوا به‏}‏ لتعليل الفعل المقدّر، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه‏.‏
وأفرد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ مع أنّ المذكور شيئان هما‏:‏ ‏{‏ما في الأرض‏}‏ ‏{‏ومثلَه‏}‏‏:‏ إمّا على اعتبار الضّمير راجعاً إلى ‏{‏ما في الأرض‏}‏ فقط، ويكون قوله ‏{‏ومثلَه معه‏}‏ معطوفاً مقدّماً من تأخير‏.‏ وأصل الكلام لو أنّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثلَه معه‏.‏ ودلّ على اعتباره مقدّماً من تأخير إفراد الضّمير المجرور بالباء‏.‏ ونكتة التّقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض‏.‏ وإمَّا، وهو الظاهر عندي، أن يكون الضّمير عائداً إلى ‏{‏مثله معه‏}‏، لأنّ ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنّه قد اندرج في مثله الذي معه‏.‏
ويجوز أن يُجرى الضّمير مجرى اسم الإشارة في صحّة استعماله مفرداً مع كونه عائداً إلى متعدّد على تأويله بالمذكور؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ أي بين الفارض والبكر، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يَلْق أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ إشارة ما ذكر من قوله‏:‏ ‏{‏والّذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، لأنّ الإشارة صالحة للشيء وللأشياء، وهو قليل في الضّمير، لأنّ صيغ الضّمائر كثيرة مناسبة لِما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع، وهو قليل ولكنّه فصيح، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم مَن إله غير الله يأتيكم به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ أي بالمذكور‏.‏ وقد جعله في «الكشاف» محمولاً على اسم الإشارة، وكذلك تأوّله رؤبة لمّا أنشد قولَه‏:‏
فيها خُطوط من سوادِ وبَلَق *** كأنّه في الجلد توليعُ البَهَق
فقال أبو عبيدة‏:‏ قلت‏:‏ لرؤبة إن أردت الخطوط فقُل‏:‏ كأنَّها، وإن أردتَ السوادَ فقل‏:‏ كأنّهما، فقال‏:‏ أردتُ كأنّ ذلكَ وَيْلَكَ‏.‏ ومنه في الضّمير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏68‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ولهم عذاب مقيم‏}‏ أي دائم تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏وما هم بخارجين منها‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏
‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏
جملة معطوفة على جملة ‏{‏إنّما جزاء الّذين يحاربون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ‏{‏والسارق‏}‏ مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه‏.‏ والتّقدير‏:‏ ممّا يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏.‏ وقال المبرّد‏:‏ الخبر هو جملة ‏{‏فاقطعوا أيديهما‏}‏، ودخلت الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط؛ لأنّ تقديره‏:‏ والّذي سرق والّتي سرقت‏.‏ والمصول إذا أريد منه التّعميم ينزّل منزلة الشرط أي يجعل ‏(‏أَلْ‏)‏ فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏، قوله‏:‏ ‏{‏واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏‏.‏ 6 قال سيبويه‏:‏ وهذا إذا كان في الكلام ما يدلّ على أنّ المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحُكم أو الفرائض نحو ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدواواللذان يأتيانها منكم فآذوهما‏}‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ إذ التّقدير في جميع ذلك‏:‏ وحكم اللاتي يأتين، أو وجَزاء السارق والسّارقة‏.‏
ولقد ذكرها ابن الحاجب في «الكافية» واختصرها بقوله‏:‏ «والفاء للشرط عند المبرّد وجملتان عند سيبويه، يعني‏:‏ وأمّا عند المبرّد فهي جملة شرط وجوابه فكأنّها جملة واحدة وإلاّ فالمختار النصب»‏.‏ أشار إلى قراءة عيسى بن عمر ‏{‏والسارقَ والسارقَة‏}‏ بالنصب، وهي قراءة شاذّة لا يعتدّ بها فلا يخرّج القرآن عليها‏.‏ وقد غلط ابن الحاجب في قوله‏:‏ فالمختار النصب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاقطعوا أيديهما‏}‏ ضمير الخطاب لِوُلاة الأمور بقرينة المقام، كقوله‏:‏ ‏{‏الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وليس الضّمير عائداً على الّذين آمنوا في قوله ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وجُمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق‏.‏ وثنيّ الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى؛ فالجمع هنا مراد منه التّثنية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏
ووجه ذكر السارقة مع السارق دفعُ توهّم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيداً بحيث لا يجري حدّ السرقة إلاّ على الرجال، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزناً فلا يجرون عليها الحدود، وهو الدّاعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏(‏178‏)‏ ‏{‏الحُرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ وقد سرقت المخزوميّة في زمن رسول الله فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش، فقالوا‏:‏ من يشفع لها عند رسول الله إلاّ زيد بن حارثة، فلمّا شفع لها أنكر عليه وقال‏:‏ أتشفع في حدّ من حدود الله، وخطب فقال‏:‏ إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه وإذا سرق الضّعيف قطعوه، والله لو أنّ فاطمة سرقت لقطعت يدها‏.‏
وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحدّ وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأيّمة المذاهب وليس من غرض المفسّر‏.‏ وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشّرعية وتفاصيلها ولكنّه يؤصّل تأوصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللّسان من معرفة حقائقها وتمييزها عمّا يشابهها‏.‏
فالسارق‏:‏ المتّصف بالسرقة‏.‏ والسرقة معروفة عند العرب مميّزة عن الغارة والغصْب والاغتصاب والخلسة، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق ممّا يشِحّ به معظم النّاس‏.‏
فالسرقة‏:‏ أخذ أحد شيئاً ما يملكه خُفية عن مالكه مخُرجاً إيّاه من موضععِ هو حرِزُ مثلِه لم يؤذن آخِذُه بالدخول إليه‏.‏
والمسروق‏:‏ مَا لهُ منفعة لا يتسامح النّاس في إضاعته‏.‏ وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقلّ شيء حكم النّبيء بقطع يد من سَرَقَه‏.‏ وقد ثبت في الصّحيح أنّه حكم بقطع يد سارق حَجَفَة بحاء مهملة فجيم مفتوحتين ‏(‏ترس بن جلد‏)‏ تساوي ربع دينار في قول الجمهور، وتساوي ديناراً في قول أبي حنيفة، والثوري، وابننِ عبّاس، وتساوي نصفَ دينار في قول بعض الفقهاء‏.‏
ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد‏.‏ وقد كان قطع يد السارق حكماً من عهد الجاهليّة، قضى به الوليدُ بن المغيرة فأقرّه الإسلام كما في الآية‏.‏ ولم يرد في السنّة خبر صحيح إلاّ بقطع اليد‏.‏ وأوّل رَجُل قطعت يده في الإسلام الخيارُ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأوّل امرأة قطعت يَدها المخزوميةُ مُرّةُ بنتُ سفيان‏.‏
فاتّفق الفقهاء على أنّ أوّل ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده‏.‏ فقال الجمهور‏:‏ اليد اليمنى، وقال فريق‏:‏ اليد اليسرى، فإن سرق ثانية، فقال جمهور الأيمّة‏:‏ تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة‏.‏ وقال عليّ بن أبي طالب‏:‏ لا يقطع ولكن يحبس ويضرب‏.‏ وقضى بذلك عمر بن الخطّاب، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ فقال عليّ‏:‏ إنّي لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكُل وَيَسْتَنْجِي أو رِجْلَه فعلى أي شيء يعتمد؛ فإن سرق الثّالثة والرّابعة فقال مالك والشّافعي‏:‏ تقطع يده الأخرى ورجلُه الأخرى، وقال الزهري‏:‏ لم يبلغنا في السنّة إلاّ قطع اليد والرّجل لا يزاد على ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل، والثّوري، وحمَّاد بن سلمة‏.‏ ويجب القضاء بقول أبي حنيفة، فإنّ الحدود تُدرأ بالشبهات وأيّ شبهة أعظم من اختلاف أيمّة الفقه المعتبرين‏.‏
والجزاء‏:‏ المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العملَ من خير أو شرّ، قال تعالى‏:‏ إنّ للمتّقين مفازاً إلى قوله ‏{‏جزاءً من ربّك عطاءً حسابا‏}‏ في سورة النبأ ‏(‏31 36‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة مثلها‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏40‏)‏‏.‏
والنكال‏:‏ العقاب الشّديد الّذي من شأنه أن يصدّ المعاقب عن العود إلى مثل عمله الّذي عوقب عليه، وهو مشتقّ من النكول عن الشيء، أي النكوص عنه والخوف منه‏.‏ فالنكال ضرب من جزاء السّوء، وهو أشدّه، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏66‏)‏‏.‏
وانتصب جزاء‏}‏ على الحال أو المفعول لأجله، وانتصب ‏{‏نكالاً‏}‏ على البدل من ‏{‏جزاء‏}‏ بدل اشتمال‏.‏
فحكمة مشروعيّة القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود، أي جزاء ليس بانتقام ولكنّه استصلاح‏.‏
وضَلّ من حسب القطع تعويضاً عن المسروق، فقال من بيتين ينسبان إلى المعرّي ‏(‏وليسا في «السقط» ولا في «اللّزوميات»‏)‏‏:‏
يد بخمسسِ مِئينَ عسجَدا وُديتْ *** ما بالها قُطعت في رُبع دينار
ونسب جوابه لعلم الدّين السَّخَاوي‏:‏
عِزّ الأمَانة أغلاهَا؛ وأرخصها *** ذُلّ الخيانة فافهَمْ حكمة الباري
وقوله‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه‏}‏ أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليْه، أي قبلت توبته‏.‏ وقد تقدّم معناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏37‏)‏‏.‏ وليس في الآية ما يدلّ على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه، لأنّ ظاهر ‏(‏تاب وتاب الله عليْه‏)‏ أنّه فيما بين العبد وبين ربّه في جزاء الآخرة؛ فقوله‏:‏ فمن تاب من بعد ظلمه‏}‏ ترغيب لهؤلاء العصاة في التّوبة وبشارة لهم‏.‏ ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء‏:‏ توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائباً قبل القدْرة عليه‏.‏ ويدلّ لصحّة قولهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية ولا شكّ أنّها تائبة‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ لأنّ المحارب مستبدّ بنفسه معتصم بقوّته لا يناله الإمام إلاّ بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتّوبة استنزالاً من تلك الحالة كما فُعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافاً على الإسلام‏.‏ وأمّا السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين، اه‏.‏
وقال عطاء‏:‏ إن جاء السارق تائباً قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، ونقل هذا عن الشّافعي، وهو من حمل المطلق على المقيّد حملاً على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متّحد السبب مختلف الحكم‏.‏ والتّحقيق أنّ آية الحرابة ليست من المقيّد بل هي حكم مستفاد استقلالاً وأنّ الحرابة والسرقة ليسا سبباً واحداً فليست المسألة من متّحد السبب ولا من قبيل المطلق الّذي قابَله مقيّد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏
استئناف بياني، جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التّوبة مع عظم جرمه بأنّ الله هو المتصرّف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين‏.‏ وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله‏.‏
وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها‏.‏ وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود، والواحدي في «أسباب النّزول»، والطبري في «تفسيره» ما محصّله‏:‏ أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني ‏(‏حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك‏)‏، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافاً ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك، وقالوا‏:‏ إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة‏:‏ ‏"‏ ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن ‏"‏، قالوا‏:‏ يحمّم ويُجلد ويطاف به، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن، فأنكروا، فأمر بالتّوراة أن تنشر ‏(‏أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني‏)‏ وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم ‏(‏أي يقرؤها للّذين يفهمونها‏)‏ فقال له رسول الله‏:‏ ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏ لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة ‏"‏ فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ‏.‏ وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر‏}‏ نزل في شأن ذلك، وكذلك روى الواحدي والطبري‏.‏
ولم يذكروا شيئاً يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم‏}‏‏.‏ ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذراً لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم
وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحاً في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها‏.‏ ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم‏.‏ فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم‏.‏ فحكَم رسول الله حكماً جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله‏:‏ ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏‏.‏
ويحتمل أن يكون ناشئاً عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ إنّه رسول للأميّين خاصّة‏.‏ وهؤلاء هم اليهود العيسوية، فيكون حكمه مؤيّداً لهم، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهودياً زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض‏:‏ اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر‏.‏ ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا‏:‏ ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفاً عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم‏.‏ ولعلّ ذلك مباح في شرعهم، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس وهو بيت تعليم اليهود وحاجَّهُم في حكم الرّجم، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم، في التّوراة؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصداً لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي، وكان حكم الرجم عندهم مكتوماً لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم، ومنسياً لا يذكر بين علمائهم، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم‏.‏ ففي «صحيح البخاري» أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها‏.‏ وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يحزنك الّذين يسارعون‏}‏ نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر‏.‏ والإحزاننِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه، أي لا تجعلْهم يحْزنونك، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك‏.‏ وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي‏.‏ ونظيره قولهم‏:‏ لا أعرفَنَّك تفعل كذا، أي لا تفعل حتّى أعرفَه‏.‏ وقولهم‏:‏ لا أُلفينّك هَهنا، ولاَ أرَيَنّك هنا‏.‏
وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة‏.‏
وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازاً عقلياً، وليس كذلك، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي‏.‏ ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في «دلائل الإعجاز» «اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك‏:‏ أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان، فاعلاً سوى الحقّ»، وكذلك في قوله‏:‏
وصَيّرني هَوَاككِ وبِي *** لِحَيْني يُضرب المثَل
و يزيدك وجهه حُسناً‏.‏
أنْ تزعم أن له فاعلاً قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه» اه‏.‏ ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالاً قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين‏.‏ ويدلّ لذلك قوله‏:‏ «إذا أنتَ نقلت الفعل إليه» أي أسندتَه إليه‏.‏
ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء، كما يقال‏:‏ أسرع إليه الشيب، وقوله‏:‏ إذا نهي السفيه جرى إليه‏.‏ وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل، فيكون ‏(‏في‏)‏ قرينة المجاز، كقولهم‏:‏ أسْرع الفساد في الشيء، وأسْرع الشيب في رأس فلان‏.‏ فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولاناً بنشاط وسرعة‏.‏ ونظيره قوله ‏{‏يسارعون في الإثم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 62‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نسارع لهم في الخيرات‏}‏ المؤمنون‏:‏ 56‏)‏، ‏{‏أولئك يسارعون في الخيرات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 61‏]‏‏.‏ فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب‏.‏ وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله‏:‏ ‏{‏يسارعون فيهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم‏}‏ إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر‏.‏ والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الّذين هادوا‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏من الّذين قالوا آمنّا‏}‏ والوقفُ على قوله‏:‏ ‏{‏ومن الّذين هادوا‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏سمّاعون للكذب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، تقديره‏:‏ هم سمّاعون للكذب‏.‏ والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين‏:‏ المنافقين واليهودِ، بقرينة الحديث عن الفريقين‏.‏
وحذفُ المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثاً عنه أو بعدَ أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوففٍ المبتدأ منها، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد «رَمْيَة من غير رَام»، وقول أبي الرقَيش‏:‏
سريع إلى ابن العمّ يلطُمُ وجهه *** وليس إلى داعي الندى بسريع
وقول بعض شعراء الحماسة‏:‏
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّت
عقب قوله‏:‏
سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيّتي *** أياديَ لم تُمنَنْ وإن هي جَلَّت
والسمَّاع‏:‏ الكثيرُ السمع، أي الاستماععِ لما يقال له‏.‏ والسَّمع مستعمل في حقيقته، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه‏.‏ وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول‏.‏ والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ‏.‏
وجملة ‏{‏سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك‏}‏ خبر ثان عن المبتدأ المحذوف‏.‏ والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كَتم غرضهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم حتّى إن حكم بما يهوَون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصَوه، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون، وهم أهل خيبر وأهل فَدَك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى الله عليه وسلم واللام في ‏{‏لِقوم‏}‏ للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول‏.‏
وجملة ‏{‏يحرّفون الكلم‏}‏ صفة ثانية ‏{‏لقوم آخرين‏}‏ أو حال، ولك أن تجعلها حالاً ‏{‏من الّذين يسارعون في الكفر‏}‏‏.‏ وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏46‏)‏، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف، أي جانب، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر‏.‏
وقال هنا مِن بعد مواضعه، وفي سورة النساء ‏(‏46‏)‏ عَن مواضعه، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة‏.‏ فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها‏.‏ فكان إبعاداً للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض‏.‏ وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر، فكان قوله‏:‏ من بعد مواضعه‏}‏ أبلغَ في تحريف الكلام، لأنّ لفظ ‏(‏بعد‏)‏ يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة‏.‏
والإشارة الّتي في قوله‏:‏ ‏{‏إن أوتيتم هذا‏}‏ إلى الكلم المحرّف‏.‏ والإيتاء هنا‏:‏ الإفادة كقوله‏:‏ ‏{‏وآتاه الله المُلك والحكمة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏‏.‏
والأخذ‏:‏ القبول، أي إن أُجبتم بمثل ما تهوَون فاقبلوه وإن لم تجَابوه فاحذروا قبوله‏.‏ وإنّما قالوا‏:‏ فاحذروا، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مَضَوْا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها‏.‏
وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه‏.‏ فذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏فلَن تملك له من الله شيئاً‏}‏، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة‏.‏
وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا‏.‏
ومدلول مفرداته أنّك لا تملك، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة، قال قَيْس بن الخطيم‏:‏
مَلكتُ بها كَفِّي فأنْهَر فَتْقَهَا *** أي شددت بالطعنة كفّي، أي ملكتها بكفّي، وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم لعُيَينة بن حِصْن ‏"‏ أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة ‏"‏ وفي حديث دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم عشيرته ‏"‏ فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً ‏"‏
و ‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب على المفعولية‏.‏ وتنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ للتقليل والتّحقير، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليللٍ مقتضياً انتفاءَ ملك الشيء الكثير بطريق الأولى‏.‏
والقول في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم‏}‏ كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يرد الله فتنته‏}‏‏.‏ والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدَى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان‏.‏
والخزي تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ خزي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏192‏)‏‏.‏
وأعاد سَمَّاعون للكذب‏}‏ للتّأكيد وليرتّب عليه قوله ‏{‏أكّالون للسحت‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏أكَّالون للسحت‏}‏ أخَّاذون له، لأنّ الأكل استعارة لتمام الانتفاع‏.‏ والسحت بضمّ السين وسكون الحاء الشيء المسحوت، أي المستأصل‏.‏ يقال‏:‏ سحته إذا استأصَله وأتلفه‏.‏ سمّي به الحرام لأنّه لا يُبارك فيه لصاحبه، فهو مسحوت وممحوق، أي مقدّر له ذلك، كقوله ‏{‏يمحق الله الرّبا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏، قال الفرزدق‏:‏
وعَضُّ زماننٍ يابنَ مروانَ لم يَدع *** من المال إلاّ مُسْحَت أو مجَنَّف
والسحت يشمل جميع المال الحرام، كالربا والرّشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف «سحْت» بسكون الحاء وقرأه الباقون بضمّ الحاء إتْباعاً لضمّ السّين‏.‏
تفريع على ما تضمّنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏، فإنّ ذلك دلّ على حِوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التّوراة فيه بالتّأويل أو الكتمان، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به‏.‏ وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون‏.‏ وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة‏.‏ ويحتمل أنّ المراد‏:‏ فإن جاؤوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏.‏
وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم‏.‏ ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف‏.‏
وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى‏.‏ ويؤيّده قوله بعد ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين‏}‏ أي بالحقّ، وهو حكم الإسلام بالحدّ‏.‏ وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئاً‏}‏ فذلك تطمين للنّبيء صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه‏:‏ كيف أعرض عنهم، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا‏.‏ يقولون‏:‏ ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد‏.‏ وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة‏.‏ ولعلّ في هذا التطمين إشعاراً بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال‏.‏ وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافاً لما فسّر به المفسّرون هنا‏.‏
وتنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ للتحقير كما هو في أمثاله، مثل ‏{‏فلَن تملك له من الله شيئاً‏}‏ وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئاً من الضرّ، فهو نائب عن المصدر‏.‏ وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏155‏)‏‏.‏
والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول‏.‏ واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين‏.‏ وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم ‏(‏وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع‏)‏‏.‏ وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات‏.‏
فمن العلماء من قال‏:‏ حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا‏:‏ الآية نزلت في قصّة الرجم ‏(‏الّتي رواها مالك في الموطأ‏}‏ والبخاري ومن بعده‏)‏ وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم‏:‏ لنسأل محمّداً عن ذلك‏.‏ فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى‏.‏ واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم‏:‏ كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم‏.‏ وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة‏.‏
وقال الجمهور‏:‏ هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً‏.‏ وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي‏.‏ قال مالك‏:‏ الأعراض أولى‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخاً لأوّلها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ أي بالعدل‏.‏ والعدل‏:‏ الحكم الموافق لشريعة الإسلام‏.‏ وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام‏.‏ وهذا الّذي رواه مالك‏.‏ وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا‏.‏ ويكون مَا وقع في حديث «الموطأ» والبخاري‏:‏ أنّ الرجل والمرأة رُجما، إنّما هو بحكم أحبارهم‏.‏ ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها‏.‏ ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه‏.‏ وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي‏.‏ وقائل هذا يقول‏:‏ هذا نُسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏، وهو قول جماعة من التّابعين‏.‏ ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏
والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم‏:‏ أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم‏.‏ ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام‏:‏
القسم الأوّل‏:‏ ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام‏.‏ وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أيمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس‏.‏
القسم الثّاني‏:‏ ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام‏.‏ وهذه أيضاً يقرّون عليها، قال مالك‏:‏ لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية‏.‏ قال ابن خُويز منداد‏:‏ ولا يُرسل الإمام إليهم رسولاً ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه‏.‏
القسم الثّالث‏:‏ ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض‏.‏ وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يحبّ الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات‏.‏
القسم الرّابع‏:‏ ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض‏:‏ كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوجين‏.‏ فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين‏.‏ فقال مالك‏:‏ يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوباً، لأنّ في الاعتداء ضرباً من الظلم والفساد، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏
‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏
وهذه الجملة عطف على جملة ‏{‏فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعْرض عنهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ والاستفهام للتعجيب، ومحلّ العجب مضمون قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ يتولّون من بعد ذلك‏}‏، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم‏.‏ فالإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ إلى الحكم المستفاد من ‏{‏يُحكّمونك‏}‏، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك‏.‏ وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين، كما وصف الله حال المنافقين في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48، 49‏]‏‏.‏ ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري، أي هم لا يحكّمونك حقّاً‏.‏ ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّاً، أي لا يكون تحكيمهم صَادقاً بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه، وهو حكم الله، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم، فما هم بمحكِّمين حقيقة‏.‏ فيكون فعل ‏{‏يحكّمونك‏}‏ مستعملاً في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏ الآية‏.‏ ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ إلى مجموع ما ذكر، وهو التّحكيم، وكون التّوراة عندهم، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة‏.‏
وجملة ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ في موضع الحال من ضمير الرفع في ‏{‏يحكّمونك‏}‏‏.‏ ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقاً‏.‏
وضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائد إلى التّوراة، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتاباً ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة‏.‏ وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل التّوراة والإنجيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏3‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها‏.‏ ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم، والعظيم يتخيّل عَالياً، كما تقدّم غير مرّة‏.‏
والنّور استعارة للبيان والحقّ، ولذلك عطف على الهُدى، فأحكامها هادية وواضحة، والظرفية‏.‏ حقيقية، والهدى والنّور دلائلهما‏.‏ ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة، كقوله‏:‏ ‏{‏يخرجهم من الظلمات إلى النّور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق، فالنّور أعمّ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم‏.‏
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده‏.‏ فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحقّ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء‏.‏ ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ كما تقدّم هنالك‏.‏ وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه‏:‏ ‏{‏توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏‏.‏ والمقصود من الوصف بقوله‏:‏ ‏{‏الّذين أسلموا‏}‏ على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء‏.‏ ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للّذين هادوا‏}‏ للأجل وليست لتعدية فعل ‏{‏يحكم‏}‏ إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم‏.‏ والّذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، كما قدّمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏62‏)‏‏.‏
والرّبّانيون جمع ربّاني، وهو العالم المنسوب إلى الربّ، أي إلى الله تعالى‏.‏ فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس، كما قالوا‏:‏ شعراني لكثير الشعَر، ولحياني لعظيم اللّحية‏.‏ وقيل‏:‏ الربّاني العالم المُربي، وهوَ الّذي يبتدئ النّاس بصغار العلم قبل كباره‏.‏ ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري‏}‏‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كونوا رَبَّانيّين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏‏.‏
والأحبار جمع حَبْر، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة، وهو بفتح الحاء وكسرها، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به‏.‏ وعطف ‏{‏الربّانيّون والأحبار‏}‏ على ‏{‏النّبيئون‏}‏ لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين‏.‏
والاستحفاظ‏:‏ الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته‏.‏
استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه‏.‏
فالباء في قوله ‏{‏بما استحفظوا‏}‏ للملابسة، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى‏.‏ ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان‏.‏ ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في «المدارك»، عن أبي الحسن بن المنتاب، قال‏:‏ كنت عند إسماعيل يوماً فسئل‏:‏ لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن، فقال‏:‏ لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ فوكل الحفظ إليهم‏.‏ وقال في القرآن‏:‏ ‏{‏إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن‏.‏ قال‏:‏ فذكرت ذلك للمُحاملي، فقال‏:‏ لا أحْسَنَ من هذا الكلام‏.‏
و ‏{‏من‏}‏ مبيّنة لإبهام ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا‏}‏‏.‏ و‏{‏كتاب الله‏}‏ هو التّوراة، فهو من الإظهار في مقام الإضمار، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى‏.‏
وضميرُ ‏{‏وكانوا‏}‏ للنبيئين والربانيّين والأحبار، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله، أي شهداء على حفظه من التّبديل، فحرف ‏(‏على‏)‏ هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ‏(‏على‏)‏ الّذي يتعدّى به فعل شَهِد، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له، أي المحِقّ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ‏(‏حفظ ورقب‏)‏ ونحوهما، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به‏.‏
ولذلك عقّبه بجملة ‏{‏فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن‏}‏ المتفرّعة بالفاء على قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا عليه شهداء‏}‏، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه‏.‏ فيجوز أن يكون الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا النّاس‏}‏ ليهود زمان نزول الآية، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين، والجملة على هذا الوجه معترضة؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول، أي قلنا لهم‏:‏ فلا تخشوا النّاس‏.‏ والتّفريع ناشئ عن مضمون قوله‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى‏.‏
وتقدّم الكلام في معنى ‏{‏ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏41‏)‏‏.‏
وقولُه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا النّاس واخشون‏}‏، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة‏.‏
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم‏.‏
و ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم‏.‏ والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر‏.‏ وقد اقتضى هذا قضيتين‏:‏
إحداهما‏:‏ كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً؛ والثّانية‏:‏ قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله‏.‏
فأمَّا القضيةُ الأولى‏:‏ فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا‏.‏ لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم‏.‏ وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة‏.‏ وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب، ومساق الآية يبيّن إجمالها‏.‏ ولذلك قال جمهور العلماء‏:‏ المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في «صحيحه»‏.‏ فعلى هذا تكون ‏(‏مَنْ‏)‏ موصولة، وهي بمعنى لام العهد‏.‏ والمعنى عليه‏:‏ ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته‏.‏ وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر‏.‏ وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع‏.‏
وقال جماعة‏:‏ المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له، أو استخفافاً به، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله، سمِعه المكلّف بنفسه‏.‏ وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عبّاس، ومجاهد، والحسن، ف ‏{‏من‏}‏ شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر‏.‏ وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية‏.‏
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله‏.‏ ٍ
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر؛ فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة، كما قالت زوجة ثابت بن قيس «أكره الكُفر في الإسلام» أي الزّنى، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين، وروى هذا عن ابن عبّاس‏.‏ وقال طاووس «هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان»‏.‏ وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير‏.‏
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين‏.‏ وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ الآية وبيّنّا وجوهه، وسيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏}‏ إلى قوله ‏{‏بل أولئك هم الظّالمون‏}‏ في سورة النّور ‏(‏48 50‏)‏‏.‏
وأمّا القضيّة الثّانية‏:‏ فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام‏.‏
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله‏.‏ وهذا تأويل ثالث في الآية، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره، بأنّ ترك الحكم بين النّاس، أو دَعا إلى الصلح، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم‏.‏ فالمعنى‏:‏ ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏
‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏
عطفت جملة ‏{‏كتبنا‏}‏ على جملة ‏{‏أنزلنا التّوراة‏}‏ المائدة‏:‏ 44‏)‏‏.‏ ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى، ففاضلوا بين القتلى والجرحى، كما سيأتي، فلذلك ذيّله بقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون‏}‏، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏
والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف ‏(‏على‏)‏، أي أوجبنا عليهم فيها، أي في التّوراة مضمونَ ‏{‏أنّ النّفس بالنّفس‏}‏، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً، كما اقتضت تعديّة فعل ‏{‏كتبنا‏}‏ بحرف ‏(‏في‏)‏ فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته، ومجازه‏.‏
وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏282‏)‏، وقال الحارث بن حلّزة‏:‏
وهل ينقض ما في المهارق الأهواءُ *** والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من ‏(‏أنّ‏)‏‏.‏ والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص‏.‏ وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة ‏(‏أنّ‏)‏ هنا، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها‏.‏
وقرأ الجمهور والعينَ بالعينَ‏}‏ وما عطف عليها بالنصب عطفاً على اسم ‏(‏أنّ‏)‏‏.‏ وقرأه الكسائي بالرفع‏.‏ وذلك جائز إذا استكملت ‏(‏أنّ‏)‏ خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة‏.‏
والنّفس‏:‏ الذات، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنسون أنفسكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏44‏)‏‏.‏ والأذن بضمّ الهمزة وسكون الذال، وبضمّ الذال أيضاً‏.‏ والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه، وكذلك في والعين‏}‏ الخ‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالنّفس‏}‏ ونظائره الأربعة باء العوض، ومدخولات الباء كلّها أخبار ‏(‏أنّ‏)‏، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام؛ فيقدر‏:‏ أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس؛ والعين مفقوءة بالعين، والأنفَ مجدوع بالأنف؛ والأذن مصلُومة بالأذن‏.‏
ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني‏.‏ والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاءِ الجسد كاليد والرِجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالباً عند المضاربة بقصد قطع الرقبة، فقد ينبو السيفُ عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ‏.‏ وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل، قال الحَريش بنُ هلال‏:‏
نعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وُجوهاً لا تعرّض لللّطَام
وقوله‏:‏ ‏{‏والجروحَ قصاص‏}‏ أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف، أي ذات قصاص‏.‏ وقصاص مصدر قاصّة الدَّالّ على المفاعلة، لأنّ المجنيّ عليه يقاصّ الجاني، والجاني يقاصّ المجني عليه، أي يقطع كلّ منهما التبعة عن الآخر بذلك‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏قصاص‏}‏ مصدراً بمعنى المفعول، كالخلْق بمعنى المخلوق، والنَّصْب بمعنى المنصوب، أي مقصوص بعضها ببعض‏.‏ والقصاص‏:‏ المماثلة، أي عقوبة الجاني بجِراح أن يُجرح مثل الجرح الّذي جنى به عمداً‏.‏ والمعنى إذا أمكن ذلك، أي أُمِن من الزيادة على المماثلة في العقوبة، كما إذا جَرحه مأمومة على رأسه فإنَّه لا يدري حين يَضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضّربة فلعلّها تقضي بموته؛ فيُنتقَل إلى الدية كلّها أو بعضها‏.‏ وهذا كلّه في جنايات العمد، فأمّا الخطأ فلم تتعرض له الآية لأنّ المقصود أنّهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية‏.‏
وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف ‏{‏والجروح‏}‏ بالنّصب عطفاً على اسم ‏(‏أنّ‏)‏‏.‏ وقرأه ابن كثير، وابنُ عامر، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب بالرّفع على الاستئناف، لأنّه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصّل حكم قطع الأعضاء‏.‏
وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حرباً، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة، فشرطت النضير على قريظة أنّ ديّة النضيري على الضِعف من ديّة القُرظي وعلى أنّ القرظي يُقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏ ويجوز أن يقصد من ذلك أيضاً تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايُل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود‏.‏ ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولاً في النّفوس، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم للهتعالى، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأفوام والأزمان، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب‏:‏
فيَقْتُلَ جَبْراً بامرئ لم يكن له *** بَوَاءً ولكنْ لاَ تَكَايُلَ بالدّم
تريد‏:‏ رضينا بأن يُقتل الرجل الذي اسمه ‏(‏جبر‏)‏ بالمرء العظيم الّذي ليس كفؤاً له، ولكن الإسلام أبطل تكايُل الدّماء‏.‏ والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النّفس بعدّة أنفس، وقد قدّر شيوخ بني أسد دَم حُجْرٍ والد امرئ القيس بدِيات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التّقدير وقال لهم‏:‏ «قد علمتم أن حُجراً لم يكن ليَبُوء به شيء» وقال مهلهل حين قَتَل بُجيرا‏:‏
«بُؤْ بشِسْع نَعْل كُليب» *** والبَواء‏:‏ الكفاء‏.‏ وقد عَدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنَّما يقصد القاتل الرأس ابتداء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فمن تصدّق به فهو كفارة له‏}‏ هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل، فالمراد ب ‏{‏مَنْ تصدّق‏}‏ من تصدّق منهم، وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله ‏{‏بالنفس‏}‏ الخ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له، أي تنازل عن العوض‏.‏ وضمير ‏{‏له‏}‏ عائد إلى ‏{‏من تصدّق‏}‏‏.‏ والمراد من التصدّق العفو، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جُعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه، وبذلك يتبيّن أن معنى ‏{‏كفّارة له‏}‏ أنّه يكفّر عنه ذنوباً عظيمة، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة‏.‏
وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون‏}‏ لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شُرع لحكم عظيمة‏:‏ منها الزجر، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم‏.‏ فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح، وهْو ظلم، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو ولِيّه‏.‏ وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو‏.‏ ولم ينبّه عليه المفسّرون‏.‏ وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون‏}‏ القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم‏.‏ والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّداً للّذي في الآية السابقة‏.‏ ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏
‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ انتقالاً إلى أحوال النّصارى لقوله‏:‏ ‏{‏وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولشك هم الفاسقون‏}‏، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام الّتي كتبها الله عليهم، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التّوراة‏:‏ أحدهما‏:‏ ما حرّفوه وتردّدوا فيه بعد أن حرّفوه فشكّوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرّسول؛ وثانيهما‏:‏ ما حرّفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرّجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص‏.‏ وهذا نوع ثالث‏:‏ وهو إعراضهم عن حكم الله بالكليّة، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام‏.‏
والتقفية مصدر قفّاه إذا جعله يَقفوه، أي يأتي بعده‏.‏ وفعلُه المجرّد قَفا بتخفيف الفاء ومعنى قَفاه سار نحو قفاه، والقفا الظهر، أي سار وراءه‏.‏ فالتقفية الإتْباع متشقّة من القفا، ونظيره‏:‏ تَوجَّه مشتقّاً من الوجه، وتعقّب من العقب‏.‏ وفعل قفّى المشدّد مضاعف قفا المخفّف، والأصل في التضعيف أن يفيد تعديّة الفعل إلى مفعول لم يكن متعدّياً إليه، فإذا جعل تضعيف ‏{‏قفّينا‏}‏ هنا معدّياً للفعل اقتضى مفعولين‏:‏ أوّلهما‏:‏ الّذي كان مفعولاً قبل التّضعيف، وثانيهما‏:‏ الّذي عدّي إليه الفعل، وذلك على طريقة باب كَسَا؛ فيكون حقّ التّركيب‏:‏ وقفَّيناهم عيسى ابن مريم، ويكون إدخال الباء في ‏{‏بعيسى‏}‏ للتّأكيد، مثل ‏{‏وامسحوا برءوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وإذا جعل التّضعيف لغير التّعديّة بل لمجرّد تكرير وقوع الفعل، مثل جَوّلت وطوّفت كان حقّ التّركيب‏:‏ وقفّيناهم بعيسى ابن مريم‏.‏ وعلى الوجه الثّاني جرى كلام «الكشاف» فجعل باء ‏{‏بعيسى‏}‏ للتعدية‏.‏ وعلى كلا الوجهين يكون مفعول ‏{‏قفّينا‏}‏ محذوفاً يدلّ عليه قوله ‏{‏على آثارهم‏}‏ لأنّ فيه ضمير المفعول المحذوف، هذا تحقيق كلامه وسلّمه أصحاب حواشيه‏.‏
وقوله ‏{‏على آثارهم‏}‏ تأكيد لمدلول فعل ‏{‏قفّينا‏}‏ وإفادة سرعة التقفية‏.‏ وضمير ‏{‏آثارهم‏}‏ للنّبيئين والرّبانيين والأحبار‏.‏ وقد أرسل عيسى على عقب زكرياء كافِل أمّه مريم ووالدِ يحيى‏.‏ ويجوز أن يكون معنى ‏{‏على آثارهم‏}‏ على طريقتهم وهديهم‏.‏ والمصدّق‏:‏ المخبر بتصديق مخبر، وأريد به هنا المؤيّدُ المقرّر للتّوراة‏.‏
وجَعَلها ‏{‏بين يديه‏}‏ لأنّها تقدّمتْه، والمتقدّم يقال‏:‏ هو بين يدي من تقدّم‏.‏ و‏{‏من التّوراة‏}‏ بيان ‏{‏لمَا‏}‏‏.‏ وتقدّم الكلام على معنى التّوراة والإنجيل في أوّل سورة آل عمران‏.‏
وجملة ‏{‏فيه هدى ونور‏}‏ حال‏.‏ وتقدّم معنى الهُدى والنّور‏.‏
و ‏{‏مصدّقاً‏}‏ حال أيضاً من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله ‏{‏بعيسى ابن مريم مصدّقاً‏}‏ لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التّصديق؛ فتصديق عيسى التّوراةَ أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديق حقيقي؛ وتصديق الإنجيل التّوراة اشتماله على ما وافق أحكامَها فهو تصديق مجازي‏.‏ وهذا التّصديق لا ينافي أنّه نَسخَ بعض أحكام التّوراة كما حكى الله عنه
‏{‏ولأحِلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏، لأنّ الفعل المثبَت لا عموم له‏.‏
والموعظة‏:‏ الكلام الّذي يلِين القلب ويَزجر عن فعل المنهيات‏.‏
وجملة ‏{‏وليحكم‏}‏ معطوفة على ‏{‏آتيناه‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولْيحكم‏}‏ بسكون اللاّم وبجزم الفعل على أنّ اللام لام الأمر‏.‏ ولا شكّ أنّ هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام، فهو ممّا أمر الله به الّذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنّصارى، فعلم أنّ في الجملة قولاً مقدّراً هو المعطوف على جملة ‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصّفات العظيمة، وقلنا‏:‏ ليحكم أهل الإنجيل، فيتمّ التّمهيد لقوله بعده ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏، فقرائن تقدير القول مُتظافِرة من أمور عدّة‏.‏
وقرأ حمزة بكسر لام ‏{‏ليحكم‏}‏ ونصب الميم على أنّ اللام لام كي للتّعليل، فجملة ‏{‏ليحكم‏}‏ على هذه القراءة معطوفة على قوله ‏{‏فيه هدى‏}‏ الخ، الّذي هو حال، عُطفتتِ العلّة على الحال عطفاً ذِكرياً لا يشرِّك في الحكم لأنّ التّصريح بلام التّعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى‏.‏ وصاحب «الكشاف» قدّر في هذه القراءة فعلاً مَحذوفاً بعد الواو، أي وآتيناه الإنجيل، دلّ عليه قوله قبله ‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام‏.‏
والمراد بالفاسقين الكافرون، إذ الفسق يطلق على الكفر، فتكون على نحو ما في الآية الأولى‏.‏ ويحتمل أنّ المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنّهم يخالفونه فيكون ذمّاً للنصارى في التّهاون بأحكام كتابهم أضعفَ من ذمّ اليهود‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏
‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏
جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الرسول لا يُحزنك الّذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخاً لما قبله، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام، فوقْعُ قوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ‏}‏ إتماماً لترتيب نزول الكُتب السماويّة، وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏فاحْكم بينهم بما أنزل الله‏}‏‏.‏ ووقع قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ موقع التّخلّص المقصود، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه‏.‏
والكتاب الأوّل القرآن، فتعْريفه للعهد‏.‏ والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة، فتعريفه للجنس‏.‏ والمُصدّق تقدّم بيانه‏.‏
والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيْعَل كسَيْطَر، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع هَمَن‏.‏
قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلاّ هَيْنَم إذا دعا أو قرأ، وبيقر إذا خرَج من الحِجاز إلى الشّام، وسيطر إذا قَهر‏.‏ وليس له نظير في وزن مفيعل إلاّ اسم فاعل هذه الأفعال، وزادوا مُبيطر اسم طبيب الدّواب، ولم يسمع بَيْطَر ولكن بَطَر، ومُجيمر اسم جبل، ذكره امرؤ القيس في قوله‏:‏
كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِر غُدوة *** من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب، ومن أسمائه تعالى المهيمن‏.‏
وقيل‏:‏ المهيمن مشتقّ من أمِن، وأصله اسم فاعل من آمنَه عليه بمعنى استحفظه به، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة، فأصله مُؤَأْمِن، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمَن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء، كما قالوا في أراق هَراق، فقالوا‏:‏ هَيْمَن‏.‏
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيّد لبعض ما في الشّرائع مُقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مُصَدّق، أي مُحقّق ومقرّر، وهو أيضاً مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ أي بما أنزل الله إليك في القرآن، أو بما أوحاه إليك، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه اللّهُ بحكم جديد، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لِمَنْ قبلنا‏.‏ فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة، فيحتمل أنّه كان مؤيّداً بالقرآن إذا كان حينئذٍ قد جَاء قوله‏:‏ «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما»‏.‏
ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم، فحكم به، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم‏.‏ وقد اتّصل معنى قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، ولكنه بيان سمّاه بعضُ السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة‏.‏
والنّهي عن اتّباع أهوائهم، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يَحكم عليهم بما تَقَرّر من عوائِدهم، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة، لأنّ نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه، ونزولَه مصدّقاً أيَّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه‏.‏
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله، فالمقصود من هذا النّهي‏:‏ إمَّا إعلان ذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتّبع أهواءهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئنْ أشركت ليحبَطنّ عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وإمَّا تبيين الله لرسوله وجهَ ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرُقاً للترجيح، وذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لشدّة رغبته في هُدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم، لأنّهم وعَدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به‏.‏ فقد يقال‏:‏ إنّهم لمّا تراضَوا عليه لِم لا يُحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في الإسلام، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يمُنّون عليكَ أنْ أسلموا قل لا تُمُنّوا عليّ إسلامَكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ كالتعليل للنّهي، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسَّكوا بشرعكم‏.‏‏.‏
والشرعة والشريعة‏:‏ الماء الكثير من نهر أو واد‏.‏ يقال‏:‏ شريعة الفرات‏.‏ وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها‏.‏ والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيراً، كما قدمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلِمه الّذين يستنبطونه منهم في سورة النساء ‏(‏83‏)‏‏.‏
والمنهاج‏:‏ الطريق الواسع، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء، كقول قيس بن الخطيم‏:‏
وأتبعت دلوي في السماح رِشاءها *** فذكر الرشاء مجرّد تخييل‏.‏ ويصحّ أن يجعل له رديف في المشبَّه بأن تشبّه العوائد المنتزعة من الشّريعة، أو دلائل التّفريع عن الشريعة، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصّل إلى السماء‏.‏
فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود‏.‏ وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرْق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم‏.‏
وقوله‏:‏ ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة‏}‏‏.‏ الجعل‏:‏ التقدير، وإلاّ فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام، ولكنّه رتّب نواميس وجبلاّت، وسبَّب اهتداء فريق وضلال فريق، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان، والميللِ أو الانصراففِ، والعزم أو المكابرة‏.‏ ولا عذر لأحد في ذلك، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات‏.‏
والأمّة‏:‏ الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة‏.‏ وأصل الأمّة في كلام العرب‏:‏ القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها‏.‏
ومعنى ‏{‏ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏ هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه‏.‏ والبلاء‏:‏ الخبرة‏.‏ والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس، والمرادُ لازم المعنى على طريق الكناية، كقول إياس بن قبيصة الطائي‏:‏
وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعْلَمَ مَن جَبَانُهَا مِن شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس‏.‏ ومعناه أنّ الله وَكَل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابَق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علماً وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح‏.‏ وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد، وذلك من الاختبار‏.‏ ولذلك قال ‏{‏ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر‏.‏ فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يَبلغ بعضُها درجاتتٍ عالية، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدارُ عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل‏.‏
وفرّع على ‏{‏ليبلوكم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضَح وأجلى‏.‏
والاستباق‏:‏ التسابق، وهو هنا مجاز في المنافسة، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر، فشابه التّسابق‏.‏ ولتضمين فعل ‏{‏استبقوا‏}‏ بمعنى خذوا، أو ابتدروا، عدّي الفعل إلى ‏{‏الخيرات‏}‏ بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى، كقوله ‏{‏سَابقوا إلى مغفرة من ربّكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ أي من الاختلاف في قبول الدّين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏
‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون قوله ‏{‏وأن احكم‏}‏ معطوفاً عطفَ جملة على جملة، بأن يجعل معطوفاً على جملة ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، فيكون رجوعاً إلى ذلك الأمر لتأكيده، وليبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏واحْذَرْهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ كما بُني على نظيره قوله‏:‏ ‏{‏لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وتكُون ‏(‏أنْ‏)‏ تفسيرية‏.‏ و‏(‏أنْ‏)‏ التفسيريّة تفيد تقويّة ارتباط التّفسير بالمفسَّر، لأنّها يمكن الاستغناء عنها، لصحّة أن تقول‏:‏ أرسلتُ إليه افْعَل كذا، كما تقول‏:‏ أرسلت إليه أنْ افعَلْ كذا‏.‏ فلمّا ذكر الله تعالى أنّه أنزل الكتاب إلى رسوله رتّب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، فدلّ على أنّ الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله‏.‏ وعطَف عليه ما يدلّ على أنّ الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلّت عليه ‏(‏أنْ‏)‏ التفسيرية في قوله‏:‏ ‏{‏وأنْ احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏، فتأكَّد الغرض بذِكْره مرّتين مع تفنّن الأسلوب وبداعته، فصار التّقدير‏:‏ وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ أنْ احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به‏.‏ وممّا حسَّن عطفَ التّفسير هنا طولُ الكلام الفاصِل بين الفعل المفسَّر وبين تفسيره‏.‏ وجعله صاحب «الكشاف» من عطف المفردات‏.‏ فقال‏:‏ عُطف ‏{‏أن احكم‏}‏ على ‏{‏الكِتاب‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ كأنّه قيل‏:‏ وأنزلنا إليك أنْ احْكُم‏.‏ فجعل ‏(‏أنْ‏)‏ مصدريّة داخلة على فعل الأمر، أي فيكون المعنى‏:‏ وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله‏:‏ ‏{‏إنّا أرسلنا نُوحاً إلى قومه أن أنذر قومك‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، وبيّن في سورة يونس ‏(‏105‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن أقم وجهك للدّين حنيفاً‏}‏ أنّ هذا قول سيبويه إذ سوّغ أن توصل ‏(‏أنْ‏)‏ المصدريّة بفعل الأمر والنّهي لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر، والأمرُ والنّهي يدلاّن على معنى المصدر، وعلّله هنا بقوله‏:‏ لأنّ الأمر فعل كسائر الأفعال‏.‏ والحملُ على التفسيرية أوْلَى وأَعرب، وتكون ‏(‏أنْ‏)‏ مقحمة بين الجملتين مفسّرة لفعل أنْزَل‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏؛ فإنّ ‏{‏أنزل‏}‏ يتضمّن معنى القول فكان لحرف التّفسير موقع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتّبع أهواءهم‏}‏ هو كقوله قبلَه ‏{‏ولا تتّبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏
وقولُه‏:‏ ‏{‏واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم ممّا أمَّلوه، لأنّ حذر النّبيء صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله‏.‏
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صحّ ما روي من أنّ بعض أحبارهم وعدوا النّبيء بأنّه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتّبعتهم اليهود اقتداء بهم، فأراه الله أنّ مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بينَ غير أتباعه مقدّمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود، لأجل ذلك فإنّ شأن الإيمان أن لا يقاوِل النّاس على اتّباعه كما قدّمناه آنفاً‏.‏
والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهّم ذلك‏.‏
ولذلك فرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولّوا‏}‏، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتّبع أهواءهم وتولّوا فاعلم، أي فتلك أمارة أنّ الله أراد بهم الشّقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في تولّيهم حرج‏.‏ وأراد ببعض الذنوب بعضاً غيرَ معين، أي أنّ بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأنّ تولّيهم عن حكمك أمارة خذلان الله إيّاهم‏.‏
وقد ذيّله بقوله‏:‏ ‏{‏وإنّ كثيراً من النّاس لفاسقون‏}‏ ليَهُونَ عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر النّاس، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏
‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏
فَرّعت الفاء على مضمون قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولّوا فاعلم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي، والاستفهام إنكاري، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة‏.‏ وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب، وهم أهلُ جاهلية، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يَبغون‏}‏ بياء الغائب، والضمير عائد ل ‏{‏مَن‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات‏.‏
والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله حكماً‏}‏ واو الحال، وهو اعتراض، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، أي لا أحسن منه حكماً‏.‏ وهو خطاب للمسلمين، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لقوم يوقنون‏}‏ اللام فيه ليست متعلّقة ب ‏{‏حكماً‏}‏ إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم، ولا هي لام التّقوية لأنّ ‏{‏لقوم يوقنون‏}‏ ليس مفعولاً ل ‏{‏حُكماً‏}‏ في المعنى‏.‏ فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء، وهي الواقعة في نحو قولهم‏:‏ سَقْيَاً لك، وَجَدْعاً له، وفي الحديث «تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هيهات هيهات لِما توعدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏حاش لله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام‏.‏ ومنه قول تعالى عن زليخا ‏{‏وقالت هيتَ لك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له ‏{‏هيت لك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏، إذا كان ‏(‏هيت‏)‏ اسمَ فِعْللِ مُضي بمعنى تهيّأتُ، ومثل قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏}‏‏.‏ وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو ‏{‏حاشَ لله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم‏:‏ سَقياً لك ورعياً، ونحوهما، وفي قوله‏:‏ ‏{‏هِيتَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ‏.‏ وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏
تهيّأت نفوس المؤمنين لقبول النّهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليبَ الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى‏}‏ الآية، لأنّ الولاية تنبنِي على الوفاق والوئام والصّلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبُعد ما بين الأخلاق الدّينيّة، ولإضمارهم الكَيد للمسلمين‏.‏ وجرّد النّهي هنا عن التّعليل والتّوجيه اكتفاء بما تقدّم‏.‏
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ وسبب النّهي هو ما وقع من اليهود، ولكن لمّا أريد النّهي لم يُقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنّهم مأذونون في موالاة النّصارى، فلدفع ذلك عطف النّصارى على اليهود هنا، لأنّ السبب الدّاعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين، وهو اختلاف الدّين والنفرةُ الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فالنّصارى وإن لم تجئ منهم يومئذٍ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وُجد داعيها‏.‏
وفي هذا ما ينبّه على وجه الجمع بين النّهي هنا عن موالاة النّصارى وبين قوله فيما سيأتي ‏{‏وليتجِدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ولا شكّ أنّ الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قُربَهَا، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب‏.‏ وعن السُدّي أنّ بعض المسلمين بعْد يوم أحُد عزم أن يوالي يهودياً، وأنّ آخر عزم أن يوالي تصرانياً كما سيأتي، فيكون ذكر النّصارى غير إدماج‏.‏
وعقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي أنّهم أجدر بولاية بعضهم بعضاً، أي بولاية كلّ فريق منهم بعض أهللِ فريقِه، لأنّ كلّ فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم، وليس المعنى أنّ اليهودَ أولياء النّصارى‏.‏ وتنوين ‏{‏بعضٍ‏}‏ تنوين عوض، أي أولياء بعضهم‏.‏ وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما‏.‏
والولاية هنا ولاية المودّة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النّصراني والعكس أخذاً بقول النّبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏لا يتوارث أهل ملّتين‏}‏‏.‏ وقال الشّافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملّة واحدة أخذاً بظاهر هذه الآية، وهو مذهب داوود‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتَولّهم منكم فإنّه منهم‏}‏، ‏(‏مَن‏)‏ شرطيّة تقتضي أنّ كلّ من يتولاّهم يصير واحداً منهم‏.‏ جعل ولايتهم موجّبة كونَ المتولّي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخولٌ في ملّتهم، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلاّ بالكون في دينهم‏.‏ ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين‏:‏ إمّا بحمل الولاية في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتولّهُم‏}‏ على الولاية الكاملة الّتي هي الرّضى بدينهم والطعنُ في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطيّة‏:‏ ومن تولاّهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار‏.‏
وأمّا بتأويل قوله‏:‏ ‏{‏فإنّه منهم‏}‏ على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب‏.‏ قال ابن عطيّة‏:‏ من تولاّهم بأفعاله من العَضْد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم اه‏.‏ وهذا الإجمال في قوله‏:‏ ‏{‏فإنّه منهم‏}‏ مبالغة في التّحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذٍ بأن يتولّوا اليهود والنّصارى، لأنّ ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذٍ ي حيرة إذ كان حولهم المنافقُون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعيّن لحفظ الجامعة التّجرّد عن كلّ ما تتطرّق مِنه الرّبية إليهم‏.‏
وقد اتّفق عُلماء السنّة على أنّ ما دون الرّضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة ولكنّه ضلال عظيم، وهو مراتب في القُوّة بحسب قوّة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين‏.‏
وأعظم هذه المراتب القضية الّتي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة الّتي سئل عنها فقهاء غرناطة‏:‏ محمد الموّاق، ومحمد بن الأزرق، وعليّ بن داوود، ومحمد الجعدالة، ومحمد الفخار، وعليّ القلصادي، وأبو حامد بن الحسن، ومحمد بن سرحونة، ومحمد المشذّالي، وعبد الله الزليجي، ومحمد الحذام، وأحمد بن عبد الجليل، ومحمد بن فتح، ومحمد بن عبد البرّ، وأحمد البقني، عن عصابة من قُواد الأندلس، وفرسانهم لَجَأُوا إلى صاحب قشتالة ‏(‏بلاد النصارى‏)‏ بعد كائنة ‏(‏اللَّسانة‏)‏ كذا واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبْل جواره وسكنوا أرض النّصارى فهل يحلّ لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأوُوهم‏.‏ فأجابوا بأنّ رُكونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم‏}‏ فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله، هذا ما داموا مصرّين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم‏.‏
فاستِدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدلّ على أنّهم تأوّلوها على معنى أنّه منهم في استحقاق المقت والمذمة، وهذا الّذي فعلوه، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظمُ أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر‏.‏ وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التّجارة ونحوها‏.‏ ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلاً، وهو المعاملة‏.‏ وقد عامَل النّبيء صلى الله عليه وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر، وقد بيّنّا شيئاً من تفصيل هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏28‏)‏‏.‏
وجملة إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين‏}‏ تذييل للنّهي، وعموم القوم الظّالمين شمل اليهود والنّصارى، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أنّ اليهودَ والنّصارى من القوم الظّالمين بطريق الكناية‏.‏
والمراد بالظّالمين الكافرون‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فترى الّذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم‏}‏ تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وقعت في حضرته‏.‏ والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏10‏)‏‏.‏ أطلق عليه مرض لأنّه كفر مفسد للإيمان‏.‏ والمسارعة تقدّم شرحها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحْزنك الّذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وفي المجرور مضاف محذوف دلّت عليه القرينة، لأنّ المسارعة لا تكون في الذوات، فالمعنى‏:‏ يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم‏.‏
والقولُ الواقع في ‏{‏يقولون نَخشى‏}‏ قولُ لسان لأنّ عبد الله بن أبيّ بنَ سلول قال ذلك، حسبما رُوي عن عطيّة الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر أوبعد وقعة أحُد وأنّها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع‏.‏ وكان بنو قينقاع أحلافاً لعبد الله بن أبي بن سلول ولعُبادة بن الصامت، فلمّا رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال‏:‏ يا رسول الله إنّي أبرأ إلى الله من حِلف يهود وولائهم ولا أوالي إلاّ الله ورسولَه، وكان عبد الله بن أبيّ حاضراً فقال‏:‏ أمَّا أنا فلا أبرأ من حلفهم فإنّي لا بدّ لي منهم إنّي رجل أخاف الدّوائر‏.‏
ويحتمل أن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏، قولاً نفسياً، أي يقولون في أنفسهم‏.‏ فالدّائرة المخشيّة هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين، فيكون هذا القول من المرض الّذي في قلوبهم، وعن السديّ‏:‏ أنّه لمّا وقع انهزام يوم أحُد فزع المسلمون وقال بعضهم‏:‏ نأخذ من اليهود حلفاً ليُعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش‏.‏ وقال رجل‏:‏ إنّي ذاهب إلى اليهود فلان فآوي إليه وأتهوّدُ معه‏.‏ وقال آخر‏:‏ إنّي ذاهب إلى فلان النّصراني بالشّام فآوي إليه وأتنصّر معه، فنزلت الآية‏.‏ فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلّة الثّقة بنصر الله، وعلى هذا فهذه الآية تقدّم نزولها قبل نزول هذه السورة، فإمّا أعيد نزولها، وإمّا أمر بوضعها في هذا الموضع‏.‏
والظاهر أنّ قوله ‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين‏}‏ يؤيّد الرواية الأولى، ويؤيّد مَحملنا فيها‏:‏ أنّ القول قول نفسيّ‏.‏
والدائرة اسم فاعل من دار إذا عَكس سيره، فالدائرة تغيّر الحال، وغلب إطلاقها على تغيّر الحال من خير إلى شرّ، ودوائر الدّهر‏:‏ نُوبه ودولُه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويتربّص بكم الدوائر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 98‏]‏ أي تبدّل حالكم من نصر إلى هزيمة‏.‏ وقد قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السَّوْء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏ إنّ إضافة ‏(‏دائرة‏)‏ إلى ‏(‏السَّوْء‏)‏ إضافة بيان‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ لو لم تُضف الدائرة إلى السَّوْء عرف منها معناه‏.‏ وأصل تأنيثها للمرّة ثمّ غلبت على التغيّر مُلازمة لصبغة التّأنيث‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يقول الّذين آمنوا‏}‏ قرأه الجمهور ‏{‏يقول‏}‏ بدون واو في أوّله على أنّه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل‏:‏ ماذا يقول الّذين آمنوا حينئذٍ‏.‏ أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهنَ اليهود يقول الّذين آمنوا
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏ويَقول‏}‏ بالواو وبرفع ‏{‏يقول‏}‏ عطفاً على ‏{‏فعسى الله‏}‏، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالواو أيضاً وبنصب ‏{‏يقول‏}‏ عطفاً على ‏{‏أن يأتي‏}‏‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أهؤلاء‏}‏ مستعمل في التعجّب من نفاقهم‏.‏
و ‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى طائفة مقدّرة الحصول يومَ حصول الفتح، وهي طائفة الّذين في قلوبهم مرض‏.‏ والظاهر أنّ ‏{‏الّذين‏}‏ هو الخبر عن ‏{‏هؤلاء‏}‏ لأنّ الاستفهام للتّعجب، ومحلّ العجب هو قَسمَهم أنّهم معهم، وقد دلّ هذا التعجّب على أنّ المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين‏.‏
وجَهْدُ الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها، وحقيقة الجَهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة، وفِعله كمنع‏.‏ ثم أطلق على أشدِّ الفعللِ ونهاية قوّته لِمَا بَيْن الشدّة والمشقّة من الملازمة، وشاع ذلك في كلامهم ثُمّ استعمل في الآية في معنى أوْكَدِ الأيمان وأغظلها، أي أقسموا أقوى قَسَم، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عُرفاً‏.‏ ولم أر إطلاق الجَهد على هذا المعنى فيما قبلَ القرآن‏.‏ وانتصبَ ‏{‏جَهدَ‏}‏ على المفعولية المطلقة لأنّه بإضافته إلى «الأيمان» صار من نوع اليمين فكان مفعولاً مطلقاً مبيّناً للنّوع‏.‏ وفي «الكشاف» في سورة النّور جعله مصدراً بدلاً من فعله وجعل التّقدير‏:‏ أقسموا بالله يجهدون أيمانَهم جَهداً، فلمّا حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضاً عنه قدّم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه‏.‏
وجملة ‏{‏حَبِطت أعمالهم‏}‏ استئناف، سواء كانت من كلام الّذين آمنوا فتكون من المحكي بالقَول، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه‏.‏ وحبطت معناه تلِفت وفسَدت، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏
تقضَّى تحذيرهم من أعدائهم في الدّين، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه، فأقبل على تنبيههم إلى أنّ ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدّين والذبّ عنه، وأنّ الله لا يناله نفع من ذلك، وأنّهم لو ارتدّ منهم فريق أو نَفَر لم يضرّ الله شيئاً، وسيكون لهذا الدّين أتباع وأنصار وإن صدّ عنه من صَدّ، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏
فجملة ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا من يرتدد منكم‏}‏ الخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة ‏{‏إنّما وليّكم الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله ‏{‏ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ فتعْقِيبُها بهذا الاعتراض إشارة إلى أنّ اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ذريعة للارتداد، لأنّ استمرار فريق على مُوالاة اليهود والنّصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسلّ عن الإيمان فريق‏.‏ وأنبأ المتردّدين ضعفاء الإيمان بأنّ الإسلام غنيّ عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ‏{‏من يرتَدِدْ‏}‏ بدالين على فَكّ الإدغام، وهو أحد وجهين في مثله، وهو لغة أهل الحجاز، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام‏.‏ وقرأ الباقون بدال واحدة مشدّدة بالإدغام، وهو لغة تميم‏.‏ وبفتححٍ على الدال فتحة تخلّص من التقاء الساكنين لخفّة الفتح، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكّة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة‏.‏
والارتداد مطاوع الردّ، والردّ هو الإرجاع إلى مكان أو حالة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏رُدّوها عليّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقد يطلق الردّ بمعنى التّصيير ‏{‏ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتدّ عنه اتّخاذ دين قبله‏.‏
وجملة ‏{‏فسوف يأتي الله بقوم‏}‏ الخ جواب الشرط، وقد حذف منها العائد على الشرط الإسمي، وهو وعد بأنّ هذا الدّين لا يعدم أتباعاً بررة مخلصين‏.‏ ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الّذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلّةُ الاكتراث بهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لوْ خرجوا فيكم مَا زادوكم إلاّ خَبالاً‏}‏ وتطمين الرسول والمؤمنين الحقَّ بأنّ الله يعوّضهم بالمرتدِّين خيراً منهم‏.‏ فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمّنه حتّى كان للشرط جوابان‏.‏
وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسْود العَنْسي باليمن، وأصحاب طلحة بن خُويلد في بَني أسد، وأصحاب مسيلمة بننِ حبيب الحَنفي باليمامة‏.‏
ثمّ إلى ما كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تَميم وكِنْدة ونحوهم‏.‏ قيل‏:‏ لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد‏:‏ مسجد المدينة ومسجد مكّة ومسجد ‏(‏جُؤَاثَى‏)‏ في البحرين ‏(‏أي من أهل المدن الإسلاميّة يومئذٍ‏)‏‏.‏ وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالاً متأصّلة فيه قائمة بنصرته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يأتي الله بقوم‏}‏، الإتيان هنا الإيجاد، أي يوجد أقواماً لاتّباع هذا الدّين بقلوب تحبّة وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الّذين ارتدّوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم ممّا كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الّذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردّة زمن أبي بكر، فإنّ مجموعهم غير مجموع الذين ارتدّوا، فصحّ أن يكونوا ممّن شمله لفظ ‏{‏بقوم‏}‏، وتحقّق فيهم الوصف وهو محبّة الله إيّاهم ومحبّتهم ربّهم ودينه، فإنّ المحبّتين تتبعان تغيّر أحوال القلوب لا تغيّر الأشخاص فإنّ عمرو بن معد يكرب الّذي كان من أكبر عصاة الردّة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسيّة، وهكذا‏.‏
ودَخل في قوله ‏{‏بقوم‏}‏ الأقوام الّذين دخَلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة، وعرب العراق ونبَطهم، وأهل فارس، والقبط، والبَربر، وفرنجة إسبانية، وصقلّيَة، وسردانية، وتخوممِ فرانسا، ومثل الترك والمغول، والتتار، والهند، والصّين، والإغريق، والرّوم، من الأمم الّتي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حَضارته بين الأمم العظيمة، فكلّ أمّة أو فريق أو قوم تحقّق فيهم وصف‏:‏ ‏{‏يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يحاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏}‏ فهُم من القوم المنوّه بهم؛ أمَّا المؤمنون الّذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأناً وأقوى إيماناً فأتاهم المؤيّدون زَرافَات ووُحْدانا‏.‏
ومحبّة الله عبدَه رضاه عنه وتيسير الخير له، ومحبّة العبد ربّه انفعال النّفس نحوَ تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدّفاع عن دينه‏.‏ فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصوّر عظمة الله تعالى ونِعمه حتّى تتمكّن من قلبه، فمنشؤها السمع والتّصوّر‏.‏ وليست هي كمحبّة استحسان الذّات، ألا ترى أنّا نحبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدّنيا والآخرة، وتقوَى هذه المحبّة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرّفاته وهديه، وكذلك نحبّ الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسْمع من حبّهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين، وكذلك نحبّ حاتِماً لما نسمع من كرمه‏.‏ وقد قالت هند بنت عتبة امرأةُ أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أهلُ خباء أحبَّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحبّ إلي من أنْ يعزّوا من أهل خبائك‏.‏
والأذلّة والأعزّة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلّق بهما، فالأذلّة جمع الذليل وهو الموصوف بالذُلّ‏.‏ والذلّ بضمّ الذال وبكسرها الهوان والطاعة، فهو ضدّ العزّ ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وفي بعض التّفاسير‏:‏ الذلّ بضم الذال ضد العزّ وبكسر الذال ضدّ الصعوبة، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة‏.‏ والذليل جمعه الأذلّة، والصفة الذلّ ‏{‏واخفِض لهما جناح الذلّ من الرّحمة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ويطلق الذلّ على لين الجانب والتّواضع، وهو مجاز، ومنه ما في هذه الآية‏.‏ فالمراد هنا الذلّ بمعنى لين الجانب وتوطئة الكَنَف، وهو شدّة الرّحمة والسّعي للنفع، ولذلك علّق به قوله‏:‏ ‏{‏على المؤمنين‏}‏‏.‏ ولتضمين ‏{‏أذلّة‏}‏ معنى مشفقين حانين عدّي بعلى دون اللام، أو لمشاكلةِ ‏(‏على‏)‏ الثّانية في قوله‏:‏ ‏{‏على الكافرين‏}‏‏.‏
والأعزّة جمع العزيز فهو المتّصف بالعزّ، وهو القّوة والاستقلال»، ولأجل ما في طباع العرب من القوّة صار العزّ في كلامهم يدلّ على معنى الاعتداء، ففي المثل ‏(‏من عَزّ بَزّ‏)‏‏.‏ وقد أصبح الوصفان متقابلين، فلذلك قال السموأل أو الحارثي‏:‏
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا *** عزيز وجارُ الأكثرين ذليل
وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربيّة بديعية، وهي المسماة الطباق، وبلغاء العرب يغربون بها، وهي عزيزة في كلامهم، وقد جَاء كثير منها في القرآن‏.‏ وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تُسيِّرُها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل مّا إلاّ عن بصيرة، وليسوا ممّن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون ليّناً في كلّ حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الّذي يكون في كلّ حال بما يلائم ذلك الحال، قال‏:‏
حَلِيم إذا ما الحِلم زَيَّن أهلَه *** مع الحِلم في عين العَدُوّ مَهِيب
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يجاهدون في سبيل الله‏}‏ صفة ثالثة، وهي من أكبر العلامات الدالّة على صدق الإيمان‏.‏ والجهاد‏:‏ إظهار الجُهد، أي الطاقة في دفاع العدوّ، ونهاية الجهد التّعرّض للقتل، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فَاعَلَ لأنّه يظهر جهده لمن يُظهر له مثله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏ صفة رابعة، وهي عدم الخوف من الملامة، أي في أمر الدّين، كما هو السياق‏.‏
واللومة الواحدة من اللَّوم‏.‏ وأريد بها هنا مطلق المصدر، كاللّوْم لأنّها لمّا وقعت في سياق النّفي فعمّت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمَّم بدخول ال الجنسية لأنّ ‏(‏لا‏)‏ في عموم النّفي مثل ‏(‏ال‏)‏ في عموم الإثبات، أي لا يخافون جميع أنواع اللّوم من جميع اللاّئمين إذ اللّوْم منه‏:‏ شديد، كالتقريع، وخفيف؛ واللائمون‏:‏ منهم اللاّئم المخيف، والحبيب؛ فنفى عنهم خوفَ جميع أنواع اللّوم‏.‏ ففي الجملة ثلاثة عمومات‏:‏ عُموم الفعل في سياق النّفي، وعموم المفعول، وعموم المضاف إليه‏.‏
وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتّى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأنّ الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة‏.‏
ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثّقة بالنّفس وأصالة الرأي‏.‏ وقد عَدّ فقهاؤنا في وصف القاضي أن يكون مستخفّاً باللاّئمَة على أحد تأويلين في عبارة المتقدّمين، واحتمال التّأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعاً‏.‏
وجملة ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ تذييل‏.‏ واسم الاشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة‏.‏
و ‏{‏واسع‏}‏ وصف بالسعة، أي عدم نهاية التّعلّق بصفاته ذات التّعلق، وتقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏73‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏
‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏إنّما وليّكم الله ورسوله‏}‏ إلى آخرها متّصلة بجملة ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تَتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ وما تفرّع عليها من قوله ‏{‏فترى الّذين في قلوبهم مرض إلى قوله فأصبحوا خاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏ وقعت جملة ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ بين الآيات معترضة، ثُمّ اتّصل الكلام بجملة ‏{‏إنّما وليّكم الله ورسوله‏}‏‏.‏ فموقع هذه الجملة موقع التّعليل للنّهي، لأنّ ولايتهم لله ورسوله مقرّرة عندهم فمن كان اللّهُ وليّه لا تكون أعداءُ الله أولياءه‏.‏ وتفيد هذه الجملة تأكيداً للنّهي عن ولاية اليهود والنّصارى‏.‏ وفيه تنويه بالمؤمنين بأنّهم أولياء الله ورسوله بطريقة تأكيد النّفي أو النّهي بالأمر بضدّه، لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏إنّما وليّكم الله ورسوله‏}‏ يتضمّن أمراً بتقرير هذه الولاية ودوامها، فهو خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد من ‏(‏إنّما‏)‏ قصر صفة على موصوف قصراً حقيقياً‏.‏
ومعنى كون الّذين آمنوا أولياء للّذين آمنوا أنّ المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وإجراء صفتي ‏{‏يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة‏}‏ على الذين آمنوا للثناء عليهم، وكذلك جملة ‏{‏وهم راكعون‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وهم راكعون‏}‏ معطوف على الصفة‏.‏ وظاهر معنى هذه الجملة أنّها عين معنى قوله‏:‏ ‏{‏يقيمون الصّلاة‏}‏، إذ المراد ب ‏{‏راكعون‏}‏ مصلّون لا آتُون بالجزء من الصلاة المسمّى بالركوع‏.‏ فوجه هذا العطف‏:‏ إمّا بأنّ المراد بالركوع ركوع النّوافل، أي الّذين يقيمون الصّلوات الخمس المفروضة ويتقرّبون بالنوافل؛ وإمّا المرادُ به ما تدلّ عليه الجملة الإسميّة من الدوام والثّبات، أي الّذين يديمون إقامة الصّلاة‏.‏ وعقّبه بأنّهم يؤتون الزّكاة مبادرة بالتنويه بالزّكاة، كما هو دأب القرآن‏.‏ وهو الّذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه إذ قال‏:‏ «لأقاتلنّ مَن فرّق بين الصّلاة والزّكاة»‏.‏ ثم أثنى الله عليهم بأنّهم لا يتخلّفون عن أداء الصّلاة؛ فالواو عاطفة صفة على صفة، ويجوز أن تجعل الجملة حالاً‏.‏ ويراد بالركوع الخشوع‏.‏
ومن المفسّرين من جعل ‏{‏وهم راكعون‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏يُؤتون الزّكاة‏}‏‏.‏ وليس فيه معنى، إذ تؤتى الزّكاة في حالة الركوع، وركّبوا هذا المعنى على خبر تعدّدت رواياته وكلّها ضعيفة‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وليس يصحّ شيء منها بالكلّية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها‏.‏ وقال ابن عطيّة‏:‏ وفي هذا القول، أي الرواية، نظر، قال‏:‏ روى الحاكم وابن مردويه‏:‏ جاء ابن سَلاَم ‏(‏أي عبد الله‏)‏ ونفَر من قومه الّذين آمنوا ‏(‏أي من اليهود‏)‏ فشكوا للرّسول صلى الله عليه وسلم بُعد منازلهم ومنابذة اليهود لهم فنزلت ‏{‏إنّما وليّكم الله ورسوله‏}‏ ثمّ إنّ الرسول خرج إلى المسجد فبصرُ بسائل، فقال له‏:‏ هل أعطاك أحد شيئاً، فقال‏:‏ نعم خاتم فضّة أعطانيه ذلك القائم يصلّي، وأشار إلى عليّ، فكبّر النّبيء صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، فتلاها رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المهاجرين والأنصار‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ حزب الله هم الغالبون‏}‏ دليل على جواب الشرط بذكر علّة الجواب كأنّه قيل‏:‏ فهم الغالبون لأنّهم حزب الله‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏
استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الّذي قبله، فإنّ قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياءَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميّز المسلمين‏.‏ وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الّذين بالمدينة، ولا مدخل للنصارى فيها، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدّين‏.‏ وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي ‏{‏الّذين اتّخذوا دينَكم هزؤاً‏}‏ الخ لما في الصلة من الإيمان إلى تعليل موجب النّهي‏.‏
والدّين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة، فهو عنوان عقل المتديّن وروائدُ آماله وباعث أعماله، فالذي يتخذ دين امرئ هزُؤاً فقد اتّخذ ذلك المتديِّن هزؤاً ورمَقه بعين الاحتقار، إذ عَدّ أعظَمَ شيء عنده سخرية، فما دون ذلك أوْلى‏.‏ والّذي يَرمُق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة، لأنّ شرط الموالاة التماثل في التّفكير، ولأنّ الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودّة تستدعي تعظيم الودود‏.‏
وأريد بالكفار في قوله‏:‏ ‏{‏والكفار‏}‏ المشركون، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفّار، والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الّذين أظهروا الإسلام نفاقاً مثل رفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، فقد كان بعض المسلمين يوادّهما اغتراراً بظاهر حالهما‏.‏ روي عن ابن عبّاس‏:‏ أنّ قوماً من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا‏:‏ صياح مثل صياح العَير، وتضاحكوا، فأنزل الله هذه الآية‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏والكفّارَ‏}‏ بالنّصب عطفاً على ‏{‏الّذين اتخذوا دينَكم‏}‏ المبيَّن بقوله‏:‏ ‏{‏من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب ‏{‏والكفارِ‏}‏ بالخفض عطْفاً على ‏{‏الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏، ومآل القراءتين واحد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه‏.‏ وذكر هذا الشرط استنهاض للهمّة في الانتهاء، وإلهابٌ لنفوس المؤمنين ليظهروا أنّهم مؤمنون، لأنّ شأن المؤمن الامتثال‏.‏ وليس للشرط مفهوم هنا، لأنّ الكلام إنشاء ولأنّ خبرَ كان لَقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتّصديق، ذلك لأنّ نفي التّقوى لا ينفي الإيمان عند من يُعتدّ به من علماء الإسلام الّذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حقّ الفهم‏.‏
وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التّامة بمعنى الموافقة في الدّين فالأمر بالتّقوى، أي الحذر من الوقوع فيما نُهوا عنه معلّق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر‏.‏ والحاصل أنّ الآية مفسّرة أو مؤوّلة على حسب ما تقدّم في سالفتها ‏{‏ومن يتوّلهم منكم فإنّه منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏
والنّداء إلى الصّلاة هو الأذان، وما عبّر عنه في القرآن إلاّ بالنداء‏.‏ وقد دلّت الآية على أنّ الأذان شيْء معروف، فهي مؤيّدة لمشروعية الأذان وليست مشرّعة له، لأنّه شُرع بالسنّة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون‏}‏ تحقير لهم إذ ليس في النداء إلى الصّلاة ما يوجب الاستهزاء؛ فجعْله موجباً للاستهزاء سخافة لعقولهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏‏}‏
هذه الجمل معترضة بين ما تقدّمها وبين قوله‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ولا يتّضح معنى الآية أتمّ وضوح ويظهرُ الدّاعي إلى أمْرِ الله ورسوله عليه الصّلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنّه القائل ‏{‏لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم‏}‏ ‏[‏لنساء‏:‏ 148‏]‏ والقائل ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن إلاّ الّذين ظلموا منهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ إلاّ بعد معرفة سبب نزول هذه الآية، فيعلم أنّهم قد ظَلَموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين‏.‏ فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عبّاس قال‏:‏ جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بنُ أخطب، ورافعُ بن أبي رَافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، إلى النّبيء فسألوه عمّن يُؤمِن به من الرسل، فلمّا ذكر عيسى ابن مريم قالوا‏:‏ لا نؤمن بمَن آمن بعيسى ولا نعلم ديناً شَرّاً من دينكم وما نعلم أهلَ دين أقلّ حظّاً في الدنيا والآخرة منكم، فأنزل الله ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله إلى قوله وأضلّ عن سواء السبيل‏}‏‏.‏ فخصّ بهذه المجادلة أهل الكتاب لأنّ الكفّار لا تنهض عليهم حجّتها، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما يُنبئ به الموصولُ وصلتُه في قوله‏:‏ ‏{‏مَن لَعنه اللّهُ وغضب عليه‏}‏ الآية‏.‏ وكانت هذه المجادلة لهم بأنّ ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأمّلوا لا يجدون إلاّ الإيمانَ بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم
والاستفهام إنكاري وتعجّبي‏.‏ فالإنكار دلّ عليه الاستثناء، والتعجّبُ دلّ عليه أنّ مفعولات ‏{‏تنقمون‏}‏ كلّها محامد لا يَحقّ نَقْمُها، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر‏.‏ وكلّ ذلك ليس حقيقاً بأن يُنقم‏.‏ فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبلُ فظاهر أنّهم رَضُوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثَلَهم فيه، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهُمّ أهل الكتاب، وَدَعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجْه النقْم منه‏.‏ وعدّي فعل ‏{‏تنقمون‏}‏ إلى متعلِّقه بحرف ‏(‏من‏)‏، وهي ابتدائية‏.‏ وقد يعدّى بحرف ‏(‏على‏)‏‏.‏
وأمّا عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنّ أكثرهم فاسقون‏}‏ فقرأه جميع القرّاء بفتح همزة ‏(‏أنّ‏)‏ على أنّه معطوف على ‏{‏أن آمنّا بالله‏}‏‏.‏
وقد تحيّر في تأويلها المفسّرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أنّ ذلك لا يَعترف به أهله، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس ممّا يُنْقَم على المُؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه، وعلى تقدير أن يكون ممّا يُنقم على المؤمنين فليس نقْمُه عليهم بمحلّ للإنكار والتعَجّب الّذي هو سياق الكلام‏.‏
فذهب المفسّرون في تأويل موْقع هذا المعطوف مذاهب شتّى؛ فقيل‏:‏ هو عطف على متعلّق ‏{‏آمنَّا‏}‏ أي آمنّا بالله، وبفسق أكثركم، أي تَنقِمون منّا مجموعَ هذين الأمرين‏.‏ وهذا يُفيت معنى الإنكار التعجّبي لأنّ اعتقاد المؤمنين كَونَ أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقْمه فلا يتعجّب منه ولا ينكر عليهم نقمه، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه فلا يلتئم مع المعطوف عليه، فالجمع بين المتعاطفين حينئذٍ كالجمع بين الضبّ والنّون، فهذا وجه بعيد‏.‏
وقيل‏:‏ هو معطوف على المستثنى، أي ما تنقمون منّا إلاّ إيمانَنا وفسقَ أكثركم، أي تنقمون تخالف حالينا، فهو نَقْمُ حَسَد، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجّبي‏.‏ وهذا الوجه ذكره في «الكشاف» وقَدّمَه وهو يحسن لو لم تكن كلمة ‏{‏مِنّا‏}‏ لأنّ اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين، إذ ليس من فعلهم ولكن من مُصَادفة الزّمان‏.‏
وقيلَ‏:‏ حُذف مجرور دلّ عليه المذْكور، والتّقدير‏:‏ هل تنقمون منّا إلاّ الإيمانَ لأنّكم جائرُون وأكثركم فاسقون، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا‏.‏ وذكر وجهان آخران غير مرضيين‏.‏
والّذي يظهر لي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وأنّ أكثركم فاسقون‏}‏ معطوفاً على ‏{‏أنّ آمنّا بالله‏}‏ على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكّماً، أي تنقمون منّا أنّنا آمنّا كإيمانكم وصدّقنا رسلكم وكتبكم، وذلك نَقْمُهُ عجيب وأنّنا آمنّا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمّكم‏.‏ وتنقمون منّا أنّ أكثركم فاسقون، أي ونحنُ صالحون، أي هذا نَقْم حَسَد، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين‏.‏ فظهرت قرينة التهكّم فصار في الاستفهام إنكار فتعَجُّب فتهكُّم، تولَّد بعضُها عن بعض وكّلها متولّدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية، وبهذا يكمل الوجه الّذي قدّمه صاحب «الكشاف»‏.‏
ثمّ اطّرد في التهكّم بهم والعَجببِ من أَفَن رأيهم مع تذكيرِهم بمساويهم فقال‏:‏ ‏{‏قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله‏}‏ الخ‏.‏ وشرّ اسم تفضيل، أصله أشَرّ، وهو للزيادة في الصفة، حذفت همزته تخفيفاً لكثرة الاستعمال، والزّيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أنّ المسلمين لهم حظّ من الشرّ، وإنّما جَرى هذا تهكّماً باليهود لأنّهم قالوا للمسلمين‏:‏ لا دِينَ شَرّ من دينكم، وهو ممّا عبّر عنه بفعل ‏{‏تنقمون‏}‏‏.‏ وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال‏:‏ «قُلْتَ فأوْجبْت»‏.‏
والإشارة في قوله ‏{‏من ذلك‏}‏ إلى الإيمان في قوله‏:‏ ‏{‏هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله‏}‏ الخ باعتبار أنّه منقوم على سبيللِ الفرض‏.‏ والتّقدير‏:‏ ولمّا كان شأن المنقوم أن يكون شرّاً بني عليه التهكّم في قوله‏:‏ ‏{‏هل أنبّئكم بشرّ من ذلك‏}‏، أي ممّا هو أشدّ شرّاً‏.‏
والمثُوبة مشتقّة من ثَاب يثوب، أي رجع، فهي بوزن مفعولة، سمّي بها الشيء الّذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمللٍ عملَه أو سعْي سعاه، وأصلها مثوب بها، اعتبروا فيها التّأنيث على تأويلها بالعطيّة أو الجائزة ثمّ حذف المتعلّق لكثرة الاستعمال‏.‏
وأصلها مؤذن بأنّها لا تطلق إلاّ على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه، فلا تطلق على الضّرْب والشتم لأنّ ذلك ليس ممّا يثُوب به المرء إلى منزله، ولأنّ العرب إنّما يبْنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم، فلا يريدون بالمثوبة إلاّ عطية نافعة‏.‏ ويصحّ إطلاقها على الشيء النّفيس وعلى الشيء الحقير من كلّ ما يثوب به المعطَى‏.‏ فَجَعْلها في هذه الآية تمييزاً لاسم الزيادة في الشرّ تهكّم لأنّ اللّغة والغضب والمسخ ليست مثوبات، وذلك كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
قَرَيْنَاكم فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبَيْلَ الصبح مِرْداة طحونا
وقول عمرو بن معديكرب‏:‏
وخيللٍ قد دَلَفتُ لها بِخيْل *** تَحِيَّةُ بَيْنهم ضرْب وَجِيع
وقوله‏:‏ ‏{‏مَن لَعَنَهُ الله‏}‏ مبْتدأ، أريد به بيان من هو شرّ مثوبة‏.‏ وفيه مضاف مقدّر دلّ عليه السياق‏.‏ وتقديره‏:‏ مثوبةُ مَنْ لَعنهُ الله‏.‏ والعدول عن أن يقال‏:‏ أنتم أو اليهودُ، إلى الإتيان بالموصول للعِلم بالمعنيّ من الصلة، لأنّ اليهود يعلمون أنّ أسلافاً منهم وقعت عليهم اللّعنة والغضب من عهد أنبيائهم، ودلائله ثابتة في التّوراة وكتب أنبيائهم، فالموصول كناية عنهم‏.‏
وأمّا جعلهم قردة وخنازير فقد تقدّم القول في حقيقته في سورة البقرة‏.‏ وأمّا كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العِجل‏.‏
والطاغوت‏:‏ الأصنام، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏51‏)‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏وعبدَ الطاغوتَ‏}‏ بصيغة فعل المضيّ في ‏{‏عبد‏}‏ وبفتح التّاء من ‏{‏الطاغوت‏}‏ على أنّه مفعول ‏{‏عبد‏}‏، وهو معطوف على الصّلة في قوله ‏{‏من لَعنهُ الله‏}‏، أي ومن عبدوا الطاغوت‏.‏ وقرأه حمزة وحْده بفتح العين وضمّ الموحّدة وفتح الدّال وبكسر الفوقيّة من كلمة الطاغوت على أن «عَبُد» جمع عَبْد، وهو جمع سماعي قليل، وهو على هذه القراءة معطوف على ‏{‏القردة والخنازير‏}‏‏.‏
والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتاً لهم عن التطاول‏.‏ على أنّه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمانَ قيام الرسل والنبيئين بين ظهرانَيْهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالاً وأجدر بكونهم شرّاً، فيكون الكلام من ذمّ القبيل كلّه‏.‏ على أنّ كثيراً من موجبات اللّعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف، على أنّهم شتموا المسلمين بما زعموا أنّه دينهم فيحقّ شتمهم بما نعتقده فيهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏
‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏
عطف ‏{‏وإذا جاؤوكم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزؤاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 58‏]‏ الآية، وخصّ بهذه الصّفات المنافقون من اليهود من جملة الّذين اتّخذوا الدّين هزوءاً ولعباً، فاستُكمِل بذلك التّحذيرُ ممّن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين‏.‏ ولا يصحّ عطفه على صفات أهل الكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏وجَعَلَ منهم القردة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ لعدم استقامة المعنى، وبذلك يستغني عن تكلّف وجه لهذا العطف‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به‏}‏ أنّ الإيمان لم يخالط قلوبهم طَرْفَةَ عين، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك، لشدّة قسوة قلوبهم، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما، لأنّ ذلك هو المتعارف، إذ الحالة إذا تبدّلت استمرّ تبدّلها، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم‏:‏ آمنّا، والعرب تقول‏:‏ خرج بغير الوَجه الذي دخل به‏.‏
والرؤية في قوله‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ بصرية، أي أنّ حالهم في ذلك بحيث لا يخفى على أحد‏.‏ والخطاب لكّل من يسمع‏.‏
وتقدّم معنى ‏{‏يسارعون‏}‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
والإثم‏:‏ المفاسد من قوللٍ وعمللٍ، أريد به هنا الكذب، كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏عن قولهم الإثم‏}‏‏.‏ والعدوانُ‏:‏ الظلم، والمراد به الاعتداء علي المسلمين إن استطاعوه‏.‏
والسحت تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏سمّاعون للكذب أكّالون للسحت‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏‏.‏
و ‏{‏لولا‏}‏ تحْضيض أريد منه التّوبيخ‏.‏
و ‏{‏الربّانيون والأحبار‏}‏ تقدّم بيان معناهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحكم بها النبيئون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ الآية‏.‏
واقتصر في توبيخ الربّانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكللِ السحت، ولم يذكر العُدوان إيماء إلى أنّ العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم، لأنّ الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه، ضعف‏.‏
وجملة ‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ مستأنفة، ذمّ لصنيع الربّانيين والأحبار في سكوتهم عن تغيير المنكر، و‏{‏يصنعون‏}‏ بمعنى يعْلمون، وإنّما خولف هنا ما تقدّم فيّ الآية قبلها للتّفنن، وقيل‏:‏ لأنّ ‏{‏يصنعون‏}‏ أدلّ على التمكّن في العمل من ‏{‏يعملون‏}‏‏.‏
واللام للقسم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏
‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏
‏{‏وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 61‏]‏، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم ‏(‏اليهود‏)‏‏.‏
ومعنى ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبَّراً عنه باليد، ويجعلون بَسْط اليد استعارة للبذل والكرم، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون‏:‏ أمسك يدَه وقبَض يده، ولم نسمع منهم‏:‏ غَلّ يدَه، إلاّ في القرآن كما هنا، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏29‏)‏، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ‏.‏
واليهودُ أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ‏.‏ فقولهم هذا‏:‏ إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاماً لهذا القول الفاسد لهم، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة، وفَرَض الرسول عليهم الصدقات، وربّما استعان باليهود في الديات‏.‏ وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الّذي يُقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ فقالوا‏:‏ إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل‏.‏ وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 181‏]‏‏.‏ ويؤيّد هذا قوله عقبهُ ‏{‏وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً‏}‏‏.‏ وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به‏.‏
وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضاً، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم‏.‏ وذلك ذمّ على طريقة العَرب‏.‏
وجملة ‏{‏غُلَّت أيديهم‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ وبين جملة ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏‏.‏ وهي إنشاء سبّ لهم‏.‏ وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم «عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله، وأسلم سَلَّمها الله، وغِفَار غَفر الله لها»
وجملة ‏{‏ولعنوا بما قالوا‏}‏ يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم، ويجوز أن تكون إخباراً بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا، نظير ما في قوله تعالى‏:‏
‏{‏وإن يَدْعون إلاّ شيطاناً مريداً لعنه الله‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏117، 118‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ بل يداه مبسوطتان‏}‏ نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى‏.‏ وبسط اليدين تمثيل للعطاء، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين‏.‏
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجُود، وإلاّ فاليَدُ في حال الاستعارة للجود أو للبُخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُم ارجع البصر كرّتين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏، وقولهم‏:‏ «لبّيك وسعديك»‏.‏ وقال الشّاعر ‏(‏أنشده في «الكشاف» ولم يعْزه هو ولا شارحوه‏)‏‏:‏
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ اليدَيْن بوابلٍ *** شكرَتْ نَدَاه تلاعُه ووهَاده
وجملة ‏{‏ينفق كيف يشاء‏}‏ بيان لاستعارة ‏{‏يداه مبسوطتان‏}‏‏.‏ و‏{‏كيف‏}‏ اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏كيف يشاء‏}‏ زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة، مثل العقاب على كفران النعمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو بَسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏‏.‏
‏{‏وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْراً‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏‏.‏ وقع معترضاً بين الردّ عليهم بجملة ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ وبين جملة ‏{‏وألقيْنا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة، أي أعماهم الحسد فزادهم طغياناً وكفراً، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم، وتسلية له بأنّ فَرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع‏.‏
‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏ولعنوا بما قالوا‏}‏ عطفَ الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه‏.‏ وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقَى البغضاء بين بعضهم وبعض، فهو جزاء من جنس العمل، وهو تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأنَ الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن‏.‏ وتقدّم القول في نظيره آنفاً‏.‏
‏{‏كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏‏.‏
تركيب ‏{‏أوقدوا ناراً للحرب أطفاها الله‏}‏ تمثيل، شُبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحَزَامةِ في أمرها، بحال من يُوقد النّار لحاجة بها فتنطفئ، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحَمْي والنّار ونحوها للحرب، ومنه حَمِيَ الوَطيس، وفلان مِسْعَرُ حرب، ومِحَشّ حرب، فقوله‏:‏ ‏{‏أوقدوا ناراً للحرب‏}‏ كذلك، ولا نارَ في الحقيقة، إذ لم يُؤْثر عن العرب أنّ لهم ناراً تختصّ بالحرب تُعَدّ في نِيرَان العرب الّتي يُوقِدُونها لأغراض‏.‏ وقد وهم من ظنّها حقيقة، ونبَّه المحقّقون على وهمه‏.‏
وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامُهم وسرعةُ ارتدادهم عنها، وإحجامُهم عن مصابحة أعدائهم، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها‏.‏
ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالحٌ لأن يعتبر فيه جَمْعُه وتفريقه، بأن يُجعل تمثيلاً واحداً لِحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة‏.‏ والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ، ولو حاربوا أو حُوربوا انهزموا، فيكون معنى الآية على هذا كقوله‏:‏ ‏{‏ضُرِبت عليهم الذلّة أينَما ثُقِفوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏‏.‏
وأمّا ما يروى أنّ مَعَدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم ‏(‏خَزَازَى‏)‏، وسيادتُهم لِتغلب وقائدُهم كُليب، أمر كليب أن يوقدوا ناراً على جبل خَزَازَى ليهتدي بها الجيش لكثرته، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على ‏(‏خَزَازَى‏)‏، فلمّا دهمتهم مَذحج أوقدوا النّار فتجمّعت مَعدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مَذحج‏.‏ وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله‏:‏
وَنَحْنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى *** رَفَدْنَا فَوْقَ رفْد الرافِدِينَا
فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذٍ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب‏.‏ وحيث لا تعْرف نار للحرب تعيّن الحَمْل على التمثيل، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلامُ بحقيقة ولا كناية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ القولُ فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏
‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏‏}‏
عَقَّب نهيهم وذمّهم بدعوتهم للخير بطريقة التّعريض إذ جاء بحرف الإمتناع فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أنّ أهل الكتاب آمنوا واتَّقوا‏}‏، والمراد اليهود‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏آمَنوا‏}‏ الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث‏:‏ «اثنان يُؤتَوْن أجرهم مرّتين‏:‏ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثُمّ آمن بي ‏(‏أي عندما بلغته الدّعوة المحمّديّة‏)‏ فله أجران، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحْسَن تأديبها وعلَّمها ثمّ أعْتَقَها فتزوّجها فله أجران»
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لكفّرنا عنهم‏}‏ وقوله ‏{‏ولأدخلناها‏}‏ لام تأكيد يكثر وقوعها في جواب ‏(‏لَو‏)‏ إذا كان فعلاً ماضياً مثبتاً لتأكيد تحقيق التلازم بين شرط ‏(‏لو‏)‏ وجوابها، ويكثر أن يجرّد جواب لو عن اللام، كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو نشاء جعلناه أجاجاً‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏70‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏
‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏
‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏‏.‏
إقامة الشيء جعْله قائماً، كما تقدّم في أول سورة البقرة‏.‏ واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأنّ الشيء المضاع يكون مُلْقى، ولذلك يقال له‏:‏ شَيْء لَقًى، ولأنّ الإنسان يكون في حال قيامه أقْدَر على الأشياء، فلذا قالوا‏:‏ قامتْ السوق‏.‏ فيجوز أن يكون معنى إقامة التّوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غَضَبه فلأغْدَق عليهم نعمَه، فاليهود آمنوا بالتَّوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدّم آنفاً، وكفروا بالإنجيل ورفضوه، وذلك أشدّ في عدم إقامَته، وبالقرآننِ‏.‏ وقد أوْمأت الآية إلى أنّ سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التّوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن، أي فتحتّمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن‏.‏
ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبْشير ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة‏.‏ ويؤيّده ما روي في سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود الله يد مغلولة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ كما تقدّم‏.‏
ومعنى ‏{‏لأكلوا مِن فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ تعميم جهات الرزق، أي لرُزقوا من كلّ سبيل، فأكلوا بمعنى رزقوا، كقوله‏:‏ ‏{‏وتأكلون التراث أكْلاً لَمَّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمأكول من فوق ثمارُ الشجر، ومن تحت الحُبوبُ والمقاثي، فيكون الأكل على حقيقته، أي لاستمرّ الخصب فيهم‏.‏
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بَركَات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏96‏)‏‏.‏
واللام في قوله‏:‏ لأكلوا من فوقهم‏}‏ إلخ مثل اللام في الآية قبلها‏.‏
‏{‏مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏
إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم‏.‏
والمقتصد يطلق على المطيع، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر ‏{‏ساء ما يعملون‏}‏‏.‏ وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏
فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق‏.‏
وقيل‏:‏ المراد بالمقتصد غير المُفْرطين في بغض المسلمين، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوْهم، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف‏.‏ فالأوّلون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّء‏.‏ ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنّه مشتقّ من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط‏.‏ والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏‏.‏
والأظهر أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ساء‏}‏ فعلاً بمعنى كان سيّئاً، و‏{‏ما يعملون‏}‏ فاعله، كما قدّره ابن عطية‏.‏ وجعله في «الكشاف» بمعنى بِئْس، فقدّر قولاً محذوفاً ليصحّ الإخبار به عن قوله‏:‏ ‏{‏وكثير منهم‏}‏، بناء على التزام عدم صحّة عطف الإنشاء على الإخبار، وهو محلّ جدال، ويكون ‏{‏ما يعملون‏}‏ مخصوصاً بالذمّ، والّذي دعاه إلى ذلك أنّه رأى حمله على معنى إنشاء الذمّ أبلغ في ذمّهم، أي يقول فيهم ذلك كل قائل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏
إنّ موضع هذه الآية في هذه السورة معضل، فإنّ سورة المائدة من آخر السور نزولاً إن لم تكن آخرها نزولاً، وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريعة وجميعَ ما أنزل إليه إلى يوم نزولها، فلو أنّ هذه الآية نزلت في أوّل مدّة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه، كما أنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصْدَعْ بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنّا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 94، 95‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إلى قوله ‏{‏واصبِر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5 10‏]‏ الآيات، فأمّا وهذه السورة من آخر السور نزولاً وقد أدّى رسول الله الرسالة وأُكْمِل الدّينُ فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ، فنحن إذنْ بين احتمالين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاصّ اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء ممّا يثقل عليه تبليغه‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن تكون هذه الآية نزلت من قبللِ نزول هذه السورة، وهو الّذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها‏.‏
فأمّا هذا الاحتمال الثّاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة، ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول الّتي تَذْكُر حوادث كلَّها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة‏.‏ وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك، وذكر الطبري خبرين آخرين، فصارت اثني عشر قولاً‏.‏
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال‏:‏ إنّ هذه الروايات وإن كثرت فإنّ الأوْلى حمل الآية على أنّ الله آمنَه مكر اليهود والنّصارى، لأنّ ما قبلها وما بعدها كان كلاماً مع اليهود والنّصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكونُ أجنبية عمّا قبلها وما بعدها اه‏.‏ وأمّا ما ورد في الصّحيح أنّ رسول الله كان يُحرَس حتّى نزل ‏{‏والله يعصمك من النّاس‏}‏ فلا يدلّ على أنّ جميع هذه الآية نزلت يومئذٍ، بل اقتصر الراوي على جزء منها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من النّاس‏}‏ فلعلّ الّذي حدّثت به عائشة أنّ الله أخبر رسوله بأنّه عصمه من النّاس فلمّا حكاه الراوي حكاه باللّفظ الواقع في هذه الآية‏.‏
فتعيّن التعويل على الاحتمال الأوّل‏:‏ فإمّا أن يكون سبب نزولها قضية ممّا جرى ذكره في هذه السورة، فهي على وتيرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الرسول لا يحزنك الّذي يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليتْ بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب‏.‏ والفريقان متظاهران على الرسول صلى الله عليه وسلم فريق مجاهر، وفريق متستر، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرْح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفّار، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدّة النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّ الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الّذين هوّن أمرهم في قوله‏:‏
‏{‏يأيّها الرسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ فهم المعنيّون من ‏{‏الناس‏}‏ في هذه الآية، فالمأمور بتبليغه بعض خاصّ من القرآن‏.‏
وقد علم من خُلق النّبيء صلى الله عليه وسلم أنّه يحبّ الرفق في الأمور ويقول‏:‏ إنّ الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه ‏(‏كما جاء في حديث عائشة حين سلَّم اليهود عليه فقالوا‏:‏ السامُ عليكم، وقالت عائشة لهم‏:‏ السامُ عليكم واللّعنة‏)‏، فلمّا أمره الله أن يقول لأهل الكتاب ‏{‏وأنّ أكثركَم فاسقون قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله مَن لعنه الله وغضب عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59، 60‏]‏ الآية، وكان ذلك القول مجاهرة لها م بسوءٍ أعلمه الله بأنّ هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالّتي هي أحسن، فتكون هذه الآية مخصّصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الّذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 148‏]‏‏.‏
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعِر بمنتهى شرفه، إذ كان واسطة بين الله وخلقه، والمذكِّر له بالإعراض عمّن سوى من أرسله‏.‏
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثّاني موقع زائد على موقعه في الخطَاب الأول، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما على الرسول إلاّ البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏‏.‏
فكما ثبّت جَنَانُه بالخطاب الأوّل أن لا يهتمّ بمكائد أعدائه، حُذّر بالخطاب الثّاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم، إذ لعلّه يزيدهم عناداً وكفراً، كما دلّ عليه قوله في آخر هذه الآية ‏{‏وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏‏.‏
ثم عُقّب ذلك أيضاً بتثبيت جنانه بأن لا يهتمّ بكيدهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من النّاس‏}‏ وأنّ كيدهم مصروف عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏‏.‏ فحصل بآخر هذا الخطاب ردّ العجز على الصدر في الخطاب الأوّل الّتي تضمّنه قوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ فإنّهم هم القوم الكافرون والّذين يسارعون في الكفر‏.‏ فالتّبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغُ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب‏.‏ وما صدق ‏{‏ما أنزل إليك من ربّك‏}‏ شيء معهود من آي القرآن، وهي الآي المتقدّمة على هذه الآية‏.‏ وما صدقُ ‏{‏ما أنزل إليك من ربّك‏}‏ هو كلّ ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم‏.‏
والتّبليغ جعل الشيء بالغاً‏.‏ والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله، وهو هنا مجاز في حكاية الرّسالة للمرسل بها إليه من قولهم‏:‏ بَلَغ الخبر وبلغَت الحاجة‏.‏ والأمر بالتّبليغ مستعمل في طلب الدّوام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ ولمّا كان نزول الشريعة مقصوداً به عمل الأمّة بها ‏(‏سواء كان النّازل متعلّقاً بعمل أم كان بغير عمل، كالّذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها، لأنّ ذلك كلّه إنّما نزل لفوائد يتعيّن العلم بها لحصول الأغراض الّتي نزلت لأجلها، على أنّ للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز، وأنّه متعبَّد بتلاوته، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النّظر عمّا يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر‏)‏، كان معنى الرّسالة إبلاغ ما أنزل إلى مَن يراد علمه به وهو الأمّة كلّها، ولأجل هذا حذف متعلِّق ‏{‏بلِّغ‏}‏ لقصد العموم، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته، وهو جميع الأمّة، إذ لا يُدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمّة إلى بعض الأحكام، على أنّ كثيراً من الأحكام يحتاجها جميع الأمّة‏.‏
والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكممٍ تَمكُّنَه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله، لذلك كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقرأ القرآن على النّاس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها، ويأمر النّاس بقراءته وبالاستماع إليه‏.‏ وقد أرسل مصعباً بن عُمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن‏.‏ وكان أيضاً يأمر السامع مقالتَه بإبلاغها مَن لم يسمعها، ممّا يكفل ببلوغ الشّريعة كلّها للأجيال من الأمّة‏.‏ ومن أجل ذلك كان الخلفاء مِن بعدِه يعطون النّاس العطاءَ على قدر ما معهم من القرآن‏.‏ ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصّحابة، وأكمل تلك المزيّة عثمان بن عفّان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام، وقد كان رسول الله عيَّن لأهل الصّفَّة الانقطاع لحفظ القرآن‏.‏
والّذي ظهر من تتبّع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله، فإذا نزل عليه ليلاً أخبر به عند صلاة الصّبح‏.‏ وفي حديث عمر، قال رسول الله‏:‏ ‏"‏ لقد أنزِلت عليّ اللّيلة سورة لَهِي أحبّ إليّ ممّا طلعتْ عليه الشّمس ‏"‏ ثمّ قرأ‏:‏ ‏{‏إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وفي حديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك «فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلثُ الآخر من اللّيل ورسُولُ الله عند أمّ سلمة، فقال‏:‏ يأمّ سلمة تِيب على كعب بن مالك، قالت‏:‏ أفَلا أرْسِلُ إليه فأبشِّرَهُ، قال‏:‏ «إذاً يَحطمُكم النّاسُ فيمنعونَكم النّومَ سائر اللَّيلة‏.‏
حتّى إذا صلّى رسول الله صلاة الفجر آذَنَ بتوبة الله علينا»‏.‏ وفي حديث ابن عبّاس‏:‏ أنّ رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكّة ودعا رسول الله الكتَّاب فكتبوها من ليلتهم‏.‏
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله‏:‏ ‏{‏إليك من ربّك‏}‏ إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والنّاس، إذ جَعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم، كما قال في آية ‏[‏آل عمران‏:‏ 199‏]‏ ‏{‏وإنّ من أهل الكتاب لَمَنْ يؤمن بالله وما أنزل إليكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لتُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم‏}‏ ‏[‏النحا‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وفي تعليق الإنزال بأنّه من الرّب تشريف للمنزّل‏.‏
والإتيان بلفظ الرّب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنّه ربّه من معنى كرامته، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحثّ على تناوله والعمل بما فيه‏.‏
وعلى جميع الوجوه المتقدّمة دلّت الآية على أنّ الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كلِّه، بحيث لا يتوهّم أحد أنّ رسول الله قد أبقى شيئاً من الوحي لم يبلِّغه‏.‏ لأنّه لو ترك شيئاً منه لم يبلّغه لكان ذلك ممّا أنزل إليه ولم يَقَع تبليغه، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نَزَل من القرآن علمنا أنّ من أهمّ مقاصدها أنّ الله أراد قطْع تخرّص من قد يزعمون أنّ الرسول قد استبقى شيئاً لم يبلِّغه، أو أنّه قد خصّ بعض النّاس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلِّغه للنّاس عامّة‏.‏ فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأنّ القرآن آكثرُ ممّا هو في المصحف الّذي جمَعه أبو بكر ونسخَه عثمان، وأنّ رسول الله اختصّ بكثير من القرآن عليّاً بن أبي طالب وأنّه أورثه أبناءه وأنّه يبلُغ وقرَ بعير، وأنّه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الّذي يلقّبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصيّ‏.‏
وكانت هذه الأوهام ألَمَّتْ بأنفس بعض المتشيّعين إلى عليّ رضي الله عنه في مدّة حياته، فدعا ذلك بعض النّاس إلى سؤاله عن ذلك‏.‏ روى البخاري أنّ أبا جُحَيْفة سأل عليّاً‏:‏ هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند النّاس، فقال‏:‏ «لا والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن إلاّ فهما يُعطَى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة، قلت‏:‏ وما في الصّحيفة، قال‏:‏ العقل، وفَكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر»‏.‏ وحديث مسروق عن عائشة الّذي سنذكره ينبئ بأنّ هذا الهاجس قد ظهر بين العامّة في زمانها‏.‏ وقد يخُصّ الرّسولُ بعض النّاس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزّل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه، كما كَتب إلى عليّ ببيان العَقْل، وفَكَاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر، لأنّه كان يومئذٍ قاضياً باليمن، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزّكاة لأنّه كان بعثه لذلك، فذلك لا ينافي الأمر بالتّبليغ لأنّ ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل، ولأنّه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى علمه به، ولأنّه لمّا أمَرَ مَنْ سَمِع مقالته بأن يَعيها ويؤيّديها كمَا سمعها، وأمَر أن يبلِّغ الشّاهدُ الغائبَ، حصل المقصود من التّبليغ؛ فأمّا أن يدع شيئاً من الوحي خاصّاً بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن النّاس فمعاذَ الله من ذلك‏.‏
وقد يَخُصّ أحداً بعلم ليس ممّا يرجع إلى أمور التّشريع، من سرّ يلقيه إلى بعض أصحابه، كما أسرّ إلى فاطمة رضي الله عنْها بأنّه يموت يومئذٍ وبأنّها أوّلُ أهله لحاقاً به‏.‏ وأسرّ إلى أبي بكر رضي الله عنه بأنّ الله أذِنَ له في الهجرة‏.‏ وأسرّ إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان، كما حدّث حذيفةُ بذلك عمرَ بن الخطّاب‏.‏ وما روي عن أبي هريرة أنّه قال‏:‏ حَفِظت من رسول الله وِعائيْن، أمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم‏.‏
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الّذي هَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للنّاس، وهو في مرض وفاته، ثمّ أعرض عنه، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنّه لو كان كذلك لمَا أعرض عنه والله يقول له‏:‏ ‏{‏بَلّغْ ما أنزِل إليك من ربّك‏}‏‏.‏ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لمَسْروق‏:‏ «ثلاث من حدّثك بهن فقد كذبَ، من حدّثك أنّ محمّداً كتم شيئاً ممّا أنزل عليه فقد كذَب، والله يقول‏:‏ ‏{‏يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فمّا بلغت رسالاته‏}‏ الحديث‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته‏}‏ جاء الشّرط بإنْ الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط، لأنّ عدم التّبليغ غيرُ مظنون بمحمدّ صلى الله عليه وسلم وإنّما فُرض هذا الشّرط ليبني عليه الجوابُ، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فمَا بَلَّغْتَ رسالاته‏}‏، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون، فيزعمون أنّ قُرآناً كثيراً لم يبلّغه رسول الله الأمَّةَ‏.‏
ومعنى ‏{‏لم تفعل‏}‏ لم تفعل ذلك، وهو تبليغ ما أنزل إليك‏.‏ وهذا حذف شائع في كلامهم، فيقولون‏:‏ فإن فعلت، أو فإن لم تَفعل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فَعَلْتَ فإنّك إذاً من الظّالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏ أي إن دعوتَ ما لا ينفعك، يَحذفون مفعول فعلتَ ولم تَفْعَل لدلالة ما تقدّم عليه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تَفْعَلوا ولن تفعلوا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلاّ قليلاً ولم يتعرّض له أيمّة الاستعمال‏.‏
ومعنى تَرَتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إنْ لم تُبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط، إذ تقدير الشّرط‏:‏ إنْ لم تبلّغ مَا أنزل، والجزاءُ، لم تُبلّغ الرّسالة، وذلك كاففٍ في صحّة بناءِ الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في الكشاف‏}‏ وغيره‏.‏ ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئاً ممّا أرسل به‏.‏ وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب ‏{‏يأيّها الرسول‏}‏ للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده، وفائدة اختتامه بقوله‏:‏ ‏{‏فما بلّغتَ رسالته‏}‏‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر ‏{‏رسَالاته‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏رِسالته‏}‏ بالإفراد‏.‏ والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعهُ‏.‏ ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وأنّ نحو‏:‏ لا رجال في الدار، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد، بخلاف نحو لا رجُلَ في الدّار‏.‏ ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من النّاس‏}‏ افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه، أن يلاقي عنتاً وتكالباً عليه من أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك‏.‏ فأمّا ما علينا فالله يعصمك، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمَّا‏.‏ على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من «دلائل الإعجاز» أنّ ممَّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثرُ؛ الوعدُ والضّمانُ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يُوعَد في تمام الوعد والوفاءِ به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد، كقول الرّجل‏:‏ أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر آه‏.‏ ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف ‏{‏وأنَا به زعيم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 72‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من النّاس فيه هذا المعنى أيضاً‏.‏ والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه‏.‏
والنّاس‏}‏ في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه، وإنّما يَخاف عليه أعداءَه لا أحبّاءه، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله‏.‏ فالمراد العصمة من اغتيال المشركين، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس، إذ كان حريصاً على هدايتهم، ولذلك كان رسول الله، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته، يقول لهم
«أنْ تمنعوني حتّى أبيّنَ عننِ الله ما بعثني به أو حتّى أبلِّغ رسالات ربّي» فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممّن أوذي في الله‏:‏ فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدْموه وقد شُجّ وجهه‏.‏ وهذه العصمة الّتي وُعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرّر وعدُه بها في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏ وفي غير القرآن، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عَصمه من المشركين‏.‏ وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يُحرس في المدينة، وأنّه حَرَسه ذَاتَ ليلة سعدُ بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرَج رأسهُ من قُبّة وقال لهم‏:‏ «الحَقُوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني»، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غَوْرَثٍ بننِ الحارث الّذي وجد رسول الله نائماً في ظلّ شجرة ووجد سيفَه معلّقاً فاخترطه وقال للرسول‏:‏ مَن يمنعك منّي، فقال‏:‏ اللّهُ، فسقَط السيف من يد الأعرابي‏.‏ وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية‏.‏ والَّذين جعلوا بعض ذلك سبباً لنزول هذه الآية قد خلطوا‏.‏ فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء‏.‏
ثمّ أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ الله لا يهدي القوْمَ الكافرين‏}‏ ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم‏.‏ والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلاً لكيدِ الرّسول والمؤمنين لطفاً منه تعالى، وليس المراد الهداية في الدّين لأنّ السياق غير صالح له‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏
هذا الّذي أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبّته الله على تبليغه بقوله‏:‏ ‏{‏بلّغ ما أنزل إليك من ربّك‏}‏، فقد كان رسول الله يحبّ تألّف أهل الكتاب وربّما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحقّ‏.‏
فيجوز أن تكون جملة ‏{‏قل يأهل الكتاب‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏بَلِّغ ما أنزل إليك من ربّك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏
والمقصود بأهل الكتاب اليهودُ والنّصارى جميعاً؛ فأمّا اليهود فلأنّهم مأمورون بإقامة الأحكام الّتي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمّديّة، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كلّه؛ وأمّا النّصارى فلأنّهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السّلام‏.‏
ومعنى ‏{‏لستم على شيء‏}‏ نفي أن يكونوا متّصفين بشيءٍ من التّدين والتّقوى لأنّ خَوض الرّسول لا يكون إلاّ في أمر الدّين والهُدى والتَّقوى، فوقع هنا حذف صفة ‏{‏شيء‏}‏ يدلّ عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأردتُ أن أعيبَها وكان وراءَهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي كلّ سفينة صالحة، أو غير معيبة‏.‏
والشيء اسم لكلّ موجود، فهو اسم متوغّل في التنكير صادق بالقليل والكثير، ويبيّنه السّياق أو القرائن‏.‏ فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب، ولمّا وقع في سياق النّفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقلّ حظّ من الدّين والتَّقوى ما داموا لم يبلُغوا الغاية الّتي ذكرتْ، وهي أن يقيموا التّوراة والإنجيل والقرآن‏.‏ والمقصود نفي أن يكون لهم حظّ معتدّ به عند الله، ومثل هذا النّفي على تقدير الإعتداد شائع في الكلام، قال عبّاس بن مرداس‏:‏
وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَإٍ *** فلم أعْطَ شيئاً ولم أمْنَع
أي لم أعط شيئاً كافياً، بقرينة قوله‏:‏ ولم أمنع‏.‏ ويقولون‏:‏ هذا ليس بشيء، مع أنّه شيء لا محالة ومشار إليه ولكنّهم يريدون أنّه غير معتدّ به‏.‏ ومنه ما وقع في الحديث الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الكُهَّان، فقال‏:‏ «ليْسُوا بشيء» وقد شاكل هذا النَّفيُ على معنى الاعتداد النَّفيَ المتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته‏}‏، أي فما بلّغت تبليغاً معتدّاً به عند الله‏.‏ والمقصود من الآية إنما هو إقامة التّوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما أنزل عليه‏.‏ وقد أوْمَأتْ هذه الآية إلى توغّل اليهود في مجانبة الهدى لأنّهم قد عطّلوا إقامة التّوراة منذ عصور قبل عيسى، وعطّلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه، وأنكروا مَن جاء به، ثُمّ أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربّهم‏.‏
والكلام على إقامة التّوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏ الخ‏.‏
وقد فنّدت هذه الآية مزاعم اليهود أنّهم على التمسّك بالتّوراة، وكانوا يزعمون أنّهم على هدى ما تمسّكوا بالتّوراة ولا يتمسّكون بغيرها‏.‏ وعن ابن عبّاس أنّهم جاءوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ألست تقرّ أنّ التّوراة حقّ، قال‏:‏ «بلى»، قالوا‏:‏ فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عَداها‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وليس له سند قوي‏.‏ وقد قال بعض النّصارى للرّسول صلى الله عليه وسلم في شأن تمسّكهم بالإنجيل مثلَ قول بعض اليهود، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم، وكما في مجادلة بعض وفد نجران‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً‏}‏، أي من أهل الكتاب، وذلك إمّا بباعث الحسد على مجيء هذا الدّين ونزول القرآن ناسخاً لدينهم، وإمَّا بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم‏.‏ ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتّى في المباحث التّاريخيّة والمدنيّة يحتدّون على مدنيّة الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميّزون غيظاً ومكابرة حتّى ترى العالِم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفّل إلى دركات التبالُه والتّجاهل، إلاّ قليلاً ممّن اتّخذ الإنصاف شعاراً، وتباعد عن أن يُرمى بسوءالفهم تجنّباً وحِذاراً‏.‏
وقد سمّى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدّين ‏{‏طُغياناً‏}‏ لأنّ الطغيان هو الغلوّ في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللاّئمين من أهل اليقين‏.‏
وسلَّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الكافرين‏}‏؛ فالفاء للفصيحة لتتمّ التّسلية، لأنّ رحمة الرسول بالخَلْق تحزنه ممَّا بلغ منهم من زيادة الطّغيان والكفر، فنبّهتْ فاء الفصيحة على أنّهم ما بَلغوا ما بَلغوه إلاّ من جرّاء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم‏.‏ والأسى الحزن والأسف، وفعله كفَرِح‏.‏
وذُكر لفظ ‏{‏القوم‏}‏ وأتبع بوصف ‏{‏الكافرين‏}‏ ليدلّ على أنّ المراد بالكافرين هم الّذين صار الكفر لهم سجيّة وصفة تتقوّم بها قوميتهم‏.‏ ولو لم يذكر القوم وقال‏:‏ ‏(‏فلا تأس على الكافرين‏)‏ لكان بمنزلة اللّقب لهم فلا يُشعر بالتّوصيف، فكان صادقاً بِمَنْ كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردّد، فذلك مرجّو إيمانه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين‏.‏ فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة ‏(‏62‏)‏، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه‏.‏ ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه‏.‏ وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله‏:‏ ‏{‏والصابون‏}‏ بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم ‏{‏إنّ‏}‏ في ظاهر الكلام‏.‏
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه مَعْقَد معناها‏:‏
فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله‏:‏ ‏{‏قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏ فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام‏:‏ هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ؛ فوقع قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا‏}‏ الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر‏.‏ والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون‏.‏ وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهْتماممٍ بهم سنبيّنه قريباً‏.‏
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة ‏{‏ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65‏]‏ الخ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم‏.‏
فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم ‏(‏كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله‏:‏ «إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه»‏)‏ فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل‏.‏
وأمّا معنى الآية فافتتاحها بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ هنا للاهتمام بالخبر لعروّ المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد‏.‏
وقد تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله‏:‏ ‏{‏من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر‏؟‏ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب‏:‏ فقيل‏:‏ أريد بالّذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وهم المنافقون، وقيل‏:‏ أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏
والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً‏.‏
فالّذي أراه أن يجعل خبر ‏(‏إنّ‏)‏ محذوفاً‏.‏ وحذفُ خبر ‏(‏إنّ‏)‏ وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في «كتابه»‏.‏ وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ إلخ‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏والّذين هادوا‏}‏ عطفَ جملة على جملة، فيجعل ‏{‏الّذين هادوا‏}‏ مبتدأ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه، وهو ‏{‏والصابُون‏}‏‏.‏ وهذا أولى من جعل ‏{‏والصابون‏}‏ مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏من آمن بالله‏}‏ مبتدأ ثانياً، وتكون ‏(‏من‏)‏ موصولة، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً، أي من آمن منهم، وجملة ‏{‏فلا خوف عليهم ‏(‏1‏)‏‏}‏ خبراً عن ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط‏.‏ وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة وليس خبر إنّ على عكس قول ضابي بن الحارث‏:‏
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه *** فإنّي وقبّار بها لغريب
فإنّ وجود لام الابتداء في قوله‏:‏ «لغريب» عيَّن أنّه خبر ‏(‏إنّ‏)‏ وتقديرَ خبر عن قبّار، فلا ينظّر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابون‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة‏.‏ ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب‏.‏ وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة ‏(‏62‏)‏‏.‏
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم‏:‏ ‏{‏نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقولِهم ‏{‏لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏، وقول النّصارى‏:‏ إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها‏.‏
وجمهور المفسّرين جعلوا قوله ‏{‏والصابون‏}‏ مبتدأ وجعلوه مقدّماً من وتأخير وقدّروا له خبراً محذوفاً لدلالة خبر ‏(‏إنّ‏)‏ عليه، وأنّ أصل النظم‏:‏ أنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى لهم أجْرهم إلخ، والصابون كذلك، جعلوه كقول ضابي بن الحارث‏:‏
فإنّي وقبّار بها لغريب *** وبعض المفسّرين قدّروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة‏.‏ والّذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النّظم وأليق بمعنى هذه الآية‏.‏
وبعدُ فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عَرب خلّص، فكان لنا أصلاً نتعرّف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالاً غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّرَ السامع خبراً يقدّره بحسب سياق الكلام‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏، أي ورسوله كذلك، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك‏.‏ لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي ‏(‏إنّ‏)‏ خبرها، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم‏.‏ والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود‏.‏ فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم ‏(‏إنّ‏)‏ فلم يكن عطفه عطف جملة‏.‏ وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّماً على النّصارى ومنصوباً، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم‏.‏ ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله‏:‏ ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن، به، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة إلى قوله ثم كان من الّذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏
‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله‏.‏ وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وبأنّ ما قابلوا به دعوته ليس بدعاً منهم بل ذلك دأبهم جيلاً بعد جيل‏.‏
وقد تقدّم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرّة‏.‏ أُولاها في سورة البقرة ‏(‏83‏)‏‏.‏
والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرْميا وحزقيال وداوود وعيسى‏.‏ فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء‏:‏ من جاء منهم بشرع وكتاب، مثل موسى وداوود وعيسى، ومن جاء معزّزاً للشّرع مبيّنا له، مثل يوشع وأشعيا وأرميا‏.‏ وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجئ بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم، لأنّه لمَّا ذكر أنّهم قَتَلوا فريقاً من الرسل تعيَّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلاّ أنبياء لا رسلاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كلّما جاءهم رسول بما لا تهوَى أنفسهم فريقاً كذّبوا‏}‏ إلخ انتصب ‏{‏كلّما‏}‏ على الظرفيّة، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مَجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعاً لاستغراق أزمنة مجيئهم، إذْ استغراق أزمنة وجود شَيْء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان‏.‏
وانتصب ‏(‏كلَّ‏)‏ على النّيابة عن الزّمان لإضافته إلى اسم الزّمان المبهم، وهو ‏(‏مَا‏)‏ الظرفية المصدرية‏.‏ والتقدير‏:‏ في كلّ أوقات مجيء الرّسل إليهم كَذّبوا ويَقتلون‏.‏ وانتصب ‏{‏كلَّما‏}‏ بالفعلين وهو ‏{‏كَذّبوا‏}‏ و‏{‏يَقْتلون‏}‏ على التّنازع‏.‏
وتقديم ‏{‏كلّما‏}‏ على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلّف، لأنّهم يريدون بتقديمه الاهتمام به، ليظهر أنّه هو محلّ الغرض المسوقة له جملتهُ، فإنّ استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرّسل في جميع الأوقات دليل على أنّ التّكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلّفان، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر، وذلك أظهر في فظاعة حالهم، وهي المقصود هنا‏.‏
وبهذا التّقديم يُشرَبُ ظرف ‏{‏كلّما‏}‏ معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له، كما تصير أسماء الشّرط متقدّمة على أفعالها وأجوبتها في نحو ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ إلاّ أنّ ‏{‏كُلّما‏}‏ لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعدّ في أسماء الشرط لأنّ ‏(‏كلّ‏)‏ بعيد عن معنى الشرطية‏.‏ والحقّ أنّ إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النّحاة تسامح‏.‏ وقد أطلقه صاحب «الكشاف» في هذه الآية، لأنّه لم يجد لها سبباً لفظياً يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم‏}‏ في سورة البقرة‏:‏ ‏(‏87‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أو كُلّما عاهدوا عهداً نبذة فريق منهم‏}‏ ‏(‏100‏)‏ في تلك السورة، فإنّ التّقديم فيهما تبع لوقوعهما متّصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك، وإن كان قد سكت عليهما في الكشاف‏}‏ لظهور أمرهما في تينك الآيتين‏.‏
فالأحسن أن تكون جملة ‏{‏فريقاً كذّبوا‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏إليهم‏}‏ لاقترانها بضمير موافِق لصاحب الحال، ولأنّ المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم، وذلك لا يحصل إلاّ باعتبار كون المرسَل إليهم هذه حالهم مع رسلهم‏.‏ وليست جملة ‏{‏فريقاً كذبوا‏}‏ وما تقدّمها من متعلّقها استئنافاً، إذ ليس المقصود الإخبار بأنّ الله أرسل إليهم رسلاً بل بمدلول هذا الحال‏.‏
وبهذا يظهر لك أنّ التّقسيم في قوله‏:‏ ‏{‏فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون‏}‏ ليس لرسول من قوله‏:‏ ‏{‏كلّما جاءهم رسول‏}‏ بل ل ‏{‏رُسلاً‏}‏، لأنَّنا اعتبرنا قوله‏:‏ ‏{‏كلّما جاءهم رسول‏}‏ مقدّماً من تأخير‏.‏ والتقدير‏:‏ وأرسلنا إليهم رسلاً كذّبوا منهم فريقاً وقتلوا فريقاً كُلّما جاءهم رسول من الرسل‏.‏ وبهذا نستغني عن تكلّفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بما لا تهوى أنفسهم‏}‏ أي بما لا تحبّه‏.‏ يقال‏:‏ هَوِي يهوَى بمعنى أحبّ ومَالت نفسه إلى ملابسة شيء‏.‏ إنّ بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلاً والخسران آجلاً، ولولا ذلك لتُرك النّاس وما يهوَوْن، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النّفوس من هواها‏.‏ ولمّا وصفت بنو إسرائيل بأنّهم يكذّبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنّه لم يَخْلُ رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما‏:‏ وهما التّكذيب والقتل‏.‏ وذلك مستفاد من ‏{‏كلّما جاءهم رسول‏}‏، فلم يبق لقوله‏:‏ ‏{‏بما لا تهوى أنفسهم‏}‏ فائدة إلاّ الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنّهم يكذّبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عُذراً من تكليففٍ بمشقّة فادحة، أو من حدوث حادثثِ ثائرة، أو من أجل التّمسّك بدين يأبون مفارقته، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرّد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطّل بتمرّدهم فائدة التّشريع وفائدة طاعة الأمّة لهُداتها‏.‏
وهذا تعليم عظيم من القرآن بأنّ من حقّ الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنّها إذا رامت حمل علمائها وهدَاتها على مسايرة أهوئها، بحيث يُعْصَوْن إذا دَعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حقّ عليهم الخسران كما حقّ على بني إسرائيل، لأنّ في ذلك قلباً للحقائق ومحاولة انقلاب التّابع متبوعاً والقائد مقوداً، وأنّ قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخُلق كانوا غاشِّين لهم، وزالت فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المَرْعِيّ بالهَمَل والحَابِلُ بالنابل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يَشُمّ رائحةَ الجنّة» فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم‏:‏ ‏{‏إنّا وجدنا آباءَنَا على أمّة وإنَّا على آثارهم مهتدون‏}‏
‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، وقال قوم شعيب ‏{‏أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثُمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهُوونه‏.‏
وتقديم المفعول في قوله‏:‏ ‏{‏فريقاً كذّبوا‏}‏ لمجرّد الاهتمام بالتفصيل لأنّ الكلام مَسوق مساق التّفصيل لأحوال رُسل بني إسرائيل باعتبار ما لاَقوه من قومهم، ولأنّ في تقديم مفعول ‏{‏يقتلون‏}‏ رعاية على فاصلة الآي، فقدّم مفعول ‏{‏كَذّبوا‏}‏ ليكون المفعولان على وتيرة واحدة‏.‏ وجيء في قوله‏:‏ ‏{‏يَقتلون‏}‏ بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعة إبلاغاً في التعجيب من شناعة فاعليها‏.‏
والضّمائر كلّها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّهم أمّة يخلُف بعضُ أجيالها بعضاً، وأنّها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائدُ متّبعة بحيث يكون الخَلف منهم فيها على ما كان عليه السلف؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعِلين، فإنّ الّذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الّذين اقتصروا على التكذيب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏
‏{‏وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏
عطف على قوله‏:‏ ‏{‏كَذّبوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 70‏]‏ و‏{‏يقتلون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 70‏]‏ لبيان فساد اعتقادهم النّاشيء عنه فاسد أعمالهم، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور، لا عنْ فلتة أو ثائرة نفس حتّى يُنيبُوا ويتوبوا‏.‏ والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله ‏{‏كذّبوا‏}‏ و‏{‏يقتلون‏}‏‏.‏ وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة‏.‏
والفتنة مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما نحن فتنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏ وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم ‏{‏إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏ وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة ‏{‏لا يفتننّكم الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ فكان معنى الابتلاء ملازماً لها‏.‏
والمعنى‏:‏ وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة، وتوهّموا أنّهم ناجون منه، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة‏.‏
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين‏.‏
ودلّ قوله‏:‏ ‏{‏وحَسبوا أن لا تكون فتنة‏}‏ على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم‏.‏ وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ‏.‏
واستعير ‏{‏عَمُوا وصَمُّوا‏}‏ للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع‏.‏ فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضللِ نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة، فتجنّبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله‏:‏ ‏{‏فعموا وصمّوا‏}‏ مراداً منه معناه الكنائي أيضاً، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله ‏{‏ثُمّ تاب الله عليهم‏}‏‏.‏ وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمّ تاب الله عليهم‏}‏ أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض‏.‏
وقد استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تكون فتنة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمّ تاب الله عليهم‏}‏ أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، ‏{‏ثم عَمُوا وصموا‏}‏، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى‏.‏
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها‏.‏
ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ‏(‏بخنتصر‏)‏ ملك ‏(‏أشُور‏)‏ فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح‏.‏ وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ‏(‏كُورش‏)‏ ملك ‏(‏فَارس‏)‏ على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم‏.‏
وحادث الخراب الواقع في زمن ‏(‏تِيطس‏)‏ القائد الرّوماني ‏(‏وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ‏(‏وسبسيانوس‏)‏ فإنّه حاصر ‏(‏أورشليم‏)‏ حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع، وقتَل منهم ألفَ ألففِ رجللٍ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح‏.‏ ثمّ قفّاه الأنبراطور ‏(‏أدريان‏)‏ الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح‏.‏ فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض‏.‏
وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأمواللٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4 8‏]‏ وهذا هو الّذي اختاره القفّال‏.‏ وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر‏.‏
وقد دلّت ‏{‏مّ‏}‏ على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عَمَيَيْننِ وصَمَمَيْننِ في زمنين سابققٍ ولاحققٍ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عينَ الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاءُ أنّ الفاعل واحد؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم تَوَارُثُ السجايا فيهم من حَسَن أو قبيح، وقد علم أنّ الّذين عَمُوا وصَمُّوا ثانية غير الّذين عَمُوا وصَمُّوا أوّل مرّة، ولكنّهم لمّا كانوا خلفاً عن سلف، وكانوا قد أورَثُوا أخلاقهم أبناءَهم اعتُبروا كالشيء الواحد، كقولهم‏:‏ بنو فلان لهم تِرات مع بني فلان‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كثير منهم‏}‏ بدل من الضّمير في قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ عَمُوا وصَمّوا‏}‏، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم بُرآء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعاً بالحق وثناء على الفضل‏.‏
وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ عمُوا وصمّوا‏}‏ هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله‏:‏ ‏{‏فَعَمُوا وصمّوا‏}‏ كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيدُ تخصيصاً من عمومهما، مفيداً تخصيصاً من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر، إذ قد اعتُبرت ضمائر أمّة واحدة، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثالُ عبد الله بن سَلام، وكان في المتقدّمين يُوشَعُ وكالب اللّذيْن قال الله في شأنها ‏{‏قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏ تذييل‏.‏ والبصير مبالغة في المُبصر، كالحَكيم بمعنى المُحْكم، وهو هنا بمعنى العَليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يُبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم مَا لم يبصروه، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم‏.‏
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر ‏{‏أن لا تكونَ‏}‏ بفتح نون تكون على اعتبار ‏(‏أنْ‏)‏ حرف مصدر ناصب للفعل‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوبُ، وخَلَف بضم النّون على اعتبار ‏(‏أنْ‏)‏ مخفّفة من ‏(‏أنّ‏)‏ أخت ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورةِ الهمزة، وأنّ إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة‏.‏ وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة، وأنّ اسمها ملتزَم الحذف، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة‏.‏ وهذا توهّم لا دليل عليه‏.‏ وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن‏.‏ وهذا أيضاً توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون مَحذوفاً لأنّه مجْتلب للتّأكيد، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏
‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي لإبطال ما عليه النّصارى، يناسب الانتهاء من إبطال ما عليه اليهود‏.‏
وقد مضى القول آنفاً في نظير قوله ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابنُ مريم قل فمن يملك من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ ومَن نُسب إليه هذا القولُ من طوائف النّصارى‏.‏
والواو في قوله ‏{‏وقال المسيح‏}‏ واو الحال‏.‏ والجملة حال من ‏{‏الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح‏}‏، أي قالوا ذلك في حال نِداء المسيح لبني إسرائيل بأنّ الله ربّه وربّهم، أي لا شبهة لهم، فهم قالوا‏:‏ إنّ الله اتّحد بالمسيح؛ في حال أنّ المسيح الّذي يزعمون أنهم آمنوا به والّذي نسبوه إليه قد كذّبهم، لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏ربّي وربّكم‏}‏، يناقض قولهم‏:‏ ‏{‏إنّ الله هو المسيح‏}‏، لأنّه لا يكون إلاّ مربُوباً، وذلك مفاد قوله‏:‏ ‏{‏ربّي‏}‏، ولأنّه لا يكون مع الله إله آخر، وذلك مفاد قوله ‏{‏وربَّكم‏}‏، ولذلك عُقّب بجملة ‏{‏إنّه مَن يشرك بالله فقَد حرّم الله عليه الجنَّة‏}‏‏.‏ فيجوز أن تكون هذه الجملة حكاية لكلام صدر من عيسى عليه السّلام فتكون تعليلاً للأمر بعبادة الله‏.‏ ووقوع ‏(‏إنّ‏)‏ في مثل هذا المقام تغني غَناء فاء التّفريع وتفيد التّعليل‏.‏ وفي حكايته تعريض بأنّ قولهم ذلك قد أوقعهم في الشرك وإن كانوا يظنّون أنّهم اجتنبوه حذراً من الوقوع فيما حذّر منه المسيح، لأنّ الّذين قالوا‏:‏ إنّ الله هو المسيح‏.‏ أرادوا الاتّحاد بالله وأنّه هو هُو‏.‏ وهذا قول اليعاقبة كما تقدّم آنفاً، وفي سورة النّساء‏.‏ وذلك شرك لا محالة، بل هو أشدّ، لأنّهم أشركوا مع الله غيره ومزجوه به فوقعوا في الشّرك وإن راموا تجنّب تعدّد الآلهة، فقد أبطل الله قولهم بشهادة كلام من نسبوا إليه الإلهية إبطالاً تامّاً‏.‏
وإن كانت الجملة من كلام الله تعالى فهو تذييل لإثبات كفرهم وزيادة تنبيه على بطلان معتقدهم وتعريض بهم بأنّهم قد أشركوا بالله من حيث أرادوا التّوحيد‏.‏ والضّمير المُقترن بإنّ ضمير الشأن يدلّ على العناية بالخبر الوارد بعده‏.‏ ومعنى ‏{‏حَرّم الله عليه الجَنّة‏}‏ منعها منه، أي من الكون فيها‏.‏
والمأوى‏:‏ المكان الّذي يأوى إليه الشيء، أي يرجع إليه‏.‏
وجملة ‏{‏وما للظّالمين من أنصار‏}‏ يحتمل أيضاً أن تكون من كلام المسيح عليه السلام على احتمال أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏إنّه من يشرك بالله‏}‏ من كلامه، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً لكلام المسيح على ذلك الاحتمال، أو تذييلاً لكلام الله تعالى على الاحتمال الآخر‏.‏ والمراد بالظّالمين المشركون ‏{‏إنّ الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، أي ما للمشركين من أنصار ينصرونهم لينقذوهم من عذاب النّار‏.‏
فالتّقدير‏:‏ ومأواه النّار لا محالة ولا طمع له في التّخلّص منه بواسطة نصير، فبالأحرى أن لا يتخلّص بدون نصير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏
‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏
استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النّصارى، وهي مقالة ‏(‏المَلْكَانِيَّةِ المُسَمَّيْن بالجِعاثليقِيَّة‏)‏، وعليها معظم طوائف النّصارى في جميع الأرض‏.‏ وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ من سورة النّساء ‏(‏171‏)‏، وأنّ قوله فيها ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ يجمَع الردّ على طوائف النّصارى كلّهم‏.‏ والمراد ب ‏{‏قالوا‏}‏ اعتقدوا فقالوا، لأنّ شأن القول أن يكون صادراً على اعتقاد، وقد تقدّم بيان ذلك‏.‏
ومعنى قولهم‏:‏ ‏{‏إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ أنّ ما يعرفُه النّاسُ أنّهُ اللّهُ هو مجموع ثلاثةِ أشياء، وأنّ المستحقّ للاسم هو أحد تلك الثّلاثة الأشياء‏.‏ وهذه الثّلاثة قد عبّروا عنها بالأقانِيم وهي‏:‏ أقنوم الوجود، وهو الذات المسمّى الله، وسمّوه أيضاً الأبَ؛ وأقنوم العِلم، وسمَّوه أيضاً الابنَ، وهو الّذي اتّحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلهاً؛ وأقنوم الحياة وسَمَّوه الرّوحَ القُدُس‏.‏ وصار جمهورهم، ومنهم الرَّكُوسية طائفة من نصارى العرب، يقولون‏:‏ إنّه لمّا اتّحد بمريم حينَ حمْلها بالكلمة تألَّهَتْ مريم أيضاً، ولذلك اختلفوا هل هي أمّ الكلمة أم هي أمّ الله‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏ثالث ثلاثة‏}‏ معناه واحد من تلك الثّلاثة، لأنّ العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة، صيغة فاعِل مضافاً إلى اسم العدد المشتقّ هُو منه لإرادة أنّه جزء من ذلك العَدد نحو ‏{‏ثاني اثنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، فإن أرادوا أنّ المشتقّ له وزنُ فاعل هو الّذي أكْمَلَ العدد أضافوا وزنَ فاعل إلى اسم العدد الّذي هو أرقَى منه فقالوا‏:‏ رابِعُ ثلاثة، أي جَاعل الثلاثة أربعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما من إله إلاّ إله واحد‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لقد كفر‏}‏ لبيان الحقّ في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل‏.‏
ويجوز جعل الجملة حالاً من ضمير ‏{‏قالوا‏}‏، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفاً للواقع، فيكون كالتّعليل لكفرهم في قولهم ذلك، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحقّ أن يكون غير واحد فإنّ ‏(‏مِن‏)‏ لتأكيد عموم النّفي فصار النّفي ب ‏{‏ما‏}‏ المقترنة بها مساوياً للنّفي ب ‏(‏لا‏)‏ النّافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصّاً‏.‏
وعدل هنا عن النّفي بلا التبرئة فلم يُقل ‏(‏ولا إله إلاّ إله واحد‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما من إله إلاّ إله واحد‏}‏ اهتماماً بإبراز حرف ‏(‏مِن‏)‏ الدالّ بعد النّفي على تحقيق النّفي، فإنّ النّفي بحرف ‏(‏لا‏)‏ ما أفاد نفي الجنس إلاّ بتقدير حرف ‏(‏من‏)‏، فلمّا قصدت زيادة الاهتمام بالنّفي هنا جيء بحرف ‏(‏مَا‏)‏ النّافية وأظهر بعده حرف ‏(‏من‏)‏‏.‏ وهذا ممّا لم يتعرّض إليه أَحدٌ من المفسّرين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ إله واحد‏}‏ يفيد حصر وصف الإلهيّة في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم‏.‏ وأمّا تعيين هذا الواحد مَن هو، فليس مقصوداً تعيينه هنا لأنّ القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث، وثبتت الوحدانيّة تعيّن أنّ هذا الواحد هو الله تعالى لأنّه متّفق على إلهيّته، فلمّا بطلت إلهيّة غيره معه تمحّضت الإلهيّة له فيكون قوله هنا
‏{‏وما من إله إلاّ إله واحد‏}‏ مساوياً لقوله في سورة آل عمران ‏(‏62‏)‏ وما من إله إلاّ الله‏}‏، إلاّ أنّ ذكر اسم الله تقدّم هنا وتقدّم قول المبطلين ‏(‏إنّه ثالث ثلاثة‏)‏ فاستغني بإثبات الوحدانيّة عن تعيينه‏.‏ ولهذا صرّح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران ‏(‏62‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من إله إلاّ الله‏}‏ إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهيّة في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدّد الآلهة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم ينتهوا عمّا يقولون لَيَمَسَّنّ الّذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏، أي لقد كفروا كفراً إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم‏.‏ ومعنى ‏{‏عمّا يقولون‏}‏ أي عن قولهم المذكور آنفاً وهو ‏{‏إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏‏.‏ وقد جاء بالمضارع لأنّه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنّما يكون عن شيء مستمرّ كما ناسب قوله ‏{‏قَالوا‏}‏ قولَهُ ‏{‏لقد كفر‏}‏، لأنّ الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزّمن الماضي‏.‏ ومعنى ‏{‏عمّا يقولون‏}‏ عمّا يعتقدون، لأنّهم لو انتهوا عن القول باللّسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك، فلمّا كان شأن القول لا يصدر إلاّ عن اعتقاد كان صالحاً لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصّريح‏.‏ وأكّد الوعيد بلام القسم في قوله ‏{‏ليمسّنّ‏}‏ ردّاً لاعتقادهم أنّهم لا تمسّهم النّار، لأنّ صلب عيسى كان كفّارة عن خطايا بني آدم‏.‏
والمسّ مجاز في الإصابة، لأنّ حقيقة المسّ وضع اليد على الجسم، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتّصال، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين كذّبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 49‏]‏، فهو دالّ على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدّة أو ضعف، وإنّما يُرجع في الشدّة أو الضعف إلى القرينة، مثل ‏{‏أليم‏}‏ هنا، ومثل قوله ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 49‏]‏ في الآية الأخرى، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة‏:‏
مَسِسْنَا من الآباء شيئاً وكُلُّنا *** إلى حسب في قومه غيرِ واضع
أي تتبّعنا أصول آبائنا‏.‏
والمراد ب ‏{‏الّذين كفروا‏}‏ عينُ المراد ب ‏{‏الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ فعُدل عن التّعبير عنهم بضميرهم إلى الصّلة المقرّرة لمعنى كفرهم المذكور آنفاً بقوله‏:‏ ‏{‏لقد كفر الّذين قالوا‏}‏ إلخ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئاً إلى سبب الحكم المخبر به عنه‏.‏ وعلى هذا يكون قوله ‏{‏مِنْهم‏}‏ بياناً للّذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهّم السامع أنّ هذا وعيد لكفّار آخرين‏.‏
ولمّا توعّدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه‏}‏‏.‏ فالتّوبة هي الإقلاع عمّا هو عليه في المستقبل والرجوعُ إلى الاعتقاد الحقّ‏.‏ والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والنّدمُ عمّا فرط منهم من سوء الاعتقاد‏.‏
وقوله ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ تذييل بثناء على الله بأنّه يغفر لمن تاب واستغفر ما سلف منه، لأنّ ‏{‏غفور رحيم‏}‏ من أمثلة المبالغة يدلاّن على شدّة الغفران وشدّة الرّحمة، فهو وعد بأنّهم إن تابوا واستغفروه رفَع عنهم العذَابَ برحمته وصفح عمّا سلف منهم بغفرانه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏
‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏
استئناف لتبيان وصف المسيح في نفس الأمر ووصففِ أمّه زيادة في إبطال معتقد النّصارى إلهيّة المسيح وإلهيّة أمّه، إذ قد عُلم أنّ قولهم ‏{‏إنّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏ أرادوا به إلهيّة المسيح‏.‏ وذلك مُعتقد جميع النّصارى‏.‏ وفرّعت طائفة من النّصارى يُلَقَّبون ‏(‏بالرّكُوسِيَّةِ‏)‏ ‏(‏وهم أهل ملّة نصرانيّة صابئة‏)‏ على إلهيةِ عيسى إلهيَّةَ أمّه ولولا أنّ ذلك معتقدهم لما وقع التّعرض لوصف مَريم ولا للاستدلال على بَشَرِيَّتها بأنّهما كانا يأكلان الطّعام‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول‏}‏ قصرُ موصوففٍ على صفة، وهو قصر إضافي، أي المسيح مقصور على صفة الرّسالة لا يتجاوزها إلى غيرها، وهي الإلهيّة‏.‏ فالقصر قصر قلب لردّ اعتقاد النّصارى أنّه الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبله الرّسل‏}‏ صفة لرسول أريد بها أنّه مساو للرّسل الآخرين الّذين مضوا قبله، وأنّه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختصّ فيه بخصوصيّة لم تكن لغيره في وصف الرّسالة، فلا شبهة للّذين ادّعوا له الإلهيّة، إذ لم يجئ بشيء زائد على ما جاءت به الرسل، وما جرت على يديه إلاّ معجزات كما جرت على أيدي رُسل قبله، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنّها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيّتَه‏.‏ وفي هذا نداء على غباوة القوم الّذين استدلّوا على إلهيّته بأنّه أحيا الموتى من الحيوان فإنّ موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حيّة‏.‏
وجملة ‏{‏وأمّه صدّيقة‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول‏}‏‏.‏ والقصد من وصفها بأنّها صدّيقة نفيُ أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، وهو وصف الإلهيّة، لأنّ المقام لإبطال قول الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، إذْ جعلوا مريم الأقنوم الثالث‏.‏ وهذا هو الّذي أشار إليه قول صاحب «الكشاف» إذ قال «أي وما أمّه إلاّ صديقة» مع أنّ الجملة لا تشتمل على صيغة حَصر‏.‏ وقد وجّهه العلامة التفتزاني في «شرح الكشّاف» بقوله‏:‏ «الحصر الّذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف» ‏(‏أي من مجموع الأمرين‏)‏‏.‏ وفي قول التفتزاني‏:‏ والعطف، نظر‏.‏
والصدِّيقة صيغة مبالغة، مثل شِرِّيب ومسِّيك، مبالغة في الشُّرب والمَسْك، ولَقَببِ امرئ القيس بالمَلك الضّلِّيل، لأنّه لم يهتد إلى ما يسترجع به مُلك أبيه‏.‏ والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقّة من المجرّد الثّلاثي‏.‏ فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق، أي صدق وعد ربّها، وهو ميثاق الإيمان وصدقُ وعد النّاس‏.‏ كما وُصف إسماعيل عليه السّلام بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقد لقّب يوسف بالصدّيق، لأنّه صَدَق وعد ربّه في الكفّ عن المحرّمات مع توفر أسبابها‏.‏
وقيل‏:‏ أريد هنا وصفها بالمبالغة في التّصديق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدّقت بكلمات ربّها‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، كما لقّب أبو بكر بالصدّيق لأنّه أوّل من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذي جاء بالصّدق وصدّق به‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏، فيكون مشتقّاً من المزيد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كانا يأكلان الطّعام‏}‏ جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الّذي هو نفي إلهيّة المسيح وأمّه، ولذلك فصلت عن الّتي قبلها لأن الدّليل بمنزله البيان، وقد استدلّ على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر، وهي أكل الطّعام‏.‏ وإنَّما اختيرت هذه الصّفة من بين صفات كثيرة لأنّها ظاهرة واضحة للنّاس، ولأنّها أثبتتها الأناجيل؛ فقد أثبتت أنّ مريم أكلت ثَمر النخلة حين مخاضها، وأنّ عيسى أكل مع الحواريين يوم الفِصْح خبزاً وشرب خمراً، وفي إنجيل لوقاً إصحاح22 «وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفِصحَ معكم قبل أن أتألّم لأنّي لا آكل منه بعدُ، وفي الصبح إذْ كان راجعاً في المدينة جاع»‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف نبيّن لهم الآيات‏}‏ استئناف للتعجيب من حال الّذين ادّعوا الإلهيّة لعيسى‏.‏‏:‏ والخطاب مراد به غيرُ معيّن، وهو كلّ من سمع الحجج السابقة‏.‏ واستُعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعِلم لتشبيه العالم بالرأي والعلممِ بالرؤية في الوضوح والجلاء، وقد تقدّمت نظائره‏.‏ وقد أفاد ذلك معنى التعجيب‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه السّلام‏.‏ والمراد هو وأهل القرآن‏.‏ و‏{‏كيف‏}‏ اسم استفهام معلِّق لفعل ‏{‏انظر‏}‏ عن العمل في مفعولين، وهي في موضع المفعول به ل ‏{‏انظر‏}‏، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام‏.‏ وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية، أي انظر ذلك تجد جوابك أنّه بيان عظيم الجلاء يتعجّب النّاظر من وضوحه‏.‏ والآيات جمع آية، وهي العلامة على وجود المطلوب، استعيرت للحجّة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريق المكنية، وإثبات الآيات له تخييل، شبّهت بآيات الطّريق الدّالة على المكان المطلوب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثمّ انظر أنّى يؤفكون‏}‏ ‏(‏ثمّ‏)‏ فيه للترتيب الرتبي والمقصود أنّ التأمّل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحقّ مع وضوحه‏.‏ و‏{‏يؤفكون‏}‏ يصرفون، يقال‏:‏ أفكَهُ من باب ضَرب، صَرفه عن الشّيء‏.‏
و ‏{‏أنَّى‏}‏ اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين، ويستعمل بمعنى كيف‏.‏ وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيفَ ‏(‏كما‏)‏ في «الكشاف»، وعليه فإنّما عدل عن إعادة ‏{‏كيف‏}‏ تفنّناً‏.‏ ويجوز أن تكون بمعنى من أين، والمعنى التعجيب من أين يتطرّق إليهم الصّرف عن الاعتقاد الحقّ بعد ذلك البيان المبالغ غاية الوضوح حتّى كان بمحلّ التّعجيب من وضوحه‏.‏ وقد علّق ب ‏{‏أنَّى‏}‏ فعل ‏{‏انظر‏}‏ الثّاني عن العمل وحذف متعلّق ‏{‏يؤفكون‏}‏ اختصاراً، لظهور أنّهم يصرفون عن الحقّ الّذي بيّنته لهم الآيَات‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏
‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏‏}‏
لمّا كان الكلام السابق جارياً على طريقة خطاب غير المعيّن كانت جملة ‏{‏قل أتعبدون من دون الله‏}‏ الخ مستأنفة، أمر الرّسول بأن يبلّغهم ما عنوا به‏.‏
والظاهر أنّ ‏{‏أتعبدون‏}‏ خطاب لجميع من يعبد شيئاً من دون الله من المشركين والنّصارى‏.‏ والاستفهام للتّوبيخ والتّغليط مجازاً‏.‏
ومعنى ‏{‏من دون الله‏}‏ غير الله‏.‏ فمِن للتّوكيد، و‏(‏دون‏)‏ اسم للمغاير، فهو مرادف لسوى، أي أتعبدون معبوداً هو غير الله، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهيّة‏.‏ وليس المعنى أتعبدون معبوداً وتتركون عبادة الله‏.‏ وانظر ما فسّرنا به عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏108‏)‏، فالمخاطبون كلّهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتّى الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلاّ لزعمهم أنّ الله حلّ فيه فقد عبدوا الله فيه، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلَّهم‏.‏
ولذلك جيء بما‏}‏ الموصولة دون ‏(‏مَن‏)‏ لأنّ معظمَ ما عبد من دون الله أشياء لا تَعْقل، وقد غلب ‏(‏ما‏)‏ لما لا يعقل‏.‏ ولو أريد ب ‏{‏ما لا يَملك‏}‏ عيسى وأمّه كما في «الكشاف» وغيره وجعل الخطاب خاصّاً بالنّصارى كان التّعبير عنه ب ‏{‏ما‏}‏ صحيحاً لأنّها تستعمل استعمال ‏(‏مَن‏)‏، وكثير في الكلام بحيث يكثر على التّأويل‏.‏ ولكن قد يكون التّعبير بمَن أظهر‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يملك ضَرّاً‏}‏ لا يقدر عليه، وحقيقة معنى الملك التمكّن من التّصرف بدون معارض، ثم أطلق على استطاعة التّصرّف في الأشياء بدون عَجز، كما قال قَيس بن الخَطِيم‏:‏
مَلَكْتُ بها كفّي فأنْهَرَ فتقَها *** يرى قائم من دونها مَا وراءهَا
فإنّ كفّه مملوكة له لا محالة، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من كفّه تمام التّمكن فدفع به الرّمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفّه‏.‏ ومِن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القويّة الثّابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها ‏{‏ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏إنّ الّذين تعبدون من دون الله لا يَمْلكون لكم رزقاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فقد تعلّق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات، وذلك لا يكون إلاّ على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القويّة ألا ترى إلى عطف نفي على نفي المِلك على وجه التّرقّي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يَملك رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون‏}‏ في سورة النّحل ‏(‏73‏)‏‏.‏ وقد تقدّم آنفاً استعمال آخر في قوله‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أرادَ أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وقُدّم الضَرّ على النّفع لأنّ النّفوس أشدّ تطلّعاً إلى دفعه من تطلّعها إلى جلب النّفع، فكان أعظمَ ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أنّ يستدفعوا بها الأضرار بالنّصر على الأعداء وبتجنّبها إلحاق الإضرار بعابديها‏.‏
ووجه الاستدلال على أنّ معبوداتهم لا تملك ضرّاً ولا نفعاً، وقوع الأضرار بهم وتخلّف النّفع عنهم‏.‏
فجملة ‏{‏والله هو السميع العليم‏}‏ في موضع الحال، قُصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل، سببُ النّجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهورِ الحالةِ، على الله تعالى قصرَ ادّعاء بمعنى الكمال، أي ولا يسمع كلّ دعاء ويعلم كلّ احتياج إلاّ الله تعالى، أي لا عيسى ولا غيره ممّا عُبِد من دون الله‏.‏
فالواو في قوله ‏{‏والله هو السّميع العليم‏}‏ واو الحال‏.‏ وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق‏:‏ طريققِ القصر وطريققِ ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏‏}‏
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء‏.‏ والغلوّ مصدر غَلا في الأمر‏:‏ إذا جاوزَ حدّه المعروف‏.‏ فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏غيرَ الحقّ‏}‏ منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل ‏{‏تغلوا‏}‏ أي غلوّاً غير الحقّ، وغير الحقّ هو الباطل‏.‏ وعدل عن أن يقال باطلاً إلى ‏{‏غيرَ الحق‏}‏ لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف‏.‏ والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم‏.‏ وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازاً عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع‏.‏ وقد أشار إلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏171‏)‏‏.‏ فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام‏.‏ ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمداً‏.‏ ومن الغلوّ الّذي ليس باطلاً ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه‏.‏
وقوله‏:‏ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل‏}‏ عطف على النّهي عن الغلوّ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل‏.‏ فلذلك سمّي تغاليهم أهواء، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل ‏(‏قيافا‏)‏ حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث‏.‏
وقوله ‏{‏من قبلُ‏}‏ معناه من قبِلكِم‏.‏ وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ، وأسماء الجهات، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت‏.‏ وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وضلّوا عن سواء السّبيل‏}‏ مقابل لقوله‏:‏ ‏{‏قد ضلّوا من قبلُ‏}‏ فهذا ضلال آخر، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام‏.‏ والسواء المستقيمُ، وقد استعير للحقّ الواضح، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام‏.‏
وقيل‏:‏ الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏يأهل الكتاب‏}‏ للنّصارى خاصّة، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود‏.‏ ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏
‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏لُعن‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً فيها تخلّص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النّصارى‏.‏ وهي خبريّة مناسبة لجملة ‏{‏قد ضَلّوا من قبل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏، تتنزّل منها منزلة الدّليل، لأنّ فيها استدلالاً على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النّصارى‏.‏ والمقصود إثبات أنّ الضّلال مستمرّ فيهم فإنّ ما بين داوود وعيسى أكثرُ من ألف سنة‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على لِساننِ داوود‏}‏ للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكّن الملابسة، فهي استعارة تبعيّة لمعنى بَاء الملابسة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏، قصد منها المبالغة في الملابسة، أي لُعنوا بلسان داوود، أي بِكلامه الملابس للسانه‏.‏ وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المَزامير أنّ داوود لَعَن الَّذين يبدّلون الدّين، وجاء في المزمور الثّالث والخمسين «الله من السّماء أشرفَ على بني البشر لينظر هل مِن فاهممٍ طالببٍ الله كلُّهم قد ارتدّوا معاً فَسدوا ثم قال أخزيتُهم لأنّ الله قد وفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل» وفي المزمور 109 «قد انفتحَ عليّ فم الشرّير وتكلّموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ثمّ قال ينظرون إليّ ويُنغِضُون رؤوسهم ثمّ قال أمَّا هُم فيُلعنون وأمَّا أنتَ فتُبارك، قاموا وخُزُوا أمّا عبدك فيفرح» ذلك أنّ بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داوود مع ابنه ابشلوم‏.‏ وكذلك لَعْنُهم على لسان عيسى متكرّر في الأناجيل‏.‏ و«ذَلك» إشارة إلى اللّعن المؤخوذ من لُعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً؛ كأنّ سائلاً يسأل عن موجِب هذا اللّعن فأجيب بأنّه بسبب عصيانهم وعدوانهم، أي لم يكن بلا سبب‏.‏ وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السّببيّة ومع وقوعه في جَواب سؤال مقدّر أفاد مجموعُ ذلك مُفاد القصر، أي ليس لعنهم إلاّ بسبب عصيانهم كما أشار إليه في «الكشاف» وليس في الكلام صيغة قصر، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثّلاثة‏.‏ وهذه النّكتة من غرر صاحب «الكشاف»‏.‏ والمقصود من الحَصْر أن لا يضلّ النّاس في تعليل سبب اللّعن فربّما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضّلاّل في العناية بالسفاسف والتّفريط في المهمّات، لأنّ التفطّن لأسباب العقوبة أوّل درجات التّوفيق‏.‏ ومَثَل ذلك مثَل البُلْه من النّاس تصيبهم الأمراض المعْضلة فيحسبونها من مسّ الجنّ أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العِلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائِهَا‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ في قوله ‏{‏بما عصوا‏}‏ مصدريّة، أي بعصيانهم وكونِهم معتدين، فعُدل عن التّعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفِعلين مع ‏(‏ما‏)‏ المصدرية ليفيد الفعلان معنى تَجدّد العصيان واستمرار الاعتداء منهم، ولتفيد صيغة المضي أنّ ذلك أمر قديم فيهم، وصيغة المضارع أنّه متكرّر الحدوث‏.‏ فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى‏.‏
والاعتداء هو إضرار الأنبياء‏.‏ وإنّما عبّر في جانب العِصيان بالماضي لأنّه تقرّر فلم يَقبل الزّيادة، وعُبّر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنّه مستمرّ، فإنّهم اعتدوا على محمّد صلى الله عليه وسلم بالتّكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد‏.‏
وجملة ‏{‏كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بما عَصوا‏}‏، وهو أن يقال كيفَ تكون أمّة كلّها مُتمالئة على العصيان والاعتداء، فقال‏:‏ ‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه‏}‏‏.‏ وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفَر القليل، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبَع فيها الدّهماءُ بعضهم بعضاً حتّى تعمّ ويُنسى كونها مناكرَ فلا يَهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبةِ منها فتصيبهم لعنة الله‏.‏ وقد روى التّرمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كانَ الرجل من بني إسرائيل يلقَى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول‏:‏ يا هذا اتّققِ الله ودَع ما تصنع، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وخليطَه وشريكَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم، ثُمّ قرأ‏:‏ ‏{‏لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله‏:‏ فَاسقون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 78 81‏]‏ ثُمّ قال‏:‏ والّذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظّالم ولتأطُرُنَّهُ على الحقّ أطْرا أوْ لَيضربَنّ الله قلوبَ بعضكم على بعض أو ليلعنُكم كما لَعنهم»
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضاً باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكراً فيحصل بذلك التّناهي‏.‏ فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة، والقرينة عموم الضّمير في قوله ‏{‏فَعلوه‏}‏، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكراً آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكراً قبله وهكذا، فهم يصانعون أنفسهم‏.‏
والمراد ب ‏{‏ما كانوا يفعلون‏}‏ تَرْكُهم التناهيَ‏.‏
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله ‏{‏لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏ مع أنّه ترك، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه‏.‏
وفي هذا دليل للقائلين من أيمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلاّ بفعل، وأنّ المكلّف به في النّهي فِعْل، وهو الانتهاء، أي الكفّ، والكفّ فعل، وقد سمّى الله الترك هنا فِعلاً‏.‏ وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏
‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي ذُكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَتَولَّوْن الّذين كفروا‏}‏، لأنّه لا يستغرب إلاّ لكونه صادراً ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين‏.‏ والرؤية في قوله ‏{‏ترى‏}‏ بَصريّة، والخطاب للرّسول‏.‏ والمراد ب ‏{‏كثير منهم‏}‏ كثير من يهود المدينة، بقرينة قوله ‏{‏ترى‏}‏، وذلك أنّ كثيراً من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقاً، نظراً لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عيناً ليهود خَيبر وقُريظة والنضِير‏.‏ ومعنى ‏{‏يتولّون‏}‏ يتّخذونهم أولياء‏.‏ والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومَنْ حَول المدينة من الأعراب الذين بقُوا على الشرك‏.‏ ومن هؤلاء اليهود كَعْبُ بن الأشرف رئيسُ اليهود فإنّه كان موالياً لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة‏.‏ وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
وقوله ‏{‏أنْ سخط الله عليهم‏}‏ ‏(‏أنْ‏)‏ فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز، كما في «الكشاف» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا أنْ ثَبَّتْنَاك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 74‏]‏، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ‏.‏ والتّقدير‏:‏ لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سُخْطُ اللّهِ عليهم، فسُخط الله مذموم‏.‏ وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضباً خاصّاً لموالاتهم الّذين كفروا، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف‏.‏ ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله‏:‏ ‏{‏لُعِن الّذين كفروا من بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا يؤمنون بالله والنّبيء‏}‏ إلخ الواو للحال من قوله‏:‏ ‏{‏ترى كثيراً منهم‏}‏ باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدّم، فالمعنى‏:‏ ولو كانوا يؤمنون إيماناً صادقاً ما تّخذوا المشركين أولياء‏.‏ والمراد بالنّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه القرآن، وذلك لأنّ النّبيء نهَى المؤمنين عن موالاة المشركين، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية‏.‏ وقد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي، لأنّ المشركين أعداء الرّسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به‏.‏ وقد تقدّم ذلك في سورة آل عمران‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولكنّ كثيراً منهم فاسقون‏}‏ هو استثناء القياس، أي ولكنّ كثيراً من بني إسرائيل ‏{‏فاسقون‏}‏‏.‏ فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏ترى كثيراً منهم‏}‏ و‏{‏فاسقون‏}‏ كافرون، فلا عَجَب في موالاتهم المشركين لاتّحادهم في مناواة الإسلام‏.‏ فالمراد بالكثير في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنّ كثيراً منهم فاسقون‏}‏ عين المراد من قوله ‏{‏ترى كثيراً منهم يتولّون الّذين كفروا‏}‏ فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة‏.‏ ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏ وليس ضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائداً إلى ‏{‏كثيراً‏}‏ إذ ليس المراد أنّ الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلّهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏
‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏
فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين؛ فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال‏:‏ ‏{‏وليزيدَنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، فكرّرها مرّتين وقال‏:‏ ‏{‏ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 80‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 61‏]‏ فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهُم‏.‏ وذَكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ الآية‏.‏ فجاء قوله‏:‏ ‏{‏لتجدنّ أشدّ الناس عداوة‏}‏ الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين، ولذلك فُصلت ولم تعطف‏.‏ واللام في ‏{‏لتَجدنّ‏}‏ لام القسم يقصد منها التأكيد، وزادته نون التوكيد تأكيداً‏.‏ والوجدان هنا وِجدانٌ قلبي، وهو من أفعال العِلم، ولذلك يُعدّى إلى مفعولين، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏96‏)‏‏.‏ وانتصب عداوة‏}‏ على تمييز نسبة ‏{‏أشدّ‏}‏ إلى النّاس، ومثله انتصاب ‏{‏مودّة‏}‏‏.‏
وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغض الإسلام؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم، والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولتجدنّ أقربهم مودّة‏}‏ أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام‏.‏ وهذان طرفان في معاملة المسلمين‏.‏ وبين الطرفين فِرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة‏.‏
والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله‏:‏ ‏{‏أقربهم مودّة للذين آمنوا‏}‏‏.‏ فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين‏.‏
وقد تقدّم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏، المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً لله ‏{‏قالوا الحواريّون نحن أنصار اللّهِ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 14‏]‏، كما تقدّم في تفسير نظيره‏.‏ فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الإشارة إلى الكلام المتقدّم، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأنّ منهم قسّيسين‏}‏ باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل‏.‏ والضمير في قوله ‏{‏منهم‏}‏ راجع إلى النصارى‏.‏
والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين‏.‏ ويقال قَسّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هي بلغة الروم‏.‏ وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين‏.‏
والرهبان هنا جمع راهب، مثل رُكْبان جمع راكب، وفُرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل‏.‏
والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الرهبان يكون واحداً وجمعاً، فمَن جعله واحداً جمعَه على رهابين ورَهابنة‏.‏ وهذا مروي عن الفرّاء‏.‏ ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفرداً‏.‏ وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي‏:‏
لو أبصَرَتْ رهبانَ دَير بالجَبل *** لانحدر الرّهْبان يَسْعى ويزِل
وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سبباً في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم‏.‏ وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم‏.‏ قال النابغة‏:‏
لو أنَّها برزت لأشمَط راهِب *** عبدَ الإله صَرورة مُتَعَبِّد
لرَنَا لطلعتها وحسن حديثها *** ولخَالَه رَشداً وإن لَم يَرْشَد
فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سبباً في صلاح أخلاق أهل ملّتهم‏.‏ والاستكبار‏:‏ السين والتاء فيه للمبالغة‏.‏ وهو يطلق على التكبّر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ، وهما متلازمان‏.‏ فالمراد من قوله‏:‏ ‏{‏لا يستكبرون‏}‏ أنَّهم متواضعون منصفون‏.‏ وضمير ‏{‏وأنّهم لا يستكبرون‏}‏ يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏بأنّ منهم‏}‏، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر‏.‏ وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق‏.‏ قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين‏:‏
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم *** قويم فما يرجُون غيرَ العواقب
ولا يحسبون الخيرَ لا شرّ بعده *** ولا يحسبون الشرّ ضربة لاَزب
وظاهر قوله ‏{‏الّذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي، وهم نصارى العرب، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم‏.‏
وضمير ‏{‏وأنّهم لا يستكبرون‏}‏ عائد إلى ‏{‏قسّيسين ورهباناً‏}‏ لأنّه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله ‏{‏وأنّهم‏}‏، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتَكون ضمائر الجمع من قوله ‏{‏وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83 85‏]‏ تابعة لضمير ‏{‏وأنّهم لا يستكبرون‏}‏‏.‏
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام‏.‏ ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فضمير الرفع في ‏{‏عمروها الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني‏.‏ وكقول عبّاس بن مرداس‏:‏
عُدْنَا ولولاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم *** بالمسلمين وأحرزُوا مَا جَمَّعوا
يريد بضمير ‏(‏أحرزوا‏)‏ جماعة المشركين، وبضمير ‏(‏جمَّعوا‏)‏ جماعة المسلمين‏.‏
ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما‏:‏ أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِباً من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا‏.‏
وهم‏:‏ بَحِيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه‏.‏ وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيراً بفضلهم‏.‏ وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول‏.‏ ولَعلّ اللّهَ أعلَم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلاّ شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام، وهؤلاء يشبه حالهم حالَ من لم تبلغه الدعوة، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب‏.‏ ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن‏.‏ ولا شكّ أنّ النجاشي ‏(‏أصْحَمة‏)‏ منهم‏.‏ وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيء‏.‏ والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين‏.‏
والرسول هو محمّد كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن‏.‏ وما أنزل إليه هو القرآن‏.‏ والخطاب في قوله تَرى أعينهم‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى‏.‏ فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏تفيض من الدمع‏}‏ معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجاً عنه‏.‏ يقال‏:‏ فاض الماء، إذا تجاوز ظرفه‏.‏ وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين‏.‏ وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي، فيقال‏:‏ فاض الوادي، أي فاض ماؤُه، كما يقال‏:‏ جَرَى الوادي، أي جرى ماؤه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ورَجُل ذكر الله خَالياً فَفَاضَتْ عيناه» وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون‏:‏ فاضت عينه دمعاً، بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة، أي قرينة النسبة المجازية‏.‏ فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون ‏(‏مِنْ‏)‏ الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز، لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة، قُلِب قولُ الناس المتعارف‏:‏ فاضَ الدمع من عيننِ فلان، فقيل‏:‏ ‏{‏أعينَهم تفيض من الدمع‏}‏، فحرف ‏(‏مِن‏)‏ حرف ابتداء‏.‏ وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت ‏(‏مِن‏)‏ بيانية جارّة لاسم التمييز‏.‏ وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل‏:‏ طبتَ النَّفْسَ‏.‏
و ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله ‏{‏مِمَّا عرفوا‏}‏ تعليلية، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به‏.‏ ف ‏{‏مِن‏}‏ قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله‏:‏
‏{‏تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ في قوله ‏{‏من الحقّ‏}‏ بيانية‏.‏ أي ممّا عرفوا، وهو الحقّ الخاصّ‏.‏ أو تبعيضية، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله‏.‏
وجملة ‏{‏يقولون‏}‏ حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا‏.‏ وهذا القول يجوز أن يكون علناً، ويجوز أن يكون في خويّصتهم‏.‏
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم‏.‏ وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة‏.‏ وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادئ الأمر‏.‏ كما قال ورقة‏:‏ يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك‏.‏ أي تكذيباً منهم‏.‏ أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى‏.‏ ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى «ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم»‏.‏ وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى «ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأببِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء»‏.‏ وإنّ لِكلمة ‏{‏الحقّ‏}‏ وكلمة ‏{‏الشاهِدين‏}‏ في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ‏}‏، هو من قولهم، فيحتمل أنّهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردّد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام‏.‏ وذلك التردّد يعرض للمعتقد عند الهمّ بالرجوع في اعتقاده وهو المسمّى بالنظر؛ ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملّتهم أو من إخوانهم ويشكّكهم فيما عزموا عليه، ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعيّرهم من اليهود أو غيرهم بأنّهم لم يتصلّبوا في دينهم‏.‏ فقد قيل‏:‏ إنّ اليهود عَيّروا النفر الذين أسلموا، إذا صحّ خبر إسلامهم‏.‏ وتقدّم القول في تركيب «ما لنا لا نفعل» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومالكم لا تُقاتلون في سبيل الله‏}‏ في سورة النساء ‏(‏75‏)‏‏.‏
وجملة ونطمَع‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏ما لنا لا نؤمن‏}‏‏.‏ ويحتمل أن تكون الواو للحال، أي كيف نترك الإيمان بالحقّ وقد كنّا من قبل طامعين أن يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مثل الحواريّين، فكيف نُفلت ما عَنّ لنا من وسائل الحصول على هذه المنقبة الجليلة‏.‏ ولا يصحّ جعلها معطوفة على جملة ‏{‏نؤمن‏}‏ لئلا تكون معمولة للنفي، إذ ليس المعنى على ما لنا لا نطمع، لأنّ الطمع في الخير لا يتردّد فيه ولا يلام عليه حتّى يَحتاج صاحبه إلى الاحتجاج لنفسه بِ ‏(‏ما لنا لا نفعل‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏
‏{‏فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏
تفريع على قوله ‏{‏يقولون‏:‏ ربّنا ءامنّا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏ ومعنى ‏(‏أثَابهم‏)‏ أعطاهم الثواب‏.‏ وقد تقدّم القول فيه عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَثُوبة من عند الله خير‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏103‏)‏‏.‏
والباء في قوله بما قالوا‏}‏ للسببية‏.‏ والمراد بالقول قول الصادق وهو المطابق للواقع، فهو القول المطابق لاعتقاد القلب، وما قالوه هو ما حكي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏ الآية‏.‏ وأثابَ يتعدّى إلى مفعولين على طريقة باب أعطى، ف ‏{‏جَناتٍ‏}‏ مفعوله الثاني، وهو المعطَى لهم‏.‏ والإشارة في قوله ‏{‏وذلك جزاء المحسنين‏}‏ إلى الثواب المأخوذ من ‏{‏أثابهم‏}‏ ولك أن تجعل الإشارة إلى المذكور وهو الجنّات وما بها من الأنهار وخلودهم فيها‏.‏ وقد تقدّم نظير ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏68‏)‏ ‏{‏عَوَان بيْنَ ذلك‏.‏‏}‏
تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏
‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏
هذا تتميم واحتراس، أي والذين كفروا من النصارى وكذّبوا بالقرآن هم بضدّ الذين أثابهم الله جنّات تجري من تحتها الأنهار‏.‏
وأصحاب الجحيم ملازموه‏.‏ والجحيم جهنّم‏.‏ وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها‏.‏ يقال‏:‏ نار جَحْمة، أي شديدة اللهب‏.‏ قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة‏:‏
نَحن حبسنَا بني جَديلةَ في *** نار من الحرب جَحْمَةِ الضرم
تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان‏.‏ وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة‏.‏ وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد‏.‏ فقال أحدُهم‏:‏ أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال الآخر‏:‏ أمَّا أنا فأصوم النهار، وقال آخر‏:‏ أمّا أنا فلا آتي النساء، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم، فقال‏:‏ ‏"‏ ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا‏.‏ قالوا‏:‏ بَلَى يا رسول الله، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر، قال‏:‏ لَكِنِّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ ومعنى هذا في «صحيحي البخاري ومسلم» عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية‏.‏
ورُوي أنّ ناساً منهم، وهم‏:‏ أبو بكر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عُمر، وأبو ذرّ، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقدادُ بن الأسود، وسلْمان الفارسي، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا، ويتركوا النساء ويترهّبوا‏.‏ فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة، ثم قال‏:‏ ‏"‏ إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ‏"‏ فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏‏.‏ وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل‏:‏ إنّها زوجة زيد بن ثابت، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة‏.‏ وفي رواية‏:‏ أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم النوم، وبعضهم النساء؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي‏.‏ قال‏:‏ قال لي رسول الله‏:‏ ‏"‏ ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ، قلت‏:‏ إنّي أفعلُ ذلك‏.‏ قال‏:‏ فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك‏.‏ وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً، فصم وأفطر وقُم ونَم ‏"‏
وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان‏:‏ كُلْ فإنّي صائم، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال‏:‏ نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال‏:‏ نم، فنام‏.‏ فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان‏:‏ قم الآن، وقال سلمان‏:‏ إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه‏.‏ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له‏.‏ فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صدقَ سلمانُ»‏.‏ وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي ‏"‏
والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس‏.‏ أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس‏.‏ وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلّع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع‏.‏ وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم‏.‏ وعن الحسن البصري‏:‏ أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية‏.‏ فسأله الحسن‏:‏ أصائم أنت، قال‏:‏ لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره، فقال له‏:‏ الحسن‏:‏ أفتشرب الماءَ البارد، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ‏.‏
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به‏.‏ ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة‏.‏ ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال‏:‏ الحلال عليّ حرام، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم، على حكم الاستثناء في اليمين‏.‏
ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ‏.‏ ووافقه الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة‏.‏ وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها‏.‏
وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية‏.‏
ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام، وقد أبطلها الله بقوله‏:‏ ‏{‏قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُل الذّكَرَيْننِ حَرّم أم الأنثيين إلى قوله ‏{‏فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143، 144‏]‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏ وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏يدخلون في دين الله أفواجاً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها‏.‏
وجملة ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ معترضة، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله، فالواو اعتراضية‏.‏ وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً‏.‏
والاعتداء افتعال العدوْ، أي الظلم‏.‏ وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذننِ المشروع، كما قال ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس، وهو أشدّ الاعتداء، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس، كتناول الخنزير أو الميتة‏.‏ ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد، وأكللِ مال اليتيم، وعضل الأيامَى، وغير ذلك‏.‏
وجملة ‏{‏إنّ الله لا يحبّ المعتدين‏}‏ تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً‏}‏ تأكيد للنهي عن تحريم الطّيبات وهو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ أي أنّ الله وسّع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتُعرضوا عن النعمة‏.‏
واقتُصِر على الأكل لأنّ معظم ما حرّمه الناس على أنفسهم هو المآكل‏.‏ وكأنّ الله يعرّض بهم بأنّ الاعتناء بالمهمّات خير من التهمّم بالأكل، كما قال ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الآية‏.‏ وبذلك أبطل ما في الشرائع السابقة من شدّة العناية بأحكام المأكولات‏.‏ وفي ذلك تنبيه لِهذه الأمّة‏.‏
وقوله ‏{‏واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏ جاء بالموصول للإيماء إلى علّة الأمر بالتقوى، أي لأنّ شأن الإيمان أن يقتضي التقوى، فلمّا آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكمِّلوه بالتقوى‏.‏ روي أنّ الحسن البصري لقيَ الفرزدق في جنازة، وكانا عند القبر، فقال الحسن للفرزدق‏:‏ ما أعدَدْت لهذا‏.‏ يعني القَبر‏.‏ قال الفرزدق‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ الله كذا كذا سنة‏.‏ فقال الحسن‏:‏ هذا العمود، فأين الأطْناب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏
‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام، كأنْ يقول‏:‏ والله لا آكل كذا، أو تجري بسبب غضب‏.‏ وقيل‏:‏ إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله‏.‏ روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك، كما تقدّم آنفاً، قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ الآية‏.‏ فشرع الله الكفّارة‏.‏ وتقدّم القول في نَظير صدر هذه الآية في سورة البقرة‏.‏ وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين‏.‏ وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين‏.‏ فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بما عَقَّدْتُمْ الأيمان‏}‏، أي ما قصدتم به الحَلف‏.‏ وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة ‏(‏225‏)‏ ‏{‏بما كَسَبَتْ قلوبُكم‏}‏
وقَرَأ الجمهورُ عقَّدتم‏}‏ بتشديد القاف‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بتخفيف القاف‏.‏ وقرأه ابن ذكوان عن ابننِ عامر ‏{‏عَاقدتم‏}‏ بألف بعد العين من باب المفاعلة‏.‏ فأمّا ‏{‏عقّدتم‏}‏ بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد، وكذلك قراءة ‏{‏عاقدتم‏}‏ لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها، فالمقصود منها المبالغة، مثل عافَاه الله‏.‏ وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت‏.‏ والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب‏:‏ عقَد المخفّف، وعقَّد المشدّد، وعَاقَد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك كفّارة أيمانكم‏}‏ إشارة إلى المذكور، زيادة في الإيضاح‏.‏ والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال‏.‏ وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر‏.‏ وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسَّابة وعلاّمة‏.‏ والعرب يجمعون بينهما غالباً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إذا حلفتم‏}‏ أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحِنث‏.‏
وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله‏:‏ ‏{‏كفّارة أيمانكم إذا حلفتم‏}‏ على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة ‏{‏كفّارة‏}‏ إلى ‏{‏أيمانكم‏}‏، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض، ولا بأس به‏.‏
ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك‏.‏ وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة‏.‏ وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة‏.‏ وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث‏.‏ ولم يستدلّ بالآية‏.‏ فاستدلّ بها الشافعي تأييداً للسنّة‏.‏ والتكفيرُ بعد الحنث أولى‏.‏
وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏‏.‏ فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضُرّ بالغير، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى‏.‏ فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلاّ يندموا عن عزمهم، فكان في قوله ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ زجر لهم عن تلك العادة السخيفة‏.‏ وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلاّ يعرّض الحالف نفسه للحنث‏.‏ والكفّارة ما هي إلاّ خروج من الإثم‏.‏ وقد قال تعالى لأيّوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وخُذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنَث‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏‏.‏ فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها‏.‏
وجملة ‏{‏كذلك يبيّن الله لكم آياته‏}‏ تذييل‏.‏ ومعنى ‏{‏كذلك‏}‏ كهذا البيان يبيّن الله، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّناً، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏
وتقدّم القول في معنى لعلّكم تشكرون‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الناس اعبدوا ربّكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏21‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏
استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ المشير إلى أنّ الله، كما نَهى عن تَحريم المباح، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإنّ الخمر كان طيّباً عند الناس، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً ورزقاً حسناً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏‏.‏ والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه‏.‏ فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قوله ‏{‏لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 87‏]‏‏.‏
وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجاً ثلاث مرات‏:‏ الأولى حين نزلت آية ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وذلك يتضمّن نهياً غير جازم، فتَرك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى‏.‏ فقال عمر‏:‏ اللّهمّ بَيّن لنا في الخمر بياناً شافياً‏.‏ ثم نزلت آية سورة ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتّى تعلموا ما تقولون‏}‏، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة؛ فقال عمر‏:‏ اللّهم بيِّن لنا في الخمر بَيَاناً شافياً‏.‏ ثم نزلت الآية هذه‏.‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا‏.‏
والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا‏.‏ وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرَت بين سعد بن أبي وقاص ورجللٍ من الأنصار‏.‏ روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال‏:‏ أتيتُ على نفر من الأنصار، فقالوا‏:‏ تعالَ نطعِمْك ونُسقك خمراً وذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حُشّ، وإذا رأسُ جَزور مشوي وزقّ من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلتُ‏:‏ المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ جَمَل فضربني به فجَرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته، فأنزل الله تعالى فِيّ إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عبّاس قال‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ نسختهما في المائدة ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان‏}‏‏.‏
فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّماً للأمّة في إيضاح أسبابه رفقاً بهم واستئناساً لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏
‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، ثم بآية سورة النساء، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله‏:‏ ‏{‏لعلّكم تفلحون‏}‏، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله‏:‏ ‏{‏إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‏}‏‏.‏ ثم قال ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيَّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه‏.‏
وصيغة‏:‏ هل أنت فاعل كذا‏.‏ تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء، نبّه عليه في «الكشاف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل للنّاس هَلْ أنتم مُجتمعون‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 39‏]‏، قال‏:‏ ومنه قول تأبّط شرّاً‏:‏
هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا *** أو عَبْدِ ربّ أخَا عَوْننِ بننِ مِخْرَاقِ
‏(‏دينار اسم رجل، وكذا عبد ربّ‏.‏ وقوله‏:‏ أخا عون أو عوف نداء، أي يا أخا عون‏)‏‏.‏ فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله أن لا ينتبذوا في الحَنتم والنقير والمُزَفَّت والدّبَّاءِ، لأنَّها يسرع الاختمار إلى نبيذها‏.‏
والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب‏.‏ والمراد بالأزلام الاستقسام بها، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر‏.‏ قال في الكشاف‏}‏‏:‏ ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر‏.‏ وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ذُبح على النّصُب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، والكلام على الأزلام عند قوله‏:‏ ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏ في أول هذه السورة ‏[‏3‏]‏‏.‏ وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذُبح على النُصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة‏.‏
والمرادُ بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها، كلّ بما يُتعاطى به من شُرْب ولعب وذَبح واستِقسام‏.‏ والقصرُ المستفاد من إنّما‏}‏ قصرُ موصوف على صفة، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة‏.‏ ألا ترى أنّ الله قال في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ في الخمر والميسر ‏{‏قل فيهما إثم كبير ومَنَافع للناس‏}‏، فأثبت لهما الإثم، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس‏.‏ وأثبت لهما المنفعة، وهي صفة تساوي نقيض الرجس، في نظر الشريعة، لأنّ المنفعة تستلزم حرصَ الناس على تعاطيهما، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين‏.‏ وقد قُصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس، فما هو إلاّ قَصْر ادّعائي يشير إلى ما في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وإثمُهما أكبر من نفعهما‏}‏، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قُبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب
‏{‏فيهما إثم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إنْ حسابُهم إلاّ على رَبِّي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف‏.‏ وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس‏.‏
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبارِ الشريعة‏.‏ وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس‏.‏ ولذلك أيضاً أفرد ‏(‏رجس‏)‏ مع كونه خبراً عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر‏.‏
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيَها بما تُتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان، وذلك ممّا تأباه النفوس‏.‏
والفاء في ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ للتفريع وقد ظهر حُسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها‏.‏ والضمير المنصوب في قوله ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ عائد إلى الرجس الجامع للأربعة‏.‏ و‏{‏لعلّكم تفلحون‏}‏ رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم يكونوا قد استمرّوا على غيرها من المنهيات‏.‏ وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقد بيّنت ما اخترته في محل ‏(‏لعلّ‏)‏ وهو المطّرد في جميع مواقعها، وأمّا المحامل التي تأوّلوا بها ‏(‏لعلّ‏)‏ في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتّى في هذه الآية فتأمّلْه‏.‏
واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها‏.‏ ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لِمن عَصَر العنب لاتّخاذه خلاً، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه‏.‏
فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملاً للفظ الرجس على جميع ما يحتمله‏.‏
وهو قول مالك‏.‏ ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر‏.‏ وليس في الأثر ما يحتجّ به لنجاسة الخمر‏.‏ ولعلّ كون الخمر مائعة هو الذي قرّب شبهها بالأعيان النجسة، فلمّا وُصفت بأنّها رجس حُمل في خصوصها على معنييه‏.‏ وأمّا ما ورد في حديث أنس أنّ كثيراً من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها لذلك من المبالغة في التبرّئ منها وإزالة أثرها قبل التمكّن من النظر فيما سوى ذلك، ألا ترى أنّ بعضهم كسر جرارها، ولم يَقُل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس‏.‏ على أنّهم فعلوا ذلك ولم يُؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم
وذهب بعض أهل العلم إلى عَدم نجاسة عين الخمر‏.‏ وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمان، والليث بن سعد، والمُزني من أصحاب الشافعي، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحَدّاد القيرواني‏.‏ وقد استدلّ سعيد بن الحدّاد على طهارتها بأنّها سُفِكت في طرق المدينة، ولو كانت نجساً لنهوا عنه، إذ قد ورد النهي عن إراقة النجاسة في الطرق‏.‏ وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولاً بطهارة عين الخمر من المذهب‏.‏
وأقول‏:‏ الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليستْ نَجَس العين، وأنّ مسَاق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنّما القصد أنّها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنّه من عَمَل الشيطان، وبيّنه بعدُ بقوله‏:‏ ‏{‏إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة‏}‏، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس‏.‏
وجملة ‏{‏إنّما يريد الشيطان‏}‏ بيان لكونها من عمل الشيطان‏.‏ ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 44‏]‏‏.‏
وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ في هذه السورة ‏[‏64‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ في الخمر والميسر‏}‏ أي في تعاطيهما، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر، والغيظ والحسرة للخاسر، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب‏.‏ على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمْر أمّة بين أفرادها البغضاء‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً»
و ‏(‏في‏)‏ من قوله ‏{‏في الخمر والميسر‏}‏ للسبيبة أو الظرفية المجازية، أي في مجالس تعاطيهما‏.‏
وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلِما في الخمر من غيبوبَة العقل، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح‏.‏
وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مُقتضياً تغليظ التحريم‏.‏ ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة‏.‏ ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قِمار كالشطرنج دون قِمار، فذلك دون الميسر، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالباً، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى‏.‏
والذّكر المقصود في قوله‏:‏ ‏{‏عن ذكر الله‏}‏ يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماععِ خُطبه، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئاً كثيراً فيه ما يجب على المكلّف معرفته‏.‏ فالسيء الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهَى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب‏:‏ أفضلُ من ذكر الله باللسان ذِكرُ الله عند أمره ونهيه‏.‏ فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي‏.‏ وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وعن الصلاة‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ الفاء تفريع عن قوله‏:‏ ‏{‏إنّما يريد الشيطان‏}‏ الآية، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعاً بهم إلى مقام الفَطن الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز‏.‏
ولذلك اختير الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ التي أصل معناها ‏(‏قد‏)‏‏.‏ وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام، فاستغنوا ب ‏{‏هل‏}‏ عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهاممٍ مضمَّن تحقيقَ الإسناد المستفهَم عنه وهو ‏{‏أنتم منتهون‏}‏، دون الهمزة إذ لم يقل‏:‏ أتنتهون، بخلاف مقام قوله ‏{‏وجَعَلنا بعضَكم لبعض فتنة أتصبرون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وجعلت الجملة بعد ‏{‏هل‏}‏ اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأريد معها معناه الكنائي، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه‏.‏
ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال‏:‏ «انتهينا انتهينا»‏.‏ ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّداً عن الكناية‏.‏ فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله «إلاّ أنّ الله تعالى قال ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ فقلْنا‏:‏ لا» إن صحّ عنه ذلك‏.‏ ولي في صحته شكّ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل‏.‏ وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يُدرى مبلغها من الصحّة‏.‏ ومحملها، إنْ صحّت، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ على أنّه نهي غير جازم‏.‏ ولم يَطُل ذلك بينهم‏.‏
قيل‏:‏ إنّ قُدامَة بن مظْعون، مِمَّن شهد بدراً، ولاّه عُمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة‏.‏ فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة‏:‏ لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني‏.‏ قال عُمر‏:‏ لِمَ، قال‏:‏ لأنّ الله يقول‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، فقال عمر‏:‏ أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك»‏.‏ ويروى أنّ وحشياً كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، وأنّ عمر استشار عليّاً في شأنهم، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا‏.‏ وفي صحة هذا نظر أيضاً‏.‏ وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمراً، فقال عيينةُ‏:‏ أو ليس قد حرّمها الله‏.‏ قال عَمْرو‏:‏ أنتَ أكبَرُ سِنّاً أم أنا، قال عيينة‏:‏ أنتَ‏.‏ قال‏:‏ أنتَ أقدَمُ إسلاماً أم أنا، قال‏:‏ أنتَ‏.‏ قال‏:‏ فإنّي قد قرأتُ ما بين الدفتين، فوالله ما وجدت لها تحريماً إلاّ أنّ الله قال‏:‏ فهل أنتم منتهون، فقلنا‏:‏ لا»‏.‏ فبات عنده وشربَا وتنادما، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن‏:‏
جُزيت أبَا ثَوْر جَزَاء كرامةٍ *** فنِعْم الفتى المُزْدَار والمُتَضَيِّف
قَرَيْتَ فأكْرَمتَ القِرى وأفدْتَنَا *** تَحِيَّةَ عِلْم لم تَكن قبلُ تُعرف
وقلتَ‏:‏ حلال أن ندِير مُدامة *** كَلَوْن انعِقَاققِ البَرْققِ والليلُ مُسدف
وقَدّمْتَ فيها حُجَّة عربيَّة *** تَرُدّ إلى الإنصاف مَن ليس يُنْصِفُ
وأنتَ لنا واللّهِ ذي العرش قُدوَة *** إذا صدّنا عن شُرْبها المُتكَلِّفُ
نَقُول‏:‏ أبُو ثَوْر أحَلّ شَرَابَهَا *** وقولُ أبي ثَوْر أسَدّ وأعْرف
وحذف متعلّق ‏{‏منتهون‏}‏ لظهوره، إذ التقدير‏:‏ فهل أنتم منتهون عنهما، أي عن الخمر والميسر، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله‏:‏ ‏{‏إنّما يريد الشيطان‏}‏ يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء‏.‏
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏
‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏‏}‏
عطفت جملة ‏{‏وأطيعوا‏}‏ على جملة ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏، وهي كالتذييل، لأنّ طاعة الله ورسوله تعمّ ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعمّ غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب‏.‏ وكرّر ‏{‏وأطيعوا‏}‏ اهتماماً بالأمر بالطاعة‏.‏ وعطف ‏{‏واحذَروا‏}‏ على ‏{‏أطيعوا‏}‏ أي وكونوا على حذر‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏احذروا‏}‏ ليُنَزّلَ الفعلُ منزلة اللازم لأنّ القصد التلبّس بالحذر في أمور الدين، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما، لأنّ الفعل اللازم يقرُب معناه من معنى أفعال السجايا، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زِنة فَعِللٍ كفرِح ونَهِممٍ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولّيتم‏}‏ تفريع عن ‏{‏أطيعوا واحذروا‏}‏‏.‏ والتولّي هنا استعارة للعصيان، شُبّه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصِي، بجامع المقاطعة والمفارقة، وكذلك يطلق عليه الإدبار‏.‏ ففي حديث ابن صياد «ولئنْ أدْبَرْتَ ليَعْقَرَنَّك الله» أي أعرضتَ عن الإسلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا‏}‏ هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأنّ المعنى‏:‏ فإن تولّيتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضرّ تولّيكم الرسولَ لأنّ عليه البلاغ فحسب، أي وإنّما يضرّكم تولّيكم، ولولا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولّي وبين علمهم أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلاّ بالتبليغ‏.‏ وذكر فعل ‏{‏فاعلموا‏}‏ للتنبيه على أهمية الخبر كما بيّنّاه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏‏.‏
وكلمة أنّما‏}‏ بفتح الهمزة تقيّد الحصر، مثل ‏(‏إنّما‏)‏ المكسورةِ الهمزة، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتّفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنّها فرع عن المكسورة إذ هي أختها‏.‏ ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر، والمعنى أنّ أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلّغ إليهم‏.‏
وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنّه رسول من القادر على كلّ شيء، فلو شاء مُرسله لهَدَى المرسَلَ إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول‏.‏
ووصفُ البلاغ ب ‏{‏المُبين‏}‏ استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مُؤيَّداً بالحجّة الساطعة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏
‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏
هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان‏.‏ فقد كان سببُ نزول هذه الآية ما في «الصحيحين» وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وابن عبّاس، أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيفَ بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمرَ أوْ قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية‏.‏ وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق‏:‏ يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القِمار، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يَطعَمُونها‏.‏ فأنزل الله هذه الآيات‏.‏
وقد يَلُوح ببادئ الرأي أنّ حال الذين تُوُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقاً بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحداً بعمل لم يكن محرّماً من قبل فعله، وأنّه لا يؤاخذ أحداً على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خَشُوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم‏.‏ كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر فأنزل الله ‏{‏غيرَ أولِي الضّرر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏‏.‏ وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس‏:‏ فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس، فأنزل الله تعالى ‏{‏وما كان الله ليُضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، أي صلاتَكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم‏.‏
ونفيُ الجناح نفي الإثم والعصيان‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ موصولة‏.‏ و‏{‏طَعموا‏}‏ صلة‏.‏ وعائد الصلة محذوف‏.‏ وليست ‏(‏ما‏)‏ مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموهُ معلوممٍ من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجُناح هو على تقدير‏:‏ في طَعْم ما طعموه‏.‏
وأصل معنى ‏{‏طَعِموا‏}‏ أنّه بمعنى أكلوا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا طعِمتم فانتشروا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 259‏]‏‏.‏ وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طَعام‏.‏ وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عُطف في قوله تعالى ‏{‏فانظُر إلى طعامك وشَرابك لم يَتَسَنَّهْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقاً أهلّ لغير الله به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ طَعِم بمعنى أذَاق ومصدره الطُّعْم بضمّ الطاء اعتبروه مشتَقّاً من الطَّعْم الذي هو حاسّة الذوق‏.‏ وتقدّم قوله تعالى ‏{‏ومن لم يطْعَمه فإنّه منّي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله ‏{‏فمن شرب منه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ وجَدت في الماء طعْم التراب‏.‏ ويقال تغيّر طعم الماء، أي أسِنَ‏.‏ فمن فصاحة القرآن إيراد فعل ‏{‏طَعِمُوا‏}‏ هنا لأنّ المراد نفي التَّبِعَة عمَّن شربوا الخمر وأكلوا لحم المَيْسر قبل نزول آية تحريمهما‏.‏ واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب‏.‏
وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله ‏{‏طعموا‏}‏ تعيّن أن يكون ‏{‏إذا‏}‏ ظرفاً للماضي، وذلك على أصحّ القولين للنحاة، وإن كان المشهور أنّ ‏(‏إذا‏)‏ ظرف للمستقبل، والحقّ أنّ ‏(‏إذا‏)‏ تقع ظرفاً للماضي‏.‏ وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في «مغني اللبيب»‏.‏ وشاهده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏، وآيات كثيرة‏.‏ فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا، ويؤوّل معنى الكلام‏:‏ ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّماً يومئذٍ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلاّ قبل تحريمهما‏.‏
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جارياً على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة‏.‏
ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر‏.‏ وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيَّة السبب بل يُعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب، فقالوا‏:‏ رَفَع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها، إذا ما اتّقوا ما حَرّم الله عليهم، أي ليس من البرّ حرمانُ النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وفَسَّر به في «الكشاف» مبتدئاً به‏.‏ وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلاً بآية‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏، فتكون استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّباتتِ ما أحلّ الله لهم بنذرٍ أو يميننٍ على الامتناع‏.‏
وادّعى بعضهم أنّ هذه الآية نزلت في القوم الذين حَرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهّب‏.‏ ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصحّ أنّ هذا سبب نزولها‏.‏ وعلى هذا التفسير يكون ‏{‏طعِموا‏}‏ مستعملاً في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة ‏(‏إذا‏)‏ مستعملة في المستقبل، وفعل ‏{‏طعِموا‏}‏ من التعْبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة ‏(‏إذا‏)‏، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمّ إذَا دَعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏‏.‏
ويعكّر على هذا التفسير أنّ الذين حرّموا الطيّبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهمّ إلاّ أن يقال‏:‏ إنّ الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم‏.‏
وقال الفخر‏:‏ زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعِمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ولا شكّ أنّ ‏(‏إذا‏)‏ للمستقبل لا للماضي‏.‏ قال الفخر‏:‏ وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة‏.‏ وأمّا قولهم ‏(‏إذا‏)‏ للمستقبل، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين‏.‏
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطْف ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ على ‏{‏اتَّقَوْا‏}‏ من عطل الخاصّ على العامّ، للاهتمام به، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل‏}‏، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ‏.‏
وأمّا عطف ‏{‏وآمَنُوا‏}‏ على ‏{‏اتّقوا‏}‏ فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى ‏{‏فَكّ رقبةٍ أو أطعام‏}‏ إلى قوله ثُمّ كان من الذين آمنوا‏.‏ والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجردّ التنويه بالتقوى والإيماننِ والعمللِ الصالح، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيَّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثراً على فِعْله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبلُ، وكان الإيمان عَقداً عقلياً لا يقبَل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وآمنوا‏}‏ معنى ودَاموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر‏.‏
وجملة ‏{‏ثمّ اتَّقوا وآمنوا‏}‏ تأكيد لفظي لجملة ‏{‏إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ وقُرن بحرف ‏{‏ثمّ‏}‏ الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماءاً إلى الازدياد في التقوى وآثارِ الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلاّ سيعلمون ثمّ كلاّ سيعلمون‏}‏ ‏[‏النبإ‏:‏ 4، 5‏]‏ ولذلك لم يكرّر قوله‏:‏ ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى‏.‏
وأمّا جملة ‏{‏ثمّ اتّقوا وأحسنوا‏}‏ فتفيد تأكيداً لفظياً لجملة ‏{‏ثمّ اتّقوا‏}‏ وتفيد الارتقاء في التقوء بدلالة حرف ‏{‏ثمّ‏}‏ على التراخي الرتبي‏.‏ مع زيادة صفة الإحسان‏.‏ وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإحيان بقوله‏:‏ «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وهذا يتضمَّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة ‏{‏وآمنوا‏}‏ هنا‏.‏ ويشمل فعل ‏{‏وأحسنوا‏}‏ الإحسانَ إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأنّ منه إحساناً غير واجب وهو ممّا يَجلب مرضاة الله، ولذلك ذيّله بقوله‏:‏ ‏{‏والله يحبّ المحسنين‏}‏‏.‏
وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ اتّقوا‏}‏ على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال‏.‏ وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى ‏{‏إذا ما اتّقوا‏}‏ وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط‏.‏ وفي جلبها طول‏.‏
وقد تقدّم أنّ بعضاً من السلف تأوّل هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتّقى الله فيما عدّ، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرّمات، ولا إلى إضرار الناس‏.‏ وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون، كما تقدّم في تفسير آية تحريم الخمر‏:‏ وأنّ عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب لم يقبلاه منه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏
لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورة ‏{‏غير محلّى الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم‏.‏ وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأنّ قوله ‏{‏ليبلونّكم‏}‏ ظاهر في الاستقبال، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل‏.‏ والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا‏.‏ وقد روي عن مقاتل‏:‏ أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيَهم صيد كثير في طريقهم، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم، فمنهم المُحِلّ ومنهم المُحرِم، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي، وصيد بعضه بالرماح‏.‏ ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط، فاختلفت أحوالهم في الإقدَام على إمساكه‏.‏ فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه‏.‏ فنزلت هذه الآية اه‏.‏ فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقاً، لتكون تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثلَ ما حلّ بهم يوم الحديبية‏.‏ وكانوا في حجّة الوداع أحْوج إلى التحذير والبيان، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب، فذلك يبيّن معنى قوله ‏{‏تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ لإشعار قوله ‏{‏تناله‏}‏ بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ‏.‏
والخطاب للمؤمنين، وهو مجمل بيّنه قوله عقبه ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ قال أبو بكر بن العربي‏:‏ اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّهم المحلّون، قاله مالك، الثاني‏:‏ أنّهم المحرمون، قاله ابن عباس وغيره اه‏.‏ وقال في «القبس»‏:‏ تَوهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام، وهذه عُضْلة، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اه‏.‏
ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج‏.‏ قال ابن العربي في «الأحكام»‏:‏ «إنّ قوله ‏{‏ليبلونّكم‏}‏ الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المُحِلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد‏.‏ والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتبايَن في الضعف والشدّة»‏.‏ يريد أنّ قوله‏:‏ ‏{‏ليبلونّكم الله بشيء من الصيد‏}‏ لا يراد به الإصابة ببلوى، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد‏.‏
وهذا ينظر إلى أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ شامل لحالة الإحراممِ والحلوللِ في الحرم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ليبلونّكم الله بشيء من الصيد‏}‏ هو ابتلاء تكليف ونهي، كما دلّ عليه تعلّقه بأمر ممّا يفعل، فهو ليس كالابتلاء في قوله‏:‏ ‏{‏ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏ وإنّما أخبرهم بهذا على وجه التحذير‏.‏ فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه، وهو التحذير‏.‏ ويتعيّن أن يكون هذا الخطاب وُجّه إليهم في حين تردّدهم بين إمساك الصيد وأكله، وبين مراعاة حرمة الإحرام، إذ كانوا مُحرمين بعمرة في الحديبية وقد تردّدوا فيما يفعلون، أي أنّ ما كان عليه الناس من حِرمة إصابة الصيد للمُحْرِم معتدّ به في الإسلام أو غير معتدّ به‏.‏ فالابتلاء مستقبل لأنّه لا يتحقّق معنى الابتلاء إلاّ من بعد النهي والتحذير‏.‏ ووجود نون التوكيد يعيّن المضارع للاستقبال، فالمستقبل هو الابتلاء‏.‏ وأمّا الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حَاضر‏.‏
والصيد‏:‏ المصيد، لأنّ قوله من الصيد وقع بياناً لقوله ‏{‏بشيء‏}‏‏.‏ ويغني عن الكلام فيه وفي لفظ ‏(‏شيء‏)‏ ما تقدّم من الكلام على نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏155‏)‏‏.‏ وتنكير شيء هنا للتنويع لا للتحقير، خلافاً للزمخشري ومن تابَعه‏.‏
وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره‏.‏ فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحِبالات وجوارح، لأنّ جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد‏.‏ وكانوا يعْدُون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحُمر الوحشية وبقر الوحش، كما في حديث أبي قتادة أنّه‏:‏ رأى عام الحديبية حماراً وحشياً، وهو غير محرم، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشدّ وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيّهم، كما في حديث «الموطأ» «عن زيد البَهْزي أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكّة فإذا ظبي حاقف فيه سَهم» الحديث‏.‏ فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قُتْرة ويمسك قوسه فإذا مرّ به الصيد رماه بسهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وخصّ الرماح بالذكر لأنّها أعظم ما يجرح به الصيد‏.‏
وقد يقال‏:‏ حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط‏.‏
وجملة ‏{‏تناله أيديكم‏}‏ صفة للصيد أو حال منه‏.‏ والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلاّ يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ اللّهُ من يخافه بالغيب‏}‏ علّة لقوله ‏{‏ليبلونّكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ لأنّ الابتلاء اختبار، فِعلّته أن يعلم الله مِنه من يخافه‏.‏ وجَعْل علم الله علّة للابتلاء إنّما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كلّ من علم الله أنّه يخافه، فأطلق علم الله على لازِمه، وهو ظهور ذلك وتميّزه، لأنّ علم الله يلازمه التحقّق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلاّ موافقاً لما في نفس الأمر، كما بينّاه غير مرّة؛ أو أريد بقوله‏:‏ ‏{‏ليعلم الله‏}‏ التعلّق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلّفين، بناء على إثبات تعلّق تنجيزي لصفة العلم، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في «الرسالة الخاقانية»‏.‏
وقيل‏:‏ أطلق العلم على تعلّقه بالمعلوم في الخارج، ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أنّ هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين‏.‏ وقال ابن العربي في القبس‏:‏ «ليعلم الله مشاهدةً مَا علمه غيباً من امْتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنّه، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيبَ أوّلاً، ثم يَخلق المعدوم فيَعْلَمُه مشاهدة، يتغيّر المعلوم ولا يتغيّر العلم»‏.‏ والباء إمّا للملابسة أو للظرفية، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في ‏{‏يخافه‏}‏‏.‏
والغيب ضدّ الحضور وضدّ المشاهدة، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ على أحد وجهين هنالك، فتعلّق المجرور هنا بقوله ‏{‏يخافه‏}‏ الأظهر أنّه تعلّق لمجرّد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقتلون النبيئين بغير حقّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏‏.‏ أي من يخاف الله وهو غائب عن الله، أي غير مشاهد له‏.‏ وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنوّر البصيرة، فإنّهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنّهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال‏.‏ وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي‏:‏ ‏"‏ إنّهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني ‏"‏ ومن المفسرين من فسّر الغيب بالدنيا‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الظاهر أنّ المعنى بالغيب عن الناس، أي في الخلوة‏.‏ فمن خاف الله انتهى عن الصيد في ذات نفسه، يعني أنّ المجرور للتقييد، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتّقى إنكارهم عليه أو صدّهم إيّاه وأخذَهم على يده أو التسميع به، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أنّ الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم، أي كانوا متمكّنين من أخذه بدون رقيب، أو يكون الصيد المحذّر من صيده مماثلاً لذلك الصيد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏ تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله ‏{‏ليبلونّكم‏}‏، إذ قد أشعر قوله‏:‏ ‏{‏ليبلونّكم‏}‏ أنّ في هذا الخبر تحذيراً من عمل قد تسبق النفس إليه‏.‏ والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من ‏{‏ليبلونّكم‏}‏، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع‏.‏ والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فله عذاب أليم‏}‏، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما، وبما خالف إنذار الله تعالى، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام، والكفارة هي جزاء الصيد، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي‏.‏
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ العذاب الأليم أنّه يوسَع بطنُه وظهرُه جلْداً ويُسلَبُ ثيابَه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية»‏.‏ فالعذاب هو الأذى الدنيوي، وهو يقتضي أنّ هذه الآية قرّرت ما كان يفعله أهل الجاهلية، فتكون الآية الموالية لها نسخاً لها‏.‏ ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدلّ ذلك على أنّه أبطل بما في الآية الموالية، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها‏.‏ ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم‏.‏ فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلاّ التوبة، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديباً، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام، والظاهر أنّ سَلَبَه كان يأخذه فقراء مكة مثل جِلال البُدن ونِعالها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏‏}‏
استئناف لبيان آية‏:‏ ‏{‏ليبلونّكم الله بشيء من الصيد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكماً لم يبق به عمل‏.‏ وتقدّم القول في معنى ‏{‏وأنتم حرم‏}‏ في طالع هذه السورة ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏‏.‏
واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين‏:‏ حال كون الصائد محرِماً، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالاً؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه‏.‏ قال النابغة‏:‏
والمؤمننِ العائذاتتِ الطيرَ يمسحُها *** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد
فالتحريم لصيد حيوان البرّ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر‏.‏ ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة‏.‏ وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم‏.‏
والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه‏.‏ ويلحق بالصيد الوحوش كلّها‏.‏ قال ابن الفرس‏:‏ والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ، كما يقال‏:‏ بئس الرميَّة الأرنب، وإن لم ترم بعد‏.‏ وخصّ من عمومه ما هو مضرّ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير‏.‏ ودليل التخصيص السنّة‏.‏ وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد‏.‏ ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأنْتم حُرُم‏}‏ حُرُم جمع حرام، بمعنى مْحرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة‏.‏ ويطلق المحرم على الكائن في الحرم‏.‏ قال الراعي‏:‏
قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرماً *** أي كائناً في حرم المدينة‏.‏ فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة‏.‏ وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده‏.‏ فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق‏.‏ وفي صيده الجزاء‏.‏ وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي‏.‏
وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب‏.‏ وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر ‏(‏جبل‏)‏ إلى ثور ‏"‏ قيل‏:‏ هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة‏.‏ قال النووي‏:‏ أكثر الرواة في كتاب «البخاري» ذكروا عيَراً، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال‏:‏ من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني‏.‏ وقيل‏:‏ ثور جبل صغير وراء جبل أحُد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم‏}‏ الخ، ‏(‏مَن‏)‏ اسم شرط مبتدأ، و‏{‏قتله‏}‏ فعل الشرط، و‏{‏منكم‏}‏ صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا‏.‏ وفائدة إيراد قوله ‏{‏منكم‏}‏ أعرض عن بيانها المفسّرون‏.‏ والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدّم آنفاً‏.‏
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل‏.‏
وقوله ‏{‏متعمّداً‏}‏ قيد أخرج المخطئ، أي في صيده‏.‏ ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة‏.‏ قال الزهري‏:‏ نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطئ أنّهما يكفّران‏.‏ ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة‏.‏ وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار‏:‏ إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم، أي قاسه على الغُرم‏.‏ والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما‏.‏ ومضى بذلك عمل الصحابة‏.‏
وقال أحمد بن حنبل، وابن عبد الحكم من المالكية، وداوود الظاهري، وابن جبير وطاووس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد‏:‏ لا شيء على الناسي‏.‏ وروي مثله عن ابن عباس‏.‏
وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وابن جريج‏:‏ إن كان متعمّداً للقتل ناسياً إحرامه فهو مورد الآية، فعليه الجزاء‏.‏ وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه، وصيده جيفة لا يؤكل‏.‏
والجزاء العوض عن عمل، فسمّى الله ذلك جزاء، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار‏.‏
وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه‏.‏ وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء‏.‏ وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده‏.‏
وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏‏.‏ وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى‏:‏ ‏{‏جزاءاً وفاقاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير، وأكثر صيد العرب من الدوابّ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة‏.‏ وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا‏.‏ وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة‏.‏ وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد‏.‏ والقيمة عند مالك طعام‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ دارهم‏.‏ فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً، ولكسر المدّ يوماً كاملاً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يشتري بالقيمة هدياً إن شاء، وإن شاء اشترى طعاماً، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً‏.‏
وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزئ في الضحايا والهدايا‏.‏ فقال مالك‏:‏ لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏‏.‏ فما لا يجزئ أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام‏.‏
وقال مالك في «الموطأ»‏:‏ وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره‏.‏ وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة‏.‏ وقال الشافعي وبعض علماء المدينة‏:‏ إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في «الموطأ» عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة‏.‏ قال الحفيد ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد»‏:‏ وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود اه‏.‏
وأقول‏:‏ لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏‏.‏ فإنّ ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزئ في الهدايا‏.‏ فمن العجب قول ابن العربي‏:‏ إنّ قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا‏.‏ ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا‏.‏ والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام‏.‏ ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها، خلافاً لداوود الظاهري، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله‏.‏
وقرأ جمهور القرّاء ‏{‏فجزاء مثل ما قتل‏}‏ بإضافة ‏{‏جزاء‏}‏ إلى ‏{‏مثل‏}‏؛ فيكون ‏{‏جزاء‏}‏ مصدراً بدلاً عن الفعل، ويكون ‏{‏مثلُ ما قتل‏}‏ فاعل المصدر أضيف إليه مصدره‏.‏ و‏{‏من النعم‏}‏ بيان المثل لا ل ‏{‏مَا قتَلَ‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله، أي يكافئ ويعوّض ما قتله‏.‏ وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي‏.‏ ولك أن تجعل الإضافة بيانية، أي فجزاء هو مثل ما قتل، والإضافة تكون لأدنى ملابسة‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، أي فليحرّر رقبة‏.‏ وجعله صاحب «الكشاف» من إضافة المصدر إلى المفعول، أي فليجز مثلَ ما قتلَ‏.‏ وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل ‏(‏جزى‏)‏ بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه‏.‏ تقول‏:‏ جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهماً، ولا تقول‏:‏ جزيْت كذا درهماً بما أتلفته، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ ‏(‏مثل‏)‏ مقحماً‏.‏ ونظّروه بقولهم‏:‏ «مثلك لا يبخل»، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري‏.‏ وسكت صاحب «الكشاف» عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام «الكشاف» على لزوم جعل لفظ ‏{‏مثل‏}‏ مقحماً وأنّ الكلام على وجه الكناية، يعني نظير ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وكذلك ألزمه إياه التفتزاني، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل‏.‏ وهو اعتذار ضعيف‏.‏
فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله‏.‏ وقد اجترأ الطبري فقال‏:‏ أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي‏.‏
وقرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، والكسائي، وخلف ‏{‏فجزاءٌ مثلُ‏}‏ بتنوين ‏(‏جزاء‏)‏‏.‏ ورفع ‏(‏مثل‏)‏ على تقدير‏:‏ فالجزاء هو مثلُ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏ جملة في موضع الصفة ل ‏{‏جواء‏}‏ أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه‏.‏ والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين‏.‏ وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما‏.‏ ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره‏.‏
وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان‏.‏ ووُصف ‏{‏ذوا عدل‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏ حال من ‏{‏مثل ما قتل‏}‏، أو من الضمير في ‏(‏به‏)‏‏.‏ والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة‏.‏ والمنحر‏:‏ منى والمروة‏.‏ ولما سمّاه الله تعالى ‏{‏هدياً‏}‏ فله سائر أحكام الهدي المعروفة‏.‏ ومعنى ‏{‏بالغ الكعبة‏}‏ أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أو كفّارة طعام مساكين‏}‏ عطف على ‏{‏فجزاء‏}‏ وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة‏.‏ وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة‏.‏ وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين‏.‏ فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين‏.‏ وهو قول الأكثر من العلماء‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً‏.‏ وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد‏.‏ قال مالك‏:‏ أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين‏.‏ ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام‏.‏ فعن ابن عباس‏:‏ تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً، وحمار الوحش بثلاثين، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين‏.‏
و ‏{‏أو‏}‏ في قوله ‏{‏أو كفارة طعام مساكين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو عدل ذلك‏}‏ تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة‏.‏ وكذلك كل أمر وقع ب«أو» في القرآن فهو من الواجب المخيّر‏.‏ والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل‏:‏ الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين‏.‏ وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل‏:‏ الخيار للحكمين‏.‏ وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام، فهي عندهم على الترتيب‏.‏ ونسب لابن عباس‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ‏{‏كفّارةُ‏}‏ بالرفع بدون تنوين مضافاً إلى طعام كما قرأ ‏{‏جزاءُ مثللِ ما قتلَ‏}‏‏.‏ والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثللِ ما قتل‏}‏ فنجعل ‏{‏كفارة‏}‏ اسم مصدر عوضاً عن الفعل وأضيف إلى فاعله، أي يكفّره طعامُ مساكين؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية، أي كفّارة من طعام، كما يقال‏:‏ ثوبُ خزّ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان، فالكفّارة بيّنها الطعام، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع‏.‏ وجزم بهذا الوجه في «الكشاف»، وفيه تكلَّف‏.‏ وقرأه الباقون بتنوين ‏{‏كفارةٌ‏}‏ ورفع ‏{‏طعامُ‏}‏ على أنّه بدل من ‏{‏كفارة‏}‏‏.‏
وقوله ‏{‏أو عدْل ذلك صياماً‏}‏ عطف على ‏{‏كفّارة‏}‏ والإشارة إلى الطعام‏.‏ والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه‏.‏ وأصل معنى العدل المساواة‏.‏ وقال الراغب‏:‏ إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا‏.‏ وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل‏:‏ هما مترادفان‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ‏{‏طعام مساكين‏}‏‏.‏ وانتصب ‏{‏صياماً‏}‏ على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير‏.‏
وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ عن كلّ مُدَّين يوماً، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور‏:‏ لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين، وقال بعض أهل العلم‏:‏ لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة‏.‏
وقوله ‏{‏ليذوق‏}‏ متعلّق بقوله ‏{‏فجزاء‏}‏، واللاّم للتعليل، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره‏.‏
والذوق مستعار للإحساس بالكدر‏.‏ شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك‏.‏ وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات‏.‏ ففي القرآن ‏{‏ذق إنّك أنت العزيز الكريم‏}‏
‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏، ‏{‏لا يذوقون فيها الموت‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة «ذق عُقق»‏.‏ وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع والخوف‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏
والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ، والوبيل القوي في السوء ‏{‏فأخذناه أخذاً وبيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وطعام وبيل‏:‏ سيّء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستولبه الإبل، أي تستوخمه‏.‏ قال زهير‏:‏
إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ *** والأمر‏:‏ الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً‏.‏ والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب‏.‏
وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال‏:‏ ‏{‏عفا الله عمّا سلف‏}‏، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه‏.‏
والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور‏.‏ وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد، وجابر بن زيد‏:‏ أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء‏.‏ وهذا شذوذ‏.‏
ودخلت الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فينتقم الله منه‏}‏ مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي، فالتقدير‏:‏ فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره، أو لقصد التقوّي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام‏.‏ ونظيره ‏{‏فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 13‏]‏ فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز‏.‏ هذا قول المحقّقين مع توجيهه، ومن النحاة من قال‏:‏ إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنّه جاء على خلاف الغالب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله عزيز ذو انتقام‏}‏ تذييل‏.‏ والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام، أي لأنّ من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏
‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏
استئناف بياني نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فإنّه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدي مثل ما قتَل من النعم، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأنّ أخذه لا يسمّى في العرف قتلاً، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنّه قد يشكّ لعلّ الله أراد القتل بمعنى التسبّب في الموت، وأراد بالمثل من النعم المقاربَ في الحجم والمقدار، فبيّن الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة، لأنّ صيد البحر ليس من حيوان الحرم، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر‏.‏ وقد بينّا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ أنّ أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها‏.‏
ومعنى ‏{‏أحلّ لكم صيد البحر‏}‏ إبقاء حلّيّته لأنّه حلال من قبللِ الإحرام‏.‏ والخطاب في ‏{‏لكم‏}‏ للذين آمنوا‏.‏ والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات، أي أحلّ لكم قتله، أي إمساكه من البحر‏.‏
والبحر يشمل الأنهار والأودية لأنّ جميعها يسمّى بحراً في لسان العرب‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي البحران هذا عذب فرات‏}‏ الآية‏.‏ وليس العذب إلاّ الأنهار كدجلة والفرات‏.‏ وصيد البحر‏:‏ كلّ دوابّ الماء التي تصاد فيه، فيكون إخراجها منه سبب موتها قريباً أو بعيداً‏.‏ فأمّا ما يعيش في البرّ وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة، ولا خلاف في هذا‏.‏ أمّا الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه، عند من يرى أنّ منه ما لا يؤكل، فليس هذا موضع ذكره، لأنّ الآية ليست بمثبتة لتحليل أكل صيد البحر ولكنّها منّبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وطعامه‏}‏ عطف على ‏{‏صيد البحر‏}‏‏.‏ والضمير عائد إلى ‏{‏البحر‏}‏، أي وطعام البحر، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد‏.‏ والمعنى‏:‏ والتقاط طعامه أو وإمساكُ طعامه‏.‏ وقد اختلف في المراد من «طعامه»‏.‏ والذي روي عن جلّة الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ أنّ طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له‏.‏ ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا ممّا لا يلائم سياق الآية‏.‏ وهؤلاء هم الذين حرّموا أكل ما يخرجه البحر ميّتاً، ويردّ قولهم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في البحر‏:‏ ‏"‏ هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته ‏"‏ وحديث جابر في الحوت المسمّى العنبر، حين وجدوه ميّتاً، وهم في غزوة، وأكلوا منه، وأخبروا رسول الله، وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وانتصب ‏{‏متاعاً‏}‏ على الحال‏.‏
والمتاع‏:‏ ما يتمتّع به‏.‏ والتمتّع‏:‏ انتفاع بما يلذّ ويسرّ‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم‏}‏ للمخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏ باعتبار كونهم متناولين الصيد، أي متاعاً للصائدين وللسيّارة‏.‏
والسيّارة‏:‏ الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة، مؤنث سيّار، والتأنيث باعتبار الجماعة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءت سيّارة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 19‏]‏‏.‏ والمعنى أحلّ لكم صيد البحر تتمتّعون بأكله ويتمتّع به المسافرون، أي تبيعونه لمن يتّجرون ويجلبونه إلى الأمصار‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏ زيادة تأكيد لتحريم الصيد، تصريحاً بمفهوم قوله ‏{‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، ولبيان أنّ مدّة التحريم مدّة كونهم حُرُماً، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة‏.‏ وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناساً بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة، ولو شاء الله لحرّمه أبداً‏.‏ وفي «الموطأ»‏:‏ أنّ عائشة قالت لعروة بن الزبير‏:‏ يا بن أختي إنّما هي عشر ليال ‏(‏أي مدّة الإحرام‏)‏ فإن تخلَّجَ في نفسك شيء فدعه‏.‏ تعني أكل لحم الصيد‏.‏
وذيّل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله الذي إليه تحشرون‏}‏‏.‏ وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأنّ المرجع إلى الله ليعدّ الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء‏.‏
والحشر‏:‏ جمع الناس في مكان‏.‏ والصيد مراد به المصيد، كما تقدّم‏.‏
والتحريم متعلّق بقتله لقوله قبله ‏{‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فلا يقتضي قوله‏:‏ ‏{‏وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏ تحريم أكل صيد البرّ على المحرم إذا اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إيّاه، لأنّه قد علم أنّ التحريم متعلّق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة‏.‏ وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمار الذي صاده أبو قتادة، كما في حديث «الموطأ» عن زيد بن أسلم‏.‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون‏.‏ وعلى ذلك مضى عمل الصحابة، وهو قول‏.‏
وأمّا ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ردّ على الصعب بن جَثّامة حماراً وحشياً أهداه إليه وقال له‏:‏ ‏"‏ إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حُرُم ‏"‏ وقد اختلف الفقهاء في محل هذا الامتناع‏.‏ فقيل‏:‏ يحرم أن يأكله مَن صِيدَ لأجله لا غير‏.‏ وهذا قول عثمان بن عفّان، وجماعة من فقهاء المدينة، ورواية عن مالك، وهو الأظهر، لأنّ الظاهر أنّ الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنّما لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم ‏"‏ أنّه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لقوله «لم نردّه»، وإنّما ردّه هو وحده‏.‏ وقيل‏:‏ يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره، وهو قول بعض أهل المدينة، وهو المشهور عن مالك‏.‏ وكأنّ مستندهم في ذلك أنّه الاحتياط وقيل‏:‏ لا يأكل المحرم صيداً صِيد في مدّة إحرامه ويأكل ما صِيد قبل ذلك، ونسب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس، وقيل‏:‏ يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً، وإنّما حرّم الله قتل الصيد، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ والحاصل أنّ التنزّه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنّة بحديث الصعب بن جَثَّامة، وهو محتمل كما علمت‏.‏ والأصل في الامتناع الحِرمة لأنّه، لو أراد التنزّه لقال‏:‏ أمّا أنا فلا آكله، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضبّ‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏
‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏
استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حُرّمت أرضُ الحرم لأجل تعظيمها، وتذكيرٌ بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها‏.‏
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏، في سورة الأنعام ‏(‏1‏)‏، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى مفعولين، وكلا المعنيين صالح هنا‏.‏ والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياماً للناس‏.‏ فقوله‏:‏ قياماً‏}‏ منصوب على الحال، وهي حال مقدّرة، أي أوجدها مقدّراً أن تكون قياماً‏.‏ وإذا حمل ‏{‏جعل‏}‏ على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيتَ عبادة فصيّرها الله قياماً للناس لطفاً بأهلها ونسلهم، فيكون ‏{‏قياماً‏}‏ مفعولاً ثانياً ل ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏البيت الحرام‏}‏ يصحّ جعله مفعولاً‏.‏
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد‏.‏ وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ أوّل بيتتٍ وضع للناس للذي ببكة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ إنّه علم مشتقّ من الكَعَب، وهو النتوء والبروز، وذلك محتمل‏.‏ ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة، تشبيهاً بالبيت الحرام، إذ كان أول بيت عندهم، وكانوا من قبله أهل خيام، فصار البيت مثلاً يمثّل به كلّ بارز‏.‏ وأمّا إطلاق الكعبة على ‏(‏القليس‏)‏ الذي بناه الحبشة في صنعاء، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله‏:‏
فَكعْبَةُ نَجرَان حَتْم عليكِ *** حتى تُناخي بأبوابها
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه، كما سمّى بنو حنيفة مسَليمة رحمان‏.‏
وقوله‏:‏ البيت الحرام‏}‏ بيان للكعبة‏.‏ قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم، إذ شأن البيان أن يكون موضّحاً للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن‏.‏ ولمّا كان اسم الكعبة مساوياً للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا آمِّين البيت الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك‏.‏ ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب‏.‏ وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علماً بالغلبة على الكعبة‏.‏
والحرام في الأصل مصدر حَرُم إذا مُنِع، ومصدره الحرام، كالصلاح من صلُح، فوصف شيء بحرام مبَالغة في كونه ممنوعاً‏.‏ ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة‏.‏ وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير محلّي الصيد وأنتم حُرُم في هذه السورة ‏(‏1‏)‏، وأنّه يقال‏:‏ شهر حرام، عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ فيها أيضاً، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه، وهو في كلّ موصوف يدلّ على أنّه ممّا يتجنّب جانبه، فيكون تجنّبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك، فيكون وصفَ مدح، ويكون تجنّبه للتنزّه عنه فيكون وصف ذمّ، كما تقول‏:‏ الخمر حرام‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏قياماً‏}‏ بألف بعد الياء‏.‏ وقرأه ابن عامر ‏{‏قيماً‏}‏ بدون ألف بعد الياء‏.‏
والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقلّ على رجليه، ويستعار للنشاط، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح، لأنّ شأن من يعمل عملاً مهمّاً أن ينهض له، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏ ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره‏:‏ هو قيّم عليه أو قائم عليه، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع‏.‏ وأمّا قراءة ابن عامر قيما‏}‏ فهو مصدر ‏(‏قام‏)‏ على وزن فِعَل بكسر ففتح مثل شِبَع‏.‏ وقد تقدّم أنّه أحد تأويلين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما‏}‏ في سورة النساء‏.‏ وإنّما أعلّت واوه فصارت ياء لشدّة مناسبة الياء للكسرة‏.‏ وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فِعَل من الواوي العين‏.‏ وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة، وهو إسناد مجازي، لأنّ الكعبة لمّا جعلها الله سبباً في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم، جُعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنّها سبب القيام لهم‏.‏
والناس هنا ناس معهودون، فالتعريف للعهد‏.‏ والمراد بهم العرب، لأنّهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم‏.‏ وأمّا ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السّكان لا لكون البيت حراماً، إلاّ إذا أريد التسبّب البعيد، وهو أنّه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحجّ لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك‏.‏
وإنّما كانت الكعبة قياماً للناس لأنّ الله لمّا أمر إبراهيم بأن يُنزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة ‏(‏وهم ذرية إسماعيل‏)‏ في ذلك المكان لينشأوا أمّة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب، لأنّه قدّر أن تكون تلك الأمّة هي أول من يتلقّى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحقّ والأخلاق الفاضلة‏.‏ فأقام لهم بلداً بعيداً عن التعلّق بزخارف الحياة؛ فنشأوا على إباء الضيم، وتلقّوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه؛ وأقام لهم فيه الكعبة معلماً لتوحيد الله تعالى، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته‏.‏
ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة، فصار وجود الكعبة عائداً على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء‏.‏ وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفاناً‏.‏ وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله‏:‏ ‏{‏ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ فكانت الكعبة قياماً لهم يقوم به أوَد معاشهم‏.‏ وهذا قيام خاصّ بأهله‏.‏
ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهِلت بلاد العرب‏.‏ وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يَحدُث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة، وهو رجب الذي سنَّتْهُ مُضَرُ ‏(‏وهم معظم ذرية إسماعيل‏)‏ وتبعهم معظم العرب‏.‏ وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائداً بينهم مدة ثلث العام، يصلحون فيها شؤونهم، ويستبقون نفوسهم، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم، فيما نجم من تِراتتٍ وإحَننٍ‏.‏ فهذا من قيام الكعبة لهم، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة‏.‏
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكاناً متّسعاً شاسعاً يحيط بها من جوانبها أميالاً كثيرة، وهو الحرم، فكان الداخل فيه آمناً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أوَ لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطَّف الناس مِنْ حولهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏ فكان ذلك أمناً مستمراً لسكّان مكة وحرمها، وأمناً يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذاً، ولتحقيق أمنه أمَّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس، فكانت الكعبة قياماً لكلّ عربي إذا طرقه ضيم‏.‏
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد، فلتعطّلت التجارة والمنافع‏.‏ ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللَّتين قال الله تعالى فيهما‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الستاء والصيف‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملِها إلى الأمم، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده‏.‏
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل‏:‏ إنّ الكعبة كانت قياماً للناس وهم العرب، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها‏.‏
فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال، وبه تكفّر الذنوب، فكانت الكعبة من هذا قياماً للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياماً‏.‏
وعَطْفُ ‏{‏الشهرَ الحرامَ‏}‏ على ‏{‏الكعبةَ‏}‏ شبْه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلاّ من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت‏.‏ فالتعريف في ‏{‏الشهر‏}‏ للجنس كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا الشهر الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر‏.‏ وكذلك عطف ‏{‏الهدي‏}‏ و‏{‏القلائد‏}‏‏.‏ وكون الهدي قياماً للناس ظاهر، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحابُ المواشي من العرب، وينتفع بلحومه من الحاج فقراءُ العرب، فهو قيام لهم‏.‏
وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج، فتلك قيام لفقرائهم، ووجه تخصيصها بالذكر هنا، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج، التنبيهُ على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس، حتى أدنى العلائق، وهو القلائد، فكيف بما عداها من جِلال البدْن ونعالها وكسوة الكعبة، ولأنّ القلائد أيضاً لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجِلال والنعال‏.‏ ونظير هذا قول أبي بكر «والله لو منعوني عِقالاً» إلخ‏.‏‏.‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله ‏{‏لتعلموا‏}‏‏.‏ وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه، وهو الجعل المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة‏}‏، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل، فلذلك كان الكلام شبيهاً بالمستأنف وما هو بمستأنف، لأنّ ماصْدَقَ اسم الإشارة هو الكلام السابق، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل، والتعليل اتّصال وليس باستئناف، لأنّ الاستئناف انفصال‏.‏ وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلّق به لام التعليل إلاّ قوله ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ وليست الإشارة إلاّ للجعل المأخوذ من قوله ‏{‏جعل‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ جعل الله الكعبة قياماً للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ‏.‏‏.‏، أي أنّ من الحكمة التي جعل الكعبة قياماً للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم‏.‏ فَجَعْل الكعبة قياماً مقصود منه صلاح الناس بادئ ذي بدء لأنّه المجعولة عليه، ثم مقصود منه عِلم الناس بأنّه تعالى عليم‏.‏ وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك‏.‏
فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياماً لأجلها‏.‏
والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقاً بجعل الكعبة وما تبعها قياماً للناس‏.‏ وقد كان قيامها للناس حاصلاً بعد وقت جعلها بمدّة، وقد حصل بعضُه يتلُو بعضاً في أزمنة متراخية كما هو واضح‏.‏ وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى، ولأنّ كثيراً من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها‏.‏
ووجه دلالة جَعْل الكعبة قياماً للناس وما عطف عليها، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم، فلم يدر أحد يومئذٍ إلاّ أنّ إبراهيم اتّخذها مسجداً، ومكة يومئذٍ قليلة السكّان، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها، ووقّت للناس أشهراً القصد فيها، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة، كما بيّنّاه آنفاً‏.‏ فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام‏.‏ فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها‏.‏ وكان ذلك تمهيداً لما علمه مِن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجعلِهم حملة شريعته إلى الأمم، وما عقب ذلك من عِظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام‏.‏ ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة، أو بالترفّع عن النقص فلا جرم أن يكون عالماً بما في السماواة، لأنّ السموات إمّا أن تكون مساوية للأرض في أنّه تعالى ليس بمستقرّ فيها، ولا هي أقرب إليه من الأرض، كما هو الاعتقاد الخاصّ، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة؛ وإمّا أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض، لأنّها أقرب إليه وهو بها أعني، فيتمّ الاستدلال للفريقين‏.‏
وأمّا دلالة ذلك على أنّه بكلّ شيء عليم فلأنّ فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرّر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعاً من المعلومات جليلة ودقيقة؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها، فيكون ذلك الجهل معطّلاً لعلمه بكثير ممّا يتوقّف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياماً وما نشأ عن ذلك إلاّ عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تمّ تدبير ذلك المقدّر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏
‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي وتذييل لما سبق من حظر الصيد للمحرم وإباحة صيد البحر والامتنان بما جعل للكعبة من النعم عليهم ليطمئنّوا لِما في تشريع تلك الأحكام من تضييق على تصرّفاتهم ليعلموا أنّ ذلك في صلاحهم، فذيل بالتذكير بأنّ الله منهم بالمرصاد يجازي كل صانع بما صنع من خير أو شر‏.‏ وافتتاح الجملة ب ‏{‏اعلموا‏}‏ للاهتمام بمضمونها كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏‏.‏ وقد استوفى قوله‏:‏ إن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم‏}‏ أقسام معاملته تعالى فهو شديد العقاب لمن خالف أحكامه وغفور لمن تاب وعمل صالحاً‏.‏ وافتتاح الجملة بلفظ ‏{‏اعلموا‏}‏ للاهتمام بالخبر كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنّكم ملاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏‏.‏
وجملة ما على الرسول إلاّ البلاغ‏}‏ معترضة ذيل بها التعريض بالوعيد والوعد‏.‏ ومضمونها إعذار الناس لأن الرسول قد بلّغ إليهم ما أراد الله منهم فلا عذر لهم في التقصير، والمنّة لله ولرسوله فيما أرشدهم إليه من خير‏.‏
والقصر ليس بحقيقي لأنّ على الرسول أموراً أخر غير البلاغ مثل التعبّد لله تعالى، والخروج إلى الجهاد، والتكاليف التي كلّفه الله بها مثل قيام الليل، فتعيّن أنّ معنى القصر‏:‏ ما عليه إلاّالبلاغ، أي دون إلجائكم إلى الإيمان، فالقصر إضافي فلا ينافي أنّ على الرسول أشياء كثيرة‏.‏ والإتيان بحرف ‏(‏على‏)‏ دون ‏(‏اللام‏)‏ ونحوها مؤذن بأنّ المردود شيء يتوهّم أنّه لازم للرسول من حيث إنّه يدّعي الرسالة عن الله تعالى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏اعلموا أنّ الله شديد العقاب‏}‏‏.‏ وهي تتميم للتعريض بالوعيد والوعد تذكيراً بأنّه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوّي الحكم وليس لإفادة التخصيص لنبُوّ المقام عن ذلك‏.‏
وذكر ‏{‏ما تبدون‏}‏ مقصود منه التعميم والشمول مع ‏{‏ما تكتمون‏}‏ وإلاّ فالغرض هو تعليمهم أنّ الله يعلم ما يسرّونه أمّا ما يبدونه، فلا يُظنّ أنّ الله لا يعلمه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏
‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏
لما آذن قوله‏:‏ ‏{‏اعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏ بأنّ الناس فريقان‏:‏ مطيعون وعصاة، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين‏.‏ فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها‏.‏ قال الأعشى‏:‏
ولستَ بالأكثرِ منهم حصًى *** وإنّما العزّة للكاثر
وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي‏:‏
تعيّرنا أنّا قليل عَدِيدنَا *** وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال‏:‏
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدد *** ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا
قال السديّ‏:‏ كثرة الخبيث هم المشركون، والطيّب هم المؤمنون‏.‏ وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عدداً من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع، وقيل‏:‏ أريد منها الحرام والحلال من المال، ونقل عن الحسن‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يستوي‏}‏ نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة‏.‏ والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول، فإنّ جعل أحدهما خبيثاً والآخر طيّباً يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏113‏)‏‏.‏ ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثاً قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين، ولذلك قال ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏‏.‏ فكان الخبيث المقصود في الآية شيئاً تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ من جملة المقول المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم أي قُل لهم هذا كلّه، فالكاف في قوله‏:‏ ‏{‏أعجبك‏}‏ للخطاب، والمخاطب بها غير معيَّن بل كلّ من يصلح للخطاب، مثل ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏، أي ولو أعجبَ مُعْجَبا كثرةُ الخبيث‏.‏
وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية‏.‏
وليس قوله‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيراً ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيراً فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة‏.‏ والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تُعْجبْك أمْوالهم ولا أولادهم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏55‏)‏‏.‏
وفي تفسير ابن عرفة‏}‏ قال‏:‏ «وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له‏:‏ هذه تدلّ على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين، وهما متكاملان‏.‏ وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلاّ للخبث، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه‏.‏ ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه» اه‏.‏
والواو في قوله ‏{‏ولو أعجبك‏}‏ واو الحال، و‏{‏لو‏}‏ اتّصالية، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏
وتفريع قوله‏:‏ فاتّقوا الله يا أولى الألباب‏}‏ على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب، والبحث عن الحقائق، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يُعرف ما هو تقوى دون غيره‏.‏
ونظير هذا الاستدلال استدلاللِ العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتّقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته‏.‏ ولذلك قال هنا‏:‏ ‏{‏يأولي الألباب‏}‏ فخاطب الناس بصفة ليؤمئ إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكِّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث‏.‏ ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآية، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيراً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لعلّكم تفلحون‏}‏ تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في شؤون الدين ولكنّها في شؤون ذاتية خاصّة بهم، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدّم لهم بيان مُهمّة الرسول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على الرسول إلاّ البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏ الصالح لأن يكون مقدّمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيّب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏ فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية ‏{‏ما على الرسول إلاّ البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى‏.‏
وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسؤول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في «الصحيحين» قال‏:‏ سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْهُ بالمسألة، فصعِد المنبر ذات يوم فقال‏:‏ ‏"‏ لا تسألونني عن شيء إلاّ بيّنت لكم ‏"‏، فأنشأ رجل كانَ إذا لاحَى يُدعى لغير أبيه، فقال‏:‏ يا رسول الله من أبي قال‏:‏ أبوك حذافة ‏(‏أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به‏)‏، والسائل هو عبد الله بن حُذَافة السَّهمي، كما ورد في بعض روايات الحديث‏.‏ وفي رواية لمسلم عن أبي موسى‏:‏ فقام رجل آخر فقال مَن أبي، قال‏:‏ أبوك سالم مولى شيبة‏.‏ وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن أبي هريرة أنّ رجلاً آخر قام فقال‏:‏ أين أبي‏.‏ وفي رواية‏:‏ أين أنا‏؟‏ فقال‏:‏ في النار‏.‏
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عبّاس قال‏:‏ كان قوم، أي من المنافقين، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضلّ ناقته‏:‏ أين ناقتي، ويقول الرجل‏:‏ من أبي، ويقول المسافر‏:‏ ماذا ألقى في سفري، فأنزل الله فيهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسؤُكم‏}‏‏.‏ قال الأيمّة‏:‏ وقد انفرد به البخاري‏.‏ ومحمله أنّه رأي من ابن عباس، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهمّ إلاّ أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان، على أنّ لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏لا تقولوا راعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ فقد عقّب بقوله‏:‏ ‏{‏وللكافرين عذاب أليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏‏.‏
وروى الترمذي والدارقطني عن علي بن أبي طالب لمّا نزلت ‏{‏ولله على الناس حجّ البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله في كلّ عام، فسكت، فأعادوا‏.‏ فقال‏:‏ لا، ولو قلت‏:‏ نعم لوجبتْ، فأنزل الله ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏
وروى الطبري قريباً منه عن أبي أمامة وعن ابن عباس‏.‏ وتأويل هذه الأسانيد أنّ الآية تليتْ عند وقوع هذا السؤال وإنّما كان نزولها قبل حدوثه فظنّها الراوون نزلت حينئذٍ‏.‏ وتأويل المعنى على هذا أنّ الأمّة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا سألوا وأجيبوا من قِبل الرسول صلى الله عليه وسلم تعيّن عليهم العمل بما أجيبوا به‏.‏ وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره؛ فيكون معنى ‏{‏إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ على هذا الوجه أنّها تسوء بعضهم أو تسوءهم في بعض الأحوال إذا شقّت عليهم‏.‏ وروى مجاهد عن ابن عباس‏:‏ نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البَحيرة والسائبة والوصيلة والحامي‏.‏ وقال مثله سعيد بن جبير والحسن‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أشياء‏}‏ تكثير شيء، والشيء هو الموجود، فيصدق بالذات وبحال الذات، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضَّوالّ أو عن أحكام بعض الأشياء‏.‏ و‏(‏أشياء‏)‏ كلمة تدلّ على جمع ‏(‏شيء‏)‏، والظاهر أنّه صيغة جمع لأنّ زنة شيء ‏(‏فَعْل‏)‏، و‏(‏فَعْل‏)‏ إذا كان معتلّ العين قياس جمعه ‏(‏أفعال‏)‏ مثل بيت وشيخ‏.‏ فالجاري على متعارف التصريف أن يكون ‏(‏أشياء‏)‏ جمعاً وأنّ همزته الأولى همزة مزيدة للجمع‏.‏ إلاّ أنّ ‏(‏أشياء‏)‏ ورد في القرآن هنا ممنوعاً من الصرف، فتردّد أئمّة اللغة في تأويل ذلك، وأمثل أقوالهم في ذلك قول الكسائي‏:‏ إنّه لما كثر استعماله في الكلام أشبه ‏(‏فعلاء‏)‏، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه، كما منعواسراويل من الصرف وهو مفرد لأنّه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح‏.‏
وقال الخليل وسيبويه‏:‏ ‏(‏أشياء‏)‏ اسم جمع ‏(‏شيء‏)‏ وليس جمعاً، فهو مثل طَرْفاء وحلفاء فأصله شيْئاء، فالمّدة في آخره مدّة تأنيث، فلذلك منع من الصرف، وادّعى أنّهم صيّروه أشياء بقلب مَكَاني‏.‏ وحقُّه أن يقال‏:‏ شيْئَاء بوزن ‏(‏فعلاء‏)‏ فصار بوزن ‏(‏لفعاء‏)‏‏.‏
وقوله ‏{‏إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ صفة ‏{‏أشياء‏}‏، أي إن تُظهرْ لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم، ولمّا كانت الأشياء المسؤول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك، وكانت قبل إظهارها غير متميّزة كان السؤال عن مجموعها معرّضاً للجواب بما بعضه يسوء، فلمّا كان هذا البعض غير معيّن للسائلين كان سؤالهم عنها سُؤالاً عن ما إذا ظهر يسوءهُم، فإنّهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها‏:‏ ما سرّهم جوابه، وهو سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه فأجيب بالذي يصدّق نسبه، ومنها ما ساءهم جوابه، وهو سؤال من سأل أين أبي، أو أين أنا فقيل له‏:‏ في النار، فهذا يسوءه لا محالة‏.‏ فتبيّن بهذا أنّ قوله‏:‏ ‏{‏إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع‏.‏
والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل، وإلاّ فإنّ النهي غير مقيّد بحال ما يسوءهم جوابه، بدليل قوله بعده ‏{‏عفا الله عنها‏}‏‏.‏ لأنّ العفو لا يكون إلاّ عن ذنب وبذلك تعلم أنّه لا مفهوم للصفة هنا لتعذّر تمييز ما يسوء عمّا لا يسوء‏.‏
وجملة ‏{‏وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبْدَ لكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا تسألوا‏}‏، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تسألوا‏}‏ فجعلهم مخيّرين في السؤال عن أمثالها، وأنّ ترك السؤال هو الأوْلى لهم، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة، وجاء ب ‏{‏إنْ‏}‏ للدلالة على أنّ الأولى ترك السؤال عنها لأنّ الأصل في ‏(‏إنْ‏)‏ أن تدلّ على أنّ الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏حين ينزّل القرآن‏}‏ ظرف يجوز تعلّقه بفعل الشرط وهو ‏{‏تسألوا‏}‏، ويجوز تعلّقه بفعل الجواب وهو ‏{‏تُبدَ لكم‏}‏، وهو أظهر إذ الظاهر أنّ حين نزول القرآن لم يجعل وقتاً لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتاً للجواب عن الأسئلة‏.‏ وتقديمه على عامله للاهتمام، والمعنى أنّهم لا ينتظرون الجواب عمّا يسألون عنه إلاّ بعد نزول القرآن، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إلى قوله إن أتّبعُ إلاّ ما يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ فنبّههم الله بهذا على أنّ النبي يتلقّى الوحي من علاّم الغيوب‏.‏ فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقِب سؤاله‏.‏ ووقتُ نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ له حالة خاصّة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس، كما ورد في حديث يعلى بن أمية في حكم العمرة‏.‏ ومما يدلّ لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في «صحيح مسلم» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى لهم صلاة الظهر فلما سلّم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أنّ قبلها أموراً عظاماً ثم قال‏:‏ مَنْ أحبّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فوالله لا تسألونني عن شيء إلاّ أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عُرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر ‏"‏ الحديث، فدلّ ذلك على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحينَ في حال نزول وحي عليه‏.‏ وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنّه أنزل عليه حينئذٍ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء‏}‏ الآية‏.‏ فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتّصال الرسول عليه الصلاة والسلام بعالم الوحي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏عفا الله عنها‏}‏ يحتمل أنّه تقرير لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبدَ لكم‏}‏، أي أنّ الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزّل القرآن‏.‏ وهذا أظهر لعوذ الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده ‏{‏حين ينزّل القرآن‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يكون إخباراً عن عفوه عمّا سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأنّ ذلك لا يناسب ما يجب من توقيره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قد سألها قوم من قبلكم ثُم أصبحوا بها كافرين‏}‏ استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن، أن يقول سائل‏:‏ إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قوماً، فهل الأوْلى ترك السؤال أو إلقاؤه‏.‏ فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سبباً في كفر قوممٍ قبل المسلمين‏.‏
وضمير ‏{‏سألها‏}‏ جُوّز أن يكون عائداً إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل ‏{‏تسألوا‏}‏، أي سأل المسألة، فيكون الضمير منصوباً على المفعولية المطلقة‏.‏ وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف، أي سأل أمثالها‏.‏ والمماثلة في ضآلة الجدوى‏.‏ والأحسن عندي أن يكون ضمير ‏{‏سألها‏}‏ عائداً إلى ‏{‏أشياء‏}‏، أي إلى لفظه دون مدلوله‏.‏ فالتقدير‏:‏ قد سأل أشياء قومٌ من قبلكم، وعدّي فعل ‏{‏سأل‏}‏ إلى الضمير على حذف حرف الجرّ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله، نحو قولك‏:‏ لك درهم ونصفه، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه‏.‏ والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أصبحوا بها كافرين‏}‏ للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يُترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم‏.‏ وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏‏.‏
والباء في قوله بها‏}‏ يجوز أن تكون للسببية، فتتعلّق بِ ‏{‏أصبحوا‏}‏، أي كانت تلك المسائل سبباً في كفرهم، أي باعتبار ما حصل من جوابها، ويحتمل أن تكون «للتعدية» فتتعلّق ب ‏{‏كافرين‏}‏، أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص، أي ما كفروا إلاّ بسببها، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه، فهو تخصيص ادّعائي، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها‏.‏
وفعل ‏{‏أصبحوا‏}‏ مستعمل بمعنى صاروا، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال‏.‏
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام، سألوا مثل هذه المسائل، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا، مثل ثمود، سألوا صالحاً آية، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها، وهذا شأن أهل الضلالة متابعةُ الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48، 49‏]‏، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سَلام‏.‏ وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من كان عدوّاً لجبريل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏97‏)‏‏.‏ فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم، وتعطيل بيت القدس، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال‏.‏ وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى، وكانا مقدّسين عند اليهود، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس‏.‏
والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سبباً في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يَكره ممّن يُحبّه‏.‏ ولولا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قومٌ من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر‏.‏
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏
‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب، فيكون كالبيان لآية ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيّب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية‏:‏ ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏‏.‏ فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ كما تقدّم هنالك‏.‏ وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس‏:‏ أنّ ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية‏.‏
وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ما جعل الله‏}‏ لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى ‏{‏جعل الله الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏ ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه‏.‏
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأنّ أصل ‏(‏جعل‏)‏ إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم‏:‏ فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏ فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع‏.‏ فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً‏:‏ ما أمرتك بهذا‏.‏ فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏ فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه‏.‏
وأدخلت ‏(‏مِن‏)‏ الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة، فقد ساوى أن يقال‏:‏ لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام‏.‏
والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبَحْر الشقّ‏.‏ يقال‏:‏ بحرَشقّ‏.‏ وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً، أي شقّها ووسّعها‏.‏ فالبحيرة هي الناقة، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم‏.‏ وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر‏.‏ وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة‏.‏ وقيل‏:‏ إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً‏.‏ وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء‏.‏
والسائبة‏:‏ البعير أو الناقة يجعل نَذراً عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر، فيقول‏:‏ أجعله لله سائبة‏.‏ فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة، ولذلك يقال‏:‏ عبد سائبة، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال، وقيل‏:‏ فاعل بمعنى مفعول، أي مسيّب‏.‏
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل‏.‏ وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر، فيقال لها‏:‏ صَريم وجمعه صُرُم، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضاً فهي سائبة، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم‏.‏ والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة‏.‏
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة ‏(‏على اختلاف مصطَلَح القبائل‏)‏ فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها، أي للطواغيت، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً وقالوا‏:‏ وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم، وهي التي أبطلها الله تعالى، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة‏.‏ والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً، جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره، فالشاة تسيّب للطواغيت، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها‏.‏ وعن ابن إسحاق‏:‏ الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء‏.‏
وفي «صحيح البخاري» عن سعيد بن المسيّب‏:‏ أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم‏.‏
وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في «فتح الباري»‏.‏ وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة‏.‏
والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء‏.‏ ويقولون‏:‏ إنّه حمى ظهره، أي كان سبباً في حمايته، فهو حام‏.‏ قال ابن وهب عن مالك، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون‏.‏ والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع‏.‏ والكذب هو الخبر المخالف للواقع‏.‏
والكفّار فريقان خاصّة وعامّة‏:‏ فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة الخزاعي، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بنَ عامر بن لُحَي الخزاعي يجُرّ قُصْبَه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار، وكان أولَ من سيّب السوائب‏.‏ ومنهم جنادة بن عوف‏.‏ وعن مالك أنّ منهم رجلاً من بني مُدْلِج هو أول من بحَّر البَحيرة وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رأيته مع عَمرو في النار‏.‏ رواه ابن العربي‏.‏ وفي رواية أنّ عَمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب السائبة‏.‏ وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله‏:‏ أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة‏.‏
وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة، وهم الذين أريدوا بقول‏:‏ ‏{‏وأكثرهم لا يعقلون‏}‏‏.‏ فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس‏.‏
والافتراء‏:‏ الكذب‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏94‏)‏‏.‏
وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين‏:‏ إحداهما‏:‏‏}‏ أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام، وذلك إشراك وكفر عظيم‏.‏ الثانية‏:‏ أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى، وربما عدت عليه السباع، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه‏.‏ وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏
‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏
الواو للحال‏.‏ والجملة حال من قوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏، أي أنّهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذباً، وإذا دعوا إلى اتّباع ما أمر الله به حقّاً أو التدبّر فيه أعرضوا وتمسّكوا بما كان عليه آباؤهم‏.‏ فحالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا لهم من الضلالات، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجّة لهم في الأولى، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها‏.‏
والأمر في قوله ‏{‏تعالَوْا‏}‏ مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصدّ عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه‏.‏ وتقدّم الكلام على فعل ‏(‏تعالَ‏)‏ عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء‏.‏
و ‏{‏ما أنزل الله‏}‏‏:‏ هو القرآنُ‏.‏ وعطف ‏{‏والى الرسول‏}‏ لأنّه يرشدهم إلى فهم القرآن‏.‏ وأعيد حرف ‏(‏إلى‏)‏ لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلّقي ‏{‏تعالوا‏}‏ فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي ‏{‏تعالوا‏}‏ الحقيقي والمجازي‏.‏
وقوله ‏{‏قالوا حسبنا‏}‏ أي كافينا، إذا جُعلت ‏(‏حَسْب‏)‏ اسماً صريحاً و‏{‏ما وجدنا‏}‏ هو الخبر، أو كفانا إذا جُعلت ‏(‏حسب‏)‏ اسمَ فعل و‏{‏ما وجدنا‏}‏ هو الفاعلَ‏.‏ وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏
و ‏(‏على‏)‏ في قوله‏:‏ ما وجدنا عليه ءاباءنا‏}‏ مجاز في تمكّن التلبّس، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم لا يعلمون‏}‏ الخ، تقدّم القول على نظيره في سورة البقرة ‏(‏170‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤكم‏}‏ الآية‏.‏
وليس لهذه الآية تعلّق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهّمه جمع من المفسّرين، لأنّ هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله، فأمّا الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كلّه من اتّباع ما أنزل الله‏.‏ فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏
و ‏{‏عليكم‏}‏ اسم فعل بمعنى الزَموا، وذلك أنّ أصله أن يقال‏:‏ عليك أن تفعل كذا، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر، وتكون ‏(‏على‏)‏ دالّة على استعلاء مجازي، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا‏:‏ عليك كذا، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير‏:‏ عليك فعل كذا، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب، أي التمكّن، فالكلام على تقدير‏.‏ وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وقوله ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، ومن ذلك ما روي ‏{‏عليكم الدعاء وعليّ الإجابة‏}‏ ومنه قولهم‏:‏ عليّ أليّة، وعليّ نذر‏.‏ ثم كثر الاستعمال فعاملوا ‏(‏على‏)‏ معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية‏.‏ وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص، فكأنّك عمدت إلى فعل ‏(‏الزم‏)‏ فسميّته ‏(‏عَلَى‏)‏ وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته ب ‏(‏عَلى‏)‏ في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها، وهو ضمير الجرّ فيقال‏:‏ عليك وعليكما وعليكم‏.‏ ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر‏.‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ هو بنصب ‏{‏أنفسكم‏}‏ أي الزموا أنفسكم، أي احرصوا على أنفسكم‏.‏ والمقام يبيّن المحروص عليه، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يضرّكم من ضلّ‏}‏‏.‏
فجملة ‏{‏لا يضرّكم من ضلّ‏}‏ تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم، فقيل لهم‏:‏ عليكم أنفسكم، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم، ففعل ‏{‏يضرّكم‏}‏ مرفوع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏ ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب ‏{‏يضرّكم‏}‏‏.‏ وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى‏.‏ ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم‏.‏
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة‏.‏ فكان ذلك داخلاً في شرط ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏‏.‏ ولما في قوله ‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ ‏{‏من ضلّ‏}‏، ولما في قوله ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏ من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال‏:‏ سألت عنها أبا ثعلبة الخشني، فقال لي‏:‏ سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام ‏"‏ وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر‏:‏ أخرَجَ أصحابُ «السنن» أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏{‏يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم‏}‏ وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده‏.‏ وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال‏:‏ إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ‏(‏أي النصيحة‏)‏ ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ‏(‏يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم‏)‏‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه‏.‏ وعن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ إنّها ‏(‏أي هذه الآية‏)‏ ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ ألا ليبلّغ الشاهد الغائب ‏"‏ فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم‏.‏
فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر‏:‏ ‏"‏ من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ‏"‏ فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة‏.‏ فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً‏}‏ عذر للمهتدي ونذارة للضالّ‏.‏ وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب‏.‏ والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة‏.‏
والمرجع مصدر ميمي لا محالة، بدليل تعديته ب ‏{‏إلى‏}‏، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏
استؤنفت هذه الآي استئنافاً ابتدائياً لشرع أحكام التوثّق للوصية لأنّها من جملة التشريعات التي تضمّنتها هذه السورة، تحقيقاً لإكمال الدين، واستقصاء لما قد يحتاج إلى علمه المسلمون وموقعها هنا سنذكره‏.‏
وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة ‏(‏180‏)‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية‏}‏ وتقدّم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك‏.‏ وحرص رسول الله على الوصية وأمر بها، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام‏.‏ وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدّم في سورة البقرة‏.‏ وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظاً لحقّ الميّت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقّه، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثّق لها بالإشهاد، خلافاً لما تقدّم به من بيان التوثّق في التبايع بآية ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ والتوثّق في الدين بآية ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثّق للوصية اهتماماً بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأنّ البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذُبّان عن مصالحهما فيتّضح الحقّ من خلال سعيهما في إحقاق الحقّ فيها بخلاف الوصية فإنّ فيها جانباً واحداً وهو جانب الموصى له لأنّ الموصي يكون قد ماتَ وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك، فكانت معرّضة للضياع كلّها أو بعضها‏.‏
وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خَبَرَ عزمه‏.‏ فقد أوصى نزارُ بن مَعَدّ وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبيّن لهم تفصيل مراده منها‏.‏
وقد حدثت في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية‏.‏ ولعلّ حدوثها كان مقارناً لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة‏.‏ ذلك أنّه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية‏:‏ هي أن رجلين أحدهما تميم الداريُّ اللخمي والآخر عدي بن بدّاء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل ‏(‏دارِين‏)‏ وكانا يتّجران بين الشام ومكةَ والمدينة‏.‏ فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سَهم وكان مسلماً بتجارة إلى الشام، فمرض بديل ‏(‏قيل في الشام وقيل في الطريق برّاً أو بحراً‏)‏ وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوّص بالذهب قاصداً به ملكَ الشام، فلمّا اشتدّ مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليه من بني سهم‏.‏
وكان بديل مولى للعاصي بن وائل السهمي، فولاؤه بعد موته لابن عمرو بن العاصي‏.‏ وبعض المفسّرين يقول‏:‏ إنّ ولاء بُديل لعَمرو بن العاصي والمطلب بن وداعة‏.‏ ويؤيّد قولهم أنّ المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أنّ الجام لبديل بن أبي مريم‏.‏ فلمّا رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا مَا لِبديل إلى مواليه‏.‏ فلمّا نشروه وجدوا الصحيفة، فقالوا لتميم وعدي‏:‏ أين الجَامُ فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاماً‏.‏ ثم وُجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال‏:‏ إنّه ابتاعه من تميم وعديّ‏.‏ وفي رواية أنّ تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثّم ممّا صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع له الخمسمائة الدرهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه‏.‏ وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية‏.‏ وقد ساقه البخاري تعليقاً في كتاب الوصايا‏.‏ ورواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال‏:‏ ليس إسناده بصحيح‏.‏ وهو وإن لم يستوف شروط الصحة فقد اشتهر وتلقّى بالقبول، وقد أسنده البخاري في «تاريخه»‏.‏
واتّفقت الروايات على أنّ الفريقين تفاضَوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عَمرُو بن العاصي والمطّلب بن أبي وَدَاعة على أنّ تميماً وعدياً أخفيا الجام وأنّ بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده‏.‏ ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذٍ نصراني‏.‏ وعدي هذا قيل‏:‏ أسلم، وعدّه ابن حبّان وابن منده في عداد الصحابة، وقيل‏:‏ مات نصرانياً، ورجّح ذلك ابن عطية، وهو قول أبي نعيم، ويروى عن مقاتل، ولم يذكره ابن عبد البر في الصحابة‏.‏ واحتمل أن يكون نزولها قبل الترافع بين الخصم في قضية الجام، وأن يكون نزولها بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية لتكون تشريعاً لما يحدث من أمثال تلك القضية‏.‏
و ‏{‏بينكم‏}‏ أصل ‏(‏بين‏)‏ اسم مكان مبهم متوسّط بين شيئين يبيّنه ما يضاف هو إليه، وهو هنا مجاز في الأمر المتعلّق بعدّة أشياء، وهو مجرور بإضافة ‏{‏شهادةُ‏}‏ إليه على الاتّساع‏.‏ وأصله ‏(‏شهادةٌ‏)‏ بالتنوين والرفع «بينكم» بالنصب على الظرفية‏.‏ فخرج ‏(‏بين‏)‏ عن الظرفية إلى مطلق الاسمية كما خرج عنها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تقطّع بينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ في قراءة جماعة من العشرة برفع ‏{‏بينكم‏}‏‏.‏
وارتفع ‏{‏شهادةُ‏}‏ على الابتداء، وخبره ‏{‏اثنان‏}‏‏.‏ و‏{‏إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ ظرف زمان مستقبل‏.‏ وليس في ‏(‏إذا‏)‏ معنى الشرط، والظرف متعلّق ب ‏{‏شهادة‏}‏ لما فيه من معنى الفعل، أي ليشهدْ إذا حضر أحدكم الموتُ اثنان، يعني يجب عليه أن يشهد بذلك ويجب عليهما أن يَشهدا لقوله تعالى‏:‏
‏{‏ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دُعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏ و‏{‏حين الوصية‏}‏ بدَل من ‏{‏إذا حضر أحدكم الموتُ‏}‏ بَدَلاً مطابقاً، فإنّ حين حضور الموت هو الحين الذي يوصي فيه الناس غالباً‏.‏ جيء بهذا الظرف الثاني ليتخلّص بهذا البدل إلى المقصود وهو الوصية‏.‏
وقد كان العرب إذا راوا علامة الموت على المريض يقولون‏:‏ أوص، وقد قالوا ذلك لعمر بن الخطاب حين أخبر الطبيب أنّ جرحه في أمعائه‏.‏ ومعنى حضور الموت حضور علاماته لأن تلك حالة يتخيّل فيها المرءُ أنّ الموت قد حضر عنده ليصيّره ميتاً، وليس المراد حصول الغرغرة لأنّ ما طُلب من الموصي أن يعمله يستدعي وقتاً طويلاً، وقد تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏180‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ اثنان‏}‏ خبر عن ‏{‏شهادةُ‏}‏، أي الشهادة على الوصية شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه، والقرينة واضحة والمقصود الإيجاز‏.‏ فماصْدقُ ‏{‏اثنان‏}‏ شاهدان، بقرينة قوله ‏{‏شهادة بينكم‏}‏، وقولِه‏:‏ ‏{‏ذوا عدل‏}‏‏.‏ وهذان الشاهدان هما وصيّان من الميّت على صفة وصيّته وإبلاغها، إلاّ أن يجعل الموصي وصياً غيرهما فيكونا شاهدين على ذلك‏.‏ والعدل والعدالة متّحدان، أي صاحبا اتّصَاف بالعدالة‏.‏
ومعنى ‏{‏منكم‏}‏ من المؤمنين، كما هو مقتضى الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا‏}‏، لأنّ المتكلّم إذا خاطب مخاطبه بوصف ثم أتبعه بما يدلّ على بعضه كان معناه أنّه بعض أصحاب الوصف، كما قال الأنصار يوم السقيفة‏:‏ مِنَّا أمير ومِنْكم أمير‏.‏ فالكلام على وصية المؤمنين‏.‏ وعلى هذا درج جمهور المفسّرين، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، وقتادة، والأئمة الأربعة‏.‏ وهو الذي يجب التعويل عليه، وهو ظاهر الوصف بكلمة ‏{‏منكم‏}‏ في مواقعها في القرآن‏.‏
وقال الزهري، والحسن، وعكرمة‏:‏ معنى قوله ‏{‏منكم‏}‏ من عشيرتكم وقرابتكم‏.‏ ويترتّب على التفسير الأول أن يكون معنى مقابله وهو ‏{‏من غيركم‏}‏ أنّه من غير أهل ملّتكم‏.‏ فذهب فريق ممّن قالوا بالتفسير الأول إلى إعمال هذا وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصّة، وخصّوا ذلك بالذميّ، وهو قول أحمد، والثوري، وسعيد بن المسيّب، ونُسب إلى ابن عبّاس، وأبي موسى‏.‏ وذهب فريق إلى أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ونسب إلى زيد بن أسلم‏.‏ وقد تمّ الكلام على الصورة الكاملة في شهادة الوصية بقوله‏:‏ ‏{‏ذوَا عدل منكم‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ الآيات‏.‏‏.‏ تفصيل للحالة التي تعرض في السفر‏.‏ و‏(‏أو‏)‏ للتقسيم لا للتخيير، والتقسيمُ باعتبار اختلاف الحالين‏:‏ حاللِ الحاضر وحال المسافر، ولذلك اقترن به قوله‏:‏ ‏{‏إنْ أنتم ضربتم في الأرض‏}‏، فهو قيد لقوله‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏‏.‏
وجواب الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم ضربتم في الأرض‏}‏ محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏، والتقدير‏:‏ إنْ أنتم ضربتم في الأرض فشهادة آخَرَيْننِ من غيركم، فالمصيرُ إلى شهادة شاهدَين من غير المسلمين عند من يراه مقيّد بشرط ‏{‏إنْ أنتم ضربتم في الأرض‏}‏‏.‏ والضرب في الأرض‏:‏ السير فيها‏.‏ والمراد به السفر، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏156‏)‏‏.‏
ومعنى‏:‏ فأصابتكم مصيبة الموت‏}‏ حلّت بكم، والفِعْل مستعمل في معنى المشارفة والمقاربة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليَخْشَ الذين لو تركوا من خَلْفهم ذرّيَّة‏}‏ ‏[‏السناء‏:‏ 9‏]‏، أي لو شارفوا أن يتركوا ذرّيّة‏.‏ وهذا استعمال من استعمال الأفعال‏.‏ ومنه قولهم في الإقامة‏:‏ قد قامت الصلاة‏.‏
وعُطف قولُه ‏{‏فأصابتكم‏}‏ على ‏{‏ضربتم في الأرض‏}‏، فكانَ من مضمون قوله قبله ‏{‏إذا حضر أحدَكم الموت‏}‏‏.‏ أعيد هنا لربط الكلام بعد ما فَصَل بينه من الظروف والشروط‏.‏ وضمير الجمع في ‏{‏أصابتكم‏}‏ كضمير الجمع في ‏{‏ضربتم في الأرض‏}‏‏.‏
والمصيبة‏:‏ الحادثة التي تحلّ بالمرء من شرّ وضرّ، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏72‏)‏‏.‏
وجملة تحبسونهما‏}‏ حال من ‏{‏آخران‏}‏ عند من جعل قوله ‏{‏من غيركم‏}‏ بمعنى من غير أهل دينكم‏.‏ وأمّا عند من جعله بمعنى من غير قبيلتكم فإنّه حال من ‏{‏اثنان‏}‏ ومن ‏{‏آخران‏}‏ لأنّهما متعاطفان ب ‏(‏أو‏)‏‏.‏ فهما أحد قسمين، ويكون التحليف عند الاسْترابة‏.‏ والتحليف على هذا التأويل بعيد إذ لا موجب للاسترابة في عدلين مسلمين‏.‏
وضمير الجمع في ‏{‏تحبسونهما‏}‏ كضميري ‏{‏ضربتم وأصابتكم‏}‏‏.‏ وكلّها مستعملة في الجمع البدَلي دون الشمولي، لأنّ جميع المخاطبين صالحون لأن يعتريهم هذا الحكم وإنّما يحلّ ببعضهم‏.‏ فضمائر جمع المخاطبين واقعة موقع مُقتضَى الظاهر كلُّها‏.‏ وإنّما جاءت بصيغة الجمع لإفادة العموم، دفعاً لأن يتوهّم أنّ هذا التشريع خاصّ بشخصين معيّنين لأنّ قضية سبب النزول كانت في شخصين؛ أو الخطاب والجمع للمسلمين وحكّامهم‏.‏
والحَبس‏:‏ الإمساك، أي المنع من الانصراف‏.‏ فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد‏.‏ ومنه ما يكون بمعنى الانتظار، كما في حديث عتبان بن مالك ‏{‏فغدا عليّ رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه‏}‏، أي أمسكناه‏.‏ وهذا هو المراد في الآية، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادِرَانِكم حتّى يتحمّلا الوصية‏.‏ وليس المرادّ به السجن أو ما يقرب منه، لأنّ الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ولا يضارّ كاتب ولا شهيد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد الصلاة‏}‏ توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة‏.‏ والإتيانُ ب ‏(‏مِن‏)‏ الابتدائية لتقريب البَعديّة، أي قرب انتهاء الصلاة‏.‏ وتحتمل الآية أنّ المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين، وبذلك فسّرها جماعة من أهل العلم، فمنهم من قال‏:‏ هي صلاة العصر‏.‏ وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحْلف تميماً الداري وعَدي بنَ بدّاء في قضية الجام بعد العصر، وهو قول قتادة، وسعيد، وشريح، والشعبي‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ الظهر، وهو عن الحسن‏.‏ وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم‏.‏ ونقل عن السديّ، وابن عبّاس، أي تُحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأنّ ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ عطف على ‏{‏تحبسونهما‏}‏ فعلم أنّ حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله‏.‏ وضمير ‏{‏يقسمان‏}‏ عائد إلى قوله ‏{‏آخران‏}‏‏.‏ فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم‏.‏
وقوله ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ تظافرت أقوال المفسّرين على أنّ هذا شرط متّصل بقوله ‏{‏تحبسونهما‏}‏ وما عطف عليه‏.‏ واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه ليتأتّى الإيجاز، لأنّه لو لم يقدّم لقيل‏:‏ أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره‏.‏ فيقتضي هذا التفسير أنّه لو لم تَحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحْضارهما من بعد الصلاة وقسمهما، فصار ذلك موكولاً لِخيَرة الولي‏.‏ وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه‏.‏
والوجه عندي أن يكون قوله ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان، ومعناه أنّ الشاهدين يقولان‏:‏ إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس المُوصي، لأنّ العدالة مظنّة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها ممّا لا يُطّلع عليه فأكّدت مظنّة الصدق بالحلف؛ فيكون شُرع هذا الكلام على كلّ شاهد ليسْتوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حَرجاً على الشاهدين الذين توجّهت عليهما اليمينُ من أنّ اليمين تعريض بالشكّ في صدقهما، فكان فرض اليمين من قِبَل الشرع دافعاً للتحرّج بينهما وبين الوليّ، لأنّ في كون اليمين شرطاً من عند الله معذرة في المطالبة بها، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجّه على من يثبت حقّاً على ميّت أو غائب من أنّها لازمة قبل الحكم مطلقاً ولو أسقطها الوارث الرشيد‏.‏ ولم أقف على مَن عرّج على هذا المعنى من المفسّرين إلاّ قول الكواشي في «تلخيص التفسير»‏:‏ «وبعضُهم يقف على ‏{‏يقسمان‏}‏ ويبتدئ ‏{‏بالله‏}‏ قسماً ولا أحبّه»، وإلاّ ما حكاه الصفاقسي في «مُعربَه» عن الجرجاني «أنّ هنا قولاً محذوفاً تقديره‏:‏ فيقسمان بالله ويَقُولان»‏.‏ ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعَا الجرجاني لِتقدير هذا القول‏.‏ ولا أراه حمله عليه إلاّ جَعْلُ قوله ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ من كلام الشاهديْن‏.‏ وجوابُ الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم، فإنّ القسم أولى بالجواب لأنّه مقدّم على الشرط‏.‏
وقوله ‏{‏لا نشتري به ثمناً‏}‏ الخ، ذلك هو المقسم عليه‏.‏ ومعنى ‏{‏لا نشتري به ثمناً‏}‏ لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمناً، أي عوضاً، فضمير به، عائد إلى القسم المفهوم من ‏{‏يقسمان‏}‏‏.‏
وقد أفاد تنكير ‏{‏ثمناً‏}‏ في سياق النفي عمومَ كلّ ثمن‏.‏ والمراد بالثمن العوَض، أي لا نبدّل ما أقسمنا عليه بعوض كائناً ما كان العوضُ، ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏به‏}‏ عائداً إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كان ذا قُربى‏}‏ حال من قوله ‏{‏ثمناً‏}‏ الذي هو بمعنى العوض، أي ولو كان العوض ذا قربى، أي ذا قربى منّا، و«لو» شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يَرْضيانه عوّضاً عن تبديل شهادتهما فأوْلى ما هو دون ذلك‏.‏ وذلك أنّ أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحميّة والنصرة للقريب، فذلك تصغر دونه الرّشى ومنافع الذات‏.‏ والضمير المسْتتر في ‏{‏كان‏}‏ عائد إلى قوله ‏{‏ثَمناً‏}‏‏.‏ ومعنى كون الثمن، أي العوض، ذَا قربى أنّه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف، وهو من دلالة الاقتضاء لأنّه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى، فتعيّن أنّ المراد شيء من علائقه يعيّنه المقام‏.‏ ونظيره ‏{‏حُرِّمت عليكم أمّهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقد تقدّم وجه دلالة مثل هذا الشرط ب ‏(‏لو‏)‏ وتسميتها وصلية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ من سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏
وقوله ولا نكتم‏}‏ عطف على ‏{‏لا نشتري‏}‏، لأنّ المقصود من إحلافهما أن يؤدّيا الشهادة كما تلقّياها فلا يغيّرا شيئاً منها ولا يكتماها أصلاً‏.‏
وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشهادة وغيره لأنّ الله لمّا أمر بأدائها كما هي وحَضّ عليها أضافها إلى اسمه حفظاً لها من التغيير، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حينَ القسم‏.‏
وفي قوله ‏{‏ولا نكتم‏}‏ دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرِض في مثله الترافعُ‏.‏ وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ‏.‏
وجملة ‏{‏إنَّا إذاً لمن الآثمين‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود ‏{‏إذنْ‏}‏، فإنّه حرفُ جواب‏:‏ استشعر الشاهدان سؤالاً من الذي حَلفا له بقولهما‏:‏ لا نشتري به ثمناً ولا نكتم شهادة الله، يقول في نفسه‏:‏ لعلّكما لا تَبِرّان بما أقسمتما عليه، فأجابا‏:‏ إنّا إذَنْ لَمِن الآثمين، أي إنّا نَعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين، أي ولا نرضى بذلك‏.‏
والآثمُ‏:‏ مرتكب الإثم‏.‏ وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافاً مع «إذن» الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت‏.‏ 5
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن عُثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران‏}‏ الآية، أي إن تبيَّنَ أنّهما كتما أو بدّلا وحنثا في يمينهما، بطلت شهادتهما، لأنّ قوله ‏{‏فآخران يقومان مقامهما‏}‏ فرع عن بطلان شهادتهما، فحذف ما يعبّر عن بطلان شهادتهما إيجازاً كقوله‏:‏
‏{‏اضرِبْ بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ أي فضرب فانفجرت‏.‏
ومعنى ‏{‏عُثِر‏}‏ اطُّلِع وتَبيّن ذلك، وأصل فعل عَثَر أنّه مصادفة رِجْللِ الماشي جسماً ناتئاً في الأرض لم يترقّبه ولم يَحْذر منه فيختلّ به اندفاعُ مَشْيه، فقد يسقط وقد يتزلزل‏.‏ ومصدره العِثَار والعُثور، ثم استعمل في الظَفَر بشيء لم يكن مترقّباً الظفَر به على سبيل الاستعارة‏.‏ وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العِثار، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر، وهو العثور‏.‏
ومعنى ‏{‏استَحقَّا إثماً‏}‏ ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به، فقد حقّ عليهما الإثم، أي وقع عليهما، فالسين والتاء للتأكيد‏.‏ والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله‏:‏ ‏{‏لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله‏}‏‏.‏ فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضاً لأنفسهما أو لغيرهما، أو بأن يظهر أنّهما كتما الشهادة، أي بعضها‏.‏ وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت‏.‏
وقوله ‏{‏فآخران‏}‏ أي رجلان آخران، لأنّ وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدّث عنه، والمتحدث عنه هنا ‏{‏اثنان‏}‏‏.‏ فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية‏.‏ ومعنى يقومان مقامهما، أي يعوّضان تلك الشهادة‏.‏ فإنّ المقام هو محلّ القيام، ثم يراد به محلّ عمل مّا، ولو لم يكن فيه قيام، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محلّ يقوم فيه العامل، وذلك في العمل المهمّ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الذين استحقّ عليهم‏}‏ تبعيضية، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم‏.‏
والاستحقاق كون الشيء حقيقاً بشيء آخر، فيتعدّى إلى المفعول بنفسه، كقوله‏:‏ ‏{‏استحقّا إثماً‏}‏، وهو الشيء المستحق‏.‏ وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدّى الفعل إلى المحقوق ب ‏{‏على‏}‏ الدالّة على الاستعلا بمعنى اللزوم له وإن كره، كأنّهم ضمّنوه معنى وجَب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق على أن لا أقول على الله إلاّ الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ استحقّ زيد على عمرو كذا، أي وجب لزيد حقّ على عمرو، فأخذه منه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏استُحقّ عليهم‏}‏ بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله ‏{‏استُحقّ عليهم هو مستحِقّ مّا، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغَلَبَ وارثَ الموصي بذلك‏.‏ فالذين استُحقّ عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم مالُه بوجه من وجوه الإرثثِ فحُرموا بَعضه‏.‏ وقوله عليهم‏}‏ قائم مقام نائب فاعل ‏{‏استحقّ‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الأوليان‏}‏ تثنية أوْلَى، وهو الأجدر والأحقّ، أي الأجدران بقبول قولهما‏.‏ فماصْدقه هو مَاصْدق ‏{‏الآخران‏}‏ ومرجعه إليه فيجوز، أن يجعل خبراً عن ‏{‏آخران‏}‏، فإنّ ‏{‏آخران‏}‏ لمّا وصف بجملة ‏{‏يقومان مقامهما‏}‏ صحّ الابتداء به، أي فشخصان آخران هما الأوْلَيَان بقبول قولهما دون الشاهدين المتّهمين‏.‏
وإنّما عرّف باللاّم لأنّه معهود للمخاطب ذهناً لأنّ السامع إذا سمع قوله‏:‏ ‏{‏فإن عثر على أنّهما استحقَّا إثماً‏}‏ ترقّب أن يعرف من هو الأولى بقبول قوله في هذا الشأن، فقيل له‏:‏ آخران هما الأوليان بها‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الأوليان‏}‏ مبتدأ و‏{‏آخران يقومان‏}‏ خبره‏.‏ وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة، لأنّ السامع يترقّب الحكم بعد قوله‏:‏ ‏{‏فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً‏}‏ فإنّ ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما، فكيف يكون القضاء في ذلك، فعجّل الجواب‏.‏ ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏آخران‏}‏ أو من الضمير في ‏{‏يقومان‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان‏.‏ ونكتة التعريف هيَ هي على الوجوه كلّها‏.‏
وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف، ‏{‏الأوّلين‏}‏ بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدّم والمبتدأ به‏.‏ فالذين استحقّ عليهم هم أولياء الموصي حيث استحقّ الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء، أي الورثة لولا الوصية، وهو مجرور نعت ‏(‏للذين استحقّ عليهم‏)‏‏.‏
وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏استحَقّ‏}‏ بصيغة البناء للفاعل فيكون ‏{‏الأوليان‏}‏ هو فاعل ‏{‏استحقّ‏}‏، وقوله ‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ تفريع على قوله ‏{‏يقومان مقامهما‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏لشهادتنا أحقّ من شهادتهما‏}‏ أنّهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذيْن عثِر على أنّهما استحقّا إثماً‏.‏ ومعنى ‏{‏أحقّ‏}‏ أنّها الحقّ، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة‏.‏
وقوله ‏{‏وما اعتدينا‏}‏ توكيد للأحقّيّة، لأنّ الأحقّيّة راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلاً واعتداء منهما على مال مبلّغي الوصية‏.‏ والمعنى‏:‏ وما اعتدينا على الشاهدين في اتّهامهما بإخفاء بعض التركة‏.‏
وقوله ‏{‏إنّا إذن لمنَ الظالمين‏}‏ أي لو اعتدينا لكنّا ظالمَين‏.‏ والمقصود منه الإشعار بأنّهما متذكّران ما يترتّب على الاعتداء والظلم، وفي ذلك زيادة وازع‏.‏
وقد تضمّن القسم على صدق خبرهما يميناً على إثبات حقّهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحقّ مع الشاهد العرفي، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلّغان الوصية‏.‏
والكلام في «إذن» هنا مثل الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏إنّا إذن لمن الآثمين‏}‏‏.‏
والمعنى أنّه إن اختلّت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحداً أم متعدّداً‏.‏ وإنّما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء، فإنّ ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما‏:‏ عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة، وكلاهما من بني سهم، وهما مَوْليا بُديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام‏.‏ فبعض المفسّرين يذكر أنهما مَوْليا بُديل‏.‏
وبعضهم يقول‏:‏ إنّ مولاه هو عمرو بن العاصي‏.‏ والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أنّ له ولاء من بديل، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين‏.‏ فإن كان صاحب الحقّ واحداً حلف وحده وإن كان أصحاب الحقّ جماعة حلفوا جميعاً واستحقّوا‏.‏ ولم يقل أحد أنّه إن كان صاحب الحقّ واحداً يحلف معه من ليس بمستحقّ، ولا إن كان صاحب الحقّ ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقّون كلّهم‏.‏ فالاقتصار على اثنين في أيمان الأوليين ناظر إلى قصّة سبب النزول، فتكون الآية على هذا خاصّة بتلك القضية‏.‏ ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم‏.‏ وهذا القول يقتضي أنّ الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بُديل بن أبي مريم‏.‏ وذلك ظاهر بعض روايات الخبر، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنّ الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذٍ يتعيّن أن تكون تشريعاً لأمثال تلك القضية ممّا يحدث في المستقبل، فيتعيّن المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن‏.‏
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضَر إلاّ واحداً من المسلمين، أو واحداً من غير المسلمين، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم‏.‏ وكلّ ذلك يجري على أحكامه المعروفة في الأحكام كلّها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر‏.‏
والمشار إليه في قوله‏:‏ «ذلك أدنى» إلى المذكور من الحكم من قوله ‏{‏تحبسوهما من بعد الصلاة‏}‏ إلى قوله إنَّا إذن لمنَ الظالمين‏.‏ و‏{‏أدنى‏}‏ بمعنى أقرب، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظنّ، أي أقوى إلى الظنّ بالصدق‏.‏
وضمير ‏{‏يأتوا‏}‏ عائد إلى «الشهداء» وهم‏:‏ الآخران من غيركم، والآخران اللذان يقومان مقامهما، أي أن يأتي كلّ واحد منهم‏.‏ فجمع الضمير على إرادة التوزيع‏.‏
والمعنى أنّ ما شرع الله من التوثيق والضبط، ومن ردّ الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظنّ بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين ممّا ينفي الغفلة والتساهل، بله الزور والجور مع توقّي سوء السمعة‏.‏
ومعنى ‏{‏أن يأتوا بالشهادة‏}‏‏:‏ أن يؤدّوا الشهادة‏.‏ جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان‏.‏
ومعنى قوله ‏{‏على وجهها‏}‏، أي على سنّتها وما هو مقوّم تمامها وكمالها، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيهاً بوجه الإنسان، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره‏.‏ ولمّا أريد منه معنى الاستعمارة لهذا المعنى، وشاع هذا المعنى في كلامهم، قالوا‏:‏ جاء بالشيء الفلاني على وجهه، فجعلوا الشيء مأتيّاً به، ووصفوه بأنه أتي به متمكّناً من وجهه، أي من كمال أحواله‏.‏
فحرف ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي المراد منه التمكّن، مثل ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والجارّ والمجرور في موضع الحال من ‏{‏الشهادة‏}‏، وصار ذلك قرينة على أنّ المراد من الوجه غير معناه الحقيقي‏.‏
وسنّة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبّت فيها والتنبّه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخفّ بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيِّع الحقوق، أي ذلك يعلّمهم وجه التثبّت في التحمّل والأداء وتوخّي الصدق، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد‏.‏
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذاء في الشهادة بالطعن أو المعارضة، فإنّ في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبّت في مطابقة شهادتهم، للواقع لأنّ المعارضة والإعذار يكشفان عن الحقّ‏.‏
وقوله ‏{‏أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم‏}‏ عطف على قوله ‏{‏أن يأتوا‏}‏ باعتبار ما تعلّق به من المجرورات، وذلك لأنّ جملة ‏{‏يأتوا بالشهادة على وجهها‏}‏ أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود، ولذلك قدّرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة‏.‏ فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم، وأفادت الجملة المعطوفة وازعاً هو توقّع ظهور كذبهم‏.‏ ومعنى ‏{‏أن تردّ أيمان‏}‏ أن تُرَجَّع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين‏.‏ فالردّ هنا مجاز في الانتقال، مثل قولهم‏:‏ قلب عليه اليمين، فيعيَّروا به بين الناس؛ فحرف ‏(‏أوْ‏)‏ للتقسيم، وهو تقسيم يفيد تفصيل ما أجمله الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وجمع ‏{‏الأيمان‏}‏ باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها، على أنّ العرب تعدل عن التثنية كثيراً‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏
وذيّل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمّة فقال‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله‏}‏ الآية‏.‏
وقوله ‏{‏واسمعوا‏}‏ أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازاً، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قلتم سمعنا وأطعنا‏}‏ في هذه السورة ‏(‏7‏)‏‏.‏
وقوله والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر ونهى، وتحذير من مخالفة ذلك، لأنّ في اتّباع أمر الله هُدى وفي الإعراض فسقاً‏.‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أي المعرضين عن أمر الله، فإنّ ذلك لا يستهان به لأنّه يؤدّي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعدُ فلا تكونُوهم وكونوا من المهتدين‏.‏
هذا تفسير الآيات توخّيتُ فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ‏.‏ وقد نقل الطيبي عن الزجّاج أنّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب‏.‏ وقال الفخر‏:‏ رَوَى الواحدي عن عمر‏:‏ هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام‏.‏ وقال ابن عطية عن مكّي بن أبي طالب‏:‏ هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها‏.‏ وذلك بيّن من كتابه‏.‏
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنّبت التعرّض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها‏.‏ وأخّرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها‏.‏ وقد اشتملت على أصلين‏:‏ أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء مع أولياء بديل بن أبي مريم‏.‏
فالأصل الأول‏:‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهادة بينكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولا نكتم شهادة الله‏}‏‏.‏
والأصل الثاني‏:‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً‏}‏ إلى قوله ‏{‏بعد أيمانهم‏}‏‏.‏ ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية ممّا يتّهم فيه الشهود‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏شهادة بينكم‏}‏ الآية بيان لكيفية الشهادة، وهو يتضمّن الأمر بها، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأنّ الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محلّ ثقتهم‏.‏
وأهمّ الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين، على رأي من جعله المراد من قوله ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏‏.‏ وثانيها‏:‏ تحليف الشاهد على أنّه صادق في شهادته‏.‏ وثالثها‏:‏ تغليظ اليمين بالزمان‏.‏
فأمّا الحكم الأول‏:‏ فقد دلّ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏‏.‏ وقد بيّنا أنّ الأظهر أنّ الغيرية غيرية في الدين‏.‏ وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين؛ فذهب الجمهور إلى أنّ حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقوله ‏{‏ممّن ترْضَوْن من الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي‏.‏ وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون‏.‏ وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه، أيام قضائه بالكوفة، وقال‏:‏ هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيّب، وابن جبير، وشريح، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسدّي، وسفيان الثوري، وجماعة، وهم يقولون‏:‏ لا منسوخ في سورة المائدة، تبعاً لابن عباس‏.‏ ومنهم من تأوّل قوله ‏{‏من غيركم‏}‏ على أنّه من غير قبيلتكم، وهو قول الزهري، والحسن، وعكرمة‏.‏
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية، وزاد فجعلها بدون يمين‏.‏ والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذوراً في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك؛ فكان هذا الحكم رخصة‏.‏
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعاً للحقوق‏.‏ فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود‏:‏ اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون‏.‏ ولمّا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلاً لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم‏.‏ قال تعالى حكاية عنهم «ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين ‏(‏أي المسلمين‏)‏ سبيل» فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطاً‏.‏ وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من قال الله في شأنه ‏{‏من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ ولكن الحكم للغالب‏.‏
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته‏:‏ فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعاً، وهو قول الجمهور‏.‏ وأمّا الذين جعلوه محكَماً فقد اختلفوا، فمنهم من خصّ اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين، ومنهم من اعتبر بعلّة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرّقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين‏.‏ وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة، نعم قد يقال‏:‏ هذا إذا تعذّرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليومَ، فلا يبعد أن يكون لتحيلف الشاهد المستور الحال وجهٌ في القضاء‏.‏ والمسألة مبسوطة في كتب الفقه‏.‏
وأمّا حكم تغليظ اليمين‏:‏ فقد أخذ من الآية أنّ اليمين تقع بعد الصلاة، فكان ذلك أصلاً في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ‏.‏ وفي جميعها اختلاف بين العلماء‏.‏ وليس في الآية ما يتمسّك به بواحد من هذه الثلاثة إلاّ قوله‏:‏ ‏{‏من بعد الصلاة‏}‏ وقد بيّنتُ أنّ الأظهر أنّه خاصّ بالوصية، وأمّا التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏
‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏يوم يجمع الله الرّسُلَ‏}‏ استئناف ابتدائي متّصل بقوله‏:‏ ‏{‏فأثابهم الله بما قالوا إلى قوله ‏{‏وذلك جزاء المحسنين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتّبعوا عيسى عليه السلام، فبدّل كثير منهم تبديلاً بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم ممّا أحدثه أممهم بعدهم في الدين ممّا لم يأذن به الله، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته‏.‏ وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ فإنّ في تلك الآيات ترغيباً وترهيباً، وإبعاداً وتقريباً، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى، وذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة‏.‏ ولقد جاء هذا مناسباً للتذكير العامّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضاً بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى‏.‏
ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏يوم يجمع‏}‏ ظرف، والأظهر أنه معمول لعامللٍ محذوف يقدّر بنحو‏:‏ اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جواباً‏.‏ وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طُولُ التعبير فينبغي طيّه‏.‏ ويجوز أن يكون متعلّقاً بفعل ‏{‏قالوا لا علم لنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة‏.‏ وأصل نظم الكلام‏:‏ يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ‏.‏ فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليوردَ الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل‏.‏ والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس‏}‏
‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وما بينهما اعتراض‏.‏ ومن البعيد أن يكون الظرف متعلّقاً بقوله‏:‏ ‏{‏لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏ لأنّه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة، ولأنّ جزالة الكلام تناسب استئنافه، ولأنّ تعلّقه به غير واسع المعنى‏.‏
ومثله قول الزجّاج‏:‏ إنّه متعلّق بقوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏ على أنّ ‏{‏يوم‏}‏ مفعول لأجله، وقيل‏:‏ بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏ لأنّ جمع الرسل ممّا يشمل عليه شأن الله، فالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ماذا أجبتم‏}‏ مستعمل في الاستشهاد‏.‏ ينتقل منه إلى لازمه، وهو توبيخ الذين كذّبوا الرسل في حياتهم أو بدّلوا وارتدّوا بعد مماتهم‏.‏
وظاهر حقيقة الإجابة أنّ المعنى‏:‏ ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم، أي ماذا تلقّوا به دعواتكم، حملاً على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما كان جواب قومه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ويحمل قول الرسل‏:‏ ‏{‏لا علم لنا‏}‏ على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منّا‏.‏ أو هو تأدّب مع الله تعالى لأنّ ما عدا ذلك ممّا أجابت به الأمم يعلمه رسلهم؛ فلا بدّ من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى‏.‏ فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله، أي أنّ علمك سبحانك أعلى من كلّ علم وشهادتك أعدل من كلّ شهادة، فكان جواب الرسل متضمّناً أموراً‏:‏ أحدها‏:‏ الشهادة على الكافرين من أممهم بأنّ ما عاملهم الله به هو الحقّ‏.‏ الثاني‏:‏ تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذي لا يجديهم‏.‏ الثالث‏:‏ تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأنّ في قولهم‏:‏ ‏{‏إنّك أنت علاّم الغيوب‏}‏، تعميماً للتذكير بكلّ ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد‏.‏ ويقال لمن يَسأل عن شيء لا أزيدك علماً بذلك، أو أنت تعرف ما جرى‏.‏ وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتّصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده‏.‏
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل ‏{‏لا علم لنا‏}‏ بأنّهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر أمر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل ‏{‏لا علم لنا‏}‏ محمولاً على حقيقته ويكون محمل ‏{‏ماذا‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏ماذا أجبتم‏}‏ هو ما أجيبوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدّقين على تصديقهم أو نقض ذلك، ويعضّد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله‏}‏، وقولُ عيسى عليه السلام ‏{‏وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم‏}‏ الآية فإنّ المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل‏.‏ وهو تأويل حسن‏.‏
وعبّر في جواب الرسل ب ‏{‏قالوا‏}‏ المفيد للمضي مع أنّ الجواب لم يقع، للدلالة على تحقيق أنّه سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقّق بمنزلة الماضي في التحقّق‏.‏
على أنّ القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأنّ زمان الوقوع يكون قد تعيّن بقرينة سياق المحاورة‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏الغيُوب‏}‏ بضم الغين‏.‏ وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمّة إلى الباء، كما تقدّم في بيوت في قوله تعالى ‏{‏فأمسكوهنّ في البيوت‏}‏ من سورة النساء ‏(‏15‏)‏‏.‏
وفصل قالوا‏}‏ جرياً على طريقة حكاية المحاورات، كما تقدّم في قوله ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم‏}‏ ظرف، هو بدل من ‏{‏يومَ يجمع الله الرسل‏}‏ بدل اشتمال، فإنّ يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها‏.‏ والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذٍ هو تقريع اليهود‏.‏ والنصارى الذين ضلّوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حبّ‏.‏
فقوله ‏{‏اذكر نعمتي عليك‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا أعذّبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 115‏]‏ استئناس لعيسى لئلاّ يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وهذا تقريع لليهود، وما بعدها تقريع للنصارى‏.‏ والمراد من ‏{‏اذكر نعمتي‏}‏ الذُّكر بضمّ الذال وهو استحضار الأمر في الذهن‏.‏ والأمر في قوله ‏{‏اذكر‏}‏ للامتنان، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته‏.‏ ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنّه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدّها الله على عبده‏.‏ ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنّهم تنقّصوها بأقذع ممّا تنقّصوه‏.‏
والظرف في قوله ‏{‏إذْ أيّدتك بروح القدس‏}‏ متعلّق ب ‏{‏نعمتي‏}‏ لما فيها من معنى المصدر، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت، وهو وقت التأييد بروح القدس‏.‏ وروح القدس هنا جبريل على الأظهر‏.‏ والتأييد وروح القدس تقدّماً في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيّدناه بروح القدس‏}‏
وجملة تكلّم‏}‏ حال من الضمير المنصوب بِ ‏{‏أيّدتك‏}‏ وذلك أنّ الله ألقى الكلام من الملَك على لسان عيسى وهو في المهد، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكوّنه، وفي ذلك نعمة عليه، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها ممّا اتّهمت به‏.‏
والجارّ والمجرور في قوله ‏{‏في المهد‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تُكلّم‏}‏‏.‏ و‏{‏كَهْلاً‏}‏ معطوف على ‏{‏في المهد‏}‏ لأنّه حال أيضاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمهد والكهل تقدّماً في تفسير سورة آل عمران‏.‏ وتكليمه كهلاً أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس، لأنّه الذي يلقي إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإذْ علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل‏}‏ تقدّم القول في نظيره في سورة آل عمران، وكذلك قوله ‏{‏وإذ تخلق من الطين‏}‏ إلى قوله وإذ تخرج الموتى بإذني تقدّم القول في نظيره هنالك‏.‏
إلاّ أنّه قال هنا ‏{‏فتنفخ فيها‏}‏ وقال في سورة آل عمران ‏(‏49‏)‏ ‏{‏فانفخ فيه‏}‏ فعن مكّي بن أبي طالب أنّ الضمير في سورة آل عمران عادَ إلى الطير، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة‏.‏ واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائداً إلى ما تقتضيه الآية ضرورة‏.‏ أي بدلالة الاقتضاء‏.‏ وذلك أنّ قوله‏:‏ وإذْ تَخْلُق من الطين كهيئة الطير‏}‏ يقتضي صوراً أو أجساماً أو أشكالاً، وكذلك الضمير المذكّر في سورة آل عمران ‏(‏49‏)‏ يعود على المخلوق الذي يقتضيه ‏{‏أخْلُق‏}‏ وجعله في الكشاف‏}‏ عائداً إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدّال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكلّ ذلك ناظر إلى أنّ الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلّق ‏{‏تنفخ‏}‏، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائراً‏.‏
وقرأ نافع وحده ‏{‏فتكون طائراً‏}‏ بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران‏.‏ وتوجيهها هنا أنّ الضمير جرى على التأنيث فتعيّن أن يكون المراد وإذ تخلق، أي تقدّر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائراً، أي كلّ هيئة تقدّرها تكون واحداً من الطير‏.‏
وقرأ البقية «طيراً» بصيغة اسم الجمع باعتبار تعدّد ما يقدّره من هيئات كهيئة الطير‏.‏
وقال هنا ‏{‏وإذا تخرج الموتى‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏وأحي الموتى‏}‏، كما قال في سورة آل عمران ‏(‏49‏)‏، أي تخرجهم من قبورهم أحياء، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء، لأنّ الميّت وضع في القبر لأجل كونه ميّتاً فكان إخراجه من القبر ملزوماً الانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر‏.‏ وقد سمّى الله الإحياء خروجاً في قوله‏:‏ ‏{‏وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 35‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ كففت بني إسرائيل عنك‏}‏ عطف على ‏{‏إذْ أيّدتك‏}‏ وما عطف عليه‏.‏ وهذا من أعظم النعم، وهي نعمة العصمة من الإهانة؛ فقد كفّ الله عنه بني إسرائيل سنين، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلّة أنصاره، فصرفهم الله عن ضرّه حتى أدّى الرسالة، ثمّ لمّا استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به، وماتت نفوسهم بغيظها‏.‏ وقد دلّ على جميع هذه المدّة الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إذ جئتم بالبيّنات‏}‏ فإنّ تلك المدّة كلّها مدّة ظهور معجزاته بينهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فقال الذين كفروا منهم‏}‏ تخلّص من تنهية تقريع مكذّبيه إلى كرامة المصدّقين به‏.‏
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إيّاه على قولهم ‏{‏إنْ هذا إلاّ سحر مبين‏}‏، لأنّ ذلك الادّعاء قصدوا به التوسّل إلى قتله، لأنّ حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام، فقد قرنت التوراة السحر وعِرافةَ الجانّ بالشرك، كما جاء في سفر اللاويّيين في الإصحاح العشرين‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إنْ هذا إلاّ سحر‏}‏، والإشارة بِ ‏{‏هذا‏}‏ إلى مجموع ما شاهدوه من البيّنات‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏إلاّ ساحر‏}‏‏.‏ والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏إذْ جئتهم بالبيّنات‏}‏‏.‏ ولا شك أنّ اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏
‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏إذْ أيَّدتك بروح القدس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل‏.‏ فإنّ إيمان الحواريّين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتّبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدّد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام‏.‏
والمراد بالوحي إلى الحواريّين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه، فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى‏.‏ ويجوز أن يكون الوحيَ الذي أوحي به إلى عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه‏.‏ وخُصّ الحواريّون به هنا تنويهاً بهم حتّى كأنّ الوحي بالدعوة لم يكن إلاّ لأجلهم، لأنّ ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما قال عيسى ابنُ مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قالَ الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 14‏]‏؛ فكان الحواريّون سابقين إلى الإيمان لم يتردّدوا في صدق عيسى‏.‏ و‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريّين‏.‏
وفَصْل جملة ‏{‏قالوا آمنَّا‏}‏ لأنّها جوابُ ما فيه معنى القول، وهو «أوحينا»، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدّم في سورة البقرة، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنّه خاطبهم فأجابوه‏.‏ والخطاب في قولهم‏:‏ ‏{‏واشهَدْ‏}‏ لله تعالى وإنّما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم، فحكى الله معناه بما يؤدّيه قوله‏:‏ ‏{‏واشهد بأنّنا مسلمون‏}‏‏.‏ وسمّى إيمانهم إسلاماً لأنّه كان تصديقاً راسخاً قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامّة من آمن بالمسيح غيرهم، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى، وهو إيمان الأنبياء والصدّيقيين، وقد قدّمت بيانه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كان حنفياً مسلماً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏67‏)‏، وفي تفسير قوله ‏{‏فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏132‏)‏ فارجع إليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏
‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏
جملة‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريّون‏}‏ يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يومَ يجمع الرسل، فيكون ‏{‏إذ‏}‏ ظرفا متعلّقاً بفعل ‏{‏قالوا آمنّا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏ فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر ‏{‏قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏؛ فإنّ قولهم ‏{‏آمنّا‏}‏ قد يتكرّر منهم بمناسبات، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى، أو عندما يشاهدون آيات على يد عيسى، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقيين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة‏.‏ آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون‏.‏ وأمّا ما قرّر به «الكشاف» ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به‏.‏
ويجوز أن يكون جملة‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريّون‏}‏ ابتدائية بتقدير‏:‏ اذكر، على أسلوب قوله تعالى ‏{‏إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً‏}‏ في سورة النمل ‏(‏7‏)‏، فيكون الكلام تخلّصاً إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏ وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلباً لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود‏.‏
وجرى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستطيع ربّك‏}‏ على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر‏:‏ هل تستطيع كذا، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته‏.‏ ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني «أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد‏:‏ أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ»‏.‏ فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك‏.‏ فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص‏.‏ وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس‏.‏ فإنّ النفوس بالمحسوس آنس، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله ‏{‏ربّ أرني كيف تحيي الموتى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ شكّاً في الحال‏.‏ وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية، والواحدي، والبغوي خلافاً لما في «الكشاف»‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يستطيع‏}‏ بياء الغيبة ورفع ‏{‏ربُّك‏}‏‏.‏
وقرأه الكسائي ‏{‏هل تَستطيع ربَّك‏}‏ بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة من قوله ‏{‏ربّك‏}‏ على أنّ ‏{‏ربّك‏}‏ مفعول به، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة، أي إجابة السؤال‏.‏ وقيل‏:‏ هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه‏.‏ وفي رواية الطبري عن عائشة قالت‏:‏ كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا‏:‏ هل يستطيع ربّك، ولكن قالوا‏:‏ هل تستطيع ربّك‏.‏ وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي ‏{‏هل تستطيع ربّك‏}‏‏.‏
واسم ‏{‏مائدة‏}‏ هو الخوان الموضوع عليه طعام، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعاممٍ وما يوضع عليه‏.‏ والخِوان بكسر الخاء وضمّها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل، اتّفقوا على أنّه معرّب‏.‏ قال الجواليقي‏:‏ هو أعجمي‏.‏ وفي حديث قتادة عن أنس قال‏:‏ ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ، ولا في سُكُرُّجَة، قال قتادة‏:‏ قلت لأنس‏:‏ فعلاَم كنتم تأكلون قال‏:‏ على السُّفَر، وقيل‏:‏ المائدة اسم الطعام، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان‏.‏ وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ‏.‏ وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة‏.‏ وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ‏:‏ لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة‏.‏ واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به‏.‏ وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر‏.‏ وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي‏.‏
وقول عيسى حين أجابهم ‏{‏اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏ أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان، ولذلك جاء بِ ‏{‏إن‏}‏ المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله‏:‏ ‏{‏قال أو لم تؤمن‏}‏، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس‏.‏ فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه‏.‏ وقيل‏:‏ نهاهم عن طلب المعجزات، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة‏.‏ فأجابوه عن ذلك بأنّهم ما أرادوا ذلك لضعف في إيمانهم إنّما أرادوا التيمّن بأكل طعام نزل من عند الله إكراماً لهم، ولذلك زادوا ‏{‏منها‏}‏ ولم يقتصروا على ‏{‏أن نأكل‏}‏ إذ ليس غرضهم من الأكل دفع الجوع بل الغرض التشرّف بأكل من شيء نازل من السماء‏.‏
وهذا مثل أكل أبي بكر من الطعام الذي أكَل منه ضيفه في بيته حين انتظروه بالعشاء إلى أن ذهب جزء من الليل، وحضر أبو بكر وغضب من تركهم الطعام، فلمّا أخذوا يطعمون جعل الطعام يربو فقال أبو بكر لزوجه‏:‏ ما هذا يا أختَ بني فِراس‏.‏ وحمل من الغد بعض ذلك الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه‏.‏
ولذلك قال الحواريّون‏:‏ ‏{‏وتطمئنّ قلوبنا‏}‏ أي بمشاهدة هذه المعجزة فإنّ الدليل الحسي أظهر في النفس، ‏{‏ونعلم أن قد صدقتنا‏}‏، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال فيحصل لهم العلمان، ‏{‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏، أي من الشاهدين على رؤية هذه المعجزة فنبلّغها من لم يشهدها‏.‏ فهذه أربع فوائد لسؤال إنزال المائدة، كلّها درجات من الفضل الذي يرغب فيه أمثالهم‏.‏
وتقديم الجارّ والمجرور في قوله ‏{‏عليها من الشاهدين‏}‏ للرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏
‏{‏قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏
إن كان قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏ من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي ‏{‏قال عيسى ابن مريم اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ معترضة بين جملة ‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريّين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏ وجملة ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ الآية‏.‏
وإن كان قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏ الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة‏:‏ ‏{‏قال عيسى ابن مريم اللهم ربّنا‏}‏ الآية مجاوبة لقول الحواريّين ‏{‏يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏ الآية على طريقة حكاية المحاورات‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة‏}‏ اشتمل على نداءين، إذ كان قوله‏:‏ ‏{‏ربّنا‏}‏ بتقدير حرففِ النداء‏.‏ كرّر النداء مبالغة في الضراعة‏.‏ وليس قوله‏:‏ ‏{‏ربّنا‏}‏ بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة، لأنّ نداء ‏{‏اللهمّ‏}‏ لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال‏.‏ ومن النحاة من أجاز إتْباعه، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى ‏{‏ربّنا‏}‏ مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران‏.‏ وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم‏.‏
ومعنى ‏{‏تكون لنا عيداً‏}‏ أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لأوّلنا وآخرنا‏}‏، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية‏.‏
والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار‏.‏ وقد ورد ذكره في كلام العرب‏.‏ وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم، قال العجاج‏:‏
كمَا يعُودُ العيدَ نصرانيّ *** مثل يوم السباسب في قول النابغة‏:‏
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَان يوْمَ السَّبَاسب *** وهو عيد الشعانين عند النصارى‏.‏
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيداً في قوله لأبي بكر لمَّا نهى الجواريَ اللاّء كنّ يغَنِّين عند عائشة «إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا» وسمّى يوم النحر عيداً في قوله‏:‏ «شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجّة»‏.‏
والعيد مشتقّ من العَوْد، وهو اسم على زنة فعل، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة‏.‏ وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها، فقياس، جمعه أعواد لكنَّهم جمعوه على أعياد، وصغّروه على عُييد، تفرقة بينه وبين جمع عُودٍ وتصغيره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لأوّلنا‏}‏ بدل من الضمير في قوله ‏{‏لنا‏}‏ بدلَ بعض من كلّ، وعطف ‏{‏وآخرنا‏}‏ عليه يصيّر الجميع في قوة البدل المطابق‏.‏ وقد أظهر لام الجرّ في البدل، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأنّ كون البدل تابعاً للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع، ولهذا قال النحاة‏:‏ إنّ البدل على نية تكرار العامل، أي العامل منوي غير مصرّح به‏.‏ وقد ذكر الزمخشري في «المفصّل» أنّ عامل البدل قد يصرّح به، وجعل ذلك دليلاً على أنّه منوي في الغالب ولم يقيّد ذلك بنوع من العوامل، ومثّله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لجعلنا لمنْ يكفر بالرحمان لبيُوتهم سُقفاً من فضّة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏، وبقوله في سورة الأعراف ‏(‏75‏)‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا‏.‏‏.‏ للذين استضعفوا لمَنْ آمن منهم‏}‏ وقال في الكشاف في هذه الآية ‏{‏لأوّلنا وآخرنا‏}‏ بدل من ‏{‏لَنَا‏}‏ بتكرير العامل‏.‏ وجوّز البدل أيضاً في آية الزخرف ثم قال‏:‏ ويجوز أن يكون اللاّمان بمنزلة اللاّمين في قولك‏:‏ وهبت له ثوباً لقميصه‏.‏ يريد أن تكون اللام الأولى متعلّقة ب ‏{‏تكون‏}‏ والثانية متعلّقة ب ‏{‏عيدا‏}‏‏.‏
وقد استقريْتُ ما بلغت إليه من موارد استعماله فتحصّل عندي أنّ العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرّر مع البدل، وأمّا العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجرّ خاصّة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏75‏)‏، وآية سورة الزخرف، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن النخل من طلعها قنوان دانية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ذلك لأنّ حرف الجرّ مكمّل لعمل الفعل الذي يتعلّق هو به لأنّه يعدّي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدّى إليه بمعنى مصدره، فحرف الجرّ ليس بعامل قوي ولكنّه مكمّل للعامل المتعلّق هو به‏.‏
ثمّ إنّ علينا أن نتطلّب الداعي إلى إظهار حرف الجرّ في البدل في مواقع ظهوره‏.‏ وقد جعل ابن يعيش في «شرح المفصّل» ذلك للتأكيد قال‏:‏ «لأن الحرف قد يتكرّر لقصد التأكيد»‏.‏ وهذا غير مقنع لنا لأنّ التأكيد أيضاً لا بدّ من داع يدعو إليه‏.‏
فما أظهر فيه حرف الجرّ من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إمّا قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات، وأمّا دفع اللبس، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلاّ يتوهّم السامع أنّ من يتوهّم أنّ «من آمن» من المقول وأنّ «من» استفهام فيظنّ أنّهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم، ومعنى التأكيد حاصل على كلّ حال لأنّه ملازم لإعادة الكلمة‏.‏ وأمّا ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام، نحو‏:‏ أين تنزل أفي الدار أم في الحائط، ومنْ ذا أسعيد أم عَلِي‏.‏
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنّهم ذكروا أنّ عيسى عليه السلام أكل مع الحواريّين على مائدة ليلة عيد الفِصح، وهي الليلة التي يعتقدون أنّه صلب من صباحها‏.‏ فلعلّ معنى كونها عيداً أنّها صيّرت يوم الفصح عيداً في المسيحية كما كان عيداً في اليهودية، فيكون ذلك قد صار عيداً باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحداً لأنّ المسيحيين وفّقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية‏.‏
وجملة ‏{‏قال الله إنّي منزّلها‏}‏ جواب دعاء عيسى، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة‏.‏ وأكّد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ تحقيقاً للوعد‏.‏ والمعنى إنّي منزّلها عليكم الآن، فهو استجابة وليس بوعد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فَمنْ يكفرْ‏}‏ تفريع عن إجابة رغبتهم، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاماً بأهمّية الإيمان عند الله تعالى، فجعل جزاء إجابته إيّاهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عُذّبوا عذاباً أشدّ من عذاب سائر الكفَّار لأنّهم تعاضد لديهم دليل العقل والحسّ فلم يبق لهم عُذر‏.‏
والضمير المنصوب في قوله ‏{‏لا أعذّبه‏}‏ ضمير المصدر، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولاً به، أي لا أعذّب أحداً من العالمين ذلك العذاب، أي مثل ذلك العذاب‏.‏
وقد وقفت قصّة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطُوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنّه لا أثر له في المراد من القصّة، وهو العبرة بحال إيمان الحواريَّين وتعلّقهم بما يزيدهم يقيناً، وبقربهم إلى ربّهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم، وعلى ضراعة المسيح الدالّة على عبوديته، وعلى كرامته عند ربّه إذْ أجاب دعوته، وعلى سعة القدرة‏.‏ وأمّا تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه‏.‏ وقد أكثر فيه المفسَّرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمّار بن يسار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً» الحديث‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا الحديث رواه غير واحد عن عمّار بن ياسر موقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً‏.‏
واختلف المفسّرون في أنّ المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل‏.‏ فعن مجاهد والحسن أنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يكفر بعد منكم‏}‏ الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ نزلت‏.‏ وهو الظاهر لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّي منزّلها عليكم‏}‏ وعد لا يخلف، وليس مشروطاً بشرط ولكنه معقّب بتحذير من الكفر، وذلك حاصل أثره عند الحواريّين وليسوا ممّن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل‏.‏
وأمّا النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 118‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ الله‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس ممّا قاله في الدنيا، لأنّ عبادة عيسى حدثت بعد رفعه، ولقوله‏:‏ ‏{‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏‏.‏ فقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد به يوم القيامة‏.‏ وأنّ قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس‏}‏ قول يقوله يوم القيامة‏.‏ وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فُرغ من تقريع اليهود من قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ إلى هنا‏.‏ وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل ‏{‏ماذا أجبتم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى‏.‏
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس‏}‏ يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة‏.‏ فقول قائلين‏:‏ اتّخِذوا عيسى وأمّه إلهين، واقع‏.‏ وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضاً بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك‏.‏
والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال‏:‏ اتّخذوني وأمّي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية‏.‏ والمراد بالناس أهل دينه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ متعلّق بِ ‏{‏اتّخذوني‏}‏، وحرف ‏{‏من‏}‏ صلة وتوكيد‏.‏ وكلمة ‏{‏دون‏}‏ اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكاناً مجازياً مراداً به المغايرة، فتكون بمعنى ‏(‏سوى‏)‏‏.‏ وانظر ما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 76‏]‏‏.‏ والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله‏.‏
وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله‏.‏
وذُكر هذا المتعلّق إلزاماً لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية‏.‏ وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏17‏)‏‏.‏
وجواب عيسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة‏.‏
وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحداً‏.‏ وتقدّم الكلام على ‏{‏سبحانك‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏
وبرّأ نفسه فقال‏:‏ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏؛ فجملة ‏{‏ما يكون لي أن أقول‏}‏ مستأنفة لأنّها جواب السؤال‏.‏ وجملة ‏{‏سبحانك‏}‏ تمهيد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ما يكون لي‏}‏ مبالغة في التبرئة من ذلك، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ، فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏ما يكون لي‏}‏ للاستحقاق، أي ما يوجد حقّ أن أقول‏.‏ وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول‏.‏
والباء في قوله ‏{‏بحقّ‏}‏ زائدة في خبر ‏{‏ليس‏}‏ لتأكيد النفي الذي دلّت عليه ‏{‏ليس‏}‏‏.‏ واللام في قوله ‏{‏ليس لي بحقّ‏}‏ متعلّقة بلفظ ‏{‏حقّ‏}‏ على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ‏.‏ وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق ‏{‏بحقّ‏}‏ لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة ل ‏{‏حقّ‏}‏ حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقّاً له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له‏.‏ وقد أفاد الكلام تأكيدَ كون ذلك ليس حقّاً له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له، فعُلم أنّ ذلك ليس حقّاً له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك‏.‏ فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن‏.‏
ثم ارتقى في التبرّئ فقال‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها، فكانت كالبيان فلذلك فصلت‏.‏ والضمير المنصوب في ‏{‏قلته‏}‏ عائد إلى الكلام المتقدّم‏.‏ ونصْب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلاّ إنّها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله، فلذلك أحال على علم الله تعالى‏.‏ وهذا كقول العرب‏:‏ يعلم الله أني لم أفعل، كما قال الحارث بن عبّاد‏:‏
لَم أكُنْ من جُنَاتِعَا عَلِمَ الله وأني لِحرّها اليومَ صالٍ *** ولذلك قال‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏، فجملة ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ بيان لجملة الشرط ‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ فلذلك فُصلت‏.‏
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان، إنسان وهي الروح الإنساني، وتطلق على الذات‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ تعلم ما أعتقده، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ اعتراض نشأ عن ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال‏.‏
وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرّئ، والتنصّل، فلذلك تكون الواو اعتراضية‏.‏
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يُطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه، أي ممّا انفردت بعمله‏.‏ وقد حسّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في «الكشاف»‏.‏
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف؛ فمن العلماء من منع ذلك وإليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح «المفتاح» و«التخليص»‏.‏ وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو ‏{‏ويحذّركم الله نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ من قبيل المتشابه‏.‏ ومن العلماء من جوّز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في «التفسير» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب ربّكم على نفسه الرحمة‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏54‏)‏، ويشهد له تكرّر استعماله في القرآن وكلام النبي كما في الحديث القدسي فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنّك أنت علاّم الغيوب‏}‏ علّة لقوله‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ ولذلك جيء بِ ‏(‏إنّ‏)‏ المفيدة التعليل‏.‏ وقد جمع فيه أربع مؤكّدات وطريقة حصر، فضمير الفصل أفاد الحصر، وإنّ وصيغة الحصر، وجمع الغيوب، وأداة الاستغراب‏.‏
وبعد أن تبرّأ من أن يكون أمرَ أمّته بما اختلقوه انتقل فبيّن أنّه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال ‏{‏ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به‏}‏، فقوله‏:‏ ‏{‏ما قلت لهم‏}‏ ارتقاء في الجواب، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو ‏{‏ما يكون لي أن أقول‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ صرّح هنا بما قاله لأنّ الاستفهام عن مقاله‏.‏ والمعنى‏:‏ ما تجاوزتُ فيما قلتُ حدّ التبليغ لما أمرتني به، فالموصول وصلته هومقول ‏{‏ما قلت لهم‏}‏ وهو مفرد دالّ على جُمل، فلذلك صحّ وقوعه منصوباً بفعل القول‏.‏
و ‏{‏أنْ‏}‏ مفسّرة ‏{‏أمرتني‏}‏ لأنّ الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة ‏{‏اعبدوا الله ربّي وربّكم‏}‏ تفسيرية لِ ‏{‏أمرتني‏}‏‏.‏ واختير ‏{‏أمرتني‏}‏ على ‏(‏قلت لي‏)‏ مبالغة في الأدب‏.‏ ولمّا كان ‏{‏أمرتني‏}‏ متضمّناً معنى القول كانت جملة ‏{‏اعبدوا الله ربّي وربّكم‏}‏ هي المأمورُ بأن يبلّغه لهم فالله قال له‏:‏ قل لهم اعبدوا الله ربّي وربّكم‏.‏ فعلى هذا يكون ‏{‏ربّي وربّكم‏}‏ من مقول الله تعالى لأنّه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبّر عن ذلك بفعل ‏{‏أمرتني به‏}‏ صح تفسيره بحرف ‏{‏أن‏}‏ التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله‏.‏ فلا حاجة إلى ما تكلّف به في «الكشاف» على أنّ صاحب «الانتصاف» جوّز وجهاً آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى، فيكون الله تعالى قال له‏:‏ قل لهم أن يعبدوا ربّك وربّهم‏.‏ فلمّا حكاه عيسى قال‏:‏ اعبدوا الله ربّي وربّكم اه‏.‏ وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالاً لحكاية القول بالمعنى‏.‏
وأقول‏:‏ هو استعمال فصيح قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏6‏)‏ إذَا أخبرت أنّك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له‏:‏ فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اه‏.‏ وعندي أنّه ضعيف في هذه الآية‏.‏
ثمّ تبرّأ من تبعتهم فقال وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم‏}‏ أي كنت مشاهداً لهم ورقيباً يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء‏.‏
و ‏{‏ما دمت‏}‏ ‏(‏ما‏)‏ فيه ظرفية مصدرية، و‏(‏دام‏)‏ تامّة لا تطلب منصوباً، و‏{‏فيهم‏}‏ متعلّق بِ ‏{‏دمتُ‏}‏، أي بينهم، وليس خبراً لِ ‏(‏دام‏)‏ على الأظهر، لأنّ ‏(‏دام‏)‏ التي تطلب خبراً هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معيّن هو مضمون خبرها، أمّا هي هنا فهي بمعنى البقاء، أي ما بقيت فيهم، أي ما بقيت في الدنيا‏.‏
ولذلك فرّع عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلمّا توفّيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم‏}‏، أي فلمّا قضيت بوفاتي، لأنّ مباشر الوفاة هو ملك الموت‏.‏ والوفاة الموت، وتوفّاه الله أماته، أي قضى به وتوفّاه ملك الموت قبض روحه وأماته‏.‏
وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏إنّي متوفّيك‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏55‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّك لمّا توفّيتني قد صارت الوفاة حائلاً بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم، ولذلك قال كنتَ أنتَ الرقيب عليهم‏}‏، فجاء بتضير الفصل الدّال على القصر، أي كنت أنتَ الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتّصال‏.‏ والمعنى أنّك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت‏.‏ وقد أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم بكلّ وجوه الاهتداء‏.‏ وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأنت على كلّ شيء شهيد‏}‏ تذييل، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفاً على ما تقدّم لئلاّ يكون في حكم جواب ‏{‏لمّا‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فوّض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأنّ المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدّة هول ذلك اليوم، وغاية ما عرّض به عيسى أنه جوّز المغفرة لهم رحمة منه بهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإنّك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض، أي المحكِم للأمور العالم بما يليق بهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏
‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏‏}‏
جواب عن قول عيسى، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار‏.‏ والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ مضاف إليها ‏{‏يوم‏}‏، أي هذا يوم نفْع الصدق‏.‏ وقد قرأ غير نافع من العشرة ‏{‏يومُ‏}‏ مضموماً ضمّة رفع لأنّه خبرُ ‏{‏هذا‏}‏‏.‏ وقرأه نافع مفتوحاً على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية‏.‏ وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر، كقول النابغة‏:‏
على حينَ عَاتبتُ المشيبَ على الصّبا *** وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية، وهو التحقيق‏.‏ وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذٍ‏.‏ وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا، فنفع كليهما يظهر يومئذٍ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية‏.‏
والمراد بِ ‏{‏الصادقين‏}‏ الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه‏.‏ ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ ‏(‏119‏)‏‏.‏
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّاً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد‏.‏ وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة‏.‏ وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا‏.‏
ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعاً محضاً وعليه جزاءان، كما في قول عيسى‏:‏ ‏{‏سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحاً لأنّه قد حصل قبيحاً سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقّاً أثراً قبيحاً مثله‏.‏ وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لهم جنات‏}‏ مبيّنة لجملة‏:‏ ‏{‏ينفع‏}‏ باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق‏.‏ وجملة ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ صفة ل ‏{‏جنَّات‏}‏ و‏{‏خالدين‏}‏ حال‏.‏ وكذلك جملة ‏{‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏رضوا عنه‏}‏ المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه‏.‏ وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان‏.‏ فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله‏:‏ ‏{‏يحبّهم‏}‏‏.‏ ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع‏.‏
واسم الإشارة في قوله ‏{‏ذلك‏}‏ لتعظيم المشار إليه، وهو الجنّات والرضوان‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏
‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏
تذييل مؤذن بانتهاء الكلام، لأنّ هذه الجملة جمعت عبودية كلّ الموجودات لله تعالى، فناسبت ما تقدّم من الردّ على النصارى، وتضمّنت أنّ جميعها في تصرّفه تعالى فناسبت ما تقدّم من جزاء الصادقين‏.‏ وفيها معنى التفويض لله تعالى في كلّ ما ينزل، فآذنت بانتهاء نزول القرآن على القول بأنّ سورة المائدة آخر ما نزل، وباقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما في الآية من معنى التسليم لله وأنّه الفعّال لما يريد‏.‏ وتقديم المجرور باللام مفيد للقصر أي له لا لغيره‏.‏
وجيء بالموصول ‏(‏ما‏)‏ في قوله ‏{‏وما فيهن‏}‏ دون ‏(‏من‏)‏ لأنّ ‏(‏ما‏)‏ هي الأصل في الموصول المبهم فلم يعتبر تغليب العقلاء، وتقديم المجرور ب ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على كل شيء قدير‏}‏ للرعاية على الفاصلة المبنيّة على حرفين بينهما حرف مدّ‏.‏ ‏{‏وما فيهنّ‏}‏ عطف على ‏{‏ملك‏}‏ أي لله ما في السماوات والأرض، كما في سورة البقرة ‏(‏284‏)‏ ‏{‏ه ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ فيفيد قصرها على كونها لله لا لغيره‏.‏ وليس معطوفاً على السماوات والأرض إذ لا يحسن أن يقال‏:‏ لله مُلك ما في السماوات والأرض لأنّ الملك يضاف إلى الأقطار والآفاق والأماكن كما حكى الله تعالى‏:‏ ‏{‏أليس لي مُلك مصر‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ ويضاف إلى صاحب الملك كما في قوله‏:‏ ‏{‏على ملك سليمان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ في مدّة مُلك الأشوريين أو الرومان‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire