{المص (1)}
هذه الحروف الأربعة المقطّعة التي افتتحت بها هاته السّورة، يُنطَق بأسمائها (ألِفْ لاَمْ مِيمْ صَادْ) كما يَنْطِق بالحروف ملقِّن المتعلّمين للهجاء في المكتب، لأنّ المقصود بها أسماء الحروف لا مسميّاتها وأشكالها، كما أنّك إذا أخبرت عن أحد بخبر تذكر اسم المخبر عنه دون أن تَعْرِض صورته أو ذاته، فتقولُ مثلاً: لقيت زيداً، ولا تقول: لقيت هذه الصورة، ولا لقيتُ هذه الذات.
فالنّطق بأسماء الحروف هو مقتضَى وقوعها في أوائل السّور التي افتتحت بها، لقصد التّعريض بتعجيز الذين أنكروا نزول القرآن من عند الله تعالى، أي تعجيزِ بلغائهم عن معارضته بمثله كما تقدّم في سورة البقرة.
وإنّما رسموها في المصاحف بصور الحروف دون أسمائها، أي بمسمّيات الحروف التي يُنطق بأسمائها ولم يرسموها بما تُقْرأ به أسماؤُها، مراعاة لحالة التّهجي (فيما أحسب)، أنّهم لو رسموها بالحروف التي يُنطق بها عند ذكر أسمائها خَشُوا أن يلتبس مجموعُ حروف الأسماءِ بكلمات مثل (يَاسين)، لو رسمت بأسماء حروفها أن تلتبس بنداء من اسمه سين.
فعدلوا إلى رسم الحروف علماً بأنّ القارئ في المصحف إذا وجد صورة الحرف نَطق باسم تلك الصّورة. على معتادهم في التّهجي طرداً للرسم على وتيرة واحدة.
على أنّ رسم المصحف سنّة سنّها كُتاب المصاحف فأقِرّت. وإنّما العمدة في النّطق بالقرآن على الرّواية والتّلقي، وما جُعلت كتابة المصحف إلاّ تذكرة وعوناً للمتلقّي.
وتقدّم هذا في أوّل سورة البقرة وفيما هنا زيادة عليه.
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي، إبلاغاً في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفاً للعبء عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور.
فقوله: {كتب} مبتدأ ووقع الابتداء، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم: رجلٌ جاءني، أي لا امرأة، وتمرة خيرٌ من جرادة، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله، واستبعادهم ذلك، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد، ونظيره قوله تعالى: {قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض} [ص: 22] فالتّنكير للنّوعيّة.
وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم: «شرّ أهَرّ ذَا نَاب» أي شرٌ عظيم. وقول عُوَيْف القوافي:
خَبَرٌ أتَانِي عن عُيَيْنَةَ موجِع *** كادَت عليه تَصَدعّ الأكْبَادُ
أي هو كتاب عظيم تنويهاً بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف.
وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد، وكونه نازلاً على رجل أمّيّ.
وقوله: {أنزل إليك} يجوز أن يكون صفة ل {كتاب} فيكون مسوغاً ثانياً للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله، فلا يحتاجون إلى الإخبار به، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة، فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب.
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله: {أنزل إليك} مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين، والمقصود: تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين، وتأنيس المؤمنين، أي: هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا. وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان.
ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفاً، وجعلوا {كتب} خبراً عنه، أي هذا كتاب، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب، ومنهم من جعل {كتاب} خبراً عن كلمة
{آلمص} [الأعراف: 1] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى.
وصِيغ فعل: {أنزل} بصيغة النائب عن الفاعل اختصاراً، للعِلم بفاعل الإنزال، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية.
والفاء في قوله: {فلا يكن في صدرك} اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل {أنزل} ومتعلّقة وهو {لتنذر به}، فإنّ الاعتراض يكون مقترناً بالفاء كما يكون مقترناً بالواو كما في قوله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساف} [ص: 57] وقوله: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى} [النساء: 135]. وقول الشّاعر وهو من الشّواهد:
اعْلَمْ فعِلْمُ المرء يَنْفَعُه *** أنْ سَوف يأتي كُلّ ما قُدّرا
وقول بشّار بن برد:
كقائلة إنّ الحمار فَنَحِّه *** عن القتّ أهلُ السّمسم المُتهذّبِ
وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته، وأصل ترتيب الكلام هنا: كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه، وقد ذكَر في «مغني اللّبيب» دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة.
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشرح صدرك به. ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين، بمعنى تكوين النّفي، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات. مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب، عن الحصول في المكان. وجَعَل صاحب «الكشاف» النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن، والغمّ من صنيعهم، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب: «لاَ أرَيَنَّكَ ههنا» أي لا تحضر فأراك، وقولهم: «لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا» أي لا تفعلْه فأعرّفَك به، نهياً بطريق الكناية، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله: {كتاب}، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.
و (مِنْ) ابتدائيّة، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور، أي من تكذيب المكذّبين به، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه، وهو سبب الحرج، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة. والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار، بحيث يعسر السلوك فيه، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقاً في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس، وفي معنى الآية قوله تعالى:
{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير} [هود: 12].
و {لتنذر} متعلّق ب {أنزل} على معنى المفعول لأجله، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار. وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم.
{ذكرى} يجوز أن يكون معطوفاً على {لتنذر به}، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة، ويكون {ذكرى} مصدراً بدلاً من فعله، والتّقدير: وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً.
وحذف متعلّق {تنذر}، وصرح بمتعلّق {ذكرى} لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور، والتّقدير: لتنذر به الكافرين، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق {تنذر} تنويها بشأن المؤمنين وتعريضاً بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين.
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
بيان لجملة: {لتنذر به} [الأعراف: 2] بقرينة تذييلها بقوله: قليلاً ما تذكرون. فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم، كلٌ يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم، فوصْفُ (الرب) هنا دون اسم الجلالة: للتّذكير بوجوب اتّباع أمره، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله: {قليلاً ما تذكرون}.
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماششٍ، فمعناه يقتضي ذاتين: تابعاً ومتوبعاً، يقال: اتَّبع وتَبِع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري} [طه: 92، 93] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو: {ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى: {إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ} [الأنعام: 50]، ومنه قوله هنا: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}.
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله: {كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 2].
وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} تصريح بما تضمّنه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له، وأنّه الولي، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم، وغيرَ ذلك من آي القرآن؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم، وتسجيلاً على المشركين، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك» فموقع قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم} موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع {ولا تتبعوا} موقع الفصل المانع في الحَدّ.
والأولياء جمع ولي، وهو المُوالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على النّاصر، والحليف، والصاحب الصّادق المودّة، واستعير هنا للمعبود وللإله: لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالى: {أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي} [الشورى: 9] وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قل أغير الله أتّخذ ولياً} في سورة الأنعام (14)، وهذا هو المراد هنا.
والاتّباع في قوله: ولا تتبعوا من دونه أولياء} يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} وذلك على تقدير: لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها، كما تقدّم عند قوله تعالى:
{وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم} [الأنعام: 137]، وقوله: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} كما في سورة الأنعام (136)، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله: أولياء} أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم.
ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم: هو يتّبع زلة فلان. وفي الحديث: «يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر» أي يتطلبها.
و (مِنْ) في قوله: {من دونه} ابتدائيّة، و(دون) ظرف للمكان المجاوز المنفصل، وقد جرّ بمن الجارة للظروف، وهو استعارة للترك والإعراض. والمجرور في موضع الحال من فاعل {تتّبعوا}، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَها دونه، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم: كالحج ومناسكه، والحَلِف باسمه، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه، فيكون اتّباعاً من دون الله، فيدخل في النّهي، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم: {ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] فقد جاء قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود.
وأفاد مجموع قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} مفاد صيغة قصر، كأنّه قال: لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها على نحو قول السَّمَوْأل أوْ الحَارثي:
تَسيِلُ على حد الظُّبات نفوسنا *** وليست على غير الظبَات تسيل
وجملة: {قليلاً ما تذكرون} هي في موضع الحال من {لا تَتَّبعوا}، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها، وليست مقيِّدَة للنّهي: لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر. ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً. ولفظ (قليلاً) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون، ويجوز أن يكون (قليلاً) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88] (فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة).
والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن.
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له: إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع، تنبيهاً له على خطئه، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه.
و (ما) مصدريّة والتّقدير: قليلاً تَذَكُّركم، ويجوز أن يكون {قليلاً} صفة مصدر محذوف دلّ عليه {تذكرون} و(ما) مزيدة لتوكيد القلّة، أي نوع قلّة ضعيف، نحو قوله تعالى: {أنْ يضرِبَ مثلا مَّا} [البقرة: 26]. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} في سورة البقرة (88). والمعنى: لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء، وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين.
وقرأ الجمهور: {ما تذّكرون} بفوقية واحدة وتشديد الذال على أنّ أصله تَتَذكّرون بتاءين فوقيتين فقلبت ثانيتُهما ذالاً لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام.
وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصاراً. وقرأه ابن عامر: {يتذكّرون} بتحتيّة في أوّله ثمّ فوقيّة، والضّمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أعرض عنهم ووجَّه الكلام على غيرهم من السّامعين: إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}
عطف على جملة: {ولا تتّبعوا} [الأعراف: 3] وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم. وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم.
وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى، دون ذكر الأمم كما في قوله: {فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} [الحاقة: 5، 6]، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل {أهلكنا} بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول، فهو مغن عن أدوات الشّمول، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية، ونظيرها قوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82] ونظيرهما معاً قوله: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} [الأنبياء: 6]، فكلّ هذا من الإيجاز البديع، والمعنى على تقدير المضاف، وهو تقدير معنى.
وأجرى الضّميران في قوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله: {أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم} إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية، وهو {بأسنا بياتاً} لأنّ (بياتاً) متحمّل لضمير البأس، أي مبيِّتاً لهم، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال: {أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم}. و(كم) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام.
والإهلاك: الإفناء والاستئصال. وفعل {أهلكناها} يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه.
والفاء في قوله: {فجاءها بأسنا} عاطفة جملة: {فجاءها بأسنا} على جملة: {أهلكناها}، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه، ولما كان مجيء البأس حاصلاً مع حصول الإهلاك أو قبلَه، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقاً، وعنه أيضاً إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني. وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل: جاءها بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود، والذي فسّر به الجمهور: أنّ فعل (أهلكناها) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم} [النحل: 98] وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية أي فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال: ومن أمثلة المجاز قوله تعالى:
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] استعمل {قرأت} مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالاً مجازياً بقرينة الفاء في {فاستعذ بالله}، وقولُه: {وكم من قرية أهلكناها} في موضع أردنا إهلاكها بقرينة {فجاءها بأسنا} والبأس الإهلاك.
والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل، عزماً لا يتأخّر عنه العمل، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد، للإرادة لتشابههما، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث، فدلّ الكلام كلّه: على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة. والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه. ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف المفصّل على المجمل، وبذلك سمّاه ابن مالك في «التّسهيل»، ومثَّل له بقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عُرباً} [الواقعة: 35، 37] الآية. ومنه قوله تعالى: {ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} [الزمر: 72] أو قوله {فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة: 36] لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج، وقوله تعالى: {كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 54] وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه.
والبأس ما يحصل به الألم، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء، وقد مضى عند قوله تعالى: {والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس} في سورة البقرة (177)، والمراد به هنا عذاب الدّنيا.
واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهاً لحُلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى: فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام (43).
والبيات مصدر بَات، وهو هنا منصوب على الحال من البأس، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم، أي جاءهم ليلاً، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلاً، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب، هي أشدّ على المغزوّ، فكان ترشيحاً للاستعارة التّمثيليّة، ويجوز أن يكون بياتاً} منصوباً على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات.
وجملة {هم قائلون} حال أيضاً لعطفها على {بياتاً} بأو، وقد كفى هذا الحرفُ العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسَن، كما قال في «الكشاف»، وهو متابع لعبد القاهر.
وأقول: إنّ جملة الحال، إذا كانت جملة اسميّة، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين: أحدهما وصف صاحب الحال، فهذه تَجَرّدُها عن الواو قبيح، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتزاني في «المطوّل»، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة، نحو جاءني زيد هو فارس، إذ يغني أن تقول: فارساً.
وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال، وفيها ضمير صاحب الحال، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ} [طه: 123] فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله: {بعضكم لبعض عدوّ} [طه: 123] وقولهم، في المثال: جاءني زيد هو فارس، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة «المفتاح» وعبارة ابن الحاجب فتأمّله. وعُلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد.
و (أو) لِتقسيم القُرى المهلَكة: إلى مهلكة في اللّيل، ومهلّكة في النّهار، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب، بحيث لا يأمنون في وقت مَّا.
ومعنى: {قائلون} كائنون في وقت القيلولة، وهي القائلة، وهي اسم للوقت المبتدئ من نصف النّهار المنتهي بالعصر، وفعله: قال يقيل فهو قائل، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت، ويطلق المقيل على القائلة أيضاً.
وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار: لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين.
والمعنى: وكم من أهللِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء.
وقوله: {فما كان دعواهم} يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله: {فجاءها بأسنا} لأنّه من بقيّة المذكور، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.
والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله: [يونس: 10] وهو كثير في القرآن، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.
ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي: انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ، فلم تبق لهم دعوى، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.
واقتصارهم على قولهم: {إنا كنا ظالمين} إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو، فعوجلوا بالعذاب، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.
وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام، فمن اعتاد قول الخير نطق به، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.
والمراد بقولهم: {كنا ظالمين} أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، وتكذيب الرّسل، والإعراض عن الآيات، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله، قال تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] أي أنّ الله لم يظلمهم، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون، من قبل نزول العذاب، وكانوا مصرين عليه ومكابرين، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم، فيكون الكلام، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً.
وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد، مثل الويل والثّبور، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي، أو يقوله بعضهم لبعض، بينهم، على معنى التّوبيخ، والتّوقيف على الخطأ، وإنشاء النّدامة، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح، والمعنى الكنائي، على نحو ما قرّرتُه آنفاً.
والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم، أو بين جماعتهم، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل.
واسم كان هو: {أن قالوا} المفرغ له عمل كان، و{دعواهم} خبر (كان) مقدّم، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث، ولو كان: (دعوى) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان، نحو قوله تعالى:
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم} [الأعراف: 82] {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} [آل عمران: 147] وغير ذلك، وهو استعمال ملتزم، غريب، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ. واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً، كأنّ السّامع يسأل: ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس، فقيل له: كان قولهم: {إنا كنا ظالمين} دعاءَهم، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية، مثل قوله: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم} [الأعراف: 82]، على أنّه قد قيل: إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من (أن) والفعل عِلَّة لفْظيّة: وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف، فكان أعرف من غيره، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه.
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)}
الفاء في قوله: {فلنسألن} عاطفة، لِترتيب الأخبار لأنّ وجود لام القسم علامة على أنّه كلام أنُفٌ انتقال من خبر إلى خبر، ومن قصة إلى قصة وهو انتقالٌ من الخبر عن حَالتهم الدنيوية إلى الخبر عن أحوالهم في الآخرة.
وأكّد الخبر بلام القسم ونون التّوكيد لإزالة الشكّ في ذلك.
وسؤال الذين أرسل إليهم سُؤال عن بلوغ الرّسالة. وهو سؤال تقريع في ذلك المحشر، قال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65].
وسؤال المرسلين عن تبليغهم الرّسالة سؤال إرهاب لأمُمِهم، لأنّهم إذا سمعوا شهادة رسلهم عليهم أيقنوا بأنّهم مسوقون إلى العذاب، وقد تقدّم ذلك في قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} [النساء: 41] وقوله {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} [المائدة: 109].
و {الذين أرسل إليهم}، هم أمم الرّسل، وعبّر عنهم بالموصول لما تدُلّ عليه الصّلة من التّعليل، فإن فائدة الإرسال هي إجابة الرّسل، فلا جرم أن يسأل عن ذلك المُرسَل إليهم، ولمّا كان المقصود الأهمّ من السّؤال هو الأمم، لإقامة الحجّة عليهم في استحقاق العقاب، قُدّم ذكرهم على ذكر الرّسل، ولما تدُلّ عليه صلة (الذي) وصلة (ال) من أنّ المسؤول عنه هو ما يتعلّق بأمر الرّسالةِ، وهو سؤال الفريقين عن وقوع التّبليغ.
ولَمَّا دلّ على هذا المعنى التّعبيرُ: ب {الذين أرسل إليهم} والتّعبيرُ: ب {المرسلين} لم يحتجّ إلى ذكر جواب المسؤولين لظهور أنّه إثبات التّبليغ والبلاغ.
والفاء في قوله: {فلنقصن عليهم} للتفريع والتّرتيب على قوله: {فلنسألن}، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ماأجمله جوابهم، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم، أي فعِلْمُنا غَنِي عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر.
وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكيرُ علم في قوله: {بعلم} أي علم عظيم، فإنّ تنوين (عِلم) للتعظيم، وكمالُ العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة، وزاد ذلك بياناً قولُه: {وما كنا غائبين} الذي هو بمعنى: لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه.
والقَصّ: الاخبار، يقال: قصّ عليه، بمعنى أخبره، وتقدّم في قوله تعالى: {يقص الحقّ} في سورة الأنعام (57).
وجملة: {وما كنا غائبين} معطوف على {فلنقصن عليهم بعلم}، وهي في موقع التّذييل.
والغائب ضدّ الحاضر، وهو هنا كناية عن الجاهل، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفاً، أي الجهالة بأحوال المَغيب عنه، فإنّها ولو بلغتْه بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد، أي: وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم، لأنّنا مطّلعون عليهم، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيَّة في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4].
وإثباتُ سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى: {ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78] وقوله {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39] لأنّ المسؤول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيَّ في الآيتين الآخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذ
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}
عطف جملة: {والوزن يومئذٍ الحق} على جملة {فلنقصن} [الأعراف: 7]، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتاً لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه، فلذلك عقبت جملة: {فلنقصن} [الأعراف: 7] بجملة: {والوزن يومئذٍ الحق} فكأنّه قيل: فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد.
والتّنوين في قوله: {يومئذٍ} عوض عن مضاف إليه دلّ عليه: {فلنسألن الذين أرْسِلَ إليهم} [الأعراف: 6] وما عطف عليه بالواو وبالفاء، والتّقدير: يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم.
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلاً واتساعاً.
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين، وَاحِدُها ميزان أيضاً وتسمّى أوزاناً واحدها وَزْن، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} [الكهف: 105] وفي حديث أبي هريرة، في «الصّحيحين»: " إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة ". ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال، كقول الراعي:
وَزَنَتْ أميَّةُ أمْرَها فدَعَتْ له *** من لَمْ يكن غُمِراً ولا مَجهولاً
فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعييناً لا إجحاف فيه، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى: ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة، فيكون الجزاء على قدر العمل، فالوزن استعارة، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها، وذلك ممكن، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها.
والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات، لأنّها من خوارق المتعارف، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}
[الكهف: 105]. وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله: {فمن ثقلت موازينه} إلخ ومثل قول النّبيء صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان» وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47]. وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: «فاطلبْني عند الميزان» خرّجه التّرمذي.
وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش، وقالوا: هو القضاء السوي، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش، والأمر هين، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته.
والإخبار عن الوزن بقوله: {الحق} إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل، أي الجزاء عادل غير جائز، لأنّه من أنواع القضاء والحكم، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان، فالعدل بمعنى السوي، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف.
وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً.
وتفرع على كونه الحق قوله: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون. ومحل التّفريع هو قوله: {فأولئك هم المفلحون} وقوله: فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله: {فمن ثقلت موازينه} وقوله: ومن خفت موازينه.
وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة، أي من ثقلت موازينه الصّالحات، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها.
والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضاً ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذاً بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل، وهي أيضاً ترشيح ثان لاستعارة الميزان، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله: {بما كانوا بآياتنا يظلمون}. والفلاَح حُصول الخير وإدراك المطلوب.
والتّعريف في {المفلحون} للجنس أو العهد وقد تقدّم في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} في سورة البقرة (5).
وما صْدَقُ (مَن) واحد لقوله: {موازينه}، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله: {فأولئك هم المفلحون}.
والاتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاَح لأجل ثقل موازينهم، واختير اسم إشارة البعد تنبيهاً على البعد المعنوي الاعتباري.
وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين، أي إن علمتَ جماعة تعرف بالمفلحين فهم هُم.
والخسران حقيقته ضد الرّبح، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع، فمعنى {خسروا أَنفُسَهُم} فقدوا فوائدها، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه، وهي مجموع نفْسِه، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ: بالرأي السَّديد، وابتكار العمل المفيد، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالاً كانت سبب خفّة موازين أعمالهم، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم، فكانت نفوسهم كرأسسِ مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة الأنعام (20). وقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة البقرة (16).
والباء في قوله: بما كانوا} باء السّببيّة، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا، فصيغة المضارع في قوله: {يظلمون} لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه} [فاطر: 9].
والظلم هنا ضدّ العدل: أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق. وضمن {يظلمون} معنى يُكَذّبون، فلذلك عُدّي بالباء، فكأنّه قيل: بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعلواً} [النمل: 14].
وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلّة بدحضها وعدم إعمالها.
وتقديم المجرور في قوله: {بآياتنا} على عامله، وهو {يظلمون}، للاهتمام بالآيات. وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين: فريق المؤمنين، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات، مستكثرون منها، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وذلك لم تتعرّض له هذه الآية، إذ ليس من غرض المقام، وتعرّضت له آيات آخرى.
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
عطف على جملة: {ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف: 3] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق، لأنّه خالقهم على وجه الأرض، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم، وتوبيخ على قلّة شكرها، كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله: {قليلاً ما تشكرون} فإنّ النّفوس التي لا يزجُرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة، وقد قال أحد الخوارج وطُلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نِعماً:
أأقَاتِلُ الحجّاجَ عن سلطانه *** بيدٍ تُقِرّ بأنَّها مَوْلاَتِه
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد، المفيد للتّحقيققِ، تنزيلٌ للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عَبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكَّنهم من الأرض، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله.
والتّمكين جعل الشّيء في مكان، وهو يطلق على الإقدار على التّصرف، على سبيل الكناية، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {مَكَّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم} في سورة الأنعام (6) وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح، أي جعلنا لكم قدرة، أي أقدَرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها، وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلّب على مصاعبه، وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 84] لأنّ ذلك ليس حاصلاً بجميع البشر إلاّ على تأويل، وليس المراد بالتمكين أيضاً معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله: {في الأرض} يمنع من ذلك، لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرضَ، وقد قال تعالى عن عاد: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف: 26] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه، أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما.
ومعايش جمع معيشه، وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب، مشتقّة من العيش وهو الحياة، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى: {فإن له معيشة ضنكاً} [طه: 124] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش، تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساوياً للحقيقة.
وياء (معايش) أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر (عَيْش) فوزن معيشة مفعلة ومعايش مَفاعل، فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة. لأن استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة ردّوه إلى أصله واواً أو ياء بعد ألف الجمع، مثل: مفَازة ومفاوِز، فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء، فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قِلاَدة وقلائِد، وعَجُوز وعجَائز، وصحيفَه وصحائف، وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقه بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء، وروى خارجة بن مصعب، وحميد بن عمير، عن نافع أنّه قرأ: معائش بهمز بعد الألف، وهي رواية شاذة عنه لا يُعْبَأ بها، وقُرئ في الشاذ: بالهمز، رواه عن الأعرج، وفي «الكشاف» نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري.
وقوله: {قليلاً ما تشكرون} هو كقوله في أوّل السّورة {قليلاً ما تذكّرون} [الأعراف: 3] ونظائره.
والخطاب للمشركين خاصة، لأنّهم الذين قَل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة.
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفاً في أوّل السّورة، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل. لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شَكروه، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها، ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالاً لتذكرهم.
وانتصب (قليلاً) على الحال من ضمير المخاطبين و(ما) مصدريّة، والمصدر المؤول في محلّ الفاعل بقليلاً فهي حال سببيّة.
وفي التّعقيب بهذه الآية لآية: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها، وهو ما دلّ عليه قوله: {أهلكناها}.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
عطف على جملة: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف: 10] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع، وهي نعمة عناية، لأنّ الوجود أشرف من العدم، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة، وهو غرض السورة، وذلك عند قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] ومَا تلاه من الآيات، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة.
والخطاب للنّاس كلّهم، والمقصود منه المشركون، لأنّهم الغرض في هذه السورة.
وتأكيد الخبر باللاّم و(قد) للوجه الذي تقدّم في قوله: {ولقد خلقناكم}، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى: خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه، وهو آدم، كما أفصح عنه قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}.
والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به.
والتّصوير جعل الشّيء صورة، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع.
وعطفت جملة {صورناكم} بحرف (ثمّ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم، أم كان بعد الخلق بمدّة، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر، كقوله تعالى: {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً} [المؤمنون: 14].
وتعدية فعلي (خلقنا) و(صوّرنا) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف: 10] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف: 28] وقوله فيما تقدّم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف: 3].
وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية}
[الحاقة: 11] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك، كقوله تعالى: حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} [الذاريات: 35] أي أردنا إخراج من كان فيها، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية.
ودلّ قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام.
و (ثُمّ) في قوله: {ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم} عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها.
وقوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}، تقدّم تفسيره، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة، عند قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} في سورة البقرة (34).
وتعريف {الملائكة} للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم، ونقل ذلك عن ابن عبّاس، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة. وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض.
واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة، وتقدّم ذلك في سورة البقرة. واستثناء إبليس من الساجدين في قوله: {إلا إبليس} يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم. وقال السكاكي في «المفتاح» عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب.
وجملة: عغتاة، {لم يكن من الساجدين} حال من (إبليس)، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء، لما فيها من معنى: أستثنِي، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى، وهو عين مدلول: لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً. وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين: إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى:
{قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56).
ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه، وجعل له هوىً ورأياً، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة. وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه، فكان قوله تعالى: لم يكن من الساجدين} إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين، أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} ابتداء المحاورة، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله: {أسجدوا لآدم}، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود، وضمير: {قال} عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا}، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: قُلنا، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتاً، نكتته تحويل مقام الكلام، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.
و {مَا} للاستفهام، وهو استفهام ظاهره حقيقي، ومشوب بتوبيخ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.
و {منعك} معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]، فلذلك كان ذكر (لا) هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتّأكيد، ولا تفيد نفياً، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد. و(لاَ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1] وقوله {لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله} [الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً. وقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً، وهذا تأويل الكسائي، والفراء، والزّجاج، والزّمخشري، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.
وقيل (لا) نافية، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه {منعك} لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه، فكأنّه قيل: ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد، فإمّا أن يكون {منعك} مستعملاً في معنى دعَاك، على سبيل المجاز، و(لا) هي قرينة المجاز، وهذا تأويل السكاكي في «المفتاح» في فصل المجاز اللّغوي، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه، وهو أحسن تأويلاً، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان، فذُكر أحدهما وحذف الآخر، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه.
وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني} في سورة طه (92، 93).
وقوله: {إذ أمرتك} ظرف ل {تسجد}، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له، إمّا لأنّه صنف من الملائكة، فخلق الله إبليس أصلاً للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية، وهذا هو ظاهر القرآن، وإليه ذهب كثير من الفقهاء، وقد قال الله تعالى: {إلا إبليس كانَ من الجنّ} [الكهف: 50] الآية، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات، وإبليس أصل ذلك النّوع، جعله الله في عداد الملائكة، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار، وفي «صحيح مسلم»، عن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار " وإلى هذا ذهب المعتزله وبعض الأشاعرة، وقد يكون المراد من النّار نوراً مخلوطاً بالمادة، ويكون المراد بالنّور نوراً مجرداً، فيكون الجنّ نوعاً من جنس الملائكة أحطّ، كما كان الإنسان نوعاً من جنس الحيوان أرقى.
وفُصِل: {قال أنا خير منه} لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم، وهذا معصية صريحة، وقوله: {أنا خير منه} مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة: {خلقتني من نار} بيان لجملة: {أنا خير منه} فلذلك فصلت، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.
وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقاً من نار، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه، أو بإخبار من الله تعالى.
وكونه مخلوقاً من النّار ثابت قال تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار} [الرحمن: 14، 15] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف (50): {فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه} واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم.
والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة، كالنّار التي في الشّمس، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد.
والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها، ولأنّها تضيء، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها.
وأمّا النّور الذي خُلق منه الملَكُ فهو أخلَص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّه.
والطّينُ التّراب المختلط بالماء، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر، وأنّ إبليس أُوخذ بعصيان أمر الله عصياناً باتّاً، والله تعالى لمّا أمر الملائكه بالسّجود لآدم قد عَلِم استحقاق آدمَ ذلك بما أوْدع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافياً في التّفضيل وحده، ما لم يَكن كِيَانُه من ذلك العنصر مهيّئاً إياه لبلوغ الكمالات، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة، فاللَّه تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر، بحسب خصايص عنصرهم، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف.
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته، وانتظروا البيان، كما حكى عنهم بقوله: {قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] فجاءهم البيان مجملاً بقوله: {إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله: {ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة: 31] إلى قوله {وما كنتم تكتمون} في سورة البقرة (33).
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء، وأحل الملائكة فيه، وجعله مكاناً مقدّساً فاضِلاً على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة، فقال له: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}.
والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عالياً، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف، بتشبيه البُعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة.
والفاء في جملة: {فاهبط} لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة، كالعطف الذي في قوله تعالى: {قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي} [البقرة: 124].
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه.
وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله: {منها} عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث.
وقوله: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلاً للأمر بالهبوط، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدّس، لأنّه قد صار خُلُقُه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له، وذلك خُلقُ التّكبر لأنّ المكان كان مكاناً مقدّساً فاضلاً لا يكون إلاّ مطهّراً من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله: لا تحْدِثوا بدعة في بلدنا. وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشّو الفساد بينهم.
ودلّ قوله: {ما يكون لك} على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه، لأنّ النّفي بصيغة (ما يكون لك) كذا أشدّ من النّفي ب (ليس لك كذا) كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب} الآية في آل عمران (79)، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ.
وقوله: فاخرج} تأكيد لجملة {فاهبط} بمرادفها، وأُعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة.
وجملة: {إنك من الصاغرين} يجوز أن تكون مستأنفة استينافاً بيانياً، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغراً حقيراً حيثما حلّ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال (إنّ) في مثل هذا المقام استعمال فاء التّعليل، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصّغار والحقارة التي غَفَل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التّكبّر.
وقوله: {إنك من الصاغرين} أشدّ في إثبات الصّغار له من نحو: إنّك صَاغر، أوْ قد صَغُرت، كما تقدّم في قوله تعالى: {قد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56)، وقوله آنفاً: لم يكن من الساجدين}. والصّاغر المتّصف بالصّغار وهو الذلّ والحقارة، وإنّما يكون له الصّغار عند الله لأنّ جبلته صارت على غير ما يرضي الله، وهو صغار الغواية، ولذلك قال بعد هذا: {فبما أغويتني} [الأعراف: 16].
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملَكية وشرفها انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف (إذَا ما لم تكن إبل فمَعْزَى) فسأل النَّظِرة بطول الحياة إلى يوم البعث، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النَظِرة إبقاء لما كان له من قبلُ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلِمه، وبَدر من إبليس طلب النظِرة، قال الله تعالى: {إنك من المنظرين} أي إنّك من المخلوقات الباقية.
وقد أفاد التّأكيد بإنّ والإخبارُ بصيغة {من المنظرين} أنّ إنظاره أمر قد قضاه الله وقدّره من قبللِ سؤاله، أي تحقّق كونك من الفريق الذين أنظروا إلى يوم البعث، أي أنّ الله خلق خلقاً وقدّر بقاءهم إلى يوم البعث، فكشف لإبليس أنّه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه، وإن الله ليس بمغيّر ما قدّره له، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تَحقّق، وليسَ إجابة لطلبة إبليس، لأنّه أهون على الله من أن يجيب له طلَباً، وهذه هي النّكتة في العدول عن أن يكون الجواب: أنْظرْتك أو أجبت لك ممّا يدلّ على تكرمة باستجابة طلبه، ولكنّه أعلمه أنّ ما سأله أمر حَاصل فسؤاله تحصيل حاصل.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
الفاء للتّرتيب والتسبب على قوله: {إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] ثمّ قولِه {إنك من المنظرين} [الأعراف: 15].
فقد دلّ مضمون ذينك الكلامين أنّ الله خلق في نفس إبليس مَقدرة على إغواء النّاس بقوله: {إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] وإنّه جعله باقياً متصرّفاً بقواه الشرّيرة إلى يوم البعث، فأحسّ إبليس أنّه سيكون داعية إلى الضّلال والكفر، بجبلةٍ قَلَبه الله إليها قَلْباً وهو من المَسخ النّفساني، وإنّه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأنّ ما يصدر عنه هو ضلال وفساد، فصدور ذلك منه كصدور النّهش من الحيّة، وكتحرّك الأجفان عند مرور شيء على العين، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما.
والباء في قوله: {فبما أغويتني} سببيْة وهي ظرف مستقِر واقع موقع الحال من فاعل {لأقعدن}، أي أقسم لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي. واللاّم في {لأقعدن} لام القسم: قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه.
وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قُدم قد يفيد معنى قريباً من الشرطيّة، كما في قول النّبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلَّى عليكم " وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو «يولى» إلاّ بالألف في آخره على عدم اعْتبار الجزم. وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلِّق، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلَّق به، فالتّقديم للاهتمام، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافياً لتصدير لام القسم في جملتها، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب. وما مصدريّة، والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النّابغة:
قُعوداً لدى أبياتهم يَثْمدونهم *** رمَى اللَّهُ في تلك الأكُف الكوانع
أي ملازمين أبياتاً لغيرهم يُرِد الجلوس، إذ قد يكونون يسألون واقفين، وماشين، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده، فيقعد الملازم طلباً للرّاحة، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القَعيد، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17] أي ملازم إذ الملَك لا يوصف بقعود ولا قيام.
ولمّا ضمن فعل: {لأقعدن} معنى الملازمة انتصب {صراطك} على المفعولية، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره: فامْنَعَنّ صراطك أو فَأقْطَعَنّ عنهم صراطك، واللاّم في لهم للأجل كقوله: {واقعدوا لهم كل مرصد} [التوبة: 5].
وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللاّم أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقاً لك، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره، وهو فعل الخيرات، وترك السيّئات، فالكلام تمثيلُ هيئة العازمين على فعل الخير، وعزمهم عليه، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه.
والضّمير في {لهم} ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة، التي اختصرت هنا اختصاراً دعا إليه الاقتصار على المقصود منها، وهو الامتنان بنعمة الخلق، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليَعْمر به وبنسله الأرضَ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فالأرض مخلوقة يومئذ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكةَ فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا: وهو قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} الآية وقد دلّت آية سورة الْحِجْر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواءَ أهل الأرض في قوله تعالى: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين} [الحجر: 39، 40] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين، وإن كان آدم قد خُلق في جنّة من جنّات الأرض فالأمر ظاهر، وتقدّم ذلك في سورة البقرة.
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفععِ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير، في حكاية كلام إبليس، صراطاً مستقيماً، وإضافه إلى ضمير الجلالة، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه، ولذلك أيضاً ألزم {لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم}.
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدواً لبني آدم، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو مناففٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله: {بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36]، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبُّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح.
وجملة: {ثم لأتيناهم} (ثمّ) فيها للتّرتيب الرّتبي، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل.
وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته، فالكلام تمثيل، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة.
وعُلِّق {بين أيديهم} و{خلفهم} بحرف (مِن) وعلّق {أيمانهم} و{شمالهم} بحرف عن جرياً على ما هو شائع في «لسان العرب» في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات، وأصل (عن) في قولهم: عن يمينه وعن شماله المجاوزة: أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافياً له، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت (عن) بمعنى على، فكما يقولون: جلس على يمينه يقولون: جلس عن يمينه، وكذلك (مِن) في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتدا يقال: أتاه من بين يديه، أي من المكان المواجه له، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت (من) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند، لأنّ وجود (مِن) كالعدم، وقد قال الحريري في «المقامة النّحويّة» (مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف: «فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة.
والأيمان جمع يمين، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس، تعارفه النّاس، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك. وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى: {قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} [الصافات: 28]. وقال امرؤ القيس:
عَلَى قَطَننٍ بالشَّيْممِ أيْمَنُ صَوبه
لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِللٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة (يَمِين)، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها، والأيمان جمع قياسي.
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس، وهو جمع على غير قياس.
وقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات.
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] ووجهُ هذه الكناية، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمراً شنيعاً إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم.
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
أعاد الله أمره بالخروج من السّماء تأكيداً للأمرين الأوللِ والثّاني: قال: {اهبط منها} إلى قوله {فاخرج} [الأعراف: 13].
ومذءوم اسم مفعول من ذَأمه مهموزاً إذا عابَه وذمَّه ذَأماً وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفاً فيقال ذَام ولا تسهل في بقيّة تصاريفه.
مدحور مفعول من دَحره إذا أبعده وأقصاه، أي: أخرجُ خروجَ مذمُوم مطرود، فالذّم لِمَا اتّصف به من الرّذائل، والطّرد لتنزيه عالم القُدس عن مخالطته.
واللاّم في {لمن تبعك} موطئة للقسم.
و (مَن) شرطية، واللاّم في لأمْلأنّ لام جواب القسم، والجواب ساد مسد جواب الشّرط، والتّقدير: أُقسِم من تبعك منهم لأمْلأنّ جهنّم منهم ومنك، وغُلِّب في الضّمير حال الخطاب لأنّ الفرد الموجود من هذا العموم هو المخاطَب، وهو إبليس، ولأنّه المقصود ابتداء من هذا الوعيد لأنّه وعيد على فعله، وأمّا وعيد اتّباعه فبالتّبع له، بخلاف الضّمير في آية الحجر (43) وهو قوله: {وإن جهنّم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 43] لأنّه جاء بعد الإعراض عن وعيده بفعله والاهتمام ببيان مرتبة عباد الله المُخْلَصين الذين ليس لإبليس عليهم سلطان ثمّ الإهتمام بوعيد الغاوين.
وهذا كقوله تعالى في سورة الحجر (41 43): {قال هذا صراط عليّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} والتّأكيد بأجمعين للتّنصيص على العموم لئلا يحمل على التّغليب، وذلك أنّ الكلام جرى على أمّة بعنوان كونهم إتباعاً لواحد، والعرب قد تجري العموم في مثل هذا على المجموع دون الجمع، كما يقولون: قتلت تميمٌ فُلاناً، وإنّما قتله بعضهم، قال النّابغة في شأن بني حُنّ (بحاء مهملة مضمومه):
وهُمْ قتلوا الطاءِى بالجَوّ عَنْوَة...
{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
الواو من قوله: {ويا آدم} عاطفة على جملة: {أخرج منها مذءوماً مدحوراً} [الأعراف: 18] الآية، فهذه الواوُ من المحكي لا من الحكاية، فالنّداء والأمرُ من جملة المقول المحكي يقال: أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم {ويا آدم اسكن}، وهذا من عطف المتكلِّم بعض كلامه على بعض، إذا كان لبعض كلامه اتّصال وتناسب مع بعضه الآخر، ولم يكن أحدُ الكلامين موجّهاً إلى الذي وجّه إليه الكلام الآخَر، مع اتّحاد مقام الكلام، كما يفعل المتكلّم مع متعدِّدين في مجلس واحد فيُقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النبيّء صلى الله عليه وسلم في قضيّة الرّجل والأنصاري الذي كان ابنُ الرّجل عسيفاً عليه: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عزّ وجلّ أما الغنم والجارية فرَدٌ عليك وعلى ابنك جلدُ مائة وتغريب عام، واغْدُ يا أنَيْسُ على زوجة هذا فإن اعترفت فارْجُمْها» ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى: {قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبك} [يوسف: 28، 29] حكاية لكلام العزيز، أي العزيز عطفَ خطابّ امرأته على خطابه ليوسف.
فليست الواو في قوله: {ويا آدم اسكن} بعاطفة على أفعال القَوْل التي قبلها حتّى يَكون تقدير الكلام: وقُلنا يا آدم اسكن، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضوراً.
وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقَب، وإظهاراً للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول. ثمّ إن كان آدم خُلق في الجنّة، فكان مستقراً بها من قبل، فالأمر في قوله: {اسكن} إنّما هو أمر تقرير: أي أبق في الحنّة، وإن كان آدم قد خُلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريماً له، وأيّاً مّا كان ففي هذا الأمر، بمسمع من إبليس، مقمعة لإبليس، لأنّه إن كان إبليس مستْقراً في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبَّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره، وإن لم يكن إبليس ساكناً في الجنّة قبلُ فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له، فقد دلّ موقع هذا الكلام، في هذه السّورة، على معنى عظيم من قمع إبليس، زائد على ما في آية سورة البقرة، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن.
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان ولياً من دون الله، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل، وهم ممّن يحذر الشّيطان ولا يتّبع خطواته.
والنّداء للإقبال على آدم والتّنويهِ بذكره في ذلك الملا. والإتيانُ بالضّمير المنفصل بعد الأمر، لقصد زيادة التّنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنّه ليس مثله، إذ الضّمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهومُ مخالفةٍ فإنّه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضّمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسيننِ أو تصحيح العطف على الضّمير المرفوع المستتر، لأن تصحيحَ أو تحسين العطف يحصل بكلّ فاصل بين الفعل الرافع للمستتر وبين المعطوف، لا خصوص الضّمير، كأن يقال: ويا آدم اسكن الجنّةَ وزوجُك، فما اختير الفصل بالضّمير المنفصل إلاّ لما يفيد من التّعريض بغيره. وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضُمّها إليها أيضاً.
والكلام على قوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} يعلم ممّا مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة.
سوى أن الذي وقع في سورة البقرة (35) {وكلا} بالواو وهنا بالفاء، والعطف بالواو أعم، فالآية هنا أفادت أنّ الله تعالى أذن آدم بأن يتمتّع بثمار الجنّة عقب أمره بسكنى الجنّة. وتلك منّة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام، ولما كان ذلك حاصلاً في تلك الحضرة، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس، الذي تكبّر وفضل نفسه عليه، كان الحال مقتضياً إعلام السّامعين به في المقام الذي حُكي فيه الغضب على إبليس وطردُه، وأما آية البقرة فإنّما أفادت السّامعين أنّ الله امتن على آدم بمنّة سكنى الجنّة والتّمتّع بثمارها، لأنّ المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته، والتّحذير من كيد الشّيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم.
على أنّ آية البقرة (35) لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله: {رغداً} لأنه مدح للمُمْتن به أو دعاء لآدم، فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها، ليحصل تجديد الفائدة، تنشيطاً للسّامع، وتفنّناً في أساليب الحكاية، لأنّ الغرض الأهمّ من القصص في القرآن إنّما هو العبرة والموعظة والتأسي.
وقوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} أشدّ في التّحذير من أن يُنهى عن الأكل منها، لأنّ النّهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة.
والنّهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنّة: يحتمل أن يكون نهي ابتلاء. جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنّة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشّهوة لامتثال النّهي.
فلذلك جعل النّهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها، وهذا هو الظّاهر ليتكّون مختلف القوى العقليّة في عقل النّوع بتأسيسها في أصل النّوع، فتنتقل بعده إلى نسله، وذلك من اللّطف الإلهي في تكوين النّوع ومن مظاهر حقيقة الربوبيّة والمربوبيّة، حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشقّ وضعها دفعة على قابليّة العقل، وقد دلّت الآيات على أن آدم لمّا ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشّجرة المنهي عنها، فأعقبه الأكلُ حدوث خاطر الشّعور بما فيه من نقايصَ أدركها بالفطرة، فمعناه أنّه زالت منه البساطة والسّذاجة. ويحتمل أن يكون ذلك لِخصوصيّة في طبع تلك الشّجرة أن تثير في النّفس علم الخير والشرّ كما جاء في التّوراة أنّ الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشرّ، وهذا عندي بعيد، وإنّما حكى الله لنا هيئة تطوّر العقل البشري في خلقة أصل النّوع البشري نظيرَ صنعه في قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} [البقرة: 31].
والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك ممّا تقدّم في سورة البقرة.
وانتصب: {فتكونا} على جواب النّهي، والكون من الظّالمين متسبّب على القرب المنهي عنه، لا على النّهي، وذلك هو الأصل في النّصب في جواب النّهي كجواب النّفي، أن يعتبر التّسبّب على الفعل المنفي أو المنهي، بخلاف الجزم في جواب النّهي فإنّه إنّما يجزم المسبَّب على إنشاء النّهي لا على الفعل المنهي، والفرق بينهما: أنّ النّصب على اعتبار التسبب، والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء بخلاف الجزم فإنه على اعتبار الجواب، تشبيهاً بالشّرط، فاعتبر فيه معنى إنشاء النّهي تشبيهاً للإنشاء بالاشتراط.
والمراد ب {الظّالمين} الذين يحقّ عليهم وصف الظلم: إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيّئة، وإمّا لاعتدائهم على حقّ غيرهم فإنّ العصيان ظلم لحقّ الربّ الواجب طاعته.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}
كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه.
والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلاّ المُداني للمتكلّم، قال رؤبة يصف صائداً:
وَسْوَسَ يَدعُو جاهداً ربّ الفلق *** سِرّاً وقد أوّنَ تَأوِينُ العُقق
وسمي إلقاء الشيطان وسوسة: لأنّه ألقَى إليهما تسويلاً خفياً من كلاممٍ كلمهما أو انفعاللٍ في أنفسهما. كهيئة الغاش الماكر إذْ يُخفِي كلاماً عَن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاماً في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخُلْد وملك لا يبلى} [طه: 120] ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطرَ فاسدة، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله: {من شر الوسواس الخنّاس} [الناس: 4] وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم.
واللاّم في: {ليبدي} لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان. ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله، ثم لغرض الإضرار بهما، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضَى الله عنهما، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ، وإن لم تخطر بباله، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل. والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر، كما سيصرّح به فيما بعدُ، وفي قوله تعالى: {إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6].
والإبداء ضدّ الإخفاء، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال: بدَا لي أنْ أفعل كذا.
وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص، ومِن سَب العرب قولهم: سوأةً لك، ومن تلهّفهم: يا سوْأتَا.
ويكنّى بالسوأة عن العورة. ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس.
والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد:
لَم يَهْب حُرمة النّديم وحُقَّت *** يا لَقَوْمي للسوأةِ السوآءِ
فتكون صيغة الجمع على حقيقتها، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه، ويجوز أن تكون جمع السوأة، المكنى بها عن العورة، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم} [الأعراف: 26] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى: {فقد صَغَت قلوبكما} [التحريم: 4]. وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} [الأعراف: 22].
وعطفُ جملة: {وقال ما نهاكما ربكما} على جملة {فوسوس} يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله: {ما نهاكما} إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما، ولو كانت جملة: {ما نهاكما} إلى آخرها بياناً لجملة {فوسوس} لكانت جملة: {وقال ما نهاكما} بدون عاطف، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن. وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما. ألا ترى أنّه لم يعطف قوله، في سورة طه (120): {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته، واستزلالاً لقدمه، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل.
والإشارة بقوله: {عن هذه لشجرة} إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي.
والاستثناء في قوله: {إلا أن تكونا ملكين} استثناء من علل، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين، فتعين تقدير لام التّعليل قبل (أنْ) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على (أنْ) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس.
وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي: أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله، أي هو علّة في الجملة، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير: كراهة أن تكونا.
وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، كما تقدّم في سورة الأنعام، وقيل حذفت (لا) بعد (أن) وحذفها موجود، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه. وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة، إذا أكلا من الشّجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة.
وقوله: {أو تكونا من الخالدين} عطف على: {أن تكونا ملكين} وأصل (أو) الدّلالة على التّرْديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرْديد بعد الخبر، والتّرديدُ لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون مَلَكاً وخالداً، كما قال عنه في سورة طه (120): {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} فجعل نهي الله لهما عن الأكل لاَ يَعدو إرادة أحد الأمرين، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعاً بدلالة الفحوى، ولم يكن آدم قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 36].
{وقاسمهما} أي حلف لهما بما يوهم صدقه، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة، كما حذفت في المكارمة، والمفاعلةُ هنا للمبالغة في الفعل، وليست لحصول الفعل من الجانبين، ونظيرها: عافاه الله، وجعله في «الكشاف»: كأنّهما قالا له تُقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فَأقْسم فجُعل طلبُهما القسمَ بمنزلة القسم، أي فتكون المفاعلة مجازاً، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها، فتكون المفاعلة على بابها، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدَات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وَجدا ما يأمرهما مخالفاً لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادتَه بهما الخير علماً حاصلاً بالفطرة.
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)}
{فدلاهما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة}.
تفريع على جملة: {فوسوس لهما الشّيطان} [الأعراف: 20] وما عطف عليها.
ومعنى {فدلاّهما} أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه، وأصل دلَّى، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال: دَلَّى فلانٌ، يقال دلّى كما يقال أدلى.
والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي (هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل):
أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه *** فليس كمَنْ يدلّى بالغرور
وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها.
ودلّ قوله: {فدلهما بغرور} على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان، فأكلا من الشّجرة، فقوله: {فلما ذاقا الشجرة} ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا، والتّقدير: فأكلا منها، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما.
والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة، فزادت هذه الآية على آية البقرة.
وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان. وأوّل تضليل منه للإنسان.
وقد أفادت (لما) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة، لأنّ (لما) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها، وهذا مَعنى قولهم: حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ (فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى (عند) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين، يريد باعتبار أصلها، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في (لو) حرف امتناععٍ لامْتناععٍ، وفي (لَولا) حرف امتناع لوجود، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا، هي لام التّعليل، بخلافها في عبارتهم في (لما) لأنّ (لما) لا دلالة لها على سَبَب، ألا ترى قوله تعالى:
{فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم} [الإسراء: 67] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط (لما) وجوابها معنى السَّببية دون اطراد، فقوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة، والشّعورَ بالنقيصة: فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه، ويتوقّعان غروره، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها. لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي. ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان. فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه. ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير، وبالسوء للنّفس، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء. وتقارن السوء وتلازمه.
ثمّ إن كان «السَّوآت» بمعنى ما يسوء من النّقائص، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى: {ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل، وإرادة الإقدام عليه، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة، أو تكون ذريعة إليها، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني، أعني الشّيء المقارن لما يسوء، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة، والله أوجدها سببَ مصالح، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى، وهذا التّطوّر، الذي أشارت إليه الآية، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه.
وقوله: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين، عَرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة، وأنّ سترها متعيّن، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان، ثمّ أخذت الشّرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربِّينَ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام، كما فصّلتُه في كتاب «مقاصد الشّريعة» وكتاب «أصول نظام الاجتماع في الإسلام».
والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف، وضعا مُلزقاً متمكّناً، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة.
و (من) في قوله: {من ورق الجنة} يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول {يخصفان} أي يخصفان بعض ورق الجنة، كما في قوله: {من الذين هادوا يحرفون}، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه: «{يخصفان} والتقدير: يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
عطف على جواب (لَمَّا)، فهو ممّا حصل عند ذَوق الشّجرة، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود. فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان. وأعقب ذلك نداءُ الله إيّاهما.
وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء، إلاّ إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77] وقد بيّنته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» ولم أعلم أنّي سُبقت إلى الاهتداء إليه.
وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما، وتحيَّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقْعٌ مكين من نفوسهما، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله، وأنّ في عصيانه ضرّاً.
والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النَّدى بفتح النّون والقصر وهو بُعد الصّوت، قال مدثار بن شيبان النمري:
فَقُلتُ ادعِي وأدْعُوا إنّ أندى *** لِصَوْتتٍ أن يُنادِيَ داعيان
وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك، وله حروف معروفة في العربيّة: تدلّ على طلب الإقبال، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك، وهو إقبال مجازي.
{وناداهما ربهما} مستعملٌ في المعنى المشهور: وهو طلب الإقبال، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى: {وزكرياء إذا نادى ربه} [الأنبياء: 89] وهو كثير في الكلام.
ويجوز أن يكون مستعملاً في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى: {كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً} [البقرة: 171] وقوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} [الأعراف: 43] وقول بشّار:
نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني *** قَتْلاً وما أحدثتُ من ذَنْب
ورفع الصّوت يكون لأغراض، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ.
وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة.
وجملة: {ألم أنهاكما} في موضع البيان لجملة (ناداهما)، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام في {ألم أنهاكما} للتّقرير والتّوبيخ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار، لو كان يستطيع إنكاراً، كما تقدّم عند قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} الآية في سورة الأنعام (130)، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما.
وعطف جملة: وأقل لكما} على جملة: {أنهكما} للمبالغة في التّوبيخ، لأنّ النّهي كان مشفوعاً بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة، فهما قد أضاعا وصيتين. والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته، فإنّه لما جُبل على الخبث والخري كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّهُ ومحسودُه في حالة حسنة.
والمُبين أصله المظهر، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره، وما عامل به آدمَ من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبَانة عن عداوته، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيَّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي، فلا يحب أن يكون الإنسانُ إلاّ في حالة الضّلال والفساد. ويجوز أن يكون المبين مستعملاً مجازاً في القويّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان.
وقد قالا: {ربنا ظلمنا أنفسنا} اعترافاً بالعصيان، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخولَ في طور ظهور السوآت، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما، وبأنّهما جَرّا على أنفسهما غضب الله تعالى، فهما في توقع حقوق العذاب، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي، وإمّا بالاستدلال على العَواقب بالمبادئ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادِئ الضر والشّر، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهاراً لتحقيق الخسران استرحاما واستغفاراً من الله تعالى.
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)}
طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم: لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه، ولكلّ مقامً مَقال. والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ. والأمر تكويني، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض.
وجملة: {بعضكم لبعض عدو} في موضع الحال من ضمير: {اهبطوا} المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس، فأحد البعضين هو آدم وزوجه، والبعض الآخر هو إبليس، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين، كانت موروثة في نسليهما، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود، فهي منبثّة في التّفكير والجسد، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين.
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في النّاس الخير. أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال.
وعطفت جملة: {ولكم في الأرض مستقر} على جملة: {بعضكم لبعض عدو}.
والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى: {لكل نبإ مستقر} [الأنعام: 67] وقوله {فمستقر ومستودع} في سورة الأنعام (98).
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض.
والمتاع والتّمتّع: نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء، وتقدّم في قوله تعالى: {لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} في سورة النّساء (102).
والحِين المدّة من الزّمن، طويلة أو قصيرة، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}
أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحداً، والغرضضِ متّحداً، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين: الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة (140): {قال أغير الله أبغيكم إلهاً بعد قوله: قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود: إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله: {فيها تحيون} [الأعراف: 25] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى: {قال فما خطبكم} [الحجر: 57] إثر قوله {قال ومن يقنط من رحمة ربه} [الحجر: 56] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال: {فما خطبكم}، وكما في قوله تعالى: {أرايتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء: 62] بعد قوله {قال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً} [الإسراء: 61] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال.
والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالى: {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل} [الأعراف: 39] بعد قوله {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفاً: أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير: كلَّهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله: {ومنها تخرجون} لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها، وذلك هو الدّفن بعد الموت، والشّياطين لا يُدفنون.
وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى.
وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا.
وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز: وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض، وتَظهرُ لهما ذريّة، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم، ومنها مبعثهم، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد.
وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها.
وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم.
وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفاً بعيداً.
وقرأ الجمهور: تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول، وقرأه حمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوبُ، وخلف: بالبناء للفاعل.
{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} الآية استئنافاً ابتدائياً، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3] الآيات، وهم أمّة الدّعوة، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي، وكان قوله: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف: 11] استطراداً بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى: {ولقد خلقناكم} فخاطبتْ هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي.
ويجوز أن يكون قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} وما أشبهه ممّا افتتح بقوله: {يا بني آدم} أربعَ مرّات، من جملة المقول المحكي بقوله: {قال فيها تحيون} [الأعراف: 25] فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدمَ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي، ولو بالإلهام، لما تَنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق، فابتدأ فأعلمهم بمنَّته عليهم أن أنزل لهم لباساً يواري سَوْآتهم، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سَوءاتُهما، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يُصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} [الأعراف: 35] الآية، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قُصدوا من هذا القَصص، وهم المشركون المكذّبون محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسقَ نظمُه، وأيًّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركُو العرب ومكذّبو محمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك تخللتْ هذه الخطاباتتِ مُستطرَدَاتٌ وتعريضاتٌ مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة.
والجُمل الثّلاث من قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} وقوله {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] وقوله {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة: {قال فيها تحيون} [الأعراف: 25] على طريقة تعداد المقول تعداداً يشبه التّكرير.
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين: لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم، معرّضون لسخطه وعقابه.
وابتُدئ الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان: وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها، وتعادي عدوّهم، وتحترس من الوقوع في شَرَكه.
ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه، وقد تقلّدها بنوه، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة، وهي أوقع وأدعى للشّكر، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً، لقصد تشريف هذا المظهر، وهو أوّل مظاهر الحَضارة، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه، تشريفاً لشأنه، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع، كما في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس} [الحديد: 25] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاععِ به، وكذلك قوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] أي: خلَقها لكم في الأرض بتدبيره، وعلَّمكم استخدامها والانتفاعَ بما فيها، ولا يطرد في جميع ما أُلهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في الجدوى، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر.
وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32] فخالفوا الفطرة، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر: {قال موعدكم يوم الزينة} [طه: 59].
واللّباس اسم لما يلبَسه الإنسان أي يستُر به جزءاً من جسده، فالقميص لباس، والإزار لباس، والعمامة لباس، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى: {وتستخرجون حلية تلبسونها} [فاطر: 12] ومصدر لبس اللّبس بضمّ اللاّم.
وجملة: {يواري سوآتكم} صفة (للباساً) وهو صنف اللّباس اللاّزم، وهذه الصّفة صفة مَدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآيه إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة، وهي السوأة، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه، وقد ثبت بعضه بالسنّة، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه.
والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته، ويقال للباس الزّينة رِياش.
وعطف (ريشاً) على: {لباساً يزارى سوآتكم} عطفَ صنف على صنف، والمعنى يَسَّرنا لكم لباساً يستركم ولباساً تتزيّنون به.
وقوله: {ولباس التقوى} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبُو جعفر: بالنّصب، عطفاً على {لباساً} فيكون من اللّباس المُنْزَل أي الملهَم، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس. والتّقوى، على هذه القراءة، مصدر بمعنى الوقاية، فالمراد: لَبوس الحرب، من الدّروع والجواشن والمغافر. فيكون كقوله تعالى: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} [النحل: 81]. والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة، أي خير أعطاه الله بني آدم. فالجملة مستأنفة أو حال من {لباساً} وما عطف عليه.
وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو عمرو، ويعقوب، وخَلف: برفع {لباس التقوى} على أنّ الجملة معطوفة على جملة {قد أنزلنا عليكم لباساً}، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يُلبس، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللاّبس لباسه، كقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187] مع ما يحسِّن هذا الإطلاق من المشاكلة.
وهذا المعنى الرّفعُ أليقُ به. ويكون استطراداً للتّحريض على تقوى الله، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه.
وجملة: {ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} استئناف ثان على قراءة: {ولباس التقوى} بالنّصب بأن استأنف. بعد الامتنان بأصناف اللبّاس، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة: الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه، وتدلّ على وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً، فلذلك أكّد الوصاية به. والمشار إليه، بالإشارة التي في الجملة الثّانية، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة.
وعلى قراءة رفع: {ولباس للتقوى} تكون جملة: ذلك من آيات الله استئناف واحداً والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبلُ من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي.
وضمير الغيبة في: {لعلهم يذكرون} التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف، وفي هذا الإلتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب، على أنّ ضمائر الغيبة، في مثل هذا المقام في القرآن، كثيراً ما يقصد بها مشركو العرب.
{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}
أعيد خطاب بني آدم، فهذا النّداء تكملة للآي قبله، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم، إذ كاد لأصلهم.
والنّداء بعنوان بني آدم: للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة. وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، والمعنى النّهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا: أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك، لا أرَيَنَّكَ هنا: أي لا تحضرن هنا فأراك، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه.
وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه، فأخرجهما من نعيم كانا فيه، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم، وشملتْ كلّ أحد من النّوع، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده.
و (ما) في قوله: {كما أخرج} مصدريّة، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم، والتّقدير: فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه.
والأبوان تثنية الأب، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى: {ولأبويه} في سورة النّساء (11). وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى، كما في قول النبي: أنا ابن عبدِ المطّلب.
وجملة: ينزع عنهما لباسهما} في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في: {أخرج} أو من: {أبويكم} والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس.
والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين.
واللّباسُ تقدّم قريباً، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباسٌ جلَّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما، كما روي أنّه حِجاب من نور، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي روايات غير صحيحة. والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة.
وكرّر التّنويه باللّباس تمكيناً للتّمهيد لقوله تعالى بعده: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].
وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلاً، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق، وتكون مجازات، وتكون مختلفة، كما تقرّر في علم المعاني.
واللاّم في قوله: {ليريهما سوآتهما} لام التّعليل الادّعائي، تبعاً للمجاز العقلي، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي، فجعل كأنّه فاعل الإخراججِ ونزععِ لباسهِما وإراءتِهما سوآتِهما، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يُريهما سَوآتهما ليَتِم ادّعاء كونه فاعلَ تلك الأفعال المضرّة، وكونِه قاصداً من ذلك الشّناعة والفظاعة، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماماً للكيد، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي، وترشيحاً له، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللاّم هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووُري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] إذ لم تقارن اللاّم هنالك إسناداً مجازياً.
وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة.
وجملة: {إنه يريكم هو وقبيله} واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان، والتّحذير من كيده، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر، وأنّ البشر لا يرونها، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري.
فليس المقصود من قوله: {إنه يركم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة.
والضّمير الذي اتّصلت به (إنّ) عائد إلى الشّيطان وعُطف: {وقبيله} على الضّمير المستتر في قوله: {يريكم} ولذلك فصل بالضّمير المنفصل. وذُكر القبيل، وهو بمعنى القبيلة، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ، تقول العرب: أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون.
وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه.
و {من حيث لا ترونهم} ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه، فيفيد: إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات، معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح:
" إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد " الحديث، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة، وقول النّبيء صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " ذلك شيطان " كما في «الصّحيحين»، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطاننِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه، وذلك بمنزلة رؤية مكاننٍ يُعلم أنّ فيه شيطاناً، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق، فلولا الخبر لما عُلم ذلك.
وجملة: {إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم، وتنفيراً من أحوالهم، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ: {إنه يريكم هو وقبيله}.
وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين. والجعل هنا جعل التّكوين، كما يعلم من قوله تعالى: {بعضكم لبعض عدو} [الأعراف: 24] بمعنى خلقنا الشّياطين.
و {أولياءَ} حال من {الشياطين} وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها: كالافتراس في الأسد، واللّسع في العقرب، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادئ النّظرة الحمقاء، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين، ومؤتمراً بما تسوله إليه، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه، حتّى صار المالكَ لإراداتهم، وتلك مَرتبَة المشركين، وتتفاوت مراتب هذه الولاية، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله: {إنّ الشيطان لكما عدو مبين} [الأعراف: 22] وقوله {بعضكم لبعض عدو} [الأعراف: 24] فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد، وهو الشّرك وما فيه، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله: {بعضكم لبعض عدو} كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان.
والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} في هذه السورة (35).
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
{وإذا فعلوا فاحشة} معطوف على {للذين لا يؤمنون} [الأعراف: 27] فهو من جملة الصّلة، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين، بقرينة قوله: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} والمقصود من جملتي الصّلة: تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول. وجاء الشّرط بحرف {إذا} الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة.
والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي: فَعْلَة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه، فصارت الفاحشة اسماً للعمل الذّميم، وهي مشتقّة من الفُحْش بضمّ الفاء وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة، وينكرها أولو الأحلام، ويستحيي فاعلها من النّاس، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع، كأفعال أهل الجاهليّة، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد، ومثل العراء في الحجّ، وترك تسمية الله على الذّبائح، وهي من خَلق الله وتسخيره، والبغاء، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء، وحرمان الأقارب من الميراث، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل، وتحريمهم على أنفسهم كثيراً من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم. وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لاقصرها عليه فكأن أيمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم، وجِماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالِفين الذين هم قدوة لخلفهم، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى، ففهم منه أنّهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم، فمعنى قولهم: {والله أمرنا بها} ليسَ ادّعاءَ بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمرُ الله آباءَهم أمراً لهم، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم، فهذا معنى استدلالهم، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتماداً على فطنة المخاطبين.
وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا}: على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع، وقد يكون القائل غير الفاعل، والفاعل غير قائل، اعتداداً بأنّهم لما صَدّق بعضهم بعضاً في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم.
وأفاد الشّرط رَبْطاً بين فعلهم الفاحشة وقولهم: {وجدنا عليها آباءنا} باعتبا إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت، وقد قال لهم زيد بن عمرو: «إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً.
وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه: كما وقع لامرئ القيس، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حُجْراً، فقصد ذا الخَلَصة صنمَ خَثْعَمَ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال:
لو كنتَ يا ذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لَمْ تنهَ عن قتل العُداة زُوراً ***
ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار. وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم.
ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلاً لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه، فإنّ قولهم: {والله أمرنا بها} دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى.
وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله: {قل إن الله لا يأمرنا بالفحشاء} فَأعْرَضَ عن ردّ قولهم: {وجدنا عليها آباءنا} لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهياً وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى، وهي مناط الاستدلال، أعني قولهم: {والله أمرنا بها}.
فقوله: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} نقض لدعواهم أنّ الله أمَرهم بها أي بتلك الفواحش، وهو ردّ عليهم، وتعليم لهم، وإفاقة لهم من غرورهم، لأنّ الله متّصف بالكمَال فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه، فكون الفعل فاحشة كاف في الدّلالة على أنّ الله لا يأمر به لأنّ الله له الكمال الأعلى، وما كان اعتذارهم بأنّ الله أمر بذلك إلاّ عن جهل، ولذلك وبَّخهم الله بالاستفهام التّوبيخي بقوله: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أي ما لا تعلمون أنّ اللهأمر به، فحُذف المفعول لدلالة ما تقدّم عليه، لأنّهم لم يعلموا أنّ الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه، وإنّما قالوه عن مجرّد التّوهّم، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل.
وضمن: {تقولون} معنى تكذيون أو معنى تتقَوّلون، فلذلك عُدّي بعَلى، وكان حقّه أن يعدى بعَنْ لو كان قولاً صحيح النّسبة، وإذ كان التّوبيخ وارداً على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يُتحقّق عدمُ وروده من الله أحرى.
وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أيمّة الكفر، وقادة الشّرك: مثل عَمْرو بن لُحَي، الذي وَضَعَ عبادة الأصنام، ومثل أبي كَبشة، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب، ومثل ظالم بن أسْعد، الذي وضع عبادة العُزى، ومثل القلَمَّسسِ، الذي سنّ النَّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوتتِ الشّرك.
واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم مَن ليسوا أهلاً لأنّ يقلَّدوا، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلِّديهم، إلاّ بأنّهم أقدم جيلاً، وأنّهم آباؤهم، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد، والتّقليد في الفساد يستوي، هو وتسنينه، في الذّم، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح: «مَا من نفس تُقتل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْل من دمها ذلك لأنّه أوّلُ من سَنّ القتل» وحديث: «مَن سَنّ سُنّة سَيِّئة فعليه وزرها ووزر من عَمِل بها إلى يوم القيامة». فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلاً في فعل الفواحش.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}
بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالاً عاماً بقوله: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] استأنف استئنافاً استطرادياً بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القِسْط أي العدل تعليماً لهم بنقيض جهلهم، وتنويهاً بجلال الله تعالى، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به. ولأهميّة هذا الغرض، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] فُصلت هذه الجملة عن التي قبلها، ولم يُعطف القولُ على القول ولا المقول على المقول: لأنّ في إعادة فعل القَول وفي ترك عطفه على نظيره لَفْتاً للأذهان إليه.
والقسط: العَدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء، وهو الفضيلة من كلّ فعل، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم، نظير قوله: {وكان بين ذلك قَواماً} [الفرقان: 67] فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يُقدَر عليه. وأمَر الله بالإحسان، وهو عدل بين الشحّ والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائماً للصّلاح عاجلاً وآجلاً، أي سالماً من عواقب الفساد، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلاّ هو، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئاً من تلك الفواحش ليس بقسط، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط، والمبالغة في وضع اللباس إفراطٌ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحَرّ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو، والاسترسال فيه نهامة، والوسط هو الاعتدال، فقوله: {أمر ربي بالقسط} كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط.
ثمّ أعقبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم عن الله: {أقيموا وجوهكم عند كل مسجد} فجملة: {وأقيموا} عطف على جملة: {أمر ربي بالقسط} أي قُلْ لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح. وإبطالُ شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن شيءٍ وفعلَ ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره.
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته، بحال المتهيّئ لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً، أي غير متغاضضٍ ولا متوان في التّوجّه، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال: قامت السّوق، وقامت الصّلاة، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة (3) عند قوله:
{ويقيمون الصلاة ومنه قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفاً} [الروم: 30] فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضاً، وهذا كما ورد في الحديث: «المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه» فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمرِ باللّباس: ابتداء من قوله: {ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما} [الأعراف: 20] إلى هنا.
ومعنى: {عند كل مسجد} عند كلّ مكان متخَذ لعبادة الله تعالى، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيَّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام} في سورة العقود (2)، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالاً من الحجّ كلّها مساجد، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ، فذِكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيرَه من أصنامهم بالنّية، كما كانوا وضعوا (هُبَلَ) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهُبل، ووضعوا (إسافاً ونائلة) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلّون إلى (منَاة) عند (المشلل)، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها، فهذه مناسبة عطف قوله: وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه.
والدّعاء في قوله: {وادعوه مخلصين له الدين} بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله: {إن الذين تدعون من دون الله} [الأعراف: 194]. والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة غيره. والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته.
ومنه سمّي الله تعالى: الديَّان، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القِسط الذي في قوله: {قل أمر ربي بالقسط} كما قدمناه هنالك، و{مخلصين} حال من الضّمير في ادعوه.
وجملة: {كما بدأكم تعودون} في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله: {مخلصين} وهي حال مقدرة أي: مقدّرين عَودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم، وهذا إنذار بأنّهم مُؤاخدون على عدم الإخلاص في العبادة، فالمقصود منه هو قوله: {تعودون} أي إليه، وأدمج فيه قوله: {كما بدأكم} تذكيراً بإمكان البعث الذي أحالوه؛ فكان هذا إنذاراً لهم بأنّهم عائدون إليه فمُجَازَوْن عن إشراكهم في عبادته، وهو أيضاً احْتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غيرَ الله، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدَفع موجب استبعادهم إياه، حين يقولون:
{أإذا مِتنَا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون} [الواقعة: 47] ويقولون {أينا لمردودون في الحافرة أإذا كنّا عظاماً نَخِرة} [النازعان: 10، 11] ونحو ذلك، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجبَ من خلقهم الأوّل كما قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] وكما قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني، كما انفرد بخلقهم الأوّل، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئاً.
فالكاف في قوله: {كما بدأكم تعودون} لتشبيه عود خلقهم ببدئه و(ما) مصدريّة والتّقدير: تعودون عوداً جديداً كبدئه إيَّاكم، فقدم المتعلِّق، الدّال على التّشبيه، على فعلِه، وهو تعودون، للاهتمام به، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعِيدة عن سياقها ونظمها.
و {فريقاً} الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال: إمَّا من الضّمير المرفوع في {تعودون}، أي ترجعون إلى الله فريقين، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلاً بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب، ومعنى {فريقاً هدى}: أنّ فريقاً هداهم الله في الدّنيا وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة، أي في الدّنيا، كما دلّ عليه التّعليل بقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله}، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله: {مخلصين} أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين: فريقاً هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك، وفريقاً دام على الضّلال ولازم الشّرك.
وجملة: {هدى} في موضع الصّفة لفريقاً الأوّل، وقد حذف الرّابط المنصوب: أي هداكم الله، وجملة: {حق عليهم الضلالة} صفة {فريقاً} الثّاني.
وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة، وتحذير من اتّباع الشّيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله: {هدى} فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} [المجادلة: 19]. وتقديم {فريقاً الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل.
ومعنى: حق عليهم الضلالة} ثبتت لهم الضّلالة ولزموها. ولم يقلعوا عنها، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين: فريقاً هداه الله إلى التّوحيد، وفريقاً لازم الشّرك والضّلالة، فلم يطرأ عليهم حال جديد.
وبذلك يظهر حسن موقع لفظ: {حق} هنا دون أن يقال أضلّه الله، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم، كما قال تعالى في نظيره: {فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة} [النحل: 36] ثمّ قال {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37]، فليس تغيير الأسلوب بين: {فريقاً هدى} وبين {وفريقاً حق عليهم الضلالة} تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله، كما توهمه صاحب «الكشاف»، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال.
وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى: {ومنهم من حقت عليه الضلالة} [النحل: 36].
وقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} استئناف مراد به التّعليل لجملة {حقت عليه الضلالة} [النحل: 36]، وهذا شأن (إنّ) إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء، كما تقدّم غيرَ مرّة.
والمعنى أنّ هذا الفريق، الذي حَقت عليهم الضّلالة، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن، ولكنّهم استوحوا شياطينهم، وطابت نفوسهم بوسوستهم، وائتمروا بأمرهم، واتّخذوهم أولياء، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله.
وعطف جملة: {ويحسبون} على جملة: {اتخذوا} فكان ضلالهم ضلالاً مركباً، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أيمّة الكفر وألياء الشّياطين، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا، وأهملوا النّظر، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والحسبان الظنّ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن.
وعطف هذه الجملة على التي قبلها، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين، فولاية الشّياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضاً، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل.
{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26].
وهذه الجملة تتنزّل، من التي بَعدها، وهي قوله: {قل من حرم زينة الله} [الأعراف: 32] منزلة النّتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.
فالمقصد من قوله: {خذوا زينتكم} إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة، وعند مساجد معيّنة، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول:
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ، وعنه: أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة. وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى: اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم:
كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ
وفي «الكشاف»، عن طاووس: كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا: لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه، عام حجّته سنة تسع، أن ينادي في الموسم: " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان ".
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً، ولا يأكلون دَسماً، ونسب في «الكشاف» ذلك إلى بني عامر، وكان الحُمْس يقولون: لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا، وفي «تفسير الطبري» عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها. وفيه عن قتادة: أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
فالأمر في قوله: {خذوا زينتكم} للوجوب، وفي قوله: {وكلوا واشربوا} للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين.
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم، وامتن به عليهم، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً. وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر. فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] بعد قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً. فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ، وهو ما يستْر العورة، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم.
وقوله: {عند كل مسجد} تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى، وقد تقدّم نظيره في قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} [الأعراف: 29]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً.
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافاً} في سورة النّساء (6)، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي: ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله: {قل من حرم زينة الله} إلى قوله {والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29] فإن ترك السّرف من معنى العدل.
وقوله: {إنه لا يحب المسرفين} تذييل، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد، فابتدئ الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله. وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب {قل} دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة.
والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] وقوله {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} [الأنعام: 143] وقرينة التّهكّم: إضافة الزّينة إلى اسم الله، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده، ووصفُ الرّزق بالطّيبات، وذلك يقتضي عدم التّحريم، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها.
ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنّه لا يقوله عاقل، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} على طريقة قوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} في سورة الأنعام (12)، وقوله {عم يتساءلون عن النبإ العظيم} [النبأ: 1، 2] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين.
وضمير: {هي} عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها، أي: الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم.
واللاّم في: {للذين آمنوا} لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة، فالمعنى: ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا.
وقوله: {خالصة يوم القيامة} قرأه نافع، وحده: برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله: {هي} أي: هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة، وقرأه باقي العشرة: بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة.
والأظهر أنّ الضّمير المستتر في {خالصة} عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها، أي هي خالصة لهم في الآخرة، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا، فمعنى خلاصها صفاؤها، وكونه في يوم القيامة: هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها، وهي تبعات تحريمها، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم:
{وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير، والأمر فيه على قراءة رفع: {خالصة} أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة.
ويحتمل أن يكون الضّمير في {خالصة} عائداً إلى الزّينة والطّيبات، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها، فيكون المعنى: ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة.
ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه.
ومعنى: {كذلك نفصّل الآيات} كهذا التّفصيل المتبَدِيء من قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26] الآيات أو من قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3]. وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام.
والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى، وانفراده بالإلهيّة، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال، إذ قال: خُذوا زينتكم، وقال: {وكلوا واشربوا} [الأعراف: 31]، ثمّ قال: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة.
واللاّم في قوله: {لقوم يعلمون} لام العلّة، وهو متعلّق بفعل {نفصل}، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} في سورة الأنعام (99)، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون.
والمراد بقوم يعلمون} الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم، رغم ما فصّل لهم من الآيات.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
لَمَّا أنبأ قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32] إلى آخره، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28] بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّاً وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله.
فالقصر المفاد من {إنَّما} قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات، فأفاد إبطال اعتقادهم، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها، لأنّه لمّا عدّ أشياء، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة (إنّما) من إثبات ونفي: إذ هي بمعنى (مَا وإلاّ)، فأفاد تحليل ما زعموه حراماً وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها.
والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتاً} في سورة النّساء (22) وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28].
و {ما ظهر منها} هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} في سورة الأنعام (151). وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب، لو سئلوا، أنّ الله لا يرضى بها، وقيل المراد بالفواحش: الزّنا، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد.
وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب، فهو أعمّ من الفواحش، وتقدّم في قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة البقرة (219). وقوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في سورة الأنعام (120)، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام، كذكر الخاص بعد العام، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماماً من جهتين.
وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم، والكبرُ على النّاس من البغي، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغياً ولكنّه أذىً، قال الله تعالى: {والّذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] وقد كان البغي شائعاً في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم.
وقوله: {بغير حق} صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ.
وعطف {البغي} على {الإثم} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة، قال سوار بن المضرِّب السّعدي:
وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب *** إذا لم أجْننِ كنت مِجَنَّ جان
والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر.
و {ما لم ينزّل به سلطانا} موصول وصلته، و(مَا) مفعول {تشركوا بالله}، والسّلطان البرهان والحجّة، والمجرور في قوله: {به} صفة ل {سلطانا}، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى: {من إن تأمنه بقنطار} [آل عمران: 75] أي سلطاناً عليه، أي دليلاً. وضمير (به) عائد إلى (ما) وهو الرابط للصّلة. فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء: نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها. وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفيِ معذرتهم في الإشراك، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم: أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل: هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطاناً واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام، ولا ما قفاه عليه صاحب «الانتصاف» من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرئ القيس:
على لا حببٍ لا يُهتدَى بمناره
ولا يتّجه ما نحاه صاحبُ «الكشاف» من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم.
وقولُه: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} تقدّم نظيره آنفاً عند قوله تعالى، في هذه السّورة: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ. وهذا من ناحية قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217].
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
اعتراض بين جملة: {يا بني آدم خذوا زينتكم} [الأعراف: 31] وبين جملة: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} [الأعراف: 35] لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم. بعد أن دعاهم إلى الإيمان، وإعراضَهم عنه، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهارِ نقائصهم بالحجّة البيّنة، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه، أعقَب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامةً للحجّة عليهم وإعذاراً لهم قبل حلول العذاب بهم.
وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] وتحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار.
والمعنى الثّاني: أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وعداً له بالنّصر على مكذّبيه، وإعلاماً له بأنّ سنّته سنّةُ غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم.
وذكْرُ عموم الأمم في هذا الوعيد، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبراً معضوداً بالدّليل والحجّة، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [آل عمران: 137] أي: ما أنتم إلاّ أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه.
وذِكر الأجل هنا، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال، إيقاظاً لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غيرُ مؤاخذهم على تكذيبهم، كما قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32]، وطمأنةً للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا} [يوسف: 110] وقوله {لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].
ومعنى: {لكل أمة أجل} لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي: مكذّبة.
وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال، ويُطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال، ولا شكّ أنّه وُضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان. فعلى الأوّل يقال قَضى الأجلَ أي المدّة كما قال تعالى: {أيَّما الأجلين قضيت} [القصص: 28] وعلى الثّاني يقال: «دنا أجل فلان» وقوله تعالى: {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} [الأنعام: 128] والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعللٍ مَّا.
والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى: {وأن تشركوا بالله} [الأعراف: 33] إلخ وليس المراد بالأمّة، الجماعةَ التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل (طَسْمٍ) و(جَدِيس) و(عَدْوَان) فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه، إلاّ بمعنى جماعة يجمعها أنّها مُرسل إليها رسول فكذّبته، وكذلك كان ما صْدَق هذه الآية، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم، فآمن به من آمن، وتَلاحق المؤمنون أفواجاً، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم مَن حولهم، وأمهل الله العربَ بحكمته وبرحمة نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قال: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض مَنْ عَلِم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عبادَهُ المؤمنين فاستأصلوهم فوْجاً بعد فوح، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام، إلى أن تَم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح، مثل عبد الله بن خَطَل ومن قُتل معه، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّللِ دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة، وما زالوا يتزايدون.
وليس المراد في الآية، بأجل الأمّة، أجلَ أفرادها، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها، لأنّه لا علاقة له بالسّياق، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حَيّ أجل.
و {إذا} ظرف زمان للمستقبل في الغالب، وتتضمّن معنى الشّرط غالباً، لأنّ معاني الظّروف قريبَة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق، وقد استُغني بفاء تفريع عامل الظرّف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب (إذا) لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع، والمفرعُ هو: {جاء أجلهم} وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكدّ بذلك التّقديممِ معنى التّعليق. والمجيء مجاز في الحلول المقدَّر له كقولهم جاء الشّتاء.
وإفراد الأجل في قوله: {إذا جاء أجلهم} مراعى فيه الجنس، الصّادق بالكثير، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع.
وأُظهر لفظ أجل في قوله: {إذا جاء أجلهم} ولم يُكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تَجْري مَجرى المثل، وإرسالُ الكلام الصّالح لأن يكون مَثلا طريق مِن طُرق البلاغة.
و {يستأخرون}: و{يستقدمون} بمعنى: يتأخّرون ويتقدّمون، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب.
والمعنى: إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم. والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه، فَعَطْفُ {ولا يستقدمون} لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يَقْدِر أحد على تغييره وصَرفه، فكان قوله: {ولا يستقدمون} لا تعلّق له بغرض التّهديد. وقريب من هذا قول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيثُ أنتتِ فليس لي *** مُتَأخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّم
وكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتُبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء.
{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
يجيء في موقع هذه الجملة: من التّأويل، ما تقدّم في القوللِ في نظيرتها وهي قوله تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم} [الأعراف: 26].
والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ. وصيغة الجمع في قوله: {رسل} وقوله {يقصون} تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن، ويرجح أن تكون هذه النّداآت الأربعة حكاية لقوللٍ موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25].
قال ابن عطيّة: «وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم، قديمها وحديثها، هو متمكّن لهم، ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه» يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطابَ على لسان كلّ نبيء، من آدم إلى هلم جرّا، فما من نبيء أو رسول إلاّ وبلَّغه أمَّته، وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ، حتّى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم.
وإذا كان ذلك متعيّناً في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية، فشد به يدك. ولا تعبأْ بمن حَرَدك.
فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً. كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد، تعظيماً له، كما في قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] أي كذّبوا رسوله نُوحا، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105] وله نظائر كثيرة في القرآن.
وهذه الآية، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله.
أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السّابق: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}
[الأعراف: 27] عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان، بأن يبعث إليهم قوماً من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين، بقوله: {يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم} الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم.
و {إمَّا} مركّبة من (إن) الشّرطيّة و(ما) الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية، واصطلح أيمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة، رعْياً لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها (مهما) و(أينما)، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى: {فإما ترين من البشر أحداً فقولي} سورة مريم (26) لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم، وهذا الاقتران بالنّون غالب، ولأنّها لما وقعت توكيداً للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة.
وقوله: {منكم} أي من بني آدم، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم، مثل قوم نوح، إذ قالوا: {ما نراك إلا بشراً مثلنا} [هود: 27] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} [الإسراء: 94، 95].
ومعنى {يقصون عليكم آياتي} يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم} [الزمر: 71] وأيّاً مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه.
الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، كما تقدّم عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} في سورة البقرة (39)، وقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} في سورة الأنعام (37)، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس، للتّعريض بالمشركين من العرب، الذين أنكروا رسالة محمّد. ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله، وذلك من خصائص القرآن، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس.
فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه، فهذا معنى تسميتها آيات، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتتِ غيرَ القولية، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام. وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها.
وجملة: فمن اتقى وأصلح} جواب الشّرط وبينها وبين جملة: {إما يأتينكم} محذوف تقديره: فاتقى منكم فريق وكذب فريق {فمن اتقى} إلخ، وهذه الجملة شرطيّة أيضاً، وجوابها {فلا خوف عليهم}، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس، لا لنفع الرّسل، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح. إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل، كما قال شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت} [هود: 88]، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين، ومثلُه قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 62 64].
وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ، ولو فتح مثله لصحّ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع: «زوجي كَلَيْللِ تِهامَه، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه» فقد روي بالرّفع وبالفتح.
و (على) في قوله: {فلا خوف عليهم} للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله: {ولا هم يحزنون} جملة عطفت على جملة: {فلا خوف عليهم}، وعُدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حَزَنٌ، إلى الجملة: ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم، وهم الذين كفروا. فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو: ما أنا قُلْتُ هذا، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره، وعليه بيت «دلائل الإعجاز»، (وهو للمتنبّي):
وما أنا أسقمت جسمي به *** ولا أنا أضرَمْتُ في القلب ناراً
فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون.
وجملة: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار} معطوفة على جملة {فمن اتَّقى وأصلح}. والرَابط محذوف تقديره: والذين كفروا منكم وكذّبوا.
والاستكبار مبالغة في التّكبّر، فالسين والتّاء للمبالغة. وهو أن يعُد المرء نفسه كبيراً أي عظيماً وما هو به، فالسّين والتاء لعد والحسبان، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنّهم عَدَوْا قدرهم.
وضمن الاستكبار معنى الإعراض. فعلّق به ضمير الآيات. والمعنى: واستكبروا فأعرضوا عنها.
وأفاد تحقيق أنّهم صائرون إلى النّار بطريق قصر ملازمة النّار عليهم في قوله: {أولئك أصحاب النار} لأنّ لفظ أصحاب مؤذن بالملازمة. وبما تدلّ عليه الجملة الاسميّة من الدّوام والثّبات في قوله: {هم فيها خالدون}.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ باياته أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين قَالَ ادخلوا فى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الجن والإنس فِى النار}.
الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال، التي أُبهم أصحابُها، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} [الأعراف: 27] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب، فتفرّع على ذلك: أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه.
ولك أن تجعل جملة: {فمن أظلم ممن افترى} [الأنعام: 144] إلخ معترضة بين جملة: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36] وجملة: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدّم الكلام على تركيب: {من أظلم ممن} عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه في سورة البقرة (114)، وأنّ الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم.
والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود (103). ولهذه الآية اتّصال بآية: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله.
و (من) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً. و(مَنْ) الثّانية موصولة، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين: جهة إبطال ما يدلّ على مراده، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله.
والمراد بهذا الفريق: هم المشركون من العرب، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش، كما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى:
{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف: 28].
و (أو) ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين: فريق افتروا على الله الكذب، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، وأبي كَبْشة، ومن جاء بعدهما، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية، وفريق كذّبوا بآياتتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين، من أهل مكّة وما حولها، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أموراً من الضّلالات، وكذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلماً، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس، وهذا كقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله} [الأنعام: 93]، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة.
ولك أن تجعل (أو) بمعنى الواو، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب، ويكون صادقاً على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك.
شيء باسم الإشارة في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء.
وجملة {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} الآية، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته.
ويجوز أن تكون جملة: {أولئك ينالهم نصيبهم} عطف بيان لجملة: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.
وتكملة هذه الجملة هي جملة: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} الآية كما سيأتي.
ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده، ونوّله أعطاهُ فنال، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً، بل بالعكس: الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} [الحج: 37] وقوله {سينالهم غضب من ربهم} [الأعراف: 152]، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه، كما يطلب العدوّ عدوّه، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة:
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُه
وقولهم: «عرضتُ النّاقة على الحوض».
والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا} في سورة البقرة (202)، وقوله: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} في سورة النساء (7).
والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب، فإن كان الكتاب مستعملاً حقيقة فهو القرآن، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده، مثل قوله تعالى آنفاً: {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36]، وإن كان الكتاب مجازاً في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره، على حدّ قوله: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38] أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب، وأنّه لا يغفر لهم، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفاً بقوله: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]. وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله: {فمن أظلم} ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلاً في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في (حتّى). وذلك غير ملتزَم، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره.
والمعنى: إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم.
وجملة: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} تفصيل لمضمون جملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} فالوقت الذي أفاده قوله: {إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا.
و {حتى} ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة، فالمعنى: ف {إذا جاءتهم رسلنا} إلخ، و(حَتّى) الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها، قال الرضي؛ قال المصنف: وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي، جبراً لما فات من الاتّصال اللّفظي، قال عَمرو بن شَأس:
نذود الملوك عنكُمُ وتذودُنا *** ولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعا
وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة} في سورة الأنعام (31) و(حتّى) الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام، وهذا الكلام الواقع هنا بعد (حتّى) فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم، من الوعيد المتعارف، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه. والرّسُل هم الملائكة قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] وقال {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} [الأنفال: 50].
وجملة: {يتوفونهم} في موضع الحال من {رُسلنا} وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله: {ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} [الأعراف: 61، 62] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم.
والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك} في سورة آل عمران (55) وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف (حتى) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.
ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة: رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم. وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.
والاستفهام في قوله: أين ما كنتم تدعون من دون الله} مستعمل في التّهكّم والتّأييس.
و (مَا) الواقعة بعد أين موصولة، يعني: أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم، فقد جاء في حديث «الموطّأ»: أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله. وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.
وقولهم: {ضلّوا عنّا} أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] ولذلك قال هنا: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، وقال في الآخرى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} [الأنعام: 24].
والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم.
فأمّا قوله: {قال ادخلوا في أمم} فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السّابقة، لأنّه جاء بصيغة الإفراد، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعيّن أنّ ضمير (قال) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم. وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول، بصيغه الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.
ويجوز أن تكون جملة: {قال ادخلوا في أمم} في موضع عطف البيان لجملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي: قال الله فيما كتبه لهم {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم}
[الأعراف: 34] أي أمثالكم، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر.
والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله: {ولكل أمة أجل}.
و (في) من قوله: {في أمم} للظّرفية المجازيّة، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم، وهي بمعنى (مع) في تفسير المعنى، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظَّر (في) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة:
إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكُوا
ومعنى: {قد خلت} قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} في سورة البقرة (134)، يعني: أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} [إبراهيم: 45] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء.
جملة: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لوصف أحوالهم في النّار، وتفظيعها للسّامع، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة {حتى إذا اداركوا} داخلة في حيز الاستيناف.
ويجوز أن تكون جملة: {كلما دخلت أمة} معترضة بين جملة: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} وبين جملة: {حتى إذا أداركوا فيها} إلخ. على أن تكون جملة {حتى إذا اداركوا} مرتبطة بجملة {ادخلوا في أمم} بتقدير محذوف تقديره: فيدخلون حتّى إذا اداركوا.
و (ما) في قوله: {كلّما} ظرفية مصدريّة، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها. والتّقدير: لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم، فتفيد عموم الأزمنة.
و {أمّة} نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة، فتفيد العموم، أي كلّ أمة دخلت، وكذلك: {أختَها} نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضاً، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها، والمراد بأختها المماثِلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار، كما يقال: هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب، فيقال: بَكْر وأختها تغلب، ومنه قول أبي الطبيّب:
وكطَسْم وأُخْتِها في البعاد ***
يريد: كَطَسم وجَدِيس.
والمقام يعيّن جهة الأخوّة، وسبَبُ اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب، والأمر بإدخالهم النّار، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيُّنه، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا، بوجه من وجوه العلم، أنّهم أُدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه.
وقيل: المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها.
وأفادت {كلّما} لما فيها من معنى التّوقيت: أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير: لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تَلْعن أختها، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدَها الثّانيةَ، ومن بعدها بطريق الأوْلى، أو ترُدّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة. والمعنى: كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله: {لعنت أختها}.
و (حتّى) في قوله: {حتى إذا اداركوا} ابتدائيّة، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن (حتّى) الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها، فيجوز أن تكون مترتِبَة في المعنى على مضمون قوله: {قال أدخلوا في أمم قد خلت} إلخ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله: {كلما دخلت أمة لعنت أختها}.
و {اداركوا} أصله تَداركوا فقلبت التّاء دَالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف، وسُكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن، وهذا قلْب ليس بمتعيّن، وإنّما هو مستحسن، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازْداد وادّكر: ومعناه: أدرك بعضهم بعضاً، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل، والمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النّار. وقوله: {جميعاً} حال من ضمير {اداركوا} لتحقيق استيعاب الاجتماع، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها.
والمراد: ب {أخراهم}: الآخِرة في الرّتبة، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورَعاع، والمراد بالأولى: الأولى في المرتبة والاعتبار، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضاً، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفَين محذوفين، أي أخرى الطّوائف لأولاهم، وقيل: أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان، وبالأولى أسلافهم، لأنّهم يقولون: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 23]. وهذا لا يلائم ما يأتي بعده.
واللاّم في: {لأولاَهم} لام العلّة، وليست اللاّم التي يتعدّى بها فعل القَول، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجَّه إلى الله تعالى، بصريح قولهم: {ربنا هؤلاء أضلونا} إلخ، لا إلى الطّائفة الأولى، فهي كاللاّم في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11].
والضعف بكسر الضّاد المِثْل لمقدار الشّيء، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجودَ معنى آخر، كالزّوج والنِّصف، ويختص بالمقدار والعدد، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأيمّة اللّغة، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار، مثل العذاب في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ له العذاب يوم القيامة} [الفرقان: 69] وقوله {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا {فآتهم عذاباً ضعفا} أي أعطهم عذاباً هو ضِعف عذاببٍ آخر، فعُلم أنّه، آتاهم عذاباً، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مِثْلٌ لعذاببٍ حصل قبله إذ لا تقول: أكرمت فلان ضِعفاً، إلاّ إذا كان إكرامك في مقابلة إكراممٍ آخر، فأنت تزيده، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم، كما قال تعالى في الآية الآخرى:
{يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} [سبأ: 31].
وفعل: {قال} حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات، والتّنوينُ في قوله: {لكلّ} عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتّقدير: لكلّ أمّة، أو لكلّ طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى، يزيدونهم طغياناً وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه.
والاستدراك في قوله: {ولكن لا تعلمون} لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب: أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا، والمعنى: أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال. ومفعول {تعلمون} محذوف دلّ عليه قوله: {لكللٍ ضِعف}، والتّقدير: لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم.
وقرأ الجمهور: {لا تَعلمون} بتاء الخطاب على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون بمنزلة التّذييل خطاباً لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفاً فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين.
وعُطفتْ جملة: {وقالت أولاهم لأخراهم} على جملة: {قالت آخراهم لأولاهم} لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة.
والفاء في قولهم: {فما كان لكم علينا من فضل} فاء فصيحة، مرتبة على قول الله تعالى {لكل ضعف} حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب. و(مَا) نافية. و(مِنْ) زائدة لتأكيد نفي الفضل، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله: {لكل ضعف} لا
وقوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} يجوز أن يكون من كلام أولاهم: عَطَفوا قولهم: {ذوقوا العذاب} على قولهم: {فما كان لكم علينا من فضل} بفاء العطف الدّالة على التّرتب.
فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً.
وصيغة الأمر في قولهم: {فذوقوا} مستعملة في الإهانة والتشفّي.
والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس، وقد تقدّم نظائره غير مرّة.
والباء سببيّة، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب.
يجوز أن يكون قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} من كلام الله تعالى، مخاطباً به كلا الفريقين، فيكون عطفاً على قوله: {لكل ضعف ولكن لا تعلمون} ويكون قوله: {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل} جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله: {فذوقوا} للتكوين والإهانة.
وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يَزِجّ بهم في الضّلالة، ويحسِّن لهم هواهم، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم، ولا يبلغهم النّصيحة، وفي الحديث: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النّار، الواقععِ في قوله: {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف: 36] فأخبر الله بأنّه حرمهم أسباب النّجاة، فَسَدّ عليهم أبواب الخير والصّلاح، وبأنّه حرّمهم من دخول الجنّة.
وأكّد الخبر ب {إنّ} لتأييسهم من دخول الجنّة، لدفع توهّم أن يكون المراد من الخلود المتقدّم ذكرُه الكنايةَ عن طول مدّة البقاء في النّار فإنّه ورد في مواضع كثيرة مراداً به هذا المعنى.
ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائداً إلى إحدى الطّائفتين المتحاورتين في النّار، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذاناً بما تومئ إليه الصّلة من وجه بناءِ الخبر، أي: إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفاً.
والسّماءُ أطلقت في القرآن على معاننٍ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير الأرضيّة، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مَراتب وفيها عوالم القُدس الإلهيّةُ من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة، ومصدرُ إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي، ومصدَرُ المقادير المقدّرة قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22]، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس.
وأبوابُ السّماء أسبابُ أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال، ومسالكُ وصول الأمور الخيّريّة الصّادرة من أهل الأرض، وطرق قبولها، وهو تمثيل لأسباب التّزكية، قال تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10]، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلاّ الله تعالى، لأنّها محجوبة عنّا، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وَرَدُوا المكان قد يُقبلون ويُرضى عنهم فتُفْتَح لهم أبواب القصور والقباب ويُدخلون مُكرّمين، وقد يردّون ويُسخطون فتوصد في وجوههم الأبوابُ، مُثِّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدمُ الرّضا عنهم في سائر الأحوال، بحال من لا تفتَح له أبواب المنازل، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء، وعدم قبول الأعمال والعبادات، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها، فقوله: {لا نفتح لهم أبواب السماء} كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة، وإن كانوا ينالون من نِعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم، فيغاثون بالمَطَر، ويأتيهم الرّزق من الله، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدّنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنّة. كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم «كلّ ميسَّر لِمّا خُلِق له» وقال تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5 10].
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوبُ: {لا تُفَتَّح} بضمّ التّاء الأولى وفتح الفاء والتّاءِ الثّانية مشدّدة وهو مبالغة في فَتح، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم، أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين، وهو فتح قوي، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم.
وقرأ أبو عَمرو بضمّ التّاء الأولى وسكون الفاء وفتح التّاء الثّانية مخفّفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلَف {لا يُفتَحُ} بمثنّاة تحتيّة في أوّله مع تخفيف المثنّاة الفوقيه مفتوحة على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعاً لمذكّر.
وقوله: {ولا يدخلون الجنّة} اخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النّار.
وبعد أن حُقّق ذلك بتأكيد الخبر كلّه بحرف التّوكيد، زيد تأكيداً بطريق تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه، المشتهرِ عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يُشْبه الذّم، وذلك بقوله تعالى: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنّة امتداداً مستمراً، إذْ جعل غايته شيئاً مستحيلاً، وهو أن يَلج الجمل في سَمّ الخياط، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنّة غايةٌ لكانت غايتُه ولوجَ الجْمل وهو البعير في سَمّ الخِياط، وهو أمر لا يكون أبداً.
والجَمَل: البعير المعروف للعرب، ضُرب به المثل لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب. والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة، والفِعال وَرَدَ اسماً مرادفاً للمِفعَل في الدّلالة على آلةِ الشّيء كقولهم حِزَام ومِحْزم، وإزار ومِئْزر، ولِحاف ومِلحَف، وقِناع ومِقنع.
والسَمّ: الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط، وهو ثقب ضيّق، وهو بفتح السّين في الآية بلغة قريش وتضمّ السّين في لغة أهل العالية. وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكّة.
والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط، ليعلم أنّ دخول الجمل في خَرْت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين.
والإشارة في قوله: {وكذلك} إشارة إلى عدم تفتّح أبواب السّماء الذي تضمّنه قوله: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة} أي، ومثل ذلك الانتفاء، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنّهم بإجرامهم، الذي هو التّكذيب والإعراض، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنّجاة، فلم يتوخّوها ولا تطلبوها، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم، وسدّ عليهم أبواب الخيرات.
وجملة {وكذلك نجزي المجرمين} تذييل يؤذن بأنّ الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجْزون بمثل ذلك الجزاء، وهم المقصود الأوّل منهم، لأنّ عقاب المجرمين قد شُبّه بعقاب هؤلاء، فعلم أنّهم مجرمون، وأنّهم في الرّعيل الأوّل من المجرمين، حتّى شُبِّه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء وكانوا مثَلا لذلك العموم.
والإجرام: فعل الجُرْم بضمّ الجيم وهو الذنْب، وأصل: أجرم صار ذا جُرم، كما يقال: ألْبَنَ وأتمر وأخْصَب.
والمِهاد بكسر الميم ما يُمْهَد أي يفرش، و«غواش» جمع غاشية وهي مَا يغشى الإنسانَ، أي يغطّيه كاللّحاف، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمِهاد، وما هو فوقهم منها بالغواشي، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار. فقد انتفت راحتهم، وهذا ذِكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حِرمانهم من الخير.
وقوله: {غَواش} وصف لمقدّر دلّ عليه قوله: {من جهنّم}، أي ومن فوقهم نيران كالغواشي. وذّيله بقوله: {وكذلك نَجزي الظالمين} ليدلّ على أن سبب ذلك الجزاء بالعقاب: هو الظلمُ. وهو الشّرك. ولمّا كان جزاء الظّالمين قد شبّه بجزاء الذين كذّبوا بالآيات واستكبروا عنها، علم أنّ هؤلاء المكذّبين من جملة الظّالمين. وهم المقصود الأوّل من هذا التّشبيه، بحيث صاروا مثلاً لعموم الظالمين، وبهذين العمومين كان الجملتان تذييلين.
وليس في هذه الجملة الثّانية وضع الظّاهر موضع المضمر: لأنّ الوصفين، وإن كانا صادقين معاً على المكذّبين المشبَّهِ عقابُ أصحاب الوصفين بعقابهم. فوصف المجرمين أعمّ مفهوماً من وصف الظّالمين، لأنّ الإجرام يشمل التّعطيل والمجوسيّة بخلاف الإشراك. وحقيقة وضع المظهر موقع المضمر إنّما تتقوّم حيث لا يكون للاسم الظّاهر المذكور معنى زائد على معنى الضّمير.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
أُعقب الإنذار والوعيد للمكذّبين، بالبشارة والوعد للمؤمنين المصدّقين على عادة القرآن في تعقيب أحد الغرضين بالآخر.
وعُطف على: {الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 40] أي: وإنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات إلخ، لأنّ بين مضمون الجملتين مناسبة متوسّطة بين كمال الاتّصال وكمال الانقطاع، وهو التّضاد بين وصف المسندِ إليهما في الجملتين، وهو التّكذيب بالآيات والإيمانُ بها، وبين حكم المسنَدَيْن وهو العذابُ والنّعيم، وهذا من قبيل الجامع الوهمي المذكور في أحكام الفصل والوصل من عِلم المعاني.
ولم يذكر متعلِّقٌ ل {آمنوا} لأنّ الإيمان صار كاللّقب للإيمان الخاص الذي جاء به دين الإسلام وهو الإيمان بالله وحده.
واسم الإشارة مبتدأ ثان، و{أصحاب الجنّة} خبره والجملة خبر عن {الذين آمنوا}. وجملة {لا نكلف نفساً إلا وسعها} معترضة بين المسند إليه والمسند على طريقة الإدماج. وفائدة هذا الإدماج الارتفاق بالمؤمنين، لأنّه لمّا بشّرهم بالجنّة على فعل الصّالحات أطْمن قلوبهم بأن لا يُطلبوا من الأعمال الصّالحة بما يخرج عن الطّاقة، حتّى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنّة، بل إنّما يُطلبون منها بما في وسعهم، فإنّ ذلك يرضي ربّهم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنّه قال، في هذه الآية، إلاّ يُسرها لا عُسْرها أي قاله على وجه التّفسير لا أنّه قراءة.
والوُسْع تقدّم في قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} في سورة البقرة (286).
ودلّ قوله: أولئك أصحاب الجنة} على قصر ملازمة الجنّة عليهم، دون غيرهم، ففيه تأييس آخر للمشركين بحيث قويت نصيّة حرمانهم من الجنّة ونعيمها، وجملة: {هم فيها خالدون} حال من اسم الإشارة في قوله: {أولئك أصحاب الجنة}.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
انتساق النّظم يقتضي أن تكون جملة: {تجري من تحتهم الأنهار} حالاً من الضّمير في قوله: {هم فيها خالدون} [الأعراف: 42]، وتكونَ جملة: {ونزعنا} مُعترضة بين جملة: {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [الأعراف: 42]، وجملة: {وقالوا الحمد لله} إلخ، اعترضاً بُيِّنَ به حال نفوسهم في المعاملة في الجنّة، ليقابِل الاعتراض الذي أُدمِج في أثناءِ وصف عذاب أهل النّار، والمبيّن به حال نفوسهم في المعاملة بقوله: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} [الأعراف: 38].
والتّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتّنبيه على تحقّق وقوعه، أي: وننزع ما في صدورهم من غِل، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى: {أتى أمر الله} [النحل: 1].
والنّزْع حقيقته قلع الشّيء من موضعه وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وتنزع الملك ممن تشاء} في آل عمران (26)، ونَزْع الغِل من قلوب أهل الجنّة: هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدّنيا من الغِلّ عند تلقي ما يسوء من الغَيْر، بحيث طَهّر الله نفوسهم في حياتها الثّانية عن الانفعال بالخواطر الشرّية التي منها الغِلّ، فزال ما كان في قلوبهم من غِلّ بعضهم من بعض في الدّنيا، أي أزال ما كان حاصلاً من غلّ وأزال طباع الغلّ التي في النّفوس البشريّة بحيث لا يخطر في نفوسهم.
والغِلّ: الحقد والإحْنَة والضِغْن، التي تحصل في النّفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها، وليس الحسد من الغِلّ بل هو إحساس باطني آخر.
وجملة: تجري من تحتهم الأنهار} في موضع الحال، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنّة.
وجملة: {وقالوا الحمد لله} معطوفة على جملة: {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [الأعراف: 42].
والتّعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضاً كما في قوله: {ونزعنا} وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم، على معنى التّقرب إلى الله بحمده، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم.
والإشارة في قولهم: {لهذا} إلى جميع ما هو حاضر من النّعيم في وقت ذلك الحمد، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه، وهي الإيمان والعمل الصّالح، كما دلّ عليه قوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الأعراف: 42]، وقال تعالى: {يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس: 9] الآية، وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة (6).
والمراد بهَدْي الله تعالى إياهم إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتَّبعوه، ولم يعاندوا، ولم يستكبروا، ودلّ عليه قولهم: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها، وهذا التّيسير هو الذي حُرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار، دون النّر والاعتبار.
وجملة {وما كنا لنهتدي} في موضع الحال من الضّمير المنصوب، أي هدانا في هذه الحال حال بعدنا عن الاهتداء، وذلك ممّا يؤذن بكبر منّة الله تعالى عليهم، وبتعظيم حمدهم وتجزيله، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدّم بيانها في سورة الفاتحة (6).
ودلّ قوله: {وما كنا لنهتدي} على بعد حالهم السّالفة عن الاهتداء، كما أفاده نفي الكَون مع لام الجحود، حسبما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة} الآية في سورة آل عمران (79)، فإنّهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم، فأمّا قادتهم فقد زيّنها الشّيطان لهم حتى اعتقدوها وسنّوها لمن بعدهم، وأمّا دَهْمَاؤُهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضّلالات. وتأصّلت فيهم، فما كان من السّهل اهتداؤُهم، لولا أنْ هداهم الله ببعثة الرّسل وسياستهم في دعوتهم، وأن قذف في قلوبهم قبول الدّعوة.
ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم: لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ} فتلك جملة مستأنفة، استئنافاً ابتدائياً، لصدورها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرّسل، فجعلوا يتذكّرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون. تلذذاً بالتّكلّم به، لأن تذكّر الأمر المحبوب والحديثَ عنه ممّا تلذّ به النّفوس، مع قصد الثّناء على الرّسل.
وتأكيد الفعل بلام القسم وبقَدْ، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل: إما لأنّه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرّسل من النّعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71] وقول النّبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «أعددت». وإمّا لأنّهم أرادوا بقولهم هذا الثّناء على الرّسل والشّهادة بصدقهم جمعاً مع الثّناء على الله، فأتَوا بالخبر في صورة الشّهادة المؤكّدة التي لا تردّد فيها.
وقرأ ابن عامر: {ما كنّا لنهتدي} بدون واو قبل (ما) وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجّه إلى الشّام، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي قبلها، على اعتبار كونها كالتّعليل للحمد، والتّنويه بأنّه حمد عظيم على نعمة عظيمة، كما تقدّم بيانه.
وجملة: {ونودوا} معطوفة على جملة: {وقالوا} فتكون حالاً أيضاً، لأنّ هذا النّداء جواب لثنائهم، يدلّ على قبول ما أثْنَوا به، وعلى رضى الله عنهم، والنّداء من قبل الله، ولذلك بُني فعله إلى المجهول لظهور المقصود. والنّداء إعلان الخطاب، وهو أصل حقيقته في اللّغة، ويطلق النّداء غالباً على دعاء أحد ليقبل بذاته أو بفهمه لسماع كلام، ولو لم يكن برفع صوت: {إذ نادى ربَّه نداء خفياً} [مريم: 3] ولهذا المعنى حروف خاصة تدلّ عليه في العربيّه، وتقدّم عند قوله تعالى: {وناداهما ربهما} في هذه السّورة (22).
و (أنْ) تفسير {لنودوا}، لأنّ النّداء فيه معنى القول. والإشارة إلى الجنّة ب {تلكم}، الذي حقّه أن يستعمل في المشار إليه البعيد، مع أنّ الجنّة حاضرة بين يديهم، لقصد رفعة شأنها وتعظيم المنّة بها.
والإرث حقيقته مصير مال الميت إلى أقرب النّاس إليه، ويقال: أورثَ الميّت أقرباءه ماله، بمعنى جعلهم يرثونه عنه، لأنّه لما لم يصرفه عنهم بالوصيّة لغيره فقد تركه لهم، ويطلق مجازاً على مصير شيء إلى حد بدون عوض ولا غصب تشبيهاً بإرث الميّت، فمعنى قوله: {أورثتموها} أعطيتموها عطيّة هنيئة لا تعب فيها ولا منازعة.
والباء في قوله: {بما كنتم تعملون} سببيّة أي بسبب أعمالكم، وهي الإيمان والعمل الصّالح، وهذا الكلام ثناء عليهم بأنّ الله شكر لهم أعمالهم، فأعطاهم هذا النّعيم الخالد لأجل أعمالهم، وأنّهم لما عملوا ما عملوه من العمل ما كانوا ينوون بعملهم إلا السّلامة من غضب ربّهم وتطلبَ مرضاته شكراً له على نعمائه، وما كانوا يمُتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما نالوه، وذلك لا ينافي الطّمع في ثوابه والنّجاة من عقابه، وقد دلّ على ذلك الجمعُ بين {أورثتموها} وبين باء السّببيّة.
فالإيراث دلّ على أنّها عطيّة بدون قصد تعاوُضضٍ ولا تعاقُد، وأنّها فضلٌ محض من الله تعالى، لأنّ إيمان العبد بربّه وطاعته إياه لا يوجب عقلاً ولا عدْلاً إلاّ نجاتَه من العقاب الذي من شأنه أن يترتّب على الكفران والعصيان، وإلاّ حُصولَ رضى ربّه عنه، ولا يوجب جزاء ولا عطاء، لأنّ شكر المنعم واجب، فهذا الجزاء وعظمته مجرّد فضل من الرّب على عبده شكراً لإيمانه به وطاعته، ولكن لما كان سبب هذا الشّكر عند الرّب الشّاكر هو عمل عبده بما أمره به، وقد تفضّل الله به فوعد به من قبللِ حصوله. فمن العجب قول المعتزلة بوجوب الثّواب عقلاً، ولعلّهم أوقعهم فيه اشتباه حصول الثّواب بالسّلامة من العقاب، مع أنّ الواسطة بين الحالين بيّنة لأولي الألباب. وهذا أحسن ممّا يطيل به أصحابنا معهم في الجواب.
وباء السّببيّة اقتضت الذي أعطاهم منازل الجنّة أراد به شكر أعمالهم وثوابها من غير قصد تعاوض ولا تقابل فجعلها كالشيء الذي استحقّه العامل عوضاً عن عمله فاستعار لها باء السّببيّة.
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}
جملة: {ونادى أصحاب الجنّة} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} [الأعراف: 43] إلخ، عطفَ القول على القول، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} [الأعراف: 43] عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله: {أصحاب النار}.
وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله: {وبينهما حجاب} [الأعراف: 46]، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة. وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما.
و (أنّ) في قوله: {أن قد وجدنا} تفسيرية للنّداء. والخبر الذي هو قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي، وهذه معاننٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازممِ العقليّة، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك. وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة.
والاستفهام في جملة: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم. والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية، وقرينة المجاز هي: ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً.
والوجدان: إلفاء الشّيء ولقيّه، قال تعالى: {فوجد فيها رجلين يقتتلان} [القصص: 15] وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {ووجد الله عنده} [النور: 39] ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه، فقوله: {وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه، فلا يدلّ قوله: {وجدنا} على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً، وهو مجاز شائع.
و (ما) موصولة في قوله: {مَا وعدنا ربّنا} و{مَا وعد ربّكم} ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها، وسمع بعضهم إجمالها: مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم، فكان للموصولية في قوله: {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} إيجازٌ بديع، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل: لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة.
وحذف مفعول (وعَدَ) الثّاني في قوله: {ما وعد ربكم} لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله: {ما وعدنا ربنا} لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم. فالتّقدير: فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ.
ودلّت الفاء في قوله: {فأذّن مؤذن} على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقاً لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم.
والتّأذينُ: رفع الصّوت بالكلام رفعاً يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله، زيادة في التّأييس لهم، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين، وما تبعه من الصّفات والأفعال، هم أصحاب النّار، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم، وفساد معتقدهم.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وقُنبل عن ابن كثير: {أنْ لعنة الله} بتخفيف نون (أن) على أنّها تفسيريّة لفعل (أذّنَ) ورفععِ (لعنة) على الابتداء والجملة تفسيرية، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب (لعنة) على (أنّ) الجملة مفعول (أذّن) لتضمنه معنى القَول، والتّقدير: قائلاً أنّ لعنة الله على الظّالمين.
والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم، كما يقال: المؤمنين، لأهل الإسلام، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال، ولا يكون للماضي، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله: {يَصدّون} وقوله: {ويَبغونها} وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله، ولا ببغي عوج السّبيل، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعاً لمعنى التّجدّد، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح:
{ويصنع الفلك} [هود: 38] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله: {وهم بالآخرة كافرون} فإن حقه الدلالة على زمن الحال، وقد استعمل هنا في الماضي: أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين، بل تلبّسوا بنقائضها، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم: {نَعَم}. وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى. فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه، وفي الحديث: " يبعث كلّ عبد على ما مات عليه " رواه مسلم، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا. فجهروا بها في الآخرة، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها، وهذا كما جاء في الحديث: " يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان " مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو: «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح». وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى.
والمراد بالظّالمين: المشركون، وبالصدّ عن سبيل الله: إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام، فيكون الصدّ مراداً به المتعدي إلى المفعول. وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن، فيكون الصدّ مراداً به القاصر، الذي قيل: إنّ مضارعه بكسر الصّاد، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد، وإن كان القياس كَسْر الصّاد في اللاّزم وضمَها في المتعدي.
والضّمير المؤنّث في قوله: {ويبغونها} عائد إلى {سبيل الله}. لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى: {قل هذه سبيلي} [يوسف: 108] وقال: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً} [الأعراف: 146].
والعِوَج: ضدّ الاستقامة، وهو بفتح العين في الأجسام: وبكسر العين في المعاني. وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر. ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجازَ بالوجه الآخر، وذلك من محاسن الاستعمال، فالإخبار عن السبيل (عِوج) إخبار بالمصدر للمبالغة، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيراً عن الإسلام كقولهم: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل مُمَزّق إنّكم لفي خَلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 7، 8]، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً} في سورة آل عمران (99).
وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله: وهم بالآخرة كافرون} للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العِوَج فيها، لأنّ ذَيْنك من الأفعال القابلة للتّكرير، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال، ولكنّه من الانفعالات، ونظير ذلك قوله تعالى: {يرزق من يشاء وهو القوي العزيز} [الشورى: 19].
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
تقديم {وبينهما} وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه. وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة، والتّنكير للتّعظيم.
وضمير {بينهما} يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] وهما اسما مكان، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما. وجُعل الحجاب فصلاً بينهما. وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار، لقال: بينهم، كما قال في سورة الحديد (13) {فضرب بينهم بسور} الآية.
والحجاب: سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله: {فضرب بينهم بسور له باب} في سورة الحديد (13)، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة.
والأعراف: جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس، الشّعر الذي في أعلى رقبته، وسمّي عُرف الدّيك. الرّيش الذي في أعلى رأسه.
و (أل) في الأعراف} للعهد. وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور. ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم. ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار. أو يجعل (ألْ) عوضاً عن المضاف إليه: أي وعلى أعراف السّور. وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه.
وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب، قبل أن يدخلوا الجنّة، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام، وليس إلاّ الجهاد، فقال بعض المفسرين: هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى:
{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها.
وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف: روى بعضَها ابنُ ماجة، وبعضَها ابنُ مردويه، وبعضَها الطّبري، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون. وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها.
والذي ينبغي تفسير الآية به: أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها، وذلك ضرب من العقاب خفيف، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره، وقد قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف. ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة. ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة.
وتنوين {كلاً} عوضٌ عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم. أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار.
والسيما بالقصر السمة أي العلامة، أي بعلامة ميَّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهُم} في سورة البقرة (273).
ونداؤهم أهلَ الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم. ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذاناً بذلك وبأن طمعهم في قوله: لم يدخلوها وهم يطمعون} هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه، فهو من صنف الرّجاء كقوله: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء 82).
و {أن} تفسير للنّداء، وهو القول {سلام عليكم}. و{سلام عليكم} دعاءُ تحيّة وإكرام.
وجملة: {لم يدخلوها وهم يطمعون} مستأنفة للبيان، لأنّ قوله {ونادوا أصحاب الجنّة} يثير سؤالاً يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها. وجملة: {وهم يطمعون} حال من ضمير {يدخلوها} والجملتان معاً معترضتان بين جملة: {ونادوا أصحاب الجنة} وجملة {وإذا صرفت أبصارهم}.
وجملة: {وإذا صرفت أبصارهم} معطوفة على جملة: {ونادوا أصحاب الجنة}.
والصّرف: أمر الحالّ بمغادرة المكان. والصّرف هنا مجاز في الإلتفات أو استعارةٌ. وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يُتطلّب لها فاعل، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلاّ نظراً شبيهاً بفعل من يحمله على الفعل حَامِل، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السيّئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها.
والتلقاء: مكان وجود الشّيء، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء، لأنّ محلّ الوجود مُلاق للموجود فيه.
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
التّعريف في قوله: {أصحاب الأعراف} للعهد بقرينة تقدّم ذكره في قوله: {وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46] وبقرينة قوله هنا {رجالاً يعرفونهم} إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرّجال يناديهم جميع من كان على الأعراف، ولا أن يَعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف، مع اختلاف العصور والأمم، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرّجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله: {وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46] كأنّه قيل: ونادى أولئك الرّجالُ الذين على الأعراف رجالاً. والتّعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار، إذ كان مقتضى الظّاهر أن يقال. ونادوا رجالاً، إلاّ أنّه لما تعدّد في الآية السّابقة ما يصلح لعود الضّمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعاً للالتباس.
والنّداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أنّ أهل الأعراف لما تطلّعوا بأبصارهم إلى النّار عرفوا رجالاً، أو قَبْلَ ذلك لمّا مُرّ عليهم بأهل النّار عرفوا رجالاً كانوا جبارين في الدّنيا. والسيما هنا يتعيّن أن يكون المراد بها المشخّصات الذاتية التي تتميّز بها الأشخاص، وليست السيما التي يتميّز بها أهل النّار كلّهم كما هو في الآية السّابقة.
فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة، فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنّة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم. وأنكروا أن يكون أولئك الضّعاف والعبيد من أهل الجنّة، وذلك على سبيل الفرض، أي لو فرضوا صدق وجود جنّة، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنّة لأنّهم ما كانوا يؤمنون بالجنّة، وقصدهم من هذا تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وإظهار ما يحسبونه خَطلا من أقواله، وذلك مثل قولهم: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] فجعلوا تمزّق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر، وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزّق. وكلّ ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتّخليط بين العاديات والعقليات. قال ابن الكلبي: «ينادي أهل الأعراف وهم على السور يَا وليدُ بنَ المغيرة يا أبَا جهل بنَ هشام يا فلان ويا فلان» فهؤلاء من الرّجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزّة والكبرياء.
ومعنى {جمعكم} يحتمل أن يكون جَمْع النّاس، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزّون بها، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول. أي ما جمعتموه من المال والثّروة كقوله تعالى: {ما أغنى عني ماليه} [الحاقة: 28].
و (مَا) الأولى نافية، ومعنى {ما أَغْنَى} ما أَجْزَى مصدره الغَناء بفتح الغين وبالمدّ.
والخبر مستعمل في الشّماتة والتّوقيف على الخطأ.
و (ما) الثّانية مصدريّة، أي واستكباركم الذي مضى في الدّنيا، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسّل بالفعل إلى كونه مضارِعا فيفيد أنّ الاستكبار كان دأبَهم لا يفترون عنه.
وجملة {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} من كلام أصحاب الأعراف. والاستفهام في قوله {أهؤلاء الذين أقسمتم} مستعمل في التّقرير.
والإشارة ب {أهؤلاء} إلى قوم من أهل الجنّة كانوا مستضعفين في الدّنيا ومحقرين عند المشركين بقرينة قوله: {الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} وقوله {ادخلوا الجنة} قال المفسّرون هؤلاء مثل سلمانَ، وبلال، وخبَّاب، وصُهَيب من ضعفاء المؤمنين، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقرّوا في الجنّة فَجَلاَهم الله لأهل الأعراف وللرّجال الذين خاطبوهم، وإمّا أن يكون ذلك الحِوار قد وقع قبل إدخالهم الجنّة. وقسمُهم عليهم لإظهار تصلّبهم في اعتقادهم وأنّهم لا يخامرهم شكّ في ذلك كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38].
وقوله: {لا ينالهم الله برحمة} هو المقسم عليه، وقد سلّطوا النّفي في كلامهم على مراعاة نفي كلام يقوله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أو المؤْمنون، وذلك أنّ بشارات القرآن أولئك الضّعفاءَ، ووعدَه إياهم بالجنّة، وثناءَه عليهم نُزل منزلة كلام يقول: إنّ الله ينالهم برحمة، أي بأن جُعل إيواء الله إياهم بدار رحمته، أي الجنّة، بمنزلة النَّيْل وهو حصول الأمر المحبوب المبحُوث عنه كما تقدّم في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} [الأعراف: 37] آنفاً، فأطلق على ذلك الإيواءِ فعل (يَنال) على سبيل الاستعارة. وجعلت الرّحمة بمنزلة الآلة للنَّيل كما يقال: نال الثّمرة بمحجن. فالباء للآلة. أو جعلت الرّحمة ملابسة للنَّيل فالباء للملابسة. والنّيل هنا استعارة، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدّر فنفوه فقالوا: {لا ينالهم الله برحمة}.
وهذا النّظم الذين حكي به قسمهم يؤذن بتهكّمهم بضعفاء المُؤمنين في الدّنيا، وقد أغفل المفسّرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها.
وجملة: {ادخلوا الجنة} قيل مقول قول محذوف اختصاراً لدلالة السّياق عليه، وحذفُ القول في مثله كثير ولا سيما إذا كان المقول جملة إنشائيّة، والتّقدير: قال لهم الله ادخلوا الجنّة فكذّب اللَّهُ قسمَكُم وخيّب ظنّكم، وهذا كلّه من كلام أصحاب الأعراف، والأظهر أن يكون الأمر في قوله: {ادخلوا الجنة} للدّعاء لأنّ المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنّة، لأنّ ذلك الحين قد استقرّ فيه أهل الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النّار، كما تقتضيه الآيات السّابقة من قوله: {ونادوا أصحابَ الجنّة أنْ سلام عليكم إلى قوله القوممِ الظالمين} [الأعراف: 46، 47] فلذلك يتعيّن جعل الأمر للدّعاء كما في قول المعرّي:
ابْقَ في نعمة بقاءَ الدّهور *** نافِذاً لحُكْم في جميع الأمور
وإذ قد كان الدّخول حاصلاً فالدّعاء به لإرادة الدّوام كما يقول الدّاعي على الخارج: أخرج غير مأْسوففٍ عليك، ومنه قوله تعالى: {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}.
ورفُع {خوف} مع (لا) لأنّ أسماء أجناس المعاني التي ليست لها أفراد في الخارج يستوي في نفيها بلا الرّفعُ والفتحُ، كما تقدّم عند قوله تعالى: {فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأعراف: 35].
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}.
القول في {نادى} وفي {أنْ} التّفسيريّة كالقول في: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا} [الأعراف: 44] الآية. وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم، وليوافق قوله بعدُ {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه} [الأعراف: 52].
فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازاً في الكثرة، ومنه ما في الحديث: " ويَفيض المالُ حتّى لا يقبَله أحد ". ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء، ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة: «أنت الفيَّاض». فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه، وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف {ما رزقكم الله} عطفاً على الجملة لا على المفرد. فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدَا الماءَ تقديره: أو أعطونا، ونظّره بقول الشّاعر (أنشده الفراء):
عَلَفْتُها تِبْنا وماءً بارداً *** حتّى شَبَتْ هَمَّالَةً عيناها
تقديره: علفتها وسَقيتها ماء بارداً، وعلى هذا الوجه تكون (مِن) بمعنى بعض، أو صفة لموصوف محذوف تقديره: شيئاً من الماء، لأنّ: {أفيضوا} يتعدّى بنفسه.
ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي، وهو سعة العطاء والسّخاء، من الماء والرزق، إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف. ويكون سُؤلهم من الطّعام مماثلاً لسؤْلهم من الماء في الكثرة، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء، وتكون (مِن) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة، ويكون فعل {أفيضوا} مُنزلاً منزلة اللاّزم، فتتعلّق مِنْ بفعل {أفيضوا}.
والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة} [البقرة: 25] الآية.
وضمير {قالوا} لأصحاب الجنّة، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار، ولذلك فصل على طريقة المحاورة.
والتّحريم في قوله: {حرمهما على الكافرين} مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة:
حَرُمَتْ عليّ وليتَها لَمْ تَحْرُم ***
وقولِه: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95].
والمراد بالكافرين المشركون، لأنّهم قد عُرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً، وعُرفوا بإنكار لقاءِ يوم الحشر.
وقد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} في سورة الأنعام (70).
وظاهر النّظم أنّ قوله: الذين اتخذوا دينهم} إلى قوله الحياة الدنيا هو من حكاية كلام أهل الجنّة، فيكون: {اتخذوا دينهم لهواً} إلخ صفة للكافرين.
وجُوز أن يكون: {الذين اتخذوا دينهم لهواً} مبتدأً على أنّه من كلام الله تعالى، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله: {فاليوم ننساهم} داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط، كقوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] وقد جُعلَ قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} إلى قوله وماكانوا بآياتنا يجحدون آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن.
{فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ باياتنا يَجْحَدُونَ}.
اعتراض حكي به كلام يُعْلَن به، من جانب الله تعالى، يَسمعه الفريقان. وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة.
والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة: {إنّ الله حرّمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} الآية، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثَّل له غالباً بمعطوف بالواو فهو عطف كلام. متكلّم على كلام متكلّم آخَر، وتقدير الكلام: قال الله {فاليوم ننساهم}، فحذف فعل القول، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة، ومَن جعلوا قوله: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} كلاماً مستأنفاً من قِبل الله تعالى تكون الفاء عندهم تفريعاً في كلام واحد.
والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازاً في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديثَ من لا يصِدّق بوقوعه.
وتعليق الظّرف بفعل: {ننساهم} لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها. فكان لذكر اليوم أثرٌ في إثارة تحسّرهم وندامتهم، وذلك عذاب نفساني.
ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله: {كما نسوا} على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التّصديق باللّقاء، وهي مماثلَة جزاءِ العمللِ للعمل، وهي مماثلة اعتباريّة، فلذلك يقال: إنّ الكاف في مثله للتّعليل، كما في قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري، وليس هذا التّشبيه بمجاز، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه.
وقوله: {كما نسوا} ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه {ننساهُم} أي نسياناً كمَا نَسُوا.
و (مَا) في: {كما نسوا} وفي {وما كانوا} مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجَحْدهم بآيات الله. ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} في سورة الأنعام (33).
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
الواو في {ولقد جئناهم} عاطفة هذه الجملة على جملة {ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنّة} [الأعراف: 50]، عطف القصّة على القصّة، والغرضضِ على الغرض، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} [الأعراف: 51] لأنّ قوله هنا {هل ينظرون إلاّ تأويله} [الأعراف: 53] إلخ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا، فضمير الغائبين في قوله: {جئناهم} عائد إلى الذين كذّبوا في قوله: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40] الآية.
والمراد بالكتاب القرآن. والباء في قوله: {بكتاب} لتعدية فعل {جئناهم}، مثل الباء في قوله: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17] فمعناه: أجأناهم كتاباً، أي جعلناه جاء يا إياهم، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم.
وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و(قَدْ) إمّا باعتبار صفة (كتاب)، وهي جملة {فصّلناه على علم هدى ورحمة} فيكون التّأكيد جارياً على مقتضى الظّاهر، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفاً بتلك الأوصاف، وإمّا تأكيد لفعل {جئناهم بكتاب} وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجاً على خلاف مقتضى الظاهر، بتنزيل المبلَّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد: {يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53].
وتنكير (كتاب)، وهو معروف، قصد به تعظيم الكتاب، أو قصد به النّوعيّة، أي ما هو إلاّ كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل، كما تقدّم في قوله تعالى: {كتاب أنزل إليك} في طالع هذه السّورة (2).
{وفصلناه} أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في سورة الأنعام (55).
وعلى عِلْمٍ} ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل {فصّلناه} أي حال كوننا على علم، و(على) للاستعلاء المجازي، تدلّ على التّمكّن من مجرورها، كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] وقوله: {قل إني على بينة من ربي} في سورة الأنعام (57). ومعنى هذا التّمكننِ أن علم الله تعالى ذاتي لا يعْزُب عنه شيء من المعلومات.
وتنكير {عِلْم} للتّعظيم، أي عالمين أعظمَ العلم، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علماً ذاتياً لا يتخلّف عنّا ولا يخْتلف في ذَاته، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد.
و {هدى ورحمة} حال من {كتاب}. أو من ضميره في قوله: {فصّلناه}. ووصف الكتاب بالمصدرين {هدى ورحمة} إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم.
وجملة {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة. وأن من لم يؤمنوا قد حُرموا الاهتداء والرّحمة. وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة (2): {هدى للمتقين.}
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
جملة {هل ينظرون إلا تأويله} مستأنفة استينافاً بيانياً، لأنّ قوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} يثير سؤال من يسأل: فماذا يؤخّرهم عن التّصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصّفات؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم فكان قوله: {هل ينظرون} كالجواب عن هذا السّؤال، الذي يجيش في نفس السّامع. والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء.
ومعنى {ينظرون} ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات، والمراد المنتَظرات من هذا النّوع وهو الآيات، أي ما ينتظرون آية أعظم إلاّ تأويل الكتاب، أي إلاّ ظهور ما تَوَعدَّهم به، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة: شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه، وهذا مثل قوله تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة} [محمد: 18] وقوله {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه لأنّ المجاز في فعل {ينظرون} فقط.
والقصر إضافي، أي بالنّسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات، وقد مضى القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} في سورة الأنعام (158).
والتّأويل توضيحُ وتفسير ما خفي، من مقصد كلام أوْ فعل، وتحقيقه، قال تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} [الكهف: 78] وقال: {هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] وقال: {ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59] وقد تقدّم اشتقاقه ومعناه في المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا التّفسير. وضمير {تأويله} عائد إلى (كتابٍ) من قوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52].
وتأويله وضوح معنى ما عَدّوه محالا وكذباً، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة، وما بعد العّيان بيان.
وقد بيّنتْه جملة {يوم يأتي تأويله يقول} إلخ، فلذلك فصلت، لأنّها تتنزل من التي قبلها منزّلة البيان للمراد من تأويله، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة، فالمراد باليوم يوم القيامة، بدليل تعلّقه بقوله: {يقول الذين نسوه من قبل} الآية فإنّهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلاّ يوم القيامة. وإتيان تأويله مجازٌ في ظهوره وتبيّنِه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان. والتّأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدّالة على صدق القرآن. فيما أخبرهم وما توعّدهم.
و {الذين نسوه} هم المشركون، وهم معاد ضمير {ينظرون} فكان مقتضى الظّاهر أن يقال: يقُولون، إلاّ أنّه أظهر بالموصولية لقصد التّسجيل عليهم بأنّهم نسُوه وأعرضوا عنه وأنكروه، تسجيلاً مراداً به التّنبيه على خطئِهم والنَّعي عليهم بأنّهم يجرّون بإعراضهم سوء العاقبه لأنفسهم.
والنّسيان مستعمل في الإعراض والصدّ، كما تقدّم في قوله: {كما نسوا لقاء يومهم هذا} [الأعراف: 51]
والمضاف إليه المقدّرُ المنبيء عنه بناءُ (قبلُ) على الضم: هو التّأويلُ، أو اليوم، أي من قبل تأويله، أو من قبل ذلك اليوم، أي في الدّنيا. والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد، لأنّ الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر، أي يتبيّن لهم الحقّ ويصرّحون به.
وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافاً بخطئهم في تكذيبهم الرّسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به عن الرّسل من قبله، ولذلك جمع الرّسل هنا، مع أنّ الحديث عن المكذّبين محمّداً صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم الأمثال بالرّسل السابقين، وهم لما كذّبوه جرَّأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرّسل إذ قالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] أو لأنّهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السّابقة على تكذيب رسلهم، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثّر بجميع ما شاهدوه من التّهديد الشّامل لهم ولمن عداهم من الأمم.
وقولهم: {قد جاءت رسل ربنا بالحق} خبر مستعمل في الإقرار بخطَئهم في تكذيب الرّسل، وإنشاء للحسرة على ذلك، وإبداء الحيرة فيما ذا يَصْنعون. ولذلك رتّبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم: {فهل لنا من شفعاء} إلى آخره.
والاستفهام يجوز أن يكون حقيقياً يقوله بعضهم لبعض، لَعلّ أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهدّدهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشّفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100، 101] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التّمني، ويجوز أن يكون مستعملاً في النّفي. على معنى التّحسّر والتّندم. و{من} زائدة للتّوكيد. على جميع التّقادير. فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه، ليفيد أنّهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم، إذ قد يئسوا منهم. كما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} [الأعراف: 94] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم. ولو يكون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام الذي ناصبوه العَداء في الحياة الدّنيا. ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمن (11) {فهل إلى خروج من سبيل.} وانتصب {فيشفعوا} على جواب الاستفهام، أو التّمنّي، أو النّفي.
«والشفعاء» جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشّفاعة، وهم يُسمّون أصنامهم شفعاء قال تعالى: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].
وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} في سورة البقرة (48). وعند قوله: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} في سورة البقرة (254) وعند قوله: {من يشفع شفاعة حسنة} في سورة النّساء (85).
وعطف فعل نرد} ب (أو) على مدخول الاستفهام، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين، لأنّ أحدهما لا يجتمع مع الآخر، فإذا حصلت الشّفاعة فلا حاجة إلى الردّ، وإذا حصل الردّ استغني عن الشّفاعة.
وإذ كانت جملة {لنا من شفعاء} واقعة في حيز الاستفهام، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة، ورفعه بتجّرده عن عامل النّصب وعامل الجزم، فوقع موقع الاسم كما قدّره الزمخشري تبعاً للفراء، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله، بردّها إلى جملة فعليّة، بتقدير: هل يشفع لنا شفعاء كما قدّره الزّجاج، لعدم المُلجئ إلى ذلك، ولذلك انتصب: {فنعمل} في جواب {نرد} كما انتصب {فيشفعوا} في جواب {فهل لنا من شفعاء}.
والمراد بالعمل في قولهم: {فنعمل} ما يشمل الاعتقاد، وهو الأهم، مثل اعتقاد الوحدانيّه والبعث وتصديق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، لأنّ الاعتقاد عمل القلب، ولأنّه تترتّب عليه آثار عمليّة، من أقوال وأفعال وامتثال. والمراد بالصّلة في قوله: {الذي كنا نعمل} ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم: {قد جاءت رسل ربنا بالحق أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.
وجملة: قد خسروا أنفسهم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تذييلاً وخلاصة لقصّتهم، أي فكان حاصل أمرهم أنّهم خسروا أنفسهم من الآن وضلّ عنهم ما كانوا يفترون.
والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة الأنعام، (12) وقوله: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أوّل هذه السّورة (9). والمعنى: أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن، وإن كانوا لا يشعرون.
وأما قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون} فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّماً عليهم، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل {قالوا ضلوا عنا} [الأعراف: 37].
و (مَا) من قوله: {ما كانوا يفترون} موصولة، ما صْدَقها الشّفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله. وحُذف عائد الصّلة المنصوب، أي ما كانوا يفترونه، أي يَكْذِبونه إذ يقولون {هؤلاء شفعاؤنا} [يونس: 18]، وهم جماد لاحظَّ لهم في شؤون العقلاء حتى يشفعوا، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبّر بالمضي لأنّ الضّلال المستعار للعدم متحقّق من ماضي الأزمنة.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمرِ باتّباعه ونبذِ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك؛ ثمّ التّذكيرِ بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله، والامتناننِ بخلق الأرض والتّمكين منها، وبخلق أصل البشر وخَلقهم، وخُلَل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]. وانتُقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28]، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} [الأعراف: 35] الآية. وبأن المشركين ظَلموا بنكث العهد بقوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته} [الأعراف: 37] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة، وعَقِب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52] وأنهاه بالتّذييل بقوله: {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأعراف: 53].
فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل، ثمّ لِبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة {إن ربكم الله} الآية، استئنافاً ابتدائياً عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3]، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي، وكان ما بعده بمنزله البرهان، وكان قوله: {إن ربكم الله} بمنزلة النّتيجة للبرهان، والنتيجة مساوية للمطلوب إلاّ أنّها تؤخَذُ أوضحَ وأشد تفصيلاً.
فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء، ولذلك كان للتّأكيد بحرف (إنّ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبيه. وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته، كان الخطاب صالحاً لتناول المسلمين، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك، ولا يكون حرف (إن) بالنّسبة إليهم سدى، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر، لأنّ فيه حظاً للفريقين، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه (ما) هو بالمؤمنين أعلق مثل {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف: 55] وقوله: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله: {كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} [الأعراف: 57].
وقد جعل المخبرُ عنه الرب، والخبرُ اسمَ الجلالة: لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلومَ عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته: اللَّهُ، لا غيره ممَن ليس له هذا الاسم، على ما هو الشّأن، فهي تعريف المسند في نحو: أنا أخوك، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخاً ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه. فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة، وهو حمل (هُو هُو) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه، وجعل الآخر مسنداً، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسندَ إليه.
ليكون الحمل أجدى إفادة، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارساً في غارة:
يخُوض بَحْراً نَقْعه ماؤُه *** يحُمله السّابح في لِبْدِهِ
إذ قد عَلِم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعاً. وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بَحراً وأنّ للبحر ماء، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع، وإلاّ فما كان يعوز المعرّي أن يقول: ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه.
وأُكِّد هذا الخبر بحرف التّوكيد، وإن كان المشركون يثبتون الربوبيّة لله، والمسلمون لا يمترون في ذلك، لتنزيل المشركين مِن المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّاً لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم.
وقولُه: {الذي خلق السموات والأرض} صفة لاسم الجلالة، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم، وهو {إن ربكم الله} لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلاً على انفراده بالإلهية، كما تقدّم عند قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} بسورة الأنعام (1).
وقوله: في ستة أيام ثم استوى على العرش} تعليم بعظيم قدرته، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية، فلا يدلّ قوله: {في ستة أيام} على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك، وفيه تحَدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] وليس القصد من قوله: {في ستة أيام} الاستدلال على الواحدانية، إذ لا دلالة فيه على ذلك.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدّرجاً، وأن لا يكون دفعة، لأنّه جعل العوالم متولِّداً بعضُها من بعض، لتكون أتقن صنعاً ممّا لو خُلقت دَفعة، وليكون هذا الخلق مَظْهَراً لصفتي علممِ الله تعالى وقدرتِه، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة. ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة.
وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس، التي هي جمعُ اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهُورها في ذلك المكان ثانية، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلاّ بعد تمام خلق السّماء والأرض، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية، وقد قيل: إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظراً لقوله تعالى:
{وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] وقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5]، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش، وما هو ببعيد، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة، وقيل المراد: في ستّة أوقات، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} [الأنفال: 16] أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن.
والاستواء حقيقتهُ الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل {فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى} [النجم: 6 8].
والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن: هنا. وفي يونس، والرّعد، وطه، والفرقان، وألم السجدة، والحديد، وفُصِّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون.
فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ: لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا.
وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون: استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى: {وأخر متشابهات} في سورة آل عمران (7)، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في المدارك} عن سفيان بن عيينة أنّه قال: سأل رجل مالكاً فقال: الرّحمانُ على العرش استوى.
كيفَ استوى يا أبا عبد الله؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه، فقال: «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً» واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله: «وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي» وأنّه قال: «والسؤالُ عنه بدعة». وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها: «فقال: فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء». قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات، أحسنها: ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل:
قد استوى بِشْرٌ على العراق *** بغيرِ سيف ودم مُهْرَاق
وأُراه بعيداً، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية، وقد قال أهل اللّغة: إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى، قال البخاري، عن مجاهد: استوى عَلا على العرش، وعن أبي العالية: استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن.
وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله، فإن عُدّي بحرف (على) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل، وهو تمثيل شأننِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض، فالمعنى حينئذ: خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه. وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول: أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض ". ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا {يغشى الليل النهار الخ، وقوله في سورة يونس (3): {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وقوله في سورة الرّعد (2): {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات} وقوله في سورة ألم السجدة (4، 5): {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها. وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه.
فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة، كما في قوله:
{ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]. وقد نحا صاحب «الكشاف» نحواً من هذا المعنى، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك: يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك، قال تعالى: {ولها عرش عظيم} [النما: 23] وقال: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف: 100]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة، كما قدّمتُه آنفاً. وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصوداً لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت، وبيَّنت السنة بعضها: فذكرت ملك الجبال، وملك الرّياح، والملك الذي يباشر تكوين الجنين، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجوداً منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق. وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال: " كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض " وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل: " فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمان ومنه تفجَّر أنهار الجنّة " وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة (255).
وقد دلّت (ثُمّ) في قوله: {ثم استوى على العرش} على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود: إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38].
وجملة {يغشى الليل النهار} في موضع الحال من اسم الجلالة، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش، وتنبيه على المقصود من الاستواء، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس (3) وسورة الرّعد (2) بقوله:
{يدبر الأمر} وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليللِ الحدوث، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم. والإغشاء والتّغشية: جعل الشّيء غاشياً، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ.
فمعنى: {يغشى الليل النهار} أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر.
والغشي مستعار للإخفاء، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب: جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله: {يغشى الليل النهار} عن ذكر عكسه ولم يقل: والنّهار اللّيل، كما في آية {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {يُغْشِي} بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين. وقرأه حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، ويعقوب، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية.
وجملة: {يطلبه} إن جعلت استينافاً أو بدلَ اشتمال من جملة (يغشي) فأمرها واضح، واحتمل الضّمير المنصوب في (يطلبه) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالاً من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلاً اللّيل والنّهار يعتبر طالباً ومطلوباً، تبعاً لاعتبار أحدهما مفعولاً أوّل أو ثانياً.
وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتداً من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطاً من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ، على طريقة التّمثيل، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطاً في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ: بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] وقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}.
والحثيث: المسرع، وهو فعيل بمعنى مفعول، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه:
أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه *** فيهِ نَلَذَّ ولا لَذّاتتِ للشّيب
ولَّى حثيثاً وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه *** لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِ
فالمعنى يطلبه سريعاً مُجدّاً في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره.
{والشمس والقمر والنجوم} بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات.
و {مسخرات} حال من المذكورات.
وقرأ ابن عامر برفع {الشمس} وما عطف عليه ورفْععِ {مسخرات}، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله: {يغشى الليل النهار}.
وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} في سورة البقرة (164) ويأتي في سورة الشّمس.
والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغللٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجزّ. ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف، وتسخير السّحاب للأمطار، وتسخير النّهار للعمل، واللّيل للسّكون، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف، والشّمس للدّفء في الشّتاء، والظلّ للتبرد في الصّيف، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة. فقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.
ولفظ الأمر في قوله: {بأمره} مستعمل مجازاً في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة. ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] لأن (كن) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضاً فالأمر هنا من ذلك، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها.
وجملة: {ألا له الخلق والأمر} مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله: {الذي خلق السموات والأرض} لإفادة تعميم الخَلْق. والتّقدير: لما ذُكر آنفاً ولِغيره. فالخلق: إيجاد الموجودات، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله.
وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع.
واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك. وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه.
والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى، فليس لغيره شيء من هدا الجنس، وهو قصر إضافي معناه: ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصراً ادعائياً لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقاً لله تعالى كان تدبيره راجعاً إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله:
{الحمد لله} [الفاتحة: 2].
وجملة {تبارك الله رب العالمين} تذييل معترضة بين جملة {إن ربكم الله} وجملة {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس، وبنافع تصرّفاته، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقاننِ صنعه.
وفعل {تبارك} في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل: تثاقل، أظهر الثّقل في العمل، وتعالل، أي أظهر العلّة، وتعاظم: أظهر العظمة، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهوراً بيِّناً حتى كأنّ صاحبه يُظهره، ومنه: {تعالى الله} [النمل: 63] أي ظَهر علوّه، أي شرفه على الموجودات كلّها، ومنه {تبارك} أي ظَهرت بركته.
والبركة: شدّة الخير، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في سورة آل عمران (96)، وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92). فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه، وذلك جامع صفات الكمال، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر.
وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد، ومدبّر أحوال الموجودات، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات، ومضى الكلام على {العالمين} في سورة الفاتحة (2).
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها. فالجملة معترضة بين جملة {يغشى الليل النهار} [الأعراف: 54] وجملة: {وهو الذي يرسل الرياح} [الأعراف: 57] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى. والخطاب ب {ادعوا} خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته، وشاهدُه قوله بعده: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]. والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق.
و (الدّعاء) حقيقته النّداء، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الرّكوع والسّجود، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن.
والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها.
وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب، مع وجود معاد قريب في قوله: {تبارك الله} [الأعراف: 54] ودون ضمير المتكلّم، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله: {بل الله مولاكم} [آل عمران: 150].
والتّضرّع: إظهار التّذلل بهيئة خاصة، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع، لأنّه تذلّل جهري، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام (63): {تدعونه تضرعاً وخفية} بالجهر بالدّعاء، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله {ادعوه خوفاً وطمعاً} [الأعراف: 56] وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة (أو) وقد قالوا: إنّها فيه أجود من (أوْ). ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل، فيكون مصدراً بمعنى الحال، أي متذلّلين، أو مفعولاً مطلقاً ل {ادعوا}، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه، وجعلوا قوله: وخفية} مأموراً به مقصوداً بذاته، أي ادعوه مُخفين دعاءكم، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ: فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة. وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال: «اللّهمّ اسْقِنا» وقال: «اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا» وقال: «اللّهمّ عليك بقريش» الحديث. وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها، فالصّواب أنّ قوله: {تضرعاً} إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع. وقرأ الجمهور {وخفية} بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام.
وجملة {إنه لا يحب المعتدين} واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه، تنبيهاً على قصد الأمرين وإيجازاً في الكلام. ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت ب (إنّ) المفيدة لمجرّد الاهتْمام، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر، ومن شأن (إنّ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط، وتقوم مقام الفاء، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر.
وإطلاق المحبّة وصفاً لله تعالى، في هذه الآية ونحوها، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني، وعندي فيه احتمال، فقالوا: أريد لازم المحبّة، أي في المحبوب والمحِب، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له. وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما. فإطلاق المحبّة وصفاً لله مجاز بهذا اللاّزم المركب.
والمراد ب {المعتدين: المشركون، لأنّ يرادف الظّالمين. 6
والمعنى: ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين، كقوله: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين، قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال} [الرعد: 14] على أحد تأويلين فيها. وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهياً عنه، وتجاوز بعضهم فجعل قوله: {إنه لا يحب المعتدين} تأكيداً لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله. ونقل ذلك عن ابن جريج، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً ودعا أصحابه.
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض بَعْدَ إصلاحها}.
عُطف النّهي عن الفساد في الأرض على جملة {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] عَطْفاً على طريقة الاعتراض، فإنّ الكلام لمّا أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرّفهم بذلك العنوان العظيم في قوله: {ربكم} [الأعراف: 55]، وعرّض لهم بمحبّته إياهم دون أعدائهم المعتدين، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تُمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشّهوية والغَضبيّة، فإنّهما تجنيان فساداً في الغالب، فذكَّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّهاً عن أن يخالطه فساد، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد، فأشبه موقعَ الاحتراس، وكذلك دأب القرآن أن يعقِّب التّرغيب بالتّرهيب، وبالعكس، لئلاّ يقع النّاس في اليأس أو الأمْن.
والاهتمامُ بدرء الفساد كان مَقَاماً هنا مقتضياً التّعجيل بهذا النّهي مُعترضاً بين جملتي الأمر بالدّعاء.
وفي إيقاع هذا النّهي عقب قوله {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] تعريض بأنّ المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض، وإرْباءُ للمسلمين عن مشابهتهم، أي لا يليق بكم وأنتم المقرّبون من ربّكم، المأذونُ لكم بدعائه، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين.
والإفساد في الأرض والإصلاح تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} في سورة البقرة (11)، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح، ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا} ممّا هو نظير ما هنا.
و {الأرض} هنا هي الجسم الكُروي المعبّر عنه بالدّنيا.
والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ، لاختلاف الأحوال.
والبعدية في قوله: {بعد إصلاحها} بعديةٌ حقيقيةٌ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها} [فصلت: 10] على نظام صالح بما تحتوي عليه، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض، وخلق له ما في الأرض، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار، فذلك النّظامُ الأصلي، والقانُونُ المعزّزُ له، كلاهما إصلاح في الأرض، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة، وقد مضَى في قوله تعالى:
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} في سورة البقرة (11)، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد، وليس في معنى الفعل، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ، واستُعمل الضّار على ضرّه، أو استبقى مع إمكان إزالته، كان إفساداً بعد إصلاح، كما أشار إليه قوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73].
والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض.
عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله: {خوفاً وطمعاً} قصداً لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن عُلّموا كيفيته، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مِثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما.
والخوف تقدّم عند قوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229].
والطّمع تقدّم في قوله: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} في سورة البقرة (75).
وانتصاب خوفاً وطمعاً} هنا على المفعول لأجله، أي أنّ الدّعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه، فحذف متعلِّق الخوف والطّمع لدلالة الضّمير المنصوب في {ادعوه}.
والواو للتّقسيم للدّعاء بأنّه يكون على نوعين:
فالخوف من غضبه وعقابه، والطّمع في رضاه وثوابه، والدّعاء لأجل الخوف نحو الدّعاء بالمغفرة، والدّعاء لأجل الطّمع نحو الدّعاء بالتّوفيق وبالرّحمة. وليس المراد أنّ الدّعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسرّ به الفخر في السّؤال الثّالث لأنّ ذلك وإن صحّ في الطّمع لا يصحّ في الخوف إلاّ بسماجة. وفي الأمر بالدّعاء خوفاً وطمعاً دليل على أنّ من حظوظ المكلّفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب اللَّه والطّمععِ في ثوابه، وهذا ممّا طفحت به أدلّة الكتاب والسنّة، وقد أتى الفخر في السّؤال الثّاني في تفسير الآية بكلام غيْر مُلاق للمعروف عند علماء الأمّة، ونزع به نزعة المتصوّفة الغلاة. وتعقبّه يطول، فدونك فانظره إن شئت.
وقد شمل الخوف والطّمع جميع ما تتعلّق به أغراض المسلمين نحوّ ربّهم في عاجلهم وآجلهم، ليدعُوا الله بأن ييسِر لهم أسباب حصول ما يطمعون، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون. وهذا يقتضي توجّه همّتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطّمع في الثّواب، فلا جرم أنّه اقتضى الأمرَ بالإحسان، وهو أن يعبدُوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه، فالتّقدير: وادعوه خوفاً وطمعاً وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}.
وهذا إيجاز.
وجملة: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} واقعة موقع التّفريع على جملة {وادعوه}، فلذلك قرنت ب {إن} الدّالة على التّوكيد، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر، ومن شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها، فتغني عن فاء التّفريع، ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء (إنّ) عن العاطف.
و {رحمة الله}: إحسانه وإيتاؤه الخبر.
والقرب حقيقته دُنُّو المكان وتجاوره، ويطلق على الرّجاء مجازاً يقال: هذا قريب، أي ممكن مرجو، ومنه قوله: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} [المعارج: 6، 7] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان. ودلّ قوله {قريب من المحسنين} على مقدّر في الكلام، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دَعوا خوفاً وطعماً فقد تهيَّأوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطّمع، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين، لأنّ من خاف لا يُقدم على المخوف، ومن طمع لا يَترك طلب المطموع، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السَيِّئات، فلا جرم تكون رحمة الله قريباً منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقاً بالمؤمنين وتعريضاً بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم.
وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصففِ {قريب} مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ، وجَّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة، وأشار إليها في «الكشاف».
وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسممٍ مذكّر، أو الاعتذارِ بأنّ بعض الموصوف به غيرُ حقيقي التّأنيث كما هنا، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة: أنّ قريباً أو بعيداً إذا أطلق على قرابة النّسب أو بُعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بُدّ، وإذا أطلق على قُرب المسافة أو بُعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان، وهو الأكثر، قال الله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 83] وقال: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} [الأحزاب: 63]. ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}
جملة: {وهو الذي يرسل الرياح} عطف على جملة: {يغشي الليل النهار} [الأعراف: 54] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عُطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكَر بعضاً من رحمته العامة وهو المطر. فذِكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير، ولذلك جعلناه معطوفاً على جملة: {يغشي الليل النهار} [الأعراف: 54] أو على جملة: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]. وذِكْر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماجُ الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلاّ للتبشير بالمطر، ولا أنّ المطر لا ينزل إلاّ عَقب إرسال الرّياح، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجَو، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارةِ المشركين بالقحط والجوع كقوله {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} [الجن: 16] وقوله {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10].
وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية في سورة [البقرة: 164]. فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرساللِ مِنْه بالإيجاد. والرّياح: جمع ريح، وقد تقدّم في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور: الرّياح} بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخَلف: الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع، قال ابن عطيّة: من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة، كقوله: {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله {ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: 24] ونحو ذلك. ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام. والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهُبوب، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة واحدة قويَّة لا فترة بين هبَاتها.
وقوله: {نشراً} قرأه نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر: نُشُراً بضمّ النّون والشّين على أنّه جمع نَشُور بفتح النّون كرَسُول ورُسُل، وهو فعول بمعنى فاعل، والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ، كالشّيء المنشور، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول، أي منشورة، أي مبْثوثة في الجهات، متفرّقة فيها، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة.
ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة، كما قال الكميت في السّحاب:
مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفَاسِهَا *** وحَلَّتْ عَزَالِيَه الشَّمْأل
ومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابِّها، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله {وجرين بهم بريح طيبة} [يونس: 22] من حيث جريُ السّفن إنّما جيّدُهُ بريح متّصلة.
وقرأه ابن عامر {نُشْراً} بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال: رُسْل في رُسُل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح النّون، وسكون الشّين على أنّه مصدر، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل (أرْسل) بمعناه المجازي، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً، وإمّا على الحال من الرّيح، أي ناشرة أي السّحاب، أو من الضّمير في (أرسل) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار.
وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف (بُشراً) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث.
فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور.
وأصل معنى قولهم: بين يدي فلان، أنّه يكون أمامه بقرب منه (ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} [البقرة: 255] فقصد قائله الكناية عن الأمام، وليس صريحاً، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب، كقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46]، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان. وهكذا استعماله في هذه الآية، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته.
والرّحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً، فيقولون: مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون: غِثْنَا مَا شِئْنَا.
مبنياً للمجهول أي أُغثنا، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء، هو اللَّهُ تعالى كقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم: أرَاحل أنت أم ثاوٍ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة.
و {حتّى} ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله: {بشرا بين يدي رحمته}، الذي هو في معنى متقدّمة رحمتَه، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلَّت سحاباً أنزلنا به الماء، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطرَ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله: {أقلت} أي الرّياحُ السّحابَ، ثمّ مضمون قوله: {ثقالاً}، ثم مضمون {سقناه} أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه، ثمّ أن يَنزل منه الماء. وكلّ ذلك غاية لتقدّم الرياح، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية.
الثّقال: البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء، وهو البخار، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في: «حسن الاعتذار»:
ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي *** أسْرَعُ السُّحْب في المَسير الجهَام
وطُوي بعضُ المغيَّا: وذلك أنّ الرّياح تُحرّك الأبْخِرَة التي على سطح الأرض، وتُمِدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندِيَّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار، والبُحيرات والأراضين الندِيَّة، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48] فإذا بلغ حدّ البُخارِيَّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ.
ومعنى {أقلت}، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل.
وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل، فينماع، ثمّ ينزل مطراً. وقد تبيّن أنّ المراد من قوله: {أقلت} غير المراد من قوله في الآية الأخرى {فتثير سحاباً} [الروم: 48].
والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظراً لتجرّد لفظه عن علامة التّأنيث، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظراً لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال، وهذا من إعجاز القرآن العلمي، وقد ورد الاعتبارَاننِ في هذه الآية فوُصِفَ السّحاب بقوله: {ثقالاً} اعتباراً بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و
«رأيت بَقَراً تُذْبَح» وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله: {سقناه}.
وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله: {أقلت سحاباً} أي: سقناه بتلك الرّيح إلى بلد، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة.
واللاّم في قوله: {لبلد} لام العلّة، أي لأجل بلد ميّت، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية (سقناه) بحرف (إلى).
والبلد: السّاحة الواسعة من الأرض.
والميّت: مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله: {كذلك نخرج الموتى}.
والضّمير المجرور بالباء في قوله: فأخرجنا به يجوز أن يعود إلى البلد، فيكون الباء بمعنى (في) ويجوز أن يعود إلى المَاء فيكون الباء للآلة.
والاستغراق في {كل الثمرات} استغراق حقيقي، لأنّ البلد الميّت ليس معيّناً بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء، والبلدُ الواحد يُخرج ثمراته المعتادة فيه، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقاً عرفياً، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف (من) للتبعيض.
وجملة: {كذلك نخرج الموتى} معترضة استطراداً للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه، والإشارة ب (كذلك) إلى الإخراج المتضمّن له فعل {فأخرجنا} باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتاً، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها.
وجملة: {لعلكم تذكرون} مستأنفة، والرّجاء ناشئ عن الجمل المتقدّمة من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيماناً، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقادَ الشّرك ومن مُنكِرِ البعث إنكارَه.
وقرأ الجمهور {تذّكّرون} بتشديد الذال على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالاً، وقرأ عاصم في رواية حفص {تَذَكَّرون} بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire