{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}
موقع الافتتاح بهذا التحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم.
ولما كان إنزال القرآن على النبي أجزل نَعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس، ونعمة على النبي بأن جعله واسطة ذلك ومبلَغه ومبينه؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخباراً وإنشاءً. وقد تقدم إفادة جملة «الحمد لله» استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة.
وهي هنا جملة خبرية، أخبر الله نبيئَه والمسلمين بأن مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره، فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويهاً بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1].
والكتاب: القرآن. فكل مقدار منزل من القرآن فهو الكتاب}. فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة، ويلحق به ما ينزل بعد هذه الآية ويزاد به مقداره.
وجملة {ولم يجعل له عوجاً} معترضة بين {الكتاب} وبين الحال منه وهو {قيماً}. والواو اعتراضية. ويجوز كون الجملة حالاً والواو حالية.
والعِوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته: انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم، فهو ضد الاستقامة. ويطلق مجازاً على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة.
والذي عليه المحققون من أيمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي. وقيل: المكسورُ العيننِ يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في «الكشاف». ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال {فيذرها قاعاً صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً} [طه: 106 107] حيث اتفق القراء على قراءته بكسر العين. وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي.
والمراد بالعِوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد.
والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم: افتراه، وأساطير الأولين، وقول كاهن، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82].
وضمير له} عائد إلى {الكتاب}.
وإنما عدي الجعل باللام دون (في) لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام، وأما معنى الاختصاص فهو أعم.
فالمعنى: أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف. وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به، فهذا كوصفه ب {أنه لا ريب فيه} في سورة البقرة (2).
و قيماً} حال من {الكتاب} أو من ضميره المجرور باللام، لأنه إذا جعل حالاً من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب.
والقيم: صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى: {الحي القيوم} في سورة البقرة (255).
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه {هدى للمتقين} في سورة البقرة: (2).
والجمع بين قوله: ولم يجعل له عوجاً} وقوله: {قيماً} كالجمع بين {لا ريب فيه} [البقرة: 2] وبين {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وليس هو تأكيداً لنفي العوج.
لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ}
{لينذر} متعلق ب {أنزل}. والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه، والمفعول الأول ل {ينذر} محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله.
والبأس: الشدة في الألم. ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو. وقد تقدم في قوله تعالى: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} من سورة البقرة (177). والمراد هنا: شدة الحال في الحياة الدنيا، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن، وعليه درج الطبري. وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه، فاستعمال (لدن) هنا في معنييه الحقيقي والمجازي.
وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض.
وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للنقصي مما يرد على إعادة فعل {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} [الكهف: 4] كما سيأتي.
ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد، ويكون قوله: من لدنه} مستعملاً في حقيقته. وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين.
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي، ويكون استعمال من {لدنه} في معنييه الحقيقي والمجازي، أما في عذاب الآخرة فظاهر، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه.
وحذف مفعول {ينذر} لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه، ولدلالة مقابله عليه في قوله: {ويبشر المؤمنين}.
عطف على قوله: {لينذر بأساً}، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم.
وقوله: {أن لهم أجراً حسناً} متعلق ب {يبشر} بحذف حرف الجر مع (أن)، أي بأن لهم أجراً حسناً. وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين. ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليللٍ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة.
والمكث: الاستقرار في المكان، شُبه ما لهم من اللذات والملائمات بالظرف الذي يستقر فيه حالُّهُ للدلالة على أن الأجر الحسن كالمحيط بهم لا يفارقهم طرفة عين، فليس قوله: {أبداً} بتأكيدٍ لمعنى {ماكثين} بل أفيد بمجموعها الإحاطة والدوام.
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}
تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تالياً لقوله: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} [الكهف: 2] باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بَشر به المؤمنين. وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جَرَيْتَ على تخصيص البأس في قوله: {بأساً شديداً} [الكهف: 2] بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايراً لما قبله؛ وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل ينذر وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا * مَّا} تأكيدا، فكان عطفه باعتبار أن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فِعل {ينذر} السابق يُعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين، وهو يُومئ إلى المنذرَين المحذوف في قوله: {لينذر بأساً شديداً} [الكهف: 2] ويغني عن ذكره. وهذه العلة أثارتها مناسبه ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتماداً على مقابِلِه المبشر به.
والمراد بالذين قالوا اتخذ الله ولداً} هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب.
والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عُرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعاً عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد.
والولد: اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع. وتقدم في قوله: {قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه} في سورة يونس (68).
وجملة ما لهم به من علم} حال من {الذين قالوا}. والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من {قالوا}.
و (من) لتوكيد النفي. وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذباً ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه} [المؤمنون: 117].
وضمير به} عائد على مصدر مأخوذ من فعل {قالوا}، أي ما لهم بذلك القول من علم.
وعطف {ولا لآبائهم} لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم.
استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع.
ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية.
وفعل {كبرت} بضم الباء. أصله: الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازاً في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام. ودل على قصد التعجيب منها انتصاب {كلمة} على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام.
والضمير في قوله: {كبرت} يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز.
وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع، ومنه قوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، وقول النبي: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللّهَ باطل ***
وجملة تخرج من أفواههم} صفة ل {كلمة} مقصود بها من جُرْأتِهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها.
والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخييلاً لفظاعتها. وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه، لأنه لاستحالته تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تتعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل.
والأفواه: جمع فَم وهو بوزن أفعال، لأن أصل فم فَوَه بفتحتين بوزن جَمل، أو فيهٍ بوزن ريح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفاً يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار «فاً» ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار «فم»، ولما جمعوه ردوه إلى أصله.
وجملة {إن يقولون إلا كذباً} مؤكدة لمضمون جملة {تخرج من أفواههم} لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفسسِ الأمر هو الكذب، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب، فما قولهم ذلك إلا كذب، أي ليست له صفة إلا صفة الكذب.
هذا إذا جعل القول المأخوذ من {يقولون} خصوص قولهم: {اتخذ الله ولداً} [الكهف: 4]. ولك أن تحمل يقولون} على العموم في سياق النفي، أي لا يصدر منهم قول إلا الكذب، فيكون قصراً إضافياً، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن {يقولون} تذييلاً.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}
تفريع على جملة {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} [الكهف: 4] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله: {وبشر المؤمنين} [الكهف: 2] ثم قوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} [الكهف: 4].
و (لعل) حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه.
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه. وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم.
والباخع: قاتل نفسه، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير. وفسره البخاري بمهلك. وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة.
وفي اشتقاقه خلاف، فقيل مشتق من البِخاع بالباء الموحدة (بوزن كتاب) وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابحُ البخاع فذلك أعمق الذبح، قاله الزمخشري في قوله تعالى: لعلك باخع نفسك في سورة الشعراء (3) وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في الكشاف} و«الفائق» و«الأساس». قال ابن الأثير في «النهاية»: «بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البِخاع بالموحدة» يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسماً لهذا العرق. قلت: كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته. وقد تبعه عليه المطرزي في «المُغرب» وصاحب «القاموس». فالبخع: أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ.
والآثار: جمع أثر وهو ما يؤثره، أي يُبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطئ أقدامه وأخفاف راحلته. والأثر أيضاً ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد.
وحرف (على) للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى: لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه، فتكون (على) للتعليل.
ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم. وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبتُه فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم. ويكون حرف (على) ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير الخطاب، ومعنى (على) الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان.
وكأن هذا الكلام سيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إيماء إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان، وتهيئة نفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه به، ولذلك قال: {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل، أي إن استمر عدم إيمانهم.
واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار. وبُيّن بأنه الحديث.
والحديث: الخبر. وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً. سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث، أي الذي حدث وجَد، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب، فالحديث فعيل بمعنى مفعول. وانظر ما يأتي عند قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} في سورة الزمر (23).
وأسفاً} مفعول له من {باخع نفسك} أي قاتلها لأجل شدة الحزن، والشرط معترض بين المفعولين، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قَبْل الشرط.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}
مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية جداً أعوز المفسرين بيانُها، فمنهم ساكت عنها، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت.
والذي يبدو: أنها تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم زينة الدنيا لعلهم يشكرونه، وأنهم بطروا النعمة، فإن الله يسلب عنهم النعمة فتصير بلادهم قاحلة. وهذا تعريض بأنه سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل رسولُ الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف عليه السلام.
ولهذا اتصال بقوله: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} [الكهف: 2].
وموقع (إن) في صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6].
ويحصل من ذلك تذكير بعضهم قدرة الله تعالى، وخاصة ما كان منها إيجاداً للأشياء وأضدادها من حياة الأرض وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر، ونعمة ونقمة، كلها عِبَر لمن يعتبر بالتغير ويأخذ الأهبة إلى الانتقال من حال إلى حال فلا يثق بقوته وبطشه، ليقيس الأشياء بأشباهها ويعرض نفسه على معيار الفضائل وحسنى العواقب.
وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس لأنها أقرب إلى حسهم وتعقلهم، كما قال تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت} [الغاشية: 17 20]، وقال: {وفي الأرض آيات للموقنين} [الذاريات: 20].
وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معاننٍ كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأغراض المقصودة، فإن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينةً يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف. والامتنان بمثل هذا كثير، مثل قوله: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6]، وقال: {زين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14].
ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها. وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان، واستمرارها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يَعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها. فيتضمن هذا امتناناً ببث الحياة في الموجودات الأرضية.
ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها وتسبُر غورَ النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم، فمِن موففٍ بحق الشكر، ومقصر فيه وجاحد كافرٍ بنعمة هذا المنعم ناسببٍ إياها إلى غير موجدها. ومن لوازمها أيضاً أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستثار من ذلك مختلِف الكيفيات في تناولها وتعَارُض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض.
وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع لتضبط لهم أحوال معاملاتهم، ولذلك عُلل جعل ما على الأرض زينة بقوله: لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}، أي أفْوَتَ في حسن العمل مِن عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر، وعلم الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحَيدة عنه.
فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل. ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تُعلم بطريق الفحوى درجةُ انعدام الحُسن من أصله وهي حالة الكفر وسوء العمل، كما جاء في حديث «.. مَثَل المنافق الذي يقرَأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن». والبَلْو: الاختبار والتجربة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} في سورة يونس (30). وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغننٍ عن الاختبار والتجربة. وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده. وهو كقول قيس بن الخطيم:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا *** لأعْلَم مَن جَبَانُها من شُجاعها
وقوله: وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم. فقوله: {جاعلون} اسم فاعل مراد به المستقبل، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوماً فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم، قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48].
والصعيد: التراب. والجُرز: القاحل الأجرد. وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله: {فتصبح صعيداً زلقا} في هذه السورة (40).
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9)}
(أم) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض. ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضاباً بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود.
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف: 6]، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثِهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالاً لإمكان البعث.
و {أم} هذه هي (أم) المنقطعة بمعنى (بل)، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها، يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهراً بعدها كقول أفْنُون التغلبي:
أنّى جَزَوا عامراً سُوءاً بضعته *** أم كيف يجزونني السُّوأَى عن الحسن
والاستفهام المقدر بعد (أم) تعجيبي مثل الذي في البيت.
والتقدير هنا: أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجباً من بين آياتنا، أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف. لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم. وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنَهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24]. أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باققٍ.
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبر والأسباب وآثارها. ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله: {إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} [الكهف: 10] فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقوله: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} [الكهف: 13]. الآيات الدالِّ على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضاً بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم.
والخطاب للنبيء. والمراد: قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها. ويظهر أن الذين لقنوا قريشاً السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة؛ أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف. ومحل التعجب هو قوله: من آياتنا}، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق؛ فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها.
فمعنى (مِن) في قوله: {من آياتنا} التبعيض، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى، كما تقول: سأل فلاناً فهو العالم منا، أي المنفرد بالعلم من بيننا.
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية، أي كانوا عجباً في آياتنا، أي وبقية الآيات ليست عجباً. وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام.
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم، فَثمّ مضاف محذوف يدل عليه الكلام.
وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة، والمراد عجيب.
والكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعاً فهو غار.
والرقيم: فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة. فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم. قيل: كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل: هو كتاب دينهم، ديننٍ كان قبل عيسى عليه السلام، وقيل: هو دين عيسى، وقيل: كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فراراً من كفر قومهم.
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منه، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم.
وقد أشارت الآية إلى قصة نفَر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنباً لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فراراً من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقَى عليهم نوماً بقُوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم. وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البِلى كرامة لهم.
وقد عَرَف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا على رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها.
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف. وقد ذكر ابن عطية ملخصاً في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقُصّاص.
والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له (أَبْسُس) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلداً من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية.
وليست هي (أفسس) بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بُولس رسالته المشهورة. وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين. وهي قريبة من (مَرْعش) من بلاد أرمينية، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين، فكان من أهل (أبسُس) نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام.
وكانوا في زمن الأنبراطور (دوقيوس) ويقال (دقيانوس) الذي ملك في حدود سنة 237. وكان ملكه سنة واحدة. وكان متعصباً للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانيّة، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية. وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له (بنجلوس) فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله. ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومةً فظنهم أتباعُ الملك أمواتاً. وقد قيل: إنه أمر أن تُسد فوهة كهفهم بحائط، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم. ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة، وكان انبعاثهم في مدة مُلك (ثاوذوسيوس) فيصر الصغير، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة.
ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم وأرسلوا أحدهم إلى المدينة، وهي (أبسس)، بدراهم ليشتري لهم طعاماً. فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال. وتسامَع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفةٍ وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم، وكانت آية تأيّد بها دين المسيح.
والذي في «كتاب الطبري» أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة (أريوس) و(أطيوس) ومن معهما من أهل المدينة، وقيل لما شاهدهم الناس كتبَ واليا المدينة إلى ملك الروم، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد. ولم يذكروا هَلْ نُفّذ بناء المسجد أو لم ينفذ. ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك. ولعله قد انهدم بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين في أقطار الأرض كثيرة. وفي جنوب القطر التونسي موضع يُدعى أنه الكهف. وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقاداً بأن أهل الكهف كانوا سبعة. وستعلم مثار هذه التوهمات.
وفي «تفسير الألوسي» عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزو المَضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فقال معاوية: لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك مَن هو خير منك، فقال:
{لو اطلعتَ عليهم لوليتَ منهم فراراً} [الكهف: 18] فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالاً وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة: أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام. فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
وفي تفسير الفخر} عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم: «أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال: وعرفت أنه تمويه واحتيال، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره» ا ه.
وقوله: (فسافر إلى الروم) مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة (أفسوس) بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفاً، فإن بلد (أفسس) في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية، ولذلك قال بعض المؤرخين: إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه، أما مدينة (أبسس) بالباء الموحدة فقد كانت حينئذٍ من جملة مملكة الإسلام.
قال ابن عطية: «وبالأندلس في جهة (أغرناطة) بقرب قرية تسمى (لُوشة) كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجدْ مِن علم شأنهم أثارةً، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتُهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق (كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة) وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حَزنة، وبأعلى حَضرة (أغرناطة) مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة (دقيوس) وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها» ا ه.
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض.
وللكهوف ذكر شائع في اللوْذ إليها والدفن بها.
وقد كان المتنصرون يُضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها. ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيراً ما يستصحبون معهم كلباً ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها.
وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف. ويوجد مكان بأرض سُكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبراً عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته، وبُني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم.
قال السهيلي في «الروض الأنف»: وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا ه. وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} في سورة الإسراء (85).
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}
(إذ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده، وهو متعلق ب {كانوا} [الكهف: 9] فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.
ويجوز كون الظرف متعلقاً بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافاً بيانياً للجملة التي قبلها. وأياً ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيهاً على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييداً لهم لأجل إيمانهم، فلذلك عطف عليه قوله: فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة}.
وأوى أُوِياً إلى المكان: جعله مسكناً له، فالمكان: المَأْوَى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} في سورة يونس (8).
والفتية: جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية: أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف.
ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.
ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {من لدنك} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.
و (من) في قوله: {من أمرنا} ابتدائية.
والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً، وأن أنامهم نوماً طويلاً ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصوراً متبعاً، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.
والرَّشد بفتحتين: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرُشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرَّشَد. وغلب في حسن تدْبير المال. لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} في البقرة (256)، وقوله: {فإن آنستم منهم رشداً} في سورة النساء (6) فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء.
ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف: 24]: أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل؛ ألا ترى أن الجمهور قرؤوا قوله في هذه السورة: {على أن تعلمني مما علمت رشدا} [الكهف: 66] بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي {من لدنا علماً} [الكهف: 65] {معي صبراً} [الكهف: 67] {ما لم تحط به خُبرا} [الكهف: 68] {ولا أعصي لك أمراً} [الكهف: 69] إلى آخره. ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}
تفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم. بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم، وأيد بذلك أنهم على الحق، وأرى الناس ذلك بعد زمن طويل.
وإما على جملة {إذ أوى الفتية} [الكهف: 10] الخ فيؤذن بأن الله عجَل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم.
والضرب: هنا بمعنى الوضع، كما يقال: ضرب عليه حجاباً، ومنه قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة} [البقرة: 61]، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26].
وحذف مفعول ضربنا} لظهوره، أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائلاً عن السمع، كما يقال: بنَى على امرأته، تقديره: بنى بيتاً. والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان.
وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز.
و {عدداً} نعتُ {سنين}. والعدد: مستعمل في الكثرة، أي سنين ذات عدد كثير. ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة: فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد» تريد الكثيرة. وقد أجمل العدد هنا تبعاً لإجمال القصة.
والبعث: هنا الإيقاظ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع. كما يُبعث البعير من مَبركه. وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلاً على إمكان البعث وكيفيته.
والحزب: الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد، فالحزبان فريقان: أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم. فقيل: هما فريقان من أهل الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثتم} [الكهف: 19]. وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحداً والآخرون شاكين، وبعيد أيضاً من فعل أحصى} لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمناً قليلاً. فالوجه: أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم، أحد الفريقين مصيب والآخر مخطئ، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ، فهما فريقان في جانبي صواب وخطأ كما دل عليه قوله: {أحصى}.
ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم الآية [الكهف: 19].
وجُعل حصول علم الله بحال الحزبين علةً لبعثِهِ إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم عِلْمَ الواقعات، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} في أول السورة الكهف (7).
وأحصى} يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً، أن يكون اسم تفضيل مصوغاً من الرباعي على خلاف القياس. واختار الزمخشري في «الكشاف» تبعاً لأبي علي الفارسي الأول تجنباً لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته. واختارَ الزجاج الثاني. ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياساً فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن.
فالوجه، أن {أحصى} اسم تفضيل، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة. والمعنى: لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاءً، أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريباً ورجماً بالغيب. وذلك هو ما فصله قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة} [الكهف: 22] الآية.
ف (أي) اسم استفهام مبتدأ وهو معلق لفعل لنعلم} عن العمل، {وأحصى} خبر عن (أي) و{أمداً} تمييز لاسم التفصيل تمييزَ نسبة، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله: {أنا أكثر منك مالاً} [الكهف: 34]. ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولاً عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول: أفضل أمده، إذ التحويل أمر تقديري يقصد منه التقريب.
والمعنى: ليظهرَ اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال خرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)}
لما اقتضى قوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجماً بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يُشك في صدق خبره كانت جملة نحن نقص عليك نبأهم بالحق استئنافاً بيانياً لجملة لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً [الكهف: 12].
وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها. وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة نحن نقص عليك} يفيد الاختصاص، أي نحن لا غيرُنا يقص قصصهم بالحق.
والحق: هنا الصدق. والصدق من أنواع الحق، ومنه قوله تعالى: {حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق} في سورة الأعراف (105).
والباء للملابسة، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات.
والقصص: سَرد خبر طويل فالإخبارُ بمخاطبة مفرقة ليس بقصص، وتقدم في طالع سورة يوسف.
والنبأ: الخبر الذي فيه أهمية وله شأن.
وجملة إنهم فتية} مبينة للقصص والنبأ. وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار.
وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هُدى الإيمان المعلوم من قوله: {آمنوا بربهم} بفتح بصايرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان.
ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17].
والزيادة: وفرةُ مقدار شيء مخصوص، مثل وفرة عدد المعدود، ووزن الموزون، ووفرة سكان المدينة.
وفعل (زاد) يكون قاصراً مثل قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147]، ويكون متعدياً كقوله: {فزادهم الله مرضاً} [البقرة: 10]. وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا.
والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده. كما قال تعالى: {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} [القصص: 10]. ومنه قولهم: هو رابط الجأش. وفي ضده يقال: اضطرب قلبه، وقال تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10]. استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء.
وتعدية فعل ربطنا} بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل.
و {إذ قاموا} ظرف للربط، أي كان الربط في وقت في قيامهم، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارناً لربط الله على قلوبهم، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول.
والقيام يحتمل أن يكون حقيقياً، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك. ويحتمل أن يكون القيام مستعاراً للإقدام والجَسْر على عمل عظيم، وللاهتمام بالعمل أو القول، تشبيهاً للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما، كقول النابغة:
بأن حِصْناً وحياً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود.
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم: إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات، وإما لأن الله لم يكن معروفاً باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو (جوبتير) الممثل في كوكب المشتري، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة. وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء: 23 24].
هذا إن كان القول مَسوقاً إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون {لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون} [الشعراء: 50]، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالاً لطائرهم على طريقة التعريض من باب (إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة)، واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم. وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته، ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم، بخلاف الإسناد في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم} [الكهف: 19] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقاً آخر، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم، ويكون قوله: رب السماوات والأرض} خبر المبتدأ إعلاماً لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة {لن ندعوا} استئنافاً. وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيداً لقوله: {وإذ اعتزلتموهم} [الكهف: 16] الخ. فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم، ولأنها تتضمن تشريفاً لأنفسهم، ويكون قوله: رب السماوات والأرض} صفةً كاشفة، وجملة {لن ندعوا من دونه إلهاً} خبرَ المبتدأ.
وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال.
وجملة {لقد قلنا إذاً شططاً} استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بِ (لن). وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها. واللام للقسم.
والشطط: الإفراط في مخالفة الحق والصواب. وهو مشتق من الشط، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في شيء مكروه، أي لقد قلنا قولاً شططاً، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله.
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}
استئناف بياني لما اقتضته جملة {لقد قلنا إذا شططاً} [الكهف: 14] إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنزيل غير السائل منزلة السائل.
وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله: دونه} العائد إلى {ربنا} [الكهف: 14].
والإشارة إلى قومهم ب هؤلاء} لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم. وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم، وهو من لوازم قصد التمييز.
وجملة {اتخذوا} خبر عن اسم الإشارة، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر.
ومعنى {من دونه} من غيره، و(من) ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله، وكان قومهم يومئذٍ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله.
وجملة {لولا يأتون عليهم بسلطان بين} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم.
و (لولا) حرف تحْضيض. حقيقتهُ: الحثّ على تحصيل مدخولها. ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذراً بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم.
ومعنى {عليهم} على آلهتهم، بقرينة قوله: {اتخذوا من دونه آلهة}.
والسلطان: الحجة والبرهان.
والبين: الواضح الدلالة. ومعنى الكلام: إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ، ولذلك فرع عليه جملة {فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً}.
و (مَن) استفهامية، وهو إنكار، أي لا أظلمُ ممن افترى. والمعنى: أنه أظلم من غيره. وليس المراد المساواة بينه وبين غيره، كما تقدم في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114].
والمعنى: أن هؤلاء افتروا على الله كذباً، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطاباً لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم: هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائراً بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة.
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)}
يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة. وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعِواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر. ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضاً، وهو ضرب من الالتفات. فعلى الوجه الأول يكون فعل {اعتزلتموهم} مستعملاً في إرادة الفعل مثل {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضاً. وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص.
و إذ للظرفية المجازية بمعنى التعليل.
والاعتزال: التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء، فمعنى اعتزال القوم ترك مخالطتهم. ومعنى اعتزال ما يعبدون: التباعد عن عبادة الأصنام.
والاستثناء في قوله: إلا الله} منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم.
والفاء للتفريع على جملة {وإذ اعتزلتموهم} باعتبار إفادتها معنى: اعتزلتم دينهم اعتزالاً اعتقادياً، فيقدر بعدها جملة نحو: اعتزلوهم اعتزالَ مفارقة فأوُوا إلى الكهف، أو يقدر: وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف. وجوز الفراء أن تضمن (إذْ) معنى الشرط ويكون {فأووا} جوابها. وعلى الشرط يتعين أن يكون {اعتزلتموهم} مستعملاً في إرادة الاعتزال.
والأوْيُ تقدم آنفاً، أي فاسكنوا الكهف.
والتعريف في {الكهف} يجوز أن يكون تعريف العهد، بأن كان الكهف معهوداً عندهم يتعبدون فيه من قبل. ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف: 13]، أي فأووا إلى كهف من الكهوف. وعلى هذا الاحْتمال يكون إشارة منهم إلى سُنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك.
ونشر الرحمة: توفر تعلقها بالمرحومين. شبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في أنه لا يُبقي من الثوب شيئاً مخفياً، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطيّ وبالقبض.
والمَرفق بفتح الميم وكسر الفاء: ما يرتفق به وينتفع. وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون.
وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية، تشبيهاً بتهيئة القرى للضيف المعتنى به. وجزم ينشر} في جواب الأمر. وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء. وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين.
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}
{وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ}.
عطف بعض أحوالهم على بعض. انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً} [الكهف: 16]. وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم.
والخطاب لغير معين. والمعنى: يَرى مَن تُمكنه الرؤيةُ. وهذا كثير في الاستعمال، ومنه قول النابغة:
ترى عافيات الطير قد وثقت لها *** بشبع من السُخل العتاق الأكايل
وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض {فأووا إلى الكهف} [الكهف: 16] أنهم أووا إليه. والتقدير: فأخذوا بنصيحته فأووا إلى الكهف. ودل عليه قوله في صدر القصة {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف: 10] فرُد عجزُ الكلام على صدره.
وتزاور} مضارع مشتق من الزور بفتح الزاي، وهو المَيل. وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو. وأصله: تتزاور بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفاً.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الزاي على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة. وقرأه ابن عامر ويعقوب {تزور} بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء بوزن تَحْمَرُّ. وكلها أبنية مشتقة من الزَوَر بالتحريك، وهو الميل عن المكان، قال عنترة:
فازورّ من وقع القنَا بلبَانِه ***
أي مال بعض بدنه إلى بعض وانقبض.
والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم.
و {تقرضهم} أي تنصرف عنهم. وأصل القَرْض القطع، أي أنها لا تطلع في كهفهم.
و {ذات اليمين وذات الشمال} بمعنى صاحبة، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام، أي الجهة صاحبة اليمين. وتقدم الكلام على {ذات} عند قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} في سورة الأنفال (1).
والتعريف في اليمين}، و{الشمال} عوض عن المضاف إليه، أي يمين الكهف وشماله، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحاً إلى الشمال الشرقي، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتُها، وإذا غربتْ كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حينَ طلوعها.
وهذا وضع عجيب يسّره الله لهم بحكمته ليكون داخلُ الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البِلى أجسادَهم، وذلك من آيات قدرة الله.
والفجوة: المتسع من داخل الكهف، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف. وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو.
{ذلك مِنْ ءَايَاتِ الله}
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور من قوله: {وترى الشمس}.
وآيات الله: دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق.
والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها.
والإشارةُ للتعظيم.
استئناف بياني لما اقتضاه اسمُ الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابِها.
وعموم (مَن) الشرطية يشمل المتحدَث عنهم بقرينة المقام. والمعنى: أنَهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى، تنبيهاً على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهُدى، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم، ورزقهم أفهاماً تؤمن بالحق. وقد تقدم الكلام على نظير {من يهد الله فهو المهتد}، وعلى كتابة {المهتد} بدون ياء في سورة الإسراء.
والمرشد: الذي يُبين للحيران وجه الرشد، وهو إصابة المطلوب من الخير.
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال}
عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله: {وترى الشمس} [الكهف: 17]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس.
ومعنى حسبانهم أيقاضاً: أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل: كانت أعينهم مفتوحة.
وصيغ فعل تحسبهم} مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة.
والأيقاظ: جمع يَقِظ، بوزن كتف، وبضم القاف بوزن عَضُد.
والرقود: جمع راقد.
والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} [الكهف: 42].
وذات اليمين وذات الشمال} أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى: أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.
{وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد}
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب.
والوصيد: مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال: إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه.
{لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}
الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.
والمعنى: لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق، كما قال تأبط شراً:
أقولُ للَحْيَاننٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم، كقوله تعالى: {نكرهم وأوجس منهم خيفة} [هود: 70]. وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود}.
والاطلاع: الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي ب (على)، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى:
{أطلع الغيب} في سورة مريم (78)، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء. وفي الكشاف} عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح.
وانتصب {فراراً} على المفعول المطلق المبين لنوع {وليت.
ومُلّئتَ} مبني للمجهول، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرئ بهما.
والمَلْء: كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومُثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله: {ملّئت} استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} [القصص: 10].
وانتصب رعباً} على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً. وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادئ الرأي.
والرعب تقدم في قوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} في سورة آل عمران (151).
وقرأ نافع وابن كثير ولَمُلِّئْتَ} بتشديد اللام على المبالغة في الملء، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل.
وقرأ الجمهور {رعباً} بسكون العين. وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين.
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم {رب أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260].
والإشارة بقوله: وكذلك} إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قروناً بعثناهم. ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143].
وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله: ليتساءلوا} عند قوله: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12]. والمعنى: بعثناهم فتساءلوا بينهم.
وجملة قال قائل منهم} بيان لجملة {ليتساءلوا}. وسميت هذه المحاورة تساؤلاً لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة. والذين قالوا: {لبثنا يوماً أو بعض} هم مَن عدا الذي قال: {كم لبثتم}.
وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم: إما لأنهم تواطؤوا عليه، وإما على إرادة التوزيع، أي منهم من قال: لبثنا يوماً، ومنهم قال: لبثنا بعض يوم. وعلى هذا يجوز أن تكون (أو) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم. فالقائلون {ربكم أعلم بما لبثتم} يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر. ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صواباً.
وتفريع قولهم: {فابعثوا أحدكم} على قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لكان قولهم: {فابعثوا أحدكم} عين الأسلوب الحكيم.
والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ: الفضة. وكذلك قرأه الجمهور. ويقال وَرْق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبوعمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ورَوح عن يعقوب وخلف. والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة، وهي الدراهم قيل: كانت من دراهم (دقيوس) سلطان الروم.
والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم، والمدينة هي (أبْسُسْ) بالباء الموحدة. وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة.
و {أيها} ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاماً، أي أزكى طعامُه من طعام غيره.
وانتصب {طعاماً} على التمييز لنسبة (أزكى) إلى (أي).
والأزكى: الأطْيب والأحسن، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع.
والرزق: القوت. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه} في سورة يوسف (37)، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.
وصيغة الأمر في قوله: فليأتكم} و{ليتلطف} أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معيناً بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي. وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك.
قيل التاء من كلمة {وليتلطف} هي نصف حروف القرآن عَدًّا. وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى: {لقد جئت شيئاً نكراً} [الكهف: 74] هي نصف حروف القرآن.
والإشعار: الإعلام، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعوراً، أي علم. فالهمزة للتعدية مثل همزة أعلم} من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد.
وقوله: {بكم} متعلق ب {يُشعِرَنَّ}. فمدخول الباء هو المشعور، أي المعلوم. والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل {يشعرن} من قبيل تعليق الحكم بالذات، والمراد بعض أحوالها. والتقدير: ولا يخبرن بوجودكم أحداً. فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك. والنون لتوكيد النهي تحذيراً من عواقبه المضمنة في جملة {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} الواقعة تعليلاً للنهي، وبياناً لوجه توكيد النهي بالنون، فهي واقعة موقع العلة والبيان، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها.
وجملة {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم.
وضمير {إنهم} عائد إلى ما أفاده العموم في قوله: {ولا يشعرن بكم أحداً}، فصار {أحداً} في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي.
والظهور أصله: البروز دون ساتر. ويطلق على الظفر بالشيء، وعلى الغلبة على الغير، وهو المراد هنا.
قال تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31] وقال: {وأظهره الله عليه} [التحريم: 3] وقال: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} [البقرة: 85].
والرجم: القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب.
وجملة {يرجموكم} جواب شرط {إن يظهروا عليكم}. ومجموع جملتي الشرط وجوابه دليل على خبر (إن) المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه.
ومعنى {يعيدوكم في ملتهم} يرجعوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم.
والملة. الدين. وقد تقدم في سورة يوسف (37) عند قوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله.} وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل، لما دلت عليه حرف (إذاً) من الجزائية.
وأبداً} ظرف للمستقبل كله. وهو تأكيد لما دل عليه النفي ب (لن) من التأبيد أو ما يقاربه.
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا}.
انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرَةِ أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم باطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطرِيقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره.
وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان.
فالكلام عطف على قوله: {وكذلك بعثناهم} [الكهف: 19] الآية.
والقول في التشبيه والإشارة في وكذلك} نظيرُ القول في الذي قبله آنفاً.
والعثور على الشيء: الاطلاع عليه والظفَر به بعد الطلب. وقد كان الحديث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله: {ليعلموا أن وعد الله حق} الآية.
ومفعول {أعثرنا} محذوف دل عليه عموم {ولا يشعرن بكم أحداً} [الكهف: 20]. تقديره: أعثرنا أهل المدينة عليهم.
وضمير ليعلموا} عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور.
ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث. وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها، أي ساعة الحشر، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق.
الظرف متعلق ب {أعثرنا}، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم. وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم. وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى: {أمرهم} فضمير {يتنازعون} و{بينهم} عائدان إلى ما عاد الله ضمير {ليعلموا}.
وضمير {أمرهم} يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف. والأمر هنا بمعنى الشأن.
والتنازع: الجدال القوي، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف، مثل: أكانوا نياماً أم أمواتاً، وأيبقون أحياء أم يموتون، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة، وفي مدة مكثهم.
ويجوز أن يكون ضمير {أمرهم} عائداً إلى ما عاد عليه ضمير {يتنازعون}، أي شأنهم فيما يفعلونه بهم.
والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع.
طوي هنا وصف العثور عليهم، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي.
وتفريع {فقالوا} على {يتنازعون}.
وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنياناً لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناءً يمكن غلق بابه وحراسته.
وجملة {ربهم أعلم بهم} يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا، ابنوا عليهم بنياناً.
والمعنى: ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم. ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه.
والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة، فضمير {أمرهم} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {فقالوا}، أي الذين غلبوا على أمر القائلين: ابنوا عليهم بنياناً.
وإنما رأوا أن يكون البناء مسجداً ليكون إكراماً لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم. وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبرُه»، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة.
واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها منهي عنه، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيهٌ بفعل من يعبدون صالحي ملتهم. وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميّت. وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية، فإن كان شرعاً لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر.
{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}
{سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصاً، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل عَلَم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.
وضمير «يقولون» عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نُبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه. ومعنى سين الاستقبال سارٍ إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.
وقد أعلم الله أن قليلاً من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك. وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم. وروي أن ابن عباس قال: أنا من القليل.
وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمناً بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجماً بالغيب.
والرجم حقيقته: الرمي بحجر ونحوه. واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، قال زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجم
والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به.
وكل من جملة {رابعهم كلبهم} وجملة {سادسهم كلبهم} في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف.
وجملة {وثامنهم كلبهم} الواو فيها واو الحال، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ، وهو وإن كان نكرة فإن وقوعه خبراً عن معرفةٍ أكسبه تعريفاً. على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة. ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في «الكشاف» لأنه غير معروف في فصيح الكلام: وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد.
ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم: إن هذه الواو واو الثمانية، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعَفة النحاة ولم يُعين مبتكره. وقد عد ابن هشام في «مغني اللبيب» من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين.
قلت: أقدمُ هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة. وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في «الانتصاف على الكشاف» من سورة التحريم إذ روى عن ابن الحاجب: أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {ثيبات وأبكارا} في سورة التحريم (5) هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية. وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة، أحدها: التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} في سورة براءة (112). والثانية: في قوله: وثامنهم كلبهم}. والثالثة: في قوله: {وفُتِّحَتْ أبوابها} في الزمر (73). قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكَره يوماً بحَضرة أبي الجُود النحوي المُقْري؛ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره.
وقال في المغني}: سبق الثعلبي الفاضلَ إلى عدها من المواضع في تفسيره. وأقول: لعل الفاضل لم يطلع عليه. وزاد الثعلبي قوله تعالى: {سبع ليال وثمانية أيام حسوما} في سورة الحاقة (7) حيث قرن اسم عدد (ثمانية) بحرف الواو.
ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاقٌ بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدوداً بعدد الثمانية كما في آية الزمر. ولقد يعدُّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعارف. وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضللِ منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصُوفين، وكذلك لعد الثعلبي آية سورة الحاقة؛ ومثل هذه اللطائف كالزهرةُ تُشم ولا تحك.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} في سورة براءة (112).
وجملة قل ربي أعلم بعدتهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً لما تثيره جملة {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم. فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب. وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.
وجملة {ما يعلمهم إلا قليل} كذلك مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا: هل يكون بعض الناس عالماً بعدتهم علماً غير كامل، فأجيب بأن قليلاً من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.
تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى. وهذا التفريع وما عطف عليه مُعترض في أثناء القصة.
والتماري: تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك. واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة. والمراد بالمراء فيهم: المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.
والمراء الظاهر: هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه. وذلك مثل قوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل}، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايتهِ لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.
والاستفتاء: طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد. ومعنى {فيهم} أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف. والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير {منهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {سيقولون ثلاثة}، وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف.
أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يُعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون (من) تعليلية، والضمير المجرور بها عائداً إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علِمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه. وفي التقييد ب {منهم} مُحترز ولا يستقيم جعل ضمير {منهم} عائداً إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنِّى فَاعِلٌ ذلك غَداً} {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}.
عطف على الاعتراض. ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم: أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يَقُل " إن شَاءَ الله " فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشرَ يوماً. وقيل: بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتاباً رمزياً من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري: " أن سليمان قال: لأطوفَنّ الليلة على مائة امرأة تَلِد كل واحدة ولداً يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شِقّ غلام ". ثم كان هذا عتاباً صريحاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول: «إن شاء الله» كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يَعِد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.
وقوله: {إلا أن يشاء الله} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله. وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي، أي هو استثناء من حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل الخ... إلا أن يشاء الله أن تقوله. ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله. وعليه فالمصدر المسبك من {أن يشاء الله} مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى، ومفعول {يشاء الله} محذوف دل عليْه ما قبله كما هو شأن فِعل المشيئة والتقدير: إلا قولاً شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله.
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة {إني فاعل ذلك غداً}، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه، أيْ إلا قولاً مقترناً ب (إن شاء الله) فيكون المصدر المنسبك من (أن) والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة. والتقدير: إلا ب (إن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ (إن شاء الله) ونحوهِ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له.
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:
الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوءة.
الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناساً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم. ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: " سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا ". فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم: أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئاً، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً.
فنظم الآية أن اللام في قوله: {لشيء} ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به، فاللام بمنزلة (في).
و «شيء» اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي لشيء تريد أن تفعله.
والإشارة بقوله: {ذلك} عائدة إلى «شيء». أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.
و {غداً} مستعمل في المستقبل مجازاً. وليست كلمة (غداً) مراداً بها اليوم الذي يلي يَومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال، والأمسُ بمعنى زمن الماضي. وقد جمعها قول زهير:
وأعلمُ عِلم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إلا أن يشاء الله} حَلاً لعقد اليمين يُسقط وجوب الكفارة. ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك} الخ: بحيث إذا أُعقبت اليمينُ بقول (إلا أن يشاء الله) ونحوه لم يلزم البر في اليمين. وروى ابن القاسم وأشهب وابنُ عبد الحكم عن مالك أن قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل} الخ.. إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء. يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنّة. ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين، وهي قول (إن شاء الله). وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.
عطف على النهي، أي لا تَعِدْ بوعد فإن نسيتَ فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه.
والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذُكر بضم الذال، وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أفْضَلُ من ذكر الله باللسان ذِكْرُ الله عند أمره ونهيه».
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى.
وحُذف مفعول {نسيت} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل. وبعض الذين أعْملوا آية {إلا أن يشاء الله} في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة. وعن ابن عباس: لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا. والجمهور على أن قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه.
لما أبر الله وعَد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليْه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجارَاتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمَره أن يذكر نهي ربه. ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم. والمعنى: وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً.
فجملة {وقل عسى أن يهدين} الخ... معطوفة على جملة {فلا تمار فيهم} [الكهف: 22]. ويجوز أن تكون جملة وقل عسى أن يهدين ربي} عطفاً على جملة {واذكر ربك إذا نسيت}، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً، أي ادع الله بهذا.
وانتصب {رشداً} على تمييز نسبة التفضيل من قوله: {لأقرب من هذا}. ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل {أن يهدين} لأن الرشد نوع من الهداية.
ف {عسى} مستعملة في الرجاء تأدباً، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها.
ويجوز أن يكون المعنى: وارجُ من الله أن يهديك فيُذكرك أن لا تَعِد وعداً ببيان شيء دون إذن الله.
والرّشَد بفتحتين: الهدى والخير. وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة {وهيء لنا من أمرنا رشداً} [الكهف: 10].
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}
رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله: {فلا تمار فيهم} إلى قوله: {رشداً} [الكهف: 22 24].
فيجوز أن تكون جملة ولبثوا} عطفاً على مقولهم في قوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} [الكهف: 22] أي ويقولون: لبثوا في كهفهم، ليكون موقع قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] كموقع قوله السابق {قل ربي أعلم بعدتهم} [الكهف: 22]، وعليْه فلا يكون هذا إخباراً عن مدة لبثهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ وقالوا لبثوا في كهفهم} إلى آخره، فذلك تفسير لهذا العطف.
ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها. والتقدير: وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسعَ سنين.
وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] كما سيأتي. ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم، وأن المراد لبثُهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} [الكهف: 19]، وقد قدمنا عند قوله تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم} [الكهف: 9] الخ... أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة. وقيل: المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية.
والمعنى: أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين. فعُبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع، ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم. قال السهيلي في الروض الأنف}: النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به. وأقول: واليهود الذين لَقّنوا قريشاً السؤالَ عنهم يؤرخّون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية، فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيةً، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسيةٍ بثلاث سنين زائدة قمرية. كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر. وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد. وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.
وقرأ الجمهور {ثلاث مائةٍ} بالتنوين. وانتصب {سنين} على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوباً، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة. وقد جاء تمييز المائة جمعاً، وهو نادر لكنه فصيح.
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}
إن كان قوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم} [الكهف: 25] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله: قل الله أعلم بما لبثوا} قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم.
وإن كان قوله: {ولبثوا} حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} [الكهف: 22].
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم. واللام في له} للملك. وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص، أي لله لا لغيره، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم.
و {أبصر به وأسمع} صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد.
وضمير الجمع في قوله: {ما لهم من دونه من ولي} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول (من) الزائدة على النكرة المنفية.
وكذلك قوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه.
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {قل الله أعلم}. وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و{يشرك} على أن (لا) ناهية. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه.
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها.
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}
عطف على جملة {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] بما فيها من قوله: {ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26].
والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ كانوا أيامئذٍ لا يُبَيّن لهم شيء إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر فسألوا عن أهل الكهف وعن ذي القرنين، وطلبوا من النبي أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم، ونحو ذلك، كما تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً} في سورة الإسراء (73). ”
والمعنى: لا تَعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعضضِ ما أوحي إليك واتلُ جميع ما أوحي إليك فإنه لا مبدِّل له. فلما وعدهم الجواب عن الروح وعن أهل الكهف وأبرَّ اللّهُ وعدَه إياهم قطعاً لمعذرتهم ببيان إحدى المسألتين ذيل ذلك بأن أمر نبيئه أن يقرأ القرآن كما أنزل عليه وأنه لا مبدِّل لكلمات الله، ولكي لا يُطمعهم الإجابة عن بعض ما سألوه بالطمع في أن يجيبهم عن كل ما طلبوه.
وأصل النفي ب (لا) النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه. والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله.
والتبديل: التغيير بالزيادة والنقص، أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم. وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله: {سيقولون ثلاثة} [الكهف: 22] وقوله: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين} [الكهف: 25].
وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {ولا مبدل لكلمات الله} في سورة الأنعام (34).
فالأمر في قوله: {واتل} كناية عن الاستمرار. و{ما أوحي} مفيد للعموم، أي كل ما أوحي إليك. ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه، وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطراً من التصويب.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} في سورة البقرة (102) وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} في الأنفال (2).
والملتحد: اسم مكان ميمي يجيء على زنة اسم المفعول من فِعله. والملتحد: مكان الالتحاد، والالتحاد: الميل إلى جانب. وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تكلف الميل. ويفهم من صيغة التكلف أنه مفر من مكروه يتكلف الخائف أن يأوي إليه، فلذلك كان الملتَحد بمعنى الملجأ. والمعنى: لن تجد شيئاً يُنجيك من عقابه. والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}
{واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}.
هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف، فهو مشارك لقوله: {واتل ما أوحى إليك من كتاب} [الكهف: 27]. الآية وتقدم في سورة الأنعام (52) عند قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتَوْا إلى مجالسة النبي واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليْه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة.
وما هنا آكدُ إذْ أمرَه بملازمتهم بقوله: واصبر نفسك}، أي احبسها معهم حبس ملازمة. والصبر: الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المَصْبورة وهي الدابة تشد لتُجعل غَرضاً للرمي. ولتضمين فعل (اصبر) معنى الملازمة علق به ظرف (مع).
و {الغداة} قرأه الجمهور بألف بعد الدال: اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعَشي: المساء. والمقصود أنهم يدعون الله دعاءً متخللاً سائر اليوم والليلة. والدعاء: المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات.
والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة. وقرأ ابن عامر {بالغَدْوَةِ} بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة وهو مرادف الغداة.
وجملة {يريدون وجهه} في موضع الحال. ووجه الله: مجاز في إقباله على العبد.
ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم.
وظاهر {ولا تعد عيناك عنهم} نَهْي العينين عن أن تَعْدُوَا عن الذين يدعون ربهم، أي أن تُجاوزاهم، أي تبعُدَا عنهم. والمقصود: الإعراض، ولذلك ضمن فعل العَدْو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول ب (عن) وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال: عداه، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى: ولا تعدّي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع.
وجملة {تريد زينة الحياة الدنيا} حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت.
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة.
هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تُجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم
وما صدق (مَن) كل من اتصف بالصلة، وقيل نزلت في أمية بن خَلَف الجُمَحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة قريش.
والمراد بإغفال القلب جعله غافلاً عن الفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك، فإن ذلك ناشئ عن خلقة عقول ضيفة التبصر مسوقة بالهوى والإلف.
وأصل الإغفال: إيجاد الغفلة، وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة خاصة، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خِلقة تلك القلوب، وما بالطبع لا يتخلف.
وقد اعتضد هذا المعنى بجملة {واتبع هواه}، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول، فالغفلة خلقة في قلوبهم، واتباع الهوى كسب من قدرتهم.
والفُرُط بضمتين: الظلم والاعتداء. وهو مشتق من الفُروط وهو السبق لأن الظلم سبْق في الشر.
والأمر: الشأن والحال.
وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}
بعد أن أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يفتلونه من مقترحاتهم وتعريضٌ بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله، وأنه مبلغه بدون هوادة، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه.
و {الحق} خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام، أي هذا الحق. والتعبير ب {ربكم} للتذكير بوجوب توحيده.
والأمر في قوله: {فليؤمن} وقوله: {فليكفر} للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد.
وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه.
وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى (من) الموصولة في الموضعين.
وفعل «يؤمن، ويكفر» مستعملان للمستقبل، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه.
وجملة {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل: فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم.
والمراد بالظالمين: المشركون قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
وتنوين ناراً} للتهويل والتعظيم.
والسرادق بضم السين قيل: هو الفسطاط، أي الخيمة. وقيل: السرادق: الحُجزة بضم الحاء وسكون الزاي، أي الحاجز الذي يكون محيطاً بالخَيمة يمنع الوصول إليها، فقد يكون من جنس الفسطاط أديماً أو ثوباً وقد يكون غير ذلك كالخندق. وهو كلمة معربة من الفارسية. أصلها (سراطاق) قالوا: ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان. والسرادق: هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار، وأثبت لها سُرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم. وشمل {يستغيثوا} الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئاً يُبرد عليهم، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلاً، كما في آية الأعراف {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء} [الأعراف: 50]. والاستغاثة من شدة العطش الناشئ عن الحر فيسألون الشراب. وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله: يشوي الوجوه بئس الشراب}.
والإغاثة: مستعارة للزيادة مما استغيث مِن أجله على سبيل التهكم، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
والمُهل بضم الميم له معاننٍ كثيرة أشبهها هنا أنه دُردي الزيت فإنه يزيدها التهاباً قال تعالى:
{يوم تكون السماء كالمهل} [المعارج: 8].
والتشبيه في سواد اللوْن وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة، ولذلك عقب بقوله: يشوي الوجوه} وهو استئناف ابتدائي.
والوجه أشد الأعضاء تألماً من حر النار قال تعالى: {تلفح وجوههم النار} [المؤمنون: 104].
وجملة بئس الشراب} مستأنفة ابتدائية أيضاً لتشنيع ذلك المَاء مشروباً كما شُنع مغتسَلاً. وفي عكسه الماءُ الممدوح في قوله تعالى: {هذا مغتسل بارد وشراب} [ص: 42].
والمخصوص بذم بئس} محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: بئس الشراب ذلك الماء.
وجملة {وساءت مرتفقاً} معطوفة على جملة {يشوي الوجوه}، فهي مستأنفة أيضاً لإنشاء ذم تلك النار بما فيها.
والمرتفق: محل الارتفاق، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المِرْفَققِ وهو مجمع العضد والذراع. سمي مرفقاً لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكئ عليه. فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد، ثم اشتق منه المُرتفق. فالمرتفق هو المُتكأ، وتقدم في سورة يوسف.
وشأن المرتفَق أن يكون مكان استراحة، فإطلاق ذلك على النار تهكم، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة، وكما أطلق لى مكانهم السرادق.
وفعل (سَاء) يستعمل استعمالَ (بئس) فيَعمَل عمل (بئس)، فقوله: {مرتفقاً} تمييز. والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله: {بئس الشراب}.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مراعى فيه حال السامعين من المؤمنين، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلِموا أن عملهم مرعي عند ربهم. وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد إن) لتحقيق مضمونها. وإعادةُ حرف (إن) في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق كقوله تعالى في سورة الحج (17) {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} وقوله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} [الجمعة: 8] ومثله قول جرير:
إن الخليفة إن الله سَرْبله *** سِربال مُلك به تُزجَى الخواتيمُ
وموقع (إن) الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكماً يعم ما وقعت خبراً عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخلاف بيت جرير.
وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طولُ الفصل حرف التأكيد حرصاً على إفادة التأكيد.
والإضاعة: جعل الشيء ضائعاً. وحقيقة الضيعة: تلف الشيء من مظنة وجوده. وتطلق مجازاً على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف، قال تعالى: {أني لا أضيع عَمَل عامل منكم} في سورة آل عمران (195)، وقال: {وما كان الله ليُضِيع إيمانكم} في البقرة (143). ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيهاً للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية، أي أنا لا نَحْرم من أحسن عملاً أجرَ عمله. ومنه قوله تعالى: {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما يبين هذا الأجر.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسممِ الإشارة، وهي كونهم آمنوا وعملوا الصالحات.
واللام في {لهم جنات عدن} لام الملك. و(من) للابتداء، جعلت جهة تحتهم مَنْشأ لجري الأنهار. وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} في سورة براءة (72).
وعدن} تقدم في قوله تعالى: {ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة (72).
ومن تحتهم}، بمنزلة {من تحتها} لأنّ تحت جناتهم هو تحتٌ لهم.
ووجه إيثار إضافة (تحت) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقرارات لمضمونه، وهي: التأكيد مرتين، وذكرُ اسم الإشارة. ولام الملك، وجر اسم الجهة ب (مِن)، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم، والمقصود من ذلك: التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر.
وجملة {يحلون} في موضع الصفة «لجنات عدن».
والتحلية: التزيين، والحلية: الزينة.
وأسند الفعل إلى المجهول، لأنهم يجدون أنفسهم محلَّين بتكوين الله تعالى.
والأساور: جمع سِوار على غير قياس. وقيل: أصله جمع أسورة الذي هو جمع سِوار. فصيغة جَمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت.
و (مِن) في قوله: {من أساور} مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش، وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات.
والسِوار: حلي من ذهب أو فضة يُحيط بموضع من الذراع، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية (دستوارَه) بهاء في آخره كما في «كتاب الراغب»، وكُتب بدون هاء في «تاج العروس».
وأما قوله: {من ذهب} فإن (من) فيه للبيان، وفي الكلام اكتفاء، أي من ذهب وفضة كما اكتفي في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله: {وحلوا أساور من فضة} [الإنسان: 21]، ولكل من المعدنين جماله الخاص.
واللِباس: ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل.
والثياب: جمع ثوب، وهو الشقة من النسيج.
واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر، وكان من شعار الملوك. قال النابغة:
يصونون أجساداً قديماً نعيمُها *** بخالصة الأردان خُضْرِ المناكب
والسندس: صنف من الثياب، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشراً للجلد ليقيه غلظ الإستبرق.
والإستبرق: الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد.
وكلا اللفظين معرب. فأما لفظ (سندس) فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله، فقال جماعة: أصله فارسي، وقال المحققون: أصله هندي وهو في اللغة (الهندية) (سَنْدُون) بنون في آخره.
كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون معهم هدية من هذا الديباج، وأن الروم غيروا اسمه إلى (سندوس)، والعرب نقلوه عنهم فقالوا (سندس) فيكون معرباً عن الرومية وأصله الأصيل هندي.
وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية. وأصله في الفارسية (إستبره) أو (إستبر) بدون هاء أو (إستقره) أو (إستفره). وقال ابن دريد: هو سرياني عُرب وأصله (إستروه). وقال ابن قتيبة: هو رومي عُرب، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب، ويجمع على أبارق قياساً، على أنهم صغروه على أبيرق فعاملوا السينَ والتاء معاملة الزوائد.
وفي الإتقان} للسيوطي عن ابن النقيب: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يَتركوا هذا اللفظ ويأتوا بلفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا.
وذلك: أن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة بالوعد والوعيد. والوعدُ بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في: الأماكن، والمآكل، والمشارب، والملابس، ونحوها مما تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه. وأرْفع الملابس في الدنيا الحرير، والحريرُ كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ استبرق. هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه.
و (من) في قوله: {من سندس} للبيان.
وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقَع صفة للجنات ابتداء، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالاً بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله: {عاليهم ثياب سندس} [الإنسان: 21] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة.
وجملة متكئين فيها على الأرائك} في موضع الحال من ضمير {يلبسون}.
والاتكاء: جِلسة الراحة والترففِ. وتقدم عند قوله تعالى: {وأعتدت لهن متكأً} في سورة يوسف عليه السلام (31).
والأرائك: جمع أريكة. وهي اسم لمجموع سرير وحَجَلة. والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها. ولذلك يقال للنساء: ربات الحجال. فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فيه أريكة. ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة، وذلك من شعار أهل الترف.
وجملة {نعم الثواب} استئناف مدح، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه. والتقدير: نعم الثواب الجنات الموصوفة.
وعطف عليه فعل إنشاء ثاننٍ وهو {وحسنت مرتفقاً} لأن (حسن) و(ساء) مستعملان استعمال (نعم) و(بئس) فعملا عملهما. ولذلك كان التقدير: وحسنت الجنات مرتفقاً. وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار {وساءت مرتفقاً}.
والمرتفق: هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}
عطف على جملة {وقل الحق من ربكم} الآيات؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلاً لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر، فكان لذلك المَثل شَبَه بمَثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين مِن عصر أهل الكهف، فضرب مثلاً للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمَثل رجلين كان حالُ أحدهما معجباً مؤنِقاً وحال الآخر بخلاف ذلك؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تَبَاباً وخسارة، وكانت عاقبة الآخر نجاحاً، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسُنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضاً للصلاح والنجاح.
واللام في قوله: {لهم} يجوز أن يتعلق بفعل {واضرب} كقوله تعالى: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم} [الروم: 28]. ويجوز أن يتعلق بقوله: مثلاً} تعلق الحال بصاحبها، أي شبها لهم، أي للفريقين كما في قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74]، والوجهُ أن يكون متنازعاً فيه بين ضَرب، ومثَلاً.
والضمير في قوله: لهم} يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني.
ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالاً معروفاً فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس. فقال الكلبي: المعنيُّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد يالِيل، والآخر مسلم وهو أخوه: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل. ووقع في «الإصابة»: بن هلال، وكان زوجَ أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة.
وعن ابن عباس: هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالاً فاشترى أحدهما أرضاً وجعل فيها جنتين، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه الله تعالى في هذه السورة، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات (50 52) في قوله: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول إنك لمن المصدقين} الآيات.. فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف.
وإن كان حال الرجلين حالاً مفروضاً كما جَوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة. قال ابن عطية: فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجملَ منها في مكاسب الناس، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى:
{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة} [البقرة: 265] الآيات.
والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب} [الكهف: 37] الخ فقد جاء (قال) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة، ومثل قوله: {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} [الكهف: 43] أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية.
ومعنى جعلنا لأحدهما} قدرنا له أسباب ذلك.
وذِكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} في سورة البقرة (266).
ومعنى حففناهما} أحطناهما، يقال: حفّه بكذا، إذا جعله حافاً به، أي محيطاً، قال تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75]، لأن (حف) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثاننٍ عدي إليه بالباء، مثل: غشيه وغشاه بكذا. ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة.
ومعنى وجعلنا بينهما زرعاً} ألهمناه أن يجعل بينهما. وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين: كانت الجنتان تَكْتنِفان حَقْل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة. وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد.
و {كلتا} اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه، فهو اسم مفرد دال على شيئين نظير زَوج، ومذكره (كلا). قال سيبويه: أصل كلا كِلَو وأصل كلتا كِلْوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعُوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث. ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتباراً للفظه وهو أفصح كما في هذه الآية. ويجوز تثنيته اعتباراً لمعناه كما في قول الفرزدق:
كِلاهما حين جدّ الجري بينهما *** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
و{أكْلها} قرأه الجمهور بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الهمزة وضم الكاف وهو الثمر، وتقدم.
وجملة {كلتا الجنتين آتت أكلها} معترضة بين الجمل المتعاطفة. والمعنى: أثمرت الجنتان إثماراً كثيراً حتى أشبهت المعطي من عنده.
ومعنى {ولم تظلم منه شيئاً} لم تَنقُصْ منه، أي من أكُلها شَيئاً، أي لم تنقصه عن مقدار ما تُعطيه الأشجار في حال الخِصب. ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف. والتقدير: ولم تظلم من مقدار أمثاله. واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خَبْرِهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تَأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبَهتا من حَرم ذَا حق حقه فظَلمه، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار.
والتفجير تقدم عند قوله تعالى: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} في سورة الإسراء (90).
والنهَر بتحريك الهاء لغة في النَهْر بسكونها. وتقدم عند قوله تعالى: {قال إن الله مبتليكم بنهر} في سورة البقرة (249).
وجملة وكان له ثمر} في موضع الحال من {لأحدهما}. والثمر بضم الثاء والميم: المال الكثير المختلف من النقدين والأنعَام والجنات والمزارع. وهو مأخوذ من ثُمر ماله بتشديد الميم بالبناء للنائب، يقال: ثَمّر الله ماله إذا كَثُر. قال النابغة:
فلما رأى أن ثَمّر الله ماله *** وأثّل مَوْجُوداً وسَدَّ مفاقِرَه
مشتقاً من اسم الثمرة على سبيل المجاز أو الاستعارة لأن الأرباح وعفو المال يُشبهان ثمر الشجر. وشَاع هذا المجاز حتى صار حقيقة. قال النابغة:
مَهلا فداءٌ لك الأقوامُ كلّهُمُ *** ومَا أُثَمّر من مال ومِنْ وَلَد
وقرأ الجمهور {ثُمُر} بضم المثلثة وضم الميم. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بضم المثلثة وسكون الميم. وقرأه عاصم بفتح المثلثة وفتح الميم.
فقالوا: إنه جمع ثِمار الذي هو جمع ثَمر، مثل كُتب جمع كِتاب فيكون دالاً على أنواع كثيرة مما تنتجه المكاسب، كما تقدم آنفاً في جمع أساور من قوله: {أساور من ذهب} [الكهف: 31]. وعن النحاس بسنده إلى ثعلب عن الأعمش: أن الحجاح قال: لو سمعت أحداً يقرأ وكان له ثمر} (أي بضم الثاء) لقطعت لسانه. قال ثعلب: فقلت للأعمش: أنأخذ بذلك. قال: لا ولا نعمة عَين، وكان يقرأ: ثُمُر، أي بضمتين.
والمعنى: وكان لصاحب الجنتين مالٌ، أي غير الجنتين. والفاء لتفريع جملة {قال} على الجُمل السابقة، لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس يَنطق ربه عن مثل ذلك القول.
و (الصاحب) هنا بمعنى المقارن في الذكر حيث انتظمهما خبر المثَل، أو أريد به الملابس المخاصم، كما في قول الحجاج يخاطب الخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز».
والمراد بالصاحب هنا الرجل الآخر من الرجلين، أي فقال: مَن ليس له جناتٌ في حوار بينهما. ولم يتعَلق الغرض بذكر مكان هذا القول ولا سببه لعدم الاحتياج إليه في الموعظة.
وجملة {وهو يحاوره} حال من ضمير {قال}.
والمحاورة: مراجعة الكلام بين متكلميْن.
وضمير الغيبة المنفصل عائد على ذي الجنتين. والضمير المنصوب في {يحاوره} عائد على صاحب ذي الجنتين، وربُّ الجنتين يحاور صاحبَه. ودل فعل المحاورة على أن صاحبه قد وعظه في الإيمان والعمل الصالح، فراجعه الكلام بالفخر عليه والتطاول شأن أهل الغَطْرسة والنقائص أن يعدلوا عن المجادلة بالتي هي أحسن إلى إظهار العظمة والكبرياء.
و {أعز} أشد عزة. والعزة: ضد الذل. وهي كثرة عدد عشيرة الرجل وشجاعته.
والنفَر: عَشيرة الرجل الذين ينفرون معه. وأراد بهم هنا ولده، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله: {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً} [الكهف: 40].
وانتصب نفراً} على تمييز نسبة {أعز إلى ضمير المتكلم.
وجملة ودخل جنته} في موضع الحال من ضمير {قال}، أي قال ذلك وقد دخل جنته مرافقاً لصاحبه، أي دخل جنته بصاحبه، كما يدل عليه قوله: {قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً}، لأن القول لا يكون إلا خطاباً لآخر، أي قال له، ويدل عليه أيضاً قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره} [الكهف: 37]. ووقوع جواب قوله: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} في خلال الحوار الجاري بينهما في تلك الجنة.
ومعنى {وهو ظالم لنفسه} وهو مشرك مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه.
وإنما أفرد الجنة هنا وهما جنتان لأن الدخول إنما يكون لإحداها لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى، فما دخل إلا إحدى الجنتين.
والظن بمعنى: الاعتقاد، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده.
وتبيد: تهلك وتفنى.
والإشارة بهذا إلى الجنة التي هما فيها، أي لا أعتقد أنها تنتقض وتضمحل.
والأبَد: مراد منه طول المدة، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها. وهذا اغترار منه بغناه واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر وقوته وثبوته واجتماع أسباب نمائه ودوامه حولَه، من مياه وظلال.
وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوامَ تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة.
ولا تلازم بين المعتقَدَيْن. ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه، ولذلك عقب ذلك بقوله: {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً} تهكماً بصاحبه. وقرينة التهكم قوله: {وما أظن الساعة قائمة}. وهذا كقول العاصي بن وائل السهمي لخباب بن الأرت «ليكونن لي مال هنالك فأقضيكَ دينك منه».
وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم.
وانتصب {منقلباً} على تمييز نسبة الخبر. والمنقلب: المكان الذي يُنقلب إليه، أي يُرجع.
وضمير {منهما} للجنتين عوداً إلى أول الكلام تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور {منهما بالتثنية، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف منها} بالإفراد جرياً على قوله: {ودخل جنته} وقولهِ: {أن تبيد هذه}.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}
{قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا * ولولا}.
حُكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة، كما قدمناه غير مرة.
والاستفهام في قوله: {أكفرت بالذي خلقك} مستعمل في التعجب والإنكار، وليس على حقيقته، لأن الصاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله له: {ولا أشرك بربي أحداً}. فالمراد بالكفر هنا الإشراك الذي من جملة معتقداته إنكار البعث، ولذلك عُرّف بطريق الموصولية لأن مضمون الصلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به، فإنهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق الناس فما كان غير الله مستحقاً للعبادة.
ثم إن العلم بالخلق الأول من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثاني، كما قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15]، وقال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]، فكان مضمون الصلة تعريضاً بجهل المخاطب.
وقوله: من تراب} إشارة إلى الأجزاء التي تتكون منها النطفة وهي أجزاء الأغذية المستخلصة من تراب الأرض، كما قال تعالى في الآية الأخرى {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض} [يس: 36].
والنطفة: ماء الرجل، مشتقة من النطف وهو السيلان. وسواك} عدل خلقك، أي جعله متناسباً في الشكل والعمل.
و (من) في قوله: {من تراب ثم من نطفة} ابتدائية، وقوله: {لكنا هو الله ربي} كتب في المصحف بألف بعد النون. واتفق القراء العشرة على إثبات الألف في النطق في حال الوقف، وأما في حال الوصل فقرأه الجمهور بدون نطق بالألف، وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بإثبات النطق بالألف في حال الوصل، ورسمُ المصحف يسمح بكلتا الروايتين.
ولفظ {لكنا} مركب من (لكنْ) بسكون النون الذي هو حرف استدراك، ومن ضمير المتكلم (أنا). وأصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة تخفيفاً كما قال الزجاج، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناءً على أن المحذوف لعلةٍ بمنزلة الثابت، ونقلت حركتها إلى نون (لكنْ) الساكنة دليلاً على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار (لكنا). ولا يجوز أن تكون (لكِنّ) المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها، لأن لكن المشددة من أخوات إنّ تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوباً وليس هنا ما هو ضمير نصب، ولا يجوز اعتبار ضمير (أنا) ضمير نصب اسم (لكنّ) لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم، ولا اعتبارهُ ضميرَ المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله: {هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً}.
(فأنا) مبتدأ، وجملة {هو الله ربي} ضمير شأن وخبرُه، وهي خبر (أنا)، أي شأني هو الله ربي. والخبر في قوله: {هو الله ربي} مستعمل في الإقرار، أي أعترف بأنه ربي خلافاً لك.
وموقع الاستدراك مضادةُ ما بعد (لكن) لما قبلها، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء.
وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة، وهي: الجملتان الاسميتان، وضمير الشأن في قوله: {لكنا هو الله ربي}، وتعريف المسند والمسند إليه في قوله: {الله ربي} المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصراً إضافياً بالنسبة لمخاطبه، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله، وما القصر إلا توكيد مضاعف، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله: {ولا أشرك بربي أحداً}.
وعطف جملة {ولولا إذ دخلت} على جملة {أكفرت} عطف إنكار على إنكار. و(لولا) للتوبيخ، كشأنها إذا دخلت على الفعل الماضي، نحو {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]، أي كان الشأن أن تقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله} عوض قولك: {ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36]. والمعنى: أكفرت بالله وكفرت نعمته.
و (ما) من قوله: ما شاء الله} أحسن ما قالوا فيها إنها موصولة، وهي خبر عن مبتدأ محذوف يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة، أي هذه الجنة مَا شاء الله، أي الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي.
وأحسن منه عندي: أن تكون (ما) نكرة موصوفة. والتقدير: هذه شيء شاء الله، أي لي.
وجملة {لا قوة إلا بالله} تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله، أي لا قوة لي على إنشائها، أو لا قوة لمن أنشأها إلا بالله، فإن القوى كلها موهبة من الله تعالى لا تؤثر إلا بإعانته بسلامة الأسباب والآلات المفكرة والصانعة. فما في جملة {لا قوة إلا بالله} من العُموم جعلها كالعلة والدليللِ لكون تلك الجنة جزئياً من جزئيات منشئات القوى البشرية الموهوبة للناس بفضل الله.
{إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا} {لله فعسى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}.
جملة ابتدائية رَجع بها إلى مجاوبة صاحبه عن قوله: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} [الكهف: 34]، وعظه فيها بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة أو إلى اضمحلال، وأن يصير القليلُ مالُه ذا مال كثير.
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفاً وهو كثير.
و (أنا) ضمير فصل، فلذلك كان أقل} منصوباً على أنه مفعول ثاننٍ ل {ترن} ولا اعتداد بالضمير.
و (عسى) للرجاء، وهو طلب الأمر القريب الحصول. ولعله أراد به الدعاء لنفسه وعلى صاحبه.
والحسبان: مصدر حسب كالغفران. وهو هنا صفة لموصوف محذوف، أي هلاكاً حسباناً، أي مقدراً من الله، كقوله تعالى: {عطاء حساباً} [النبأ: 36]. وقيل: الحسبان اسم جمع لسهام قصار يرمى بها في طلق واحد وليس له مفرد. وقيل: اسم جمع حُسبانة وهي الصاعقة. وقيل: اسم للجراد. والمعاني الأربعة صالحة هنا، والسماء: الجو المرتفع فوق الأرض.
والصعيد: وجه الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة: 6]. وفسروه هنا بذلك فيكون ذكره هنا توطئة لإجراء الصفة عليه وهي زلقاً}.
وفي «اللسان» عن الليث «يقال للحَديقة، إذا خربت وذهب شجراؤها: قد صارت صعيداً، أي أرضاً مستوية لا شجر فيها»ا ه. وهذا إذا صح أحسن هنا، ويكون وصفه ب {زلقاً} مبالغة في انعدام النفع به بالمرة. لكني أظن أن الليث ابتكر هذا المعنى من هذه الآية وهو تفسير معنى الكلام وليس تبييناً لمدلول لفظ صعيد. ونظيره قوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} [الكهف: 8] في أول هذه السورة.
والزلق: مصدر زلقت الرجل، إذا اضطربت وزلت على الأرض فلم تستقر. ووصف الأرض بذلك مبالغة، أي ذات زلق، أي هي مزْلِقَة.
والغَور: مصدر غار الماء، إذا ساخ الماء في الأرض. ووصفه بالمصدر للمبالغة، ولذلك فرع عليه فلن تستطيع له طلباً}. وجاء بحرف توكيد النفي زيادة في التحقيق لهذا الرجاء الصادر مصدر الدعاء.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)}
كان صاحبه المؤمن رجلاً صالحاً فحقق الله رجاءه، أو كان رجلاً محدّثاً من محدّثي هذه الأمة، أو من محدّثي الأمم الماضية على الخلاف في المعنيّ بالرجلين في الآية، ألهمهُ الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر.
وإنما لم تعطف جملة {وأحيط} بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقاباً له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن.
والإحاطة: الأخذ من كل جانب، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم. وقد تقدمت في قوله تعالى: {إلا أن يحاط بكم} في سورة يوسف (66) وقوله: {إن ربك أحاط بالناس} في سورة الإسراء (60).
والمعنى: أُتلف ماله كله بأن أُرسل على الجنة والزرع حُسبانٌ من السماء فأصبحت صعيداً زلقاً وهلكت أنعامه وسُلبت أمواله، أو خسف بها بزلزال أو نحوه.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ ثُمر} آنفاً عند قوله تعالى: {وكان له ثمر} [الكهف: 34].
وتقليب الكفين: حركة يفعلها المتحسر، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسراً على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة. فهو كناية عن التحسر، ومثله قولهم: قرَع السن من نَدم، وقوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119].
والخاوية: الخالية، أي وهي خالية من الشجر والزرع، والعُروش: السُقُف. و(على) للاستعلاء. وجملة على عروشها} في موضع الحال من ضمير {خاوية}.
وهذا التركيب أرسله القرآن مثلاً للخرَاب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه. وتقدم في قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} في سورة البقرة (259)، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسُقف، ثم جعل ذلك مثلاً لكل هلاك تام لا تبقى معه بقية من الشيء الهالك.
وجملة ويقول} حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب.
والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه.
وحرف النداء مستعمل في التلهف. و(ليتني) تمننٍ مراد به التندم. وأصل قولهم (يا ليْتنِي) أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل، كأنه يخاطب كلمة (ليت) يقول: احضُري فهذا أوانك، ومثله قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} سورة الزمر (56).
وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذٍ.
وقوله: ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله} موعظة وتنبيه على جزاء قوله: {وأعز نفراً} [الكهف: 34].
والفئة: الجماعة. وجملة {ينصرونه} صفة، أي لم تكن له فئة هذه صفتها، فإن فئته لم تغن عنه من عذاب الله.
وقوله: {وما كان منتصراً} أي ولا يكون له انتصار وتخلص من العذاب.
وقرأه الجمهور {ولم تكن} بمثناة فوقية اعتداداً بتأنيث {فئة} في اللفظ. وقرأه حمزة والكسائي وخلف «يكن» بالياء التحتية. والوجهان جائزان في الفعل إذا رفَع ما ليس بتحقيقي التأنيث.
وأحاط به هذا العقاب لا لمجرد الكفر، لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طول حياتهم ويملي لهم ويسْتدرجهم. وإنما أحاط به هذا العقاب جزاء على طغيانه وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير، فإنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى التكذيب بوعد الله استحق عقاب الله بسلب تلك النعم عنه كما سلبت النعمة عن قارون حين قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78]. وبهذا كان هذا المثل موضع العبرة للمشركين الذين جعلوا النعمة وسيلة للترفع عن مجالس الدعوة لأنها تجمع قوماً يرونهم أحط منهم وطلبوا من النبي طردهم عن مجلسه كما تقدم.
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}
تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة {ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} [الكهف: 42]، وجملة {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله} [الكهف: 43]، وجملة {وما كان منتصراً} [الكهف: 43]، لأن الولاية من شأنها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمِع المولى في أن وليه ينصره. ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول: {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} [الكهف: 42]، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن وَلايتُهم عنه شيئاً، كما قال أبو سفيان يوم أسلم لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنَى عني شيئاً. فاسم الإشارة مبتدأ والولاية لله} جملة خبر عن اسم الإشارة.
واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها. والمعنى: أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله. فالولاية: جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى: {الحمد لله} [الفاتحة: 2].
والوَلاية بفتح الواو مصدر وَلِي، إذا ثبت له الوَلاء. وتقدمت عند قوله تعالى: {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} في سورة الأنفال (72). وقرأه حمزة والكسائي وخلف الوِلاية} بكسر الواو وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والمُلك.
و {الحق} قرأه الجمهور بالجر، على أنه وصف لله تعالى، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {وردوا إلى الله مولاهم الحق} في سورة يونس (30). وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف الحقُّ} بالرفع صفة للولاية، ف {الحق} بمعنى الصِدق لأن ولاية غيره كذب وباطل.
قال حجة الإسلام: «والواجب بذاته هو الحق مطلقاً، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقاً، فهو من حيث ذاته يسمى موجوداً ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقاً» ا ه.
وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له.
{وخَير} يجوز أن يكون بمعنى أخْيَر، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعُقُب غيره، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفضضٍ إلى ضر وإما زائل، وثواب الله خالصٌ دائم وكذلك عقباه.
ويجوز أن يكون {خير} اسماً ضَد الشر، أي هو الذي ثوابه وعُقُبه خير وما سواه فهو شر.
والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله. و«العقب» بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة، أي آخرة الأمر. وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله.
وقرأ الجمهور {عُقُباً} بضمتين وبالتنوين. وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين.
فكان ما ناله ذلك المشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيراً وكانت عاقبته شراً عليه.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا} [المزمل: 11]، وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14 15].
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24]. وما كان أحد الرجلين اللذين تقدمت قصتهما إلا واحداً من المشركين إذ قال: {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36].
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها.
والحياة الدنيا: تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها. فإطلاق اسم الحياة الدنيا} على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها، فهي دُنيا.
وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد، أي حياة كل أحد. ووصفُها ب (الدنيا) بمعنى القريبة، أي الحاضرة غير المنتظرة، كنى عن الحضور بالقرب، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت.
والكاف في قوله: {كماء} في محل الحال من (الحياة) المضاف إليه (مثل). أي اضرب لهم مثلاً لها حال أنها كماء أنزلناه.
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها، فهما مرادان منه. وضمير {لهم} عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم وعرضوا بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا} [الكهف: 47 48].
واختلاط النبات: وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخِصب والازدهار.
والباء في قوله: (به) باء السببية. والضمير عائد إلى (ماءٍ) أي فاختلط النبات بسبب الماء، أي اختلط بعض النبات ببعض. وليست البَاء لتعدية فعل اختلط} إلى المفعول لعدم وضوح المعنى عليه، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق.
و (أصبح) مستعملة بمعنى صار، وهو استعمال شائع.
والهشيم: اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول، أي مَهْشوماً محطماً. والهَشْم: الكسر والتفتيت.
و {تذروه الرياح} أي تفرقه في الهواء. والذرو: الرمي في الهواء. شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زماناً بَهِجة خَضِرة ثم يصير نبتُها بعد حين إلى اضمحلال. ووجه الشبه: المصير من حال حسن إلى حال سَيّء. وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تَقلص بهجة الحياة، وأيضاً شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجِدة وزخرف العيش لأهله، ثم تَقلصُ ذلك وزوال نفعه ثم انقراضُه أشتاتاً بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأتِه عنه ونضارتهِ ووفرتهِ ثم أخذهِ في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطَايره أشتاتاً في الهواء، تشبيهاً لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت.
وجملة {وكان الله على كل شيء مقتدراً} جملة معترضة في آخر الكلام. موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء، وذلك اقتدار عجيب. وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله: {على كل شيء} وهو بذلك العموم أشبه التذييل. والمقتدر: القوي القدرة.
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال، كقوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملاً. والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب، قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كرام سادة لمسوّد
ووالباقيات الصالحات} صفتان جرتا على موصوف محذوف، أي الأعمال الصالحات الباقيات، أي التي لا زوال لها، أي لا زوال لخيرها، وهو ثوابها الخالد، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية.
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم {الصالحات} على {والباقيات} لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات، لأنه قد شاع أن يقال: الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ (الصالحات) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير، وذلك كثير في القرآن قال تعالى: {وعملوا الصالحات} [الكهف: 107]، وفي كلامهم قال جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ *** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم (الباقيات) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباققٍ، وهو المال والبنون، كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد: 26]، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله: {فأصبح هشيماً تذروه الرياح} [الكهف: 45] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله: والباقيات} مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً.
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً} [مريم: 76] فإنه وقع إثر قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً} [مريم: 73 74] الآية.
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً.
ومعنى وخير أملاً} أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. فلا جرم كان قوله: وخير أملاً} بالتحقق والعموم تذييلاً لما قبله.
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
عطف على جملة {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45]. فلفظ (يومَ) منصوب بفعل مضمر، تقديره: اذكر، كما هو متعارف في أمثاله. فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به، وذلك مقابلة لضده المذكور في قوله: {والباقيات الصالحات خير} [الكهف: 46].
ويجوز أن يكون الظرف متعلقاً بمحذوف غير فعل (اذكر) يدل عليه مقام الوعيد مثل: يَرون أمراً مفظعاً أو عظيماً أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع. ويقدر المحذوف متأخراً عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه.
ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بفعل القول المقدر عند قوله: لقد جئتمونا} إذ لا يناسب موقعَ عطف هذه الجملة على التي قبلها، ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله.
وتسيير الجبال: نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم، وهو مثل قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} [التكوير: 3] وقوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} [النّمل: 88]. وقيل: أطلق التسيير على تناثر أجزائها. فالمراد: ويوم نسير كل جبل من الجبال، فيكون كقوله: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وقوله: {وبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً} [الواقعة: 5 6] وقوله: {وسيرت الجبال فكانت سراباً} [النبأ: 20]. والسبب واحد، والكيفيتان متلازمتان، وهو من أحوال انقراض نظام هذا العالم، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث.
وقرأ الجمهور نسير} بنون العظمة. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمرو {ويوم تُسيّر الجبال} بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع {الجبال}.
والخطاب في قوله: {وترى الأرض بارزة} لغير معين. والمعنى: ويرى الرائي، كقول طرفة:
ترى جُثْوَتَيْن من تراب عليهما *** صفائحُ صمٌّ من صَفيح مُنَضد
وهو نظير قوله: {فترى المجرمين مشفقين مما فيه} [الكهف: 49].
والبارزة: الظاهرة، أي الظاهر سطحها، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان، كقوله تعالى: {فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 14].
وجملة وحشرناهم} في موضع الحال من ضمير {تُسير} على قراءة من قرأ بنون العظمة، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ {تُسير الجبالُ بالبناء للنائب.
ويجوز أن نجعل جملة وحشرناهم} معطوفة على جملة {نسير الجبال} على تأويله ب (نحشرهم) بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه.
والمغادرة: إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به، وضمائر الغيبة في {حشرناهم} و{منهم} {وعُرضوا} عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قوله: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45].
وعَرض الشيء: إحضاره ليُرى حاله وما يحتاجه. ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم. وفي الحديث «عُرضت عليّ لأمم» وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم.
والصف: جماعة يقفون واحداً حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحداً. وأصله مصدر (صفهم) إذا أوقفهم، أطلق على المصفوف. وانتصب {صفاً} على الحال من واو {عُرضوا}. وتلك الحالة إيذان بأنهم أحضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعاً للرعب في قولبهم.
وجملة {وعرضوا على ربك} معطوفة على جملة {وحشرناهم}، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في {حشرناهم}، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيهاً على سرعة عرضهم في حين حشرهم.
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله: {على ربك} دون أن يقال (علينا) لتضمن الإضافة تنويهاً بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيباً من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث.
وجملة {لقد جئتمونا} مقولٌ لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتعين تقدير القول، وهذه الجملة في محل الحال. والتقدير: قائلين لهم لقد جئتمونا. وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى. والخطاب في قوله: {لقد جئتمونا} موجه إلى معاد ضمير {عُرضوا}.
والخبر في قوله: {لقد جئتمونا} مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث. والمجيء: مجاز في الحضور، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب.
وقوله: {كما خلقناكم أول مرة} واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة، أي جئتمونا مجيئاً كخلقكم أول مرة. فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول، أي فهذا خلق ثاننٍ. و(ما) مصدرية، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى، قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15]. والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث.
والإضراب في قوله: بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً} انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازاً وليس مستعملاً في إفادة مدلوله الأصلي.
والزعم: الاعتقاد المخطئ، أو الخبر المعرَّض للكذب. والموعد أصله: وقت الوعد بشيء أو مكان الوعد. وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت.
والمعنى: أنكم اعتقدتم باطلاً أن لا يكون لكم موعد للبعث بعدا لموت أبداً.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
جملة {ووضع الكتاب} معطوفة على جملة {وعرضوا على ربك} [الكهف: 48]، فهي في موضع الحال، أي وقد وضع الكتاب.
والكتاب مراد به الجنس، أي وضعت كتب أعمال البشر، لأن لكل أحد كتاباً، كما دلت عليه آيات أخرى منها قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك} [الإسراء: 13 14] الآية. وإفراد الضمير في قوله: مما فيه} لمراعاة إفراد لفظ (الكتاب). وعن الغزالي: أنه قال: يكون كتاب جامع لجميع ما هو متفرق في الكتب الخاصة بكل أحد. ولعله انتزعه من هذه الآية. وتفرع على وضع الكتاب بيان حال المجرمين عند وضعه.
والخطاب بقوله: {فترى} لغير معين. وليس للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في مقامات عالية عن ذلك الموضع.
والإشفاق: الخوف من أمر يحصل في المستقبل.
والتعبير بالمضارع في {يقولون} لاستحضار الحالة الفظيعة، أو لإفادة تكرر قولهم ذلك وإعادته شأن الفزعين الخائفين.
ونداء الويل: نُدبة للتوجع من الويل. وأصله نداء استعمل مجازاً بتنزيل ما لا ينادى منزلة ما ينادى لقصد حضوره، كأنه يقول: هذا وقتك فاحضري، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه.
والويلة: تأنيث الويل للمبالغة، وهو سوء الحال والهلاكُ. كما أُنثت الدارُ على دَارة، للدلالة على سعة المكان، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال يا وليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} في سورة العقود المائدة (31).
والاستفهام في قولهم: مال هذا الكتاب} مستعمل في التعجب. (فما) اسم استفهام، ومعناها: أي شيء، و{هذا الكتاب} صفة ل (ما) الاستفهامية لما فيها من التنكير، أي ما ثبت لهذا الكتاب.
واللام للاختصاص مثل قوله: {ما لك لا تأمنا على يوسف} [يوسف: 11].
وجملة لا يغادر} في موضع الحال، هي مثار التعجب، وقد جرى الاستعمال بملازمة الحال لنحو {ما لك} فيقولون: ما لك لا تفعل وما لك فاعلاً.
والمغادرة: الترك، وتقدم آنفاً في قوله: {فلم نغادر منهم أحداً} [الكهف: 47].
والصغيرة والكبيرة: وصفان لموصوف محذوف لدلالة المقام، أي فعلة أو هَنَة. والمراد بالصِغر والكبر هنا الأفعال العظيمة والأفعال الحقيرة. والعظم والحقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف.
وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها. وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضاً مما يثير التعجب، فقد عجبوا من إحاطة كاتب الكتاب بجميع الأعمال.
والاستثناء من عموم أحوال الصغيرة والكبيرة، أي لا يبقي صغيرة ولا كبيرة في جميع أحوالهما إلا في حال إحصائه إياها، أي لا يغادره غير محصي. فالاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنه إذا أحصاه فهو لم يغادره، فآل إلى معنى أنه لا يغادر شيئاً، وانتفت حقيقة الاستثناء.
فجملة أحصاها} في موضع الحال. والرابط بينها وبين ذي الحال حرف الاستثناء. والإحصاء: العد، أي كانت أفعالهم معدودة مفصلة.
وجملة {ووجدوا ما عملوا حاضراً} في موضع الحال من ضمير {يقولون}. أي إنما قالوا ذلك حين عرضت عليهم أعمالهم كلها عند وضع ذلك الكتاب عرضاً سريعاً حصل به علم كلَ بما في كتابه على وجهٍ خارق للعادة.
وجملة {ولا يظلم ربك أحداً} عطف على جملة {ووجدوا ما عملوا حاضراً} لما أفهمته الصلة من أنهم لم يجدوا غير ما عملوا، أي لم يحمل عليهم شيء لم يعملوه، لأن الله لا يظلم أحداً فيؤاخذه بما لم يقترفه، وقد حدد لهم من قبل ذلك ما ليس لهم أن يفعلوه وما أمروا بفعله، وتوعدهم ووعدهم، فلم يكن في مؤاخذتهم بما عملوه من المنهيات بعد ذلك ظلم لهم. والمقصود: إفادة هذا الشأن من شؤون الله تعالى، فلذلك عطفت الجملة لتكون مقصودة أصالة. وهي مع ذلك مفيدة معنى التذييل لما فيها من الاستدلال على مضمون الجملة قبلها، ومن العموم الشامل لمضمون الجملة قبلها وغيره، فكانت من هذا الوجه صالحة للفصل بدون عطف لتكون تذييلاً.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}
عطف على جملة {ويوم نسير الجيال} [الكهف: 47] بتقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالاً نفسياً. 6 وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم، وهذا أيضاً تمهيد وتوطئة لقوله: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} الآية [الكهف: 52]، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم.
ولها أيضاً مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل، كما أشار إليه قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الكهف: 28]، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم، ولأن في هذه القصة تذكيراً بأن الشيطان هو أصل الضلال، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتتِ الشيطان وأوليائه. ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}.
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره، فذكرها في سورة البقرة (مَثلاً) إعلام بمبادئ الأمور، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ، وقس على ذلك.
وفَسق: تجاوز عن طاعته. وأصله قولهم: فسقت الرُّطبَة، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازاً في التجاوز. قال أبو عبيدة. والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة. قال أبو عبيدة: «لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن»، أي في هذه الآية ونحوها. ووافقه المبرد وابن الأعرابي. وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم، وتقدم في سورة البقرة (26) عند قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين.
والأمر في قوله: عن أمر ربه} بمعنى المأمور، أي ترك وابتعد عما أمره الله به.
والعدول في قوله: {عن أمر ربه} إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه.
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلاً لأن يُتبع.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين، إذ كانوا يعبدون الجن، قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100]. ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة وهم لكم عدو}.
والذرية: النسل، وذرية الشيطان الشياطين والجن.
والعدو: اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1] وقال: {هم العدو} [المنافقون: 4].
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع، وهما مصدران. وتقدم عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدو لكم} في سورة النساء (92).
والولي: من يُتولَّى، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب. والمراد به القرب المعنوي، وهو الصداقة والنسب والحلف. و(من) زايدة للتوكيد، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي. وذلك هو إشراكهم في العبادة، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله.
والخطاب في أتتخذونه} وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه ولياً، وتحذير للمسلمين من ذلك.
وجملة {بئس للظالمين بدلاً} مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته، فقوله: {بدلاً} تمييز مفسر لاسم (بئس) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل.
والظالمون هم المشركون. وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم.
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما {أفتتخذونه وذريته} إلى قوله: {بدلاً} [الكهف: 50]، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بأن يعبدوا. وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات.
والإشهاد: جعل الغير شاهداً، أي حاضراً، وهو هنا كناية عن إحضار خاص، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه. ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي، بالأولى، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم. وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القِدم، والقدم من لوازم الإلهية. وضمائر الغيبة في قوله: أشهدتهم} وقوله: {أنفسهم} عائدة إلى المتحدث عنه، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله: {وهم لكم عدوّ}.
ومعنى {أنفسهم}، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور: 61] وفي قوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} [البقرة: 84]، أي أنفس بعضكم. فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود.
واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها} [فصّلت: 9 12]. وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنّا متصرفين فكانوا إذا نزلوا وادياً مخوفاً قالوا: أعوذ بعزيز هذا الوادي، ليكونوا في أمن من ضره.
وقرأ أبو جعفر ما أشهدناهم} بنون العظمة، وقرأ {وما كنتَ} بفتح التاء على الخطاب، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في النهي.
والمراد ب {المضلّين} الشياطين، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس، كما قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].
وجملة وما كنت متخذ المضلين عضداً} تذييل لجملة {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض}.
والعدول عن الإضمار بأن يقال: وما كنت متخذهم إلى {المضلين} لإفادة الذم، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاماً مستقلاً.
والعضد بفتح العين وضم الضاد المعجمة في الأفصح، وبالفتح وسكون الضاد في لغة تميم. وفيه لغات أخرى أضعف. ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قرأه بضم العين وضم الضاد على أنها لغة في عَضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة. وهو: العظم الذي بين المرفق والكتف، وهو يطلق مجازاً على المعين على العمل، يقال: فلان عَضدي واعتضدت به.
والمعنى: لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعواناً فأشركهم في تصرفي في الإنشاء، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصَادر الضلالة، أي لا يعين المُعين إلا على عمل أمثاله، ولا يكون إلا قريناً لأشكاله.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}
عطف على جملة {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الكهف: 50] فيقدر: واذكر يوم يقول نادوا شركائي، أو على جملة {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} [الكهف: 51]، فالتقدير: ولا أشهدت شركاءهم جميعاً ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذٍ. وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة.
وقرأة الجمهور يقول} بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه، وقرأ حمزة {نقول} بنون العظمة.
واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر. والمعنى: يقول للمشركين، كما دل عليه قوله: {الذين زعمتم}، أي زعمتموهم شركائي. وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكماً بالمخاطبين وتوبيخاً لهم، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل.
والنداء: طلب الإقبال للنصرة والشفاعة.
والاستجابة: الكلام الدال على سماع النداء والأخذُ في الإقبال على المنادي بنحو قول: لبيكم.
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم. ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال {فدعوهم} لطمعهم، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم. ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب. وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذٍ حتى كأنه قد انقضى.
والموبق: مكان الوُبوق، أي الهلاككِ. يقال: وبَق مثل وَعَد ووجل وورِث. والموبق هنا أريد به جهنم، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوَّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فَوهات جهنم، ويجوز أن تكون جملة {وجعلنا بينهم موبقاً} جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقاً تمهيداً لما بعده من قوله: {ورأى المجرمون النار} [الكهف: 53].
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
عطف على جملة {وجعلنا بينهم موبقاً} [الكهف: 52]، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيده المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار. وكذلك عُبر ب (النار) في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن المَوبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان.
والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته. ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم؛ بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك.
والمواقعة: مفاعلة من الوقوع، وهو الحصول لقصد المبالغة، أي واقعون فيها وقوع الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه.
والمصرف: مكان الصرف، أي التخلص والمجاوزة. وفي الكلام إيجاز، تقديره: وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفاً، أي مخلصاً.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}
عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله: {واضرب لهم مثلاً رجلين} [الكهف: 32] وقوله: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45]. ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظراً إلى قوله: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} [الكهف: 27] وقوله: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]؛ فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هدي من جملة هدي القرآن الذي تبرمُوا منه. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله: {ولقد صرفا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} في سورة الإسراء (89)؛ سوى أنه يتجه هنا أن يُسأل لم قُدم في هذه الآية أحد متعلِقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله: في هذا القرآن} على قوله: {للناس} عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس.
والناس: اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون، كما دل عليه جملةُ {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}، فوزانه وزان قوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} [الإسراء: 89]، وسيجيء قوله: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 56]. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة.
وجملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير: فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم، وحرف (ال) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس. والمعنى: أنهم جادلوا. والجدال: خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين، ومنه محمود كما في قوله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود: 74 75]، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى: {يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى: ويجادل الذين كفروا بالباطل} الآية، فقوله هنا: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} تمهيد لقوله بعده {ويجادل الذين كفروا بالباطل} [الكهف: 56].
و (شيء) اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله: {رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه}
[يوسف: 33]، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما تَرْك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به.
وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجَدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شُعب النطق الذي هو فَصْل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله: {ونقدس لك} [البقرة: 30]. وأما الشياطين فهم أكثر جدلاً من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل.
وجدلاً} تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان. والمعنى: وكان الإنسان كثيراً من جهة الجدل، أي كثيراً جدله. ويدل لهذا المعنى ما ثبت في «الصحيح» عن علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمةَ ليلاً فقال: ألاَ تصليان؟ فقال علي: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثَنا، قال: فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يَضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يُسَرّ بما في كلام رسول الله من مَلام، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه.
ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يرد أن الإنسان أكثر جدلاً من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا. ومن أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل؟.
والجدل: المنازعة بمعاوضة القول، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه: بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]، وقال: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} [المجادلة: 1]، وقال: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74]، وقال: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} [النساء: 107]، وقال: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6].
والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله. وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}
عطف على جملة {ولقد صرفنا في هذا القرآن} [الكهف: 54] الخ. ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54] معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس. ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله: وما منع الناس} وبقوله: {إذ جاءهم الهدى} دون أن يقول: وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها.
على أن عموم {الناس} هنا أشمل من عموم لفظ {الناس} في قوله: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس} [الكهف: 54] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله.
وكذلك عموم لفظ الهدى} يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم.
فالمعنى: ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير.
والمرد ب {الأولين} السابقون من الأمم في الضلال والعناد. ويجوز أن يراد بهم الآباء، أي سنة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم، ولكل أمة أمةٌ سبقتها.
و {أن تأتيهم} استثناء مفرغ هو فاعل {وما منع}. «ولن يؤمنوا» منصوب على نزع الخافض، أي من أن يؤمنوا.
ومعنى {تأتيهم سنة الأولين} تحل فيهم وتعتريهم، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم. والمعنى: أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم، كما قال تعالى: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 53].
وسنة الأولين: طريقتهم في الكفر. وإضافة (سنة) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله، أي السنة التي سَنّها الأولون. وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة.
والمعنى: ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم.
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته.
و (أو) هي التي بمعنى (إلى)، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب} (بأن) مضمرة بعد (أو). و(أو) متصلة المعنى بفعل {منع}، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين.
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها.
فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل} [الكهف: 54]، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله. وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين، أي الأمم المكذبين الماضين، أي فإضافة {سنة} إلى {الأولين} مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله، وهي عادة الله فيهم، أي يعذبهم عذاب الاستيصال.
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين، بتقدير مضاف، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال، أي على معنى قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا} [يونس: 102].
وجعلوا قوله: أو يأتيهم العذاب قبلاً} قسيماً لقوله: {إلا أن تأتيهم سنة الأولين}، فحرف (أو) للتقسيم، وفعل {يأتيهم} منصوب بالعطف على فعل {أن تأتيهم سنة الأولين} بالاستيصال المفاجئ أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم. وجعلوا {قِبلاً} حالاً من {العذاب}، أي مقابلاً. قال الكلبي: وهو عذاب السيف يوم بدر. ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه، أي عذاب الجلاد بالسيوف. ومعناه: أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة. وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل، وتُقصر على معنى التهديد.
والإتيان: مجاز في الحصول في المستقبل، لوجود (أن) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها.
والسنة: العادة المألوفة في حال من الأحوال.
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي. والمراد: ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب. وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال. وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين.
وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر. وهو في معنى قوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96 97].
وقِبَلاً} حال من العذاب. وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف {قبلاً} بضمتين وهو جمع قبيل، أي يأتيهم العذاب أنواعاً.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
بعْد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]. وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للجادلة، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق.
والاستثناء من أحوال عامة محذوفة، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين. والمراد بالمرسلين جميع الرسل.
وجملة ويجادل الذين كفروا بالباطل} عطف على جملة {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين}. وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]. وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشئ معناها على معنى التي قبلها، فكانت جملة {ويجادل الذين كفروا بالباطل} مفيدة معنى الاستدراك، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر. واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة، أو لاستحضار صورة المجادلة.
والمجادلة تقدمت في قوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} في سورة هود (74).
والإدحاض: الإزلاق، يقال: دَحَضَتْ القدم، إذا زَلّت، وهو مجاز في الإزالة، لأن الرجل إذا زلقت زَالت عن موضع تخطيها، قال تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 141].
وجملة واتخذوا آياتي} عطف على جملة {ويجادل} فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا.
والهُزُو: مصدر هَزَا، أي اتخذوا ذلك مستهزأً به. والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب.
وعطفُ {وما أنذروا} على «الآيات» عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم.
{وما أنذروا} مصدرية، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة.
وقرأ الجمهور {هزءاً} بضم الزاي. وقرأه حمزة {هُزْءاً} بسكون الزاي.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش «إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي؟ فقالوا: ما جربنا عليك كذباً» فقال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
و (مَنْ) المجرورةُ موصولة. وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة}. والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه.
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل.
ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم: أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم.
ف (مَن) استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم.
والنسيان: مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} في سورة البقرة (106).
ومعنى ما قدمت يداه} ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جارياً مَجرى المثل، قال تعالى: {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد}، وقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم}.
والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول: منها مشركو أهل مكة.
وجملة {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة} مستأنفة بيانية نشأت على جملة {ونسي ما قدمت يداه}، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية.
والقلوب مرادُ بها: مَدارك العلم.
والأكنة: جمع كِنان، وهو الغِطاء، لأنه يُكن الشيء، أي يَحجبه.
و {أن يفقهوه} مجرور بحرف محذوف، أي مِنْ أن يفقهوه، لتضمين {أكنة} معنى الحائل أو المانع.
والوقر: ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ.
والضمير المفرد في {يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.
وجملة {وإن تدعهم إلى الهدى} عطف على جملة {إنا جعلنا على قلوبهم}، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو (لن)، وبلفظ (أبدا) المؤكد لمعنى (لن)، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكسسِ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريضَ بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالاً للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحاً باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماءً إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33].
والوجه في نظم الآية أن يكون الغفور} نعتاً للمبتدأ ويكون {ذو الرحمة} هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة {لو يؤاخذهم}، فيكون ذكر {الغفور} إدماجاً في خلال المقصود. فخُص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم {الغفور} تعريضاً بالترغيب في الاستغفار.
والغفور: اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يُحصَون ويغفر ذنوباً لا تُحصى إن جاءه عبده تائباً مقلعاً منكسراً، على أن إمهاله الكفارَ والعصاةَ هو أيضاً من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.
وأما قوله: {ذو الرحمة} فهو المقصود تمهيداً لجملة {لو يؤاخذهم بما كسبوا}، فلذلك كانت تلك الجملة بياناً لجملة {وربك الغفور ذو الرحمة} باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.
والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبْقاؤهم على حالهم زمناً.
فوصف {ذو الرحمة} يساوي وصف (الرحيم) لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.
وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى {ذو الرحمة} للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيهاً بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم (الرحيم) صار شبيهاً بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعُد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.
و (بل) للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب (لو)، أي لم يعجل لهم العذاب إذْ لهم موعد للعذاب متأخرٌ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر.
والموْئل: مَفْعل من وَأَلَ بمعنى لَجَأ، فهو اسم مكان بمعنى الملْجأ.
وأكد النفي ب (لن) رداً على إنكارهم، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدةً طويلة، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وَعده أو مكان وَعده، فهو مَلجؤهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي هم غير مُفلَتِين منه.
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
بعد أن أزيل غرُورهم بتأخر العذاب، وأبطل ظنهم الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه، ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أُخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخَرة، فالجملة معطوفة على جملة {بل لهم موعد} [الكهف: 58].
والإشارة ب تلك إلى مقدر في الذهن، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد به مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة.
والظلم: الشرك وتكذيب الرسل. والمُهلك بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي من أهلك، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتاً معيناً في علمنا إذا جاء حلَّ بهم الهلاك. هذه قراءة الجمهور. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام على أنه اسم زمان على وزن مَفعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام على أنه مصدر ميمي لِهَلَك.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلاً بأسباب الفضائل ومكابرةً في الاعتراف بها وحسداً في الشرف والفضل، فَضرب بذلك مثلاً لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد، أعقبَ تلك القصة بقصة هي مَثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال، اعترافاً للفاضل بفضيلته. وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخُلُقين وإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى، وتربية للمتقين.
ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أمْلَوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين. وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين. قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تَطواف في الأرض لطلب نفع صالح، وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى. وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدُلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان.
فجملة {وإذ قال موسى} معطوفة على جملة {وإذ قلنا للملائكة} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة. والتقدير: واذكر إذ قال موسى لفتاه، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسبها تقدير فعل اذكر لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم.
فانتصب (إذ) على المفعولية به.
والفتى: الذكَر الشاب، والأنثى فتاة، وهو مستعمل مجازاً في التابع والخادم. وتقدم عند قوله تعالى: {تراود فتاها} في سورة [يوسف: 30].
وفتى موسى: خادمه وتابعه، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص، كما يقال: غُلامه. وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم. وقد قيل: إنه ابن أخت موسى، كان اسمه الأصلي هُوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع. ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به، كما قال رسول الله لأبي هريرة يا أبا هِرّ. وفي التوراة: أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهَام.
ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي زيْد الخَيل زيدَ الخير.
ويوشع أحد الرجال الإثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوماً في التجسس.
وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض كنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} [المائدة: 23].
كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمَّر مائة وعشر سنين، وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذاً وخادماً، ومثل ذلك الاتخاذ يوصف صاحبه بمثِل فتى أو غلام. ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحْوي اللغوي غلامَ ثعلب، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب.
وكان يوشع أحد الرجلين اللذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيئاً من يومئذٍ. ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعاً وعشرين سنة. وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام.
وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميماً على أن لا يزول عما هو فيه، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين، ابتداء عجيباً في باب الإيجاز، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عَمل نهايته البلوغ إلى مكان، فعلم أن ذلك العلم هو سَيْرُ سَفر.
ويدل على أن فتاهُ استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها، أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه.
وأبرح} مضارع بَرِح بكسر الراء، بمعنى زال يزول. وتقدم في سورة يوسف عليه السلام. واستعير {لا أبرح} لِمعنى: لا أترك، أو لا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين. ويجوز أن يكون مضارع بَرح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصاً إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفاً بقرينة الكلام، أي لا أبرح سائراً. وعن الرضيّ أن حذف خبرها قليل.
وحُذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيُذكر بعدُ، وهو حذف إيجاز وتشويق، له موقع عظيم في حكاية القصة، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحِكم والأمثال قضاء لِحق بلاغة الإعجاز.
وتفصيل هذه القصة وارد في «صحيح البخاري» من حديث: «عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتَب الله عليه إذ لمْ يَردّ العلمَ إليه. فأوحى الله إليه: بلى عبدُنا خَضِرٌ هو أعلم منك.
قال: فأين هو؟ قال: بمجمع البحرين. قال موسى عليه السلام: يا رب اجعل لي علَماً أعلم ذلك به. قال: تَأخذ معك حُوتاً في مِكَتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثَمّ، فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل وقال لفتاه يوشع بن نون: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال (أي فتاه): ما كلّفتَ كثيراً. ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعَا رؤوسهما فنامَا واضطرب الحوت في المِكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سَربَا وموسى نائم، فقال فتاه (وكان لم ينم): لا أوقظه وأمسك اللّهُ عن الحوت جَرية الماء فصار الماء عليه مثلَ الطاق، فلما استيقظ (موسى) نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه: آتنا غداءنَا لقد لَقينا من سفرنا هذا نصبَاً. قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوزَ المكان الذي أمره الله به (أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه: فقال له فتاه: أرأيتَ إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإني نسيِتُ الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجباً. قال: فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يَقُصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً فسَلّم عليه موسى. فقال الخَضر: وأنى بأرضك السلام... الحديث.
قوله: «وأنى بأرضك السلام» استفهام تعجب، والكاف خطاب للذي سلم عليه فكانَ الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام، إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولاً بأمة ليست تحيتهم السلام.
وإنما أمسك الله عن الحوت جَرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما، ولأن المكان لما كان ظرفاً لظهور معجزات عِلم النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراماً لنزلاء ذلك المكان.
ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين. والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلاً فعلمنا أنه لم يكن مكاناً بعيداً جداً. وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتاً له.
ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علوماً من معاملة الناس لم يعلّمها الله لموسى.
فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم، وهو تفاوت نسبي.
والخضر: اسم رجل صالح. قيل: هو نبيء من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام. فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر، فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام. وقيل: الخضر لقبه. وأما اسمه فهو (بليا) بموحِدة أو إيليا بهمزة وتحتية.
واتفق الناس على أنه كان من المعمرين، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حياً اختلافاً لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي.
وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس: وقيل: هو من ذرية عيسو بن إسحاق. وقيل: هو نبيء بعث بعد شعيب.
وجرجس المعني هو المعروف باسم مَار جرجس. والعرب يسمونه: مارَ سَرجس كما في «كتاب سيبويه». وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء. وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام.
والخضر لقب له، أي الموصوف بالخضرة، وهي رمز البركة، قيل: لقب خضراً لأنه كان إذا جلس على الأرض اخضرَّ ما حوله، أي اخضرَّ بالنبات من أثر بركته. وفي «دائرة المعارف الإسلامية» ذكرت تخرصات تُلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها رومانية وما رَائدهُ في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها.
والمحقق أنّ قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنّها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم. ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نَوفاً البِكالي على أن قال: إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في «صحيح البخاري» وأن ابن عباس كذب نَوفاً، وسَاق الحديث المتقدم.
وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهودُ إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون، فقيل: نعم، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي وقيل: هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا (أو مِنسه) ابن يوسف بن يعقوب. وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي وعُدّ من صحابته. وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين.
وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس، فقيل: إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس.
ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفاً بشريعة موسى ويقره موسى على أفعال لا تبيحها شريعته. بل يتعين أن يكون نبيئاً موحى إليه بوحي خاص، وعَلِم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها. ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله: بلَى عبدنا خضر هو أعلم منك. كما في حديث أبَي بن كعب، لم يَصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمةً وحده. وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقاً بموسى عليه السلام.
ومعنى أو أمضي} أو أسير. والمضي: الذهاب والسير.
والحُقُب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار، وجمعه أحقاب.
وعطف {أمضي} على {أبلغ} ب (أو) فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمناً طويلاً. ولما كان موسى لا يخامره الشك في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلفاء طلبته عنده، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمناً يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو أسير أزماناً طويلة فإني بالغ مجمع البحرين لا محالة، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما، كما دل عليه قوله بعد {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصباً} [الكهف: 62].
أو أراد شحْذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد.
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)}
الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وضمير {بينهما} عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين. وأضيف (مجمع) إلى (بين) على سبيل التوسع، فإن (بين) اسم لمكان متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفاً للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافةِ كما هنا، ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} [المائدة: 106]، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معمولة؛ أو بدون إضافة توسعاً كقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] في قراءة من قرأ برفع بينكم.
والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث. والنسيان تقدم في قوله تعالى: {أو ننسها} في سورة البقرة (106).
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباققٍ هو في مِكتله حينئذٍ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعباً في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته. وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وَكَله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده. ثم إن موسى عليه السلام نام وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت وجعل لنفسه طريقاً في البحر.
والسرَب: النفق. والاتخاذ: الجعل. وقد انتصب سرباً} على الحال من {سبيله} مراداً بالحال التشبيه، كقول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوّع المسك منهما *** نسيمَ الصبا جاءت بِريّا القرَنفل
وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سرباً في الحديث السابق عن أبَيّ بن كعب.
وحذف مفعول {جاوزا} للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين.
والغداء: طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يُؤكل في وقت الغَدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي. والنصب: التعب.
والصخرة: صخرة معهودة لهما، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين. قيل: إن موضعها دون نهر يقال له: نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون.
وقوله: {نسيت الحوت} أي نسيت حفظه وافتقاده، أي فانفلت في البحر.
وقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}. هذا نسيان آخر غير النسيان الأول، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه.
وقرأ حفص عن عاصم {وما أنسانيه} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف.
و {أن أذكره} بدل اشتمال من ضمير {أنسانيه} لا من الحوت، والمعنى: ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان. فالذكر هنا ذكر اللسان.
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به. ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعاً في حدوث العوائق.
وجملة {واتخذ سبيله في البحر} عطف على جملة {فإني نسيت الحوت} وهي بقية كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتاً زمناً طويلاً.
وقوله: {عجباً} جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجبُ له عجباً، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله.
{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}
{قال ذلك} الخ.. جواب عن كلامه، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة.
والإشارة ب {ذلك} إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقْد الحوت. ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى. وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت.
وكتب {نبغ} في المصحف بدون ياء في آخره، فقيل: أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها. وقيل: أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية. والعرب يميلون إلى التخفيف. فقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل، وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير، ويعقوب بإثباتها في الحالين، والنون نون المتكلم المشارك، أي ما أبغيه أنا وأنت، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح.
والارتداد: مطاوع الرد كأن راداً رَدّهما. وإنما ردتهما إرادتهما، أي رجعا على آثار سيرهما، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه.
والقصص: مصدر قص الأثر، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول.
والمراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له، كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].
وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جُعل مرحوماً، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.
و (عند) و(لدن) كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب. ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.
و (من) ابتدائية، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلماً صدر منه أيضاً. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن.
والمخالفة بين من عندنا} وبين {من لدنا} للتفنن تفادياً من إعادة الكلمة. وجملة {قال له موسى} ابتداء محاورة، فهو استئناف ابتدائي، ولذلك لم يقع التعبير ب (قال) مجردة عن العاطف.
والاستفهام في قوله: {هل أتبعك} مستعمل في العَرْض بقرينة أنه استفهام عن عمل نَفس المستفهم. والاتباع: مجاز في المصاحبة كقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} [النّجم: 28].
و (على) مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي.
جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما. فصيغة: أَفْعَلُ كذا على كذا، من صيغ الالتزام والتعاقد.
ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم، كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي فلم يقبلها، فزوجها مَن رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن.
وفيه أنه التزام يجب الوفاء به. وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم.
وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك للعلم من كتاب المدارك: أن رجلاً خراسانياً جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرِضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم، فسأله أن يَقرأ عليهم فأبى مالك، فاستعدى الخراساني قاضيَ المدينة. وقال: جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا. فحكم القاضي على مالك: أن يقرأ له، فقيل لمالك: أأصاب القاضي الحق؟ قال: نعم.
وفيه أيضاً إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به.
وانتصب رشداً} على المفعولية ل {تعلمن} أي ما به الرشد، أي الخير.
وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يؤبّرون النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم». ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيشُ المسلمين ببدر أولَ مرة ليس الأليقَ بالحرب.
وإنما رام موسى أن يَعلم شيئاً من العِلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير. وقد قال الله تعالى تعليماً لنبيه {وقل رب زدني علماً} [طه: 114]. وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غيرِ عامة تتعلق بمعينين لِجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة. فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمداً رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسةَ التشريع العامة. ونظيره معرفة النبي أحوال بعض المشركين والمنافقين، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوماً إلى الإيمان، وتحققه أن أولئك المنافقين غيرُ مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي إياه بهم.
وقرأ الجمهور رشداً} بضم الراء وسكون الشين. وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين، وهما لغتان كما تقدم.
وأكد جملة {إنك لن تستطيع معي صبراً} بحرف (إن) وبحرف (لَن) تحقيقاً لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف. ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجرء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.
وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يُقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار. فمناط التأكيدات في جملة {إنك لن تستطيع معي صبراً} إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبراً على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله: {ستجدني إن شاء الله صابراً}.
وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبِه المعلمُ المتعلمَ بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لا سيما إذا كانت في معالجتها مشقة.
وزادها تأكيداً عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرةً في سياق النفي، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطع ذلك، فأفاد هذا التركيبُ نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه.
وزيادة {معي} إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر.
وجملة {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} في موضع الحال من اسم (إن) أو من ضمير {تستطيع}، فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى. وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد، للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لِمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها.
و (كيف) للاستفام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خُبراً.
والخُبر بضم الخاء وسكون الباء: العِلم. وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله: {ما لم تحط به}، أي إحاطة من حيث العلم.
والإحاطةُ: مجاز في التمكن، تشبيهاً لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.
وقوله: {ستجدني إن شاء الله صابراً} أبلغ في ثبوت الصبر من نحو: سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه. وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد.
ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمِر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغاً في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم.
فجملة {ولا أعصي لك أمراً} معطوفة على جملة {ستجدني}، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفاً على {صابراً} فيؤوَّل بمصدر، أي وغير عاص. وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم.
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانةً به وحرصاً على تقدم التيْسير تأدباً مع الله إيذانٌ بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالباً الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة. وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقَى من موسى هذه المعاملة فقال له: {إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً}، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره. والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علماً.
والتاء في قوله: {فإن اتبعتني} تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابراً، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه.
وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقاً لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه، فربما كان الجواب عنه بدون شَرَهِ نفس، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاففٍ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسباً ليكون البيان أبسط والإقبال أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين.
والذكر، هنا: ذكر اللسان. وتقدم عند قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي} في سورة البقرة (40). أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض.
وإحداث الذكر: إنشاؤه وإبرازه، كقول ذي الرمة:
أحْدَتْنا لخالقهَا شُكراً ***
وقرأ نافع فَلَا تَسْأَلَنِّي} بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترناً بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم.
وقرأ ابن عامر مثله، لكن بحذف ياء المتكلم. وقرأ البقية {تسألني} بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. وأثبتوا ياء المتكلم.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)}
أي فعقِب تلك المحاورة أنهما انطلقا. والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد، لأن الدابة إذا حُلّ عقالها مشت. فأصله مطاوع أطلقه.
و (حتى) غاية للانطلاق. أي إلى أن ركبا في السفينة.
و (حتى) ابتدائية، وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله: {إذا ركبا في السفينة}. أصل الكلام: حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها.
وتعريف {السفينة} تعريف العهد الذهني، مثل التعريف في قوله تعالى: {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف: 13].
وإذا} ظرف للزمان الماضي هنا، وليست متضمنة معنى الشرط. وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما. وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادِر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل.
وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة، لأن في تقديم الظرف اهتماماً به، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه.
وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي، فلذلك عدي بحرف (في) الظرفية نظير قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها} [هود: 41] دون نحو قوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} [النحل: 8]. وقد تقدم ذلك في سورة هود.
والخرق: الثقب والشق، وهو ضد الالتئام.
والاستفهام في أخرقتها} للإنكار. ومحل الإنكار هو العلة بقوله: {لتغرق أهلها}، لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه. 6 ولذلك توجه أن يغير موسى عليه السلام هذا المنكَر في ظاهر الأمر، وتأكيد إنكاره بقوله: {لقد جئت شيئاً إمراً}.
والإمر بكسر الهمزة: هو العظيم المفظع. يقال: أَمِر كفرح إِمراً، إذا كثر في نوعه. ولذلك فسره الراغب بالمنكر، لأن المقام دال على شيء ضارّ. ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة. ولم يجعله نكراً كما في الآية بعدها لأن العلم الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل.
وقرأ الجمهور {لتغرق} بمثناة فوقية مضمومة على الخطاب. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {ليَغرق} بتحتية مفتوحة ورفع {أهلها} على إسناد فعل الغرق للأهل.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)}
استفهام تقرير وتعريض باللوم على عدم الوفاء بما التزم، أي أَتُقِرّ أني قلتُ إنك لا تستطيع معي صبراً.
و {معي} ظرف متعلق ب {تستطيع}، فاستطاعة الصبر المنفية هي التي تكون في صحبته لأنه يرى أموراً عجيبة لا يدرك تأويلها.
وحُذف متعلق القول تنزيلاً له منزلة اللازم، أي ألم يقع مني قول فيه خطابك بعدم الاستطاعة.
{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)}
اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسي التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره.
والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذةَ من لا يَصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر. فالحَزامة الاحتراز من صحبة من يطرأ عليه النسيان، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان، كأنه رأى نفسه محقوقاً بالمؤاخذة، فكان كلاماً بديع النسيج في الاعتذار.
والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} [النحل: 61].
و (ما) مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني.
والإرهاق: تعدية رهق، إذا غشِي ولحق، أي لا تُغشِّني عسراً. وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة.
والإرهاق: مستعار للمعاملة والمقابلة.
والعسر: الشدة وضد اليسر. والمراد هنا: عسر المعاملة، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح.
والأمر: الشأن.
و (مِن) يجوز أن تكون ابتدائية، فكون المراد بأمره نسيانه، أي لا تجعل نسياني منشئاً لإرهاقي عُسراً. ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسراً.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}
يدل تفريع قوله: {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً} عن اعتذار موسى، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين.
والقول في نظم قوله: {حتى إذا لقيا غلاماً} كالقول في قوله: {حتى إذا ركبا في السفينة} [الكهف: 71].
وقوله: فقتله} تعقيب لفعل {لقيا} تأكيداً للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها.
وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه وصف هذا الفعل بأنه نكُر، وهو بضمتين: الذي تنكره العقول وتستقبحه، فهو أشد من الشيء الإمْر، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم. ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنباً فكان زكياً طَاهراً. والزكاء: الزيادة في الخير.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب {زَاكية} بألف بعد الزاي اسم فاعل من زكا. وقرأ الباقون {زكية}، وهما بمعنى واحد.
قال ابن عطية: النون من قوله: {نكراً} هي نصف القرآن، أي نصف حروفه. وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور: إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى: {وليتلطف} في هذه السورة (19).
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)}
كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة {لَكَ} وهو تصريح بمتعلّق فعل القول. وإذ كان المقول له معلوماً من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به.
واللام في قوله {لَكَ} لام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقوللٍ أو ما في معناه، نحو: قلت له، وأذنت له، وفسّرت له؛ وذلك عندما يكون المقول له الكلام معلوماً من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع، ولذلك سميت لام التبليغ. ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة {ألم أقل أنّك لن تستطيع معي صبراً، فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشدّ.
وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان: إما لأنه لم يكن نَسِي، ولكنه رجّح تغيير المنكر العظيم، وهو قتل النفس بدون موجب، على واجب الوفاء بالالتزام؛ وإما لأنّه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به، وعلى الاحتمالين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعدَه.
وفي الحديث عن النبي: كانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً}، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين.
وأنْصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنباً لإحراجه.
وقرأ الجمهور: {لَّدُنّي} بتشديد النون قال ابن عطية: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سنداً خاصاً مروياً فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.
وقرأ نافع، وأبو بكر، وأبو جعفر {مِنْ لَدُنِي بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفاً، لأن (لدنْ) أثقل من (عَن) (ومَن) فكان التخفيف فيها مقبولاً دونهما.
ومعنى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنّي عُذراً} قد وصلت من جهتي إلى العذر. فاستعير {بَلَغْتَ} لمعنى (تحتّم وتعين) لوجود أسبابه بتشبيه العذر في قَطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية. وأثبت له البلوغ تخييلاً، أو استعار البلوغ لتَعيُّن حصول الشيء بعد المماطلة.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}
نظم قوله {فانطَلَقا حَتَّى إذا أَتَيَا أهْلَ قَرْيةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا} كنظم نظيريه السابقين.
والاستطعام: طلب الطعام. وموقع جملة {استَطْعَمَا أَهْلَهَا} كموقع جملة (خرقها) وجملة (فقتله)، فهو متعلق (إذَا). وإظهار لفظ {أَهْلَهَا} دون الإتيان بضميرهم بأن يقال: استطعماهم، لزيادة التصريح، تشنيعاً بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما. وذلك لؤم، لأنّ الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس. ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة، أو من أعدّ نفسه لذلك من كرام القبيلة؛ فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية.
وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالاً عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جواباً طويلاً نثراً ونظماً بما لا يقنع، وقد ذكرهما الآلوسي.
وفي الآية دليل على إباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شَرْع من قبلنا، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه.
ودلّ لَوْم موسى الخضرَ، على أن لم يأخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم.
وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الحيّ أو القرية. وفي حديث «الموطأ» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِم ضيفَه جائزَتَه يومٌ وليلة (أي يُتحفه ويبالغ في بره) وضيافته ثلاثة أيام (أي إطعامٌ وإيواء بما حضر من غير تكلّف كما يتكلف في أول ليلة) فما كان بعد ذلك فهو صدقة ".
واختلف الفقهاء في وجوبها فقال الجمهور: الضيافة من مكارم الأخلاق، وهي مستحبة وليست بواجبة. وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. وقال سحنون: الضيافة على أهل القُرى والأحياء، ونسب إلى مالك. قال سحنون: أما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافرون. وقال الشافعي ومحمد بن عبد الحكم من المالكية: الضيافة حق على أهل الحضر والبوادي. وقال الليث وأحمد: الضيافة فرض يوماً وليلة.
ويقال: ضَيّفه وأضافه، إذا قام بضيافته، فهو مضيّف بالتشديد. ومُضيف بالتخفيف، والمتعرض للضيافة: ضَائف ومُتَضيّف، يقال: ضِفته وتضيّفته، إذا نزل به ومال إليه.
والجدار: الحائط المبني.
ومعنى {يُرِيدُ أن يَنقَضَّ} أشرف على الانقضاض، أي السقوط، أي يكاد يسقط، وذلك بأن مال، فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعلَ شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده، لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه.
وإقامة الجدار: تسوية مَيله، وكانت إقامته بفعل خارق للعادة بأن أشار إليه بيده كالذي يسوي شيئاً ليّناً كما ورد في بعض الآثار.
وقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرَاً} لَوْم، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجراً على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجاناً لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا، وفيه إشارة إلى أن نفقة الأتباع على المتبوع.
وهذا اللوم يتضمن سؤالاً عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة إلى الأجر، وليس هو لوماً على مجرد إقامته مجاناً، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم.
وقرأ الجمهور {لاتّخذتَ بهمزة وصل بعد اللام وبتشديد المثناة الفوقية على أنه ماضي (اتخذ).
وقرأ ابن كثير، وأبو عَمرو، ويعقوب لتَخِذْتَ بدون همزة على أنه ماضي (تَخِذ) المفتتح بتاء فوقية على أنه ماضي (تخذ) أوله فوقية، وهو من باب علم.
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
المشار إليه بلفظ {هذا} مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال: الشرطُ أمْلَك عليك أمْ لك. وكثيراً ما يكون المشار إليه مقدراً في الذهن كقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة} [القصص: 83]. وإضافة {فراق} إلى {بيتي} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله: فراقٌ بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج (بين) عن الظرفية عند قوله تعالى: {فلما بلغا مجمع بينِهما} [الكهف: 61].
وجملة {سأُنْبِئُك} مستأنفة استئنافاً بيانياً، تقع جواباً لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يُحدث له ذكراً مما يفعله.
والتأويل: تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضاً عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون} الخ.. من أول سورة آل عمران (7).
وفي صلة الموصول من قوله مَا لَمْ تَسْتطِع عليه صَبْراً} تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً}.
والمساكين: هنا بمعنى ضعَفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويُرَق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم. فليس المراد أنهم فقراء أشدّ الفقر كما في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60] بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يُرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين: «... مسكين ابن آدم وأيّ مسكين».
وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد.
ومعنى: {وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ}: هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخّر كل سفينة يجدها غصباً، أي بدون عوض. وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملِك في مصالح نفسه وشهواته، كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام.
ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كلّ بحسب حاله من الاحتياج لأنّ ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها.
و {وراءَ اسم الجهة التي خلفَ ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم، وهو ضد أمام وقدّام.
ويستعار (الوراء) لحال تعقب شيء شيئاً وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريباً، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى: {مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ} في [الجاثية: 10].
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراختْ منيتي *** لزُوم العصا تُحنى عليها الأصابع
وبعض المفسرين فسروا وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} بمعنى أمامهم ملك، فتوهم بعض مدوني اللغة أن (وراء) من أسماء الأضداد، وأنكره الفراء وقال: لا يجوز أن تقول للذي بين يديك هو وراءك، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول: وراءك بَرد شديد، وبين يديك بَرد شديد. يعني أنّ ذلك على المجاز. قال الزجاج: وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللّغة.
ومعنى {كلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي صالحة، بقرينة قوله {فأردت أن أعيبها}، وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصاً وأقوالاً لم يثبت شيء منها بعينه، ولا يتعلّق به غرض في مقام العبرة.
وجملة {فَأَرَدتُّ أنْ أعِيبَهَا} متفرعة على كل من جملتي {فَكَانت لمساكين}، و{وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ}، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر، ولكنها قدمت خلافاً لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملاً ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجباً في الإقدام على خرقها. والمعنى: فأردت أن أعيبها وقد فعلت. وإنما لم يقل: فعبتها، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل.
وقد تطلق الإرادة على القصد أيضاً. وفي «اللسان» عزو ذلك إلى سيبويه.
وتصرفُ الخضر في أمر السفينة تصرف برَعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالماً بحال الملك، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين. وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلاّ الخضر، فلذلك أنكره موسى.
وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جارٍ على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي، فليس من مقام التشريع، وذلك أنّ الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغياً كافراً. وأراد الله اللّطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالَم من هذا الطاغي لطفاً أرادهُ الله خارقاً للعادة جارياً على مقتضى سبق علمه، ففي هذا مصلحة للدّين بحفظ أتباعه من الكفر، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين، ومصلحة عامة لأنه حقّ لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد.
والزّكاة: الطهارة، مراعاة لقول موسى {أقتلت نفساً زاكية.
والرُحْم: بضم الراء وسكون الحاء: نظير الكُثْر للكثرة.
والخشية: توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله.
وضميرا الجماعة في قوله فَخَشِيَنَا} وقوله {فَأَرَدْنَا} عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال: {فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا}، ولم يقل مثله عندما قال {فَأَرَدتُ أنْ أعِيبَها} لأنّ سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون} في سورة يوسف (79).
وقرأ الجمهور أنْ يُبَدِّلَهُمَا} بفتح الموحدة وتشديد الدال من التبديل. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الموحدة وتخفيف الدال من الإبدال.
وأما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة. وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين.
وقوله: {رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها.
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال {وما فعلته عن أمري} علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربّي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ.
وانتصب {رحْمَةً} على المفعول لأجله فينازعه كل من (أردتُ)، و(أردنَا)، و(أراد ربّك).
وجملة {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً} فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله {أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين}، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه.
و {تَسْطِعْ مضارع (اسطاع) بمعنى (استطاع). حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء، والمخالفةُ بينه وبين قوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه. وابتدئ بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر {تَسْتَطِع} يحصل من تكريره ثقل.
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله {سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً} تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر.
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة.
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه.
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه «الفتوحات المكية»، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة. وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في «عقائده»، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي، لقوله {وما فعلته عن أمري}، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.
فكونوا على حذر ممن يقول: أخبرني الخَضر.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)}
افتتاح هذه القصة ب {وَيَسْئَلُونَكَ} يدلّ عل أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضاباً تنبيهاً على مثل ذلك.
وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي} في سورة الإسراء (85) عن ابن عباس: أن المشركين بمكة سألوا النبي ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب. فقالوا: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها كلها فليس بنبيء. وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبيء؟. وبيّنا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف. وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سَوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة.
فالسائلون: قريش لا محالة، والمسؤول عنه: خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين، كانت أخبار سيرته خفيّة مُجملة مغلقة، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها، وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق، فكان أحْبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جَرّبوا بها نبوءة محمد.
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حِكميةً أو خُلقيةً فلذلك قال الله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنهُ ذِكراً}.
والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره، فحذف المضاف إيجازاً لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله: {مِنْهُ} أي من خبره و(مِن) تبعيضية.
والذكر: التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكراً مبالغة بالوصف بالمصدر، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تُساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية.
اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافاً كثيراً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصّاصين الذين عُنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها. والذي يجب الانفصال فيه بادئ ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفاً ذاتياً له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ.
ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة، بل هما على التشبيه أو على الصورة. فالأظهر أن يكونا ذُؤابتين من شعر الرأس متدليتين، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية، قال عُمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذاً بقُرونها *** شُرب النزيف ببرَد ماء الحشرج
وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية: «فجعلنا رأسها ثلاثة قرون»، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفيرتين فسمي ذا القرنين، كما سمّي خِربَاق ذا اليدين.
وقيل: هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنُعت بهما. وقيل: هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون.
ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين، فأحد الأقوال: إنه الإسكندر بن فيليبوس المقدوني. وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين. وقيل: كان يلبس خوذة في الحرب بها قرنان، وقيل: رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلاً لنفسه بالمعبود (آمون) معبود المصريين وذلك حين ملَك مصر.
والقول الثاني: إنه ملك من ملوك حمير هو تُبّع أبو كرب.
والقول الثالث: أنه ملك من ملوك الفرس وأنه (أفريدون بن أثفيان بن جمشيد). هذه أوضح الأقوال، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته.
ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالاً تقرّب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع.
وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها:
إحداها: أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً.
الثانية: أنه كان ملهَماً من الله.
الثالثة: أن مُلكه شمل أقطاراً شاسعة.
الرابعة: أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكاناً كان مجهولاً وهو عين حَمئة.
الخامسة: أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطاً بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه.
السادسة: أنه أقام سدّاً يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين.
السابعة: أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فساداً وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك.
الثامنة: أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء.
التاسعة: أن خبره خفيّ دقيق لا يعلمه إلاّ الأحبار علماً إجمالياً كما دل عليه سبب النزول.
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكاً صالحاً بل كان وثنياً فلم يكن أهلاً لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضاً فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سُدّاً بين بلدَين.
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الإسكندر، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلاّ من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تَدمر بناها سليمان عليه السلام. وأيضاً فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة (سكيثوس). وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريباً.
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم اسكندر المقدوني أثراً في اشتهار نسبة السد إليه. وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عُراة أو عديمي المساكِن، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين. وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعْنيّ بذي القرنين في هذه الآية، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به. وأيضاً فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية.
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملكُ المتحدث عنه هو أفريدون، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم. وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصراً إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع. ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة (ذو) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين لوجوه:
أحدها: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.
الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.
الثالث: أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.
الرابع: أن سُداً ورَدْماً عظيماً لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المَغُول، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.
الخامس: ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال: «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا» وأشار بعقد تسعين (أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام). وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شَاول ملك إسرائيل باسم طالوت.
وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا. واسم هذا الملك (تْسِينْشِي هْوَانْفتي) أو (تْسِينْ شِي هْوَانْقْ تِي). وكان موجوداً في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن. وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين (كنفيشيوس) المشرع المصلح، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيراً وقتل علماء وأحرق كتباً، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ. وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين. وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحِد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة.
والأمر في قوله {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملاً بقوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} على أحد تأويلين في معناه.
والسين في قول {سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربّي} في سورة يوسف (98).
وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكراً للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص.
وقوله مِنْهُ ذِكْراً} تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكراً وعظة. ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف: نحن نقصّ عليك من نبئهم، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا.
وحرف (من) في قوله {مِنْهُ ذِكْراً} للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره.
والتمكين: جعل الشيء متمكناً، أي راسخاً، وهو تمثيل لقوّة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد. وحق فعل (مكنّا) التعدية بنفسه، فيقال: مكّناه في الأرض كقوله {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6].
فاللام في قوله: مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ} للتوكيد كاللام في قولهم: شكرت له، ونصحت له، والجمْع بينهما تفنن. وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6].
فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف.
والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض مُلكه. وتقدم عند قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف: 56].
والسبب: حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} في سورة البقرة (166).
و كُلّ شَيْءٍ} مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}
السبب: الوسيلة. والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله: {فأتبع سبباً حتى إذا بلغ مغرب الشمس.} والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وءاتيناه مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} إظهار اسم السبب دون إضماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أُريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيهاً على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقاً للسير وكان سيره للغزو، كما دلّ عليه قوله: {حَتَّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}.
ولم يعدّ أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام. ويظهر أن قوله تعالى: {أسباب السموات} [فاطر: 37] من هذا المعنى. وكذلك قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ***
أي هاب طرق المنايَا أن يسلكها تنله المنايا، أي تأتيه، فذلك مجاز بالقرينة.
والمراد ب {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته. وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل. والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين.
والقول في تركيب {حتى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} كالقول في قوله: {حتى إذا ركبا في السفينة خرقها}.
والعين: منبع ماء.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {في عيننٍ حمئة مهموزاً مشتقاً من الحمأة، وهو الطين الأسود. والمعنى: عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف: في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن.
ويظهر أن هذه العين من عيون النفْط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة (باكو)، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفاً يومئذ. والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة.
وتنكير قَوْماً} يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.
فجملة {قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ} استئناف بياني لما أشعر به تنكير {قَوْماً} من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.
وقد دل قوله: {إمَّا أن تُعَذّبَ وإمَّا أن تَتَّخِذَ فِيهمْ حُسْناً} على أنهم مستحقون للعذاب، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه تردداً بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله {قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ}، أي قال في نفسه معتمداً على حالة وسط بين صورتي التردد.
وقيل: إن ذا القرنين كان نبيئاً يوحى عليه فيكون القول كلاماً موحىً به إليه يخيّره فيه بين الأمرين، مثل التخيير الذي في قوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4]، ويكون قوله: {قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ} جواباً منه إلى ربّه. وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 79].
و {حُسْناً} مصدر. وعدل عن (أن تحسن إليهم) إلى {أن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسناً} مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحُسن، مثل قوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} [البقرة: 83]. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.
والظلم: الشرك، بقرينة قسيمه في قوله {وأما من آمن وعمل صالحاً}.
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله: {فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ} يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه. وقد صرح بهذا المفهوم في قوله {وأمَّا مَن ءَامَنَ وعَمِلَ صالحا} أي آمن بعد كفره. ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.
والمعنى: فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال: {ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً} وذلك عذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {جزاءُ الحسنى بإضافة جزاء إلى الحسنى على الإضافة البيانية. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف جزاءً الحسنى بنصب جزاءً منوناً على أنه تمييز لنسبة استحقاقه الحسنى، أو مصدر مؤكد لمضمون جملة فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى}، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير.
وتأنيث {الحُسْنَى} باعتبار الخصلة أو الفعلة. ويجوز أن تكون {الحسنى} هي الجنة كما في قوله {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].
والقول اليسر: هو الكلام الحسن، وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه، وهو مثل قوله تعالى: {فقل لهم قولاً ميسوراً} [الإسراء: 28] أي جميلاً.
فإن كان المراد من {الحسنى} الخصال الحسنى، فمعنى عطف {وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أمْرِنَا يُسْراً} أنه يجازَى بالإحسان وبالثناء، وكلاهما من ذي القرنين، وإن كان المراد من {الحُسْنَى} ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مُخبر به خبراً مستعملاً في فائدة الخبر، على معنى. إنا نُبشره بذلك، أو مستعملاً في لازم الفائدة تأدباً مع الله تعالى، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى.
وعطف عليه {وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)}
تقدم خلاف القراء في {فَأتْبَعَ سَبَباً} فهو كذلك هنا.
ومطلع الشمس: جهة المشرق من سلطانه ومملكته، بلغ جهة قاصية من الشرق حيث يُخال أن لا عمران وراءها، فالمطلع مكان الطلوع.
والظاهر أنه بلغ ساحل بحر اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقاً، فوجد قوماً تطلع عليهم الشمس لا يسترهم من حرها، أي لا جبل فيها يستظلون بظلّه ولا شجر فيها، فهي أرض مكشوفة للشمس، ويجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا قوماً عراة فكانوا يتّقون شعاع الشمس في الكهوف أو في أسراب يتخذونها في التراب. فالمراد بالستر ما يستر الجسد.
وكانوا قد تعودوا ملاقاة حرّ الشمس، ولعلهم كانوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عن أنفسهم ما يلاقونه من القُر ليلاً.
وفي هذه الحالة عبرة من اختلاف الأمم في الطبائع والعوائد وسيرتهم على نحو مناخهم.
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)}
الكاف للتشبيه، والمشبه به شيء تضمنه الكلام السابق بلفظه أو معناه.
والكاف ومجرورها يجوز أن يكون شِبه جملة وقع صفة لمصدر محذوف يدلّ عليه السياق، أي تشبيهاً مماثلاً لما سمعت.
واسم الإشارة يشير إلى المحذوف لأنه كالمذكور لتقرر العلم به، والمعنى: من أراد تشبيهه لم يشبهه بأكثر من أن يشبهه بذاته على طريقة ما تقدم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143).
ويجوز أن يكون جزء جملة حذف أحد جزأيها والمحذوف مبتدأ. والتقدير: أمر ذي القرنين كذلك، أي كما سمعت.
ويجوز أن يكون صفة ل قَوْماً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} أي قوماً كذلك القوم الذين وجدهم في مغرب الشمس، أي في كونهم كفاراً، وفي تخييره في إجراء أمرهم على العقاب أو على الإمهال. ويجوز أن يكون المجرور جزء جملة أيضاً جلبت للانتقال من كلام إلى كلام فيكون فصل خطاب كما يقال: هذا الأمر كذا.
وعلى الوجوه كلها فهو اعتراض بين جملة {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس} الخ... وجملة {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين} [الكهف: 92، 93] الخ...
هذه الجملة حال من الضمير المرفوع في ثم اتبع وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}.
و {بِما لَدَيهِ}: ما عنده من عظمة الملك من جند وقوّة وثروة.
والخبرُ بضم الخاء وسكون الموحدة: العلم والإحاطة بالخبر، كناية عن كون المعلوم عظيماً بحيث لا يحيط به علماً إلاّ علاّم الغيوب.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)}
السدّ بضم السين وفتحها: الجبل. ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل، لأنه يسد به الفضاء، وقيل: الضم في الجبل والفتح في الحاجز.
وقرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف، ويعقوب بضم السين وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة.
والمراد {بالسدين هنا الجبلان، وبالسد المفرد الجدار الفاصل، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك.
وتعريف السَّدَّيْنِ} تعريف الجنس، أي بين سدّين معينين، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين.
ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب. وعينه المفسّرون أنه للشمال، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني، فقالوا: إن جهة السدّين بين (أرمينيا وأذربيجان). ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين، فنقول: إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء (قوبِي) الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب (منغوليا). وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثارهُ إلى اليوم شاهدَها الجغرافيون والسائحون وصورت صوراً شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية.
ومعنى {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام.
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم.
وقرأ الجمهور {يَفْقَهُونَ} بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم. وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم. والمعنيان متلازمان. وهذا كما في حديث الإيمان: «نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول».
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج. ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا: هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوماً صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر.
وجملة {قَالُوا} استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى {لا يَكَادونَ يَفْقَهونَ قَولاً} أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين، وهم المغول وبعض أصناف التتار. وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين.
ووقع لعلماء التاريخ وعلماء الأنساب في اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما، وقد قال بعض العلماء: إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال له أيضاً (سكيثوس) وربما يقال له (جيته). وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم انقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة، فمنها ماجوج وياجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك. ويحتمل أن الواو المذكورة ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيباً مزجياً، فيتكون اسماً لأمة وهم المغول.
والذي يجب اعتماده أن ياجوج وماجوج هم المغول والتتر. وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون ياجوج هم التتر. وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين. وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أمّ حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج مثل هذه». وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. وقد تقدم آنفاً.
ولا يعرف بالضبط وقت انطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك. ويقدّر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري. وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628هـ ثم ما كان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660هـ.
ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمّة من العرب البائدة، وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر، وإطلاق أولاد وزاز وأولاد يحيى على حيّ بتونس بالجنوب الغربي، ومَرَادة وفِرْجان على حي من وطن نابل بتونس.
وقرأ الجمهور {ياجوج وماجوج} كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز، وقرأه عاصم بالهمز.
واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرّب، وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج، وهو الخلط، إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطاً من أصناف.
والاستفهام في قوله {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ}، مستعمل في العَرض.
والخرْج: المال الذي يدفع للملك. وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء في قراءة الجمهور. ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء، وكذلك قرأه حمزة، والكسائي، وخلف.
وقرأ الجمهور {سُدًّا بضم السين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وحمزة، والكسائي، وخلف بفتح السين.
وقوله ما مكَّنّي فِيه ربِّي خيرٌ} أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين، فأراد أن يبني سُوراً ممتداً على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذّر عليهم تسلق تلك الجبال، ولذلك سمّاه رَدْماً.
والردم: البناء المردّم. شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع، أي سُداً مضاعفاً. ولعله بَنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتُراب المخلوط ليتعذر نقبه.
ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم: {فأعينوني بقوة} أي بقوّة الأبدان، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم.
وقد بنى ذو القرنين وهو (تْسين شي هوانق تِي) سلطان الصين هذا الردم بناء عجيباً في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخَدمَة، فجعل طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة كيلومتر. وبعضهم يقول: ألفا ومائتي ميل، وذلك بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل، وجعل مبدأه عند البحر، أي البحر الأصفر شرقي مدينة (بيكنغ) عاصمة الصين في خط تجاه مدينة (مُكْدن) الشهيرة. وذلك عند عرض 4، 540 شمالاً، وطول 02، 512 شرقاً، وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 50، 5111 شرقاً، والعرض 50، 539 شمالاً، وأيضاً في 375 عرض شمالي. ومن هنالك ينعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب 599 طولاً شرقياً و540 عرضاً شمالياً.
وهو مبني بالحجارة والآجر وبعضه من الطين فقط.
وسمكه عند أسفله نحو 25 قدماً وعند أعلاه نحو 15 قدماً وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدماً، وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدماً.
وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع، ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا، وهو يخترق جبال (يابلوني) التي هي حدود طبيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرَفه إلى الشمال الغربي لصحراء (قوبي).
وقرأ الجمهور {مَكَّنّي} بنون مدغمة، وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل.
وقوله {ءَاتُوني زُبَرَ الحَدِيدِ} هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد.
فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفاً للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله {ما مكَّني فيه ربي خير فأعينوني بقوة} أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقاً على جعل السدّ. وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شُعَب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد.
والزُبَر: جمع زُبْرة، وهي القطعة الكبيرة من الحديد.
والحديد: معدن من معادن الأرض يكون قِطعاً كالحَصَى ودون ذلك فيها صلابة. وهو يصنف ابتداء إلى صنفين: ليّن، ويقال له الحديد الأنثى، وصُلب ويقال له الذكر. ثم يُصنف إلى ثمانية عشر صنفاً، وألوانه متقاربة وهي السنجابي، منها ما هو إلى الحمرة، ومنها ما هو إلى البياض، وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالإسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع ما فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدأ والخبث، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبَد. وخبَث الحديد الوارد في الحديث: " إنّ المدينة تنفي خبَثها كما ينفي الكِيرُ خبث الحديد ". ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الأجزاء الغريبة الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زُبَراً. ومن تلك الزُبر تُصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات، ولا وسيلة لصنعه إلاّ الصهر أيضاً بالنار بحيث تصير الزبرة كالجَمر، فحينئذ تُشَكّل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية.
والعصرُ الذي اهتدى فيه البشر لصناعة الحديد يسمى في التاريخ العصر الحديدي.
وقوله: {حتَّى إذا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ} أشعرت {حَتَّى} بشيء مغيّاً قبلها، وهو كلام محذوف تقديره: فآتوه زُبَر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل ما بين الصدفين مساوياً لعلو الصدفين. وهذا من إيجاز الحذف. والمساواة: جعل الأشياء متساوية، أي متماثلة في مقدار أو وصف.
والصدفان بفتح الصاد وفتح الدال في قراءة الجمهور وهو الأشهر. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بضم الصاد والدال، وهو لغة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الصاد وسكون الدال.
والصدف: جانب الجبل، وهما جانبا الجبلين وهما السدان. وقال ابن عطية والقزويني في «الكشف»: لا يقال إلاّ صدفان بالتثنية، ولا يقال لأحدهما صَدف لأن أحدهما يصادف الآخر، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المِقَصّان لما يقطع به الثوب ونحوه. وعن أبي عيسى: الصدف كلّ بناء عظيم مرتفع.
والخطاب في قوله {انْفُخُوا} وقوله {ءَاتُونِي} خطاب للعملة. وحذف متعلّق {انْفُخُوا} لظهوره من كون العمل في صنع الحديد. والتقدير: انفخوا في الكِيرَان، أي الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين من زُبر الحديد.
وقرأ الجمهور: {قَالَ ءَاتُونّي} مثل الأول. وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم {ائتوني على أنه أمر من الإتيان، أي أمرهم أن يحضروا للعمل.
والقطر} بكسر القاف: النّحاس المُذاب.
وضمير {اسْطَاعُوَا} و{اسَتَطَاعُوا} ليأجوج ومأجوج.
والظهور: العلو. والنقب: كسر الرّدم، وعدم استطاعتهم ذلك لارتفاعه وصلابته.
و {اسْطَاعُوَا} تخفيف {اسَتَطَاعُوا}، والجمع بينهما تفنن في فصاحة الكلام كراهية إعادة الكلمة. وابتدئ بالأخف منهما لأنه وليه الهمز وهو حرف ثقيل لكونه من الحلق، بخلاف الثاني إذ وليه اللام وهو خفيف.
ومقتضى الظاهر أن يُبتدأ بفعل {اسَتَطَاعُوا} ويثني بفعل {اسْطَاعُوَا} لأنه يثقل بالتكرير، كما وقع في قوله آنفاً {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} [الكهف: 78] ثم قوله: {ذلك تأويل ما لم تَسْطِع عليه صبراً} [الكهف: 82].
ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة زيادة المبنى على زيادة في المعنى.
وقرأ حمزة وحده {فَما اسْطَّاعوا الأول بتشديد الطاء مدغماً فيها التاء.
وجملة قال هذا رحمة من ربي} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل: ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم؟ فيجاب بجملة: {قال هذا رحمة من ربي}.
والإشارة بهذا إلى الرّدم، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة.
و (من) ابتدائية، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب.
وفرع عليه {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً} نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال. ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان.
والوعد: هو الإخبار بأمر مستقبل. وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم، فاستعار له اسم الوعد. ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه.
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم «فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة» كما تقدم.
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة، أي جعله مدكوكاً، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {جَعلهُ دَكّاءَ} بالمد. والدكاء: اسم للناقة التي لا سنام لها، وذلك على التشبيه البليغ.
وجملة {وكان وعد ربي حقاً} تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38] و{لكل أمة أجل} [يونس: 49] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف. وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً.
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ}
الترك: حقيقته مفارقة شيء شيئاً كان بقربه، ويطلق مجازاً على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلاً لحال إلفائه على حالة، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه، وإنما يكون هذا المجاز مقيداً بحالة كان عليها مفعول تَرك، فيفيد أن ذلك آخر العهد، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة.
والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله {حتى إذا بلغ بين السدين،} فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج، بمنزلة جملة {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب} في القصة الأولى، وجملة {كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً} فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد.
و {يومئذ} هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله {فما اسطاعوا أن يظهروه} الآية.
و {يَمُوج} يضطرب تشبيهاً بموج البحر.
وجملة {يَمُوج} حال من {بعضهم} أو مفعول ثان ل {تَرَكنا} على تأويله ب (جعلنا)، أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصراً عليهم ودفع عن غيرهم:
والنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء.
{وَنُفِخَ فِى الصور فجمعناهم جَمْعاً} {للهلله للهوَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً * الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}.
تخلصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر، تذكيراً للسامعين بأمر الحشر وتقريباً بحصوله في خيال المشركين. فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد، بفعل من يسره لذلك من خلقه، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب. وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات البعث. واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيهاً على تحقيق وقوعه.
والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيهاً لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة.
والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى.
وتأكيد فعلي {جمعناهم} و{عرضنا} بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل.
ونعت الكافرين ب {الذين كانت أعينهم في غطاء} للتنبيه على أن مضمون الصلة هو سبب عرض جهنم لهم، أي الذين عرفوا بذلك في الدنيا.
والغطاء: مستعار لِعدم الانتفاع بدلالة البصر على تفرد الله بالإلهية.
وحرف (من) للظرفية المجازية، وهي تَمكُّن الغطاء من أعينهم بحيث كأنها محوية للغطاء.
و (عن) للمجاوزة، أي عن النظر فيما يحصل به ذكري.
ونفي استطاعتهم السمع أنهم لشدة كفرهم لا تطاوعهم نفوسهم للاستماع. وحذف مفعول {سمعا} لدلالة قوله {عن ذكري} عليه.
والتقدير: سمعاً لآياتي، فنفي الاستطاعة مستعمل في نفي الرغبة وفي الإعراض كقوله {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر} [فصلت: 5].
وعرَض جهنم مستعمل في إبرازها حين يشرفون عليها وقد سيقوا إليها فيعلمون أنها المهيئة لهم، فشبه ذلك بالعرض تهكماً بهم، لأنّ العرض هو إظهار ما فيه رغبة وشهوة.
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)}
أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم تفريعَ الإنكار على صلة الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعاً، أي حسبوا حسباناً باطلاً فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئاً، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً.
وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله. والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه. فيقدر هنا: أأمِنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ... وأول القولين أولى. وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} في سورة البقرة (75).
والاستفهام إنكاري، والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل، ونظيره قوله {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2].
و {أن يتخذوا} سادٌّ مسدّ مفعولي {حسب} لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين. والتقدير: أحسبَ الذين كفروا عبادي متخِذين أولياء لهم من دوني.
والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو {أولياء} المعمول ل {يتخذوا} بقرينة ما دل عليه فعل {حسب} من أن هنالك محسوباً باطلاً، وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر.
و {عبادي} صادق على الملائكة والجنّ والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه السلام، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب.
و {من دوني} متعلّق ب {أولياء} إما بجعل {دوني} اسماً بمعنى حول، أي من حول عذابي، وتأويل {أولياء} بمعنى أنصاراً، أي حائلين دون عذابي ومانعيهم منه، وإما بجعل {دوني} بمعنى غيري، أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم.
وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه.
وجعل في «الكشاف» فعل {يتخذوا} للمستقبل، أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتّخذوهم في الدنيا، وهو المشار إليه بقوله {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا}. ونظرّه بقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} [سبأ: 40 41].
وإظهار الذين كفروا دون أن يقال: أفحسبوا، بإعادة الضمير إلى الكافرين في الآية قبلها، لقصد استقلال الجملة بدلالتها، وزيادةً في إظهار التوبيخ لها.
وجملة {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً} مقررة لإنكار انتفاعهم بأوليائهم فأكد بأن جهنم أُعدت لهم نزلاً فلا محيص لهم عنها ولذلك أكد بحرف (إنّ).
و {أعتدنا:} أعددنا، أبدل الدال الأولى تاء لقرب الحرفين، والإعداد: التهيئة، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} [الكهف: 29]}. وجَعل المسند إليه ضميرَ الجلالة لإدخال الروع في ضمائر المشركين.
والنُزُل بضمتين: ما يُعدّ للنزيل والضيف من القِرى. وإطلاق اسم النزل على العذاب استعارة علاقتها التهكم، كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجّلنا قِراكم *** قُبيلَ الصبح مِرْدَاةً طحونا
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}
اعتراض باستئناف ابتدائي أثاره مضمون جملة {أفحسب الذين كفروا} الخ... فإنهم لما اتْخذوا أولياءَ مَن ليسوا ينفعونهم فاختاروا الأصنام وعبدوها وتقربوا إليها بما أمكنهم من القُرب اغتراراً بأنها تدفع عنهم وهي لا تغني عنهم شيئاً فكان عملهم خاسراً وسعيهم باطلاً. فالمقصود من هذه الجملة هو قوله {وهم يحسبون...} الخ.
وافتتاح الجملة بالأمر بالقول للاهتمام بالمقول بإصغاء السامعين لأنّ مثل هذا الافتتاح يشعر بأنه في غرض مُهمّ، وكذلك افتتاحه باستفهامهم عن إنبائهم استفهاماً مستعملاً في العَرض لأنّه بمعنى: أتحبون أن نُنبئكم بالأخسرين أعمالاً، وهو عرض تهكم لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم.
وفي قوله {بالأخسرين أعمالاً} إلى آخره... تمليح إذ عدل فيه عن طريقة الخطاب بأن يقال لهم: هل ننبئكم بأنكم الأخسرون أعمالاً، إلى طريقة الغيبة بحيث يستشرفون إلى معرفة هؤلاء الأخسرين فما يروعهم إلاّ أن يعلموا أنّ المخبر عنهم هم أنفسهم.
والمقول لهم: المشركون، توبيخاً لهم وتنبيهاً على ما غفلوا عنه من خيبة سعيهم.
ونون المتكلّم المشارك في قوله {ننبئكم} يجوز أن تكون نون العظمة راجعة إلى ذات الله على طريقة الالتفات في الحكاية. ومقتضى الظاهر أن يقال: هل ينبئكم الله، أي سينبئكم ويجوز أن تكون للمتكلّم المشارك راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الله تعالى لأنه ينبئهم بما يوحَى إليه من ربّه. ويجوز أن تكون راجعة للرسول وللمسلمين.
وقوله {الذين ضل سعيهم} بدل من {بالأخسرين أعمالاً} وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصاً على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال.
والضلال: خطأ السبيل. شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.
والسعي: المشي في شدة. وهو هنا مجاز في العمل كما تقدّم عند قوله {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19)، أي عملوا أعمالاً تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضاً وقد أخطؤوها وهم يحسبون أنّهم يفعلون خيراً.
وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي. والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم.
وبين يحسبون} و{يحسنون} جناس مصحّف، وقد مثل بهما في مبحث الجناس.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}
جملة هي استئناف بياني بعد قوله {هل ننبئكم}.
وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى: {أولئك هم المفلحون} [البقرة: 5].
وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف.
والآيات: القرآن والمعجزات.
والحبط: البطلان والدحض.
وقوله: {ربّهم} يجري على الوجه الأول في نون {هل ننبئكم} أنه إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يقال: أولئك الذين كفروا بآياتنا، ويجري على الوجهين الثاني والثالث أنه على مقتضى الظاهر.
ونون {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} على الوجه الأول في نون {قل هل ننبئكم} جارية على مقتضى الظاهر.
وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله {بآيات ربّهم،} ومقتضى الظاهر أن يقال: فلا يقيم لهم.
ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء، وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلاً.
وجُعل عدم إقامة الوزن مفرعاً على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}
الإشارة إما إلى ما تقدّم من وعيدهم في قوله {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً}، أي ذلك الإعداد جزاؤهم.
وقوله {جزاؤهم} خبر عن اسم الإشارة. وقوله {جهنم} بدل من {جزاؤهم} بدلاً مطابقاً لأن إعداد جهنم هو عين جهنّم. وإعادة لفظ جهنم أكسبه قوّة التأكيد.
وإما إلى مقدر في الذهن دل عليه السياق يبينه ما بعده على نحو استعمال ضمير الشأن مع تقدير مبتدأ محذوف. والتقدير: الأمر والشأن ذلك جزاؤهم جهنّم.
والباء للسببية، و(ما) مصدرية، أي بسبب كفرهم.
{واتخذوا} عطف على {كفروا} فهو من صلة (ما) المصدرية. والتقدير: وبما اتّخذوا آياتي ورسلي هزؤاً، أي باتخاذهم ذلك كذلك.
والرسل يجوز أن يراد به حقيقة الجمع فيكون إخباراً عن حال كفار قريش ومن سبقهم من الأمم المكذبين، ويجوز أن يراد به الرسول الذي أرسل إلى الناس كلهم وأطلق عليه اسم الجمع تعظيماً كما في قوله {نجب دعوتك ونتبع الرّسل} [إبراهيم: 44].
والهزُؤُ بضمتين مصدر بمعنى المفعول. وهو أشد مبالغة من الوصف باسم المفعول، أي كانوا كثيري الهزؤ بهم.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}
هذا مقابل قوله: {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً} على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار.
وتأكيد الجملة للاهتمام بها لأنها جاءت في مقابلة جملة {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا،} وهي مؤكدة كي لا يظن ظانّ أن جزاء المؤمنين غير مهتم بتأكيده مع ما في التأكيديْن من تقوية الإنذار وتقوية البشارة.
وجعل المسند إليه الموصولَ بصلة الإيمان وعمل الصالحات للاهتمام بشأن أعمالهم، فلذلك خولف نظم الجملة التي تقابلها فلم يقل: جزاؤهم الجنّة. وقد تقدّم نظير هذا الأسلوب في المخالف بين وصف الجزاءَين عند قوله تعالى في هذه السورة: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} [الكهف: 29]} ثم قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30].
وفي الإتيان ب {فَكانت} دلالة على أن استحقاقهم الجنّات أمر مستقر من قبل مهيّأ لهم.
وجيء بلام الاستحقاق تكريماً لهم بأنهم نالوا الجنة باستحقاق إيمانهم وعملهم. كما قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72].
وجمع الجنّات إيماء إلى سعة نعيمهم، وأنها جنان كثيرة كما جاء في الحديث: «إنها جنان كثيرة».
والفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين، وعن مجاهد هو معرّب عن الرومية. وقيل عن السريانية. وقال الفراء: هو عربي، أي ليس معرباً. ولم يرد ذكره في كلام العرب قبل القرآن. وأهل الشام يقولون للبساتين والكروم: الفراديس. وفي مدينة حلب باب يسمّى باب الفراديس.
وإضافة الجنات إلى الفردوس بيانية، أي جنات هي من صنف الفردوس. وورد في الحديث أن الفردوس أعلى الجنّة أو وسط الجنّة. وذلك إطلاق آخر على هذا المكان المخصوص يرجع إلى أنه علم بالغلبة.
فإن حُملت هذه الآية عليه كانت إضافة {جنات} إلى {الفردوس} إضافة حقيقية، أي جنات هذا المكان.
والنزُل: تقدم قريباً.
وقوله: {لا يبغون عنها حولاً} أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللّذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه، أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى.
والحِوَل: مصدر بوزن العِوج والصِغر. وحرف العلة يصحح في هذه الصيغة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيحُ مثل: الحِول، وفيما كان منها جمعاً الإعلال نحو: الحِيل جمع حِيلة. وهو من ذوات الواو مشتق من التحول.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}
لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه عبرة وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حُول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى.
فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيضضِ العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبيّنها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله. وفي هذا رد عجز السورة على صدرها.
وقيل: نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول، أي في سورة الإسراء {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التّوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} في سورة الإسراء (85).
وقال الترمذي عن ابن عباس: قال حيي بن أخطب اليهودي: في كتابكم {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269] ثم تقرأون: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، فنزل قوله تعالى: قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي...} الآية.
وكلمات الله: ما يدلّ على شيء مِن علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به. فإذا أخبر به صار كلمة، ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل. ونظيرها قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]. وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلّق الصلوحي لصفة العلم. وقل من يتنبه لهذا التعلّق.
ولما كان شأن ما يُخبِر الله به على لسان أحد رسله أن يكتَب حرصاً على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبَر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورُمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المِداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيُّل الأظفار للمنية. فيكون ما هنا مثل قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحِبر.
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء، لأنه يهدي إلى المطلوب، كما شبه نور الله وهديُه بالمصباح في قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} [النور: 35] ويكون المداد تخييلاً بالزيت الذي يمد به السراج.
والمدَاد يطلق على الحِبر لأنه تُمَد به الدواة، أي يمد به ما كان فيها من نوعه، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر. وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمّن الآية مكنيتين على الاحتمالين.
واللام في قوله {لكلماته} لام العلّة، أي لأجل كلمات ربي. والكلام يؤذن بمضاف محذوف، تقديره: لكتابة كلمات ربي، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة (لو).
والمداد: اسم لما يمد به الشيء، أي يزاد به على ما لديه. ولم يقل مداداً، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده.
والنفاد: الفناء والاضمحلال، ونفاد البحر ممكن عقلاً.
وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو {قَبْلَ} إمكان نفاد كلمات الله؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه (لو) كان المعنى لو كان البحر مداداً لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي.
وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله: {قبل أن تنفد كلمات ربي} إن لكلمات الله تعالى نفاداً كما علمته.
وجملة {ولو جئنا بمثله مدداً} في موضع الحال.
و {لو} وصلية، وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فيُنبّه السامع على أنها متحقق معها مُفاد الكلام السابق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} في سورة آل عمران (91)، وهذا مبالغة ثانية.
وانتصب مدداً} على التمييز المُفسر للإبهام الذي في لفظ {بِمِثله}، أي مثل البحر في الإمداد.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
استئناف ثان، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يُسأل عن الإخبار به، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية، ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تُلقَى إليه، ولكنه بشَر عِلمه كعلم البشر أوحَى الله إليه بما شاء إبلاغه عبادهُ من التوْحيد والشريعة، ولا علم له إلاّ ما علّمه ربّه كما قال تعالى: {قل إنما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي} [الأعراف: 203].
فالحصر في قوله {إنما أنا بشر مثلكم} قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب، أي ما أنا إلاّ بشر لاَ أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيّبات.
وأدمج في هذا أهم ما يوحي إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى. وهذا من ردّ العجز على الصدر من قوله في أوّل السورة {لينذر بأساً شديداً من لدنه} إلى قوله {إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 2 5].
وجملة {يوحى إلي} مستأنفة، أو صفة ثانية ل {بشر}.
و {أنما مفتوحة الهمزة أخت (إنما) المكسورة الهمزة وهي مركبة من (أَنّ) المفتوحة الهمزة و(ما) الكَافة كما ركبت (إنما) المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده (أَنّ) المفتوحة من المصدرية، وما تفيده (إنما) من الحصر، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب. والمعنى: يوحي الله إليّ توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة.
وتفريع {فمن كان يرجو لقاء ربه} هو من جملة الموحى به إليه، أي يوحَى إليّ بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة.
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة، إذ جعل التوحيد أصلاً لها وفرع عليه الأصلان الآخران، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى، وحصل مع ذلك ردّ العجز على الصدر وهو أسلوب بديل.
19 سورة مريم
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنّة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جدّه أبي مريم قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: والليلة أنزلت عليّ سورة مريم فسمّها مريم ". فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته، واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عبّاس سمّاها سورة {كَهَيَعَصَ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري} في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في «الإتقان» في عداد السور المسماة باسمين، ولعله لم ير الثاني اسماً.
وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في «الإتقان» قولاً بأن قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] الآية مدني، ولم يعزه لقائل.
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طَه قبل إسلام عُمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدوداً في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولاً.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصّل في غيرها. ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.
وعدّت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعاً وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثماناً وتسعين.
أغراض السورة
ويظهر أنّ هذه السورة نزلت للردّ على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقدَاستهم في الخير.
وهل يثبت الخطيّ إلا وَشيجهُ
ثمّ التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم.
والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولداً، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولداً لله تعالى.
والتنزيه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته، وأن الله يسرّه بكونه عربياً ليسر تلك اللغة.
والإنذار ممّا حل بالمكذبين من الأمم من الاستيصال.
واشتملت على كرامة زكرياء إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولداً على الكبر وعُقْر امرأته.
وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام. ومثله كلامه في المهد.
والتنزيه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليهم السلام.
ووصف الجنّة وأهلها.
وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبَيّ بن خلف والعاصي بن وائل وتبججهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
ووعد الرسول النصر على أعدائه.
وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.
والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.
وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمن ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمن. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان (60) {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} ووقع في هذه السورة استطراد بآية {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: 64].
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire