{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}
يجوز أن يكون {سورة} خبراً عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة، فيقدر: هذه سورة. واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر. وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيراً.
ويجوز أن تكون {سورة} مبتدأ ويكون قوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى آخر السورة خبراً عن {سورة} ويكون الابتداء بكلمة {سورة} ثم أجري عليه من الصفات تشويقاً إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ".
وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقاً إليه ذهن السامع دون كلفة، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا.
ومعنى {سورة} جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات. وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وجملة: {أنزلناها} وما عطف عليها في موضع الصفة ل {سورة}. والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.
ففي قوله: {أنزلناها} تنويه بالسورة بما يدل عليه «أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر ب«أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل: أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصاً عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية.
والقرينة قوله: {وفرضناها} ومعنى {فرضناها} عند المفسرين: أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله: {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] الآيات وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} [النور: 39].
فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى: {نصيباً مفروضاً} [النساء: 7] وقوله: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} [الأحزاب: 38]. وتعدية فعل «فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها. فالمعنى: وفرضنا آياتها. وسنذكر قريباً ما يزيد هذا بياناً عند قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.
وقرأ الجمهور: {وفرضناها} بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {وفرّضناها} بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد. ونقل في حواشي «الكشاف» عن الزمخشري قوله:
كأنه عامل في دين سؤدده *** بسورة أنزلت فيه وفُرّضَتِ
وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.
وأما قوله: {أنزلنا فيها آيات بينات} فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية اشتملت عليها السورة: من الهدى إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين} [النور: 34] وقوله: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} إلى قوله: {صراط مستقيم} [النور: 43 46].
ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {إن الله خبير بما تعلمون} [النور: 48 53] فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانياً.
فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها. والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف {بينات} عليها.
وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضاً منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاوٍ لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف (في) الموضوع للظرفية مستعملاً في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.
فتعين أن كلمة {فيها} تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها. ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف (في) تخييلاً مجرداً وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وهذه الظرفية شبيهة بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى: {أُحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1] وقوله: {أكفاركم خير} [القمر: 43] فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون.
فقوله: {وأنزلنا فيها} هو: بمعنى وأنزلناها آيات بينات. ووصف {آيات} ب {بينات} أي واضحات، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.
والوجه أن جملة {لعلكم تذكرون} مرتبطة بجملة: {أنزلنا فيها آيات بينات} لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم. فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة. والتذكر: خطور ما كان منسياً بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوماً، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.
وقرأ الجمهور: {تذَّكرون} بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف {تذَكرون} بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصاراً.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
{الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}.
ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط. فالتقدير: الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت. ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة: إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد «كتاب سيبويه» التي لم يعرف قائلها:
وقائلة: خولانُ فانكح فتاتهم *** وأُكرومة الحيين خِلو كما هِيا
التقدير: هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت. ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر. وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} في سورة العقود (38).
وصيغتا الزانية والزاني} صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل: التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ. ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه.
ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة} [النور: 3] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} تمهيداً ومقدمة لقوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: 3] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.
وقدم ذكر {الزانية} على {الزاني} للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكيناً، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله: {كل واحد منهما} للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.
وتعريف {الزانية والزاني} تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ومقام التشريع يقتضيه، وشأن (أل) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه.
وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد، ف {الزانية والزاني} من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.
والزنى: اسم مصدر زَنى، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر، يقال: زنى الرجل وزنت المرأة، ويقال: زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضاً بوزن الفِعال ويخفف همزه فيصير اسماً مقصوراً. وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي. وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى} في سورة الإسراء (32).
والجلد: الضرب بسير من جلد. مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد. أي البشرة. كما اشتق الجَبْه، والبَطْن، والرأس في قولهم جَبَهه إذا ضرب جبهته، وبَطنَه إذا ضرب بطنه، ورَأسه إذا ضرب رأسه. قال في «الكشاف»: وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اه. أي لا يكون الضرب يُطير الجلد حتى يظهر اللحم، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج.
واتفق فقهاء الأمصار على: أن ضرب الجلد بالسوط. أي بسَيْر من جلد. والسوط: هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور، وأن يكون السوط متوسط اللين، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطاً. ومحل الجلد هو الظهر عند مالك. وقال الشافعي: تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج. وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل، ومنها الرأس في الحد. روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد: اجلد رجليها وأسفلها، فقال له ابنه عبد الله: فأين قول الله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فقال فاقتها. وقوله: {كل واحد منهما} تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال: فاجلدوهما، كما قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل {وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء، وقال مالك والشافعي وأحمد: يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام. وقال مالك: لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر.
وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً *** علي حراصاً لو يسرّون مقتلي
وقول عبد بني الحسحاس:
وهن بنات القوم إن يشعروا بنا *** يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
الدهارس: الدواهي. ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه. وفي «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال: تكلم. قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك. وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رَجمها فاعترفت فرجمها. قال مالك: والعسيف الأجير اه.
فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها. وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله: {أو يجعل الله لهن سبيلاً} [النساء: 15] ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة.
ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء. فأما من أحصن منهما، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت. وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ورجم ماعز بن مالك. وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثراً من آثار تواترها.
وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن «الثيِّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي رواية «الشيخ والشيخة» وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته. وفي «أحكام ابن الفرس» في سورة النساء: «وقد أنكر هذا قوم»، ولم أر من عيّن الذين أنكروا. وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون: ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم.
ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور. وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم: أكان قبل سورة النور أو بعدها؟ (يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس، أي أن الرجم منسوخ بالجلد) فقال ابن أبي أوفى: لا أدري.
وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم. وهذا يقتضي أنه كان معمولاً به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم.
وقد ثبت بالسنة أيضاً تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة، ولا تغريب على المرأة. وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته. وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها.
عطف على جملة {فاجلدوا}؛ فلما كان الجلد موجعاً وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نُهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه.
والأخذ: حقيقته الاستيلاء. وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله: {أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206] فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف.
و {بهما} يجوز أن يتعلق ب {رأفة} فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما. ويجوز تعليقه ب {تأخذكم} فتكون الباء للسببية، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيهاً على الاعتناء بإقامة الحد. والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه. وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة.
والرأفة: رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضُرّ بالمرؤوف. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} في سورة البقرة (143). ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير.
وعلق بالرأفة قوله: {في دين الله} لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه، وإنما شرع الله الحد استصلاحاً فكانت الرأفة في إقامته فساداً. وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض. وفي «مسند أبي يعلى» عن حذيفة مرفوعاً: " يؤتى بالذي ضَرب فوق الحد فيقول الله له: عبدي لم ضربت فوق الحد؟ فيقول: غضبت لك فيقول الله: أكان غضبك أشد من غضبي؟ ويؤتى بالذي قصّر فيقول: عبدي لِمَ قصرت؟ فيقول: رحِمتُهُ. فيقول: أكانت رحمتك أشد من رحمتي. ويؤمر بهما إلى النار ".
وجملة: {إن كنتم تؤمنون بالله} شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما. والمقصود: شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون. وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع: كيف لا أومن بالله واليوم الآخر.
وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.
أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقاً لإقامة الحد وحذراً من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود.
وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب.
والطائفة: الجماعة من الناس. وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102)، وعند قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} في آخر الأنعام (156). وقد اختلف في ضبط عددها هنا. والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة. والمشهور عن مالك الاثنان فصاعداً، وقال ابن أبي زيد: أربعة اعتباراً بشهادة الزنا. وقيل عشرة.
وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد. وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي. ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزئ من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك. وأيَّاً مَّا كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه.
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
هذه الآية نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريباً في ذكر سبب نزولها، سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات. فهذه الجملة ابتدائية. ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة.
وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه: «أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد (الغنوي من المسلمين) كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى فيأتي بهم إلى المدينة. وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق. وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة ليحمله. قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال: فجاءت عناق فقالت: مرثد؟ قلت: مرثد. قالت: مرحباً وأهلاً هلم فبت عندنا الليلة. قال فقلت: حرم الله الزنى. فقالت عناق: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية (من المشركين).. إلى أن قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت عنه كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله فلم يرد عليَّ شيئاً حتى نزلت {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} فقال رسول الله: يا مرثد لا تنكحها».
فتبيّن أن هذه الآية نزلت جواباً عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق. ومثار ما يشكل ويعضل من معناها: أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما. وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بَتَّها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني. وفيه بحث طويل، ليس هذا محله.
وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في الإسلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة، وحسبك أن الأعشى عدّ تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال:
أجدَّك لم تسمع وصاة محمد *** نبيءِ الإله حين أوصى وأشهدا
إلى أن قال:
ولا تقربنّ جارة إنّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الإسراء.
وأنه يلوح في بادئ النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله أو {مشرك} إخبارٌ عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين، ولا نكاح بين المشركين. فإذا كان إخباراً لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} معنى، وأيضاً الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبراً.
والوجه في تأويلها: أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها {وحرم ذلك على المؤمنين}. ولأنها نزلت جواباً عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي. غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شُرع في آخرها، وفيه ما يفسر مرجع اسم الإشارة الواقع في قوله: {وحرم ذلك}. وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ {المؤمنين}.
وينبني على هذا التأصيل أن قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} تمهيد للحكم المقصود الذي في قوله: {وحرم ذلك على المؤمنين} وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ {الزاني} المعنى الإسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث؛ إذ يجب أن لا يُغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان: شائبة كونه مشتقاً من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل، وشائبةُ دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقْوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات. وحمله في هذه الآية على المعنى الإسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى زنى. وهذا على عكس محمل قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فإنه بالمعنى الوصفي، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفاً بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها.
فتمحض أن يكون المراد من قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية} إلخ: مَن كان الزنى دأباً له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان (ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة) فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله {وحرم ذلك على المؤمنين}.
وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى، أي غير المؤمنين، لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأباً، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك.
فقوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني بمعنى مَن الزنى له عادة لا يكون مؤمناً فلا تشرع له أحكام الإسلام. وهذا من قبيل قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [النور: 26] وهذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة، أي المشركين.
وعطف قوله: {أو مشركة} على {زانية} لزيادة التفظيع فإن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما. وكذلك عطف {أو مشرك} على {إلا زان} لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة.
فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية. ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقاً أوْشَكُوا أن ينسوها.
فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله. فلذلك فالمراد بالزاني: مَن وصْف الزنى عادته.
وفي «تفسير القرطبي» عن عمرو بن العاص ومجاهد: أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه (ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة) إذ لم يرو غيرها. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
وابتدئ في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضياً الاهتمام بما يترتب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة.
وجملة {وحرم ذلك على المؤمنين} تكميل للمقصود من الجملتين قبلها، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين، فلذلك عطفت جملة {وحرم ذلك على المؤمنين} لأنها أفادت تكميلاً لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف. ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا: هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها {وأنكحوا الأيامي منكم} [النور: 32] فدخلت الزانية في الأيامى، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية.
وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، ولم يؤثر أن أحداً تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية. ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ. وقال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. ومنهم من رأى حكمها مستمراً. ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد.
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
كان فاشياً في الجاهلية رمي بعضهم بعضاً بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفاً أو محادثة.
وكان فاشياً فيهم الطعن في الأنساب بهتاناً إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنى إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف. وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] الآية.
والرمي حقيقته: قذف شيء من اليد. وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص. وتقدم في قوله تعالى: {ثم يرم به بريئاً} في سورة النساء (112). وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات.
والمحصنات: هن المتزوجات من الحرائر. والإحصان: الدخول بزوج بعقد نكاح. والمحصن: اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه، فالزوج يحصن امرأته، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال. وهذا كتسمية الأبكار مخدّرات ومقصورات، وتقدم في سورة النساء. ولا يطلق وصف المحصنات} إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام.
وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعاً، ومن البيِّن أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى {يأتوا بأربعة شهداء} لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء. والجلد تقدم آنفاً. وشرع هذا الجلد عقاباً للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك.
وأسند فعل {يرمون} إلى اسم موصول المذكر وضمائر {تابوا وأصلحوا} وكذلك وصف {الفاسقون} بصيغ التذكير، وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس. ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل.
وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس.
أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقاً بأن لا يؤخذ بشهادته.
والأبد: الزّمن المستقبل كله.
واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة.
والحصر في قوله: {وأولئك هم الفاسقون} للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ما عداه من الفسوق لا يعد فسقاً.
والاستثناء في قوله: {إلا الذين تابوا} حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد، بقرينة قوله: {من بعد ذلك}، أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها وقال أبو حنيفة وجماعة: الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جرياً على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة.
والتوبة: الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك. وقد تقدم ذكر التوبة في سورة النساء (17) عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله} الآيات. وليس من شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك، لأنه قد يكون صادقاً ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره. وقال قوم: لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه. وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة بن شعبة. وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف.
ومعنى أصلحوا} فعلوا الصلاح، أي صاروا صالحين. فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق، أي أصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11]، وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} في سورة البقرة (160).
وفرع فإن الله غفور رحيم} على ما يقتضيه الاستثناء من معنى: فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فإن الله غفور رحيم، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم، كما قال في آية البقرة (160): {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.} وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعدما كتموه وكتمه سلفهم.
وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي: حق للمقذوف. ويترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف.
وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كان أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى. فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس.
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}
هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخُصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله: {والذين يرمون المحصنات} إلخ إذ عُذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.
ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.
وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتاً حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قُبِل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجباً حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.
وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعاً يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذباً وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالباً، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم}، وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقاً فيما يدعيه على امرأته. وقد قال سعد بن عبادة «لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح». ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم. ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.
ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم. ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار. روى مالك في «الموطأ» عن سهل بن سعد أن عويمراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائلَ وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها.
قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي. وزيد في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " البينة وإلا حدٌّ في ظهرك ". والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: " أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني " يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك. فإن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني «من وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل»؟.
وحذف متعلق {شهداء} لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
وشمل قوله: {إلا أنفسهم} ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.
وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ {يرمون} ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منَّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها. فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة: لا يلاعن بين الزوجين إلا إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفَى حملها نفياً مستنداً إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى. أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى، أو بقوله لها: يا زانية، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان. ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور: إذا قال تحمل لها: يا زانية، وجب اللعان، ذهاباً منهم إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضاً تمسكاً بمطلق لفظ {يرمون}. ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقاً بيناً عند الفقيه.
وتسمية القرآن أيْمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.
وقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} إلخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4] إلخ.
وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيراً وهنا جعلت بدلاً من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع.
ومعنى كون الأيمان بدلاً من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفاً؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقاً لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول مالك والشافعي، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة.
ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة: «أشهد بالله» عند الأيمة الأربعة. وأما ما بعد صيغة (أشهد) فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.
وقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} قرأه الجمهور بنصب {أربعَ} على أنه مفعول مطلق ل {شهادة} فيكون {شهادة أحدهم} محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره، والتقدير: فشهادة أحدهم لازمة له. ويجوز أن يكون الخبر قوله: {إنه لمن الصادقين} على حكاية اللفظ مثل قولهم: «هجِّيرا أبي بكر لا إله إلا الله». وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع {أربعُ} على أنه خبر المبتدأ وجملة {إنه لمن الصادقين} إلى آخرها بدل من {شهادة أحدهم}. ولا خلاف بين القراء في نصب {أربع شهادات} الثاني.
وفي قوله: {إنه لمن الصادقين} حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة، أي يقول: إني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها.
وأما قوله: {والخامسة} أي فالشهادة الخامسة، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها. وأنث اسم العدد لأنه صفة لمحذوف دل عليه قوله {فشهادة أحدهم} والتقدير: والشهادة الخامسة. وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى. فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه إن كانت غموساً من الحرمان من رحمة الله تعالى.
وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها. وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلاً عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها.
وقرأ الجمهور: {والخامسةُ أن غضب الله عليها} بالرفع كقوله: {والخامسة أن لعنت الله عليه} وهو من عطف الجمل. وقرأه حفص عن عاصم بالنصب عطفاً على {أربع شهادات} الثاني وهو من عطف المفردات.
وقرأ الجمهور: {أنّ لعنة الله عليه} و{أنّ غضب الله عليها} بتشديد نون (أنّ) وبلفظ المصدر في {أنّ غضب الله} وجر اسم الجلالة بإضافة (غضب) إليه. ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على {أن} في الموضعين متعلقة ب {الخامسة} لأنها صفة لموصوف تقديره: والشهادة الخامسة، ليتجه فتح همزة (أنّ) فيهما. والمعنى: أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بأن لعنة الله أو بأن غضب الله، أي بما يطابق هذه الجملة.
وقرأ نافع بتخفيف نون (أنْ) في الموضعين و{غضِب الله} بصيغة فعل المضي، ورفْع اسم الجلالة الذي بعد {غضِب}. وخرجت قراءته على جعل (أن) مخففة من الثقيلة مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلاً لشأن الشهادة الخامسة. ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر (أن) المخففة من أحد أربعة أشياء: قد، وحرف النفي، وحرف التنفيس، ولولا. والذي أرى أن تجعل (أن) على قراءة نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير.
وقرأ يعقوب {أنْ لعنة الله} بتخفيف (أن) ورفع {لعنةُ} وجر اسم الجلالة مثل قراءة نافع. وقرأ وحده {أن غضبُ الله عليها} بتخفيف (أن) وفتح ضاد {غضب} ورفع الباء على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة.
وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ (أن) فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة.
والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع. وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذباً فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة.
واللعنة واللعن: الإبعاد بتحقير. وقد تقدم في قوله: {وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} في سورة الحجر (35).
واعلم أن الزوج إن سمى رجلاً معيناً زنى بامرأته صار قاذفاً له زيادة على قذفه المرأة، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى. وقد اختلف الأيمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي: يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حداً واحداً ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال بن أمية بعد اللعان.
وقال مالك وأبو حنيفة: يُسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف.
ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضياً أن يقام عليها حد الزنى، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حالفها كاذباً فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى: {ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} الآية. وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيْمان الرجل، وكانت أيمان الرجل بدلاً من الشهادة وسميت شهادة، كانت أيْمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة؛ ولأنها كالشهادة المعارضة، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيْمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها.
والدرء: الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال. وتقدم عند قوله تعالى: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} في سورة الرعد (22).
والتعريف في {العذاب} ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2]. فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيْمان اللعان أقيم عليها الحد. وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة. وقال أبو حنيفة: إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار. فعنده يُرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض.
والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزوج سواء. وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها.
وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً.
وجواب (لولا) محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سبباً في امتناع حصوله. والتقدير: لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالبَ بعضكُم على بعض، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضاً مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة، فإذا باح بذلك أُخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضاً أو سكت على ما لا على مثله يغضى، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة.
وفي ذكر وصف «الحكيم» هنا مع وصف {تواب} إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس.
وحذف جواب {لولا} للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة، وقد تكرر في هذه السورة وهو مثل حذف جواب (لو)، وتقدم حذف جواب (لو) عند قوله تعالى: {ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} في سورة البقرة (165). وجواب (لولا) لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة: إن (لولا) مركبة من (لو) و(لا).
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}
استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى: {والله سميع عليم} [النور: 21] نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه.
والإفك: اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً. وتقدم عند قوله تعالى: {فإذا هي تلقف ما يأفكون} في سورة الأعراف (117).
و {جاءو بالإفك} معناه: قصدوا واهتموا. وأصله: أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له: جاء بخبر كذا، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6]؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح.
والإفك: حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين. وحاصل هذا الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة. آذن بالرحيل آخر الليل. فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقداً من جَزْع ظَفَارِ كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل. فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطِّل (بكسر الطاء) السُّلمي (بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطناً المدينة من مهاجرة العرب) قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصُر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين في الجيش فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فراج قوله على حسان بن ثابت ومِسْطح بن أثاثة (بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة) وحَمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي.
فالإفك: علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق.
والعصبة: الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة. وقيل العصبة: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس. وقيل في مصحف حفصة «عصبة أربعة منكم». وهم اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقال: عصابة. وقد تقدم في أول سورة يوسف (8).
{وعصبة} بدل من ضمير {جاءو}.
وجملة: {لا تحسبوه شراً لكم} خبر {إن}. والمعنى: لا تحسبوا إفكهم شراً لكم، لأن الضمير المنصوب من {تحسبوه} لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقاً بفعل {جاءو} صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد. فالتقدير: لا تحسبوا الإفك المذكور شراً لكم. ويجوز أن يكون خبر {إن} قوله: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} وتكون جملة {لا تحسبوه} معترضة.
ويجوز جعل {عصبة} خبر {إن} ويكون الكلام مستعملاً في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكراً، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند
وذكر {عصبة} تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم {منكم} يدل على أنهم من المسلمين، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين.
وقوله: {لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم} لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير {تحسبوه} عائد إلى الإفك.
والشر المحسوب: أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص (فإنهم أهل المدينة الفاضلة). فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم.
ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين.
وقال أبو بكر ابن العربي: حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه. وأن خيراً لا شر فيه هو الجنة وشراً لا خير فيه هو جهنم. فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه.
وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى: {أينما يوجهه لا يأت بخير} في سورة النحل (76).
وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شراً للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شراً، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، وتتبين منه براءة فضلائهم، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محقرين مذمومين، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب. قال في «الكشاف»:... وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه.
وعدل عن أن يعطف {خيراً} على {شراً} بحرف (بل) فيقال: بل خيراً لكم، إيثاراً للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام.
والإثم: الذنب وتقدم عند قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة البقرة (219) وعند قوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في سورة الأنعام (120).
وتولي الأمر: مباشرة عمله والتهمم به.
{والكِبر} بكسر الكاف في قراءة الجمهور، ويجوز ضم الكاف. وقرأ به يعقوب وحده، ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، فهما لغتان عند جمهور أيمة اللغة. وقال ابن جني والزجاج: المكسور بمعنى الإثم، والمضموم: معظم الشيء. {والذي تولى كبره} هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين.
وضمير {منهم} عائد إلى {الذين جاءو بالإفك}. وقيل: الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في «صحيح البخاري»: «عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتاً منها:
حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكن أنت لست كذلك. قال مسروق فقلت: تَدَعِين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} فقالت: أي عذاب أشد من العمى».
والوعيد بأن له عذاباً عظيماً يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول. وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم. وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}
استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكاً.
و {لولا} هنا حرف بمعنى (هلا) للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا {ظن المؤمنون}. وأما {إذ سمعتموه} فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر.
وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيراً رجُلان، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173].
وقوله: {بأنفسهم خيراً} وقع في مقابلة {ظن المؤمنون والمؤمنات} فيقتضي التوزيع، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيراً إذ لا يظن المرء بنفسه.
وهذا كقوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11] أي يلمز بعضكم بعضاً، وقوله: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور: 61].
روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه: ألا ترين ما يقال؟ فقالت له: لو كنتَ بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءاً؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك. قال: نعم.
وتقديم الظرف وهو {إذ سمعتموه} على عامله وهو {قلتم} [النور: 16] للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيهاً على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرؤا من الخوض فيه بفور سماعه.
والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفات، فمقتضى الظاهر أن يقال: ظننتم بأنفسكم خيراً، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الإلتفات ضرب من الاهتمام بالخبر، وليُصرَّح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوءٌ إلى من عُرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعاً له.
وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره.
وعطف {وقالوا هذا إفك مبين} تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.
والباء في {بأنفسهم} لتعدية فعل الظن إلى المفعول الثاني لأنه متعد هنا إلى واحد إذ هو في معنى الاتهام.
والمبين: البالغ الغاية في البيان، أي الوضوح كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره.
{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}
استئناف ثان لتوبيخ العُصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم. و(لولا) هذه مثل (لولا) السابقة بمعنى (هلا).
والمعنى: أن الذي يخبر خبراً عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عدداً يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به؛ فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكاً. وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد.
وصيغة الحصر في قوله: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم.
والتقييد بقوله: {عند الله} لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقاً لنفس الأمر. وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى {عند الله} في شرعه لأن ذلك يصيره قيداً للاحتراز. فيصير المعنى: هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة. وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلودهم ثمانين جلدة} [النور: 4] إلى قوله: {فأولئك عند الله هم الكاذبون}. فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من هذه الآية.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}
{لولا} هذه حرف امتناع لوجود. والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة. والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين. وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حد القذف أحداً من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتاً وسراراً ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في «صحيح البخاري» وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها: أَوَ قَد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبويّ؟. وقيل: حد حسان ومسطحاً وحمنة، قاله ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبيّ فقال فريق: إنه لم يحد حد القذف تأليفاً لقلبه للإيمان. وعن ابن عباس أن أبيّاً جلد حد القذف أيضاً.
والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}
{إذ} ظرف متعلق ب {أفضتم} [النور: 14] والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها.
وأصل {تلقونه} تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما. وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ:
إذا ما راية رُفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين
وفي الحديث: «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمن بيمينه..» الحديث، وذلك بتشبيه التهيُؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو إطلاقه في قوله: {إذ تلقونه بألسنتكم}. ففي قوله: {بألسنتكم} تشبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آلة للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء. وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازاً بعلاقة الأيلولة. وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث. وهذا تعريض بالتوبيخ أيضاً.
وأما قوله: {وتقولون بأفواهكم} فوجه ذكر {بأفواهكم} مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله: {ما ليس لكم به علم}، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين: أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر فيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذاباً. وفي الحديث: ب «حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع» أو رجل مموه مُراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام} [البقرة: 204] وقال: {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3].
هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به. وفي الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وزاد في توبيخهم بقوله: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}، أي تحسبون الحديث بالقذف أمراً هيّناً. وإنما حسبوه هيِّناً لأنهم استخفُّوا الغيبة والطعن في الناس استصحاباً لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يرعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك.
فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئاً هيناً وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق.
والهيِّن: مشتق من الهوان، وهوان الشيء عدم توقيره واللمبالاة بشأنه، يقال: هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمراً مهماً، والمعنى: شيئاً هيِّناً. وإنما حسبوه هيِّناً مع أن الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآي في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} [النور: 4] الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هيِّناً لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثاً. وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسرِّ والعلانية.
ومعنى: {عند الله} في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفاً في قوله تعالى: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13].
{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}
عطف على جملة: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} [النور: 12] إلخ. وأعيدت (لولا) وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف {قلتم} الذي في هذه الجملة على {قلتم} الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحاً في عطف الجمل.
وتقديم الظرف وهو {إذ سمعتموه} على عامله وهو {قلتم ما يكون لنا} كتقديم نظيره في قوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} [النور: 12] إلخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف.
وضمير {سمعتموه} عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة.
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك.
ومعنى {قلتم ما يكون لنا} أن يقولوا للذين أخبروهم بهذا الخبر الآفك. أي قلتم لهم زجراً وموعظة.
وضمير {لنا} مراد به القائلون والمخاطبون. فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك. والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا، وأما المتكلمون فلتنزههم من أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء. وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116].
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه. فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وقالوا هذا إفك مبين} [النور: 12].
و {سبحانك} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} وجملة: {هذا بهتان عظيم}. و{سبحانك} مصدر وقع بدلاً من فعله، أي نسبح سبحاناً لك. وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء: 1] وقوله: {وسبحان الله وما أنا من المشركين} في سورة يوسف (108). والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول: {هذا بهتان عظيم} تبرّئاً من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سبحانك} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة: {هذا بهتان عظيم} تعليل لجملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عظيم} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغاً قوياً.
وإنما كان عظيماً لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب يطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحناً عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم بدون عذر، وكون المفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها.
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران. والبهتان: الخبر الكذب الذي يُبهت السامع لأنه لا شبهة فيه. وقد مضى عند قوله تعالى: {وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً} في سورة النساء (156).
{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}
بعد أن بيّن الله تعالى ما في خبر الإفك من تَبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديدُ التوبيخ والتهديد، وافتضاحٌ للذين روّجوه وخيبةٌ مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاعٌ للمؤمنين بذلك، وبيّن بادئ ذي بدء أنه لا يحسب شراً لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثماً، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيراً فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سبباً للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمراً هيّناً وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتَهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطئ الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام.
والوعظ: الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمراً قبيحاً. وتقدم في آخر سورة النحل (125).
وفعل {يعظكم} لا يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه، فالمصدر المأخوذ من {أن تعودوا} لا يكون معمولاً لفعل {يعظكم} إلا بتقدير شيء محذوف، أو بتضمين فعل الوعظ معنى فعل متعدّ، أو بتقدير حرف جر محذوف، فلك أن تضمّن فعل {يعظكم} معنى التحذير. فالتقدير: يحذركم من العود لمثله، أو يقدّر: يعظكم الله في العود لمثله، أو يقدر حرف نفي، أي أن لا تعودوا لمثله، وحذف حرف النفي كثير إذا دل عليه السياق، وعلى كل الوجوه يكون في الكلام إيجاز.
والأبد: الزمان المستقبل كله، والغالب أن يكون ظرفاً للنفي.
وقوله: {إن كنتم مؤمنين} تهييج وإلهاب لهم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق، إذ ليس المعنى: إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنباً كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقداً وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافراً وبذلك قال مالك. قال ابن العربي: قال هشام بن عمار: «سمعت مالكاً يقول: مَن سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب، ومَن سَبَّ عائشة قُتل لأن الله يقول: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين} فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قُتل» اه. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصاً وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة. وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر. وأما السب بغير ذلك فهو مساو لسبِّ غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
{ويبين الله لكم الآيات} أي يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود والآيات: آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات.
ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين.
وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهاً على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين. ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيراً حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه. وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة. وتلك المحبة شيء غير الهمّ بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب. وهذا نظير الكناية في قوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} [الماعون: 3] كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين. فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله: {أن تشيع} لأن (أن) تخلص المضارع للمستقبل. وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14].
ومعنى: {أن تشيع الفاحشة} أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو: اشتهار التحدث بها. فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حداً عظيماً في الشناعة.
وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} في سورة النساء (15). وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} في سورة الأعراف (28). وتقدم الفحشاء في قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة البقرة (169).
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة.
هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضراً متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب.
ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم} [النور: 15].
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}
هذه ثالث مرة كرر فيها {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} وحذف في الأول والثالث جواب (لولا) لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام.
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظاً لأواصرها.
وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب.
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}
هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبساً بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان. ففي قوله: {لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة معقولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها.
وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي.
{وخطْوات} جمع خطوة بضم الخاء. قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كما هي في المفرد فهو جمع سلامة. وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير.
والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها. وتقدم عند قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في سورة البقرة (168).
و (مَن) شرطية ولذلك وقع فعل {يتبع} مجزوماً باتفاق القراء.
وجملة: {فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} جواب الشرط، والرابط هو مفعول {يأمر} المحذوف لقصد العموم فإن عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب. وضميرا {فإنه يأمر} عائدان إلى الشيطان. والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأن الشيطان يأمر الناس بالفحشاء والمنكر، أي بفعلهما: فمن يتبع خطوات الشيطان يقع في الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
والفحشاء: كل فعل أو قول قبيح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة البقرة (169).
والمنكر: ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخير. وتقدم عند قوله تعالى: {وينهون عن المنكر} في سورة آل عمران (104).
وقوله: {ولولا فضل الله عليكم} الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكياً لأن فتنة الشيطان فتنة عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83].
و {زكى} بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات. وقد كتب {زكى} في المصحف بألف في صورة الياء. وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصله ياء فإنه واوي اللام. ورسم المصحف قد لا يجري على القياس. ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعِّفة للقراءة هي المخالفة المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه.
وقوله: {والله سميع عليم} تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبّة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلاً على عمله.
وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلاً بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل.
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
عطف على جملة: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور: 21] عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة.
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه. ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجداً في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية. فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر. قال ابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل مَن تكلَّم في شأن عائشة. فنزلت الآية في جميعهم.
ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي. ورجّع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم. قال ابن عطية: وكفّر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة.
وقرأ الجمهور: {ولا يأتل}. والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع، يقال: آلى وائتلى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} في سورة البقرة (226). وقرأه أبو جعفر {ولا يتألّ} من تألّى تفعّل من الأليّة.
والفضل: أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا. ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مراداً هنا لأن عطف {والسعة} عليه يبعد ذلك. والمعنيّ من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق.
والسعة: الغنى. والأوصاف في قوله: {أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله} مقتضية المواساة بانفرادها، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه.
والاستفهام في قوله: {ألا تحبون} إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله: {وليعفوا وليصفحوا}. وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجاً وهو الكفارة.
وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة. أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله: إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال. وهو في «صحيح البخاري» في كتاب الأدب باب الهجران.
وعُطف {والله غفور رحيم} على جملة: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطميناً لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى.
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
جملة: {إن الذين يرمون المحصنات} استئناف بعد استئناف قوله: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} [النور: 19] والكل تفصيل للموعظة التي في قوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين} [النور: 17]؛ فابتدئ بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله: {يرمون} للاستقبال. وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور: 21].
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه.
و {الغافلات} هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به. وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلاً عنه فالمعنى: إن الذين يرمون المحصنات كذباً عليهن، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن. وذكر وصف {المؤمنات} لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذباً لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى.
وقوله: {لعنوا} إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم.
واللعن: في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف، واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله.
والعذاب العظيم: عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة.
والظرف في قوله: {يوم تشهد عليهم} متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبراً للمبتدأ في قوله: {ولهم عذاب عظيم}. وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون.
وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار.
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا} [فصلت: 21] لأن لهذه الأعضاء عملاً في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {يشهد عليهم} بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير.
وقوله: {يومئذٍ يوفيهم الله دينهم} استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالاً عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم. فدينهم جزاؤهم كما في قوله: {ملك يوم الدين} [الفاتحة: 4].
و {الحقَّ} نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} أي ينكشف للناس أن الله الحق. ووصف الله بأنه {الحق} وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه {الحق} بمعنيين:
أولهما: بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم.
وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى: {الحق} اقتصر الغزالي في «شرح الأسماء الحسنى».
وثانيهما: معنى أنه ذو الحق، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله: {دينهم الحق}. وبه فسر صاحب «الكشاف» فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسيرَ الاسم. ويحتمل إرادة الإخبار عن الله بأنه صاحب هذا الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برّجان الإشبيلي في كتابه «شرح الأسماء الحسنى» والقرطبي في «التفسير».
و {الحق} من أسماء الله الحسنى. ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب {المبين}. والمبين: اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعدياً بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة، فلك أن تجعله وصفاً ل {الحق} بمعنى العدل كما صرح به في «الكشاف»، أي الحق الواضح. ولك أن تجعله وصفاً لله تعالى بمعنى أن الله مبيَّن وهاد. وإلى هذا نحا القرطبي وابن برَّجان، فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم {المبين}.
فإن كان وصف الله ب {الحق} بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الاعداد ب {الحق} الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أو ليس بمبين. وإن كان الخبر عن الله بأنه {الحق} بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى، فالمعنى: أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى: {هل تعلم له سميّاً} [مريم: 65]. وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصَفه تعالى ب {المبين}.
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم.
ويجوز أن يكون المراد ب {الذين يرمون المحصنات الغافلات} خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زُين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتاً لأصنامهم، فالقصر حيئنذ إضافي، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم.
ويجوز أن يكون المراد ب {الذين يرمون المحصنات الغافلات} عبد الله بن أبي بن سلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضاً به، كما في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ".
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاؤا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات. فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن. وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله. وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الخبيثات للخبيثين} تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك.
والابتداء بذكر {الخبيثات} لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين. واللام في قوله: {للخبيثين} لام الاستحقاق. والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق. والتقدير في الجميع: الأزواج.
وعطف {والخبيثون للخبيثات} إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلاً من أي جانب ابتدأه السامع.
وذكر {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} إطناب أيضاً للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضاً.
وعطف {والطيبون للطيبات} كعطف {والخبيثون للخبيثات}.
وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} في سورة الأنفال (37) وقوله: {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} في سورة آل عمران (38) وقوله: {ويحرّم عليهم الخبائث} في سورة الأعراف (157).
وغلب ضمير التذكير في قوله: {مبرءون} وهذه قضية كلية ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل.
والمراد بالخبث: خبث الصفات الإنسانية كالفواحش. وكذلك المراد بالطيب: زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته. وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضاً لعموم قوله: {الخبيثات للخبيثين} فإن المراد بقوله تعالى: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} [التحريم: 10] أنهما خانتا زوجيهما بإبطان الكفر. ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون {إذ قالت رب ابْننِ لي عندك بيتاً في الجنة} إلى قوله: {ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11].
والعدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى {ما يقولون} إلى أنه لا يعدو كونه قولاً، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80] لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة.
والرزق الكريم: نعيم الجنة. وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله: {درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} في سورة الأنفال (4).
وبهذه الآيات انتهت زواجر قصة الإفك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد.
وقد كان الاستئذان معروفاً في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل. وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجاً للمزور أو مثقلاً عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها.
وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب.
ومعنى {تستأنسوا} تطلبوا الأنس بكم، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية. وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذناً من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان. يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل. ووقع لابن القاسم في «جامع العتيبة» أن الاستئناس التسليم. قال ابن العربي: وهو بعيد. وقلت: أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف {وتسلموا} عطف تفسير. وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان.
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية.
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهاً على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما.
وعن ابن سيرين: " أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أأدخل؟ فأمر النبي رجلاً عنده أو أَمَةً اسمها روضة فقال: إنه لا يحسن أن يستأذن فليقُل: السلام عليكم أأدخل. فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل. فقال: ادْخلْ "، وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: «أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال: أألج. فأذن له ابن عمر، فلما دخل قال له ابن عمر: ما لك واستئذان العرب؟ (يريد أهل الجاهلية) إذا استأذنت فقل: السلام عليكم. فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل، فإن أذن لك فادخل».
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان. وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصاً بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافياً عن السلام. قال المازري في كتاب «المعلم على صحيح مسلم»: الاستئذان مشروع. وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» قال جماعة: الاستئذان فرض والسلام مستحب. وروي عن عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم. ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية. قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة»: الاستئذان واجب فلا تدخُلْ بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً فإن أذن لك وإلا رجعت. وقال ابن رشد في «المقدمات»: الاستئذان واجب. وحكى أبو الحسن المالكي في «شرح الرسالة» الإجماع على وجوب الاستئذان. وقال النووي في «شرح صحيح مسلم»: الاستئذان مشروع. وهي كلمة المازري في «شرح مسلم».
وأقول: ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان.
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب. فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى: {ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} أي ذلكم الاستئذان خير لكم، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم.
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية.
وليس للاستئذان صيغة معينة. وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد. وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف.
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في «صحيح البخاري» وهو ما روي: «عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يأذن لي فرجعت (وفسره في رواية أخرى بأن عمر كان مشتغلاً ببعض أمره ثم تذكر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: استأذن ثلاثاً ثم رجع) فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر: ما منعك؟ قال قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت. " وقال رسول الله: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة. قال أبو موسى: أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك. فقال عمر: خفِي عليّ هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق.
وقد علم أن الاستئذان يقتضي إذناً ومنعاً وسكوتاً فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}. والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من {ارجعوا} كقوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
ومعنى {ازكى لكم} أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية. وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى. وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدري أهو حق أم مواربة، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم.
وأما السكوت فهو ما بيّن حكمه حديث أبي موسى. وفعل {تسلموا} معناه تقولوا: السلام عليكم، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل: رحّب وأهّل، إذا قال: مرحباً وأهلاً، وحيّا، إذا قال: حيَّاك الله، وجزّأ إذ قال له: جزاك الله خيراً. وسهَّل، إذا قال: سهلاً، أي حللت سهلاً. قال البعيث بن حريث:
فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً *** فردت بتأهيل وسهل ومرحبِ
وفي الحديث: " تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ". وهي قريبة من النحت مثل: بسمل، إذا قال: باسم الله، وحسبل، إذا قال: حسبنا الله.
و {على أهلها} يتعلق ب {تسلموا} لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها: السلام عليكم، كما يعدى رحَّب به، إذا قال: مرحباً بك، وكذلك أهّل به وسهّل به.
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56].
وصيغة التسليم هي: السلام عليكم. وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ونهى أبا جُزَي الهجيمي عن أن يقول: عليك السلام. وقال له: إن عليك السلام تحية الميت ثلاثاً، أي الابتداء بذلك. وأما الرد فيقول: وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله. أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان. وتقدم السلام في قوله تعالى: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} في سورة [الأنعام: 54].
وأما قوله: {فإن لم تجدوا فيها أحداً} إلخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهماً بأن علة شرع الاستئذان ما يَكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم. فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة.
والغاية في قوله: {حتى يؤذن لكم} لتأكيد النهي بقوله: {فلا تدخلوها} أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم.
وقوله: {والله بما تعملون عليم} تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها. وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصياناً لما أمر الله به. فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون.
وخطاب {لا تدخلوا} يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} [النور: 58] كما سيأتي. ولذا فإن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي.
وقرأ الجمهور: {بيوتاً} حيثما وقع بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء. وقد تقدم في سورة آل عمران.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
هذا تخصيص لعموم قوله: {بيوتاً غير بيوتكم} [النور: 27] بالبيوت المعدة للسكنى، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة على طرق المسافرين لنزولهم، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية. ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعاً وأقتاباً وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم.
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق. وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع، والحمامات، وحوانيت التجار، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه. فمعنى قوله: {غير مسكونة} أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة.
وأما الخوانيق (جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاهْ) وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم.
وقوله: {فيها متاع لكم} صفة ثانية ل {بيوتاً}.
والمتاع: الجهاز من العروض والسلع والرحال. وظاهر قوله: {فيها متاع} أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول. ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب. وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس.
وقد فسر المتاع بالمصدر، أي التمتع والانتفاع. قال جابر بن زيد: كل منافع الدنيا متاع. وقال أبو جعفر النحاس: هذا شرح حسن من قول إمام من أيمة المسلمين وهو موافق للغة، وتبعه على ذلك في «الكشاف». ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها.
وجملة: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجاً إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقاً بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه.
ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف {من} الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو ما لا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب: منه واجب ومنه دون ذلك، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى الله عليه وسلم «فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهَبَةً معلقة».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية».
وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبراً شديداً عليها.
والغض: صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر. ويكون من الحياء كما قال عنترة:
وأغض طرفي حين تبدو جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
ويكون من مذلة كما قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ***
ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص.
والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى. فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيهاً على المبالغة في غض الأبصار في محاسن النساء. فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين.
واسم الإشارة إلى المذكور، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج.
واسم التفضيل بقوله: {أزكى} مسلوب المفاضلة. والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة.
وذيل بجملة: {إن الله خبير بما يصنعون} لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال.
(31) {وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء}.
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة، وتصريحاً بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضاً. ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكاباً لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضاً.
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدْن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}.
والزينة: ما يحصل به الزين. والزين: الحسن، مصدر زانه. قال عمر بن أبي ربيعة:
جلل الله ذلك الوجه زَيْناً
يقال: زين بمعنى حسن، قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات} في سورة آل عمران (14) وقال: {وزيناها للناظرين} في سورة الحجر (16).
والزينة قسمان خِلقية ومكتسبة. فالخلقية: الوجه والكفان أو نصف الذراعين، والمكتسبة: سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء. وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} في سورة الأعراف (32)، وعلى اللباس الحسن في قوله {قال موعدكم يوم الزينة} [طه: 59]. والتزين يزيد المرأة حسناً ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر.
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم.
وقال ابن العربي: إن الزينة نوعان: خلقية ومصطنعة. فأما الخلقية: فمعظم جسد المرأة وخاصة: الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر. وأما المصطنعة: فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفاً مثل: الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك. والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين. والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج.
واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} كما سيأتي. قال ابن العربي: روى ابن القاسم عن مالك: ليس الخضاب من الزينة اه ولم يقيده بخضاب اليدين. وقال ابن العربي: والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
فمعنى {ما ظهر منها} ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان.
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلاً الانتفاع بها أو مدخلاً حرجاً على صاحبتها وذلك الوجه والكفان، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية. فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء؛ ففي مذهب مالك قولان: أشهرهما أنها يجب ستر قدميها، وقيل: لا يجب، وقال أبو حنيفة: لا يجب ستر قدميها، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها. وروى مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة " قال ابن عبد البر: أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر، أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة اه. وفي نسخة ابن بشكوال من «الموطأ» عن القنازعي قال فسر مالك: إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه. وفي سماع ابن القاسم من «جامع العتبية» قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي. قال ابن رشد في «شرحه»: هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها، وتبدي ما يستحسن منها، امتثالاً لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} اه. وفي روايات ابن وهب من «جامع العتبية» قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية: ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجاً لعجزتها.
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه. وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه.
ونُهِين عن التساهل في الخِمرة. والخمار: ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أُمرْنَ بقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
والضرب: تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيِ أن يضرب مثلاً} في سورة البقرة (26).
والمعنى: ليشددن وضع الخمر على الجيوب، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.
والباء في قوله {بخمرهن} لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل {يضربن}.
والجُيوب: جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة. والمعنى: وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجَيب ما يظهر منه الجيد.
وقوله: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} أعيد لفظ {ولا يبدين زينتهن} تأكيداً لقوله {ولا يبدين زينتهن} المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله: {إلا لبعولتهن} إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على {إلا لبعولتهن} لبعد ما بين الأول والثاني، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذُكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجاً عليها.
وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم. وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى. وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية.
والبعولة: جمع بعل. وهو الزوج، وسيد الأَمَة. وأصل البعل الرب والمالك (وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعْلاً وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس)، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن. ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير.
وكل من عد من الرجال الذين استُثْنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها. وفي سماع ابن القاسم من كتاب «الجامع من العتبية»: سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال: لا بأس بذلك. قال ابن رشد في «شرحه»: لأن الله تعالى قال: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر ا ه. أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حُرمة الصهر.
والإضافة في قوله: {نسائهن} إلى ضمير {المؤمنات}: إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء أُمَّتِهن، أي المؤمنات، مثل الإضافة في قوله تعالى:
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]، أي من رجال دينكم. ويجوز أن يكون المراد أو النساء. وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعاً لبقية المعدود.
قال ابن العربي: إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميراً فجاء هذا للإتباع ا ه. أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8] أي ألهمها الفجور والتقوى. فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة: {والشمس وضحاها} [الشمس: 1] وكذلك قوله فيها: {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة.
ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها. وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط. والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في «التوضيح» عند قول ابن الحاجب: وعورة الحرة ما عدا الوجه والكفين. ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج: أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقاً ا ه.
وفي مذهب الشافعي قولان: أحدهما: أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين ورجحه البغوي وصاحب «المنهاج» البيضاوي واختاره الفخر في «التفسير». ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح: «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنعْ من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عِرْيَة المسلمة».
القول الثاني: أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي.
ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان: أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقيل: هي كالمرأة المسلمة.
وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن في ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها. لكثرة ترددهم عليها. ولأن كونه مملوكاً لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال.
وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة.
فأما التبعية فهي كونهم من أتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة.
والإربة: الحاجة. والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء. وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين.
واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف.
وقد روي القولان عن مالك. وذكر ابن الفرس: أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبعيّة وعدم الإربة. وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان.
وأما قضية (هيتٍ) المخنث أو المخصي ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه. وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله. ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع.
وقرأ الجمهور: {غير أولي الإربة} بخفض {غير}. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب {غير} على الحال.
والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله: {الذين لم يظهروا} وذلك مثل قوله: {ثم نخرجكم طفلاً} [الحجّ: 5] أي أطفالاً.
ومعنى: {لم يظهروا على عورات النساء} لم يطلعوا عليها. وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء وذلك ما قبل سن المراهقة.
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك: فقال الحسن والجمهور: هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع. وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وهذا تعليل واهٍ لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة.
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة، فالتعداد جرى على الغالب. ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". وجزم بذلك الحسن، ولم أر فيه قولاً للمالكية. وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر.
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}.
الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله: يضرب في الأرض.
روى الطبري عن حضرمي: أن امرأة اتخذت بُرتين (تثنية بُرَة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخَلْخَال) من فضة واتخذت جَزْعاً في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجاً وتباهياً بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة.
قال الزجاج: سماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من النظر للزينة فأما صوتُ الخلخال المعتادُ فلا ضير فيه.
وفي أحاديث ابن وهب من «جامع العتبية»: سئل مالك عن الذي يكون في أرجل النساء من الخلاخل قال: «ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركُه أحب إليّ من غير تحريم».
قال ابن رشد في «شرحه«: أراد أن الذي يحرمُ إنما هو أن يقصدْنَ في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهاراً بهن من زينتهن.
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغَزَل. ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه. وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى: {ليعلم ما يخفين من زينتهن} ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن.
قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي: آية الضمائر.
{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعاً لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم.
والجملة معطوفة على جملة: {قل للمؤمنين} [النور: 30]. ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع.
ونبه بقوله: {جميعاً} على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا.
وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء (17) عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله.} وكتب في المصحف {أيه} بهاء في آخره اعتباراً بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة {المؤمنون}. فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل. وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعاً لحركة (أيّ). ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها. ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به.
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}
أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه، ويُعف نفوس المؤمنين والمؤمنات، ويغض من أبصارهم، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أياماهم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن. وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم. وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية.
والآيامى: جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فَيْعِل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيباً أم بكراً. والشائع إطلاق الأيم على التي كانت ذات زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على أنه مجاز كثر استعماله. والأيم في الأصل من أوصاف النساء قاله أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال: امرأة أيّمة. واطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه، وبعض أيمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركاً للمرأة والرجل وعليه درج في «الكشاف» و«القاموس».
ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل، وفيعل لا يجمع على فَعَالى. فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفاً. وعند ابن مالك وجماعة: وزنه فَعَالى على غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه.
و {الأيامى} صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا. أُمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخاً لقوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} [النور: 3] فقد قال جمهور الفقهاء: إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. ونقل القول بأن التي قبلها محكمة عن غير معين. وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها.
ومعنى التبعيض في قوله {منكم} أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلُون عند المسلمين من أن يكن أزواجاً لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن، أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله: {والصالحين من عبادكم وإمائكم} على الاحتمالات الآتية في معنى {الصالحين} وأما غيرهن فولايتهن لأهل ملتهن.
والمقصود: الأيامى الحرائر، خصصه قوله بعده {والصالحين من عبادكم وإمائكم}. وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني. أي الأتقياء. والمعنى: لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقاً بهم ودفعاً لمشقة العنت عنهم.
فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمراً. وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غيرُ الصالحين غيرَ الأعفّاء والعفائف من المماليك المسلمين، ويشمل المماليك غير المسلمين. وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف.
وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج، أي إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية.
وصيغة الأمر في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم: فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجباً، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب. وقال الشافعي: لا يندب. وحمل الأمر على الإباحة، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم.
وجملة: {إن يكونوا فقراء} الخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيراً فهل يرده الولي، وأن يكون سيد العبد فقيراً لا يجد ما ينفقه على زوجه، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال. ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيراً أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حراً وتوسعة المال على مولاه إن كان عبداً فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال.
وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقارنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحاً وتجارتهم رباحاً. والمعنى: أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم.
وصفة الله «الواسع» مشتقة من فعل وسِع باعتبار أنه وصف مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه. قال حجة الإسلام: والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم، وكيفما قُدّر وعلى أي شيء نُزّل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نُظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نُظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته ا ه.
والذي يؤخذ من استقراء القرآن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلّاً من سَعته وكان الله واسعاً حكيماً} [النساء: 130]. أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تُميَّزُ به كقوله تعالى: {وسع ربنا كل شيء علماً} [الأعراف: 89].
وذكر {عليم} بعد {واسع} إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}.
أمِر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم. والسين والتاء للمبالغة في الفعل، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحاً. ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة. جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع.
ومعنى {لا يجدون نكاحاً} لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف. وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف. فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة.
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج. والفضل: زيادة العطاء.
{والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى ءاتاكم}.
لما ذُكر وعد الله مَن يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقاً في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج. أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقاً لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها.
{والذين} مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فكاتبوهم} وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل.
ودخول الفاء في {فكاتبوهم} لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل: إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم، تأكيداً لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط.
والكتاب: مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يُدفع لسيد العبد منجماً، أي موزعاً على مواقيت معينة، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجماً وسموا توزيعها تنجيماً، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه: تنجيم. وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيماً وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء، قال زهير:
تُعَفّى الكلوم بالمئين فأصبحت *** يُنجِّمها من ليس فيها بمُجرم
وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين، وإن كان الكاتب واحداً والكتب واحداً. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة.
ومعنى {إن علمتم فيهم خيراً} إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان.
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى: {فكاتبوهم}. فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيراً في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته. وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبدُه أن يكاتبه فأبى أنس. وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب.
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله. وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية: أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صُبْح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه. وفي «الكشاف» أن عمر بن الخطاب كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام.
والظاهر أن الخطاب في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه. وكذلك قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد. وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر.
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ (الإيتاء) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلِّق قبل البناء لمطلقته جميعَ الصداق عفواً في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237] في قول جماعة في محمل {الذي بيده عقدة النكاح} منهم الشافعي.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وءاتوهم} للمسلمين. أمرهم الله بإعانة المكاتبين.
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب. وقال إسماعيل بن حماد القاضي: وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً وهذا لا نظير له ا ه. وفيه نظر.
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله.
وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.
والموصول في قوله {الذي آتاكم} يجوز أن يكون وصفاً ل {مال الله} ويكون العائد محذوفاً تقديره: آتاكموه. ويجوز أن يكون وصفاً لاسم الجلالة فيكون امتناناً وحثاً على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول {ءاتاكم} محذوفاً للعموم، أي ءاتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة. ويكون مفعول {ءاتاكم} محذوفاً للعموم، أي ءاتاكم نعماً كثيرة كقوله: {وءاتاكم من كل ما سألتموه} [إبراهيم: 34].
وأحكام الكتابة وعجز المكاتَب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكاً وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع.
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء.
والبغاء مصدر: باغت الجارية، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها، فالبغاء الزنى بأجرة. واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا: باغت الأمة. ولا يقال: بغَتْ. وهو مشتق من البَغي بمعنى الطلب كما قال عياض في «المشارق» لأن سيد الأَمَة بغى بها كسباً. وتسمى المرأة المحترفة به بَغياً بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث. فأصل بَغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
وقد كان هذا البغاء مشروعاً في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح 38: «فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل (عينائم) التي على الطريق» ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك. فقالت: ماذا تعطيني؟ فقال: أرسل لك جدي معزى من الغنم.. ثم قال ودخل عليها فحبلت منه».
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أُبَي بن سلول وهن: مُعاذة ومُسيكة وأمَيْمَةُ وَعمرَةُ وأرْوَى وقتيلة، وكان يُكرههن على البغاء بعد الإسلام. قال ابن العربي: روى مالك عن الزهري أن رجلاً من أسرى قريش في يوم بدر قد جُعل عند عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أُبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه (أي من الأسير القرشي) فيطلب فداء ولده، أي فداء رقه من ابن أُبَيّ. ولعل هذا الأسير كان مؤسراً له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقالوا إن عبد الله بن أُبَيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له. فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أُبَيّ: مَنْ يعذِرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا. فأنزل الله هذه الآية، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أُبَيّ بالإسلام. وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي: أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جَارية مالك بن عميلة بن السباق، وجَلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سُويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية ربيعة بن أسود. وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير.
قلت: وتقدم أن من البغايا عَناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: 3]. ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.
والبغاء في الجاهلية كان معدوداً من أصناف النكاح. ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُّ فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها.
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جُمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه، فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم اه.
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق. وكانت عَنَاقُ صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلازانية أو مشركة} [النور: 3]. وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد: غلام.
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفَّوها حق البيان وما أتوا إلا إطناباً في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها.
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء} موجه إلى المسلمين، فإن كانت قصة أمة ابن أُبَيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يُظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذٍ وإنما كان تذمر أمته منه داعياً لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء. وأيّاً مَّا كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمناً في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارهاً مصرّاً على النفاق. ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت: مَنْ يعذِرنا من محمد يغلِبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمناً بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سراً لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علناً، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيهاً بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنى كان محرماً تحريماً شديداً على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام. وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرماً قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] توطئة لتحريم الخمر البتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله: {إن أردن تحصناً} بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن. ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به.
وذكر {إن أردن تحصناً} لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن. هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية.
وأنا أقول: إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول.
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلاً على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن. فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريماً باتاً. فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريماً مطلقاً كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغيّ، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء.
وقد يكون هذا الاحتمال معضوداً بقوله تعالى بعده: {ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} كما يأتي.
وفي «تفسير الأصفهاني»: «وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا».
وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا.
وقوله: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} متعلق ب {تكرهوا} أي لا تكرهوهن لهذه العلة. ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر {إن أردن تحصناً}.
و {عرض الحياة} هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضاً.
وأما قوله: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيّز الشرط، وهو صريح في أنه عَفْو عن إكراه.
والذي يشتمل عليه الخبر جانبان: جانب المُكرِهين وجانب المُكرَهات (بفتح الراء)، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن.
وأما الإماء المُكرَهات فإن الله غفور رحيم لهن. وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول: «غفور رحيم لهن والله لهن والله». وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذرالمُكرَهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} [البقرة: 173]. 5 وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يُكرِهون الإماء على البغاء.
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير (مَن) الشرطية، أي غفور رحيم له، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد.
وقوله: {فإن الله غفور رحيم} دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازاً واستغني عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره. والتقدير: فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة. والفاء رابطة الجواب.
وحرف (إنّ) في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعليل.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
ذُيِّلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره.
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات. والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الإمتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريباً بقوله تعالى: {لقد أنزلنا آيات مبينات} [النور: 46]. وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها. وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة {وأنزلنا فيها آيات بينات} [النور: 1] ثم قوله: {ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} [النور: 18] ثم قوله هنا: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} فكان كل واحد من هذه التذييلات زائداً على الذي قبله؛ فالأول زائد بقوله: {يبين الله لكم الآيات} [النور: 18] لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين}. فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفاً على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ووصف ما كان من هذه السورة مشتملاً على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مُقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيَّنات} يطابق قوله في أول السورة {وأنزلنا فيها آيات بينات} [النور: 1]، وقوله: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} يقابل قوله في أول السورة {وفرضناها} [النور: 1] على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديراً وتصويراً للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله: {وموعظة للمتقين} يقابل قوله في أولها {لعلكم تذكرون} [النور: 1].
والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزّل من عند الله.
وابتدئ الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {مبيَّنات} بفتح التحتية على صيغة المفعول. فالمعنى: أن الله بيّنها ووضحها. وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها. ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها {وأنزلنا فيها آيات بينات}
[النور: 1] في أول السورة لأن البينات هي الواضحة، أي الواضحةُ الدلالة والإفادة.
والمَثل: النظير والمشابه. ويجوز أن يراد به الحال العجيبة.
و (مِن) في قوله: {من الذين خلوا} ابتدائية، أي مثلاً ينشأ ويتقوم من الذين خلوا. والمراد نشأة المشابهة. وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره: من أمثال الذين خلوا من قبلكم. وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة، قال النابغة:
وقد خفتُ حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المطارة عاقِل
أراد على مخافة وعل.
و {الذين خلوا من قبلكم} هم الأمم الذين سبقوا المسلمين، وأراد: من أمثال صالحي الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثَل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البرآء.
والموعظة: كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها. وقد تقدم عند قوله تعالى {فأعرض عنهم وعظهم} في سورة النساء (63) وقوله: {موعظة وتفصيلاً لكل شيء} في سورة الأعراف (145).
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2] وقوله: {لولا إذ سمعتموه} [النور: 12] الآيات، وقوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} [النور: 17].
والمتقون: الذين يتقون، أي يتجنبون ما نهوا عنه.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
{الله نُورُ السماوات والارض}.
أتْبع منةَ الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحقِّ للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته.
والذي يظهر لي أن جملة: {الله نور السموات والأرض} معترضة بين الجملة التي قبلها وبين جملة: {مثل نوره كمشكاة} وأن جملة: {مثل نوره كمشكاة} بيان لجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة: {الله نور السماوات والأرض} تمهيداً لجملة: {مثَل نوره كمشكاة}.
ومناسبة موقع جملة: {مثل نوره كمشكاة} بعد جملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} أن آيات القرآن نور قال تعالى: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} في سورة النساء (174)، وقال: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} في سورة العقود (15)، فكان قوله: {الله نور السماوات والأرض} كلمة جامعة لمعان جمّة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام.
وموقع الجملة عجيب من عدة جهات، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان.
والنور: حقيقته الإشراق والضياء. وهو اسم جامد لمعنى، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلاً لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو: استنوق الجمل، فإن فعل أنار مثل فعل أفلس، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين. وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف. فمعنى: {الله نور السماوات والأرض} أن منه ظهورهما. والنور هنا صالح لعدة معان تشبّه بالنور. وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة.
فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهراً أو عرضاً. وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة «بمشكاة الأنوار»: النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور. وجعل اسمه تعالى النور دالاً على التنزه عن العدم وعلى إخراج الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برَّجان الإشبيلي في «شرح الأسماء الحسنى» فقال: إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه.
أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائماً لما قبل الآية من قوله: {لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] وما بعدها من قوله: {مثل نوره كمشكاة} إلى قوله: {يهدي الله لنوره من يشاء} وقوله عقب ذلك: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} [النور: 40]. وقد أشرنا آنفاً إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مراداً من وصفه تعالى بالنور. وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الاطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن " فإن عطف «من فيهن» يؤذن بأن المراد ب«السماوات والأرض» ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى: {كانتا رتقاً ففتقناهما} [الأنبياء: 30]. والمعنى: أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما.
والتزم حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور. وأشهرها ثلاثة: البرهان العلمي، والكمال النفساني، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم. وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه «هياكل النور» بقوله: «يا قيوم أيِّدنا بالنور وثبتنا على النور واحشرنا إلى النور» كما بينه جلال الدين الدواني في «شرحه».
ونلحق بهذه المعاني اطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي.
وقد ورد في آيات من القرآن إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور} [المائدة: 44] وقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} [الأنعام: 91] فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما. وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفاً لله تعالى لا حقيقة ولا مجازاً فتعين أن لفظ (نور) في قوله: {مثل نوره كمشكاة} غير المراد بلفظ نور في قوله: {الله نور السماوات والأرض} فالنور لفظ مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر.
فأحسن ما يفسر به قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالَمَيْن العلوي والسفلي، وهو من استعمال المشترك في معانيه.
ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة.
فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير. وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِى زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ}.
يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] إذ كان ينطوي في معنى {آيات} ووصفها ب {مبينات} ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً. ووقعت جملة: {الله نور السماوات والأرض} معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيداً لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة.
وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة: {الله نور السماوات والأرض} فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فُصلت فلم تعطف.
والضمير في قوله: {نوره} عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله. والمراد ب {نوره} كتابه أو الدين الذي اختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين.
فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة. وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها. ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف. وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى في القمر.
والمَثَل: تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة. فمعنى {مثل نوره}: شَبيهُ هدِيه حالُ مشكاة.. إلى آخره، فلا حاجة إلى تقدير: كنور مشكاة، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها.
وقوله: {كمشكاة فيها مصباح} المقصود كمصباح في مشكاة. وإنما قُدم {المشكاة} في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدئ بقوله: {كمشكاة} والمنتهي بقوله: {ولو لم تمسسه نار} فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة {مشكاة} دون لفظ {مصباح} لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ {مصباح} بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة المتخيلة حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاةً ثم يبدو له مصباح في زجاجة.
والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة. ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب وصاحب «القاموس» و«الكشاف» واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب. ووقع ذلك في «صحيح البخاري» فيما فسره من مفردات سورة النور.
ووقع في «تفسير الطبري» وابن عطية عن مجاهد: أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه، وفي «الطبري» عن مجاهد أيضاً: المشكاة الصُفر (أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة) الذي في جوف القنديل. وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس: المشكاة موقع الفتيلة، وفي معناه أيضاً ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري: المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقول الأزهري: أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة.
وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة.
والمصباح: اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهو من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة. وإذا كان المشكاة اسماً للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مراداً به الفتيلة التي توضع في تلك القُصيبة.
وإعادة لفظ {المصباح} دون أن يقال: فيها مصباح في زجاجة، كما قال: {كمشكاة فيها مصباح} إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل، وكذلك إعادة لفظ {الزجاجة} في قوله: {الزجاجة كأنها كوكب دري} لأنه من أعظم أركان التمثيل. ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف:
إذا أُنزل الحجاج أرضاً مريضةً *** تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فروّاها بشرب سجاله *** دماءَ رجال يحلبون صراها
ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين.
والزجاجة: اسم إناء يصنع من الزجاج، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تَمر، ونَمل، ونَخْل، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب.
والزجاج: صنف من الطين المطيّن من عجين رمللٍ مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط.
وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء (سليكَا) يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء (صُودا) ويسمى عند العرب الغاسول وهو الذي يتخذون منه الصابون. ويضاف إليهما جزء من الكلس (الجير) ومن (البوتاس) أو من (أُكسيد الرصاص) فيصير ذلك الطين رقيقاً ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميّع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعاً بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه، وهو حينئذٍ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذٍ قابلاً للامتداد وللانتفاخ إذا نُفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفَس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقِنِّينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعاً.
وقد كان الزجاج معروفاً عند القدماء من الفنيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير. قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته *** فإنه عربي من قوارير
وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطاً في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى: {قال إنه صرح ممرد من قوارير} [النمل: 44]. وقد عرفه اليونان قديماً ومن أقوال الحكيم (ديوجينوس اليوناني): «تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب». وسمى العرب الزجاج بلَّوراً بوزن سنّوْر وبوزن تنُّور. واشتهر بصناعته أهل الشام. قال الزمخشري في «الكشاف»: {في زجاجة} أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر اه. واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق. وكذلك بلاد (بوهيميا) من أرض (المجر) لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم. ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء. وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقي زماناً طويلاً خاصاً بمنازل الملوك والأثرياء.
والكوكب: النجم، والدرِّيّ بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزُّهرة والمشتري منسوبة إلى الدُّر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته:
جماليّة وجناء ***
البيت.
أي كالجمل في عظم الجثة وفي القوة.
وقولهم في المثل «بات بليلة نابغية» أي كليلة النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ***
الأبيات.
قال الحريري: «فبت بليلة نابغية. وأحزان يعقوبية» المقامة السابعة والعشرون.
ومنه قولهم: وردي اللون، أي كلون الورد. والدر يضرب مثلاً للإشراق والصفاء. قال لبيد:
وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سُلّ نظامها
وقيل: الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة.
وقرأ أبو عمرو والكسائي {دِرّيء} بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع، لأنه يدفع الظلام بضوئه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضاً فيما يخاله الرائي.
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضاً على أن وزنه فُعِّيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه عُلِّية وسُرِّية وذُرّية بضم الأول في ثلاثتها.
وإنما سُلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظاً وأبين وصفاً. وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولا حظ له في التمثيل.
وجملة: {يوقد من شجرة} الخ في موضع الصفة ل {مصباح}.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {يوقد} بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنياً للنائب، أي يوقده الموقد. فالجملة حال من {مصباح}.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {تَوَقَّد} بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقّد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من {مشكاة} أو من {زجاجة} أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة، أي تنير. وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح.
والإيقاد: وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها، وأريد به هنا ما يُمَد به المصباح من الزيت.
وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده، أي لا يذوى ولا يطفأ. وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق.
وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه {زيتونة} وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماماً بتقرر ذلك في الذهن. ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلاً وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة. وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20]، وينتفع بجودة هواء غاباتها.
وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء: 71] يريد أرض الشام.
ووصف الزيتونة ب {مباركة} على هذا وصف كاشف، ويجوز أن يكون وصفاً مخصصاً ل {زيتونة} أي شجرة ذات بركة، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء مَحْنية *** صاففٍ بأبطح أصْحى وهو مَشْمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
فإن قوله، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاءً ولكنه حالة تحسنه عند السامع.
وقوله: {لا شرقية ولا غربية} وصف ل {زيتونة}. دخل حرف (لا) النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير (ال) المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله:
حاجيتكم لتخبروا ما اسمان *** وأول إعرابه في الثاني
وهو مبني بكل حال *** ها هو للناظر كالعيان
لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم: «الرمان حلو حامض». والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى: {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع: «زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ» أي وسطاً بين الحر والقُر وقول العجاج يصف حمار وحشٍ:
حشرج في الجَوف قليلاً وشهق *** حتى يقال ناهقٌ وما نهَق
والمعنى: أنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب، فُنفِيَ عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية، وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه. وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى: {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 43، 44] وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع: «زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل».
واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو: {فلا صدَّق ولا صلىَّ} [القيامة: 31] وقوله صلى الله عليه وسلم " لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض ".
واعلم أيضاً أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب «لا ولا» بقوله في المقامة السادسة والأربعين «بورك فيك من طلا. كما بورك في لا ولا» أي في الشجرة التي قال الله في شأنها: {لا شرقية ولا غربية}.
ثم يحتمل أن يكون معنى: {لا شرقية ولا غربية} أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية. وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام. ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب، أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها، فبذلك يكون زيتها أجود زيت وإذا كان أجود كان أشد وقوداً ولذلك أتبع بجملة: {يكاد زيتها يضيء} وهي في موضع الحال.
وجملة: {ولو لم تمسسه نار} في موضع الحال من {زيتها}.
والزيت: عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية، مثل زيت السمسم والجلجلان. وهو غذاء. ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصاباً خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم.
و {لو} وصلية. والتقدير: يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار.
وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضاً مفرَّق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة.
ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال: نوره كمصباح في مشكاة.. إلى آخره.
فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن. شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشاراً وإشراقاً.
وجملة: {نور على نور} مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصراً فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقياً صافياً كان أشد إسراجاً، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به.
فقوله: {نور} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {مثل نوره كمشكاة} إلى آخره، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور.
و {على} للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون. والمعنى: أنه نور مكرر مضاعف. وقد أشرت آنفاً إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهاً لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل.
فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام. وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيينُ الحقائق من ذلك الإرشاد.
وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34].
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.
وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرِّط.
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.
وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بيّن قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.
وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومئ إلى استمرار هذا الإرشاد.
كما أن قوله: {من شجرة} يوميء إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط.
{يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَئ عَلَيِمٌ}.
هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل. والمعنى: دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هَدْيَ أحد خلقه وجبله على العناد والكفر.
وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوّا منهم التذكرُ بها: فمنهم من يعتبر بها فيهتدي، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طُبع على قلبه.
وجملة: {والله بكل شيء عليم} تذييل لمضمون الجملتين قبلها، أي لا يعزب عن علمه شيء. ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصرّ على غيّه. وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله: {في بيوت} الخ. فقيل قوله: {في بيوت} من تمام التمثيل، أي فيكون {في بيوت} متعلقاً بشيء مما قبله. فقيل يتعلق بقوله: {يوقد} [النور: 35] أي يوقد المصباح في بيوت. وقيل هو صفة لمشكاة، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن {مشكاة} و{مصباح} [النور: 35] مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع.
ثم قيل: أريد بالبيوت المساجد. ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي: نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا. وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع، أي بعد نزول هذه الآية. وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى. ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها. وقد ذكر صاحب «القاموس» عدداً من الأديرة. ويرجح هذا قوله: {أن ترفع} فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال. أنشد الفراء:
لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى: {لهدمت صوامع وبيع} إلى قوله: {يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40]. وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى. وهذا كقوله تعالى: {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} [الحديد: 27]. وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل. والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: " فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان؟ ". وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين.
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً.
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا، فيكون معنى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع}: أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله، فهو من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره.
والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة. وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل. قال امرؤ القيس:
تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل
وقال أيضاً:
يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
السليط: الزيت. أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة. وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً. قال امرؤ القيس:
سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال
القفال: جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم.
وقيل: أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص. فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر.
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا}.
والأظهر عندي: أن قوله: {في بيوت} ظرف مستقر هو حال من {نوره} في قوله {مثل نوره كمشكاة} [النور: 35] الخ مشير إلى أن «نور» في قوله: {مثل نوره} مراد منه القرآن، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد
مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ: {مثل نوره} وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط.
ويجوز أن يكون {في بيوت} غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله: {يسبح له فيها}. وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه. والتقدير: يسبح لله رجال في بيوت، ويكون قوله: {فيها} تأكيداً لقوله: {في بيوت} لزيادة الاهتمام بها. وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث: " صلاة أحدكم في المسجد (أي الجماعة) تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة ".
والمراد بالغدوّ: وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم.
والآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار، وتقدم في آخر الأعراف (205) وفي سورة الرعد (15).
والمراد بالرجال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد.
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث: «... ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد». ويجوز عندي أن يكون {في بيوت} خبراً مقدماً و{رجال} مبتدأ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {يهدي الله لنوره من يشاء} [النور: 35] فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل: رجال في بيوت. والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين.
ومعنى {لا تلهيهم تجارة} أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد. فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة.
والتجارة: جلب السلع للربح في بيعها، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه.
وقرأ الجمهور: {يسبح} بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و{رجال} فاعله. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي {له فيها بالغدو} ويكون {رجال} فاعلاً بفعل محذوف من جملة هي استئناف. ودل على المحذوف قوله: {يسبّح} كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل: يُسبح له رجال. على نحو قول نهشل بن حَريّ يرثي أخاه يزيد:
لِيُبْكِ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومختبطٌ مما تُطيح الطوائح
وجملة: {لا تلهيهم تجارة} وجملة: {يخافون} صفتان ل {رجال}، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله {وإقام الصلاة} الخ وهذا تعريض بالمنافقين.
و {إقام} مصدر على وزن الإفعال. وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفاً إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة. وجاء مصدر {إقام} غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا. وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة (3).
وانتصب {يوماً} من قوله: {يخافون يوماً} على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف، أي يخافون أهواله.
وتقلّب القلوب والأبصار: اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه. وقد تقدم في قوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} في سورة الأنعام (110). والمقصود من خوفه: العمل لما فيه الفلاح يومئذٍ كما يدل عليه قوله: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا}.
ويتعلق قوله: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا} ب {يخافون}، أي كان خوفهم سبباً للجزاء على أعمالهم الناشئة عن ذلك الخوف.
والزيادة: من فضله هي زيادة أجر الرهبان إن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حينما تبلغهم دعوته لما في الحديث الصحيح: «أن لهم أجرين» أو هي زيادة فضل الصلاة في المساجد إن كان المراد بالبيوت مساجد الإسلام.
وجملة: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} تذييل لجملة: {ليجزيهم الله}. وقد حصل التذييل لما في قوله: {من يشاء} من العموم، أي وهم ممن يشاء الله لهم الزيادة.
والحساب هنا بمعنى التحديد كما في قوله: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} في سورة آل عمران (37). وأما قوله: {جزاء من ربك عطاء حساباً} [النبأ: 36] فهو بمعنى التعيين والإعداد للاهتمام بهم.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}
لمّا جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال} إلى قوله: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} [النور: 36 38] أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئاً على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وعكس ذلك كقوله: {ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات} [آل عمران: 197، 198] الخ فعطْف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة. ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون: ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف. كما أشار إليه قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 19] يعدون أعمالاً من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالاً لحسبانهم، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} [الفرقان: 23] وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن.
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. {والذين كفروا} مبتدأ وخبره جملة: {أعمالهم كسراب} الخ. وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو {أعمالهم}. ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظاً في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة.
وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر. وهو أنه من جزاء كفرهم بالله. على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا. فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي: شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز: شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريماً يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة.
واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.
والسراب: رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء.
وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرُّ الطبقة الهوائية التي فوقها حَرّاً أقل من حرارة الطبقة الملاصقة. وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها. وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض. وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا.. فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها. فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء. ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار.
ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر. وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سَراب. وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له: أم العرائس من جهات توزر، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر.
وقوله: {بقيعة} الباء بمعنى في. و(قيعة) أرض، والجار والمجرور وصف {لسراب} وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة. وهذا كقولهم في المثل للذليل «هو فَقع في قرقر» فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر. والقيعة: الأرض المنبسطة ليس فيها رُبّى ويُرادفها القاعة. وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد.
وقوله: {يحسبه الظمآن ماء} يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل.
و {حتى} ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع. ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله، كأن يحدده بشجرة أو صخرة. فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب. فهذا معنى قوله: {حتى إذا جاءه}، أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء. وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بُعد كلما تقدم السائر في سيره. فضرب ذلك مثلاً لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر.
وقوله: {لم يجده شيئاً} أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئاً.
والشيء: هو الموجود وجوداً معلوماً للناس، والسراب موجود ومرئي، فقوله: {شيئاً} أي شيئاً من ماء بقرينة المقام.
وهذا التمثيل كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} [الفرقان: 23].
و (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية. والمعنى: زمن مجيئه إلى السراب، أي وصوله إلى الموضع.
وقوله: {ووجد الله عنده} هو من تمام التمثيل، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد مَنْ إن أخذ بناصيته لم يفلته، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب، وهو معنى قوله: {فوفاه حسابه} أي أعطاه جزاء كفره وافياً. فمعنى {فوفاه} أنه لا تخفيف فيه، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده تِرة فأخذه.
وجملة: {والله سريع الحساب} تذييل. والسريع: ضد البطيء. والمعنى: أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلاً.
واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات. فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله. ففي قوله: {يحسبه الظمآن} استعارة مصرحة، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحه، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتْل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره. فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكتِه بالعدوّ، ورمز إلى العدو بقوله: {فوفاه حسابه}. وتعدية فعل {وجد} إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي.
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
شأن {أو} إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} في سورة البقرة (19)، أي مع اتحاد وجه الشبه. ومنه قول أمرئ القيس:
يُضيء سناه أو مصَابيح راهب ***
وقول لبيد:
أفتلك أم وحشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصوّار قوامها
فإذا كان الكلام هنا جارياً على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخراً في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضاً لشدة تعاقبه، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحُه في رؤيته فكيف يرجو النجاة.
وإن كان الكلام جارياً على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه الشبه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهم غير مؤمنين بحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقاً. فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم.
ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وعلى الوجهين فقوله: {كظلمات} عطف على {كسراب} [النور: 39] والتقدير: والذين كفروا أعمالهم كظلمات.
وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال: شاهدتُ سواد الكفر في وجه فلان.
والظلمات: الظلمة الشديدة. والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات. ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها.
وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام. ومعنى كونها {في بحر} أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات} وقد تقدم في سورة البقرة (19) إذ جعل الظلمات في الصيب.
واللجِّيّ منسوب إلى اللجة، واللج هو معظم البحر، أي في بحر عميق، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم:
والدهر بالإنسان دوّاريّ ***
أي دوّار، وكقولهم: رجل مشركي ورجل غلاّبي، أي قوي الشرك وكثير الغلب.
والموج: اسم جمع موجة والموجة: مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطئ. وأصله مصدر: ماج البحر، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه.
ومعنى: {من فوقه موج} أن الموج لا يتكسر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته.
والسحاب تقدم في سورة الرعد (12). والسحاب يزيد الظلمة إظلاماً لأنه يحجب ضوء النجم والهلال.
وقوله: {ظلمات بعضها فوق بعض} استئناف. والتقدير: هي ظلمات والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله: {أو كظلمات} لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد.
وقرأ الجمهور: {سحاب ظلمات} بالتنوين فيهما. وقرأ البزي عن ابن كثير {من فوقه سحاب ظلمات} بترك التنوين في {سحاب} وبإضافته إلى {ظلمات}. وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع {سحاب} منوناً وبجر {ظلمات} على البدل من قوله: {أو كظلمات}.
وقوله: {لم يكد يراها} هو من قبيل قوله {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة.
وجملة: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} تذييل للتمثيل، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى.
وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما سبق من نظام تدبيره.
وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول. وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلّبُه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)}
أُعقِب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} إلى قوله: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} [النور: 39، 40] بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيراً من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئَين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك، فأصواتها تسبيح بلسان الحال.
والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما علمت.
وجملة: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} استئناف ثاننٍ وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فُطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه.
فتسبيح العقلاء حقيقة، وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه. وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين: فريق العقلاء. وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة {كل} فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي. فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازاً على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع؛ ولولا إرادة ذلك لقيل: كل قد علم تسبيحه، أو كل قد علم صلاته.
والخطاب في قوله: {ألم تر} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد من يَبلُغ إليه، أو الخطاب لغير معيّن فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله.
والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم. وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق. وهذا في معنى قوله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44].
والصافّات من صفات الطير يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران. وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيّدت ب {صافات}.
وفعل {علم} مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل.
وضمائر {علم صلاته وتسبيحه} راجعة إلى {كل} لا محالة.
ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد {علم} فلكان راجعاً إلى الله تعالى.
والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح.
وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع.
وإن شئت قلت: إن جملة {ألم تر} جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية.
وقيل: الرؤية هنا قلبية. وأغنى المصدر عن المفعولين.
وجملة: {والله عليم بما يفعلون} تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال.
والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب. وقد تقدم في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} في سورة البقرة (243) وقوله: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في سورة الأنعام (6).
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}
تحقيق لما دل عليه الكلام السابق من إعطائه الهدى للعجماوات في شؤونه وحرمانه إياه فريقاً من العقلاء فلو كان ذلك جارياً على حسب الاستحقاق لكان هؤلاء أهدى من الطير في شأنهم.
وتقديم المعمولين للاختصاص، أي أن التصرف في العوالم لله لا لغيره.
وفي هذا انتقال إلى دلالة أحوال الموجودات على تفرد الله تعالى بالخلق ولذلك أعقب بقوله:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}
أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيراً لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف. وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله {فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء}.
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي.
و {يزجي}: يسوق. يقال: أزجى الإبل إزجاء.
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحاباً كثيفاً، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى: {ثم يؤلف بينه} الخ.
وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة (164) في قوله: {والسحاب المسخر} وفي أول سورة الرعد (12).
ودخلت (بين) على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرئ القيس:
بَيْن الدخول فحَوْمَل ***
أي يؤلف بين السحابات منه.
والركام: مشتق من الركم. والركم: الجمع والضم. ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول. فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى: {وإن يَروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم} في سورة الطور (44).
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق. فقال بعض المفسرين: هو الودق. وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب.
والخلال: الفتوق، جمع خَلَل كجبل وجبال. وتقدم {خلال الديار} في سورة الإسراء (5).
ومعنى {ينزل من السماء} يُسقط من علو إلى سفل، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض. والسماء: الجو الذي فوق جهة من الأرض.
وقوله: {من جبال} بدل من {السماء} بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال.
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف. يقال: فلان جبل علم، وطود علم. وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان لي مثل أحُد ذهباً لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين» أي ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لمَا سرني. أو لما كان سرني الخ.
وحرف {من} الأول للابتداء و{من} الثاني كذلك و{من} في قوله {من برد} مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة {من} في الإثبات.
أو تكون {من} اسماً بمعنى بعض.
ومفعول {ينزل} محذوف يدل عليه قوله: {فيها من برد} والتقدير: يُنزل بَرداً.
ووقوع {من} زائدة لقصد مشاكلة قوله: {من جبال}.
وقوله: {فيصيب به من يشاء} جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه. ومن ذلك سميت المصيبةَ الحادثةُ المكروهة. وأما قوله تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم} [التوبة: 50] فلأن قوله: {حسنة} قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازاً مرسلاً وإما مشتركاً لفظياً أو مشتركاً معنوياً فإن (أصاب) مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر، فجعل نزول البرَد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة، فضمير {به} للبرَد.
وجملة: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} وصف ل {سحاباً}. وضمير {برقه} عائد إلى {سحاباً}. وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرَد، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرْق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة. ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر.
والسنا مقصوراً: ضوء البرق وضوء النار. وأما السناء الممدود فهو الرفعة. قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود:
زال السنا عن ناظري *** ه وزال عن شرف السناء
ولام التعريف في {بالأبصار} لام الحقيقة. وقوله: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} هو كقوله في سورة البقرة (20) {يكاد البرق يخطف أبصارهم} سوى أن هذه الآية زيد فيها لفط {سنا} لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضياً للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين: بتكوين البرق في السحاب. وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار. وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه قوارع ومصائب.
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب {يذهب بالأبصار} وهنالك بقوله: {يخطف أبصارهم} لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في {يذهب} إذ هو مجرد الاستلاب.
وأما التعبير هنا ب {الأبصار} معرفاً باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله: {أن يأكله الذئب} [يوسف: 13] وقولهم: ادخل السوق، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي. بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافاً إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معاداً وإن كان المعنى متحداً ولا تجد حق الإيجاز فائتاً فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق. وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه.
وقرأ الجمهور {يذهب} بفتح التحتية وفتح الهاء، فالباء للتعدية، أي يُذهب الأبصار. وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
التقليب تغيير هيئة إلى ضدها ومنه {فأصبح يُقلب كفيه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42] أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام، فالمقلَّب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تُسمى ليلاً وحالة نوره تسمى نهاراً عُبر عن الجو في حالتيه بهما، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار.
ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر. ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد.
والكلام استئناف. وجيء به مستأنفاً غير معطوف على آيات الاعتبار المذكورة قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر. وهذا تدرج في موقع هذه الجملة عقب جملة {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} [النور: 43] كما أشرنا إليه آنفاً. ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة {إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار}، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال: إن في تقليب الليل والنهار لعبرة.
والإشارة الواقعة في قوله: {إن في ذلك} إلى ما تضمنه فعل {يقلب} من المصدر. أي إن في التقليب. ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر.
والتأكيد ب {إن} إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة.
وقيل: الإشارة بقوله: {إن في ذلك} إلى جميع ما ذكر آنفاً ابتداء من قوله: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} [النور: 43] فيكون الإفراد في قوله: {لعبرة} ناظراً إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون.
ولم تَرد العبرة في القرآن معرّفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققاً كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيداً لأمرين: التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي. والتجدد بكون الخبر فعلياً.
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله: {يخلق الله ما يشاء}.
وقرأ الجمهور {والله خلق كل دابة} بصيغة فعل المضي ونصب {كل}. وقرأه الكسائي {والله خالق كل دابة} بصيغة اسم الفاعل وجر {كل} بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.
والدابة: ما دبّ على وجه الأرض، أي مشى. وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مراداً به الإنسان وغيره مرتين.
وتنكير {ماء} لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار.
وهذا بخلاف قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله. وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} [الأنبياء: 30].
و {من} ابتدائية متعلقة ب {خلق}.
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين، وهذا المشي زحفاً. أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع. وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.
وجملة: {يخلق الله ما يشاء} زيادة في العبرة، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا. فهي جملة مستأنفة.
وجملة: {إن الله على كل شيء قدير} تعليل وتذييل. ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاماً مستقلاً بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل.
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}
تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}، أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء. والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل {أنزلنا} ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34].
ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] كما تقدم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {مبينات} بفتح الياء على صيغة اسم المفعول، أي بيَّنها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها. وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان.
والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدِّر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته.
{وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}
عطف جملة: {ويقولون} على جملة: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [النور: 46] لما تتضمنه جملة: {يهدي من يشاء} من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى: {من يشاء}. وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق. فبعد أن ذُكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفارُ الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} [النور: 39] الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها.
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور: 37].
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة وفريقاً لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علناً.
ففي قوله: {يقولون} إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخللِ الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14].
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتُها في سورة البقرة. ومفعول {أطعنا} محذوف دل عليه ما قبله، أي أطعنا الله والرسول.
والإشارة في قوله: {وما أولئك} إلى ضمير {يقولون}، أي يقولون آمنّا وهم كاذبون في قولهم. وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح جعله إشارة إلى {فريق} من قوله: {إذا فريق منهم معرضون} لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان.
فالضمير في قوله: {وإذا دعوا} عائد إلى معاد ضمير {يقولون}. وإسناد فعل {دعوا} إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقاً منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عندما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات.
وقد شملت الآية نفراً من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعدما حكم عليهم فلم يُرضهم حكمه، فروى المفسرون أن بشْراً أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصّا عليه القضية فلما علم عمر أن بشْراً لم يرض بحكم النبي قال لهما: مكانكما حتى آتيكما.
ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشراً بالسيف فقتله. فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر يومئذٍ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، أي فرق بينهما بالمشاهدة. وقيل: إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلست آتية لأنه يُبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي. فنزلت هذه الآية. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك} الآية في سورة النساء (60).
ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى «مجمع البيان» عن البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص إن حاكمته إلى ابن عمه يحكمْ له فلا تحاكمه إليه. فنزلت الآيات. وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة، والحكم بن أبي العاص أسلم يوم الفتح وسكن المدينة وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلميْن.
وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حكم الرسول حكم الله لأنه لا يحكم إلا عن وحي. ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله: {ليحكم} العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل: ليحكما.
وقوله: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه} أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ومعنى: {وإن يكن لهم الحق} أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق. ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فعُلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون. وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق.
وهذا وجه موقع جملة: {أفى قلوبهم مرض} إلى آخرها.
ووقع حرف {إذا} المفاجأة في جواب {إذا} الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض.
والإذعان: الانقياد والطاعة.
ولما كان هذا شأناً عجيباً استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها.
وأُتبع بعض الاستفهامات بعضاً بحرف {أم} المنقطعة التي هي هنا للإضراب الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات لأن المتعاطفات بها حينئذٍ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض، وأما معنى الاستفهام فملازم لها لأنه يقدر بعد {أم}.
والانتقال هنا تدرج في عدّ أخلاقهم. فالمعنى أنه إن سأل سائل عن اتصافهم بخُلق من هذه المذكورات علم المسؤول أنهم متصفون به، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملاً في التنبيه مجازاً مرسلاً، ومنه قوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} في سورة الأعراف (195).
والقلوب: العقول. والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً} [البقرة: 10] أو للنفاق.
وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم.
والارتياب: الشك. والمراد: ارتابوا في حقيّة الإسلام، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيماناً غير راسخ.
وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقاداً مزلزلاً. وهذا يشير إلى أنهم فريقان: فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم، وفريق آمنوا إيماناً ضعيفاً ثم ظهر كفرهم بالإعراض.
والحيف: الظلم والجور في الحكومة. وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما يقتضيه دخول {أن}، وهي حرف الاستقبال، على فعل {يحيف}. فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفاً لا يظهر الحقوق. وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمداً عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية وأن يكون الآتي بها صادقاً فيما أتى به.
واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل.
وفيما فسرنا به قوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض} ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر.
و {بل} للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر. ولم يؤت في هذا الإضراب ب {أم} لأن {أم} لا بد معها من معنى الاستفهام، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه. وليست {بل} هنا للإبطال لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة، ولا على إبطال القسمين الآخرين.
وجملة: {أولئك هم الظالمون} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع بعد أن طنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ماذا سيُرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله: {أولئك هم الظالمون} بياناً لما يترقبه السامع.
والمعنى: أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم. وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون. فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حصر مؤكَّد، أي هم الظالمون لا شرعُ الله ولا حكم رسوله.
وزاد اسم الإشارة تأكيداً للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات: اثنان من صيغة الحصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيداً على تأكيد، والثالث ضمير الفصل، والرابع اسم الإشارة.
واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازاً لتحقيق اتصافهم بالظلم، فهم يقيسون الناس على حسب ما يقيسون أنفسهم، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم
ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}
استئناف بياني لأن الإخبار عن الذين يعرضون عندما يدعون إلى الحكومة بأنهم ليسوا بالمؤمنين في حين أنهم يظهرون الإيمان يثير سؤال سائل عن الفاصل الذي يميز بين المؤمن الحق وبين الذي يرائي بإيمانه في حين يُدعى إلى الحكومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتضي أن يبين للسائل الفرق بين الحالين لئلا يلتبس عنده الإيمان المزور بالإيمان الصادق، فقد كان المنافقون يموهون بأن إعراض من أعرض منهم عن التحاكم عند رسول الله ليس لتزلزل في إيمانه بصدق الرسول ولكنه إعراض لمراعاة أعراض من العلائق الدنيوية كقول بشْر: إن الرسول يُبغضني. فبيّن الله بطلان ذلك بأن المؤمن لا يرتاب في عدل الرسول وعدم مصانعته.
وقد أفاد هذا الاستئناف أيضاً الثناء على المؤمنين الأحقاء بضد ما كان ذماً للمنافقين. وذلك من مناسبات هذا الاستئناف على عادة القرآن في إرداف التوبيخ بالترغيب والوعيد بالوعد والنذارة بالبشارة والذم بالثناء.
وجيء بصيغة الحصر ب {إنما} لدفع أن يكون مخالف هذه الحالة في شيء من الإيمان وإن قال بلسانه إنه مؤمن، فهذا القصر إضافي، أي هذا قول المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا كقول الذين أعرضوا عن حكم الرسول حين قالوا: {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} [النور: 47] فلما دعوا إلى حكم الرسول عصوا أمره فإن إعراضهم نقيض الطاعة، وسيأتي بيانه قريباً. وليس قصراً حقيقياً لأن أقوال المؤمنين حين يدعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم غير منحصرة في قول: {سمعنا وأطعنا} ولا في مرادفه، فلعل منهم من يزيد على ذلك.
وفي «الموطأ» من حديث زيد بن خالد الجهني: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله (يعني وهو يريد أن رسول الله يقضي له كما وقع التصريح في رواية الليث بن سعد في «البخاري» أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله فقال: أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله). وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم (يريد لا تقض له علي فأذَنْ لي أن أبين) فقال رسول الله تكلم.. " الخ.
وليس المراد بقول {سمعنا وأطعنا} خصوص هذين اللفظين بل المراد لفظهما أو مرادفهما للتسامح في مفعول فعل القول أن لا يحكى بلفظه كما هو مشهور. وإنما خص هذان اللفظان بالذكر هنا من أجل أنهما كلمة مشهورة تقال في مثل هذه الحالة وهي مما جرى مجرى المثل كما يقال أيضاً «سمع وطاعة» بالرفع و«سمعاً وطاعة» بالنصب، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا}
في سورة [النساء: 46]. وفي حديث أبي هريرة: «قال النبي للأنصار: تكفوننا المؤونة ونَشْرِكُكم في الثمرة. فقال الأنصار: سمعنا وأطعنا». و{قول المؤمنين} خبر {كان} و{أن يقولوا} هو اسم {كان} وقدم خبر كان على اسمها متابعة للاستعمال العربي لأنهم إذا جاؤوا بعد {كان} بأن والفعل لم يجيئوا بالخبر إلا مقدماً على الاسم نظراً إلى كون المصدر المنسبك من أن والفعل أعرفَ من المصدر الصريح، ولم يجيئوا بالخبر إلا مقدماً كراهية توالي أداتين وهما: {كان} و{أن}. ونظائر هذا الاستعمال كثيرة في القرآن. وتقدم عند قوله تعالى: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} في سورة [آل عمران: 147].
وجيء في وصف المؤمنين بالفلاح بمثل التركيب الذي وصف به المنافقون بالظلم بصيغة القصر المؤكد ليكون الثناء على المؤمنين ضداً لمذمة المنافقين تاماً.
واعلم أن القصر المستفاد من {إنما} هنا قصر إفراد لأحد نوعي القول. فالمقصود منه الثناء على المؤمنين برسوخ إيمانهم وثبات طاعتهم في المنشط والمكره. وفيه تعريض بالمنافقين إذ يقولون كلمة الطاعة ثم ينقضونها بضدها من كلمات الإعراض والارتياب. ونظير هذه الآية في طريق قصر ب (إلاّ) قوله تعالى: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} في سورة [آل عمران: 147].
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}
الواو اعتراضية أو عاطفة على جملة {وأولئك هم المفلحون} [النور: 51]. والتقدير: وهم الفائزون. فجاء نظم الكلام على هذا الإطناب ليحصل تعميم الحكم والمحكوم عليه. وموقع هذه الجملة موقع تذييل لأنها تعم ما ذكر قبلها من قول المؤمنين {سمعنا وأطعنا} [النور: 51] وتشمل غيره من الطاعات بالقول أو بالفعل.
و {مَن} شرطية عامة، وجملة: {فأولئك} جواب الشرط. والفوز: الظفر بالمطلوب الصالح. والطاعة: امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والخشية: الخوف. وهي تتعلق بالخصوص بما عسى أن يكون قد فُرّط فيه من التكاليف على أنها تعم التقصير كله.
والتقوى: الحذر من مخالفة التكاليف في المستقبل.
فجمعت الآية أسباب الفوز في الآخرة وأيضاً في الدنيا.
وصيغة الحصر للتعريض بالذين أعرضوا إذا دعوا إلى الله ورسوله وهي على وزن صيغة القصر التي تقدمتها.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)}
عطف على جملة: {ويقولون ءامنا بالله وبالرسول} [النور: 47]. أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه. قال ابن عطية: وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله. وقال القرطبي: لما بيّن كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا. فنزلت هذه الآية.
وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجيْن. وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذٍ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد. واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجُنّ من أموالهم وديارهم. واقتصر الطبري على أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول.
والإقسام: النطق بالقسم، أي اليمين.
وضمير {أقسموا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {ويقولون} [النور: 47]. والتعبير بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى.
والجَهْد بفتح الجيم وسكون الهاء منتهى الطاقة. ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي " فغَطْني حتى بلغ منِّي الجَهْد " لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة. وهو مصدر «جَهَد» كمنع متعدياً إذا أتعب غيره.
ونَصْبُ {جهد أيمانهم} يجوز أن يكون على الحال من ضمير {أقسموا} على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]، أي جاهدين. والتقدير: جاهدين أنفسهم، أي بالغين بها أقصى الطاقة وهذا على طريقة التجريد. ومعنى ذلك: أنهم كرّروا الأيمان وعدّدوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم. وإضافة {جهد} إلى {أيمانهم} على هذا الوجه إضافة على معنى (من)، أي جهداً ناشئاً عن أيمانهم.
ويجوز أن يكون {جهد} منصوباً على المفعول المطلق الواقع بدلاً من فعله. والتقدير: جَهَدوا أيمانهم جَهداً. والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير {أقسموا}. والتقدير: أقسموا يَجْهَدون أيمانهم جهداً. وإضافة {جهد} إلى {أيمانهم} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جَهد، ففيه استعارة مكنية، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحداً يجهده، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له، فهذا أيضاً استعارة.
وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم}
في سورة العقود (53) وقوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية} في سورة الأنعام (109).
وجملة: {لئن أمرتهم} الخ بيان لجملة: {أقسموا}. وحذف مفعول {أمرتهم} لدلالة قوله: {ليخرجن}. والتقدير: لئن أمرتهم بالخُروج ليَخرُجن.
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المَعَاني الكثيرة وهي {لا تقسموا طاعة معروفة}. وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهياً عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته، بمعنى: لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذباً.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في معنى عدم المطالبة بالقسم، أي ما كان لكم أن تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في التسوية مثل {اصبروا أوْ لاَ تصْبروا سواء عليكم} [الطور: 16].
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في حقيقته والمُقسم عليه محذوف، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك. ومقام مواجهة نفاقهم يقتضي أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة.
وقوله: {طاعة معروفة} كلام أُرسِل مثلاً وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله: {لا تقسموا}.
وتنكير {طاعة} لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب: تمرة خير من جَرادة، و{معروفة} خبره.
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملاً في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة، أي معروف وهنها وانتفاؤها.
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى: لماذا تقسمون أفَأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي، أي أعرف عدم وقوعها، والكلام تهكم أيضاً.
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى: قسَمُكُم ونفيُه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة.
أو يكون {طاعة} مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أوْلَى من الأيمان، ويَكون وصف {معروفة} مشتقاً من المعرفة بمعنى العلم، أي طاعة تُعلم وتُتحقق أوْلى من الأيمان على طاعة غير واقعةٍ، وهو كالعرفان في قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وإن كان النهي مستعملاً في حقيقته فالمعنى: لا تقسموا هذا القسمَ، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف، فيكون وصف {معروفة} مشتقاً من العرفان، أي عدم النكران كقوله تعالى: {ولا يعصِينَك في معروف} [الممتحنة: 12].
وجملة: {إن الله خبير بما تعملون} صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة، وهي تعليل لما قبلها.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}
تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يَرُدّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذباً، ويختلف معنى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم.
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاماً مستقلاً غير معطوف.
وقوله: {فإن تولوا} يجوز أن يكون تفريعاً على فعل {أطيعوا} فيكونّ فعلُ {تولوا} من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلاً مضارعاً بتاء الخطاب. وأصله: تَتَولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال. والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم، فيكون ضميراً ف {عَلَيْه ما حُمِّلَ} عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل {قل} أيْ فإذا قلت ذلك فَتَوَلَّوْا ولم يطيعوا الخ، فيكون فعل {تولوا} ماضياً بتاء واحدة مُواجَهاً به النبي صلى الله عليه وسلم أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حُمِّلْتَ من التبليغ وعليهم ما حُمِّلوا من تَبِعَة التكليف. كمعنى قوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} في سورة النحل (82) فيكون في ضمائر فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} التفاتٌ. وأصل الكلام: فإنما عليك ما حُملتَ وعليهم ما حُمِّلوا. والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة.
وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين: معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم وموادعة لهم. وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم. ونظيره قوله في سورة آل عمران (23 32): {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً} من الكتاب (هم اليهود) يُدعَوْن إلى كتاب الله} إلى قوله: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تَولوا فإن الله لا يحب الكافرين}
واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 4] وقوله: {ولا تَيمموا الخبيثَ منه تنفقون} [البقرة: 267] وقوله: {ولا تَولوا عنه وأنتم تسمعون} في سورة الأنفال (20)، وأما قوله تعالى في سورة القتال (38) {وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم} فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران.
والبلاغ: اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية. ومعنى كونه مبيناً أنه فصيح واضح.
وجملة: {وإن تطيعوه تهتدوا} إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله: {وعليكم ما حملتم} بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد.
وجملة {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} بيان لإبهام قوله: {ما حمل}.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}
الأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق تردّدُهم في عاقبة أمر المسلمين، وخشيتُهم أن لا يستقر بالمسلمين المُقام بالمدينة حتى يغزوَهم المشركون، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبَيّ: {لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذَلّ} [المنافقون: 8]، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدّلوا دينهم، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله: {وإن تطيعوه تهتدوا} [النور: 54]، فيكون المعنى: وإن تطيعوه تهتدوا وتُنصروا وتأمنوا. ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضُعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين عن غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سبباً لنزول هذه الآية.
قال أبو العالية: مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويُمسون في السلاح. فقال رجل: يا رسول الله أمَا يأتي علينَا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله: «لا تَغْبُرون (أي لا تمكثون) إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في المَلإ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة». ونزلت هذه الآية.
فكان اجتماع هذه المناسبات سبباً لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصراً على إبدال خوفهم أمناً كما اقتضاه أثر أبي العالية، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عِداد الأسباب.
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وَعْدهم بالأمن أن وَعَدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيهاً لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماء إلى التهيُّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم {وإن تطيعوه تهتدوا} [النور: 54]، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات.
والموصول عام لا يختص بمعيّن، وعُمُومه عُرفي، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة.
والخطاب في {منكم} لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد.
والتعريف في {الصالحات} للاستغراق، أي عملوا جميع الصالحات، وهي الأعْمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح.
فالصالحات جمع صالحة: وهي الخصلة والفَعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة. وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق {الصالحات} استغراق عرفي، أي عَمِل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصَّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يُسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها.
والاستقامة في الخُويصَّة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.
وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} [النحل: 90] وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] وقوله في سياق الذم: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] وقوله: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} [محمّد: 22]. وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة، وبين أصول المعاملات بين الناس.
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل.
وهذه التكاليف التي جعلها الله قِواماً لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها. وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع، وجُعل الإيمان عمودها وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته. فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها. وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 105 107] يريد بذلك كله المسلمين. وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وقوله:
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا} في سورة الحج (38).
فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سنناً وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً} وقد تقدم في سورة الإسراء (4، 5).
والاستخلاف: جعلهم خلفاء، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} وقد تقدم في سورة البقرة (30). والسين والتاء للتأكيد. وأصله: ليخلفنهم في الأرض.
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطاً بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعاً بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع، كما حكى تعالى قولَ موسى لبني إسرائيل: {وجعلكم ملوكاً} كما تقدم في سورة العقود (20).
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعُها، وأن الظرفية المدلولة بحرف (في) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامُها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى: {واستعمركم فيها} [هود: 61].
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله: {ليستخلفنهم} دون تقييد بقوله: {في الأرض} ل {ليستخلفنهم} للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم الأرض. وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام. ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم. وهذا اسخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان، والفرس، واليونان، والرومان.
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملاً في معنى المثنى.
وعن الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. ولعل هذا مراد مالك. وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل: يوسف، وداود، وسليمان، وأنوشروان، وأصحمة النجاشي، ومُلكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي، وذي القرنين، وإسكندر المقدوني، وبعض من ولي جمهورية اليونان.
وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافاً كاملاً كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة.
وجملة: {ليستخلفنهم} بيان لجملة: {وعد} لأنها عين الموعود به. ولما كانت جملةَ قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بياناً للأخرى.
وقرأ الجمهور: {كما استخلف} بالبناء للفاعل، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون {الذين} نائب فاعل.
وتمكين الدين: انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه. استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبَّت المرسّخ، وإذا كان متَّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل. وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله: «وإن هم أبوا (أي إلا القتال) فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد) ولينفذنَّ الله أمره».
وقوله: {لهم} مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله: {دينهم} لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقاً من مفعول الفعل، فقدم {لهم} عليه للإيماء إلى العناية بهم، أي بكون التمكين لأجلهم، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2].
وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه: {الذي ارتضى لهم}، أي الذي اختاره ليكون دينهم، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضاً ليكونوا أتباع هذا الدين. وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم.
وإنما قال: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} ولم يقل: وليؤمننهم، كما قال في سابقَيْه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفاً، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة. وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر.
وتنكير {أمناً} للتعظيم بقرينة كونه مبدّلاً من بعد خوفهم المعروف بالشدة. والمقصود: الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين.
وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة. وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
وقرأ الجمهور: {وليَبُدّلنهم} بفتح الموحدة وتشديد الدال. وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد.
وجملة: {يعبدونني} حال من ضمائر الغيبة المتقدمة، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي. وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم، أي وعدتُّهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك.
وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضاً بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون.
وجملة: {لا يشركون بي شيئاً} حال من ضمير الرفع في {يعبدونني} تقييداً للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره. وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفاً من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد.
وجملة: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال.
والإشارة في قوله: {بعد ذلك} إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} والمعبر عنه في أول الآيات بقوله: {وعد الله الذين آمنوا}، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق.
وصيغة الحصر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل.
ووصف الفاسقين له رشيق الموقع، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}
عطف على جملة: {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} [النور: 55] لما فيها من معنى الأمر بترك الشرك، فكأنه قيل: اعبدوني ولا تشركوا وأقيموا الصلاة، لأن الخبر إذا كان يتضمن معنى الأمر كان في قوة فعل الأمر حتى أنه قد يجزم جوابه كما في قوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله} إلى قوله: {يغفرْ لكم ذنوبكم} [الصفّ: 11 12] بجزم {يغفرْ} لأن قوله: {تؤمنون} في قوة أن يقول: آمنوا بالله.
والخطاب موجه للذين آمنوا خاصة بعد أن كان موجهاً لأمة الدعوة على حد قوله تعالى: {يوسفُ أعرِضْ عن هذا واستغفري لذنبك} [يوسف: 29]، فالطاعة المأمور بها هنا غير الطاعة التي في قوله: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا} [النور: 54] الخ لأن تلك دعوة للمعرضين وهذه ازدياد للمؤمنين.
وقد جمعت هذه الآية جميع الأعمال الصالحات فأهمها بالتصريح وسائرها بعموم حذف المتعلق بقوله: {وأطيعوا الرسول} أي في كل ما يأمركم وينهاكم.
ورتب على ذلك رجاء حصول الرحمة لهم، أي في الدنيا بتحقيق الوعد الذي من رحمته الأمن وفي الآخرة بالدرجات العلى. والكلام على (لعل) تقدم في غير موضع في سورة البقرة.
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}
استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} [النور: 55]، فقد كان المشركون يومئذٍ لم يزالوا في قوة وكثرة، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقىً بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله: {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض} تطميناً وتسلية.
والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين.
والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر.
وقراءة الجمهور: {تحسبن} بتاء الخطاب. وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار {الذين كفروا} فاعلّ {يحسبن} فيبقى ل {يحسبن} مفعول واحد هو {معجزين}. فقال أبو حاتم والنحاس والفراء: هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين. وهذا القول جرأة على قراءة متواترة. وقال الزجاج: المفعول الأول محذوف تقديره: أنفسهم، وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام. وفي «الكشاف» أن {في الأرض} هو المفعول الثاني، أي لا يحسبوا ناساً معجزين في الأرض (يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها) قال: «وهذا معنى قوي جيّد».
والمعجز: الذي يُعجز غيره، أي يجعله عاجزاً عن غلبه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين} في سورة الأنعام (134). وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} في سورة الحج (51).
والأرض: هي أرض الدنيا، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر. وفي الأرض} متعلق ب {بمعجزين} على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما علمت.
وقوله: {ومأواهم النار} أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}
استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة. وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقُطع عند قوله {وموعظة للمتقين} [النور: 34] كما تقدم.
وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} [النور: 27] وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله: {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم} إلى قوله: {ومن بعد صلاة العشاء} تشريعاً لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة، فصار المفهوم مخصصاً لعموم النهي في قوله: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا}. وأيضاً هذا الأمر مخصص بعموم {ما ملكت أيمانهن} [النور: 31] وعموم {الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} من قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} [النور: 31] الخ المتقدم آنفاً.
وقد روي أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها. فنزلت الآية، (يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم). ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخاً لعموم {أو ما ملكت أيمانهن} وعموم {أو الطفل} لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية. والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار نسخاً.
والأمر في قوله: {ليستئذنكم} للوجوب عند الجمهور. وقال أبو قلابة: هو ندب.
فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خَول وتَبَع. وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} [النور: 31]. وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس. وتقدم آنفاً عند قوله: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31].
كانت هذه الأوقات أوقاتاً يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى: {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا.
ووُجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى: لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم.
وقوله: {الذين ملكت أيمانكم} يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث.
وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} إلى قوله: {على عورات النساء} [النور: 31] فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية.
وتعيين الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب، وهي أوقات نوم وكانوا غالباً ينامون مجردين من الثياب اجتزاء بالغطاء، وقد سماها الله تعالى: {عورات}.
وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر. وانتصب {ثلاث مرات} على أنه مفعول مطلق ل {يستأذنكم} لأن مرات في قوة استئذانات.
وقوله: {من قبل صلاة الفجر} ظرف مستقر في محل نصب على البدل من {ثلاث مرات} بدل مفصل من مجمل. وحرف (من) مزيد للتأكيد.
وعطف عليه {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء}. والظهيرة: وقت الظهر وهو انتصاف النهار.
وقوله: {ثلاث عورات} قرأه الجمهور مرفوعاً على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هي ثلاث عورات، أي أوقات ثلاث عورات. وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه.
و {لكم} متعلق ب {عورات}. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من {ثلاث مرات}.
والعورة في الأصل: الخلل والنقص. وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر، قال لبيد:
وأجَنَّ عورات الثغور ظلامها ***
وقال تعالى: {يقولون إنّ بيوتنا عورة} [الأحزاب: 13] ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة. وفي قوله: {ثلاث عورات لكم} نص على علة إيجاب الاستئذان فيها.
وقوله: {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} تصريح بمفهوم الظروف في قوله: {من قبل صلاة الفجر} وما عطف عليه، أي بعد تلك الأوقات المحددة. فصلاة الفجر حد معلوم، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرفَ الناس في التهيؤ إلى النوم.
ولك أن تجعل (بعدَ) بمعنى (دون)، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23]، وضمير {بعدهن} عائد إلى ثلاث عورات، أي بعد تلك الأوقات.
ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله: {ليس عليكم} بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله: {ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم} فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامعَ إليه قوله: {ثلاث عورات لكم}.
وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء. وقد أشار إلى العلة قوله تعالى: {طوافون عليكم بعضكم على بعض}.
وقوله: {طوافون عليكم} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم طوافون، يعود على {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم}.
والكلام استئناف بياني، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهم طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجاً عليهم وعليكم.
وفي الكلام اكتفاء. تقديره: وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله: {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} وقوله عقبه: {بعضكم على بعض}.
و {بعضكم على بعض} جملة مستأنفة أيضاً. ويجعل {بعضكم} مبتدأ، ويتعلق قوله: {على بعض} بحبر محذوف تقديره: طواف على بعض. وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة {طوافون} عليه. والتقدير: بعضكم طواف على بعض. ولا يحسن من جعل {بعضكم على بعض} بدلاً من الواو في {طوافون عليكم} لأنه عائد إلى {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم} فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير.
وقوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبّه إلا بنفسه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143).
والتعريف في {الآيات} تعريف الجنس. والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى، فالآيات التي أولها {يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم} جاءت بياناً لآيات {يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} [النور: 27].
وجملة: {والله عليم حكيم} معترضة. والمعنى: يبين الله لكم الآيات بياناً كاملاً وهو عليم حكيم، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة.
ووقع قوله: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} في موقع التصريح بمفهوم الصفة في قوله: {والذين لم يبلغوا الحلم} ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} [النور: 27] الآيات، فالمراد بقوله: {الذين من قبلهم} فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالاً قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال.
وقوله: {كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان. وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تفنناً ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله: {كذلك}. وتأكيد معنى الوصفين «العليم الحكيم». أي هي آيات من لدن مَن هذه صفاته ومَن تلك صفات بيانه.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}
هذه الآية مخصّصة لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن} إلى قوله: {على عورات النساء} [النور: 31].
ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساءُ المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن. فعن ابن مسعود وابن عباس: الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار. وقال السدي: يجوز لهن وضع الخمار أيضاً.
والقواعد: جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل: حامل وحائض لأنه وصف نُقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض. استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيضُ من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصّاً بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله: {اللاتي لا يرجون نكاحاً}، وذلك من الكبر.
وقوله: {اللاتي لا يرجون نكاحاً} وصف كاشف ل {القواعد} وليس قيداً.
واقترن الخبر بالفاء في قوله {فليس عليهن جناح} لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. ولا حاجة إلى ادعاء أن (ال) فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين. و{أن يضعن} متعلق ب {جناح} بتقدير (في).
والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص.
والوضع: إناطة شيء على شيء، وأصله أن يعدى بحرف (على) وقد يعدى بحرف (عن) إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل (ترغبون) في قوله تعالى: {وترغبون أن تنكحوهن} في سورة النساء (127)، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب. وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن. فلما كان في الأمر بضرب الخُمُر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة على النساء المأمورات اقتضاها سد الذريعة، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة.
ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله: {وأن يستعففن خير لهن}.
والاستعفاف: التعفف، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو {غير متبرجات بزينة} أي وضعاً لا يقارنه تبرج بزينة.
والتبرج: التكشف. والباء في {بزينة} للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهاراً لزينة كانت مستورة. والمراد: إظهار ما عادة المؤمنات ستره. قال تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33]، فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن عيوبها بالنظر في محاسن زينتها.
فالتبرج بالزينة: التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة، قال بشار:
وإذا خرجتتِ تقنَّعي *** بالحُمْر إن الحسن أحمر
وسألت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمايم (أي حقاق من فضة توضع فيها تمايم ومعاذات تعلقها المرأة) والقرطين والخَلخَال وخاتم الذهب ورقاق الثياب فقالت: «أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرَّماً». فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص (غير عربية). وفي «الموطإ»: «دخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصة خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً» أي شقته لئلا تختمر به فيما بعد.
وقيل: إن المعنيَّ بقوله: {غير متبرجات بزينة} غير منكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها، فيؤول المعنى، إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، ويكون تأكيداً لما تقدم في قوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} [النور: 31] أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعاً مجرداً عن قصد ترغيب فيهن.
وجملة: {والله سميع عليم} مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعاً، فوصف «السميع» تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسهن من المقاصد، ووصف «العليم» تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
{لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ}.
اختلف في أن قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} الخ منفصل عن قوله {ولا على أنفسكم} وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستيذان، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد.
فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان. وقال ابن عطية: إنه ظاهر الآية. وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة، ولأن في قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم} إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض، فتكون هذه الآية نفياً للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم. فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو. ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ. ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجاً وإتماماً لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.
وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية.
والجملة: على كلا الوجهين مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
{وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}.
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم.
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم. وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر.
ولا نطيل بها.
وأعيد حرف (لا) مع المعطوف على المنفي قبله تأكيداً لمعنى النفي وهو استعمال كثير.
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضراً دون المختزن.
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل: ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره، فالخطاب للأمة.
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها.
وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم. قيل: لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم، ولا يصح، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتاً كما في خبر عبد الله بن عمر. فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك».
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالباً.
و (ما) في قوله: {ما ملكْتُم مفاتحه} موصولة صادقة على المكان أو الطعام، عطف على {بيوت خالاتكم} لا على {أخوالكم} ولهذا جيء ب (ما) الغالب استعمالها في غير العاقل.
ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط. والمفاتح: جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح. ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح.
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء: إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده.
و (صديق) هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفاً أو خبراً في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى: {فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100، 101] ومثله الخليط والقطين.
والصديق: فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة. وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء. وسئل بعض الحكماء: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
وأعيدت جملة: {ليس عليكم جُناح} تأكيداً للأولى في قوله: {ولا على أنفسكم} إذ الجناح والحرج كالمترادفين.
وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم}، ولأجل كونها تأكيداً فصلت بلا عطف.
والجميع: المجتمعون على أمر.
والأشتات: الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه، قال تعالى: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} [الحشر: 14].
والأشتات: جمع شَتّ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق. وأما شتّى فجمع شتيت.
والمعنى: لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله؛ أو أن يأكل وحده متفرقاً عن مشارك، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت. أو أن يأكل وحده.
وتقدم قراءة {بيوت} بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} في هذه السورة (27).
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: 27] لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.
ومعنى {فسلموا على أنفسكم} فليسلم بعضكم على بعض، كقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29].
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب. وأما ما ورد في التشهد من قول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضاً عما كانوا يقولون: السلام على الله، السلام على النبي، السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان وفلان. فقال لهم رسول الله: «إن الله هو السلام، إبطالاً لقولهم السلام على الله» ثم قال لهم: «قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض».
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله: {تحية من عند الله مباركة طيبة} ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه.
والتحية: أصلها مصدر حيّاه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفاً وهي قول: حياك الله. وقد تقدم في قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} في سورة النساء (86).
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل (حيّا) مثل قولهم: جزّاه. إذا قال له: جزاك الله خيراً، كما تقدم في فعل {وتسلموا على أهلها} [النور: 27] آنفاً.
وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة:
حيّاككِ ربي فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزَما
وكانت تحية الملوك «عم صباحاً» فجعل الإسلام التحية كلمة «السلام عليكم»، وهي جائية من الحنيفية {قالوا سلاماً قال سلام} [هود: 69] وسماها تحية الإسلام، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفاً.
ولفظ «السلام» يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسالم له فكان الخبر كناية عن التأمين، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئاً من الشر في ذات السالم، والأمان لا يجامع شيئاً من الشر يأتي من قِبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهداً بالأمن يجب الوفاء به. وفي كلمة {عليكم} معنى التمكن، أي السلامة مستقرة عليكم.
ولكون كلمة (السلام) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي.
وانتصب {تحية} على الحال من التسليم الذي يتضمنه {فسلّموا} نظير عود الضمير على المصدر في قوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
والمباركة: المجعولة فيها البركة. والبركة: وفرة الخير. وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية.
والطيِّبة: ذات الطيِّب، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة. ووزن {طيبة} فيعلة مبالغة في الوصف مثل: الفيصل. وتقدم في قوله تعالى: {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} في آل عمران (38) وفي قوله: {وجَرَيْن بِهِمْ بريح طيبة} في سورة يونس (22).
والمعنى أن كلمة «السلام عليكم» تحية خيرٌ من تحية أهل الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10] أي تحيتهم هذا اللفظ.
وجملة {كذلك يبين الله لكم الآيات} تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بياناً لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}
لما جرى الكلام السابق في شأن الاستئذان للدخول عُقب ذلك بحكم الاستئذان للخروج ومفارقة المجامع فاعتُني من ذلك بالواجب منه وهو استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في مفارقة مجلسه أو مفارقة جمععٍ جُمِع عن إذنه لأمر مهم كالشورى والقتال والاجتماع للوعظ ونحو ذلك.
وكان من أعمال المنافقين أن يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفادياً من عمل يشق أو سآمةً من سماع كلام لا يهتبلون به، فنعى الله عليهم فعلهم هذا وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق، بأن أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} [التوبة: 127] ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِوَاذاً} [النور: 63].
فالقصر المستفاد من (إنما) قصر موصوف على صفة. والتعريف في {المؤمنون} تعريف الجنس أو العهد، أي أن جنس المؤمنين أو أن الذين عُرفوا بوصف الإيمان هم الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينصرفوا حتى يستأذنوه. فالخبر هو مجموع الأمور الثلاثة وهو قصر إضافي قصر إفراد، أي لا غيرُ أصحاب هذه الصفة من الذين أظهروا الإيمان ولا يستأذنون الرسول عند إرادة الانصراف، فجعل هذا الوصف علامة مميزة للمؤمنين الأحقاء عن المنافقين يومئذٍ إذ لم يكن في المؤمنين الأحقاء يومئذٍ من ينصرف عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بدون إذنه، فالمقصود: إظهار علامة المؤمنين وتمييزهم عن علامة المنافقين. فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة الذهاب من أركانها، فعلمت أن ليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المؤمنين الأحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبيء صلى الله عليه وسلم أو أذاه، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المؤمنين عن أن يكون تقصيراً في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق كما ورد التحذير من خصال النفاق في أحاديث كثيرة.
وعلمتَ أيضاً أن ليس المقصود من التعريف في {المؤمنون} معنى الكمال لأنه لو كان كذلك لم يحصل قصد التشهير بنفاق المنافقين.
والأمر: الشأن والحال المهم. وتقدم في قوله: {وأولي الأمر منكم} في سورة النساء (59).
والجامع: الذي من شأنه أن يجتمع الناس لأجله للتشاور أو التعلم. والمراد: ما يجتمع المسلمون لأجله حول الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه أو في صلاة الجماعة. وهذا ما يقتضيه (مع) و(على) من قوله: {معه على أمر جامع} لإفادة (مع) معنى المشاركة وإفادة (على) معنى التمكن منه.
ووصف الأمر ب {جامع} على سبيل المجاز العقلي لأنه سبب الجمع. وتقدم في قوله تعالى: {فأجمعوا أمركم} في سورة يونس (71).
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في المنافقين يوم الخندق (وذلك سنة خمس) كان المنافقون يتسللون من جيش الخندق ويعتذرون بأعذار كاذبة.
وجملة: {إن الذين يستأذنونك} إلى آخرها تأكيد لجملة: {إنما المؤمنون} لأن مضمون معنى هذه الجملة هو مضمون معنى جملة: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} الآية. وقد تفنن في نظم الجملة الثانية بتغيير أسلوب الجملة الأولى فجعل مضمون المسند في الأولى مسنداً إليه في الثانية والمسند إليه في الأولى مسنداً في الثانية ومآل الأسلوبين واحد لأن المآل الإخبار بأن هذا هو ذاك على حدِّ: وشعري شعري، تنويهاً بشأن الاستئذان، وليبنى عليها تفريع {فإذا استئذنوك لبعض شأنهم} ليُعلِّم المؤمنين الأعذار الموجبة للاستئذان، أي ليس لهم أن يستأذنوا في الذهاب إلا لشأن مهم من شؤونهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {يستأذنوك} تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب.
وقد خير الله رسوله في الإذن لمن استأذنه من المؤمنين لأنه أعلم بالشأن الذي قضاؤه أرجح من حضور الأمر الجامع لأن مشيئة النبي لا تكون عن هوى ولكن لعذر ومصلحة.
وقوله: {واستغفر لهم الله} مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي لأنه لترجيح حاجته على الإعانة على حاجة الأمة.
وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع. وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام. ومن السنة أن لا يجتمع جماعة إلا أمّروا عليهم أميراً فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جُمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضاً في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية والقضائية والدينية أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان.
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعدَ دَعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم. وقد تقدم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} في سورة الأنفال (24). والمعنى: لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيَّرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضاً، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة. والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دُعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر.
وإضافة {دعاء} إلى {الرسول} من إضافة المصدر إلى فاعله. ويجوز أن تكون إضافة {دعاء} من إضافة المصدر إلى مفعوله والفاعل المقدر ضمير المخاطبين. والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسولَ، فالمعنى نهيهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثّاً على تلقي الجملة بنشاط فهممٍ، فالخطاب للمؤمنين الذين تحدث عنهم بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وقوله: {إن الذين يستأذنونك} [النور: 62] الخ. نُهوا عن أن يدْعوا الرسول عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضاً في اللفظ أو في الهيئة. فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يا محمد، أو يا ابن عبد الله، أو يا ابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبيء الله، أو بكنيته يا أبا القاسم. وأما في الهيئة فبأن لا يدعُوه من وراء الحجرات، وأن لا يُلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات. لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أدب للمسلمين وسدّ لأبواب الأذى عن المنافقين. وإذ كانت الآية تحتمل ألفاظُها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له.
و {بينكم} ظرف إما لغو متعلق ب {تجعلوا}، أو مستقِرّ صفة ل {دعاء}، أي دعاءه في كلامكم. وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلاً كما أشار إليه قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} [التوبة: 120]. فالمعنى. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك.
وهذه الجملة معترضة بين جملة: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] وما تبعها وبين جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً}.
وجملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين. وقد علِمَهم الله وأطلع على تسللهم.
(وقد) لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متستّرين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه عَلمهم، أي أنه أعْلم رسوله بذلك.
ودخول (قد) على المضارع يأتي للتكثير كثيراً لأن (قد) فيه بمنزلة (رب) تستعمل في التكثير، ومنه قوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} [الأحزاب: 18] وقول زهير:
أخو ثقةٍ لا تُهلك الخمرُ مالَه *** ولكنه قد يُهلك المَالَ نائلُه
و{الذين يتسللون} هم المنافقون. والتسلل: الانسلال من صُبرة، أي الخروج منه بخفية خروجاً كأنه سَلّ شيء من شيء. يقال: تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال: تدخل إذا تكلف إدخال نفسه.
واللواذ: مصدر لاَوَذَهُ، إذا لاَذَ به ولاذَ به الآخر. شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضاً فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ.
وانتصب {لواذاً} على الحال لأنه في تأويل اسم الفاعل.
و {منكم} متعلق ب {يتسللون}. وضمير {منكم} خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللّين ملاوذين.
وفرع على ما تضمنته جملة: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم} الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم.
والمخالفة: المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعدّ. وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالفة بحرف (عن) لأنَّه ضُمّن معنى الصدود كما عُدّي ب (إلى) في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} لما ضمن معنى الذهاب. يقال خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تُرِكت تعديته بحرف جر لأفاد أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.
وضمير {عن أمره} عائد إلى الله تعالى. والأمر هو ما تضمنه قوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمرَ بضده فكأنه قال: اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر. وهذا كقول ابن أبي ربيعة:
فقلْنَ لها سراً فديناككِ لا يرُحْ *** صحيحاً وإن لم تقتليه فألمم
فجعل قولهن: «لا يَرح صحيحاً» وهو نهي في معنى: اقتليه، فبنى عليه قوله: «وإن لَم تَقتليه فألمم».
والحذر: تجنب الشيء المخيف. والفتنة: اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} في البقرة (191). والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
ث تذييل لما تقدم في هذه السورة كلها. وافتتاحه بحرف التنبيه إيذان بانتهاء الكلام وتنبيه للناس ليعُوا ما يرد بعد حرف التنبيه، وهو أن الله مالك ما في السماوات والأرض، فهو يجازي عباده بما يستحقون وهو عالم بما يفعلون.
ومعنى: {ما أنتم عليه} الأحوال الملابسين لها من خير وشر، فحرف الاستعلاء مستعار للتمكن.
وذكَّرهم بالمعاد إذ كان المشركون والمنافقون منكرينه.
وقوله: {فينبئهم بما عملوا} كناية عن الجزاء لأن إعلامهم بأعمالهم لو لم يكن كناية عن الجزاء لما كانت له جدوى.
وقوله: {والله بكل شيء عليم} تذييل لجملة: {قد يعلم ما أنتم عليه} لأنه أعم منه.
وفي هذه الآية لطيفة الاطلاع على أحوالهم لأنهم كانوا يسترون نفاقهم.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة:
لخولة أطلال ببُرقة ثِهمد ***
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس:
قِفَا نَبْكِ البيت ***
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل (إن) و(قد) والهمزة و(هل). ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلَّزة:
آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماءُ ***
وقول النَّابغَة:
كتمتُكَ ليلا بالجمومين ساهراً *** وهَمَّيْن هَمّاً مستكنّاً وظاهرا
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال.
وتبارك: تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته. وتقدم في قوله تعالى: {تبارك الله رب العالمين} في سورة الأعراف (54).
والبركة: الخير، وتقدم عند قوله تعالى: {اهبط بسلام مِنَّا وبركاتٍ عليك} في سورة هود (48) وعند قوله: {تحية من عند الله مباركة طيبة} في سورة النور (61).
وظاهر قوله: {تبارك الذي نزل الفرقان} أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرايب صدرت، كقول امرئ القيس:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي *** فيا عجباً من كوْرها المتحمَّلِ
وإنما يتعجب من إقدامه على أن جَعَل كور المطية يحمله هو بعد عَقرها. ومنه قول الفِند الزِّمَّاني:
أيا طعنةَ ما شيخٍ *** كبيرٍ يفن بَالِي
يريد طعنة طعنها قِرْنَه. ***
والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل: تباركتُ.
والموصول يومئ إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله: {ليكون للعالمين نذيراً}. فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضاً كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام.
والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنَها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكُنه الذي ينكرونه.
والفرقان: القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قوله: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} [الأنفال: 41] وقوله: {يَجعَلْ لكم فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وجعل علماً بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيَّن من دلائل الحق ودحض الباطل. وقد تقدم في قوله تعالى: {وأنزل الفرقان} في سورة آل عمران (4).
وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل.
ووصفُ النبي ب {عبده} تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله:
{وقالوا مالِ هذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] الآية.
والمراد ب {للعالمين} جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قُصدوا بالتكليف. وقد مضى الكلام على لفظ {العالمين} في سورة الفاتحة (2).
والنذير: المخبِر بسوء يقع، وهو فَعيل بمعنى مُفْعِل بصيغة اسم الفاعل مثل الحَكيم. والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير كما في قوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ: 28] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. فكان مقتضياً لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة. وسيجيء: {وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً} في هذه السورة (56).
وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربعُ بطريق تعريف الموصوليَّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصافُ الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على مَن عُرِف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هُوَ خالق كل شيء كما في قوله: {قل مَن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله} الآياتتِ من سورة المؤمنين (86، 87)، ولكنهم يثبتون لله ولَداً وشريكاً في الملك.
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما مَعهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلَّمَين كالدليل أوّلاً والنتيجة آخراً، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولَداً ولا أن يتخذ شريكاً لأن ملكه العظيم يقتضي غِنَاهُ المطلقَ فيقتضي أن يكون اتخاذه ولداً وشريكاً عبثاً إذ لا غاية له، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس.
فقوله: الذي له ملك السموات والأرض} بدل مِن {الذي نزّل الفرقان} [الفرقان: 1].
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيَّة.
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها.
والخلق: الإيجاد، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها. وفُرع على {خلق كل شيء فقدره تقديراً} لأنه دليل على إتقان الخلق إتقاناً يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال.
ومعنى {قدّره} جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدراً، أي محكماً مضبوطاً صالحاً لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل. وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله: {إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر} [القمر: 49]. وقد تقدم في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أوديةً بقَدَرِها} في سورة الرعد (17). وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله: تقديراً} للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير.
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}
استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملة: {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 2] وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقوله: {وخلق كل شيء} [الفرقان: 2] الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئاً للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال.
فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهةً أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر.
وبين قوله: {ولم يتخذ ولداً} [الفرقان: 2] وقوله: {واتخذوا من دونه آلهة} محسن الطباق.
وضمير: {اتخذوا} عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله: {ولم يكن له شريك في الملك} [الفرقان: 2].
وجملة: {لا يخلقون شيئاً} مقابلة جملة {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 2].
وجملة: {وهم يخلقون} مقابلة جملة: {ولم يتخذ ولداً} [الفرقان: 2] لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولداً منه فلا يكون مخلوقاً.
وجملة: {ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً} مقابلة جملة: {ولم يكن له شريك في الملك} [الفرقان: 2] لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف.
وضمير: {لأنفسهم} يجوز أن يعود إلى {آلهة} أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم. ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {واتخذوا} أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم.
واعلم أن {ضراً ولا نفعاً} هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل: لا يملكون التصرف بحال من الأحوال. وهذا نظير أن يقال: شرقاً وغرباً، وليلاً ونهاراً. وبذلك يندفع ما يشكل في بادئ الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضاً لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنّن.
والمجرور في {لأنفسهم} متعلق ب {يملكون}.
والضَّر بفتح الضاد مصدر ضرَّه، إذا أصابه بمكروه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله} في سورة يونس (49).
وجملة: {ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً} مقابلة جملة {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2] لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات. وأما قوله: {ولا نشوراً} فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشوراً يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقق ماهيته.
وأما نحو قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره ***
يريد لا منار فيه. وقول ابن أحمر:
لا تُفزع الأرنبَ أهوالُها *** ولا ترى الضبّ بها ينجحر
أراد: أنها لا أرنب فيها ولا ضب. فهو من قبيل التلميح.
ذُكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماماً بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته.
واعلم أن معنى: {وهم يخلقون} وهم يُصنعون، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوتة فقد قومتها الصنعة، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم؛ إما اعتباراً بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ضُ الناس يخلق ثم لا يفري
فأطلق الخلق على النحت؛ إما على سبيل المجاز المرسل، وإما مشاكلة لقوله: {لا يخلقون شيئاً}.
والمِلك في قوله: {لا يملكون} مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم} في سورة العقود (17)، وقوله فيها: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} [المائدة: 76]، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم. فقوله هنا: {لأنفسهم} متعلق ب {يملكون}، واللام فيه لام التعليل، أي لا يملكون لأجل أنفسهم، أي لفائدتها.
ثم إن المراد ب {أنفسهم} يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير {يملكون}، أي لا يملك كل واحد لنفسه ضراً ولا نفعاً، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرَع بأنه عاجز عن ضر نفسه.
وتنكير {موتاً وحياة} في سياق النفي للعموم، أي موت أحد من الناس ولا حياته.
والنشور: الإحياء بعد الموت. وأصله نشر الشيء المطوي.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)}
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة.
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفاً من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم.
وهذه الجملة مقابلة جملة: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة. وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة: {واتخذوا من دونه آلهة} [الفرقان: 3] اهتماماً بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفاً.
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من (إنْ) النافية و(إلاّ) قصر قلب؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله.
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد. فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه. وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال: بنو أسد قتلوا حجراً.
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن.
والضمير المرفوع في {افتراه} عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله: {على عبده} [الفرقان: 1].
والإفك: الكذب. وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين جاءو بالإفك} في سورة النور (11). والإفتراء: اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود (103).
{وأعانه عليه} أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود. روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس: أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم: عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي «سيرة ابن هشام» أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئاً من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سراً ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل.
والقصر المستفاد من قوله: {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه.
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلماً وزوراً لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.
و {جاءو} مستعمل في معنى (عملوا) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية.
والظلم: الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} [ص: 24] وتقدم في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} في سورة البقرة (114). والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.
والزور: الكذب، وأحسن ما قيل في الزور: إنه الكذب المحسَّن المموَّه بحيث يشتبه بالصدق.
وكون قولهم ذلك كذباً ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}
الضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن هذا القول من آثار كفرهم.
الأساطير: جمع أسطورة بضم الهمزة كالأُحدوثة والأحاديث، والأُغلوطة والأغاليط، وهي القصة المسطورة. وقد تقدم معناها مفصلاً عند قوله: {حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} في سورة الأنعام (25). وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال: إن القرآن قصص من قصص الماضين. وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار فكان يقول لقريش: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً من محمد فهلُمَّ أحدثكم؛ وكان يقول في القرآن: هو أساطير الأولين. قال ابن عباس: كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث. وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف.
وجملة: {اكتتبها} نعت أو حال ل {أساطير الأولين}.
والاكتتاب: افتعال من الكتابة، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل، أي حصوله من فاعل الفعل، فيفيد قوله: {اكتتبها} أنه تكلف أن يكتبها. ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميّاً كان إسناد الكتابة إليه إسناداً مجازياً فيؤول المعنى: أنه سأل من يكتبها له، أي ينقلها، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسناداً مجازياً لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أميّ لا يكتب، ومن قوله: {فهي تملى عليه} لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه. فالمعنى: استنسخها. وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه، ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يُقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أميّ فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيَّأ لقبول ذلك أنه كتبت له، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن.
والإملاء: هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها. وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر إلى أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها.
والبُكْرة: أول النهار. والأصيل: آخر المساء، وتقدم في قوله: {بالغدوّ والآصال} في آخر الأعراف (205)، أي تملى عليه طرفي النهار. وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير.
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}
لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك، وإنه أساطير الأولين، بأنه أنزله الله على رسوله.
وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان.
فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم، أي الرسول، عالماً بذلك. وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه. وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكاً أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر، فيُوقِنُوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله، وليعلموا براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه.
والتعريف في {السر} تعريف الجنس يستغرق كل سر، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلماً وزوراً منهم، وبهذا يعلم موقع جملة: {إنه كان غفوراً رحيماً} ترغيباً لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حَق عليهم الغضب والنقمة.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}
{وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}.
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام.
والضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصفة مراعىً كما تقدم.
وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثارُ الاستفهام.
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولاً بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها. وتركيب {ما لهذا} ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له، فاسم الاستفهام مبتدأ و{لهذا} خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله.
فجملة: {يأكل الطعام} جملة حال. وقولهم: {لهذا الرسول} أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال.
والإشارة إلى حاضر في الذهن، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول.
وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعاً منهم إلى إبطال كونه رسولاً لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20]. ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً}. وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه.
و (لولا) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه.
وانتصب (فيكونَ) على جواب التحضيض.
و (أو) للتخيير في دلائل الرسالة في وهَمهم.
ومعنى {يلقى إليه كنز} أي ينزل إليه كنز من السماء، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم. والإلقاء: الرمي، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء.
والكنز تقدم في قوله تعالى: {أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} في سورة هود (12). وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة.
وقرأ الجمهور: {يأكل منها} بياء الغائب، والضمير المستتر عائد إلى {هذا الرسول}.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {نأكل منها} بنون الجماعة. والمعنى: ليتيقنوا أن ثمرها حقيقةٌ لا سحر.
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونُبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج، والنضر بن الحارث، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها.
قال ابن عطية: وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك. وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء.
وكتبت لام {مال هذا} منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه، كما كتب {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} في سورة الكهف (49)، وكما كتب: {مال الذين كفروا قبلك مهطعين} في سورة سأل سائل (36)، وكما كتب: {فمال هؤلاء القوم} في سورة النساء (78). ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلاً بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتّاب المصحف أثارة من ذلك، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم. وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسيناً للرسم وتسهيلاً لتبادر المعنى، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح. وأكثر ما وصلوا منه هو الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل (ال).
{وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}.
الظالمون: هم المشركون، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيهاً على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم، وصلى الله عليه وسلم.
ذكر الماوردي: أن قائل: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} هو عبد الله بن الزِّبَعْرَى، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به.
والمسحور: الذي أصابه السحر، وهو يورث اختلال العقل عندهم، أي ما تتبعون إلا رجلاً أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء.
وذِكْر {رجلاً} هنا لتمهيد استحالة كونه رسولاً لأنه رجل من الناس. وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور.
وقوله: {انظر} مستعار لمعنى العلم تشبيهاً للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه.
و (كيف) اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام.
وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم، ففعل {ضلوا} مستعمل في معنييه المجازيين هما: معنى عدم التوفق في الحجة، ومعنى عدم الوصول للدين الحق، وهو هنا تعجيب من خَطَلِهم وإعراضٌ عن مجاوبتهم.
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}
ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها.
فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك}.
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم {أو تكون له جنة} [الفرقان: 8] الخ، أي إن شاء جعل لك خيراً من الذي اقترحوه، أي أفضل منه، أي إن شاء عجله لك في الدنيا، فالإشارة إلى المذكور من قولهم، فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتتٍ في الدنيا وقصوراً فيها، أي خيراً من الذي اقترحوه دليلاً على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور. وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون (إن) الشرطية واقعة موقع (لو)، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعداً من الله لرسوله.
واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك. فموقع {إن شاء} اعتراض.
وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم {ويجعلُ لك قصوراً} برفع {يجعلُ} على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفاً على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة، وهذا المحمل أشد تبكيتاً للمشركين وقطعاً لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده: {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} [الفرقان: 11]، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين.
والقصور: المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله: {تتخذون من سهولها قصوراً} في سورة الأعراف (74)، وقوله: {وقصر مشيد} في سورة الحج (45).
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)}
{بل} للإضراب، فيجوز أن يكون إضرابَ انتقال من ذكر ضلالهم في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله: {إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} [الفرقان: 10] كما تقدم.
ويجوز أن يكون اضرابَ إبطال لما تضمنه قوله: {إن شاء جعل لك خيراً من ذلك على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدّقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تُقنعهم الحجج.
والساعة: اسم غلب على عالم الخلود، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث. وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيباً.
وجملة: وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً} معترضة بالوعيد لهم، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم، فهو تذييل. ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين.
والسعير: الالتهاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعور، أي زيد فيها الوقود، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب، وتقدم في قوله تعالى: {كلما خَبَتْ زِدْناهُم سعيراً} في سورة الإسراء (97). وقد يطلق علَماً بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف، أي ذات سعير.
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير {رأتهم} بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.
وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظاً وزفيراً من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى: {رأتهم} رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازاً عقلياً.
والتغيظ: شدة الغيظ. والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة آل عمران (119). فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازاً في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.
والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل: {سمعوا} فهو تشبيه بليغ.
والزفير: امتداد النفَس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتاً كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضاً. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.
وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء " رواه في «الموطأ»: زاد في رواية مسلم: " فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سَمُومها "
وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في الكناية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.
ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرَّنين دعوا هنالك ثبوراً} فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله: {دعوا هنالك ثبوراً}، وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله: {مكاناً ضيقاً} وقوله: {مقرنين} تفنناً في أسلوب الكلام.
والإلقاء: الرمي. وهو هنا كناية عن الإهانة.
وانتصب {مكاناً} على نزع الخافض، أي في مكان ضيّق.
وقرأ الجمهور {ضيقاً} بتشديد الياء، وقرأه ابن كثير {ضيْقاً} بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل: ميّت وميْت، لأن الضيّق بالتشديد صيغة تمكُّن الوصف من الموصوف، والضيْق بالسكون وصف بالمصدر.
و {مقرنين} حال من ضمير {ألقوا} أي مقرَّناً بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يُقرن عدد منهم في وثاق واحد، كما قال تعالى:
{وآخرين مقرنين في الأصفاد} [ص: 38]. والمقرَّن: المقرون، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن.
والدعاء: النداء بأعلى الصوت، والثبور: الهلاك، أي نادوا: يا ثبورنا، أو واثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادى من يُطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فظيع العذاب.
وجملة: {لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً} إلى آخرها مقولة لقول محذوف، أي يقال لهم، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادَى، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر.
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}
الأمر بالقول يقتضي مخاطباً مقولاً له ذلك: فيجوز أن يقصد: قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق: «أذلك خير أم الجنة»؟ فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذٍ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيراً. ويجوز أن يقصد: قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين، والاستفهام حينئذٍ مستعمل في التلميح والتلطف. وهذا كقوله: {أذلك خيرٌ نُزُلاً أم شجرةُ الزقوم} في سورة الصافات (62).
والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.
و {خير} اسم تفضيل، وأصله (أخير) بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين. وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.
ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، وعلى المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده {المتقون} من العموم للمخاطبين ومن يجيء بعدهم.
وجملة: {كانت لهم جزاء ومصيراً} تذييل لجملة: {جنة الخلد التي وعد المتقون} لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير {جزاء ومصيراً} مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} [الكهف: 31] وقوله: {بئس الشراب وساءت مرتفقاً} في سورة الكهف (31 29).
وجملة: لهم فيها ما يشاؤون}، حال من {جنة الخلد} أو صفة ثانية. وجملة: {كان على ربك وعداً مسئولاً} حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير: وعداً لهم.
والضمير المستتر في: {كان على ربك وعداً} عائد إما إلى الوعد المفهوم من قوله: {التي وعد المتقون}، أي كان الوعد وعداً مسؤولاً وأخبر عن الوعد ب {وعداً} وهو عينه ليبنى عليه {مسئولاً}.
ويجوز أن يعود الضمير إلى {ما يشاءون} والإخبار عنه ب {وعداً} من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
ويتعلق: {على ربك} ب {وعداً} لتضمين {وعداً} معنى (حقّاً) لإفادة أنه {وعداً} لا يخلف كقوله تعالى {وعداً علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104].
والمسؤول: الذي يسأله مستحقه ويطالب به، أي حقّاً للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل. وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول: ما أتيت إلا واجباً، إذ لا يتبادر هنا غير هذا المعنى، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}
عُطف {ويوم نحشرهم} إما على جملة: {قل أذلك خير} [الفرقان: 15] إن كان المراد: قل للمشركين، أو عُطف على جملة: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} [الفرقان: 11] على جواز أن المراد: قل للمؤمنين.
وعلى كلا الوجهين فانتصاب {يوم نحشرهم} على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله، تقديره: اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بيّن لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم. وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عُبّادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات.
وعموم الموصول من قوله: {وما يعبدون} شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت (ما) الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم. على أن التغليب هنا لغير العقلاء. والخطاب في {أأنتم أضللتم} للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب.
فجملة: {قالوا سبحانك} جواب عن سؤال الله إياهم: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل}، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به {يوم نحشرهم}.
وقرأ الجمهور: {نحشرهم} بالنون و{يقول} بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب {يحشرهم ويقول} كليهما بالياء. وقرأ ابن عامر {نحشرهم ونقول} كليهما بالنون.
والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد. والمعنى: أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. ففي الكلام حذف دل عليه المذكور.
وأخبر بفعل: {أضللتم} عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل {ضلّوا} عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة. فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو: {أم هم ضلوا السبيل}.
والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام.
وقولهم: {سبحانك} كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع. كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وتقدم في سورة النور (16): {سبحانك هذا بهتان عظيم} واعلم أن ظاهر ضمير نحشرهم} أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} إلى قوله: {مسحوراً} [الفرقان: 7، 8]؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب {الظالمون} والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله: {لمن كذب بالساعة} [الفرقان: 11] من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير {نحشرهم} عائداً إلى {من كذب بالساعة} فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين.
ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها.
والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد.
وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي.
وإسناد القول إلى ما يُعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقاً يسمعه عبدتها، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر.
وإعادة فعل {ضلوا} في قوله: {أم هم ضلوا السبيل} ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم. والمعنى: أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. وحق الفعل أن يعدى ب (عن) ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى (أخطؤوا)، أو على نزع الخافض.
و {سبحانك} تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية.
ومعنى: {ما كان ينبغي لنا} ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن (انبغى) مطاوع (بغاه) إذا طلبه. فالمعنى: لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء، أي عباداً، قال تعالى: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35]. وقد تقدم في قوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} في سورة مريم (92). وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديداً، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي (كان) وجعل المطلوب نفيه خبراً عن (كان) أقوى في النفي ولذلك يسمى جحوداً. والخبر مستعمل في لازم فائدته، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله.
(ومن) في قوله: {من دونك} للابتداء لأن أصل (دون) أنه اسم للمكان، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه (دون) نحو: جلست دون، أي دون مكانه، فموقع (من) هنا موقع الحال من {أولياء}. وأصلها صفة ل {أولياء} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً. والمعنى: لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية.
وعن ابن جني: أن (من) هنا زائدة. وأجاز زيادة (من) في المفعول.
و (من) في قوله: {من أولياء} مزيدة لتأكيد عموم النفي، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي.
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا: الوليّ التابع كما في قوله: {فتكون للشيطان ولياً} في سورة مريم (45)، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا.
وقرأ الجمهور {نتخذ} بالبناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر {نتخذ} بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك. فموقع {من دونك} موقع الحال من ضمير {نتخذ}. والمعنى عليه: أنهم يتبرَّؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم.
والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك، أي من يعبدنا دونك.
والاستدراك الذي أفاده (لكن) ناشئ عن التبريء من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين. والمقصود بالاستدراك ما بعد (حتى) وهو {نسوا الذكر}. وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قَابَلوا رحمةَ الله ونعمتَه عليهم وعلى آبائهم بالكفران، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضباً عليهم.
وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجَوْد في أرضضٍ سبخةٍ قال تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82].
والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر، أي القرآن، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجرّ لهم من آبائهم الذين سنّوا لهم عبادة الأصنام. ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم
وبهذا يظهر أن ضمير {نسوا} وضمير {كانوا} عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر.
والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة. وتقدم في قوله تعالى: {وتنسون ما تشركون} في سورة الأنعام (41).
والذكر: القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق، وقد تقدم في قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} في سورة الحجر (6).
والبور: جمع بائر كالعُوذ جمع عائذ، والبائر: هو الذي أصابه البوار، أي الهلاك. وتقدم في قوله تعالى: {وأحلوا قومهم دار البوار} [إبراهيم: 28] أي الموت. وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى: {يُهلكون أنفسهم} [التوبة: 42]، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون. وقيل: البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر.
واجتلاب فعل (كان) وبناء {بوراً} على {قوماً} دون أن يقال: حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه (كان) من تمكن معنى الخبر، وما يقتضيه (قوماً) من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)}
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً}.
الفاء فصيحة، أي إفصاح عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها، وهو إفصاح رائع وزاده الالتفات في قوله: {كذبوكم}.
وفي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام. والتقدير: إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي إن قلتم ذلك فقد جئنا خراسان. وفي حذف فعل القول في هذه الآية استحضار لصورة المقام كأنه مشاهد غير محكي وكأن السامع آخر الآية قد سمع لهذه المحاورة مباشرة دون حكاية فقرع سمعه شهادة الأصنام عليهم ثم قرع سمعه توجه خطاب التكذيب إلى المشهود عليهم، وهو تفنن بديع في الحكاية يعتمد على تخييل المحكي واقعاً، ومنه قوله تعالى: {يوم يُسْحَبُون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} [القمر: 48]. فجملة {فقد كذبوكم} إلخ مستأنفة ابتدائية هو إقبال على خطاب الحاضرين وهو ضرب من الالتفات مثل قوله تعالى: {واستغفري لذنبك} بعد قوله: {يوسف أعرض عن هذا} [يوسف: 29].
والباء في قوله: {بما تقولون} يجوز أن تكون بمعنى (في) للظرفية المجازية، أي كذبوكم تكذيباً واقعاً فيما تقولون، ويجوز أن تكون للسببية، أي كذبوكم بسبب ما تقولون.
و (ما) موصولة. والذي قالوه هو ما يستفاد من السؤال والجواب وهو أنهم قالوا إنهم دعوهم إلى أن يعبدوهم.
وفرع على الإعلان بتكذيبهم إياهم تأييسُهم من الانتفاع بهم في ذلك الموقف إذ بين لهم أنهم لا يستطيعون صرفاً، أي صرف ضر عنهم، ولا نصراً، أي إلحاق ضر بمن يغلبهم. ووجه التفريع ما دل عليه قولهم {سبحانك} [الفرقان: 18] الذي يقتضي أنهم في موقف العبودية والخضوع.
وقرأ الجمهور: {يستطيعون} بياء الغائب، وقرأه حفص بتاء الخطاب على أنه خطاب للمشركين الذين عبدوا الأصنام من دون الله.
{وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}.
تذييل للكلام يشمل عمومه جميع الناس، ويكون خطاب {منكم} لجميع المكلفين. ويفيد ذلك أن المشركين المتحدث عنهم معذبون عذاباً كبيراً: والعذاب الكبير هو عذاب جهنم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق}.
هذا رد على قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] بعد أن رد عليهم قولهم {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} [الفرقان: 8] بقوله: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} [الفرقان: 10]، ولكن لما كان قولهم: {أو يلقى إليه كنز} حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيراً من ذلك في الآخرة.
وأما قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد قالوا: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس. وقد قال موسى {موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم.
وجملة: {ليأكلون الطعام} في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال. والتقدير: وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حاللٍ إلا في حال {إنهم ليأكلون الطعام}. والتوكيد ب (إن) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلاً للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي: إلاّ، وإنّ، واللام، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4]، وقوله: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} [الشعراء: 208].
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية.
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثاً فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك.
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}.
تذييل، فضمير الخطاب في قوله: {بعضكم} يعم جميع الناس بقرينة السياق. وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان.
والإخبار عنه ب {فتنة} مجازي لأنه سبب الفتنة، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، والبعض الآخر المشركين؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة.
وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال: {وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} [هود: 29، 30].
وقال تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بَيْنِنا أليس الله بأعلمَ بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53].
والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام، ولذلك عقب بقوله: {أتصبرون}، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91].
وموقع {وكان ربك بصيراً} موقع الحث على الصبر المأمور به، أي هو عليم بالصابرين، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم.
وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافاً إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن الرب لا يضيع أولياءه كقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 97 99] أي النصر المحقق.
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)}
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب {الذين لا يَرجُون لقاءنا} وعنون عليهم في المقالات السابقة ب {الذين كفروا} [الفرقان: 4] وب {الظالمون} [الفرقان: 8] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم.
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله} في سورة يونس (15).
و {لولا} حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم.
ومعنى: {لا يرجون} لا يظنون ظنّاً قريباً، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً. ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم، ولذلك عقب بقوله: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً} على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل.
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم. والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في «مجالسه» والقالي في «أماليه»:
أَلاَ يَا سَنا برققٍ على قُلَللِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برققٍ علي كريمُ
فإن قوله: من برق، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب.
والاستكبار: مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب.
و {فِي} للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى: {وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون} [الذاريات: 21].
ويجوز أن تكون {في} للتعليل كما في الحديث " دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها " الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم. وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.
والعُتوّ: تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى: {وعَتوا عن أمر ربّهم} في الأعراف (77). وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية.
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)}
استئناف ثان جواب عن مقالتهم، فبعد إبداء التعجيب منها عُقّب بوعيد لهم، فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوءهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار، ففي هذا الاستئناف تلميح وتهكم بهم لأن ابتداءَه مطمع بالاستجابة وآخرَه مؤيس بالوعيد، فالكلام جرى على طريقة الغَيبة لأنه حكاية عن تورّكهم، والمقصود إبلاغه لهم حين يَسمعونه. وانتصب {يوم يرون} على الظرفية لِ {لاَ بُشرى}. وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه. وإعادة {يومئذٍ} تأكيد.
وذِكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله. وانتفاءُ البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن.
و (حجر) بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة فهي كلمة يقولونها عند رؤية ما يُخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة. قال الخليل وأبو عبيدة: كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يَخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له: {حِجْراً محجوراً}، أي حَرام قتلي، وهي عوذة.
و (حجر) مصدر: حجَره، إذا منعه، قال تعالى {وحرث حِجر} [الأنعام: 138]، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل: معاذ الله، وأمّا رفعه في قول الرّاجز:
قالت فيها حيدة وذُعْر *** عَوْذ بربي منكمُ وحُجْر
فهو تصرف فيه، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز. وأمّا رفع (حجر) في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل، وقد جاء في القرآن منصوباً لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى: {وجعل بينهما برزخاً وحِجْراً محجوراً} [الفرقان: 53]، فإنه معطوف على مفعول {جعل} وسننبه عليه قريباً.
و {محجوراً} وصف ل {حجراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل، وذيل ذائل، وشِعْر شاعر.
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}
كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها: «لقد خشِيتُ على نفسي»، فقالت: «والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق». فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم: لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ.
والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل: قَام يفعل، وذَهب يقول، وأقبل، ونحوها. وأصل ذلك ناشئ عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول: وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا.
و {مِن} في قوله: {من عمل} بيانية لإبهام {ما} وتنكير {عمل} للنوعية، والمراد به عمل الخير، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير.
والهباء: كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار، أي فجعلناه كهباء منثور، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق. ونظيره قوله تعالى: {وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً} [الواقعة: 5، 6].
والمنثور: غير المنتظم، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}
استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون، لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة عُلم أن لا حظ لهم في الجنّة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان: مشركون ومؤمنون. فمعنى الكلام: المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم {خير مستقراً وأحسن مقيلاً}.
والخير هنا: تفضيل، وهو تهكم بالمشركين، وكذلك {أحسن}.
والمستقر: مكان الاستقرار.
والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)}
عطف على جملة {يوم يرون الملائكة} [الفرقان: 22]. والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وتأكيد وعيدهم. وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس.
وأعيد لفظ {يَومَ} على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوماً واحداً لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير.
والتشقق: التفتح بين أجزاءٍ ملتئمة، ومنه {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]. ولعله انخراق يحصل في كُوَر تلك العوالم، والذين قالوا: السموات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيّلهم إياها كقباب من معادن صُلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن.
وتشقُّق السماءِ حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال: يوم تفتح أبواب السماء. قال (تعالى): {وفتحت السماء فكانت أبواباً} [النبأ: 19]؛ على أن التشقّق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة:
فانشق عنها عمود الصبح جافلة *** عَدْو النَّحُوص تخاف القَانِصَ اللَّحِما
وحاصل المعنى: أن هنالك انبثاقاً وانتفاقاً يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذنٌ للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب.
والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السموات التي تنشقّ عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة.
وقرأ الجمهور {تشّقق} بتشديد الشين. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين.
والغَمام: السحاب الرقيق. وهو ما يغشى مكان الحساب، قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَل مِن الغَمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر} تقدم في سورة البقرة (210).
والباء في قوله: {بالغمام} قيل بمعنى (عن) أي تشقق عن غمام يحفّ بالملائكة. وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشقّ بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب. وقيل الباء للملابسة، أي تشَّقَّق ملابسة لغمام يظهر حينئذ. وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدَعْ الفهم يذهبْ في ترتيب ذلك كلَّ مذهب ممكن.
وأُكد {نُزِّل الملائكة} بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النُوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال.
وقرأ الجمهور {ونُزِّلَ الملائكةُ} بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع {الملائكة} مبنياً للنائب. وقرأه ابن كثير {ونُنْزِل} بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب {الملائكة}.
وقوله: {الملك يومئذٍ} هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به {يَومَ تشقق السماء بالغمام}، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله: {يَوْم يَرَوْن الملائكة} [الفرقان: 22] وكذلك القول في تكرير {يومئذ}.
و {الحق}: الخالص، كقولك: هذا ذهب حقّاً. وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والمُلك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئاً من التصرف، وفي الحديث: «ثم يقول الله: أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض»
ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين.
وتقديم {على الكافرين} للحصر. وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}
هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية.
والتعريف في {الظالم} يجوز أن يكون للاستغراق. والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله: {يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً}، ويكون قوله: {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} إعلاماً بما لا تخلو عنه من صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضاً على مناوأة الإسلام.
ويجوز أن يكون للعهد المخصوص. والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبِي معيْط وما أغراه به أُبَيّ بن خلف. قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره: كان عقبة بن أبي مَعيط خليلاً لأمية بن خلف، وكان عقبة لا يقدَم من سفر إلا صنع طعاماً ودعا إليه أشرافَ قومه، وكان يُكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدِم من بعض أسفاره فصنع طعاماً ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تَشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه. وكان أُبَيّ بن خلف غائباً فلما قدم أُخبر بقضيته، فقال: صَبَأتَ يا عقبةُ، قال: والله ما صبأتُ ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يَطْعَم، فشهدتُ له فطَعِم، فقال أُبَيّ: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبصق في وجهه، فكفَر عقبة وأخذ في امتثال ما أمره به أبيّ بن خلف، فيكون المراد ب (فلان) الكناية عن أبَيّ بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلّتهم في الشرك ولم يتّبِعُوا سبيل الرسول، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصدّه عن متابعة الإسلام إذا هَمّ به ويثْبِته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه.
والعَضّ: الشدّ بالأسنان على الشيء ليُؤلمه أو ليُمسكه، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته ب {على} لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضّاً شديداً كما في هذه الآية.
والعضّ على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التّشذر، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال، لبيد:
غُلْب تشذّر بالدخول كأنهم *** جن البدي رواسياً أقدامها
ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب. قال تعالى: {فَرَدُّوا أيديهم في أفواههم} [إبراهيم: 9]. ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعَضّ السبابة، وعَضّ اليد.
ويقال: حَرَّق أسنانه وحرّق الأُرَّم (بوزن رُكَّع) الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيظ عضّ الأنامل قال تعالى: {عَضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة [آل عمران: 119]، وكانت كناياتتٍ بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف.
والرّسول: هو المعهود وهو محمد صلى الله عليه وسلم
واتخاذ السبيل: أخذه، وأصل الأخذ: التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى: {واتّخذ سبيله في البحر} [الكهف: 63].
و {مع الرسول} أي متابعاً للرسول كما يتابع المسافر دليلاً يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود. وإنما عُدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال: يا ليتني اتبعتُ الرسول، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مُسايَرة الدليللِ تمثيلاً محتوياً على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل، ومتضمناً تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود، فكان حصول هذه المعاني صائراً بالإطناب إلى إيجاز، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل. وعُلِم أن هذا السبيل سبيلُ نجاح مَن تمناه لأن التمني طلب الأمر المحبوب العزيز المنال.
و {يا ليتني} نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة، كأنه يقول: هذا مقامُك فاحضري، على نحو قوله: {يا حَسْرَتَنا على ما فرطنا فيها} في سورة [الأنعام: 31]. وهذا النداء يزيد المتمني استبعاداً للحصول.
وكذلك قوله: {يا وَيْلَتَا} هو تحسّر بطريق نداء الويل. والويل: سوء الحال، والألف عوض عن ياء المتكلم، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى: {فويل للذين يَكْتُبون الكتاب} في سورة [البقرة: 79]. وعلى {يا وَيْلَتنا} في قوله: {يا ويْلَتَنا مَالِ هَذَا الكتاب} في سورة [الكهف: 49].
وأتبَع التحسّرَ بتمني أن لا يكون {اتّخذ فلاناً خليلاً}.
وجملة {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} بدل من جملة {ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً} بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خُلّة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني.
وجملة {يا ويلتا} معترضة بين جملة {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً} وجملة {ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً}.
و (فلان): اسم يكنّى عمّن لا يُذكر اسمه العلَمُ، كما يُكنّى ب (فلانة) عمّن لا يُراد ذكر اسمها العلم، سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها. قاله ابن السكيت وابن مالك خلافاً لابن السراج وابننِ الحاجب في اشتراط وقوعه في حكايةٍ بالقول، فيعامل (فلانُ) معاملةَ العَلَم المقرون بالنون الزائدة و(فلانة) معاملة العَلَم المقترن بهاء التأنيث، وقد جمعهما قول الشاعر:
ألاَ قاتل اللَّه الوشَاةَ وقولَهم *** فُلانة أضحت خُلة لفلان
أراد نفسه وحبيبته.
وقال المَرار العبسي:
وإذا فلان مات عن أُكرومة *** دَفعوا معاوز فقده بفلان
أراد: إذا مات مَن له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد، وكذلك قول معن بن أوس:
وحتى سألتُ القَرض من كل ذي *** الغنى ورَدّ فلان حاجتي وفلان
وقال أبو زيد في «نوادره»: أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة، أي في أواسط القرن الأول للهجرة:
إن لسعد عندنا ديواناً *** يخزي فلاناً وابنَه فلاناً
والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به، أو لعدم الفائدة لذكره، أو لقصد نوع من له اسمٌ عَلَم. وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حُمِلت على إرادة خصوص عُقبة وأُبَيَ أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صَدّه عن اتّباع الإسلام.
وإنّما تمنّى أن لا يكون اتّخذه خليلاً دون تمنِّي أن يكون عصاه فيما سوّل له قصداً للاشمئزاز من خلّته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها.
وفيه إيماء إلى أن شأن الخُلّة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرءُ خلّته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى {يأيّها الذين آمنوا لا تتَّخِذوا بطانةً من دُونِكم لا يألونكم خبالاً} [آل عمران: 118] فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خُويصّته فإنه سيحمل من يخالّه على ما يسير به لنفسه، وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهُذلي:
فأول راضضٍ سُنة مَن يسيرها *** وهذا عندي هو محمل قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنتُ متّخِذاً خليلاً غيرَ ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلاً " فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة: كان خُلُقُه القرآن. وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارمَ أخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي جعَلَه المخيَّرَ لخلته لو كان مُتّخذاً خليلاً غيرَ الله.
وجملة {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني} تعليلية لتمنِّيه أن لا يكون اتخذ فلاناً خليلاً بأنه قد صدر عن خُلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.
وقوله: {أضلني عن الذكر} معناه سوّل لي الانصراف عن الحق. والضلال: إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقاً غيرَ المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مَسبَعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهُدى (الذي هو إصابة الطريق) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال، ولذلك سموا الدليل الذي يَسلك بالركب الطريقَ المقصود هَادياً.
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملاً هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف {عن} في قوله: {عن الذكر} فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله: {أضلني} مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجَى، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية، فهذه نكت من بلاغة نظْم الآية.
و {الذكر}: هو القرآن، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه.
والمجيء في قوله: {إذ جاءني} مستعمل في إسماعه القرآن فكأنَّ القرآن جاءٍ حلَّ عنده. ومنه قولهم: أتاني نبأ كذا، قال النابغة:
أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتَني *** فإذا حُمل الظالم في قوله: {ويوم يعضّ الظالم على يديه} على معيّن وهو عقبة بن أبي مُعيْط فمعنى مَجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أُبيُّ بن خلف وحمله على عداوته وأذاته، وإذا حُمِل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم، وإمكان استماعهم إياه. وإضلال خِلاّنهم إياهم صرفُ كل واحد خليلَه عن ذلك، وتعاوُن بعضهم على بعض في ذلك.
وقيل: {الذكر}: كلمة الشهادة، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة، فإن كلمة الشهادة لما كانت سببَ النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي، ومُثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل.
و {إذْ} ظرف للزمن الماضي، أي بعد وقتتٍ جاءني فيه الذكر، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال: بعد ما جاءني، أو بعد أن جاءني، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق، ومنه قوله تعالى: {وما كان الله لِيُضِلّ قوماً بعد إذْ هداهم} [التوبة: 115] أي تمكن هديه منهم.
وجملة {وكان الشيطان للإنسان خَذولاً} تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسوّل لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان، أي مجبول على شدة خذله.
والخذل: ترك نصر المستنجِد مع القدرة على نصره، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وإن يَخْذُلْكم فَمَنْ ذَا الذي يَنصرُكُم مِن بَعده} في سورة [آل عمران: 160].
فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول.
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)}
عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله: {لقد أضلّني عن الذكر} [الفرقان: 29] أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومَه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في الشكاية.
والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بأن الرسول توجه إلى ربّه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره، وتأكيده ب {إنّ} للاهتمام به ليكون التشكّي أقوى. والتعبير عن قريش ب {قومي} لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه.
وفعل الاتخاذ إذا قيّد بحالة يفيد شدة اعتناء المتَّخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصداً. فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال: إن قومي هجروا القرآن.
واسم الإشارة في {هذا القرآن} لِتَعظيمه وأن مثله لا يُتّخَذ مهجوراً بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به.
والمهجور: المتروك والمفارَق. والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعِه.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}
هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقِيَه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم. وفيه تنبيه للمشركين ليَعْرِضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال مَن كذّبوا من قوم نوح وعاد وثمود.
والقول في قوله: {وكذلك} تقدم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143]. والعدوّ: اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع.
ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين، أي من جملة المجرمين، فإن الإجرام أعمّ من عداوة الأنبياء وهو أعظمها. وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال: عدوًّا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة (67).
وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممّن هم يومئذ مُعرِضون عنه كما قال النبي: لعلّ الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبدُه وبأنه ينصره على الذين يُصرّون على عداوته لأن قوله: وكفى بربك هادياً ونصيراً} تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر.
والباء في قوله: {بربك} تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل. وأصله: كفى ربُّك في هذه الحالة.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)}
عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نُزّل منجّماً وقالوا: لو كان من عند الله لنَزل كتاباً جملةً واحدة. وضمير {وقال} ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملةً واحدة وإنما كانت وحياً مفرّقاً؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالاً ينطق بها عيسى عليه السلام في الملإ، وكذلك الزبور نَزل قطعاً كثيرة، فالمشركون نسُوا ذلك أو جهلوا فقالوا: هلاّ نزل القرآن على محمد جملةً واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل: إن قائل هذا اليهودُ أو النصارى، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأُمية وحالة الرسل الذين أُنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفاراً تامة قط.
و {نُزّل} هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم: {جملة واحدة}.
وقد جاء قوله: {كذلك لنثبت به فؤادك} ردّاً على طعنهم، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة} وعُدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاماً له بحكمة تنزيله مفرّقاً، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسيرُ عليه.
وقوله: {كذلك} جواب عن قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً} إشارة إلى الإنزال المفهوم من «لو نُزّل عليه القرآن» وهو حالة إنزال القرآن منجَّماً، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجّم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلاً عن الفعل. فالتقدير: أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال المنجَّم. فموقع جملة {كذلك} موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في {لنثبت} متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه {كذَلك}. والتثبيت: جعل الشيء ثابتاً. والثبات: استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى: {كشجرة طيّبة أصلها ثابت} [إبراهيم: 24]. ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى: {لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً} [النساء: 66]، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس. والفؤاد: هنا العقل. وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتاً في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّماً بكلمةٍ جامعة وهي {لنثبت به فؤادك} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل مَا به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نُقوي بتفريقه فؤادك حتى تَعِيَه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يُلقى إليه إذ ألقي إليه شيئاً بعد شيء وجُزءاً عقبَ جزء، وما قاله أيضاً: «أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين» اه، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبّت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره.
وما قاله بعد ذلك: «إن تنزيله مفرّقاً وتحدّيَهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلَّما نزل شيء منها، أدخلُ في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كلّه جملة» اه.
ومنه ما قاله الجدّ الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجّماً على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتُها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجّماً أعون لحفَّاظه على فهمه وتدبره.
وقوله: {ورتلناه ترتيلاً} عطف على قوله {كذلك}، أي أنزلناه منجّماً ورتَّلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة. واتفقت أقوال أيمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثَغر مرتَّل ورَتِل، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان. ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب.
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزّلناه مفرّقاً منسّقاً في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمُل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أُنزلت جملة واحدة، ومفرّقٌ في التأليف بأنه مفصّل واضح. وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فُرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.
ويجوز أن يراد ب {رتّلناه} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتَّلاً، أي بتمهُّل بأن لا يعجِّل في قراءته بأن تُبيّن جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزّمّل (4) في قوله تعالى: {ورتِّل القرآن ترتيلاً}
و {ترتيلاً} مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبيّناً لنوع الترتيل.
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}
لما استقصَى أكثرَ معاذيرهم وتعلّلاتهم وألقَمهم أحجارَ الردّ إلى لَهَوَاتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعمّ ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لتَرّهاتهم.
والمَثَل: المشابه. وفعل الإتيان مجازٌ في أقوالهم والمحاجّةِ به، وتنكير (مَثَل) في سياق النفي للتعميم، أي بكل مَثَل. والمقصود: مثَل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله (تعالى): {وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} [الفرقان: 4]، و{قالوا أساطير الأولين} [النحل: 24] بقرينة سَوْق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، و{قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] {وقال الظالمون إن تَتَّبِعون إلا رجلاً مسحوراً} [الفرقان: 8] {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21] {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32]. ودل على إرادة هذا المعنى من قوله: {بمثل} قوله آنفاً {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الفرقان: 9] عقب قوله: {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} [الفرقان: 8]. وتعدية فعل {يأتونك} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم بالأمثال يقصدون به أن يفحموه.
والإتيان مستعمل مجازاً في الإظهار. والمعنى: لا يأتونك بشُبه يشبِّهون به حالاً من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يُشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيهاً صريحاً بأحوال غير الرسل كقولهم: {أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان: 5] وقولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق} [الفرقان: 7]، وقولهم: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} [الفرقان: 8]، أم كان نفي مشابَهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم: {لولا أُنزِل علينا الملائكةُ أو نَرى ربَّنا} [الفرقان: 21] وكذلك قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] إذا كانوا قالوه على معنى أنه مخالف لحاللِ نزول التوراة والإنجيل. فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الرُّسُل الأسبقين في زعمهم. ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله، فيجابَ إليه كقولهم: {لولا أنزل إليه ملَكٌ فيكونَ معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكونُ له جنة يأكل منها} [الفرقان: 7، 8].
وصيغة المضارع في قوله: {لا يأتونك} تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم: {أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً} [الإسراء: 92].
والاستثناء في قوله: {إلا جئناك بالحق} استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.
وجملة {جئناك} حالية كما تقدم في قوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليَأكلون الطعام} [الفرقان: 20].
وقوله {جئناك بالحق} مقابل قوله: {لا يأتونك بمثل} وهو مجيء مجازي.
ومقابلة {جئناك بالحق} لقوله: {ولا يأتونك بمثل} إشارة إلى أن ما يأتون به باطل. مثال ذلك أن قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]، أبطله قوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20].
والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحُجة ب {جِئْنَاك} دون: أتيناك، كما عُبر عمّا يجيئون به ب {يأتونك} إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازاً كثر فيما يسوء وما يُكره، كالوعيد والهجاء، قال شقيق بن شَريك الأسدي:
أتاني من أبي أنس وعيدٌ *** فَسُلّ لِغيظَةِ الضَّحَّاك جسمي
وقول النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لُمتَني *** وقوله:
فليأتينك قصائد وليَدفعن *** جيشاً إليك قوادمُ الأكوار
يريد قصائد الهجاء. وقول الملائكة لِلُوط {وآتيناك بالحق} [الحجر: 64] أي عذاب قومه، ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي {بل جئناك بما كانوا فيه يمترون} وتقدم في سورة الحجر (63)، وقال الله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً} [يونس: 24] {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2]، بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم، قال تعالى: {قد جاءكم بُرهان من ربكم} [النساء: 174] {وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً} [الفجر: 22] {إذا جاء نصر الله} [النصر: 1]، وفي حديث الإسراء: «... مرحَباً به ونعم المجيء جاء»، {وقل جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81]، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو {حتى إذا جاء أمرنا وفَار التنور} [هود: 40]، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييداً نافعاً لنوح.
والتفسير: البيان والكشف عن المعنى، وقد تقدم ما يتعلق به مفصَّلاً في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب، والمراد هنا كشف الحجة والدليل.
ومعنى كونه {أحسَن}، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حُسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بَهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعاً في نفوس السامعين من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته، فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل.
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}
استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولوعيد المشركين وذمهم.
والموصول واقعٌ موقع الضمير كأنه قيل: هُم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائداً إلى الذين كفروا من قوله: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] إظهاراً في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبتَ لهم مضمون الصلة، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال: ولا يأتونك بِمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، هُم شرّ مكاناً وأضل سبيلاً، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة الإسراء (97) {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} عقب قوله: {وما منَع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَث اللَّه بشراً رسولاً} [الإسراء: 94] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ كان قصدهم مما يأتون به من الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلاللِ السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه.
وقد تقدم معنى {يحشرون على وجوههم} في سورة الإسراء (97) عند قوله {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم. وتقدم ذكر الحديث في السُّؤَال عن كيفَ يمشون على وجوههم.
وشّر: اسم تفضيل. وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله شَرّ، وأضلّ} مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله {قال أنتم شَرّ مكاناً} [يوسف: 77] في جواب قول إخوة يوسف {إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77].
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم. وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين: هم شر الخلق، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكاناً وأضل سبيلاً لا المسلمون، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين.
والمكان: المقَر. والسبيل: الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم.
والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرِياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل، لأجل ما سَبق من أحوالهم التي منها قولهم {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].
و {سبيلاً} تمييز محوَّل عن الفاعل، فأصله: وضل سبيلُهم. وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجازٌ عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)}
لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له.
وابتدئ بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمناً من الذين ذكروا بعدَه ولأن بقايا شرعه وأمته لم تزل معروفة عند العرب، فإن صح ما روي أن الذين قالوا: {لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] اليهود، فوجه الابتداء بذكر ما أوتي موسى أظهر.
وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم. وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدئ بوحْيه إليه، وليس المراد بالكتاب الألواحَ لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله {اذهبا إلى القوم}، فقوله {فقلنا اذهبا} مفرع عن إيتاء الكتاب، فالإيتاء متقدم عليه.
وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32]، فإن الكُتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وَحياً نزل منجّماً فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم.
والتعرض هنا إلى تأييد موسى بهارون تعريض بالرد على المشركين إذ قالوا {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} [الفرقان: 7] فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيّد برسول مثله.
والوزير: المؤازر وهو المعاون المظاهر، مشتق من الأزْر وهو القوة. وأصل الأزر: شدّ الظهر بإزارٍ عند الإقبال على عمل ذي تعب، وقد تقدم في سورة طَه. وكان هارون رسولاً ثانياً ومُوسى هو الأصل. والقوم هم قبط مصر قوم فرعون.
و {الذين كذبوا بآياتنا} وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لمّا يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قُراء القرآن أن موسى وهارون بلَّغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضاً بالمشركين في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وتمهيداً للتفريع ب {دمرناهم تدميراً} الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية.
والموصول في قوله: {الذين كذبوا بآياتنا} للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير.
وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها: أولُها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم.
والتدمير: الإهلاك، والهَلاك: دُمور.
وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق في اليَمّ.
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)}
عطف على جملة {ولقد آتينا موسى الكتاب} [الفرقان: 35] باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار عنهم بالتدمير.
وانتصب {قوم نوح} بفعل محذوف يفسره {أغرقناهم} على طريقة الاشتغال، ولا يضر الفصل بكلمة {لمّا} لأنها كالظرف، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف، وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أُكّد بضميرهم.
ويجوز أن يكون {وقوم نوح} عطفاً على ضمير النصب في قوله {فدمرناهم} [الفرقان: 36] أي ودمرنا قوم نوح، وتكون جملة {لما كذبوا الرسل أغرقناهم} مبيِّنة لجملة {دمَّرناهم}.
والآية: الدليل، أي جعلناهم دليلاً على مصير الذين يكذبون رسلهم. وجعلهم آية: هو تواتر خبرهم بالغرق آية.
وجعل قوم نوح مكذِّبين الرسل مع أنهم كذّبوا رسولاً واحداً لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشراً لأنهم قالوا: {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون: 24] فكان تكذيبهم مستلزماً تكذيب عموم الرسل، ولأنهم أول من كذَّب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم. وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود.
وجملة {وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً} عطف على {أغرقناهم}. والمعنى: عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذاباً أليماً في الآخرة. ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل {للظالمين} عوضاً عن: أعتدنا لهم، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول.
{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)}
انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه {تبرنا}. وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها. ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله: {فدمرناهم تدميراً} [الفرقان: 36].
وتنوين {عاداً وثموداً} مع أن المراد الامتان. فأما تنوين {عاداً} فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغيرُ زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف. وأما صَرْف {ثموداً} في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع {عَاداً} كما قال تعالى: {سَلاَسِلاً وأَغْلاَلاً وسعيراً} [الإنسان: 4].
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي. وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف.
وأما {أصحاب الرسّ} فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير. ولما كان اسماً لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب.
قال زهير:
بكَرْنَ بُكُوراً واستحرْنَ بسَحرة *** فهنّ ووادِي الرسّ كاليد للفم
وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس، وإضافة {أصحاب} إلى {الرس} إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ، وإما لأنهم نازلون على رسّ، وإما لأنهم احتفروا رسّاً، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه. والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى «فَلَجا».
واختلف في المعنيّ من {أصحاب الرس} في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود. وقال السهيلي: هم قوم كانوا في عَدن أُرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولاً. وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير (سميت العنقاء لطول عنقها) وكانت تسكن في جبل يقال له «فتح»، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق. وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله. قال وهب بن منبه: خسف بهم وبديارهم. وقيل: هم قوم شعيب. وقيل: قوم كانوا مع قوم شعيب، وقال مقاتل والسدّي: الرسّ بئر بأنطاكية، وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بُعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسُّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس (20) {وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} الآيات. وقيل: الرس وادٍ في أذربيجان في أرَّان يخرج من قاليقَلا ويصب في بحيرة جُرجان ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية. ولعله من تشابه الأسماء يقال: كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف، وقيل غير ذلك مما هو أبعد.
والقرون: الأمم فإن القرن يطلق على الأمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في أول الأنعام (6). وفي الحديث: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث.
والإشارة في قوله: بين ذلك} إلى المذكور من الأمم.
ومعنى {بين ذلك} أن أُمَماً تخللت تلك الأقوام ابتداءً من قوم نوح.
وفي هذه الآية إيذان بطوللِ مُدَد هذه القرون وكثرتها.
والتنوين في {كُلاًّ} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: وكلَّهم ضربنا له الأمثال وانتصب {كُلاّ} الأول بإضمار فعل يدل عليه {ضربنا له} تقديره: خاطبنا أو حذَّرنا كُلاًّ وضربنا له الأمثال، وانتصب {كُلاًّ} الثاني بإضمار فعل يدل عليه {تبرنا} وكلاهما من قبيل الاشتغال.
والتتبير: التفتيت للأجسام الصلبة كالزجَاج والحديد. أطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعيةً في {تبرنا} وأصلية في {تتبيراً}، وتقدم في قوله تعالى: {إن هؤلاء متبّر ما هم فيه} في سورة الأعراف (139)، وقوله: {وليُتَبِّروا ما علَوْا تتبيراً} في سورة الإسراء (7). وانتصب {تتبيراً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك.
ومعنى ضرب الأمثال: قولها وتبيينها وتقدم عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما} في سورة البقرة (26).
والمَثَل: النظير والمشابه، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها. قال تعالى: {وسَكَنْتُم في مَساكِن الذين ظَلَموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعَلْنا بهم وضربنا لكم الأمثال} [إبراهيم: 45].
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)}
لما كان سَوْق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرسّ وما بينهما من القرون مقصوداً لاعتبار قريش بمصائرهم نُقِل نَظْم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نَزل بقرية قوم لوط.
واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله: {لقد استكبروا في أنفسهم} [الفرقان: 21]. وكانت قريش يمرّون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمرّ بها طريقهم قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحِين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138]. وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرّون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة «سدوم» ومعظمها غمرها الماء. وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وإنهما لبإماممٍ مُبين} في سورة الحجر (79).
والإتيان: المجيء. وتعديته ب {على} لتضمينه معنى: مرّوا، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأنّ مجيئهم إياها مرور بأهلها، فضمّن المجيء معنى المرور لأنه يشبه المرور، فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيءَ يتعلق بالمكان فيقال: جئنا خراسان، ولا يقال: مررنا بخراسان. وقال تعالى: {وإنكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبِحِين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
ووصف القرية ب {التي أمطرت مطر السوء} لأنها اشتهرت بمضمون الصلة بين العرب وأهل الكتاب. وهذه القرية هي المسماة «سَدُوم» بفتح السين وتخفيف الدال وكانت لقوم لوط قرى خمس أعظمها «سَدوم». وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {ولوطاً إذ قال لقومه} في سورة الأعراف (80).
و {مطر السوْء} هو عذاب نزل عليهم من السماء وهو حجارة من كبريت ورماد، وتسميته مطراً على طريقة التشبيه لأن حقيقة المطر ماء السماء.
والسَّوْء بفتح السين: الضرّ والعذاب، وأما بضم السين فهو ما يسوء. والفتح هو الأصل في مصدر ساءه، وأما السُّوء بالضم فهو اسم مصدر، فغلب استعمال المصدر في الذي يسوء بضر، واستعمال اسم المصدر في ضد الإحسان.
وتفرع على تحقيق إتيانهم على القرية مع عدم انتفاعهم به استفهام صوري عن انتفاء رؤيتهم إياها حينما يأتون عليها، لأنهم لمّا لم يتّعظوا بها كانوا بحال من يُسأل عنهم: هل رأوها، فكان الاستفهام لإيقاظ العقول للبحث عن حالهم. وهو استفهام إما مستعمل في الإنكار والتهديد، وإما مستعمل في الإيقاظ لمعرفة سبب عدم اتعاظهم.
وقوله: {بل كانوا لا يرجون نشوراً} يجوز أن يكون {بل} للإضراب الانتقالي انتقالاً من وصف تكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم اتعاظهم بما حل بالمكذبين من الأمم إلى ذكر تكذيبهم بالبعث، فيكون انتهاء الكلام عند قوله: {أفلم يكونوا يرونها} وهو الذي يجري على الوجه الأول في الاستفهام. وعبر عن إنكارهم البعث بعَدم رجائه لأن منكر البعث لا يَرجو منه نفعاً ولا يخشى منه ضراً، فعبر عن إنكار البعث بأحد شقّي الإنكار تعريضاً بأنهم ليسوا مثل المؤمنين يرجون رحمة الله.
والنشور: مصدر نشر الميت أحْياه، فنشَر، أي حيي. وهو من الألفاظ التي جرت في كلام العرب على معنى التخيّل لأنهم لا يعتقدونه، ويروى للمُهَلْهِل في قتاله لبني بكر ابن وائل الذين قتلوا أخاه كليباً قولُه:
يا لبَكر انشروا لي كُليباً *** يا لبكر أين أينَ الفِرارُ
فإذا صحّت نسبة البيت إليه كان مراده من ذلك تعجيزهم ليتوسل إلى قتالهم.
والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فلم يكن لهم استعداد للاعتبار، لأن الاعتبار ينشأ عن المراقبة ومحاسبةِ النفس لطلب النجاة، وهؤلاء المشركون لما نشأوا على إهمال الاستعداد لِمَا بعد الموت قُصرت أفهامهم على هذا العالم العاجل فلم يُعنَوا إلا بأسباب وسائل العاجلة، فهم مع زكانتهم في تفرس الذوات والشيات ومراقبة سير النجوم وأنواء المطر والريح ورائحة أتربة منازل الأحياء، هم مع ذلك كله معرضون بأنظارهم عن توسم الإلهيات وحياة الأنفس ونحو ذلك. وأصل ذلك الضلاللِ كلّه انجرّ لهم من إنكار البعث فلذلك جعل هنا علة لانتفاء اعتبارهم بمصير أمة كذبت رسولها وعصت ربها. وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75] أي دون مَن لا يتوسمون.
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)}
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهُم الرسولَ عليه الصلاة والسلام أقوالاً في مغيبه، فعُطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه. وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زيّ الكبراء والمترَفين لا يجرّ المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحاً ولا ينظر خُيلاء ويجالس الصالحين ويُعرض عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء، وأولئك يستخفون بالخلُق الحسن، لما غلب على آرائهم من أفَن، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رَأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونَهم، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم. وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه.
و {إذا} ظرف زمان مضمَّن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلَّقه جواباً له. فجملة {إن يتخذونك إلا هزؤاً} جوابُ {إذا}. والهُزُؤ بضمتين: مصدر هزأ به. وتقدم في قوله: (تعالى) {قالوا أتَتّخِذُنا هُزوءاً} في سورة البقرة (67). والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهُزؤ لأنهم محَّضوه لذلك، وإسناد {يتخذونك} إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم. وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذُهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدْأبون عليه ولا يخلطون معه شيئاً من تذكر أقواله ودعوته، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء.
وجملة {أهذا الذي بعث الله رسولاً} بيان لجملة {إن يتخذونك إلا هزؤاً} لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذَبتهم الأحاديث بينهم.
والاستفهام إنكار لأن يكون بعثَه الله رسولاً.
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية.
والمعنى: إنكار أن يكون المشار إليه رسولاً لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هُزؤاً أهذا الذي يذكر آلهتكم} في سورة الأنبياء (36)، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره.
أما قولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تَأثر أسماعِهم بأقواله يُوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لولا أنهم تريَّثوا، فكان في الريث أن أفاقوا من غِشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثاً من عند الله، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يَستفز غير الراسخين في الكفر. وهذا الكلام مشوب بفَسادِ الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين.
ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعاً على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالَهم تستلزم اقترابهم من الضلال.
و {إنْ} مخفَّفَة من (إنّ) المشددة، والأكثر في الكلام إهمالها، أي ترك عملها نصبَ الاسم ورفعَ الخبر، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال. ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في (أنّ) المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيداً. وفي كلام صاحب «الكشاف» ما يشهد له في تفسير قوله تعالى: {وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين} في سورة آل عمران (164)، والجملة بعدها مستأنفة، واللاّم في قوله لَيُضِلّنا} هي الفارقة بين (إنْ) المحققة وبين (إنْ) النافية.
والصبر: الاستمرار على ما يشق عمله على النفس. ويعدّى فعله بحرف (على) لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جواباً لشرطها، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل {لولا} عليه، وهو {إن كاد ليضلنا}. وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييداً لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدَّم دليلَ الجواب، والجواب محذوفاً لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه، ولذا قال في «الكشاف»: «{لولا} في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة» فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى: {لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} إلى قوله: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي} [الممتحنة: 1] فإن قوله: {إن كنتم} قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداءِ الله. وتأخير الشرط ليَظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب. قال في «الكشاف»: {إن كنتم خرجتم} متعلق ب {لا تتخذوا} يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقولُ النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه» اه. وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جواباً للشرط تقديماً لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
هذا جواب قولهم {إن كاد لَيُضِلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} المتضمن أنهم على هدى في دينهم، وكان الجواب بقطع مُجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم، فتضمن ذلك وعيداً بعذاب. والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي، وزعيم القالة في ذلك النادي.
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالاً من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطئ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخَّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود: أنتَ أبو جهل؟ فقال: «وهَل أعمد من رجل قتله قومه».
و {مَن} الاستفهامية أوجبت تعليق فعل {يعلمون} عن العمل.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}
استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصاً على هداهم والإلحاح في دعوتهم، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم، فالخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم
وفعل {اتخذ} يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في العمل، وهو إلى باب كَسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ، فإن {اتخذ} معناه صيّر شيئاً إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى. والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساوياً للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مراداً للمتكلم.
فقوله تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته، أي ما يُحب أن يكون إلهاً له، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية، فالمعنى: من اتخذ رباً له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة. فإطلاق {إلهه} على هذا الوجه إطلاق حقيقي. وهذا يناسب قوله قبله {إن كاد لَيُضِلُّنا عن آلهتنا} [الفرقان: 42]، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير. واختاره ابن عرفة في «تفسيره» وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى: من اتخذ هواه قُدوة له في أعماله لا يأتي عملاً إلا إذا كان وفاقاً لشهوته فكأنَّ هواهُ إلهه. وعلى هذا يكون معنى {إلهه} شبيهاً بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم. ونحا إليه ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب «الكشاف» وابن عطية. وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملاً للآية.
واعلم أنه إن كان مجموع جملتي {أرأيتَ من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً} كلاماً واحداً متصلاً ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله، تعين فعل «رأيت» لأن يكون فعلاً قلبياً بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله: {أرأيت} إنكارياً كالثاني في قوله: {أفأنت تكون عليه وكيلاً} وكان مجموع الجملتين كلاماً على طريقة الإجمال ثم التفصيل. والمعنى: أرأيتَك تكون وكيلاً على من اتخذ إلهه هواه، وتكون الفاء في قوله {أفأنت} فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله
{أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إنَّا لمبعوثون} [الإسراء: 49] على قراءة إعادة همزة الاستفهام، وتكون جملة {أفأنت تكون عليه وكيلاً} عوضاً عن المفعول الثاني لفعل {أرأيت}، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام على نحو قوله تعالى: {أفمن حَقّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت تُنقذ من في النار} [الزمر: 19] وعليه لا يوقف على قوله {هواه} بل يوصل الكلام. وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام «الكشاف».
وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلةً عن الأخرى في نظْم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملاً في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيباً مشوباً بالإنكار، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله {أفأنت تكون عليه وكيلاً} إنكارياً بمعنى: إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله {من أضل سبيلاً} [الفرقان: 42].
و {مَن} صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله {وسوف يعلمون حين يَرون العذاب} [الفرقان: 42] وروعي في ضمائر الصلة لفظ {مَن} فأُفردت الضمائر. والمعنى: من اتخذوا هواهم إلهاً لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم.
و«إله» جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {أنت تكون عليه وكيلاً} للتقوِّي إشارة إلى إنكار ما حَمَّل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]. والمعنى: تكون وكيلاً عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}
انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذاب مَن أضلّ سبيلاً} [الفرقان: 42]، ف {أم} منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها. والتقدير: أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.
والمراد من نفي {أن أكثرهم يسمعون} نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه. وهذا كقوله تعالى {ولا تُسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولَّوْا مدبرين} [النمل: 80].
وعطف {أو يعقلون} على {يسمعون} لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101].
وإنما نُفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلِّديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأَنِفوا من أن يعودوا أتباعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مِثل عمار، وبلال.
وجملة {إن هم إلا كالأنعام} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالاً عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبييناً للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب:
فإن تَفُق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال
وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير {يسمعون}.
وانتُقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلاً من الأنعام. وضَلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رُعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئاً من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كقوله تعالى {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لَمَا يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] الآية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقوله: {وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] الآية.
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة {واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً} [الفرقان: 3] الآية.
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} [الفرقان: 6]. وما عطف عليه {قل أذلك خير} [الفرقان: 15] {وما أرسلنا قبلَك من المرسلين} [الفرقان: 20] {وكفى بربك هادياً} [الفرقان: 31] فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقاً {كذلك لنُثَبّت به فؤادك} [الفرقان: 32]. فكان في قوله: {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل...} الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله {كذلك لِنُثبّت به فؤادك} [الفرقان: 32].
ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء.
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً.
وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس. وبهذه النكتة عُطف قوله {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} إلى قوله {وجعل النهار نشوراً} [الفرقان: 47].
والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين: مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر.
والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف (إلى). والمدّ: بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال: مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى: {ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً} [نوح: 15]، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً} [البقرة: 246].
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها، فالمقصود من آية سورة الفيل: الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخِيرتان. وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئاً كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه.
وأما قوله في سورة نوح (15) {ألم تَروا كيف خلق الله} دون أن يقال: ألم تروا رَبَّكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق.
وعلى كل فإن {كيف} هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من {ربك}، والتقدير: ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل. وقد تقدم ذكر خروج (كيف) عن الاستفهام عند قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران (6)، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل.
وفي وجود الظل دقائقُ من أحواللِ النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاعُ فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدَّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيَّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتاً على حسب تفاوت بُعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفاً باستواء المكان وتحدُّبه، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمَدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل. فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة.
وقد أفاد هذا المعنى كاملاً فعلُ مَدّ}.
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهةٍ كان الظل أوسع، وإذا اتجهت إليه مرتفعةً عنه تقلّص ظلّه رويداً رويداً إلى أن تصير الأشعة مُسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظِله تماماً أو يكاد يزول، وهذا معنى قوله تعالى: {ولو شاء لجعله ساكناً} أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتدادِ اسم السكون بأن يلازم مقداراً واحداً لا ينقص ولا يزيد، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سَمت واحد تُجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالُها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة.
ودلت مقابلة قوله: {مد الظل} بقوله {لجعله ساكناً} على حالة مطوية من الكلام، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة «وكانت الأرض خالية، وعلى وجه القمر ظلمة» ثم قال «وقال الله ليكن نور فكان نور...» وفصل الله بين النور والظلمة (إصحاح واحد من سفر الخروج)، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة.
وجملة {ولو شاء لجعله ساكناً} معترضة للتذكير بأن في الظل منّة.
وقوله: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} عطف على جملة {مد الظل} وأفادت {ثُمّ} أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن {ثُم} إذا عطفت الجملة. ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتباراً، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلاً على مقادير امتداده. ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحاً شافياً.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {ثم جعلنا} لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله (تعالى): {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} ارتقاء في المنّة.
والدليل: المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثلَ صُوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سبباً في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مَراحلَ، بطريقة التشبيه البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
وتعدية {دليلاً} بحرف (على) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر:
«إلا عليّ دليل» *** وشمل هذا حالتي المد والقبض.
وجملة {ثم قبضناه إلينا} إلخ عطف على جملة {مد الظل}، أو على جملة {جعلنا الشمس عليه دليلاً} لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلاً على الظل.
و {ثم} الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي، لأن مضمون جملة {قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون {جعلنا الشمس عليه دليلاً} إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عملٌ ضدٌّ للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.
والقبض: ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله: {إلينا} تخييل، شُبِّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف (إلى) ومجروره تخييل.
وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلاً لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالباً، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفاً، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحاً لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.
وتعدية القبض ب {إلينا} لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله: {مد الظل}. وقد علم من معنى {قبضناه} أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.
وفي مَدِّ الظل وقبضِه نعمةُ معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمةُ التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.
هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركةُ الأرض حول الشمس وظهورُ الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدماً، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجاً في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيراً لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلاً لمصير الناس إلى الله بالبعث وُصف القبض بيسير تلميحاً إلى قوله: {ذلك حَشْر علينا يسير} [ق: 44].
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.
فهذان المَحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}
مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظلّ والضَّحاء إلى الاعتبار بأحوال اللّيل والنهار ظاهرة، فالليل يشبه الظِلّ في أنه ظلمة تعقب نور الشمس.
ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جُزَأي الجملة وهو قصر إفراد، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار. أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يُقرون به؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أُبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة.
و {لكم} متعلق ب {جعل} أي من جملة ما خُلق له الليل أنه يكون لباساً لكم. وهذا لا يقتضي أن الليل خُلق لذلك فقط لأن الليل عَوْد الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصُل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَة لمن أراد أن يذكّر...} [الفرقان: 62] إلخ.
وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الإلتفات.
و {لباساً} مشبه به على طريقة التشبيه البليغ، أي ساتراً لكم يسْتر بعضَكم عن بعض. وفي هذا الستر مِنَن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها.
وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم، بخلاف قوله: {وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً} في سورة النبأ (8 10)، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد.
وقد جمعت الآية استدلالاً وامتناناً فهي دليل على عظم قدرة الخالق، وهي أيضاً تذكير بنعمة، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمّةً لما يدل عليه حصول الظلمة من دِقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس، ولِما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون.
والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع. وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى. وفسر الزمخشري السبات بالموت على طريقة التشبيه البليغ ناظراً في ذلك إلى مقابلته بقوله: {وجعل النهار نشوراً}.
وإعادة فعل {جعل} في قوله: {وجعل النهار نشوراً} دون أن يعاد في قوله {والنوم سباتاً} مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعلٌ مخالف لجَعْل الليل لباساً.
وذلك أنه أخبر عنه بقوله {نشوراً}، والنشور: بعث الأموات، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه، بتقريبه بالهبوب في النهار. وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح «الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور»
والنشور: الحياة بعد الموت، وتقدم قريباً عند قوله تعالى: {بل كانوا لا يرجون نشوراً} [الفرقان: 40]. وهو هنا يحتمل معنيين أن يكون مراداً به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} فيكون الإخبار به عن النهار حقيقياً، والمنّة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم. ويحتمل أن يكون مراداً به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ.
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)}
استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحِبة والمطر. ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرّياح من النشور بذكر وصفها بأنها نُشرٌ على قراءة الجمهور، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم. ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالاً لادعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} [الفرقان: 47] إلخ..
وأطلق على تكوين الرياح فعل {أرسل} الذي هو حقيقة في بعث شيء وتوجيهه، لأن حركة الرياح تشبه السير. وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق.
وهذا استدلال بدقيق صنع الله في تكوين الرياح، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت مشاهدتهم من ذلك، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها، وذلك ناشئ عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر. ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكوّن الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها نُشُر بين يدي المطر.
قرأ الجمهور {أَرسل الرياح} بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير {الريح} بصيغة الإفراد على معنى الجنس. والقراءتان متحدتان في المعنى، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير وإفرادُ الريح في ريح العذاب قاله ابن عطية. وتقدم قوله تعالى {وتصريف الرياح} في سورة البقرة (164).
وقرأ الجمهور نُشُراً} بنون في أوله وبضمتين جمع نَشُور كرسول ورُسل. وقرأ ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي لأن الرياح تنشر السحاب. وقرأ عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بَشُور من التبشير لأنها تبشر بالمطر. وتقدم قوله {وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته} في سورة الأعراف (57).
والإلتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله {وأنزلنا لنحيي ونسقيه ولقد صرفناه} للداعي الذي قدمناه في قوله آنفاً {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا} [الفرقان: 45، 46].
والمراد ب {رحمته} المطر لأنه رحمة للناس والحيوان بما يُنْبِته من الشجر والمرعى.
وجملة {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} عطف على جملة {أرسل الرياح} إلخ، فهي داخلة في حيز القصر، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهوراً. وضمير {أنزلنا} التفات من الغيبة إلى التكلم لأن التكلم أليق بمقام الامتنان. وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله: {أو كصيّب من السماء} في سورة البقرة (19).
والطَّهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال: رجل صَبور.
وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقاً. والمعنى: أن الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مُطهّر لغيره إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فَعول لزيادة معنى في الوصف، فاقتضاؤه في هذه الآية أنه مطهّر لغيره اقتضاء التزامي ليكون مستكملاً وصف الطهارة القاصرة والمتعدية، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجاً لمنة في أثناء المنن المقصودة، ويكون كقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء لِيُطَهِّركم به} [الأنفال: 11] وصف الطهارة الذاتية وتطهيره، فيكون هذا الوصف إدماجاً ولولا ذلك لكان الأحقّ بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك.
والبلدة: الأرض. ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي، وجفاف الأرض يجفّ به النبات فيشبه الميّت.
ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض لأنه لخلّوه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحاً بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت.
والبلدة: البلد. والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا: دار ودَارة.: ووصفت البلدة بميت، وهو وصف مذكر لتأويل {بلدة} بمعنى مكان لقصد التخفيف. وقال في «الكشاف» ما معناه: إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جارياً على أمثلة المبالغة نزّل منزلة الاسم الجامد (أي فلم يغير). وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ.
وفي قوله {لنحي به بلدة ميتاً} إيماء إلى تقريب إمكان البعث.
و {نُسقيه} بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال: أسقى وسَقى. قال تعالى: {قالتا لا نَسقي} [القصص: 23] بفتح النون. وقيل: سقى: أعطى الشراب، وأسقى: هيَّأ الماء للشرب. وهذا القول أسدّ لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيَّأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب.
و {أنعاماً} مفعول ثان ل {نسقيه}. وقوله: {مما خلقنا} حال من {أنعاماً وأناسي}. و(مِن) تبعيضية. و(مَا) موصولة، أي بعض ما خلقناه، والموصول للإيماء إلى علة الخبر، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات. ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه. وفيه إشارة إلى أن أنواعاً أخرى من الخلائق تُسقى بماء السماء، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة، فالأنعام بها صلاح حال البَادين بألبانها وأصوافها وأشعارها ولُحومها، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران.
والأناسيّ: جمع إنسيّ، وهو مرادف إنسان. فالياء فيه ليست للنسب. وجُمع على فَعالِيّ مثل كُرسي وكَراسِي.
ولو كانت ياؤه نَسب لَجُمع على أنَاسِيَةٍ كما قالوا: صيرفي وصيارفة. ووصف الأناسيّ ب {كثيراً} لأن بعض الأناسيّ لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات، والآبار والصهاريج، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء. فالمنة أخص بهم، قال زيادة الحارثي:
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى *** لأنفسنا من دون مملكةٍ قصراً
وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه السلام قال أبو هريرة «فتلك أمّكم يا بني ماءِ السماء» يعني العرب. وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار.
ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلاً قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلاً} [الأعراف: 86].
وتقديم ذكر الأنعام على الأناسيّ اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا}، ولو قدم ذكر {أناسيَّ} لتفكك النظم. ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} في سورة النازعات (33) لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب.
وضمير صرفناه} عائد إلى {ماء طهوراً}. والتصريف: التغيير. والمراد هنا تغيير أحوال الماء، أي مقاديره ومواقعه.
وتوكيد الجملة بلام القسم و(قد) لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكُروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم، لأن كثيراً من الناس لا يقدُر قدرَ النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الربّ الواحد المختار في خلق الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية.
ولما كان التذكر شاملاً لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون، جيء في التعليل بفعل {ليذكروا} ليكون علة لحالتي التصريف بينهم.
وقوله: {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} تركيب جرى بمادّته وهيئته مجرى المَثَل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأنّ الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمورٌ وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكُفور، وإن لم يكن هنالك عَرض ولا إباء، ومنه قوله تعالى في سورة براءة: (32) {ويأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نورَه}؛ ألاَ ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام. وشدّةُ الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يُستعمل في قوله تعالى في سورة الصّفّ: (8):
{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره}
والكُفور: مصدر بمعنى الكفر. وتقدم نظيره في سورة الإسراء، أي أبوا إلاّ الإشراك بالله وعدم التذكر.
وقرأ الجمهور {ليذّكّروا} بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاءُ وأصله ليتذكروا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة، أي ليذْكُروا ما هم عنه غافلون.
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزّل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القَطر، فعن ابن عباس: ما عامٌ أقل مطراً من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء. وتلا هذه الآية. وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من سنة بأمطرَ من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صَرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» اه. فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه. وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير.
وجوز فريق أن يكون ضمير {صرفناه} عائداً إلى غير مذكور معلوم في المقام مرادٍ به القرآن؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره، وتكرر في قوله: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} [الفرقان: 30]. وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء، ولقوله بعده {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان: 52].
وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذّكروا.
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}
جُملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخَلق وذكر منّته على الخَلق. ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعِها بموقع الآية التي قبلها خفيَّة. وقال ابن عطية في قوله {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً}: اقتضاب يدل عليه ما ذكر. تقديره: ولكنّا أفردناك بالنذارة وحمَّلْناك {فلا تطع الكافرين} اه.
فإن كان عنى بقوله: اقتضابٌ، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقَل منه والكلام المنتقَل إليه، كان عدولاً عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها، وليس الخلوّ عن المناسبة ببِدْع فقد قال صاحب «تلخيص المفتاح» «وقد يُنقل منه (أي مما شبِّب به الكلام) إلى ما لا يلائمه (أي لا يناسب المنتقل منه) ويسمى الاقتضابَ وهو مذهب العرب ومن يليهم من المُخَضْرمين» الخ. وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع (أي الحذف من الكلام) أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله «يدل عليه ما ذُكر تقديره إلخ»، كأن لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها.
وفي «الكشاف»: «ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نِذارة جميع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيئاً يُنذرها، وإنما قصرْنا الأمر عليك وعظَّمناك على سائر الرسل (أي بعموم الدعوة) فقابِل ذلك بالتصبر» اه. وقد قال الطِّيبي: «ومدار السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يُثبت عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى: {لِيكونَ للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1].
وليس في كلام «الكشاف» والطيبي إلاّ بيانُ مناسبة الآية لِمهمّ أغراض السورة دون بيان مناسبتها للتي قبلها.
والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة} [الفرقان: 32] الآية، فبعد أن بيّن إبطال طعنهم فقال: {كذلك لِنُثَبِّتَ به فؤادك} [الفرقان: 32] انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه السلام وكيف استأصل الله من كذبوه، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى تحَرج النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله: {أرأيت مَن اتخذ إلههُ هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً} [الفرقان: 43].
وتسلسل الكلام بضرب المَثَل بمَدّ الظل وقبضِه، وبحال اللّيل والنّهار، وبإرسال الرياح، أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموات حتى انتهى إلى قوله: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله {وجاهدهم به}.
ومما يزيد هذه الآية اتصالاً بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] أن في بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشدّ من تنزيل القرآن مُجَزَّأً؛ فلو بعَث الله في كل قرية نذيراً لقال الذين كفروا: لولا أرسل رسولٌ واحد إلى الناس جميعاً فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى:
{ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياتُه أأعجمي وعَربي} في سورة حم فصلت (44).
وتفريع فلا تطع الكافرين} على جملة {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} لأنها تتضمن أنه مرسل إلى المشركين من أهل مكة وهم يطلبون منه الكف عن دعوتهم وعن تنقُّص أصنامهم.
والنهي مستعمل في التحذير والتذكير، وفعل {تطع} في سياق النهي يفيد عموم التحذير من أدنى طاعة.
والطاعة: عمل المرء بما يُطلب منه، أي فلا تَهِن في الدعوة رعياً لرغبتهم أن تلين لهم.
وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها. وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة. وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير، أي الجامع لكل مجاهدة.
وضمير {به} عائد إلى غير مذكور: فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النِّذارة، وإما أن يعود إلى المفهوم من «لا تطع» وهو الثبات على دعوَته بأن يعصيهم، فإن النهي عن الشيء أمرٌ بضده كما دل عليه قول أبي حيّة النميري:
فقُلن لها سِرّاً فدينَاككِ لا يرحْ *** صحيحاً وإنْ لم تقتلِيه فألمم
فقابل قوله: «لا يرح صحيحاً» بقوله: «وإن لم تقتليه فألمم» كأنه قال: فديناك فاقتليه.
والمعنى: قاومهم بصبرك. وكِبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدّة ما يلقاه في ذلك من المشقة. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " قالوا: «وما الجهاد الأكبر»؟ قال: " مُجاهدة العبد هَواه " رواه البيهقي بسند ضعيف.
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)}
عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالاً وتمثيلاً وتثبيتاً ووعداً؛ فصريحُها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين: أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج. وتمثيلُ الإيمان بالعذْب الفرات والشرك بالملْح الأُجاج، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخاً يحفظ العَذْب من أن يكدره الأُجاج، كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسّوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111]. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك.
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عَقِب جملة {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان: 52] أكملُ حسن. وهي معطوفة على جملة {وهو الذي أرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته} [الفرقان: 48]. ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة. ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين.
والمرج: الخلط. واستعير هنا لشدة المجاورة، والقرينة قوله: {وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً}. والبحر: الماء المستبحر، أي الكثير العظيم. والعذب: الحلو. والفرات: شديد الحلاوة. والمِلح بكسر الميم وصف به بمعنى المالح، ولا يقال في الفصيح إلا مِلح وأما مَالح فقليل. وأريد هنا ملتقى ماء نهرَي الفرات والدجلة مع ماء بَحر خليج العجم.
والبرزخ: الحائل بين شيئين. والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذْب فيه بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظاً لطعمه عند المصبّ.
و {حِجْرا} مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول {جعل}. وليس هنا مستعملاً في التعوذ كالذي تقدم آنفاً في قوله تعالى {ويقولون حِجْراً محجوراً} [الفرقان: 22]. و{محجوراً} وصف ل {حجراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل ألْيَل. وقد تقدم في هذه السورة. ووقع في «الكشاف» تكلف بجعل {حجراً محجوراً} هنا بمعنى التعوّذ كالذي في قوله {ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان: 22] ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال {حجراً محجوراً} في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}
مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع. ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلّق منه البشر العظيم، فالتنوين في قوله {بشراً} للتعظيم.
والقصر المستفاد من تعريف الجزءين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية.
والبشر: الإنسان. وقد تقدم في قوله تعالى: {فتمثّل لها بشراً سويًّا} في سورة مريم (17). والضمير المنصوب في {فجعله} عائد إلى البشر، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسباً وصهراً، أي قَسَّم الله البشر قسمين: نسببٍ، وصهرٍ. فالواو للتقسيم بمعنى (أو) والواو أجود من (أو) في التقسيم.
و {نسباً وصهراً} مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير: ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام.
والنسب لا يخلو من أُبوّة وبُنوّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة.
وأما الصهر فهو: اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضاً مصاهرة لأنه يكون من جهتين، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال: صاهر فلان فلاناً إذا تزوج من قرابته ولو قرابةً بعيدة كقرابة القبيلة. وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.
ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ. ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيداً. وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله: {وكان ربك قديراً}، أي عظيم القدرة إذْ أوجد من هذا الماء خَلْقاً عظيماً صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13].
وفي تركيب {وكان ربك قديراً} من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له مُتصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل {كَان}، وما في صيغة «قدير» من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}
الواو للحال، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك، أُعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عَوْداً إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة.
ونفي الضرّ بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عَبَدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهَدة.
والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم.
وجملة {وكان الكافر على ربه ظهيراً} تذييل لما قبله، فاللام في تعريف {الكافر} للاستغراق، أي كل كافر على ربّه ظهير.
وجعل الخبر عن الكافر خبراً ل {كان} للدلالة على أن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر.
والظهير: المظاهر، أي المعين، وتقدم في قوله تعالى: {ولو كان بعضُهم لبعض ظهيراً} في سورة الإسراء (88) وهو فعيل بمعنى مُفاعل، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى مُحكم، وعَوين بمعنى معاون. وقول عمر بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السّميع *** أي المُسمع. قال في «الكشاف»: «ومجيء فعيل بمعنى مُفاعل غير عزيز». وهو مشتق من: ظاهر عليه، إذا أعان من يُغالبه على غلَبه، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المُعاون أحداً على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يَحمل على ظهر الحامل، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق. وفي ذكر الربّ تعريض بأن الكافر عاقّ لمولاه. وعن أبي عبيدة: ظَهير بمعنى مَظهور، أي كُفر الكافر هَيّن على الله، يعني أي فعيلاً فيه بمعنى مفعول، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون {على} متعلقاً بفعل {كان} أي كان على الله هيّناً.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)}
لما أفضى الكلامُ بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أُعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سِحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة. وهذا الكلام الوارد في الردّ عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضلّ ولكنه مُبشّر ونذير. وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتِّباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك.
والأجر: العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء.
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجراً لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعللِ في صورة الاستثناء، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وبعبارة أتقن تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان: منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعاً عن المستثنى منه أصلاً كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى: 23]، ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجراً على الإطلاق في قوله تعالى {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص: 86]. فقوله تعالى: {إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً} من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجراً إذ التقدير: إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، وذلك هو اتباع دين الإسلام. ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله {قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى} [الشورى: 23]. وقد يسمون مثل هذا الاستثناءِ الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك.
والسبيل: الطريق. واتخاذ السبيل تقدم آنفاً في قوله: {يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً} [الفرقان: 27]. وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا كقوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مئاباً} [النبأ: 39].
وذكر وصف الرب دون الاسم العلَم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلاّ كان آبقاً.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}
عطف على جملة {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان: 57] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم.
والتوكل: الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل، أي المتولّي مهمّات غيره، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله} في آل عمران (159).
و {الحي الذي لا يموت} هو الله تعالى. وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصْر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في {الحي} للكامل، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام. وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.
وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحياناً لكنه لا يدوم.
وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله.
والباء في {بحمده} للمصاحبة، أي سبحه تسبيحاً مصاحباً للثناء عليه بما هو أهله. فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدِّماً التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص.
وأمْر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية.
وجملة {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} اعتراض في آخر الكلام، فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام. ففي (ذنوب عباده) عُمومان: عمومُ ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عمومَ إفراد المضاف، وعمومُ الناس لإضافة (عباد) إلى ضمير الجلالة، أي جميِع عباده، مع ما في صيغة (خبير) من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث. والكفاية: الإجزاء، وفي فعل {كفى} إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه.
والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل. وقد كثر دخول باء التأكيد بعدَ فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله، وتقدم في قوله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} في سورة الإسراء (14). و{خبيراً} حال من ضمير {به} أي كفى به من حيث الخبرة.
والعلمُ بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم، والشرك جامع الذنوب. وفي الكلام أيضاً تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم.
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}
أجريت هذه الصلة وصفاً ثانياً ل {الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد، فصاحبها حقيق بأن يُتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه. وهذا تخلّص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق.
وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام في سورة البقرة، وعلى الاستواء في سورة الأعراف.
و {الرحمان} خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمان. وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها، ثم يُراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه، فإن وصف الرحمن أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف.
وفرع على وصفه ب {الرحمان} قوله {فسئل به خبيراً} للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على عليم بتصاريف رحمته مُجرب لها مُتلقّ أحاديثها ممن عَلِمها وجرّبها.
وتنكير {خبيراً} للدلالة على العُموم، فلا يظن خبيراً معيناً، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عموماً بدليل أيّ خبير سألته أعلمك.
وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب: «على الخبير سقطتَ» يقولها العارف بالشيء إذا سُئِل عنه. والمَثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثَل القرآني أفصحُ لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في (سقطت). وهو أيضاً أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم: على الخبير سقطتَ، لأنها إنما يقولها الواحد المعيَّن. وقريب من معنى {فسئل به خبيراً} قول النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
إلى قوله:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهلُ شيء مثلَ مَن علما
والباء في {به} بمعنى (عن) أي فاسأل عنه كقول علقمة:
فإن تسأُلوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب {خبيراً} وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام، فله سببان.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم (الرحمان) هو من وضع القرآن ولم يكن معهوداً للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة:
سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصداً بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جارياً على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّاً مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقد تقدم في آخر سورة الإسراء (110) وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء.
والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم.
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مراداً هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا. ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال: فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة الخ. ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها.
وواو العطف في قولهم {وما الرحمن} لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وُجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمان، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى: {قال إني جاعلُك للناس إماماً قال ومِن ذرّيّتي} [البقرة: 124]. و{ما} من قوله {وما الرحمن} استفهامية.
والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون (مَن) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم.
والاستفهام في {أنسجد لما تأمرنا} إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن {ما} نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت {ما} موصولة، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى:
{وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43]، أي فيأبَون، وقال: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48]. ويدل على ذلك قوله {وزادهم نفوراً} فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن.
وقرأ الجمهور {تأمرنا} بتاء الخطاب. وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافِهون به النبي صلى الله عليه وسلم
والضمير المستتر في {زادهم} عائد إلى القول المأخوذ من {وإذا قيل لهم}. والنفور: الفرار من الشيء. وأطلق هنا على لازمه وهو البعد. وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح (6) {فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً}
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق. ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفاً لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] الآيات الثلاث. وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}
استئناف ابتدائي جعل تمهيداً لقوله {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة، وافتتحت كل دعامة منها ب {تبارك الذي...} إلخ كما تقدم في صدر السورة. وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع. وتقدم {تبارك} أول السورة (1) وفي قوله {تبارك الله رب العالمين} في الأعراف (54).
والبروج: منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} في أول سورة الحجر (16).
والامتنان بها لأن الناس يُوقّتون بها أزمانهم.
وقرأ الجمهور سراجاً} بصيغة المفرد. والسراج: الشمس كقوله: {وجعل الشمس سراجاً} في سورة نوح (16). ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة...} [الفرقان: 62].
وقرأ حمزة والكسائي {سُرُجاً} بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم، فيكون امتناناً بحسن منظرها للناس كقوله {ولقد زيّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5]. والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6].
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج: المصباح الزاهر الضياء. والمقصود: أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر.
ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}
الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور، وبرد وحر، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً} [الفرقان: 47]، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحِكَم في المخلوقات كثيرة.
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافياً فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً إلى قوله وكان ربك قديراً} [الفرقان: 47 54].
والخِلفة بكسر الخاء وسكون اللام: اسم لما يَخلف غيره في بعض ما يصلح له. صيغ هذا الاسم على زنة فِعْلة لأنه في الأصل ذو خلفة، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسماً، قال زهير:
بها العين والآرام يَمشِينَ خِلفَةً *** وأطلاؤها ينهَضْن من كل مُجْثَم
أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا. فالمعنى: جعل الليل خلفة والنهارَ خلفة: أي كلَّ واحد منهما خِلفة عن الآخر، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر.
واللام في {لمن أراد أن يذكر} لام التعليل وهي متعلقة ب {جعل}، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً.
والتذكر: تفعّل من الذِكر، أي تكلف الذكر. والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين، وجاء بمعنى: تذكر فائت أو منسي، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر.
والشكور: بضم الشين مصدر مرادف الشكر، والشكر: عرفانُ إحسان المحسن. والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى.
فتفيد الآية معنى: لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً} [الفرقان: 47] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى: ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوماً فقيل له: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} الآية. ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكراً له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.
وجيء في جانب المتذكرين بقوله {أن يذكر} لدلالة المضارع على التجدد. واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله {أو أراد شكوراً} لأن الشكر يحصل دفعة. ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل {أراد} إذ لا يلتئم عطف {شكوراً} على {أن يذكر}.
وقرأ الجمهور {أن يذَّكر} بتشديد الذال مفتوحة، وأصله: يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما. وقرأ حمزة وخلف {أن يَذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى المشدّد إلاّ أن المشدّد أشدّ عملاً، وكِلا العملين يستدركان في الليل والنهار.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)}
عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي {عباد الرحمن} إلخ، فهو مبتدأ وخبره {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلخ. وقيل: الخبر {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75]. والجملةُ المعطوف عليها جملة {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة} [الفرقان: 62] إلخ. فبمناسبة ذكر من أراد أن يذَّكَّر تُخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها. وهذا من أبدع التخلص إذْ كان مفاجئاً للسامع مطمِعاً أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يُفاجئه ما يؤذن بالختام وهو {قل ما يَعْؤا بكم ربّي} [الفرقان: 77] الآية.
والمراد ب {عباد الرحمن} بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.
وإذ قد أُجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاءِ وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عبادَه، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسمَ الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: {اسجُدوا للرحمان. قالوا: وما الرحمن} [الفرقان: 60]. فإذا جعل المراد من {عباد الرحمن} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبرُ في قوله {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي {أولئك يُجْزَوْن الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75] استئنافاً لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.
وإذا كان المراد من {عباد الرحمن} جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتاً ل {عباد الرحمن} وكان الخبر اسمَ الإشارة في قوله {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] إلخ.
وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمان وزادهم نفوراً هم على الضد من تلك المحامد، تعريضاً تشعر به إضافةُ {عباد} إلى {الرحمن}.
واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على {عباد الرحمن} جاءت على أربعة أقسام:
قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى قوله {سلاماً} [الفرقان: 75].
وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله: {والذين لا يَدْعُون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68].
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله: {والذين يَبِيتُون لربهم سُجَّداً وقياماً} [الفرقان: 64]، وقولُه {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} [الفرقان: 67] الآية، وقوله: {ولا يقتلون النفس} إلى قوله {لا يشهدون الزور} [الفرقان: 68 72] إلخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا إلى قوله: {للمتقين إماماً} [الفرقان: 74].
وظاهر قوله {يمشون على الأرض هوناً} أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل وهو الذي حمل عليه جمهورُ المفسرين.
وجوز الزجاج أن يكون قوله {يمشون} عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي. فعلى الوجه الأول يكون تقييدُ المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهَوْن ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختياراً وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.
والهَوْن: اللين والرفق. ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره (مَشْياً) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهَوْن: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفقُ النعال فهو مخالف لمشْي المتجبرين المعجَبين بنفوسهم وقوتهم. وهذا الهَوْن ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلُّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مِشيته فقال له «إن البخترة مِشية تُكْره إلا في سبيل الله». وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} فاقْصِدْ في مِشيتِك، وحكى الله تعالى عن لقمان قولَه لابنه {ولا تَمْششِ في الأرض مرَحاً} [الإسراء: 37].
والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة، فالهوْن يناسب ماهيتَها وفيه سلامة من صدم المارين.
وعن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الذين يمشون على الأرض هوناً} فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: «هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض». فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى {يمشون على الأرض} أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى {وإذا تولّى سعى في الأرض لِيُفْسِد فيها} [البقرة: 205] وأن الهوْن مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.
وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوْناً بوصف آخر يناسب التواضع وكراهيةَ التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.
وانتصب {سلاماً} على المفعولية المطلقة. وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّةً مثل الكافرين لأن هذا الوصف يُشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.
و (السلام) يجوز أن يكون مصدراً بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مُسلمون منكم. ويجوز أن يكون مراداً به لفظ التحية فيكون مستعملاً في لازمه وهو المتارَكة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحيةِ أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم لإهاجة، والتأمين: أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامَه، فتكون الآية في معنى قوله
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
قال ابن عطية: وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوماً بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له: من أنت؟ فكان يقول: عليٌّ بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عُبورها فكنت أقول: إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأةٍ ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغةً كما يُذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي: سَلاماً. قال الراوي: فكأنَّ إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبتْ عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمونُ على الآية من حضره وقال: هو والله يا عمّ عليّ بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخُزي إبراهيم واستحيا. ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى. ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}
عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حدّ قول الشاعر:
إلى الملِك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المُزدحم
وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يُعرفون بهذه الصلة، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمان. روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ {الذين يمشون على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] قال: هذا وصف نهارهم، ثم إذا قرأ {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً} قال: هذا وصف ليلهم.
والقِيام: جمع قَائم كالصِحاب، والسجود والقيام ركنا الصلاة، فالمعنى: يبيتون يصلّون، فوقع إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويهاً بكليهما. وتقديم {سجداً} على {قياماً} للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أقرب ما يكونُ العبد من ربه وهو ساجد» وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16].
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.
وجملة {إن عذابها كان غراماً} يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين. ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم.
والغرام: الهلاك المُلِحّ الدائِم، وغلب إطلاقه على الشر المستمر.
وجملة {إنها ساءت مستقراً ومقاماً} يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلاً ثانياً مؤكّداً لتعليلهم الأول، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأييداً لتعليل القائلين. وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريراً للاعتراض.
والمستقَرّ: مكان الاستقرار. والاستقرار: قوة القرار. والمقام: اسم مكان الإقامة، أي ساءت موضعاً لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}
أفاد قوله {إذا أنفقوا} أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال: والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ. وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقاً بَلْهَ أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله {إذا أنفقوا} إشعاراً بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجباً عليهم.
والإسراف: تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه. وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافاً} في سورة النساء (6)، وقوله: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} في سورة الأنعام (141).
والإقتار عكسه، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويُغْلُون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر. وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر مادحاً:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيتُه *** تهلَّل واهتز اهتزاز المهند
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ولا يُقتِروا} بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقْتار وهو مرادف التقتير. وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضَرَب وهو لغة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصَر.
والإقتار والقَتْر: الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفَق عليه. وكان أهل الجاهلية يُقْتِرون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك. وقد تقدم ذلك عند قوله: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدَيْن} [البقرة: 180].
والإشارة في قوله: {بين ذلك} إلى ما تقدم بتأويل المذكور، أي الإسراف والإِقتار.
والقَوام بفتح القاف: العدل والقصد بين الطرفين.
والمعنى: أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله.
وقوله: {بين ذلك} خبرُ {كَان} و{قَواماً} حال موكِّدة لمعنى {بين ذلك}. وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عِوَج فيه. ويجوز أن يكون {قَواما} خبر {كان} و{بين ذلك} ظرفا متعلقاً به. وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس. قال القرطبي: والقَوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك.
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)}
هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين.
ووَصْفُ النفس ب {التي حرم الله} بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله {قال لأقتلنّك} [المائدة: 27] الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله {التي حرم الله}. وكان قتل النفس متفشياً في العرب بالعداوات، والغارات، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغَيرة، كما قال امرؤ القيس:
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليَّ حراصاً لو يُسِرُّون مقتلي
وقال عنترة:
عُلّقْتُها عَرضاً وأقتُلُ قومها *** زعماً لعمرُ أبيك ليس بمزعم
وقوله {إلا بالحق} المراد به يومئذ: قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة. ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود. ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان.
وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقاً بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا. فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة، وجُعل في صلة موصول واحد.
وقد يكون تكرير {لا} مجزئاً عن إعادة اسم الموصول وكافياً في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب، ويؤيدّه ما في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر؟ قال: " أن تدعوَ لله نِدًّا وهو خَلَقَك. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتل ولدك خِيفةَ أن يطْعَم معَك. قلت: ثم أيّ: قال: أن تُزانيَ حليلةَ جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها {والذين لا يدعون مع الله إلها آخراً} إلى {أثاماً}، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله {غفوراً رحيماً} [الفرقان: 68 70] قيل نزلت بالمدينة.
والإشارة ب {ذلك} إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور، كما تقدم في نظيره آنفاً. والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث. ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضاً عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأنَّ البعض أيضاً مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثاماً لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه.
وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية.
ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته، أي يعذب عذاباً شديداً وليست لتكرير عذاب مقدر.
والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال، وهو أشد من الإثم، أي يجازى على ذلك سُوءاً لأنها آثام.
وجملة: {يضاعف له العذاب} بدلُ اشتمال من {يلق أثاماً}، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابلٌ للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عِماد الجملة. وجُعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود.
فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جُرم مما ذكر عذاباً مناسباً ولا يكتفَى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك، تنبيهاً على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها. وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يَعنون خطاب المؤاخذة على ما نُهوا عن ارتكابه، وليس المراد أنهم يُطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله.
وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك.
وقوله: {مهاناً} حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة، أي يعذّب ويُهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر.
وقرأ الجمهور: {يضاعفْ} بألف بعد الضاد وبجزم الفعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقُوب {يضعَّف} بتشديد العين وبالجزم. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يضاعفُ} بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني.
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)}
الاستثناء من العموم الذي أفادته {مَن} الشرطية في قوله: {ومَن يفعل ذلك} [الفرقان: 68]. والتقدير: إلاّ مَن تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلهاً آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناءٌ زائد.
وفي «صحيح مسلم»: عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا وزَنَوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68] الآية، والمعنى: أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذاباً غير مضاعف وغيرَ مخلَّد فيه، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيَّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده، إلاّ بقرينة.
والتوبة: الإقلاع عن الذنب، والندمُ على ما فرط، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب، وإذْ كان فيما سَبق ذكرُ الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخدة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث " الإسلام يجُبّ ما قبله "، ولذلك فعطف {وآمن} على {من تاب} للتنويه بالإيمان، وليبنى عليه قوله: {وعمل عملاً صالحاً} وهو شرائع الإسلام تحريضاً على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد (17) {ثم كان من الذين آمنوا}، وقال في عكسه {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} [النور: 39].
وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبُّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان، والإسلام يجُبّ ما قبله بلا خلاف، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمناً متعمداً. ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حقّ وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة. وقد تقدم ذلك مفصلاً في سورة النساء (93) عند قوله تعالى: {ومَن يقتُل مؤمناً متعمّداً} الآية.
وفُرع على الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عَملاً صالحاً أنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن من تاب} مستثنى مِن {مَنْ يَفْعَلْ ذلك} [الفرقان: 68] فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي السيئات المعروفة، أي التي تقدم ذكرها، الواقعةُ منهم في زمن شركهم.
والتبديل: جعل شيء بَدَلاً عن شيء آخر، وتقدم عند قوله تعالى: {ثم بَدَّلْنا مكان السيئة الحسنة} في سورة الأعراف (95)، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضاً عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملاً وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثوابَ حسنات أضدادِ تلك السيئات، وهذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين.
وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله: فأولئك} المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي فأولئك التائبون المُؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب. ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله، ولذلك عُقب هذا بقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} المقتضي أنه عظيم المغفرة.
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}
إذا وقع الإخبار عن شيء أو توصيفٌ له أو حالةٌ منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعيَّن أن يكون الخبر الثاني مستعملاً في شيء من لوازم معنى الإخبار يبيّنه المقام، كقول أبي الطَّمحان لقَيْنِي:
وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ *** وقول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري *** وقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رَآني في المنام فقد رآني» فقوله تعالى هنا: {ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً} وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعيّن أن يُصرف إلى معنى مفيد، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله: {إلى الله} فيكون كناية عن عظيم ثوابه.
ويجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد، أي فإنه يستمر على توبته ولا يرتد على عَقبيه فيكون وعداً من الله تعالى أن يُثبّته على القول الثابت إذا كان قد تاب وأيّد توبته بالعمل الصالح.
ويجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد، أي من تاب وعمل صالحاً فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة لله على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فيكون كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا توبُوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم: 8]. وذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة.
والتوكيد ب (إنّ) على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر.
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}
أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك. وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا {والذين لا يشهدون الزور} الآية.
وفعل (شهد) يستعمل بمعنى (حضر) وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى: {فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه} [البقرة: 185]، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى: {وشَهد شاهد من أهلها} [يوسف: 26].
والزور: الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب. وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولاً به ل {يشهدون}. وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله: {والذين لا يَدعون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68]. وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام (68) {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} ويجوز أن يكون فعل يشهدون} بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوباً على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ.
وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} مناسب لكلا الجملتين.
واللغو: الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه. وتقدم في قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} في سورة مريم (62). ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.
ومعنى: {مروا كراماً} أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة. ٍ
والكرامة: النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة. وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى: {أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]. وقال بعض شعراء حمير في «الحماسة»:
ولا يَخيم اللقاءَ فارسُهم *** حتى يشقَّ الصفوف مِن كَرمه
أي شجاعته، وقال تعالى: {وأعد لهم أجراً كريماً} [الأحزاب: 44].
وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى: {وذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعباً ولهواً} [الأنعام: 70]، وقوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
وإعادة فعل {مروا} لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص:
فإذَا تزول تزولُ عن متخمّط *** تُخشى بوادره على الأقران
ومنه قوله تعالى: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63] كما ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل أبيات الحماسة»، وقد تقدم عند قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7].
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمّاً وعمياناً كحال من لا يحبّ أن يرى شيئاً فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول.
ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به.
ويجوز أن يكون الخرور واقعاً منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوساً في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوماً من طيء، أنشدهُ المبرد:
إذا ما قيل أيُّهم لأيّ *** تشابهتْ المناكِبُ والرؤوس
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح (7) {واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً} وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى: {يخِرُّون للأذقان سُجّداً} في سورة الإسراء (107)، وقوله: {فخَرّ عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 26] وقوله: {وخرّ موسى صَعِقاً} في الأعراف (143).
وصمّاً وعُمْيَانَاً} حالان من ضمير {يخروا}، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به. فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده، وهو استعمال كثير في الكلام. وهذا الوجه أوجه.
ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب «الكشاف»، فالمعنى: لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعاراً للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال: أكَبّ على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهراً منهم بالحرص على ذلك. وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرَّض بهم منافقين، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يُعرِضون عن تلقي الدعوة علَناً، قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلّكم تغلبون} [فصلت: 26]. وقال: {وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تَدْعُونا إليه وفي آذانِنا وقر ومِن بينِنا وبينِك حجاب} [فصلت: 5].
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}
هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يُعْنَون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدْعُون الله أن يرزقهم أزواجاً وذرّيّات تقَرُّ بهم أعينُهم، فالأزواج يُطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين، والذّريات إذا نَشَأوا نشأوا مؤمنين، وقد جُمع ذلك لهم في صفة {قرة أعين}. فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقَرّ عيون المؤمنين إلاّ بأزواج وأبناء مؤمنين. وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله: {ولا تُمسِكوا بعِصَم الكوافر} [الممتحنة: 10]، وقال: {والذي قال لوالدَيه أُف لكما أَتَعِدَانِنِيَ أن أُخرَج} [الأحقاف: 17] الآية. فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقُرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم، كما في قول عبد الله ابن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة، فدعا له المسلمون ولمن معه أن يَردّهم الله سالمين فقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربةً ذات فَرْغ تَقِذف الزبَدا
أو طعنةً بيديْ حرَّانَ مجهزة *** بحَرْبة تُنفذ الأحشاءَ والكَبِدا
حتى يقولوا إذا مَروا على جَدَثي *** أرشدَك الله من غَاز وقد رَشَدا
فإن في قوله: حتى يقولوا، حظاً لنفسه من حسن الذكر وإن كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظّ ديني أيضاً، وقوله: وقد رَشَدَ، حُسْن ذِكرٍ محض. وفي كتاب «الجامع» من «جَامع العتبية» من أحاديث ابن وهب قال مالك: رأيت رجلاً يَسأل ربيعة يقول: إني لأُحِبّ أن أُرى رائحاً إلى المسجد، فكأنه كره من قوله ولم يعجبه أن يحبّ أحدٌ أن يُرى في شيء من أعمال الخير. وقال ابن رشد في «شرحه»: وهذا خلاف قول مالك في رسم العُقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة: إنه لا بأس بذلك إذا كان أولُه لله (أي القصد الأول من العمل لله). وقال ابن رشد في موضع آخر من «شرحه» قال الله تعالى: {وألقَيْتُ عليك محبةً منّي} [طه: 39]، وقال: {واجعل لي لسانَ صِدق في الآخرين} [الشعراء: 84]. وقال الشاطبي في «الموافقات»: «عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سَرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك: إنك لَمُراءٍ. وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملَك» اه.
وفي «المعيار» عن كتاب «سراج المريدين» لأبي بكر بن العربي قال: سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا} [البقرة: 160] ما بَيّنوا؟ قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات.
قال الشاطبي: وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعاً لقصد العبادة. وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض.
وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأنَّ مجالَ النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أَوْجَهُ لما جاء من الأدلة على ذلك، إلى آخره.
و {مِن} في قوله: {من أزواجنا} للابتداء، أي اجعل لنا قُرّة أعْيُن تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا.
وقرأ الجمهور: {وذرياتنا} جمع ذرية، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و{ذريتنا} بدون ألف بعد التحتية، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير {الذين يقولون}، أي ذرية كل واحد.
والأعين: هي أعين الداعين، أي قرة أعيُن لنا. وإذ قد كان الدعاء صادراً منهم جميعاً اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم.
وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قُدوةً يَقتدي بهم المتقّون. وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغَ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمالَ فيه. وهذا يقتضي أيضاً أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم.
والإمام أصله: المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله، قال النابغة:
أبوه قبله وأبو أبيه *** بنَوْا مجدَ الحياة على إمام
وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة. وقد تقدم في قوله تعالى: {قال إني جاعلُك للناس إماماً} في سورة البقرة (124). ووقع الإخبار بإماماً} وهو مفرد عن ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماماً يُقتَدى به، فالكلام على التوزيع، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ. وقيل إمام جمع، مثل هِجان وصِيام ومفردهُ: إمٌّ.
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)}
التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يَرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذُكر قبل اسم الإشارة. وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف، وترك الإقتار، والتنزه عن الشرك، وترك الزنا، وترك قتل النفس، والتوبةُ، وترك الكذب، والعفوُ عن المسيء، وقبولُ دعوة الحق، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء. واسم الإشارة هو الخبر عن قوله {وعباد الرحمن} [الفرقان: 63] كما تقدم على أرجح الوجهين.
و {الغرفة}: البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعزّ منزلاً من البيت الأرضي. والتعريف في الغرفة تعريفُ الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى: {وأنزلنا معهم الكتاب} [الحديد: 25] فالمعنى: يُجزون الغُرَف، أي من الجنة، قال تعالى: {وهم في الغُرفات آمنون} [سبأ: 37].
والباء للسببية. و(ما) مصدرية في قوله: {بما صبروا}، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى، وصبرُهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام، وصبرهم على مشقة الطاعات.
وقرأ الجمهور: {وَيُلقون} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع لقّاه إذا جعله لاقياً. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {ويَلْقَون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لَقِيَ. وَاللُّقِيُّ واللِّقَاء: استقبال شيء ومصادفته، وتقدم في قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه} في سورة البقرة (223)، وفي قوله: {يأيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم الذين كفروا زحْفاً} في سورة الأنفال (15)، وتقدم قريباً قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً} [الفرقان: 68].
وقد استعير اللُّقِيّ لسماع التحية والسلام، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء والمنشدون.
ويجوز أن يكون إطلاق اللُّقِيّ لسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يَلْقَوْنَهم بها، فهو مجاز بالحذف قال تعالى: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} في سورة الأنبياء (103).
وقوله: {حسنت مستقراً ومقاماً} هو ضدّ ما قيل في المشركين {إنها ساءت مستقراً ومقاماً} [الفرقان: 66]. والتحية تقدمت في قوله: {وإذا حُيِّيتُم بتحية} في سورة النساء (86)، وفي قوله: {وتحيتهم فيها سلام} في سورة يونس (10)، وقوله: {تحية من عند الله مباركة طيبة} في آخر النور (61).
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}
لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن، وما تضمنته من توحيد الله، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم، وأحوال المؤمنين، وأقيمت الحجج الدامغة للمعْرضين، ختمت بأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يُزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شَفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمةً منه بهم لإصلاح حالهم وقطعاً لعذرهم فإذْ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب.
و {ما} من قوله: {ما يعبؤا بكم} نافية. وتركيب: ما يعبأ به، يدل على التحقير، وضده عَبأ به يفيد الحفَاوة.
ومعنى {ما يعبأ}: ما يبالي وما يهتمّ، وهو مضارع عَبَأ مثل: ملأ يَملأ مشتقّ من العِبء بكسر العين وهو الحِمل بكسر الحاء وسكون الميم، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العِبء على العِدْل بكسر فسكون، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة. فأصل {ما يعبأ}: ما يحْمِل عِبئاً، تمثيلاً بحالة المُتعَب من الشيء، فصار المقصود: ما يهتمّ وما يكترث، وهو كناية عن قلة العناية.
والباء فيه للسببية، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام. فالتقدير هنا: ما يعبأ بخطابكم.
والدعاء: الدعوة إلى شيء، وهو هنا مضاف إلى مفعوله، والفاعل يدل عليه {ربّي} أي لولا دعاؤه إياكم، أي لولا أنه يدعوكم. وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله: {فقد كذبتم}، أي الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام. والمعنى: أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم. وهذا كقوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا لِيَعْبُدون ما أُريد منهم مِن رزق وما أُريد أن يُطْعِمُون} [الذاريات: 56، 57].
وضمير الخطاب في قوله: {دعاؤكم} موجّه إلى المشركين بدليل تفريع {فقد كَذّبتم} عليه وهو تهديد لهم، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء. وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجهاً إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتمادُ المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها.
وتفريع {فقد كذبتم} على قوله: {لولا دعاؤكم}، والتقدير: فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه.
والضمير في {يكون} عائد إلى التكذيب المأخوذ من {كذبتم}، أي سوف يكون تكذيبهم لزاماً لكم، أي لازماً لكم لا انفكاك لكم منه. وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديداً مهولاً بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني: قد فعلتَ كذا فسوف تتحمل ما فعلت.
ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب.
واللِّزام: مصدر لازم، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم، أي عدم المفارقة، قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً} في سورة طه (129). والضميرُ المستتر في (كان) عائد إلى عذاب الآخرة في قوله: {ولعذَاب الآخرة أشدّ وأبقَى} [طه: 127]، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة. وقد اجتمع فيه مبالغتان: مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف.
وعن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب: اللِّزام: عذاب يوم بَدر. ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللِّزام الموعود لهم. ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعَلم بالغلبة على يوم بدر. وفي الصحيح عن ابن مسعود: خمس قد مضَين: الدخان والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، يعني أن اللِّزام غير عذاب الآخرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire