dimanche 6 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة إبراهيم
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏
‏{‏الر‏}‏‏.‏
تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس‏.‏
‏{‏كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد‏}‏
الكلام على تركيب ‏{‏الر كتاب أنزلته إليك‏}‏ كالكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألمص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 1 2‏]‏ عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله‏:‏ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز‏.‏
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم
ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد‏}‏ بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏‏.‏
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة‏.‏ وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية‏.‏
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض‏.‏
والإخراج‏:‏ مستعار للنقل من حال إلى حال‏.‏ شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج‏.‏
و ‏{‏الظلماتُ والنور‏}‏ استعارة للكفر والإيمان، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل‏.‏ وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكاننٍ نيّر‏.‏
وجمع ‏{‏الظلمات‏}‏ وإفراد ‏{‏النور‏}‏ تقدم في أول سورة الأنعام ‏(‏1‏)‏‏.‏
والباء في ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ للسببية، والإذنُ‏:‏ الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله‏.‏ ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 1‏]‏ بدل من النور‏}‏ بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به، وتأكيد للعامل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏88‏)‏‏.‏
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل، ظاهرة‏.‏
واختيار وصف العزيز الحميد‏}‏ من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام، لأن العزيز الذي لا يُغلب‏.‏ وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم‏.‏
والحميد‏:‏ بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏
‏{‏اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏
‏{‏الله الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض‏}‏‏.‏
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ هو ‏(‏أي العزيزُ الحميد‏)‏ اللّهُ الموصوف بالذي له ما في السماوات الأرض‏.‏ وهذا الحذف جارٍ على حذف المسند إليه المسمى عند علماء المعاني تبعاً للسكاكِي بالحَذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عندما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريراً للغرض، كقول إبراهيم الصولي‏:‏
سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتي *** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلّت
فَتى غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
أي هو فتى من صفته كيت وكيت‏.‏
وقرأه الباقون إلاّ رُويْساً عن يعقوب بالجَرّ على البدلية من ‏{‏العزيز الحميد‏}‏، وهي طريقة عربية‏.‏ ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المنتقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه عَلَم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم‏.‏
وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله‏:‏ ‏{‏الحميد‏}‏ وابتدئ باسم ‏{‏الله‏}‏، فإذا وصل ‏{‏الحميد‏}‏ باسم ‏{‏الله‏}‏ جر اسم الجلالة على البدلية‏.‏
وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين‏.‏ وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه‏.‏ وفي ذكر هذه الصلة إدماجُ تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض‏.‏
لمّا أفاد قوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ تعريضاً بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏، أي للمشركين به آلهة أخرى‏.‏
وجملة ‏{‏وويل للكافرين‏}‏ إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم، مثل قولهم‏:‏ ويحك، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر‏.‏
‏{‏وويل‏}‏ مصدر لا يعرف له فعل، ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة، ولأنه لا يُعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات، كما تقدم في رفع ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة الفاتحة‏.‏ ويقال‏:‏ ويل لك وويلك، بالإضافة‏.‏ ويقال‏:‏ يا ويلك، بالنداء‏.‏ وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجروراً بحرف ‏{‏مِن‏}‏ الابتدائية كما في قوله هنا ‏{‏من عذاب شديد‏}‏، أي هلاكاً ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار‏.‏
وتقدم الويل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏
والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور‏.‏
ويستحبون‏}‏ بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر‏.‏ وضمن ‏{‏يستحبون‏}‏ معنى يؤثرون، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء، فنشأ من هذا معنى الإيثار، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على الآخرة‏}‏ أي يؤثرونها عليها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً‏}‏ تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏45‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏99‏)‏، فانظره هنالك‏.‏
والصدّ عن سبيل الله‏:‏ منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه‏.‏ شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق‏.‏ وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏
والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك في ضلال بعيد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 3‏]‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل، فأولئك‏}‏ في محل مبتدأ و‏{‏في ضلال بعيد‏}‏ خبر عنه‏.‏ ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه‏.‏
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي، وإنما البعيد هم الضالّون، أي ضلالاً بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه‏.‏
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه‏.‏ ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله‏:‏ ‏{‏ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 18‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏116‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً لقلب اعتقاد المخاطبين، فيتعين أن يكون ردّاً على فريق من المشركين قالوا‏:‏ هلا أنزل القرآن بلغة العجم‏.‏ وقد ذكر في «الكشاف» في سورة فصلت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي‏}‏ ‏[‏سورة فصلت‏:‏ 44‏]‏ فقال‏:‏ كانوا لتعنتهم يقولون‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العجم، وهو مروي في تفسير الطبري‏}‏ هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك‏.‏
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تُفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة‏.‏ وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح‏.‏ وقد زعم السراج البلقيني‏:‏ أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال‏:‏
ومن عجيب ما ترى العينان *** أن سُؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقيني *** ولم أره لغيره بعيني
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري»، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة‏.‏ فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله، فالقصر هنا لرد كلامهم، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين‏.‏
فموقع هذه الآية عقب آية ‏{‏كتاب أنزلناه إليك‏}‏ بيّن المناسبة‏.‏
وتقدير النظم‏:‏ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور‏.‏
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّاً لمقالة بعض المشركين يكُن تنزيلاً للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن، ولقولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أرسلناك إلاّ لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه، وكان قوله‏:‏ ‏{‏إلا بلسان قومه‏}‏ إدْماجاً في الاستثناء المتسلط عليه القصرُ؛ أو يكون متعلقاً بفعل ‏{‏ليبين‏}‏ مقدماً عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏‏.‏
واللسان‏:‏ اللغة وما به التخاطب‏.‏ أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به، مثل‏:‏ سَال الوادي‏.‏
والباء للملابسة، فلغة قومه ملابسة لِكلامه والكتاببِ المنزل إليه لإرشادهم‏.‏
والقوم‏:‏ الأمة والجماعة، فقوم كلُ أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم، إذ كان الرسُل يبعثون إلى أقوامهم، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة‏.‏
وإنما كان المخاطب أولاً هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها، فاختار الله أن يكون رسوله عليه الصلاة والسلام من أمة هي أفصح الأمم لساناً، وأسرعهم أفهاماً، وألمعهم ذكاءً، وأحسنهم استعداداً لقبول الهدى والإرشاد، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عددٌ من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلامُ بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفاً أو أكثر‏.‏ وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون‏.‏
واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب، لأنها أصلح اللغات جمعَ معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على الألسن، وسرعة حفظ، وجمال وقع في الأسماع، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء، وعهد إليها نشره بين الأمم‏.‏
وفي التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ليبين لهم‏}‏ إيماء إلى هذا المعنى، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بأن يأتي الكتاب بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 195‏]‏‏.‏ فهذا كله من مطاوي هذه الآية‏.‏
ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتُصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبيّن لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم‏.‏
وتفريع قوله‏:‏ فيضل الله من يشاء‏}‏ الخ على مجموع جملة ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏، ولذلك جاء فعل ‏{‏يضلّ‏}‏ مرفوعاً غير منصوب إذ ليس عطفاً على فعل ‏{‏ليبين‏}‏ لأن الإضلال لا يكون معلولاً للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين‏.‏ والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين‏.‏ وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم‏.‏
والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد‏.‏
وجملة ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خُلق له، والحكيم يضع الأشياء مواضعها، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد‏.‏ ومَوْقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم، فالتبيين من مقتضَى أمر التشريع والإضلالُ من مقتضَى أمر التكوين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور‏.‏
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال‏:‏ ‏{‏ما أنزلَ الله على بشر من شيء‏.‏
والباء في بآياتنا‏}‏ للمصاحبة، أي إرسالاً مصاحباً للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحباً لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين‏.‏
و ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية، فسر الإرسال بجملة «أخْرِج قومك» الخ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقاً بموقع ‏{‏أن‏}‏ التفسيرية‏.‏
و ‏{‏الظلمات‏}‏ مستعار للشرك والمعاصي، و‏{‏النور‏}‏ مستعار للإيمان الحق والتقوى، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام سَرَى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط، فكانت رسالة موسى عليه السلام لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح‏.‏
والتذكير‏:‏ إزالة نسيان شيء‏.‏ ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم‏.‏ ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله‏.‏
و ‏{‏أيام الله‏}‏ أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوّهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى‏.‏ وشاع إطلاق اسم اليوم مضافاً إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال‏:‏ أيام تميم، أي أيام انتصارهم، ‏{‏فأيّام الله‏}‏ أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصْره أولياءه والمطيعين له‏.‏
فالمراد بِ ‏{‏أيام الله‏}‏ هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه، وكله يصح أن يكون تفسيراً لمضمون الإرسال، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال‏.‏
فقول موسى عليه السلام ‏{‏يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 20، 21‏]‏ هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى عليه السلام‏.‏ وهو وإن كان واقعاً بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم، وعنايتِه بهم ليعلموا أنه رُبّ ضعيففٍ غلب قوياً ونجا بضعفه ما لم ينجُ مثلَه القوي في قوته‏.‏
واسم الإشارة في قوله‏:‏ إن في ذلك لآيات‏}‏ عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى‏.‏
والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله‏.‏
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏في ذلك‏}‏ لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ‏.‏
ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب، جُعلت متعلقة ب ‏{‏كل صبار شكور‏}‏ إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان ذكر الصفتين توزيعاً لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ باعتبار غرض الجملتين، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها، كما أنزل القرآن لذلك‏.‏
‏{‏وإذ‏}‏ ظرف للماضي متعلّق بفعل تقديره‏:‏ اذكر، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أممهم‏.‏ والمعنى‏:‏ واذْكر قول موسى لقومه الخ‏.‏
وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استعباد القبط وإهانتهم، فهو من تفاصيل ما فسّر به إرسال موسى عليه السلام وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يذكّره قومه‏.‏
و ‏{‏إذ أنجاكم‏}‏ ظرف للنعمة بمعنى الإنام، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجائه إياكم من آل فرعون‏.‏ وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أنجيناكم من آل فرعون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏، وكذا في سورة الأعراف يقتلون‏.‏ سوى أن هذه الآية عُطفت فيها جملة ويذبحون‏}‏ على جملة ‏{‏يسومونكم‏}‏ وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة ‏{‏يذبحون‏}‏ وجملة ‏{‏يقتلون‏}‏ بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏‏.‏ فكان مضمون جملة ‏{‏وبذبحون‏}‏ هنا مقصوداً بالعدّ كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماماً بشأنه، فعطفه من عطف الخاص على العامّ‏.‏ وعلى كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر، فالقرآنُ حكى مراد كلام موسى عليه السلام من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به، وهو حاصل على كلا النظمين‏.‏ وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفنّناً في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي، وهو ذكر سوء العذاب مجملاً، وذكر أفظع أنواعه مبيّناً‏.‏
وأما عطف جملة ‏{‏ويستحيون نساءكم‏}‏ في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يُعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن‏.‏ ولذلك سمي جميع ذلك بلاء‏.‏
وأصل البلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ والبلاء هنا المصيبة بالشرّ، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لِمقدار الصبر، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل‏.‏ وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلاّ على المكروه‏.‏ وما ورد منه مستعملاً في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونبلو أخباركم‏}‏ ‏[‏سورة محمد‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وتقدم في نظيرها من سورة البقرة‏.‏
وجعل هذا الضر الذي لحقهم وارداً من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتّبَاهِهم دين القبط وعبادة آلهتهم‏.‏
واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله‏:‏ ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وهذه الآية تضمنت ما في فقرة ‏(‏17‏)‏ من الإصحاح‏}‏ ‏(‏12‏)‏‏.‏ وفقرة ‏(‏3‏)‏ من «الإصحاح» ‏(‏13‏)‏ من «سفر الخروج»‏.‏ وما في فقرة ‏(‏13‏)‏ من الإصحاح ‏(‏26‏)‏ من «سفر اللاّويين»‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏إذ أنجاكم من آل فرعون‏}‏ فهو من كلام موسى عليه السلام والتقدير‏:‏ واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربكم لئن شكرتم الخ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمةٌ وفضل من الله، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاءً لولا سعة فضل الله‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ فجاءت به المقابلة‏.‏
ويجوز أن يعطف ‏{‏وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ على ‏{‏نعمة الله عليكم‏}‏‏.‏ فيكون التقدير‏:‏ واذكروا إذ تأذن ربكم، على أن ‏{‏إذ‏}‏ منصوبة على المفعولية وليست ظرفاً وذلك من استعمالاتها‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف ‏(‏167‏)‏‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 86‏]‏‏.‏
ومعنى تأذن ربكم‏}‏ تكلّم كلاماً عَلَناً، أي كلم موسى عليه السلام بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل‏.‏ ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات ‏(‏9 20‏)‏ من الإصحاح ‏(‏19‏)‏ من «سفر الخروج»، والفقرات ‏(‏1 18، 22‏)‏ من الإصحاح ‏(‏20‏)‏ منه، والفقرات ‏(‏من 20 إلى 30‏)‏ من الإصحاح ‏(‏23‏)‏ منه‏.‏
والتأذن مبالغة في الأذان يقال‏:‏ أذن وتأذّن كما يقال‏:‏ توعّد وأوعد، وتفضّل وأفضل‏.‏ ففي صيغة تفعّل زيادة معنى على صيغة أفْعَلَ‏.‏
وجملة ‏{‏لئن شكرتم‏}‏ موطئة للقسم والقسم مستعلم في التأكيد‏.‏ والشكر مؤذن بالنعمة‏.‏ فالمراد‏:‏ شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها، ولذلك حذف مفعول ‏{‏شكرتم‏}‏ ومفعول ‏{‏لأزيدنكم‏}‏ ليقدر عاماً في الفعلين‏.‏
والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان‏.‏ وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة‏.‏
واستغنى ب ‏{‏إن عذابي لشديد‏}‏ عن ‏{‏لأعذبنه عذاباً شديداً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏ لكونه أعم وأوجز، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس‏.‏ والمعنى‏:‏ إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏
أعيد فعل القول في عطف بعض كلام موسى عليه السلام على بعض لِئَلا يتوهّم أن هذا مما تأذّن به الرب وإنما هو تنبيه على كلام الله‏.‏ وفي إعادة فِعل القول اهتمام بهذه الجملة وتنويه بها حتى تبرز مستقلة وحتى يصغي إليها السامعون للقرآن‏.‏
ووجه الاهتمام بها أن أكثر الكفار يحسبون أنهم يحسنون إلى الله بإيمانهم، وأن أنبياءهم حين يلحّون عليهم بالإيمان إنما يبتغون بذلك تعزيز جانبهم والحرصَ على مصحلتهم‏.‏ فلمّا وعدهم على الشكر بالزيادة وأوعدهم على الكفر بالعقوبة خشي أن يحسبوا ذلك لانتقام المثيب بما أثاب عليه، ولتضرّره مما عاقب عليه، فنبّههم إلى هذا الخاطر الشيطاني حتى لا يسري إلى نفوسهم فيكسبهم إدْلاَلاً بالإيمان والشكر والإقلاع عن الكفر‏.‏
و ‏{‏أنتم‏}‏ فصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذ كان هذا المعطوف عليه ضميراً متّصلاً‏.‏
و ‏{‏جميعاً‏}‏ تأكيد لمن في الأرض للتنصيص على العموم‏.‏ وتقدم نظيره ونصبه غيرَ بعيد‏.‏
والغنيّ‏:‏ الذي لا حاجة له في شيء، فدخل في عموم غناه أنه غني عن الذين يكفرون به‏.‏
والحميد‏:‏ المحمود‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه محمود من غيركم مستغن عن حمدكم؛ على أنهم لو كفروا به لكانوا حامدين بلسان حالهم كرهاً، فإنّ كل نعمة تنالهم فيحمدونها فإنما يحمدون الله تعالى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذه الآية تضمنت ما في الفقرات ‏(‏30 إلى 33‏)‏ من الإصحاح ‏(‏32‏)‏ من سفر الخروج‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏
هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 2‏]‏، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله‏:‏ ‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 1‏]‏، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ الآية، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد‏.‏
والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 137‏]‏‏.‏
والذين من بعدهم‏}‏ يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وجملة لا يعلمهم إلا الله‏}‏ معترضة بين ‏{‏والذين من بعدهم‏}‏ وبين جملة ‏{‏جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ الواقعة حالاً من ‏{‏والذين من بعدهم‏}‏، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم‏.‏
ومعنى ‏{‏جاءتهم رسلهم‏}‏ جاءَ كلّ أمة رسولُها‏.‏
وضمائر ‏{‏ردّوا‏}‏ و‏{‏أيديهم‏}‏ و‏{‏أفواههم‏}‏ عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه‏.‏
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن‏.‏
ومعنى ‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في «الكشاف» إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى‏:‏ أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم‏.‏ وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل‏.‏
والردّ‏:‏ مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه «الراغب»‏.‏ أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ‏.‏
وحرف ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية المراد بها التمكين، فهي بمعنى ‏{‏على‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم‏}‏ جعلوا أيديهم على أفواههم‏.‏
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزئ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي‏.‏
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 74‏]‏، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه‏.‏
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه إنّ‏}‏ وفعل المضيّ في قوله‏:‏ ‏{‏إنا كفرنا‏}‏‏.‏ وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏، فمعنى ذلك‏:‏ أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله، أي كفروا بأن الله أرسلهم‏.‏ فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه‏.‏
وأما قولهم‏:‏ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه‏}‏ فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله‏.‏ فمرادهم‏:‏ أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً‏.‏
وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن‏.‏
و ‏{‏مريب‏}‏ تأكيد لمعنى ‏{‏في شك‏}‏، والمريب‏:‏ المُتوقع في الريب، وهو مرادف الشك، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته، كقولهم‏:‏ لَيل ألْيَل، وشِعر شَاعر‏.‏
وحذفت إحدى النونين من قوله‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ تخفيفاً تجنباً للثقل الناشئ من وقوع نونين آخرين بعد في قوله‏:‏ ‏{‏تدعوننا‏}‏ اللازم ذكرهما، بخلاف آية سورة هود ‏(‏62‏)‏ ‏{‏وإننا لفي شك مما تدعونا‏}‏ إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله‏:‏ تدعونا‏}‏ واحد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏
‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات والارض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏
استفهام إنكاري‏.‏ ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله، فقدم متعلق الشك للاهتمام به، ولو قال‏:‏ أشك في الله، لم يكن له هذا الوقع، مثل قول القطامي‏:‏
أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعدَ عطائك المائةَ الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول‏:‏ أبعد رد الموت عني كفرٌ‏.‏
وعلق اسم الجلالة بالشك، والاسم العَلَم يدلّ على الذات‏.‏ والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية، أي صفة الوحدانية‏.‏
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالُّ على أن لهما خالقاً حكيماً لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعللٍ مختار، وذلك معلوم بأدنى تأمل، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته‏.‏
وجملة ‏{‏يدعوكم‏}‏ حال من اسم الجلالة، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد‏.‏
والدعاء‏:‏ حقيقته النداء‏.‏ فأطلق على الأمر والإرشاد مجازاً لأن الآمر ينادي المأمور‏.‏
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالباً وهو ‏{‏إلى‏}‏، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون ‏{‏ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وقد يعدّى بلام التعليل داخلةً على ما جُعل سبباً للدعوة فإن العلة تدل على المعلول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم‏}‏ ‏[‏سورة نوح‏:‏ 7‏]‏، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم، وهو في هذه الآية كذلك، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم‏.‏
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلاً للشيء الذي يُدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى، كقول أعرابي من بني أسد‏:‏
دعَوْتُ لِمَا نَابني مِسْورَا *** فلبّى فلبيْ يديْ مسور
قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ‏}‏‏.‏
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يُعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلاً عنه، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه، وحسبانهم بذلك التعجيز‏.‏
فجملة ‏{‏تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا‏}‏ في موضع الحال، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ من جحد كونهم رسلاً من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفاً لدينهم القديم، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة ‏{‏فأتونا بسلطان مبين‏}‏ لأن مجرّد كونهم بشراً لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم، وهو مضمون ما أرسلوا به‏.‏
وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلَّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا‏:‏ تريدون أن تصدّونا عن ديننا‏.‏
والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ وقد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏71‏)‏‏.‏
المبين الواضح الذي لا احتمال فيه لغير ما دل عليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏
‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
قول الرسل ‏{‏إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غيرُ تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة‏.‏ ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم‏.‏
ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏سورة المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ تقريراً للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله‏.‏ ومحل البيان هوالاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله يَمنّ على من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم‏.‏
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة‏.‏
وأورد الشيخ محمّد بن عرفة في التفسير‏}‏ وجهاً للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة ‏{‏لهم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قالت لهم رسلهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها قالت رسلهم‏}‏ بوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذه المقالة خاصة بالمكذّبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم، أي للمصدقين والمكذبين‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن وجود الله أمر نظري، فكان كلام الرسل في شأنه خطاباً لعموم قومهم، وأما بعْثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر، فكأنه قال‏:‏ ما قَالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم‏.‏
وأجاب الأبي أن ‏{‏أفي الله شك‏}‏ خطاب لمن عاند في أمر ضروري، فكأنّ المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يُقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو مُعْرض عنه بخلاف قولهم‏:‏ ‏{‏إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ فإنه تقرير لمقالتهم فهم يُقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اه‏.‏
والحاصل أن زيادة ‏{‏لهم‏}‏ تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللامُ الداخلة بعد فعل القول في نحو‏:‏ أقول لك، لام تعليل، أي أقول قولي لأجلك‏.‏
ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكرَه على إجابة من يتحداه‏.‏
وجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ أمر لمَن آمن من قومهم بالتوكل على الله، وقصدوا به أنفسهم قصداً أوليّاً لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا‏}‏ إلى آخره‏.‏
ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غيرَ معلوم الميقات ولا متعيّنَ الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلَهم تكذيباً قاطعاً وتَوَقَعَ الرسلُ أذاه قومهم إياهم شأن القاطع بكذب من زَعم أنه مرسل من الله، ولأنهم قد بدأوهم بالأذى كما دل عليه قولهم‏:‏ ‏{‏وَلنصبرنّ على ما آذيتمونا‏}‏‏.‏ أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجهَهُم به المكذّبون من أذى بتوكّلهم على الله هم ومن آمن معهم؛ فابتدأوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيراً لهم لئلا يتعرّض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصاً على ثبات المؤمنين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه‏:‏ «أفي شك أنت يابنَ الخطّاب»‏.‏ وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبأون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا ‏{‏لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وتقديم المجرور في قوله‏:‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصراً من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم‏.‏ وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله‏.‏
والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏ رابطة لجملة ‏(‏ليتوكل المؤمنون‏)‏ بما أفادهُ تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون، وإن خشيتم هؤلاء المُكذّبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوّهم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ كما تقدم في سورة العقود ‏(‏23‏)‏‏.‏
والتوكّل‏:‏ الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءَه من خير الدنيا والآخرة‏.‏ وقد تقدم الكلام على التوكّل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏59‏)‏‏.‏
وجملة وما لنا ألا نتوكل على الله‏}‏ استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها‏.‏
وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم‏:‏ ‏{‏سبلنا‏}‏‏.‏
‏{‏وما لنا ألا نتوكل‏}‏ استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله، أتوا به في صورة الإنكار بناءً على ما هو معروف من استحماق الكفار إيّاهم في توكلهم على الله، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله، ومعنى ‏{‏وما لنا ألا نتوكل‏}‏ ما ثبت لنا من عدم التوكل، فاللام للاستحقاق‏.‏
وزادوا قومهم تأييساً من التأثر بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في ‏{‏ولنصبرن‏}‏ دلت على أذى مستقبل‏.‏
ودلّت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله‏:‏ ‏{‏ما آذيتمونا‏}‏ على أذى مضى‏.‏ فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى‏.‏ وهذا إيجاز بديع‏.‏
وجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المتوكلون‏}‏ يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلاً وتأكيداً لجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ فكانت تذييلاً لما فيها من العموم الزائد في قوله‏:‏ ‏{‏المتوكلون‏}‏ على عموم ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏ وكانت تأكيداً لأن المؤمنين من جملة المتوكلين‏.‏ والمعنى‏:‏ من كان متوكلاً في أمره على غيره فليتوكل على الله‏.‏
ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله، أي لا ينبني التوكل إلا عليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين‏}‏ ‏{‏وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارض مِن بَعْدِهِمْ‏}‏‏.‏
تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار‏.‏ فالظاهر عندي أن المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هنا كفار قريش على طريقة التوجيه‏.‏ وأن المراد ب ‏{‏رُسُلِهم‏}‏ الرسولُ محمّد صلى الله عليه وسلم أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريق قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون‏}‏ في سورة غافر ‏(‏70‏)‏‏.‏ فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله‏:‏ فسوف يعلمون وقوله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب‏}‏ ‏[‏سورة الحديد‏:‏ 25‏]‏، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين، وقوله‏:‏ ‏{‏فكذبوا رسلي‏}‏ في سورة سبأ ‏(‏45‏)‏ على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما‏.‏
وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز‏:‏ إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيماً له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏
وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقييد‏.‏ والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية‏.‏
فلا جرم أن يكون المراد بالذين كفروا‏}‏ هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك ‏{‏ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ فإنه لا يعرف أن رسولاً من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «منزلُنا إن شاء الله غداً بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر»‏.‏
وعلى تقدير أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها‏.‏ وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله‏.‏
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر‏.‏
و ‏(‏أو‏)‏ لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل مَن خوطب بالقسم، وليست هي ‏{‏أو‏}‏ التي بمعنى ‏{‏إلى‏}‏ أو بمعنى ‏{‏إلاّ‏.‏
والعود‏:‏ الرجوع إلى شيء بعد مفارقته‏.‏ ولم يكن أحد من الرسل متبعاً ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه‏.‏
والظرفية في قوله‏:‏ في ملتنا‏}‏ مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه‏.‏
والملّة‏:‏ الدين‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في آخر سورة الأنعام ‏(‏161‏)‏، وانظر قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في أوائل سورة آل عمران ‏(‏95‏)‏‏.‏
وتفريع جملة فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏}‏ على قول الذين كفروا لرسلهم ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 13‏]‏ الخ تفريع على ما يَقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين‏.‏
وجملة لنهلكن الظالمين‏}‏ بيان لجملة ‏(‏أوحى‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏
وإسكان الأرض‏:‏ التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم‏}‏ ‏[‏سورة الأحزاب‏:‏ 27‏]‏‏.‏
والخطاب في لنسكننكم‏}‏ للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها‏.‏
‏{‏ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏‏.‏
‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من ‏{‏لنهلكن‏}‏، و‏{‏لنسكننكم‏}‏‏.‏ عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق آثاماً‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏
واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى‏:‏ ذلك لمن خشي ربه ‏[‏سورة البينة‏:‏ 8‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى من خاف مقامي‏}‏ لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية‏.‏
ومعنى ‏{‏خاف مقامي‏}‏ خافني، فلفظ ‏{‏مقام‏}‏ مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل خاف مقامي‏}‏ كان فيه من المبالغة ما ليس في ‏(‏خافني‏)‏ بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه‏.‏ كما يقال‏:‏ قصّر في جانبي‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على ما فرطت في جنب الله‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم‏:‏
إن السماحة والمروءة والندى *** في قُبة ضُربت على ابن الحشرج
أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة‏.‏ ومنه ما في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة، أي هذا العائذ بك القطيعة‏.‏
وخوف الله‏:‏ هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده‏.‏
وعطف جملة وخاف وعيد‏}‏ على ‏{‏خاف مقامي‏}‏ مع إعادة فعل ‏{‏خاف‏}‏ دون اكتفاء بعطف ‏{‏وعيدي‏}‏ على ‏{‏مقامي‏}‏ لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناءً على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة ‏{‏خاف مقامي‏}‏ تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثاً، قال تعالى‏:‏
‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 47‏]‏، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة ‏(‏8‏)‏ ‏{‏ذلك لمن خشي ربه‏}‏ لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة‏.‏
وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعي الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور وعيد‏}‏ بدون ياء وصلاً ووقفاً‏.‏ وقرأه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل‏.‏ وقرأه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف‏.‏ وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافاً إليها في غير النداء‏.‏ وفيها في النداء لغتان أخريان‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏
‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏واستفتحوا‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم‏}‏، أو معترضة بين جملة ‏{‏ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ وبين جملة ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم استعجلوا النصر‏.‏ وضمير ‏{‏استفتحوا‏}‏ عائد إلى الرسل، ويكون جملة ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم‏}‏ الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم‏:‏ ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا‏}‏‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى ‏{‏كل جبار عنيد‏}‏ للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب‏.‏
ويجوز أن تكون جملة ‏{‏استفتحوا‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا لرسلهم‏}‏ ويكون ضمير ‏{‏استفتحوا‏}‏ عائداً على الذين ‏{‏كفروا‏}‏، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك‏.‏ ولكون في قوله‏:‏ ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال‏:‏ وخابوا، إلى قوله‏:‏ ‏{‏كل جبار عنيد‏}‏ لمثل الوجه الذي ذكر آنفاً‏.‏
والاستفتاح‏:‏ طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 19‏]‏‏.‏
والجبار‏:‏ المتعاظم الشديد التكبر‏.‏
والعنيد المعاند للحق‏.‏ وتقدماً في قوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏ في سورة هود ‏(‏59‏)‏‏.‏ والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف جبار‏}‏ خلُق نفساني، ووصف ‏{‏عنيد‏}‏ من أثر وصف ‏{‏جبار‏}‏ لأن العنيد المكابر المعارض للحجة‏.‏
وبين ‏{‏خاف وعيد‏}‏ و‏{‏خاب كل جبار عنيد‏}‏ جناس مصحف‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ صفة ل ‏{‏جبار عنيد‏}‏، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة‏.‏
والوراء‏:‏ مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم‏:‏
عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءَه فَرج قريب
وأما إطلاق الوراء على معنى من بَعْد‏}‏ فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه‏.‏
والمعنى‏:‏ أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته‏.‏
والصديد‏:‏ المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى‏.‏ والمعنى‏:‏ ويسقى صديداً عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل ‏{‏صديد‏}‏ عطفَ بيان ل ‏{‏ماء‏}‏‏.‏ وهذا من وجوه التشبيه البليغ‏.‏
وعطف جملة ‏{‏يسقى‏}‏ على جملة ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم‏.‏
والتجرع‏:‏ تكلف الجَرْع، والجرع؛ بلع الماء‏.‏
ومعنى ‏{‏يُسيغه‏}‏ يفعل سوغه في حلقه‏.‏ والسوغ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال ساغ الشراب، وشراب سائغ‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يكاد يسيغه‏}‏ لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏71‏)‏‏.‏
وإتيان الموت‏:‏ حلوله، أي حلول آلامه وسكراته، قال قيس بن الخطيم‏:‏
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وما هو بميت‏}‏، أي فيستريح‏.‏
والكلام على قوله‏:‏ ‏{‏ومن وراءه عذاب غليظ‏}‏ مثل الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه‏.‏
والغليظ‏:‏ حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ في سورة هود ‏(‏58‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏‏}‏
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة‏.‏ وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك‏؟‏ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع حتمالات‏.‏
والمثل‏:‏ الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ‏.‏ فالمعنى‏:‏ حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مَثَل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏أعمالهم‏}‏ مبتدأ ثاننٍ، و‏{‏كرماد‏}‏ خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدإ الأول‏.‏
ولما جعل الخبر عن ‏{‏مثل الذين كفروا‏}‏، ‏{‏أعمالهم‏}‏ آل الكلام إلى أن مَثَل أعمال الذين كفروا كرماد‏.‏
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقاً لا يُرجى معه اجتماعُه‏.‏ ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة‏.‏
ووصف اليوم بالعاطف مجاز عقلي، أي عاصف ريحُه، كما يقال‏:‏ يوم ماطر، أي سحابه‏.‏
والرماد‏:‏ ما يبقى من احتراق الحطب والفحم‏.‏ والعاصف تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم‏.‏
وقرأ نافع وأبو جعفر اشتدت به الرياح‏}‏‏.‏ وقرأه البقية ‏{‏اشتدت به الريح‏}‏ بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس‏.‏
وجملة ‏{‏لا يقدرون مما كسبوا على شيء‏}‏ بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها‏.‏
وجملة ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد‏.‏
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك‏:‏ أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏116‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏
استئناف بياني ناشئ عن جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏}‏ فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال‏:‏ كيف تهلك فئة مثل هؤلاء‏؟‏ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها، فمبدأ الاستئناف هو قوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد‏}‏‏.‏
وموقع جملة ‏{‏ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ موقع التعليل لجملة الاستئناف، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجِدال على دليلها‏.‏ وقد بيناه في كتاب «أصول الخطابة»‏.‏
ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في يوم عاصف‏.‏
والخطاب في ‏{‏ألم تر‏}‏ لكل من يصلح للخطاب غير معيّن، وكل مَن يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين‏.‏
والرؤية‏:‏ مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم، وأما كون ذلك ملتبساً بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق‏.‏ فلمّا كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 101‏]‏‏.‏
والحق هنا‏:‏ الحكمة، أي ضد العبث، بدليل مقابلته به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏سورة الدخان‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف خلق السموات والأرض‏}‏ بصيغة اسم الفاعل مضاف إلى ‏{‏السموات‏}‏ وبخفض ‏{‏والأرض‏}‏‏.‏
والخطاب في ‏{‏يذهبكم‏}‏ لجماعة من جملتهم المخاطب ب ‏{‏ألم تر‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ التعريض بالمشركين خاصة، تأكيداً لوعيدهم الذي اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناساً آخرين‏.‏
وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجاً للتعليم بالوعيد وإظهاراً لعظيم القدرة‏.‏ وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض‏.‏
وجملة ‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ مؤكد لمضمونها، وإنما سلك بهذا التأكيد ملك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المَشيء سهل عليه هين، كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ لخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏سورة الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏
والعزيز على أحدٍ‏:‏ المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 20‏]‏ باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب، وفي الكلام محذوف، إذ التقدير‏:‏ فأذْهَبهم وبرزوا لله جميعاً، أي يوم القيامة‏.‏
وكان مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ ويبرزون لله، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏
والبروز‏:‏ الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية‏.‏ والمعنى‏:‏ حشروا من القبور‏.‏
وجميعاً‏}‏ تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيففٍ‏.‏
وقد جيء في هذه الآية بوصف حَال الفرق يوم القيامة، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم، ومجادلة الجميع للشيطان، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنُزل الكرامة‏.‏ والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات‏.‏ فالمقصود‏:‏ التحذير مما يفضي إلى سوء المصير‏.‏
واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل ‏{‏برزوا‏}‏ إلى المجرور‏.‏ يقال‏:‏ برز لفلان، إذا ظهر له، أي حضر بين يديه، كما يقال‏:‏ ظهر له‏.‏
والضعفاء‏:‏ عوامّ الناس والأتباع‏.‏ والذين استكبروا‏:‏ السادة، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة‏.‏ والسين والتاء للمبالغة في الكبر‏.‏ والتَبع‏:‏ اسم جمع التابع مثل الخَدَم والخَوَل، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم‏.‏
وموجب تقديم المسند إليه على المسند في ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا‏}‏ أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغَناء عنهم، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم‏.‏ كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا‏.‏ فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي، وبينه ما في نظيره من سورة غافر ‏(‏47، 48‏)‏ ‏{‏وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد‏.‏‏}‏ ومِنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من عذاب الله‏}‏ بدلية، أي غناء بدلاً عن عذاب الله‏.‏‏.‏
و ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل‏.‏ و‏{‏شيء‏}‏ في معنى المصدر، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد‏.‏ والمعنى‏:‏ هل تغنون عنا شيئاً‏.‏
وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورّطوا أنفسهم أيضاً، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا‏.‏ وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علماً بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب‏.‏
وجملة ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا‏}‏ من كلام الذين استكبروا‏.‏ وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلباً للخلاص من العذاب، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون‏:‏ لا يفيدنا جزع ولا صبر، فلا نجاة من العذاب‏.‏ فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين، جمعوا أنفسهم إتماماً للاعتذار عن توريطهم‏.‏
والجزع‏:‏ حزن مشوب باضطراب، والصبر تقدم‏.‏
وجملة ‏{‏ما لنا من محيص‏}‏ واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجَزع والصبر‏.‏
والمحيص‏:‏ مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة‏.‏ يقال‏:‏ حاص عنه، أي نجا منه‏.‏ ويجوز أن يكون اسمَ مكان من حاص أيضاً، أي ما لنا ملجأ ومكان نَنْجو فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏
أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان؛ إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان‏.‏ على أن قوله‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني‏}‏ يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة ‏{‏وقال الشيطان‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فقال الضعفاء‏.‏
والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قِبَله‏.‏ وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية‏.‏
ومعنى قضى الأمر‏}‏ تُمّم الشأن، أي إذن الله وحكمه‏.‏ ومعنى إتمامه‏:‏ ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 59‏]‏، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسباً في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق‏.‏ فهذا شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولها لهم‏:‏ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء‏}‏ إظهاراً للحقيقة وتسجيلاً على أهل الضلالة وقمعاً لسفسطتهم‏.‏
وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علماً بكل ما سيحل بهم، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة‏.‏ فقول الشيطان ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه‏.‏
وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس‏.‏
وإضافة ‏{‏وعد‏}‏ إلى ‏{‏الحق‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف، أي الوعد الحق الذي لانقض له‏.‏
والحق‏:‏ هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به‏.‏ وضده‏:‏ الإخلاف، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ووعدتكم فأخلفتكم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 22‏]‏، أي كذبتُ موعدي‏.‏ وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ وشمل الخُلْف جميعَ ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا‏.‏
والسلطان‏:‏ اسم مصدر تسلط عليه، أي غلبه وقهره، أي لم أكن مجبراً لكم على اتباعي فيما أمرتكم‏.‏
والاستثناء في إلا أن دعوتكم‏}‏ استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله‏.‏ فالمعنى‏:‏ لكني دعوتكم فاستجبتم لي‏.‏
وتفرع على ذلك ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ لوموا أنفسكم، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي‏.‏ وقد تقدم بيانه صدْرَ الكلام على الآية‏.‏
ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر، كأنه قال‏:‏ فلا تلوموا إلاّ أنفسكم، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين‏.‏
وجملة ‏{‏ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي‏}‏، بيان لجملة النهي عن لَومه لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه‏.‏
والإصراخ‏:‏ الإغاثة، اشتق من الصُراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته، فقيل‏:‏ أصرخه، إذا أجاب صُراخه، كما قالوا‏:‏ أعتبه، إذا قبل استعتابه‏.‏ وأما عطف ‏{‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بِمُصرِخيَّ‏}‏ بفتح التحتية مشددةً‏.‏ وأصله بمصرخِييَ بياءين أولاهما ياء جمع المذكر المجرور، وثانيتهما ياء المتكلم، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة‏.‏
وقرأ حمزة وخلَف «بِمُصرِخيِّ» بكسر الياء تخلصاً من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسر هو أصل التخلص من التقاء الساكنين‏.‏ قال الفراء‏:‏ تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر‏.‏ وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العِجْلي‏:‏
قال لها هل لككِ يا تَا فيَّ *** قالت له‏:‏ ما أنتَ بالمرضيِّ
أراد هل لككِ فيّ يا هذه‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ زعم قطرب أنها لغة بني يربوع‏.‏ وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر‏.‏ واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس، وقد أثبته سند قراءة حمزة‏.‏ وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عُبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العِجلي‏.‏
والذي يظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يَربوع من تميم، وبنو عِجل بن لُجيم من بكر بن وائل، فقرأوا بلهجتهم أخذاً بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ‏"‏ كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت مما ينسخها في هذه الآية‏.‏
واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجهاً في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام‏.‏ وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفاً فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة بعض قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه‏.‏
وجملة ‏{‏إنى كفرت بما أشركتمون من قبل‏}‏ استئنافُ تَنَصُّل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏كفرتُ‏}‏ شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضي ‏{‏كفرت‏}‏ مضي الأزمنة كلها، أي كنت غير راضضٍ بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل؛ وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب‏.‏ و‏{‏من قبل‏}‏ على التقديرين متعلق ب ‏{‏أشركتمون‏}‏‏.‏
والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته‏.‏
وجملة ‏{‏إن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏ من الكلام المحكي عن الشيطان‏.‏ وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏، أي لأنه لا يدفع عنكم العذاب دَافع فهو واقع بكم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏، وهو انتقال لوصف حال المؤمنين يومئذٍ بمناسبة ذكر حال المشركين لأن حال المؤمنين يومئذٍ من جملة الأحوال المقصودة بالوصف إظهاراً لتفاوت الأحوال، فلم يدخل المؤمنون يومئذٍ في المنازعة والمجادلة تنزيهاً لهم عن الخوض في تلك الغمرة، مع التنبيه على أنهم حينئذٍ في سلامة ودعة‏.‏
ويجوز جعل الواو للحال، أي برزوا وقال الضعفاء وقال الكبراء وقال الشيطان إلخ وقد أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات، فيكون إشارة إلى أنهم فازوا بنزل الكرامة من أول وهلة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ إشارة إلى العناية والاهتمام، فهو إذن أخص من أمر القضاء العام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏تحيتهم فيها سلام تقدم نظيره في أول سورة يونس‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً إلى قوله تحيتهم فيها سلام‏}‏، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم‏:‏ ألم تعلم‏.‏ ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل‏.‏ وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف لَمْ‏}‏ التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل ‏{‏ضرب‏}‏ بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به‏.‏
والاستفهام في ‏{‏ألم تر‏}‏ إنكاري، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه، أو هو للتقرير، ومثله في التقرير كثير، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك‏.‏
والخطاب لكل من يصلح للخطاب‏.‏ والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب ‏{‏كيف‏}‏‏.‏ وإيثار ‏{‏كيف‏}‏ هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه‏.‏
وتقدم المثَل في قوله‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏17‏)‏‏.‏
وضَرْب المثل‏:‏ نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏
وإسناد ضرب‏}‏ إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏
والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل ‏{‏ضرب‏}‏ به على وجه إجمال يفسره قوله‏:‏ ‏{‏كلمة طيبة كشجرة‏}‏ إلى آخره، فانتصب ‏{‏كلمة‏}‏ على البدلية من ‏{‏مثلاً‏}‏ بدلَ مفصّل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏‏.‏
والكلمة الطيبة قيل‏:‏ هي كلمة الإسلام، وهي‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة‏:‏ كلمة الشرك‏.‏
والطيبة‏:‏ النافعة‏.‏ استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيبة‏}‏ في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏
والفَرع‏:‏ ما امتد من الشيء وعَلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء‏.‏ وفرع الشجرة غصنها، وأصل الشجرة‏:‏ جذرها‏.‏
والسماء مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر‏.‏
والأُكْل بضم الهمزة المأكول، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏4‏)‏‏.‏
فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رُسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار‏.‏
ووفرة الثِمار، ومتعة أكلها‏.‏ وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلاً لجمع التشبيه وتفريقه‏.‏
وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب‏.‏ وقد اختصر فيها التمثيل اختصاراً اكتفاءً بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة‏.‏
وفي جامع الترمذي‏}‏ عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال‏:‏ هي النخلة، ‏{‏ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ قال‏:‏ هي الحَنْظَل‏.‏
وجملة ‏{‏اجتثت من فوق الأرض‏}‏ صفة ل ‏{‏شجرة خبيثة‏}‏ لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها‏.‏ والاجتثاث‏:‏ قطع الشيء كلّه، مشتق من الجُثة وهي الذات‏.‏ و‏{‏من فوق الأرض‏}‏ تصوير ل ‏{‏اجتثت‏}‏‏.‏ وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة ‏{‏أصلها ثابت وفرعها في السماء‏.‏
وجملة ما لها من قرار‏}‏ تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار‏.‏
والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، ف ‏(‏الكلمة‏)‏ في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏}‏‏.‏ والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل ‏{‏ضرب الله مثلا عبداً مملوكا إلى قوله ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، فانظر بيانه هنالك‏.‏
وجملة ويضرب الله الأمثال للناس‏}‏ معترضة بين الجملتين المتعاطفتين‏.‏ والواو واو الاعتراض‏.‏ ومعنى ‏(‏لعل‏)‏ رجاء تذكرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏‏}‏
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به‏:‏ ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت‏.‏
والقول‏:‏ الكلام‏.‏ والثابت الصادق الذي لا شك فيه‏.‏ والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في ‏{‏القول‏}‏ لاستغراق الأقوال الثابتة‏.‏ والباء في ‏{‏بالقول‏}‏ للسببية‏.‏
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين‏.‏
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فلم تعترهم ندامة ولا لهف‏.‏ ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها‏.‏
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ويضل الله الظالمين‏}‏، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة‏.‏ والضلال‏:‏ اضطراب وارتباك، فهو الأثر المناسب لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة‏.‏
والظالمون‏:‏ المشركون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر‏.‏ روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال‏:‏ المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى‏:‏ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ كالتذليل لما قبلها‏.‏ وتحت إبهام ‏{‏ما يشاء‏}‏ وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال‏.‏ وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في ‏{‏ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء‏}‏ لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏‏}‏
أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما‏.‏ وابتُدئ بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر منها مقدّم على التحلي بضدها، ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا‏}‏ الخ‏.‏
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك‏.‏
والرؤية هنا بصرية لأن متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها ب ‏{‏إلى‏}‏ يرجح ذلك، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير‏.‏ والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم‏.‏
والكفر‏:‏ كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته‏.‏
وفي قوله‏:‏ بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ محسن الاحتباك‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ بدلوا نعمة الله وشُكرَها كفراً بها ونقمةً منه، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ الخ‏.‏
واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات‏.‏
والذين بدلوا هذا التبديل فريق معرفون، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين‏}‏، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي كلمة الشرك، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم وشرّدوا من استطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل ‏{‏أحلوا‏}‏ إليهم على طريقة المجاز العقلي‏.‏
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوّأهُم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة‏.‏ ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليهم جميعاً وهداهم إلى الحق، وهيّأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدّلو شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة إبراهيم وبنيّته عليهم السلام‏.‏
وقومهم‏:‏ هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفاراً، فهم أحق بأن يضافوا إليهم‏.‏
والبوار‏:‏ الهلاك والخسران‏.‏ وداره‏:‏ محله الذي وقع فيه‏.‏
والإحلال بها الإنزال فيها، والمراد بالإحلال التسبب فيه، أي كانوا سبباً لحلول قومهم بدار البوار، وهي جهنم في الآخرة، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل‏:‏ موقع بدر، فيجوز أن يكون ‏{‏دار البوار‏}‏ جهنم، وبه فسر علي وابن عبّاس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس‏.‏
واستعمال صيغة المضي في ‏{‏أحلوا‏}‏ لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية‏.‏
والمراد ب ‏{‏الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ صناديد المشركين من قريش، فعلى تفسير ‏{‏دار البوار‏}‏ بدار البوار في الآخرة يكون قوله ‏{‏جهنم‏}‏ بدلاً من ‏{‏دار البوار‏}‏ وجملة ‏{‏يصلونها‏}‏ حالاً من ‏{‏جهنم‏}‏، فتخص ‏{‏دار البوار‏}‏ بأعظم أفرادها وهو النار، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته‏.‏
وعلى تفسير ‏{‏دار البوار‏}‏ بأرض بدر يكون قوله‏:‏ ‏{‏جهنم يصلونها‏}‏ جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ وانتصابُ جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل ‏{‏يصلونها‏}‏ على طريقة الاشتغال‏.‏
وما يروون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عليّ كرّم الله وجهه أن ‏{‏الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ هم الأفجران من قريش‏:‏ بَنُو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم، قال‏:‏ فأما بنو أمية فمُتّعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر‏.‏ فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية‏.‏ وفي روايات عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال‏:‏ هم كفار قريش، ولا يريد عمر ولا علي رضي الله عنهما من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الأفهام الخطئة‏.‏ وكذا ما روي عن ابن عباس‏:‏ أنهم جَبلة بن الأيهم ومن اتبعه من العرب الذين تنصروا في زمن عُمر وحلّوا ببلاد الروم، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏
وجملة ‏{‏وبئس القرار‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلونها‏}‏، أو حال من ‏{‏جهنم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وبئس القرار هي‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏بدلوا‏}‏ و‏{‏أحلوا‏}‏، فالضمير راجع إلى ‏{‏الذين‏}‏ وهم أئمة الشرك‏.‏ والجعل يصدق باختراع ذلك ما فعل عمرو بن لُحي وهو من خُزاعة‏.‏ ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هُبل على سطحها‏.‏
والأنداد‏:‏ جمع نِدّ بكسر النون، وهو المماثل في مجد ورفعة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏22‏)‏‏.‏
وقرأ الجمهور ليضلوا‏}‏ بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالاً، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أنداداً، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعُبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل‏:‏ للضلال عن سبيله، تشنيعاً عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضَلّوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز‏.‏
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورُويْس عن يعقوب ‏{‏لِيَضلّو‏}‏ بفتح الياء والمعنى‏:‏ ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلاً في زمن الحال‏.‏ ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير ‏{‏أن‏}‏ المصدرية بعد لام التعليل‏.‏
ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏‏.‏
وسبيل الله‏:‏ كل عمل يجري على ما يرضي الله‏.‏ شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة‏.‏
وجملة ‏{‏قل تمتعوا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المخاطب ب ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا‏}‏ إذا علِم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب‏.‏
وأُمر بأن يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏196، 197‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة‏.‏ فلما ابتدئ بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها‏.‏
ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة إلى أن قال وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 50، 52‏]‏‏.‏
ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين‏.‏
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة ‏(‏افعل‏)‏ فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به، فأصل يقيموا الصلاة‏}‏ ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفاً‏.‏
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قوله ‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏52‏)‏، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا، فحكي بالمعنى‏.‏
وعندي‏:‏ أن منه قوله تعالى‏:‏ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون في سورة الحجر ‏(‏3‏)‏، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل‏.‏ فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة‏.‏ وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل قل‏}‏، كما في «مغني اللبيب» ووافقه ابن مالك في «شرح الكافية»‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب ‏{‏قل‏}‏ على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده‏.‏ والتقدير‏:‏ قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا‏.‏ وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏.‏
وزيادة مما رزقناهم‏}‏ للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة‏.‏
و ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ حالان من ضمير ‏{‏ينفقوا‏}‏، وهما مصدران‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏274‏)‏‏.‏ والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال، وإنما الأعمال بالنيات‏.‏
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 79‏]‏ الآية‏.‏
وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به، ومن العلانية الإنفاق الواجب‏.‏
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه‏.‏
وقوله‏:‏ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه‏}‏ الخ متعلق بفعل ‏{‏يقيموا الصلوات وينفقوا‏}‏، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق‏.‏ وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلاً للاستزادة منهما، إذ لا بيع يومئذٍ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب‏.‏ فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع‏.‏
ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏254‏)‏‏.‏
وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها، بقرينة المقام، وليس المراد نفي الخلة، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة‏.‏
وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل‏}‏ لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لا بيع‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بالبناء على الفتح‏.‏ وهما وجهان في نفي النكرة بحرف ‏{‏لا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏
‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة ‏{‏وجعلوا لله أنداداً‏}‏ الآية‏.‏ وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات‏}‏ الآية‏.‏ وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكراً‏.‏ فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجْنُبْنِي وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فجيء في هذه الآية بِنِعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى‏.‏
وافتتُح الكلام باسم الموجِد لأن تعيينه هو الغرض الأهم‏.‏ وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئاً، كما قال‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 25‏]‏، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقهما وتمهيد للنعم المودعة فيهما؛ فإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج الثمرات من الأرض، والبحارُ والأنهارُ من الأرض‏.‏ والشمس والقمر من السماء، والليل والنهار من السماء ومن الأرض، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت‏.‏
والرزق القوت‏.‏ والتسخير‏:‏ حقيقته التذليل والتطويع، وهو مجاز في جعل الشيء قابلاً لتصرف غيره فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ لتجري في البحر‏}‏ هو علة تسخير صنعها‏.‏
ومعنى تسخير الفلك‏:‏ تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ متعلق ب ‏{‏تجري‏}‏‏.‏
والأمر هنا الإذن، أي تيسير جريها في البحر، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 31‏]‏، وقد بينته آية ‏{‏ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره‏}‏ الآية ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 32 33‏]‏‏.‏
وتسخير الأنهار‏:‏ خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها‏.‏
وتسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما‏.‏
ومعنى دائبين‏}‏ دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك‏.‏
والفلك‏:‏ جمع لفظه كلفظ مفرده‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏
ومعنى وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك‏:‏ كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب‏.‏
فجملة ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ تعميم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 27‏]‏، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان‏.‏ وبهذا يتبين تفسير الآية‏.‏
وجملة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم‏.‏
فمعنى ‏{‏إن تعدوا‏}‏ إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه‏.‏ وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة‏.‏ وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره‏.‏
والإحصاء‏:‏ ضبط العدد، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط‏.‏
وجملة ‏{‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفراً، فلذلك فصلت عنها‏.‏
والمراد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها، فالإنسان هو المشرك، مثل الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 66‏]‏، وهو استعمال كثير في القرآن‏.‏
وصيغتا المبالغة في ظلوم كفار‏}‏ اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ فإنهم كما بدّلوا نعمة الله كفراً أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداءً بأسلافهم من أهل الضلالة، وبدلوا دُعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفراً بمفيض تلك النّعَم‏.‏
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت مِنتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة‏.‏ وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم عليه السلام والتعريض بذريته من المشركين‏.‏
‏(‏وإذا‏)‏ اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله، تقديره‏:‏ واذكر إذ قال إبراهيم، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلّوا نعمة الله كفراً‏}‏، فموقع العبرة من الحالين واحد‏.‏
و ‏{‏رب‏}‏ منادى محذوف منه حرف النداء‏.‏ وأصله ‏(‏ربي‏)‏، حذفت ياء المتكلم تخفيفاً، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء‏.‏
والبلد‏:‏ المكان المعين من الأرض، ويطلق على القرية‏.‏ والتعريف في ‏{‏البلد‏}‏ تعريف العهد لأنه معهود الحضور‏.‏ و‏{‏البلد‏}‏ بدل من اسم الإشارة‏.‏
وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 37‏]‏، أو هو حَوالة على ما في علم العرب من أنه مكة‏.‏ وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره‏.‏ والتعريف هنا للعهد، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية، فهنا دَعَا للبلد بأن يكون آمنا، وفي آية سورة البقرة دَعَا لِمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة، فمآل المفادين متحد‏.‏
واجنبني‏}‏ أمر من الثلاثي المجرد، يقال‏:‏ جنبه الشيء، إذا جعله جانباً عنه، أي باعده عنه، وهي لغة أهل نجد‏.‏ وأهلُ الحجاز يقولون‏:‏ جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز‏.‏ وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد لأنها أخف‏.‏
وأراد ببنيه أبناء صلبه، وهم يومئذٍ إسماعيل وإسحاق، فهو من استعمال الجمع في التثنية، أو أراد جميع نسله تعميماً في الخير فاستجيب له في البعض‏.‏
والأصنام‏:‏ جمع صنم، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبوداً ويُدعى إلهاً‏.‏ وأراد إبراهيم عليه السلام مثل ودَ وسواععٍ ويغوثَ ويعوقَ ونَسْرٍ، أصنام قوم نوح‏.‏ ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم‏.‏
وإعادة النداء في قوله‏:‏ ‏{‏رب إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ لإنشاء التحسر على ذلك‏.‏
وجملة ‏{‏إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ‏(‏إنّ‏)‏ في هذا المقام من معنى التعليل‏.‏
وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام، فقال‏:‏ ‏{‏إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 99‏]‏ وقال لقومه‏:‏ ‏{‏وأعتزلكم وما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام‏.‏ ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد‏.‏ وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل، وأراد أن يكون مأوى التوحيد، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد‏.‏ فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد‏.‏
ففرع على ذلك قوله‏:‏ فمن تبعني فإنه مني‏}‏، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني، فدخل في ذلك أبوه وقومه، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِني‏}‏ اتصالية‏.‏ وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه‏.‏ والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك‏.‏ وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى‏.‏ وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته‏.‏ ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 126‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام‏.‏
وإذ كان قوله‏:‏ فإنك غفور رحيم‏}‏ تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏إني أسكنت من ذريتي‏}‏ مستأنفة لابتداء دعاء آخر‏.‏ وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع‏.‏ وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله‏.‏
وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه‏.‏ ولعل إسماعيل عليه السلام حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ إلى قوله ‏{‏واجعلنا مسلمين لك‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا‏.‏
ومِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ذريتي‏}‏ بمعنى بعض، يعني إسماعيل عليه السلام، وهو بعض ذريته، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم عليه السلام بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة، كما دل عليه قوله في دعائه هذا ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 39‏]‏، فذكر إسحاق عليه السلام‏.‏
والواد‏:‏ الأرض بين الجبال، وهو وادي مكة‏.‏ وغير ذي زرع‏}‏ صفة، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة، فإن كلمة ‏{‏ذُو‏}‏ تدلّ على صَاحببِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه، فإذا قيل‏:‏ ذو مال، فالمال ثابت له، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قرآناً عربياً غير ذي عوج‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 28‏]‏، أي لا يعتريه شيء من العوج‏.‏ ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به‏.‏
وعند بيتك‏}‏ صفة ثانية لوادٍ أو حال‏.‏
والمحرم‏:‏ الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم‏.‏ وما أصحاب الفيل منهم ببعيد‏.‏
وعلق ‏{‏ليقيموا‏}‏ ب ‏{‏أسكنت‏}‏، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً‏.‏
وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة‏.‏ وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، لأن همة الصالحين في إقامة الدين‏.‏
والأفئدة‏:‏ جمع فؤاد، وهو القلب‏.‏ والمراد به هنا النفس والعقل‏.‏
والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم‏.‏ فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر ‏{‏أفئدة‏}‏ لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم ‏{‏من الناس‏}‏، ف ‏{‏من‏}‏ بيانية لا تبعيضية، إذ لا طائل تحته‏.‏ والمعنى‏:‏ فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم‏.‏
وتهوي مضارع هوَى بفتح الواو‏:‏ سقط‏.‏ وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة، كقول امرئ القيس‏:‏
كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل ***
ولذلك عدّي باللام دون على‏.‏
والإسراع‏:‏ جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم‏.‏
والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم‏.‏
والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف‏.‏
ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين‏.‏
ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين‏.‏ والمقصود‏:‏ توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏
‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏
جاء بهذا التوجه إلى الله جامعاً لما في ضميره، وفذلكةً للجمل الماضية لِما اشتملت عليه من ذكر ضلال كثير من الناس، وذكر من اتبع دعوته ومن عصاه، وذكر أنه أراد من إسكان أبنائه بمكة رجاء أن يكونوا حراس بيت الله، وأن يقيموا الصلاة، وأن يشكروا النعم المسؤولة لهم‏.‏ وفيه تعليم لأهله وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال ويخلصوا النية إليه‏.‏
وجملة ‏{‏وما يخفى على الله من شيء‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏، أي تعلم أحوالنا وتعلم كل شيء‏.‏ ولكونها تذييلاً أظهر فيها اسم الجلالة ليكون التذييل مستقلاً بنفسه بمنزلة المَثل والكلام الجامع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏
‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏‏}‏
لما دعا الله لأَهَمّ ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بَعجبُ في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدَيْن في إبان الكِبَر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء، أي مجيب، أي متصف بالإجابة وصفاً ذاتياً، تمهيداً لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوتَه سلفاً‏.‏ فهذا مناسبة مَوقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إن ربي لسميع الدعاء‏}‏‏.‏
واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد‏.‏ و‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على الكبر‏}‏ للاستعلاء المجازي بمعنى ‏{‏مع‏}‏، أي وهب ذلك تعلياً على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك‏.‏ ولذلك يفسرون ‏{‏على‏}‏ هذه بمعنى ‏{‏مع‏}‏، أي مع الكِبَر الذي لا تحصل معه الولادة‏.‏ وكان عُمُر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة ‏(‏86‏)‏‏.‏ وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة ‏(‏100‏)‏‏.‏ وكان لا يولد له من قبل‏.‏
وجملة ‏{‏إن ربي لسميع الدعاء‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏وهب‏}‏، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء‏.‏ والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدلّ على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏
‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏
جملة مستأنفة من تمام دعائه‏.‏ وفعل ‏{‏اجعلني‏}‏ مستعمل في التكوين، كما تقدم آنفاً، أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة‏.‏
والإقامة‏:‏ الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة‏.‏
‏{‏ومن ذريتي‏}‏ صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم‏.‏ والتقدير واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي‏.‏
و ‏{‏من‏}‏ ابتدائة وليست للتبعيض، لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته‏.‏ ويجُوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ للتبعيض بناءً على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون‏.‏ وهذا وجه ضعيف لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلاً لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ ولم يقل‏:‏ ومن بَنِيّ‏.‏
ودعاؤه بِتَقَبل دعائه ضراعة بعد ضراعة‏.‏
وحُذفت ياء المتكلم في دعاءِ‏}‏ في قراءة الجمهور تخفيفاً كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإليه متاب‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏30‏)‏‏.‏
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة‏.‏
ثم دعا بالمغفرة لنفسه وللمؤمنين ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوءته وما استمر عليه أبُوه بعد دعوته من الشرك، أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوءته‏.‏ وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله كما في آية سورة براءة‏.‏
ومعنى يقوم الحساب‏}‏‏:‏ يثبت‏.‏ استعير القيام للثبوت تبعاً لتشبيه الحساب بإنسان قائم، لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان إذ هو انتصاب للعمل‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ قامت الحرب على ساق، إذا قويت واشتدت‏.‏ وقولهم‏:‏ ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏4‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏
‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏
عطف على الجمل السابقة، وله اتصال بجملة ‏{‏قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 30‏]‏ الذي هو وعيد للمشركين وإنذار لهم بأن لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم تنبيهاً لهم على أن ذلك متاع قليل زائل، فأكد ذلك الوعيد بهذه الآية، مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يتطاولون به من النعمة والدعة، كما دل عليه التفريع في قوله ‏{‏فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وفي معنى الآية قوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر حسن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تفصل‏.‏
وصيغة لا تحسبن‏}‏ ظاهرها نهي عن حسبان ذلك‏.‏ وهذا النهي كناية عن إثبات وتحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شأنه أن يثير للناس ظَنّ وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك‏.‏ وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم، أي تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة، فهو كناية بمرتبتين، ذلك لأن النهي عن الشيء يأذن بأن المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان‏.‏ وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي عليه الصلاة والسلام أم جعلناه للنبي ابتداء ويدخل فيه أمته‏.‏
ونفي الغفلة عن الله ليس جارياً على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين‏.‏ ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم
والغفلة‏:‏ الذهول، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏156‏)‏‏.‏
والمراد بالظلم هنا الشرك، لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم، وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية‏.‏ ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم فإن الله غير غافل عن ذلك‏.‏ ولذلك قال سفيان بن عُيَيْنة هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم‏.‏
وقوله‏:‏ فيه الأبصار‏}‏ مبنية لجملة ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً‏}‏ الخ‏.‏
وشخوص البصر‏:‏ ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف‏.‏
وأل في ‏{‏الأبصار‏}‏ للعموم، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون‏.‏ ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين‏.‏
والإهطاع‏:‏ إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف‏.‏
وإقناع الرأس‏:‏ طأطأته من الذل، وهو مشتق من قَنَع من باب مَنَع إذا تذلّل‏.‏ و‏{‏مهطعين مقنعي رؤوسهم‏}‏ حالان‏.‏
وجملة ‏{‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ في موضع الحال أيضاً‏.‏ والطَرْف‏:‏ تحرك جفن العين‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يرتد إليهم‏}‏ لا يرْجع إليهم، أي لا يعود إلى معتاده، أي لا يستطيعون تحويله‏.‏ فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول‏.‏
والهواء في كلام العرب‏:‏ الخلاء‏.‏ وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏
‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏‏}‏
‏{‏وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏، أي تَسَلّ عنهم ولاتملل من د عوتهم وأنذرهم‏.‏
والناس يعم جميع البشر‏.‏ والمقصود‏:‏ الكافرون، بقرينة قوله‏:‏ يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا‏}‏‏.‏ ولك أن تجعل الناس ناساً معهودين وهم المشركون‏.‏
و ‏{‏يوم يأتيهم العذاب‏}‏‏.‏ منصوب على أنه مفعول ثاننٍ ل ‏{‏أنذر‏}‏، وهو مضاف إلى الجملة‏.‏ وفعل الإنذار يتعدى إلى مفعول ثاننٍ على التوسع لتضمينه معنى التحذير، كما في الحديث «ما من نبي إلا أنذر قومه الدجال»‏.‏
وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه مجازاً مرسلاً‏.‏
والعذاب‏:‏ عذاب الآخرة، أو عذاب الدنيا الذي هُدّد به المشركون‏.‏ و‏{‏الذين ظلموا‏}‏‏:‏ المشركون‏.‏
وطلب تأخير العذاب إن كان مراداً به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب، أي يقول الذين ظلموا‏:‏ أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك‏.‏ وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏، فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازاً مرسلاً بعلاقة الأول‏.‏ والرسل جميع الرسل الذي جاءُوهم بدعوة الله‏.‏
وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى‏:‏ أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم‏.‏ فالتأخير على هذا حقيقة‏.‏ والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد مجازاً، والمراد به محمد‏.‏
والقريب‏:‏ القليل الزمن‏.‏ شبه الزمان بالمسافة، أي أخّرنا مقدار ما نجيب به دعوتك‏.‏
أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ‏}‏ ‏{‏وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال‏}‏
لما ذُكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم‏.‏ وقد عُدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه‏.‏
وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيهاً على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سَألوه، حُذف إيجازاً لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله‏.‏ التقدير كلا وألَم تكونوا أقسمتم‏.‏‏.‏ الخ‏.‏
والزوال‏:‏ الانتقال من المكان‏.‏ وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب‏.‏
وحذف متعلق ‏{‏زوال‏}‏ لظهور المراد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهَد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وجملة ما لكم من زوال‏}‏ بيان لجملة ‏{‏أقسمتم‏}‏‏.‏ وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يسرع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل‏:‏ ما لنا من زوال، بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏أولم تكونوا أقسمتم‏}‏‏.‏
وهذا القسم قد يكون صادر من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم‏.‏
ويجوز أن يكون ذلك صادراً من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم‏.‏
وكذلك الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم‏}‏ فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم‏.‏ وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين‏.‏
والمراد بالسكنى‏:‏ الحلول، ولذلك عُدّي بحرف الظرفية خلافاً لأصل فعله المتعدي بنفسه‏.‏ وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك، ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن‏.‏
وتبيّنُ ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال‏.‏
وضَرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل عليهم السلام، ووصف الأحوال الخفية‏.‏
وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة‏.‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏
‏{‏وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون عطفَ خبر على خبر، ويجوز أن يكون حالاً من ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس‏}‏، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم‏.‏
والمكر‏:‏ تبييت فعل السوء بالغير وإضمارُهُ‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏99‏)‏‏.‏
وانتصب مكرهم‏}‏ الأول على أنه مفعول مطلق لفعل ‏{‏مكروا‏}‏ لبيان النوع، أي المكر الذي اشتهروا به، فإضافة ‏{‏مكر‏}‏ إلى ضمير ‏{‏هم‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏ وكذلك إضافة ‏{‏مكر‏}‏ الثاني إلى ضمير ‏{‏هم‏}‏‏.‏
والعندية إما عندية عِلم، أي وفي علم الله مكرهم، فهو تعري بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم، وإما عندية تكوين ما سُمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لتزول‏}‏ بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون ‏(‏إن‏)‏ نافية ولام ‏{‏لتزول‏}‏ لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال‏.‏ وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي‏.‏
وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من ‏{‏لَتزولُ‏}‏ ورفع اللام الثانية على أن تكون ‏{‏إنْ‏}‏ مخففة من ‏{‏إنْ‏}‏ المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة‏.‏ وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 90‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏
تفريع على جميع ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وهذا محل التسلية‏.‏ والخطاب للنبيء‏.‏ وتقدم نظيره آنفاً عند قوله‏:‏ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، لأن تأخير ما وعد الله رسوله عليه الصلاة والسلام من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده، فلذلك نهي عن حُسبانه‏.‏
وأضيف مخلف‏}‏ إلى مفعوله الثاني وهو ‏{‏وعده‏}‏ وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد، فلذلك قدم ‏{‏وعده‏}‏ على ‏{‏رسله‏}‏‏.‏
و ‏{‏رسله‏}‏ جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً‏.‏ وهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به‏.‏ فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع ‏{‏رسله‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏ تعليل للنهي عن حُسبانه مُخلف وعده‏.‏
والعزة‏:‏ القدرة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عَجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به، فالعزة تنفي الأول وكونُه صاحب انتقام ينفي الثاني‏.‏ وهذه الجملة تذييل أيضاً وبها تمّ الكلام‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏
‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏‏}‏
استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب، لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال؛ فلك أن تجعل ‏{‏يوم تبدل الأرض‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ قُدّم عليه للاهتمام بوصف ما يحصل فيه، فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل‏.‏
ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف تقديره‏:‏ اذكُرْ يوم تبدل الأرض، وتجعل جملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ على هذا تذييلاً‏.‏
ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي الله كل نفس ما كسبت‏}‏‏.‏ والتقدير يجزي اللّهُ كلّ نفس بما كسبت يومَ تبدل الأرض‏.‏‏.‏ الخ‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ تذييل أيضاً‏.‏
والتبديل‏:‏ التغيير في شيء إما بتغيير صفاته، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 70‏]‏، وقولك‏:‏ بدلتُ الحَلقة خاتماً وإما بتغيير ذاته وإزالتها بذات أخرى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏
وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة‏:‏ إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النُظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي‏.‏ وحاصل المعنى استبدال العالم المعهود بعالم جديد‏.‏
ومعنى وبرزوا لله الواحد القهار‏}‏ مثل ما ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والوصف بالواحد القهار‏}‏ للرد على المشركين الذين أثبتوا له شركاء وزعموا أنهم يدافعون عن أتباعهم‏.‏ وضمير ‏{‏برزوا‏}‏ عائد إلى معلوم من السياق، أي وبرز الناس أو برز المشركون‏.‏
والتقرين‏:‏ وضع اثنين في قرن، أي حبل‏.‏
والأصفاد جمع صِفاد بوزن كتاب، وهو القيد والغل‏.‏
والسرابيل‏:‏ جمع سِربال وهو القميص‏.‏ وجملة ‏{‏سرابيلهم من قطران‏}‏ حال من ‏{‏المجرمين‏}‏‏.‏
والقطران‏:‏ دهن من تركيب كيمياوي قديم عند البشر يصنعونه من إغلاء شَجر الأرز وشجر السرو وشجر الأبهل بضم الهمزة والهاء وبينهما موحدة ساكنة وهو شجر من فصيلة العرعر‏.‏ ومن شجر العرعر بأن تقطع الأخشاب وتجعل في قبة مبنية على بلاط سَوِي وفي القبة قناة إلى خارج‏.‏ وتُوقد النار حول تلك الأخشاب فتصعد الأبخرة منها ويسري ماء البخار في القناة فتصب في إناء آخر موضوع تحت القناة فيتجمع منهماء أسود يعلوه زبد خاثر أسود‏.‏ فالماء يعرف بالسائل والزَبَد يعرف بالبرقي‏.‏ ويتخذ للتداوي من الجرب للإبل ولغير ذلك مما هو موصوف في كتب الطب وعلم الأَقْرَبَاذين‏.‏
وجعلت سرابيلهم من قطران لأنه شديد الحرارة فيؤلم الجِلدَ الواقعَ هو عليه، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ مستأنفة، إما لتحقيق أن ذلك واقع كقوله‏:‏ ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 5، 6‏]‏، وإما استئناف ابتدائي‏.‏ وأخرت إلى آخر الكلام لتقديم يوم تبدل الأرض‏}‏ إذا قُدر معمولاً لها كما ذكرناه آنفاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏
‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏
الإشارة إلى الكلام السابق في السورة كلها من أيْنَ ابتدأتهُ أصبت مراد الإشارة، والأحسن أن يكون للسورة كلها‏.‏
والبلاغ اسم مصدر التبليغ، أي هذا المقدار من القرآن في هذه السورة تبليغ للناس كلهم‏.‏
واللام في ‏{‏للناس‏}‏ هي المعروفة بلام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم من يَسمع قولاً أو ما في معناه‏.‏
وعطف ‏{‏ولينذروا‏}‏ على ‏{‏بلاغ‏}‏ عطف على كلام مقدر يدل عليه لفظ ‏{‏بلاغ‏}‏، إذ ليس في الجملة التي قبله ما يصلح لأن يعطف هذا عليه فإن وجود لام الجر مع وجود واو العطف مانع من جعله عطفاً على الخبر، لأن المجرور إذا وقع خبر عن المبتدإ اتصل به مباشرة دون عطف إذ هو بتقدير كائِن أو مستَقر، وإنما تعطف الأخبار إذا كانت أوصافاً‏.‏ والتقدير هذا بلاغ للناس ليستيقظوا من غفلتهم ولينذروا به‏.‏
واللام في ‏{‏ولينذروا‏}‏ لام كي‏.‏ وقد تقدم قريب من نظم هذه الآية في قوله تعالى ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏92‏)‏‏.‏
والمعنى وليعلموا مِما ذكر فيه من الأدلة مَا الله إلا إلهٌ واحد، أي مقصور على الإلهية الموحدة‏.‏ وهذا قصر موصوف على صفة وهو إضافي، أي أنه تعالى لا يتجاوز تلك الصفة إلى صفة التعدد بالكثرة أو التثليث، كقوله‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏
والتذكر‏:‏ النظر في أدلة صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ووجوب اتباعه، ولذلك خص بذوي الألباب تنزيلاً لغيرهم منزلة من لا عقول لهم ‏{‏إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏
وقد رتبت صفات الآيات المشار إليها باسم الإشارة على ترتيب عقلي بحسب حصول بعضها عقب بعض، فابتدئ بالصفة العامة وهي حصول التبليغ‏.‏ ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية لما في خلال هذه السورة من الدلائل‏.‏ ثم بالتذكير في ما جاء به ذلك البلاغ وهو تفاصيل العلم والعمل‏.‏ وهذه المراتب هي جامع حكمة مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم موزعة على من بَلّغ إليهم‏.‏ ويختص المسلمون بمضمون قوله‏:‏ وليذكروا أولوا الألباب‏}‏‏.‏

سورة الحجر
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏
‏{‏الر‏}‏‏.‏
تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس‏.‏
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن‏.‏
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزاً كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب‏.‏ وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد‏.‏
و ‏{‏الكتاب‏}‏ علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة‏.‏ وسمي كتاباً لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومُراجعته؛ فقد سمي القرآن كتاباً قبل أن يُكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتاباً‏.‏
ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية دينه‏.‏
ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علماً بالغلبة جائياً من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كماللِ الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلَم بالغلَبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه، أي من كتب الشرائع‏.‏
وعطف ‏{‏وقرآن‏}‏ على ‏{‏الكتاب‏}‏ لأن اسم القرآن جعل علماً على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع، فهو الاسم العلَم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء‏.‏
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلَم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلَم بالغلبة، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام‏.‏ فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام، وإن عُرّف فتعريفه لِلَمْح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن «القرآن» منقول من المصدر الدال على القراءة، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة‏.‏
وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم‏.‏
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن «قرآن» بمنزلة عطف البيان من «كتاب» وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف ومَا هو منه، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو ‏{‏مبين‏}‏‏.‏ وهذا كله اعتبار بالمعنى‏.‏
وابتُدئ بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف‏.‏ ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير‏.‏
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين‏.‏ فلما كان الكلام موجهاً إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتاباً، لأنهم حين جادلوا ما جالوا إلا في كتاب فقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان كتاب، ويعرفونهم بعنوان أهل الكتاب‏.‏
فأما عنوان القرآن فهو مناسب لكون الكتاب مقروءاً مدروساً وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به‏.‏ ولذلك قدم عنوان القرآن في سورة النمل كما سيأتي‏.‏
والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بَان مبالغة في ظهوره، أي ظهور قُرآنيته العظيمة، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم‏.‏
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه‏.‏ وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار‏.‏
و ‏{‏ربما‏}‏ مركبة من ‏(‏رب‏)‏‏.‏ وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء‏.‏ وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال‏.‏ وفيها عدة لغات‏.‏
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء‏.‏ وقرأ الباقون بتشديدها‏.‏
واقترنت بها ‏(‏ما‏)‏ الكافة ل ‏(‏ربّ‏)‏ عن العمل‏.‏ ودخول ‏(‏ما‏)‏ بعد ‏(‏رب‏)‏ يكُف عملها غالباً‏.‏ وبذلك يصح دخولها على الأفعال‏.‏ فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل‏.‏
والأكثر أن يكون فعلاً ماضياً، وقد يكون مضارعاً للدلالة على الاستقبال كما هنا‏.‏ ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق‏.‏
ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي، وتأول نحو الآية بأنه منزّل منزلة الماضي لتحققه‏.‏ ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يَودّوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة‏.‏
والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام‏.‏ والمعنى‏:‏ قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا‏.‏
والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف، أي احذروا وَدادتكم أن تكونوا مسلمين، فلعلها أن تقع نادراً كما يقول العرب في التوبيخ‏:‏ لعلك ستندم على فعلك، وهم لا يشكون في تندمه، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكاً فيه لكان حقاً عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم، لأن العاقل يتحرز من الضُر المظنون كما يتحرز من المتيقن‏.‏
والمعنى أنهم قد يودّون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات‏.‏
والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه، وذلك عندما يقتلون بأيدي المسلمين، وعند حضور يوم الجزاء، وقد ودّ المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين‏.‏
وعن ابن مسعود‏:‏ ودّ كفارُ قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين‏.‏ ويتمنّون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ودّ الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين، على أنهم قد ودُّوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عناداً وكفراً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 27، 28‏]‏، أي فلا يصرحون به‏.‏
ولو‏}‏ في ‏{‏لو كانوا مسلمين‏}‏ مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى‏.‏ فأصل ‏{‏لو كانوا مسلمين‏}‏ لو كُنّا مسلمين‏.‏
والتزم حذف جواب ‏{‏لو‏}‏ اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول، فأفادت ‏{‏لو‏}‏ معنى المصدرية فصار المعنى‏:‏ يودّ الذين كفروا كونهم مسلمين، ولذلك عَدُّوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏
لما دلّت ‏(‏رُبّ‏)‏ على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب‏.‏ وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة‏:‏
دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها *** واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي
وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏}‏ ‏[‏سورة محمد‏:‏ 12‏]‏‏.‏
و ‏{‏ذر‏}‏ أمر لم يسمع له ماض في كلامهم‏.‏ وهو بمعنى الترك‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏
والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم‏.‏ وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم‏.‏ وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره‏:‏
وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم *** وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيدا‏}‏ ‏[‏سورة المدثر‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام‏:‏
دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم *** ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء‏.‏
وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم‏.‏
ويأكلوا‏}‏ مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة إبراهيم ‏(‏31‏)‏‏.‏ وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏‏.‏ وهو كقوله‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون‏}‏ سورة المرسلات ‏(‏46‏)‏‏.‏
ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم‏}‏ لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم‏.‏
والتمتع‏:‏ الانتفاع بالمتاع‏.‏ وقد تقدم غير مرة، منها قوله‏:‏ ‏{‏ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏24‏)‏‏.‏
وإلهاء الأمل إياهم‏:‏ هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة‏.‏
و ‏{‏الأمَلُ‏}‏‏:‏ مصدر‏.‏ وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله‏.‏ فهو واسطة بين الرجاء والطمع‏.‏ ألا ترى إلى قول كعب‏:‏
أرجو وآمُل أن تدنو مودتها *** وما إخال لدينا منك تنويل
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة‏.‏ وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله‏:‏ ‏{‏وسوف يعلمون حين يرون العذاب‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏
‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏
اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكماً يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك، أي ما أهلكنا أمّة إلا وقد متّعناها زمناً وكان لهلاكها أجل ووقت محدود، فهي ممتعة قبل حلوله، وهي مأخوذة عند إبانه‏.‏
وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيدٌ بتنظيرهم بالمكذبين السالفين‏.‏
وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبلُ لتذكير هؤلاء بسنّة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرّهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد‏.‏ وهذا تهديد لا يقتضي أن المشركين قدر الله أجلاً لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيراً منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر‏.‏
والقَرْية‏:‏ المدينة‏.‏ وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كالذي مرّ على قرية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏‏.‏
والكتاب‏:‏ القَدَر المحدود عند الله‏.‏ شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص‏.‏ وهو معلوم عند الله، لا يضلّ ربي ولا ينسى‏.‏
وجملة ولها كتاب معلوم‏}‏ في موضع الحال، وكفاك علماً على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال، وصاحب الحال هو ‏{‏قرية‏}‏ وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوّغ مجيء الحال منه كما سوّغ العموم صحة الإخبار عن النكرة‏.‏
وجملة ‏{‏ما تسبق من أمةٍ أجلها‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ولها كتاب معلوم‏}‏ لبيان فائدة التحديد‏:‏ أنه عدم المجاوزة بدءاً ونهاية‏.‏
ومعنى ‏(‏تسبق أجلها‏)‏ تفوته، أي تُعْدم قبل حلوله، شبّه ذلك بالسبق‏.‏
و ‏{‏يستأخرون‏}‏‏:‏ يتأخرون‏.‏ فالسين والتاء للتأكيد‏.‏
وأنّث مفرداً ضمير الأمّة مرة مراعاة للفظ، وجُمع مذكراً مراعاة للمعنى‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏يستأخرون‏}‏ للعلم به، أي وما يستأخرون عنه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنّت انهماكهم في الملذّات والآمال، وهذه تضمّنت توغّلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمّدية‏.‏
والمعنى‏:‏ ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء‏.‏
والجملة كلها من مقولهم‏.‏
والنداء في يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ للتشهير بالوصف المنادى به، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكّم‏.‏ وقرينة التهكّم قولهم‏:‏ ‏{‏إنك لمجنون‏}‏‏.‏ وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صَرفاً لألسنتهم عن الشتم‏.‏ وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أو هجوه يدعونه مذمماً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ «ألَمْ تَرَيْ كيف صرف الله عني أذى المُشركين وسبّهم، يسبون مُذمماً وأنا محمد»‏.‏ وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول، لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكّم‏.‏
و ‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ مصدر ذكر، إذا تلفظ‏.‏ ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء‏.‏ فالذكر الكلام الموحَى به ليتلَى ويكرر، فهو للتلاوة لأنه يُذكر ويعاد؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين، وقد شملها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 10‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 44‏]‏ والمراد به هنا القرآن‏.‏
فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن تَرد في القرآن‏.‏
وكذلك تسميته قُرآناً لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة‏.‏
ويدلك لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 69‏]‏، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد شعراً، ووصفه بأنه ذكر وقرآن، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه‏.‏ فالمراد‏:‏ أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن، لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير‏.‏
ثم صار القرآن بالتعريف باللام عَلَماً بالغلبة على الكتاب المنزّل على محمد كما علمت آنفاً‏.‏
وإنما وصفوه بالجنون لتوهّمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهّماً منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء، فالداعي به غير عاقل‏.‏
والمجنون‏:‏ الذي جُنّ، أي أصابه فساد في العقل من أثر مسّ الجنّ إياه في اعتقادهم، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول‏.‏
وتأكيد الجملة ب ‏(‏إن‏)‏ واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعلّه يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم‏.‏
وجملة لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جارياً على مطابقة الواقع فأكثره كذب‏.‏
و ‏{‏لو ما‏}‏ حرف تحضيض بمنزلة لولا التحضيضية‏.‏ ويلزم دخولها الجملة الفعلية‏.‏
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة‏.‏ وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏
ومن الصادقين‏}‏ أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من ‏(‏إن كنت صادقاً‏)‏، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ في سورة براءة ‏(‏219‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏
مستأنفة ابتدائية جواباً لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم‏.‏
وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول، فكان جوابهم مشوباً بطرف من الأسلوب الحكيم، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب، فأراد الله أن لا يدخرهم هدياً وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا‏.‏
والنزول‏:‏ التدلي من علو إلى سفل‏.‏ والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولاً مخصوصاً‏.‏ وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على الكافرين، كما أنزلوا إلى مدائن لوط عليه السلام‏.‏ وليس مثل نزول جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة إلى الرسل عليهم السلام بالشرائع أو بالوحي‏.‏ قال تعالى في ذكر زكرياء عليه السلام ‏{‏فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشّرك بيحيى‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏
والمراد ب الحق هنا الشيء الحاقّ، أي المقضي، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضيّ‏.‏ وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام، أي العذاب الحاقّ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير حقّ عليه العذاب‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 18‏]‏ وبقرينة قوله‏:‏ وما كانوا إذا منظرين‏}‏، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء‏.‏ عليهم الصلاة والسلام إلا مصاحبين للعذاب الحاقّ على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال‏.‏ ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا‏.‏
ويفهم من هذا أن الله منظرهم، لأنه لم يُرد استئصالهم، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا، ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم‏.‏
ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام ‏(‏8‏)‏‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين‏.‏
والإنظار‏:‏ التأخير والتأجيل‏.‏
وإذاً‏}‏ حرف جواب وجزاء‏.‏ وقد وسطت هنا بين جزأي جوابها رعياً لمناسبة عطف جوابها على قول‏:‏ ‏{‏ما تنزل الملائكة‏}‏‏.‏ وكان شأن ‏(‏إذن‏)‏ أن تكون في صدر جوابها‏.‏ وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجملة ما تنزل الملائكة إلا بالحق مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب، فقدم لأنه أوقع في الرد، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب‏.‏
وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم مُنظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاقّ‏.‏ وهذا المعنى وارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ما تنزل‏}‏ بفتح التاء على أن أصله ‏(‏تتنزَّل‏)‏‏.‏
وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة‏.‏
وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف ‏{‏ما ننزل الملائكة‏}‏ بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي لإبطال جزء من كلامهم المستهزئين به، إذ قالوا‏:‏ ‏{‏يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏، بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
جاء نشر الجوابين على عكس لفّ المقالين اهتماماً بالابتداء بردّ المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام، ثم ثُني العنان إلى ردّ تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة‏.‏
وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول مجاراة لظاهر كلامهم‏.‏ والمقصود الردّ عليهم في استهزائهم، فأكد الخبر بإنا‏}‏ وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏سورة المنافقون‏:‏ 1‏]‏‏.‏
ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة وإنا له لحافظون‏}‏ معترضة، والواو اعتراضية‏.‏
والضمير المجرور باللام عائد إلى ‏{‏الذكر‏}‏، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله‏.‏
وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه، بأن يسّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفّاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر‏.‏
وقد حكى عياض في «المدارك»‏:‏ أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البصري سئل عن السرّ في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له‏.‏ فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 44‏]‏ وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال‏:‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏‏.‏
قال أبو الحسن بن المُنْتَاب ذكرت هذا الكلام للمَحَامِلي فقال لي‏:‏ لا أحسنَ من هذا الكلام‏.‏
وفي تفسير «القرطبي» في خبر رواه عن يحيى بن أكثم‏:‏ أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون، وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان‏:‏ قال الله في التوراة والإنجيل ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ فجعل حفظه إليهم فضاع‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع» ا ه‏.‏ ولعل هذا من توارد الخواطر‏.‏
وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاظة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على ممرّ الأزمان‏.‏ وهذا من التحدّي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزّل من عند الله آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرّقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ فإن جملة ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏ قَول بموجَب قولهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين‏}‏ إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة‏.‏
وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقرّر عند الأمم ومتحدِّث به بينهم‏.‏
وفيه أيضاً تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏
والتأكيد بلام القسم و‏(‏قَد‏)‏ لتحقيق سبق الإرسال من الله، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وذلك مقتضى موقع قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏‏.‏
والشِيَع جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يلبسكم شيعا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏65‏)‏‏.‏ ويأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة‏}‏ في سورة مريم ‏(‏69‏)‏، أي في أمم الأولين، أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم‏.‏ فهذا وجه إضافة شيع‏}‏ إلى ‏{‏الأولين‏}‏‏.‏
و ‏{‏كانوا به يستهزءون‏}‏ يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، ف ‏(‏كان‏)‏ دلّت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم‏.‏
ومفعول ‏{‏أرسلنا‏}‏ محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رُسلاً، ودلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏‏.‏
وتقديم المجرور على ‏{‏يستهزءون‏}‏ يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏
‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله ‏{‏وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 11‏]‏ فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 53‏]‏‏.‏
والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر‏.‏ فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل‏.‏ ونظيره قوله في الآية الأخرى ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏
والتعبير بصيغة المضارع في نسلكه‏}‏ للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال، أي زمن نزول القرآن، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم‏.‏
وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم‏.‏
والمشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ هو السلك المأخوذ من ‏{‏نسلكه‏}‏ على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏
والسلك‏:‏ الإدخال‏.‏ قال الأعشى‏:‏
كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق *** أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 124 125‏]‏‏.‏
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة‏.‏
فضمير نسلكه‏}‏ و‏{‏به‏}‏ عائدان إلى ‏{‏الذكر‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏ أي القرآن‏.‏
والمجرمون هم كفار قريش‏.‏
وجملة لا يؤمنون به‏}‏ بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به‏.‏ وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم‏.‏ والمراد أنهم لا يؤمنون وقتاً ما‏.‏
وجملة ‏{‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ وجملة ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 14‏]‏ الخ‏.‏
والكلام تعريض بالتهديد بأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره، فكان الخبر مستعملاً في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية‏.‏
والسنّة‏:‏ العادة المألوفة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏137‏)‏‏.‏ وإضافتها إلى الأولين‏}‏ باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏
‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 13‏]‏ وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم‏:‏ ‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ سورة الحجر ‏(‏7‏)‏ وقولهم؛ ‏{‏إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏ بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه، لأن دلائل الصدق بيّنة، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة‏.‏
والكلامُ الجامعُ لإبطال معاذيرهم‏:‏ أنهم لو فتح الله باباً من السماء حين سألوا آيةً على صدق الرسول، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيّلات وأنهم سُحِروا فرأوا ما ليس بشيء شيئاً‏.‏
ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 7‏]‏‏.‏
و ‏(‏ظلّ‏)‏ تدل على الكون في النهار، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي‏.‏
والعُروج‏:‏ الصعود‏.‏ ويجوز في مضارعه ضمّ الراء وبه القراءة وكسرها، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهاراً‏.‏
وسكرت‏}‏ بضم السين وتشديد الكاف في قراءة الجمهور، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير‏.‏ وهو مبني للمجهول على القراءتين، أي سدّت‏.‏ يقال‏:‏ سكر البابَ بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سدّه‏.‏
والمعنى‏:‏ لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئاً‏.‏
وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتّوا القول في ذلك‏.‏ وردّ بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردّد المتحيّر ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا‏:‏ ‏{‏بل نحن قوم مسحورون‏}‏، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح باباً من السماء ففتحه لهم‏.‏
وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏
وإقحام كلمة قوم‏}‏ هنا دون أن يقولوا‏:‏ بل نحن مسحورون، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏ وتكرر ذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏
لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما توركوا به في ذلك، وكان الأصلُ الأصيل الذي بَنوا عليه صَرْح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم، وإثباته البعث، انبرى القرآن يبيّن لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية، فذكر الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏ وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم، فكان الانتقال إليه تخلصاً بديعاً‏.‏
وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات‏.‏
والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم‏.‏
وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلاً للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردّد فأكّد لهم الكلام بمؤكدين‏.‏ ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك‏.‏
والبروج‏:‏ جمع بُرج بضم الباء‏.‏ وحقيقته البناء الكبير المتّخذ للسكنى أو للتحصّن‏.‏ وهو يرادف القصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏78‏)‏‏.‏
وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة ‏(‏وتسمى النجوم الثوابت‏)‏ متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يُشاهد من الجو، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطاً لو خططت بينها خطوطٌ لخرج منها شِبه صورة حَيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس‏.‏
وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان‏.‏ وسماها العرب بُروجاً ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سبباً لوضع الاسم؛ تخيّلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قُبة الجو نهاراً فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة‏.‏ وجعلوها اثني عشر مكاناً بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سُموت لجهاتتٍ تُقابلُ كل جهة منها الأرضَ من جهة وراءِ الشمس مدة معينة‏.‏ ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها‏.‏ فبِما كان لها من النظام تَسنّى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدوداً وَهمية عينوا مكانها في اللّيل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوماً فيوماً، وكلما مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة‏.‏ وهكذا، حتى رأوا بعد اثني عشر شهراً أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولاً كاملاً‏.‏
وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السّنة سموها دائرة البروج أو مِنْطقة البروج‏.‏ وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها‏.‏
وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع‏:‏ الحمَل، الثور، الجوزاء، ‏(‏مشتقة من الجوز بفتح فسكون الوسط لأنها معترضة في وسط السماء‏)‏، السَرَطان، الأسَد، السُنبلة، الميزان، العَقرب، القَوْس، الجَدْي، الدَلْو، الحوت‏.‏
فاعتبروا لبرج الحمل شهر ‏(‏أبرير‏)‏ وهكذا، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذٍ في سَمتتِ شكللٍ نجمي شبهوه بنُقَط خطوط صورة كبش‏.‏ وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج‏.‏ وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي‏.‏
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم؛ ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم‏.‏
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تُخلف ملاحظة راصدها‏.‏ وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جُعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة‏.‏
وأما قوله‏:‏ وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال‏.‏ وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة‏.‏ فهو يرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وكانوا يقولون‏:‏ محمد كاهن؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحجّ إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادّعى النبوءة‏.‏ وقد عرضوا عليه أن يقولوا هو كاهن، فكان من كلام الوليد أن قال‏.‏‏.‏ ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزة الكاهن ولا سجعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏سورة الحاقة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب‏.‏
والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات‏.‏ والشيطان تقدم في سورة البقرة‏.‏
والرجيم‏:‏ المحقر؛ لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحداً حصبوه بالحصباء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فاخرج منها فإنك رجيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 34‏]‏، أي ذميم محقر‏.‏
والرّجام بضم الراء الحجارة‏.‏ قيل وهي أصل الاشتقاق‏.‏ ويحتمل العكس‏.‏ وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رِغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة‏.‏
قال جرير‏:‏
إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما تَرمون قبر أبي رِغال
والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح ‏{‏قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وعن أبي إبراهيم ‏{‏لئن لم تنته لأرجمنك‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقال قوم شعيب‏:‏ ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله‏:‏ فأتبعه شهاب مبين‏}‏ لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين‏}‏‏.‏
واستراق السمع‏:‏ سرقتهُ‏.‏ صيغ وزن الافتعال للتكلف‏.‏ ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه‏.‏
و«أتبعه» بمعنى تَبعه‏.‏ والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏175‏)‏‏.‏
والمبين‏:‏ الظاهر البين‏.‏
وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه‏.‏
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض‏.‏ وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيققِ تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح‏.‏
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها‏.‏ وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله‏:‏ ‏{‏يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 223‏]‏‏.‏
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد مُنع عن الشياطين‏.‏
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ليسوا بشيء‏}‏ وصفاً لآخر أمرهم‏.‏
وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله‏:‏ ‏{‏والشياطين كل بناء وغواص‏}‏ ‏[‏سورة ص‏:‏ 37‏]‏ الآية‏.‏ والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة‏.‏
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض، وأن منها أصنافاً لها اتصَال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر‏.‏
وبعضُ ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفاً له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها، فتسبق بعضُ النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد‏.‏
وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أوالشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى‏:‏ إلا من استرق السمع‏}‏‏.‏ فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقاً ما، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها، مما وراء الكرة الهوائية‏.‏
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلاً‏.‏
ثم هذه التموجات التي تخلُص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مُجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه‏.‏ وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء، وعلى مقدار دُربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها‏.‏ فهؤلاء هم الكهان، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب‏.‏ وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم‏.‏ ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثراً ما، وكان أقوامهم يعُدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلاّ كلاماً مجملاً موجهاً قابلاً للتأويل بعدة احتمالات، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلماتُ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة‏.‏
وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزماً فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلاً على مصادفتها الحق والواقع، وأنها أمارة صدق‏.‏ وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة، ويكثرون النظر في النجوم ليلاً لتتفرغ أذهانهم‏.‏ فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة‏.‏
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من «صحيح البخاري» عن عائشة‏:‏ أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال‏:‏ ‏"‏ ليسوا بشيء ‏(‏أي لا وجود لما يزعمونه‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حَقاً‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيّ فَيقرُّها في أذن وليّه قَرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ‏"‏‏.‏
وما في تفسير سورة الحجر من «صحيح البخاري» من حديث سفيان عن أبي هُريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ‏(‏أي أمر أو أوحى‏)‏ وضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله «فإنهم المأمورون كل في وظيفته» كالسلسلة على صَفواننٍ ينفُذُهم ذلك ‏(‏أي يحصل العلم لهم‏.‏ وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ‏(‏أي هي طبقات مفاوتة في العلو‏)‏‏.‏ ووصف سفيان بيده فحرّفها وفَرّج بين أصابع يده اليمنى نَصَبها بعضَها فوق بعض ‏(‏فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخَر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر‏)‏، فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركها فيكذب معها مائة كَذبة‏.‏ فيقولون‏:‏ ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سُمعت من السماء ‏"‏‏.‏ أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب‏.‏ وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عُمر رضي الله عنه من «صحيح البخاري»‏.‏
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة‏.‏ ولا محالة أنها مقرّبة بالمسموعات، لأنها دلالة على عزائم النّفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها‏.‏
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره، والذي يحصل للكاهن كذلك‏.‏ والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏
‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏
انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة‏.‏
وتقدم الكلام على معنى ‏{‏مددناها‏}‏ وعلى ‏(‏الرواسي‏)‏ في سورة الرعد‏.‏
والموزون‏:‏ مستعار للمقدّر المضبوط‏.‏
و ‏{‏معايش‏}‏‏:‏ جمع معيشة‏.‏ وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف‏.‏
‏{‏ومن لستم له برازقين‏}‏ عطف على الضمير المجرور في ‏{‏لكم‏}‏، إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصْلُ بضمير منفصل على التحقيق، أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش، وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين، أي لمن لستم له بمطعمين‏.‏
وما صدق ‏{‏مَنْ‏}‏ الذي يأكل طعامه مما في الأرض، وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها النّاس‏.‏
والإتيان ب ‏{‏مَن‏}‏ التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب‏.‏
ومعنى ‏{‏لستم له برازقين‏}‏ نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام‏.‏ ومصدر رَزَقه الرّزق بفتح الراء‏.‏ وأما الرِّزق بكسر الراء فهو الاسم وهو القوت‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏
هذا اعتراض ناشئ عن قوله ‏{‏وأنبتنا فيها من كل شيء موزون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 19‏]‏ الآية‏.‏ وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي سفينةٍ صالحةٍ‏.‏
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة‏.‏ شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المَكنية، ورُمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏50‏)‏‏.‏
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب في أحوال مخصوصة، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البَرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة‏.‏
وقوله وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم، قال تعالى ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏، إطلاقاً مجازياً لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني، وهو علو معنوي، أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية، وهذا كقوله تعالى ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج في سورة الزمر ‏(‏6‏)‏، وقوله تعالى يتنزل الأمر بينهن‏}‏ في سورة الطلاق ‏(‏12‏)‏‏.‏
والقَدر بفتح الدال‏:‏ التقدير‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏‏.‏
والمراد ‏{‏بمعلوم‏}‏ أنه معلوم تقديره عند الله تعالى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد‏.‏
والإرسال‏:‏ مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان‏.‏ وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية‏.‏ وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
و ‏{‏لواقح‏}‏ حال من ‏{‏الرياح‏}‏‏.‏ وقع هذا الحال إدماجاً لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك رحمه الله‏.‏
و ‏{‏لواقح‏}‏ صالحٌ لأن يكون جمع لاَقح وهي الناقة الحبلى‏.‏ واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سبباً في نزول المطر، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى ‏{‏إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وصالح لأن يكون جمع مُلقح وهو الذي يجعل غيره لاقحاً، أي الفحل إذا ألقح الناقة، فإن فواعل يجيء جمعَ مُفعل مذكرٍ نادراً كقول الحارث أو ضرار النهشلي‏:‏
لبيك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيحُ الطوايح
روعي فيه جواز تأنيث المشبه به‏.‏ وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه‏.‏
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطراً على الأرض؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تَنقُلَ إلى نَوْره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح‏.‏ وهذا هو الإبّار‏.‏ وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة‏.‏ وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر‏.‏
ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العمليْن اللّذين تعملهما الرياح، وقد فُسرت الآية بهما‏.‏ واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر‏.‏
وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال‏:‏ قال الله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذٍ لم يكن فساداً لا خير فيه‏.‏ ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت‏.‏
وفرع قوله ‏{‏فأنزلنا من السماء ماء‏}‏ على قوله ‏{‏وأرسلنا الرياح‏}‏‏.‏
وقرأ حمزة ‏{‏وأرسلنا الريح لواقح‏}‏ بإفراد «الريح» وجمع «لواقح» على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد‏.‏
و ‏{‏أسقيناكموه‏}‏ بمعنى جعلناه لكم سقياً، فالهمزة فيه للجعل‏.‏ وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقى‏.‏
واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفاً ‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 21‏]‏ أي وما أنتم له بحافظين ومنشئين عندما تريدون‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياءُ الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية، ولأن فيه دليلاً على إمكان البعث‏.‏ والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قُدم‏.‏ وذكر الإماتة للتكميل‏.‏
والجملة عطف على جملة ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجا‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 16‏]‏ للدلالة على القدرة وعموم التصرف‏.‏
وضمير نَحْن ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء‏.‏ وأكد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ واللاّم وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلاً للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة‏.‏
والمراد بالإحياء تكوين الموجودات التي فيها الحياة وإحياؤهها أيضاً بعد فناء الأجسام‏.‏ وقد أدمج في الاستدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف إثبات البعث ودفع استبعاد وقوعه واستحالتهِ‏.‏
ولما كان المشركون منكرين نوعاً من الإحياء كان توكيد الخبر مستعملاً في معنييه الحقيقي والتنزيلي‏.‏
وجملة ونحن الوارثون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإنا لنحن نحي ونميت‏}‏‏.‏
ومعنى الإرث هنا البقاء بعد الموجودات تشبيهاً للبقاء بالإرث وهو أخذ ما يتركه الميت من أرض وغيرها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏
لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها، وكانت الإماتة تذكّر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالأحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي‏.‏
والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب؛ ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم على خلاف القياس لأن فعله رباعي‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏34‏)‏‏.‏
وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية‏.‏ وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة‏.‏
وجملة وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ نتيجة هذه الأدلة من قوله‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحي ونميت‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 23‏]‏ فإن الذي يُحيي الحياة الأولى قادر على الحياة الثانية بالأوْلى، والّذي قدّر الموت ما قدره عبثاً بعد أن أوجد الموجودات إلاّ لتستقبلوا حياة أبدية؛ ولولا ذلك لقدر الدّوام على الحياة الأولى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏سورة الملك‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وللإشارة إلى هذا المعنى من حكمة الإحياء والإماتة أتبعه بقوله‏:‏ إنه حكيم عليم‏}‏ تعليلاً لجملة ‏{‏وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ لأن شأن ‏{‏إنّ‏}‏ إذا جاءت في غير معنى الرد على المنكر أن تفيد معنى التعليل والربط بما قبلها‏.‏
والحكيم الموصوف بالحكمة‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 269‏]‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏209‏)‏‏.‏
و العَليم الموصوف بالعلم العام، أي المحيط‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏140‏)‏‏.‏
وقد أكدت جملة وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ بحرف التوكيد وبضمير الفصل لرد إنكارهم الشديد للحشر‏.‏ وقد أسند الحشر إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأن النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم كذبوه في الخبر عن البعث ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كل ممزّق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جِنّة‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 7 8‏]‏ أي فكيف ظنك بجزائه مكذبيك إذا حشرهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏‏}‏
تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها‏.‏ ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وَسْواسه بما يرديهم‏.‏ جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني‏.‏ ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث، وموعظةٌ وذكرى‏.‏ والمراد بالإنسان آدم عليه السلام‏.‏
والصلصال‏:‏ الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفَخّار؛ إلا أن الفَخّار هو ما يبس بالطبخ بالنّار‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان من صلصال كالفخار‏}‏ ‏[‏سورة الرحمن‏:‏ 14‏]‏‏.‏
والحَمأ‏:‏ الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من حمإ‏}‏ صفة ل ‏{‏صلصال‏}‏ و‏{‏مسنون‏}‏ صفة ل ‏{‏حمإ‏}‏ أو ل ‏{‏صلصال‏}‏‏.‏ وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر‏.‏
والمسنون‏:‏ الذي طالت مدة مكثه، وهواسم مفعول من فعل سنّهُ إذا تركه مدة طويلة تشبه السّنة‏.‏ وأحسب أن فعل ‏(‏سَن‏)‏ بمعنى ترك شيئاً مدة طويلة غيرُ مسموع‏.‏
ولعل ‏(‏تَسَنّه‏)‏ بمعنى تغيّر من طول المدّة أصله مطاوع سَنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى ‏{‏لم يتسنّه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏‏.‏
والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذ أخرج من هذه الحالة المهينة نوعاً هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة‏.‏
وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن، وهو يعطي حرارة ضعيفة‏.‏ ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفّنة حيوانات مثل الدود، ولذلك أيضاً تنشأ في الأمزجة المتعفّنة الحمى‏.‏
وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرّت على مادة خلق الإنسان‏.‏
وتوكيد الجملة بلام القسم وبحرف ‏(‏قد‏)‏ لزيادة التحْقيق تنبيهاً على أهميّة هذا الخلق وأنه بهذه الصفة‏.‏
وعطف جملة والجانّ خلقناه‏}‏ إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين بني آدم وجُند إبليس‏.‏
وأكدت جملة ‏{‏والجان خلقناه‏}‏ بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظيره المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الّذي أكدت به جملة ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ الخ‏.‏
وفائدة قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجانّ أسبق لأنّه مخلوق من عنصر الحرارة والحرارة أسبق من الرطوبة‏.‏
و ‏{‏السموم‏}‏ بفتح السين‏:‏ الريح الحارة‏.‏ فالجنّ مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجنّ، فكما كَوّن الله الحمأةَ الصلصالَ المسنونَ لخلق الإنسان، كَون ريحاً حارة وجعل منها الجنّ‏.‏ «فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قويّة‏.‏ والحكمة كلّها في إتقان المزج والتركيب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 35‏]‏
‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏‏}‏
عطف قصة على قصة‏.‏
و ‏{‏إذ‏}‏ مفعول لفعل ‏(‏اذكر‏)‏ محذوف‏.‏ وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف‏.‏
والبشر مرادف الإنسان، أي أنّي خالق إنساناً‏.‏ وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقَى الله فيهم من العلم، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبّر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى‏.‏
وإنما ذُكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏‏.‏
والتسوية‏:‏ تعديل ذات الشيء‏.‏ وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح‏.‏
والنفخ‏:‏ حقيقته إخراج الهواء مضغوطاً بين الشفتين مضمومتين كالصفير، واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دَفعة واحدة، وليس ثَمة نفخ ولا منفوخ‏.‏
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوّة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكوناً سريعاً دفعياً وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها‏.‏
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق‏.‏ وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعاً لطباع الأمزجة أو لإِلففِ العادة ولا يُؤْبَه في علم الله تعالى‏.‏ وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر‏.‏
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه، ومنه تخلقت أفاضل البشر‏.‏ وكذلك المسك طَيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غُدة من خارجات بعض أنواع الغزال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَهُ من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون‏}‏ ‏[‏سورة السجدة‏:‏ 7 9‏]‏‏.‏
وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام‏.‏ وفي الحديث «لَخلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»‏.‏ وفيه لا يُكْلَم أحد في سبيل الله؛ واللّهُ أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودَمه يَشْخُب اللّونُ لونُ الدم والريح ريح المسك‏.‏
ومعنى فقعوا له ساجدين‏}‏ أُسقُطوا له ساجدين، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع، وهو الوقوع لقصد التعظيم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخرّوا له سجداً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديراً لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته‏.‏
وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم‏.‏
وثانيها‏:‏ أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك، ولم يكن السجود من قبل محظوراً فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهم السلام وكانوا أهل إيمان‏.‏
وثالثها‏:‏ أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏}‏ عنوان على طاعة الملائكة‏.‏
و ‏{‏كلهم أجمعون‏}‏ تأكيد على تأكيد، أي لم يتخلّف عن السجود أحد منهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين‏}‏ تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف‏.‏
وقوله هنا ‏{‏أن يكون مع الساجدين‏}‏ بيان لقوله في سورة البقرة ‏(‏34‏)‏ ‏{‏واستكبر‏}‏ لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود‏.‏ فدلّ هذا على أنه عصى وأنه ترفّع عن متابعة غيره‏.‏
وجملة ما لك ألا تكون مع الساجدين‏}‏ استفهام توبيخ‏.‏ ومعناه أي شيء ثبت لك، أي متمكناً منك، لأن اللام تفيد الملك‏.‏ و‏{‏ألا تكون‏}‏ معمول لحرف جر محذوف تقديره ‏(‏في‏)‏‏.‏ وحَذف حرف الجر مطرد مع ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ وحرف ‏(‏أن‏)‏ يفيد المصدرية‏.‏ فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لم أكن لأسجد‏}‏ جُحود‏.‏ وقد تقدم أنه أشد في النفي من ‏(‏لا أسجد‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يكون لي أن أقول‏}‏ في آخر العقود ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون‏}‏ تأييد لإبايَته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقِير ذميم لا يستأهل السجود‏.‏ وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن‏.‏ فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة‏:‏ ‏{‏إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون‏}‏ وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة‏.‏ وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص ‏(‏76‏)‏ إذ قال‏:‏ ‏{‏أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ ولم يحك عنه هنا‏.‏
وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحاً بتخطئة الخالق، كافراً بصفاته، فاستحق الطرد من عالم القدس‏.‏ وقد بيناه في سورة ص‏.‏
وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المُنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات‏.‏
والفاء في ‏{‏فإنك رجيم‏}‏ دالّة على سبب إخراجه من السماوات‏.‏ و‏(‏إنّ‏)‏ مؤذنة بالتعليل‏.‏ وذلك إيماء إلى سبب إخراجه من عوالم القدس، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم متلوث الطوية وخبث النفس، أي حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثاً لا يرجى بعده صلاح فلا تَبقى في عالم القدس والنزاهة‏.‏
والرجيم‏:‏ المطرود‏.‏ وهو كناية عن الحقارة‏.‏ وتقدم في أول هذه السورة ‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وضمير ‏{‏منها‏}‏ عائد إلى السماوات وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الجنة‏.‏ وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة‏.‏
و ‏{‏اللعنة‏}‏‏:‏ السّبّ بالطرد‏.‏ و‏(‏على‏)‏ مستعملة في الاستعلاء المجازي؛ وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه‏.‏
وجُعل ‏{‏يوم الدين‏}‏ وهو يوم الجزاء غاية للّعن استعمالاً في معنى الدوام، كأنه قيل أبدا‏.‏ وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلفها ضدها، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذٍ أشد من اللعنة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏
‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏‏}‏
سؤاله النظِرة بعد إعلامه بأنه ملعون إلى يوم الدين فاض به خبث جبلته البالغ نهاية الخباثة التي لا يشفيها إلا دوام الإفساد في هذا العالم، فكانت هذه الرغبة مجلبة لدوام شقوته‏.‏
ولما كانت اللعنة تستمر بعد انعدام الملعون إذا اشتهر بين الناس بسوء لم يكن توقيتها بالأبد مقيداً حياة الملعون، فلذلك لم يكن لإبليس غنى بقوله تعالى ‏{‏إلى يوم الدين‏}‏ عن أن يسأل الإبقاء إلى يوم الدين ليكون مصدر الشرور للنفوس قضاء لما جبل عليه من بثّ الخُبث؛ فكان بذلك حريصاً على دوامها بما يوجه إليه من اللّعنة، فسأل النظرة حباً للبقاء لما في البقاء من استمرار عمله‏.‏
وخاطب الله بصفة الربوبية تخضّعاً وحثّاً على الإجابة، والفاء في ‏{‏فأنظرني‏}‏ فاء التفريع‏.‏ فرع السؤال عن الإخراج‏.‏
ووسّط النداء بين ذلك‏.‏
وذُكرت هذه الحالة من أوصاف نفسيته بعثاً لكراهيته في نفوس البشر الذين يرون أن حق النفس الأبية أن تأنف من الحياة الذميمة المحقرة، وذلك شأن العرب، فإذا علموا هذا الحوص من حال إبليس أبغضوه واحتقروه فلم يرضوا بكل عمل ينسب إليه‏.‏
والإنظار‏:‏ الإمهال والتأخير‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فنظرة إلى ميسرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏280‏)‏‏.‏ والمراد تأخير إماتته لأن الإنظار لا يكرن للذات، فتعين أنه لبعض أحوالها وهو الموت بقرينة السياق‏.‏
وعبر عن يوم الدين ب يوم يبعثون‏}‏ تمهيداً لما عقد عليه العزم من إغواء البشر، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا‏.‏ وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائماً لما خلق له، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله‏:‏ «كل ميسر لما خلق له»‏.‏ وضمير ‏{‏يبعثون‏}‏ للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم عليه السلام، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذٍ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل‏.‏
وعبر عن يوم البعث ب ‏{‏يوم الوقت المعلوم‏}‏ تفنّناً تفادياً من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل‏.‏ فالمراد‏:‏ المعلوم لدينا‏.‏ ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضاً علماً إجمالياً‏.‏
وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم‏.‏
وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 18‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الحقّ والباطل‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذّود عنها‏.‏
وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرّع عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏
‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏
الباء في ‏{‏بما أغويتني‏}‏ للسببية، و‏(‏ما‏)‏ موصولة، أي بسبب إغوائك إياي، أي بسبب أن خلقتني غاوياً فسأغوي الناس‏.‏
واللام في ‏{‏لأزينن‏}‏ لام قسم محذوف مراد بها التأكيد، وهو القسم المصرح به في قوله‏:‏ ‏{‏قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين‏}‏ ‏[‏سورة ص‏:‏ 82‏]‏‏.‏
والتزيين‏:‏ التحسين، أي جعل الشيء زينا، أي حسناً‏.‏ وحذف مفعول لأُزَينَنّ‏}‏ لظهوره من المقام، أي لأزينن لهم الشر والسيئات فيرونها حسنة، وأزيّن لهم الإقبال على الملاذ التي تشغلهم عن الواجبات‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏212‏)‏‏.‏
والإغواء‏:‏ جعلهم غاوين‏.‏ والغّواية بفتح الغين‏:‏ الضلال‏.‏ والمعنى‏:‏ ولأضلنّهم‏.‏ وإغواء الناس كلهم هو أشد أحوال غاية المغوي إذ كانت غوايته متعدية إلى إيجاد غواية غيره‏.‏
وبهذا يعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏بما أغويتني‏}‏ إشارة إلى غَواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها، فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية، ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلّته، وليس هو تشفّياً أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك‏.‏
وزيادة ‏{‏في الأرض‏}‏ لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دلّ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاخرج منها‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 34‏]‏، أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال‏:‏ ‏{‏وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 2‏]‏، ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها‏.‏
وضمائر‏:‏ لهم‏}‏، و‏{‏لأغوينهم‏}‏ و‏{‏منهم‏}‏، لبني آدم، لأنه قد علم علماً ألقي في وجدانهِ بأن آدم عليه السلام ستكون له ذرية، أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه‏.‏
وجعل المُغْوَيْن هم الأصل، واستثنى منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء، فهو الملحوظ ابتداء عنده، على أن المُغوَيْن هم الأكثر‏.‏ وعكسه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ والاستثناء لا يُشعر بقلّة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس‏.‏
وقرئ ‏{‏المخلصين‏}‏ بفتح اللام لنافع وحمزة وعاصم والكسائي على معنى الذين أخلصتَهم وطهّرتهم‏.‏ وبكسر اللام لابن كثير وابن عامر وأبي عَمرو، أي الذين أخلَصوا لك في العمل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏
‏{‏قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏
الصراط المستقيم‏:‏ هو الخبر والرشاد‏.‏
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبيّنة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏، فتكون الإشارة إلى غير مشاهَد تنزيلاً له منزلة المشاهد، وتنزيلاً للمسموع منزلة المرئي‏.‏
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره‏.‏ فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن، كما يكتب في العهود والعقود‏:‏ هذا ما قاضى عليه فلان فلاناً أنه كيَت وكيت، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا‏.‏
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله‏:‏ ‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 40‏]‏ لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير، فتكون جملة إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ مستأنفة أفادت نفي سلطانه‏.‏
والصراط‏:‏ مستعار للعمل الذي يقصِد منه عاملُه فائدةً‏.‏ شُبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه، أي هذا هو السُنّة التي وضعتُها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنّك لا تغوي إلا من اتّبعك من الغاوين، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين‏.‏
و ‏{‏مستقيم‏}‏ نعت ل ‏{‏صراط‏}‏، أي لا اعوجاج فيه‏.‏ واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ مستعملة في الوجوب المجازي، وهو الفعل الدائم التي لا يتخلّف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ ‏[‏سورة الليل‏:‏ 12‏]‏، أي أنّا التزمنا الهدى لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية‏.‏
وهذه الجملة مما يُرسل من الأمثال القرآنية‏.‏
وقرأ الجمهور على‏}‏ بفتح اللام وفتح الياء على أنها ‏(‏على‏)‏ اتصلت بها ياء المتكلم‏.‏ وقرأه يعقوب بكسر اللام وضم الياء وتنوينها على أنه وصف من العلوّ وصف به صراط، أي صراط شريف عظيم القدر‏.‏
والمعنى أن الله وضع سنّة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلّط إلا على من كان غاوياً، أي مائلاً للغواية مكتسباً لها دون مَن كبحَ نفسه عن الشر‏.‏ فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان عَلم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفّق وحمل نفسه على اختيار الهُدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان، وإذا مَال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئاً إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوَى‏.‏ فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوني يحببكم الله‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وإطلاق الغاوين‏}‏ من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة لأنه لو كان غاوياً بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة‏.‏ وقد دلّ على هذا المعنى تعلّق نفي السلطان بجميع العباد، ثم استثناء من كان غاوياً‏.‏
فلما كان سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاوياً علمنا أن ثمّة وصفاً بالغواية هو مهيَئ تسلطِ سلطان الشيطان على موصوفه‏.‏ وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل، أي بالاستعداد للغواية لا بوقوعها‏.‏
فالإضافة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عبادي‏}‏ للعموم كما هو شأن الجمع المعرّف بالإضافة، والاستثناء حقيقي ولا حَيرة في ذلك‏.‏
وضمير «مَوعدهم» عائد إلى ‏{‏من اتبعك‏}‏، والموعد مكان الوعد‏.‏ وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيهاً له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد‏.‏
ووجه الشبه تحقّق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد، لأن إخلاف الوعد محاور، وفي ذلك تَمليح بهم لأنهم ينكرون البعث والجزاء، فجُعلوا بمنزلة من عيّن ذلك المكان للإتيان‏.‏
وجملة ‏{‏لها سبعة أبواب‏}‏ مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم‏.‏
والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 23‏]‏؛ أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بأن تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر‏.‏ وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر‏.‏
وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرككِ الأسفل من النار‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 145‏]‏‏.‏ وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏8‏)‏‏.‏
وجملة ‏{‏لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏ صفة ل ‏{‏أبواب‏}‏ وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى‏.‏ وضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد ل ‏{‏من اتبعك من الغاوين‏}‏، أي لكل باب فريق يدخل منه، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار‏.‏
واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلّة التطور الذي تكيّفت به نفس إبليس من حينَ أبى من السجود وكيف تولدَ كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عندما صدر منه قوله‏:‏ ‏{‏لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 39، 40‏]‏، فكلّما حَدث في جبلّته فصْل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه؛ فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب‏.‏
وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدّرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان‏.‏ وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ولا بغلبة من الشيطان لخالقه، فإن ضعفه تُجاهَ عزّة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي، انتقال من وعيد المجرمين إلى بشارة المتّقين على عادة القرآن في التفنن‏.‏
والمتّقون‏:‏ الموصوفون بالتقوى‏.‏ وتقدمت عند صدر سورة البقرة‏.‏
والجنّات‏:‏ جمع جنة‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى ‏{‏أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏25‏)‏
والعيون‏:‏ جمع عين اسم لثقب أرضي يخرج منه الماء من الأرض‏.‏ فقد يكون انفجارها بدون عمل الإنسان‏.‏ وأسبابه كثيرة تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏74‏)‏‏.‏ وقد يكون بفعل فاعل وهو التفجير‏.‏
وجملة ‏{‏ادخلوها‏}‏ معمولة لقول محذوف يقدر حالاً من ‏{‏المتقين‏}‏ والقرينة ظاهرة‏.‏ والتقدير‏:‏ يقال لهم ادخلوها‏.‏ والقائل هو الملائكة عند إدخال المتقين الجنة‏.‏
والباء من ‏{‏بسلام‏}‏ للمصاحبة‏.‏
والسلام‏:‏ التحية‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏54‏)‏
والأمن النجاة من الخوف‏.‏
وجملة ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏ عطف على الخبر، وهو ‏{‏في جنات وعيون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غِلّ‏.‏
والغِلّ بكسر الغين البغض‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏43‏)‏، أي ما كان بين بعضهم من غلّ في الدنيا‏.‏
وإخواناً‏}‏ حال، وهو على معنى التشبيه، أي كالإخوان، أي كحال الإخوان في الدنيا‏.‏
وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم‏.‏ كما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال‏:‏ إني لأرجو من أن أكون أنا وطلحة ممن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً‏}‏‏.‏ فقال جاهل من شيعة عليّ اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني‏:‏ كلا، اللّهُ أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد‏.‏ فقال عليّ‏:‏ «فلمن هذه الآية لا أمّ لك بِفيك التراب»‏.‏
والسرر‏:‏ جمع سرير‏.‏ وهو محمل كالكرسي متّسع يمكن الاضطجاع عليه‏.‏ والاتّكاء‏:‏ مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلّب كيف شاء حتى إذا ملّ جِلسة انقلب لغيرها‏.‏
والتقابل‏:‏ كون الواحد قبالة غيره، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحَادثة‏.‏
والمسّ‏:‏ كناية عن الإصَابة‏.‏
والنصَب‏:‏ التعب النّاشئ عن استعمال الجهد‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏
‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏‏}‏
هذا تصدير لذكر القصص التي أريد من التذكير بها الموعظة بما حلّ بأهلها، وهي قصة قوم لوط وقصة أصحاب الأيكة وقصة ثمود‏.‏
وابتدئ ذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما فيها من كرامة الله له تعريضاً بالمشركين إذ لم يقتفوا آثاره في التوحيد‏.‏
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وهو مرتبط بقوله في أوائل السورة‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وابتداء الكلام بفعل الإنباء لتشويق السامعين إلى ما بعده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث الجنود‏}‏ ‏[‏سورة البروج‏:‏ 17‏]‏ ونحوه‏.‏ والمقصود هو قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء من بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب‏.‏
وقدمت المغفرة على العذاب لسبق رحمته غضبه‏.‏
وضمير أنا‏}‏ وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر‏.‏
واعلم أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نبئ عبادي‏}‏ إلى ‏{‏الرحيم‏}‏ من المحسّنات البديعية محسّن الاتّزان إذا سكنت ياء ‏{‏أني‏}‏ على قراءة الجمهور بتسكينها، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متَفْعلن فَعِلاتن مرتين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏
‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏
هذا العطف مع اتحاد الفعل المعطوف بالفعل المعطوف عليه في الصيغة دليل على أن المقصود الإنباء بكلا الأمرين لمناسبة ذكر القصة أنها من مظاهر رحمته تعالى وعذابه‏.‏
و ‏{‏ضيف إبراهيم‏}‏‏:‏ الملائكة الذين تشكلوا بشكل أناس غرباء مارّين ببيته‏.‏ وتقدمت القصة في سورة هود‏.‏
وجملة ‏{‏قال إنا منكم وجلون‏}‏ جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة ‏{‏فقالوا سلاماً‏}‏‏.‏ وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازاً لظهوره‏.‏ صُرح به في قوله‏:‏ ‏{‏قال سلام قوم منكرون‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 25‏]‏، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام‏.‏ وفي سورة هود أنه أوجس منهم خِيفة حين رآهم لم يمدّوا أيديهم للأكل‏.‏
وضمير ‏{‏إنا‏}‏ من كلام إبراهيم عليه السلام فهو يعني به نفسه وأهله، لأن الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنّهم يريدون به شراً، فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمْن، فقال‏:‏ ‏{‏إنا منكم وجلون‏}‏، أي أخفتمونا‏.‏ وفي سورة الذاريات أنه قال لهم‏:‏ ‏{‏قوم منكرون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 25‏]‏‏.‏
والوجِل‏:‏ الخائف‏.‏ والوجَل بفتح الجيم الخوف‏.‏ ووقع في سورة هود ‏(‏70‏)‏ ‏{‏نكِرهم وأوجس مِنهم خِيفة‏}‏ وقد جُمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله‏:‏ إنا منكم وجلون‏}‏، فنِهاية الجواب هو ‏{‏لا توجل‏}‏‏.‏
وأما جملة ‏{‏إنا نبشرك بغلام عليم‏}‏ فهي استئناف كلام آخر بعد أن قدّم إليهم القِرى وحضرت امرأته فبشّروه بحضرتها كما فُصّل في سورة هود‏.‏
والغلام العليم‏:‏ إسحاق عليه السلام أي عليم بالشريعة بأن يكون نبيئاً‏.‏
وقد حكي هنا قولهم لإبراهيم عليه السلام، وحكي في سورة هود قولهم لامرأته لأن البشارة كانت لهما معاً فقد تكون حاصلة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار المبشّر، وقد تكون حصلت في وقتين متقاربين بشّروه بانفراد ثم جاءت امرأته فبشروها‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏نبشرك‏}‏ بضم النون وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة مضارع بشر بالتشديد‏.‏ وقرأ حمزة وحده ‏{‏نَبْشُرُكَ‏}‏ بفتح النون وسكون الموحدة وضم الشين وهي لغة‏.‏ يقال بشَرَه يبشره من باب نصر‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أبشرتموني‏}‏ للتعجب‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏‏:‏ دالة على شدة اقتران البشارة بمسّ الكبر إياه‏.‏
والمسّ‏:‏ الإصابة‏.‏ والمعنى تعجب من بشارته بولد مع أن الكبر مسّه‏.‏
وأكد هذا التعجب بالاستفهام الثاني بقوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونِ‏}‏ استفهام تعجب‏.‏ نُزل الأمر العجيب المعلوم منزلة الأمر غير المعلوم لأنه يكاد يكون غير معلوم‏.‏
وقد علم إبراهيم عليه السلام من البشارة أنهم ملائكة صادقون فتعين أن الاستفهام للتعجب‏.‏
وحذف مفعول «بشرتموني» لدلالة الكلام عليه‏.‏
قرأ نافع ‏{‏تبشرونِ‏}‏ بكسر النون مخففة دون إشباع على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح‏.‏
وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة على حذف ياء المتكلم خاصة‏.‏ وقرأ الباقون بفتح النون على حذف المفعول لظهوره من المقام، أي تبشرونني‏.‏
وجواب الملائكة إياه بأنهم بشّروه بالخَبَر الحق، أي الثابت لا شك فيه إبطالاً لما اقتضاه استفهامه بقوله‏:‏ ‏{‏فبم تبشرون‏}‏ من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفياً وباطلاً‏.‏ فكلامهم رد لكلامه وليس جواباً على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي‏.‏
ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا‏:‏ ‏{‏فلا تكن من القانطين‏}‏‏.‏ ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله‏.‏ ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهاً عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطاً لرفعة مقام نبوءته عن ذلك‏.‏ وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله‏:‏ ‏{‏أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام ‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وقد ذكرته الموعظة مقاماً نسيه فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون‏}‏‏.‏ وهو استفهام إنكار في معنى النفي، ولذلك استثنى منه ‏{‏إلا الضالون‏}‏‏.‏ يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر‏.‏
القنوط‏:‏ اليأس‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ومن يقنط‏}‏ بفتح النون‏.‏ وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف بكسر النون وهما لغتان في فعل قَنط‏.‏
قال أبو علي الفارسي‏:‏ قَنَط يقنِط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنَطوا‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 28‏]‏‏.‏
قلت‏:‏ ومن فصاحة القرآن اختياره كل لغة في موضع كونها فيه أفصح، فما جاء فيه إلا الفتح في الماضي، وجاء المضارع بالفتح والكسر على القراءتين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏
‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏
حكاية هذا الحوار بين إبراهيم والملائكة عليهم السلام لأنه يجمع بين بيان فضل إبراهيم عليه السلام وبين موعظة قريش بما حل ببعض الأمم المكذبين، انتقل إبراهيم عليه السلام إلى سؤالهم عن سبب نزولهم إلى الأرض، لأنه يعلم أن الملائكة لا ينزلون إلا لأمر عظيم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تنزل الملائكة إلا بالحقّ‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقد نزل الملائكة يوم بدر لاستئصال سادة المشركين ورؤسائهم‏.‏
والخطب تقدم في قوله تعالى ‏{‏قال ما خطبكنّ‏}‏ في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 51‏]‏‏.‏
والقوم المجرمون هم قوم لوط أهل سدوم وقُراها‏.‏ وتقدم ذكرهم في سورة هود‏.‏
والاستثناء في ‏{‏إلا آل لوط‏}‏ منقطع لأنهم غير مجرمين‏.‏ واستثناء ‏{‏إلا امرأته‏}‏ متصل لأنها من آل لوط‏.‏
وجملة ‏{‏إنا لمنجوهم أجمعين‏}‏ استئناف بياني لبيان الإجمال الذي في استثناء آل لوط من متعلق فعل ‏{‏أرسلنا‏}‏ لدفع احتمال أنهم لم يرسلوا إليهم ولا أمروا بإنجائهم‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ إيجاز حذف‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ إنا أرسلنا إلى لوط لأجل قوم مجرمين، أي لعذابهم‏.‏ ودل على ذلك الاستثناء في ‏{‏إلا آل لوط‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لمنجوهم‏}‏ بفتح النون وتشديد الجيم مضارع نجّى المضاعف‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بسكون النون وتخفيف الجيم مضارع أنجى المهموز‏.‏
وإسناد التقدير إلى ضمير الملائكة لأنهم مُزمعون على سببه‏.‏ وهو ما وكلوا به من تحذير لوط عليه السلام وآله من الالتفات إلى العذاب، وتَرْكِهم تحذير امرأته حتى التفتت فَحل بها ما حل بقوم لوط‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏قدرنا‏}‏ بتشديد الدال من التقدير‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال من قدَر المجرد وهما لغتان‏.‏
وجملة ‏{‏إنها لمن الغابرين‏}‏ مستأنفة‏.‏ و‏(‏إن‏)‏ معلقة لفعل ‏{‏قدرنا‏}‏ عن العمل في مفعوله‏.‏ وأصل الكلام قدرنا غُبُورها، أي ذهابها وهلاكها‏.‏
والتعليق يطرأ على الأفعال كلها وإنما يكثر في أفعال القلوب ويقلّ في غيرها‏.‏ وليس من خصائصها على التحقيق‏.‏
وتقدم ذكر الغابرين في سورة الأعراف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏
‏{‏فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏
تفريع على حكاية قصتهم مع إبراهيم وقد طوي ما هو معلوم من خروج الملائكة من عند إبراهيم‏.‏ والتقدير‏:‏ ففارقوه وذهبوا إلى لوط فلما جاءوا لوطاً‏.‏
وعُبر بآل لوط عليه السلام لأنهم نزلوا في منزلة بين أهله فجاءوا آله وإن كان المقصود بالخطاب والمجيء هو لوط‏.‏
وتولى لوط عليه السلام تلقيهم كما هو شأن كبير المنزل ولكنه وجدهم في شكل غير معروف في القبائل التي كانت تمر بهم فألهم إلى أن لهم قصة غريبة ولذلك قال لهم‏:‏ ‏{‏إنكم قوم منكرون‏}‏، أي لا تعرف قبيلتكم‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نكرهم‏}‏ في سورة هود ‏(‏70‏)‏ وقد أجابوه بما يزيل ذلك إذ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ إضراباً عن قوله‏:‏ ‏{‏إنكم قوم منكرون‏}‏ وإبطالاً لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضرّه‏.‏
وعبر عن العذاب ب «ما كانوا فيه يمترون» إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب، فعلم أنهم ملائكة‏.‏
والمراد بالحق الخبر الحق، أي الصدق، ولذلك ذيل بجملة ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون‏}‏ حكاية لخطاب الملائكة لوطا عليه السلام لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ، فبِنَا أن نبيّن خصائص هذا النظم العربي‏:‏
فإعادة فعل ‏{‏أتيناك‏}‏ بعد واو العطف مع أن فعل ‏{‏أتيناك‏}‏ مرادف لفعل ‏{‏جئناك‏}‏ دون أن يقول‏:‏ و‏{‏بالحق‏}‏، يحتمل أن يكون للتأكيد اللفظي بالمرادف‏.‏ والتعبيرُ في أحد الفعلين بمادة المجيء وفي الفعل الآخر بمادة الإتيان لمجرد التفنن لدفع تكرار الفعل الواحد، كقوله تعالى في سورة الفرقان ‏(‏33‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا يأتونك بمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً‏}‏ وعليه تكون الباء في قوله‏:‏ بما كانوا فيه يمترون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة‏.‏
ويحتمل أن تكون لِذكر الفعل الثاني وهو ‏{‏وأتيناك‏}‏ خصوصية لا تفي بها واو العطف وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منهما للفعل الذي تعلق هو به‏.‏ فلما كان المتعلق بفعل ‏{‏جئناك‏}‏ أمراً حسياً وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون، وكان مما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنًى كالحقيقي، إذ هو مجيء مجازي مشهور مساوٍ للحقيقي، أوثر فعل ‏{‏جئناك‏}‏ ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به «ما كانوا فيه يمترون»‏.‏ وتكون الباء المتعلقة به للتعدية لأنهم أجاءوا العذاب، فموقع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كانوا فيه يمترون‏}‏ مَوقع مفعول به، كما تقول ‏(‏ذهبتُ به‏)‏ بمعنى أذهبتُه وإن كنتَ لم تذهب معه، ألاَ ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما نذهبنّ بك‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 41‏]‏ أي نُذهبك من الدنيا، أي نميتك‏.‏
فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية‏.‏
وأما متعلق فعل أتيناك‏}‏ وهو ‏{‏بالحق‏}‏ فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق بفعل الإتيان فغُيرت مادة المجي إلى مادة الإتيان تنبيهاً على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق، أعني المجيء المجازي‏.‏ فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي، وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق، أي الصدق، وليس الصدق مسنداً إليه الإتيانُ‏.‏ فالباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة لا للتعدية‏.‏
والقِطْع بكسر القاف وسكون الطاء الجزء الأخير من الليل‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قطعاً من الليل مظلماً‏}‏ في سورة يونس ‏(‏27‏)‏‏.‏
وأمروه أن يجعل أهله قُدامه ويكون من خلفهم، فهو يتبع أدبارهم، أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويهاً ببركة الرسول عليه السلام، ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم‏.‏ فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات لأنه يراقبهم‏.‏ وقد مضى تفصيل ذلك في سورة هود، وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب‏.‏
وحيث تؤمرون‏}‏ أي حيث تؤمرون بالمضي‏.‏ ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج، وهو مدينة عمورية، كما تقدم في سورة هود‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏
‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏
‏{‏قضينا‏}‏ قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي ب ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه، أي إلى لوط عليه السلام، أي أوحينا إليه بما قضينا‏.‏
و ‏{‏ذلك الأمر‏}‏ إبهام للتهويل‏.‏ والإشارة للتعظيم، أي الأمر العظيم‏.‏
و ‏{‏أن دابر هؤلاء مقطوع‏}‏ جملة مفسرة ل ‏{‏ذلك الأمر‏}‏ وهي المناسبة للفعل المضمن وهو ‏(‏أوحينا‏)‏‏.‏ فصار التقدير‏:‏ وقضينا الأمرَ وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع‏.‏ فنُظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الأمر‏}‏ من الإبهام والتعظيم‏.‏
ومجيء جملة ‏{‏دابر‏}‏ مفسرة مع صلوحية ‏{‏أنّ‏}‏ لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل ‏(‏أوحينا‏)‏ المقدر المضمن، فتم بذلك إيجاز بديع معجز‏.‏
والدابرُ‏:‏ الآخر، أي آخر شخص‏.‏
وقطعه‏:‏ إزالته‏.‏ وهو كناية عن استئصالهم كلهم، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏45‏)‏‏.‏
وإشارة هؤلاء‏}‏ إلى قومه‏.‏
و ‏{‏مصبحين‏}‏ داخلين في الصباح، أي في أول وقته، وهو حال من اسم الإشارة‏.‏ ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده ‏{‏فأخذتهم الصيحة مشرقين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 73‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏
‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏‏}‏
عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها‏.‏
ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لمّا علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك‏}‏ في سورة هود ‏(‏81‏)‏‏.‏ والواو لا تفيد ترتيب معطوفها‏.‏
ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل ‏{‏قال إنكم قوم منكرون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 62‏]‏، أو من الهاء في ‏{‏إليه‏}‏، ولا إشكال حينئذٍ‏.‏ والمدينة هي سدوم‏.‏
و ‏{‏يستبشرون‏}‏ يفرحون ويسرون‏.‏ وهو مطاوع بشره فاستبشر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستبشروا ببيعكم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏111‏)‏‏.‏ وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح‏.‏ ذلك أنهم علموا أن رجالاً غرباء حلوا ببيت لوط عليه السلام ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة‏.‏ وقد تقدمت القصة في سورة هود‏.‏
والفضح والفضيحة‏:‏ شهرة حال شنيعة‏.‏ وكانوا يتعيرون بإهانة الضيّف ويعد ذلك مذلة لمُضيفه‏.‏ وقد ذكرهم بالوازع الديني وإن كانوا كفاراً استقصاء للدعوة التي جاء بها، وبالوازع العرفي فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله ولا تخزون‏}‏ كما في قول عبد بني الحسحاس‏:‏
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا *** والخزي‏:‏ الذلّ والإهانة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا خزي في الحياة الدنيا‏}‏ في أوائل سورة البقرة ‏(‏85‏)‏‏.‏ وتقدم في مثل هذه القصة في سورة هود‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 77‏]‏
‏{‏قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏
الواو في ‏{‏أولم ننهك‏}‏ عطف على كلام لوط عليه السلام جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏‏.‏
والاستفهام إنكاري، والمعطوف هو الإنكار‏.‏
و ‏{‏العالمين‏}‏ الناس‏.‏ وتعدية النّهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دلّ عليه المقام، أي ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قُراهم‏.‏ و‏{‏العالمين‏}‏ تقدم في الفاتحة‏.‏ وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم‏.‏
وعرض عليهم بناته ظناً أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏‏.‏
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته، وأن قوله‏:‏ ‏{‏بناتي‏}‏ يجوز أن يراد به بنات صلبه وكنّ اثنتين أو ثلاثاً، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلاً لهم منزلة بناته لأن النبي كأب لأمّته‏.‏
وجملة ‏{‏لعمرك إنهم لفي سكراتهم يعمهون‏}‏ معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه‏.‏
والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى‏.‏ وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول‏.‏
وكلمة ‏{‏لعمرك‏}‏ صيغة قسم‏.‏ واللام الداخلة على لفظ ‏(‏عمر‏)‏ لام القسم‏.‏
والعَمْر بفتح العين وسكون اللام أصله لغة في العُمر بضم العين، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفّته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام‏.‏ فهو قسم بحياة المخاطب به‏.‏ وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوباً‏.‏ والتقدير‏:‏ لعمرك قَسمي‏.‏
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفاً لازماً في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللّام على معنى القسم‏.‏ وقد يستعملونه بغير اللّام فحينئذٍ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما، كقول عُمر بن أبي ربيعة‏:‏
عَمرَك اللّهَ كيفَ يلتقيان *** فنصَب عمرَ بنزع الخافض وهو ياء القسم ونَصب اسم الجلالة على أنه مفعولُ المصدر، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله، أي قولك للّهِ لعمرك تعظيماً لله لأن القسم باسم أحد تعظيم له، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد «التّحِيّات لله» أي أقسم عليك بتعظيمك ربّك‏.‏ هذا ما يظهر لي في توجيه النصب، وقد خالفت فيه أقوالَ أهل اللّغة بعضَ مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال‏.‏
والسكرة‏:‏ ذهاب العقل‏.‏ مشتقّة من السَكْر بفتح السين وهو السدّ والغلق‏.‏ وأطلقت هنا على الضلال تشبيهاً لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته‏.‏
و ‏{‏يعمهون‏}‏ يتحيّرون ولا يهتدون‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏15‏)‏
وجملة ‏{‏فأخذتهم الصيحة مشرقين‏}‏ تفريع على جملة ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏
‏{‏والصيحة‏}‏‏:‏ صعْقة في الهواء، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجّيل‏.‏ وقد مضى بيانها في سورة هود‏.‏
وانتصب ‏{‏مشرقين‏}‏ على الحال من ضمير الغيبة‏.‏ وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس‏.‏
وضميرَا ‏{‏عاليَها سافلها‏}‏ للمدينة‏.‏ وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله‏.‏
وجملة ‏{‏إن في ذلك لأيات للمتوسمين‏}‏‏:‏ تذييل‏.‏ والآيات‏:‏ الأدلّة، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدّها، وعلى تعرُّض المكذبين رُسلهم لعقاب شديد‏.‏
والإشارة ‏{‏في ذلك‏}‏ إلى جميع ما تضمّنته القصة المبدوءة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 51‏]‏‏.‏ ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم عليه السلام كرامة له، وبشارته بغلام عليم، وإعلام الله إيّاه بما سيحلّ بقوم لوط كرامة لإبراهيم عليهما السلام، ونصر الله لوطاً بالملائكة، وإنجاء لوط عليه السلام وآله، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إيّاهم، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرّسل‏.‏
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏39‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏37‏)‏‏.‏
والمتوسّمون أصحاب التوسم وهو التأمّل في السّمة، أي العلامة الدّالة على المعلّم، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون‏.‏ وهو تعريض بالّذين لم تردَعْهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضاً بالمشركين الذين لم يتّعظوا؛ بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها‏.‏
ولذلك أعقب الجملة بجملة وإنها لبسبيل مقيم‏}‏، أي المدينة المذكورة آنفاً هي بطريق باققٍ يشاهِد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشّام وما حولها، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 137 138‏]‏‏.‏
والمقيم‏:‏ أصله الشخص المستقرّ في مكانه غير مرتحل‏.‏ وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم‏.‏
وجملة ‏{‏إن في ذلك لآية للمؤمنين‏}‏ تذييل‏.‏ والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصّة مع ما انضمّ إليها من التذكير بأن قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المُحماة‏.‏
وعبّر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسّمين هم المؤمنون‏.‏
وجعل ذلك ‏(‏آية‏)‏ بالإفراد تفنّناً لأن ‏(‏آية‏)‏ اسم جنس يصدق بالمتعدّد، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة وهو عاقبة المكذبين‏.‏ وفي مطاوي تلك الآيات آيات‏.‏ والذي في درة التنزيل، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول، وإفراده ثانياً في هذه الآية بأن ما قصّ من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية‏.‏ فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات‏.‏ وأمّا كون قرية لوط بسبيل مقيم فهو في جملته آية واحدة‏.‏ فتأمّل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏
‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏
‏{‏وَإِن كَانَ أصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏‏.‏
عطف قصة على قصة لما في كلتيهما من الموعظة‏.‏ وذكر هاتين القصّتين المعطوفتين تكميل وإدماج، إذ لا علاقة بينهما وبين ما قبلهما من قصة إبراهيم والملائكة‏.‏ وخصّ بالذكر أصحاب الأيكة وأصحاب الحِجر لأنهم مثل قوم لوط في موعظة المشركين من الملائكة لأن أهل مكة يشاهدون ديار هذه الأمم الثّلاث‏.‏
و ‏{‏إنْ‏}‏ مخفّفة ‏(‏إنّ‏)‏ وقد أهمل عملها بالتخفيف فدخلت على جملة فعلية‏.‏ واللام الداخلة على ‏(‏الظالمين‏)‏ اللام الفارقة بين ‏(‏إن‏)‏ التي أصلها مشددة وبين ‏(‏إن‏)‏ النافية‏.‏
و ‏{‏الأيكة‏}‏‏:‏ الغيضة من الأشجار الملتفّ بعضها ببعض‏.‏ واسم الجمع ‏(‏أيك‏)‏، وأطلقت هنا مراداً بها الجنس إذ قد كانت منازلهم في غيضة من الأشجار الكثيرة الورق‏.‏ وقد تخفّف الأيكة فيقال‏:‏ ليكة‏.‏
و ‏{‏أصحاب الأيكة‏}‏‏:‏ هم قوم شعيب عليه السلام وهم مَدْيَن‏.‏ وقيل أصحاب الأيكة فريق من قوم شُعيب غير أهل مدين‏.‏ فأهل مدين هم سكان الحاضرة وأصحاب الأيكة هم باديتهم، وكان شُعيب رسولاً إليهم جميعاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذب أصحاب ليكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 176 177‏]‏‏.‏ وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في سورة الشّعراء‏.‏
والظالمون‏:‏ المشركون‏.‏
والانتقام‏:‏ العقوبة لأجل ذنب، مشتّقة من النّقم، وهو الإنكار على الفعل‏.‏ يقال‏:‏ نقم عليه كما في هذه الآية، ونقم منه أيضاً‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما تنقم منا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏126‏)‏‏.‏ وأجمل الانتقام في هذه الآية وبيّن في آيات أخرى مثل آية هود‏.‏
‏{‏وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏
ضمير ‏{‏إنهما‏}‏ لقرية قوم لوط وأيكة قوم شعيب عليهما السلام‏.‏‏.‏
والإمام‏:‏ الطريق الواضح لأنه يأتمّ به السائر، أي يعرف أنه يوصل إذ لا يخفى عنه شيء منه‏.‏ والمبين‏:‏ البيّن، أي أن كلتا القريتين بطريق القوافل بأهل مكّة‏.‏
وقد تقدم آنفاً قوله‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 76‏]‏ فإدخال مدينة لوط عليه السلام في الضمير هنا تأكيد للأول‏.‏
ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان، وهما مدين وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم، فإن إبراهيم عليه السلام أسكن ابنه مَدين في شرق بلاد الخليل، ولا يكون إلا في أرض مأهولة‏.‏ وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيْب عليه السلام باسم مَدين مرّات وباسم أصحاب الأيكة مرّات‏.‏ وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشّعراء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏
جُمِعتْ قصص هؤلاء الأمم الثّلاث‏:‏ قوممِ لوط، وأصحاببِ الأيكة، وأصحاب الحجر في نسق، لتماثل حال العذاب الّذي سلط عليها وهو عذاب الصّيحة والرّجفة والصّاعقة‏.‏
وأصحاب الحِجر هم ثمود كانوا ينزلون الحِجر بكسر الحاء وسكون الجيم‏.‏ والحجر‏:‏ المكان المحجور، أي الممنوع من النّاس بسبب اختصاص به، أو اشتقّ من الحجارة لأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في صخر الجبل نحتاً محكماً‏.‏ وقد جعلت طبقات وفي وسطها بئر عظيمة وبئار كثيرة‏.‏
والحجر هو المعروف بوادي القرى وهو بين المدينة والشّام، وهو المعروف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك‏.‏
وأما حَجر اليمامة مدينةُ بني حنيفة فهي بفتح الحاء وهي في بلاد نَجد وتسمى العَروض وهي اليوم من بلاد البحرين‏.‏
وقد توهّم بعض المستشرقين من الإفرنج أن البيوت المنحوتة في ذلك الجبل كانت قبوراً، وتعلقوا بحجج وهمية‏.‏ ومما يفنّد أقوالهم خلوّ تلك الكهوف عن أجساد آدمية‏.‏ وإذا كانت تلك قبوراً فأين كانت منازل الأحياء‏؟‏‏.‏
والظاهر أن ثمود لما أخذتهم الصّيحة كانوا منتشرين في خارج البيوت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة مصبحين‏}‏‏.‏ وقد وُجدت في مداخل تلك البيوت نقر صغيرة تدلّ على أنّها مجعولة لوصد أبواب المداخل في اللّيل‏.‏
وتعريف ‏{‏المرسلين‏}‏ للجنس، فيصدق بالواحد، إذ المراد أنّهم كذبوا صالحاً عليه السلام فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وكذلك جمع الآيات في قوله‏:‏ آياتنا‏}‏ مراد به الجنس، وهي آية النّاقة، أو أريد أنها آية تشتمل على آيات في كيفيّة خروجها من صخرة، وحياتها، ورعيها، وشربها‏.‏ وقد روي أنّها خرج معها فصيلها، فهما آيتان‏.‏
وجملة ‏{‏وكانوا ينحتون‏}‏ معترضة‏.‏ والنّحتُ‏:‏ بَرْي الحجر أوالعود من وسطه أو من جوانبه‏.‏
و ‏{‏من الجبال‏}‏ تبعيض متعلق ب ‏{‏ينحتون‏}‏‏.‏ والمعنى من صخر الجبال، لما دلّ عليه فعل ‏{‏ينحتون‏}‏‏.‏
و ‏{‏آمنين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ينحتون‏}‏ وهي حال مقدرة، أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها‏.‏ وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو‏.‏
ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏
والفاء في ‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ للتعقيب والسببية‏.‏ و‏{‏مصبحين‏}‏ حال، أي داخلين في وقت الصّباح‏.‏
و ‏{‏ما كانوا يكسبون‏}‏ أي يصنعون، أي البيوت التي عُنوا بتحصينها وتحسينها كما دلّ عليه فعل ‏{‏كانوا‏}‏‏.‏ وصيغة المضارع في ‏{‏يكسبون‏}‏ لدلالتها على التكرّر والتجدّد المكنّى به عن إتقان الصنعة‏.‏ وبذلك كان موقع الموصول والصلة أبلغ من موقع لفظ ‏(‏بيوتهم‏)‏ مثلاً، ليدل على أن الذي لم يغن عنهم شيءٌ متّخذ للإغناء ومن شأنه ذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏
‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏
موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع‏.‏ فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلاً لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقّوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها، ولأن تكون تصديراً للجملة التي بعدها وهي جملة ‏{‏وإن الساعة لآتية‏}‏‏.‏ والمراد ساعة جزاء المكذّبين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي ساعة البعث‏.‏ فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية، وعلى الثّاني عاطفةً جملة على جملة وخبراً على خبر‏.‏
على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكمّلة لغيرها، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظمُ الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة‏.‏
وتشمل ‏{‏السموات والأرض وما بينهما‏}‏ أصناف المخلوقات من حيوان وجماد، فشمل الأمم التي على الأرض وما حلّ بها، وشمل الملائكة الموكّلين بإنزال العذاب، وشمل الحوادث الكونية التي حلّت بالأمم من الزلازل والصواعق والكِسف‏.‏
والباء في ‏{‏إلا بالحق‏}‏ للملابسة متعلقة ب ‏{‏خلقنا‏}‏، أي خلقا ملابساً للحقّ ومقارناً له بحيث يكون الحقّ بادياً في جميع أحوال المخلوقات‏.‏
والملابسة هنا عرفية؛ فقد يتأخّر ظهور الحقّ عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخّراً متفاوتاً‏.‏ فالملابسة بين الخلق والحقّ تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحقّ وخفائه؛ على أنّه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دلّ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 18‏]‏‏.‏
والحقّ‏:‏ هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشرّ، والكمال والنقص، والسموّ والخفض، في كلّ نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يُصلحه، وما يصلح هو له، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات، فإذا لاح ذلك الحقّ الموصوف مقارناً وجودُه لوجود محقوقه فالأمر واضح، وإذا لاح تَخلّف شيء عن مناسبة فبالتأمّل والبحث يتّضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة، ثم لا يتبدّل الحقّ آخر الأمر‏.‏
وهذا التأويل يُظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت، فإن ذلك جزاء مناسبٌ تمردَها وفسادَها، وأنها وإن أمهلت حيناً برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زماناً فهي لم تُفلت من العذاب المستحقّ لها، وهو من الحقّ أيضاً فما كان إمهالها إلاّ حقّاً، وما كان حلول العذاب بها إلاّ حقّاً عند حلول أسبابه، وهو التمرّد على أنبيائهم‏.‏ وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطّل الجزاء في الدّنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة‏.‏
وموقع جملة ‏{‏وإن الساعة لآتية‏}‏ في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقاً ملابساً للحقّ وأيقن به علم أن الحقّ لا يتخلّف عن مستحقِّه ولو غاب وتأخّر، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطّل ظهور الحقّ في نصابه وتخلّفه عن أربابه‏.‏
فعُلم أنّ وراء هذا النّظام نظاماً مدّخراً يتّصل فيه الحقّ بكل مستحقّ إن خيراً وإن شراً، فلا يُحْسبَنّ من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتاً من الجزاء فإن الله قد أعدّ عالماً آخر يعطي فيه الأمور مستحقّيها‏.‏
فلذلك أعقب الله و‏{‏وما خلقنا السموات والأرض‏}‏ بآية ‏{‏وإن الساعة لأتية‏}‏، أي أن ساعة إنفاذ الحقّ آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذّبيك وإمهالهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والمقصود من هذا تسلية النبي على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم‏.‏
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حريّة بالفصل وعدم العطف لأن حقّها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقلّ اهتماماً بمضمونها، ولأنها تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام على ما يلقاه من قومه، وليصحّ تفريع أمره بالصّفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوَقت المقدر‏.‏
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقّق بها مراد الله من بقاء هذا الدّين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إيّاه وحمْله إلى الأمم‏.‏
والمرد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة‏.‏ وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة‏.‏ وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ في سورة الأحقاف ‏(‏3‏)‏‏.‏
وتفريع ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ باعتبار المعنى الكنائي له، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقّيهم للدّعوة‏.‏
و ‏{‏الصفح‏}‏‏:‏ العفو‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ في سورة العقود ‏(‏13‏)‏‏.‏ وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدّين وحذف متعلق الصّفح لظهوره، أي عمن كذّبك وآذاك‏.‏
‏{‏والجميل‏}‏‏:‏ الحسن‏.‏ والمراد الصفح الكامل‏.‏
ثمّ إن في هذه الآية ضرباً من ردّ العجز على الصدر، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 14 16‏]‏ الآيات‏.‏ وختمت بآية‏:‏ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 23 25‏]‏‏.‏
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام وما فيه من العِبر‏.‏
ثم إلى سَوق قصص الأمم الّتي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى‏:‏ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ الآيات، فجاءت على وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 16‏]‏ الآيات‏.‏ فإن ذلك خلق بديع‏.‏
وزيد هنا أن ذلك خُلق بالحقّ‏.‏
وكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الساعة لأتية‏}‏ فذلكة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 25‏]‏، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه‏.‏ ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 87‏]‏ الناظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وجملة إن ربك هو الخالق العليم‏}‏ في موقع التعليل للأمر بالصّفح عنهم، أي لأن في الصّفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك، فمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفح هي كمال أخلاقه، ومصلحتهم في الصّفح رجاء إيمانهم، فالله الخلّاق لكم ولهم ولنفسك وأنفسهم، العليم بما يأتيه كل منكم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون‏}‏ ‏[‏سورة فاطر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
ومناسبته لقوله تعالى‏:‏ وإن الساعة لأتية‏}‏ ظاهرة‏.‏
وفي وصفه ب ‏{‏الخالق العليم‏}‏ إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنّهم يكونون أولياء للنبيء صلى الله عليه وسلم وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والّذين ولدوا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده»‏.‏ وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم
دَعَاني داععٍ غيرُ نفسي وردّني *** إلى الله من أطردتُه كل مُطْرَد
يعني بالداعي النبي صلى الله عليه وسلم
وتلك هي نكتة ذكر وصف ‏{‏الخالق‏}‏ دون غيره من الأسماء الحسنى‏.‏
والعدول إلى ‏{‏إن ربك‏}‏ دون ‏(‏إنّ الله‏)‏ للإشارة إلى أن الّذي هو ربّه ومدبّر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلاّ ما فيه خيره‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 85‏]‏ وجملة ولقد آتيناك سبعاً‏}‏ الآية‏.‏
أتبع التسلية والوعد بالمنّة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنّعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنّعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة‏.‏
وفي هذا الامتنان تعريض بالردّ على المكذبين‏.‏ وهو ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏
فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصّة على القصّة‏.‏ وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين‏.‏
وإيتاء القرآن‏:‏ أي إعطاؤه، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه‏.‏
وأوثر فعل آتيناك‏}‏ دون ‏(‏أوحينا‏)‏ أو ‏(‏أنزلنا‏)‏ لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنّة‏.‏
وجَعْل ‏{‏القرآن‏}‏ معطوفاً على ‏{‏سبعاً من المثاني‏}‏ يشعر بأن السبع المثاني من القرآن‏.‏ وذلك ما درج عليْه جمهور المفسّرين ودلّ عليْه الحديث الآتي‏.‏
وقد وصف القرآن في سورة الزمر ‏(‏23‏)‏ بالمثاني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني‏}‏ فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنّها أجري عليها اسم عدد المؤنّث‏.‏ ويتعيّن أن المراد آيات أو سور من القرآن، وأن ‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية‏.‏ وذلك أيضاً شأن ‏{‏مِن‏}‏ إذا وقعت بعد اسم عدد‏.‏ وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن، وأنّ المثاني أسماء القرآن كما دلّت عليه آية الزّمر، وكما اقتضته ‏{‏من‏}‏ التبعيضية، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكليّة والجزئية تصحيحاً للعطف‏.‏
و ‏{‏المثاني‏}‏ يجوز أن يكون جمع مُثَنّى بضم الميم وتشديد النّون اسم مفعول مشتقاً من ثَنّى إذا كرّر تكريرة‏.‏ قيل ‏{‏المثاني‏}‏ جمع مثناة بفتح الميم وسكون الثاء المثلّثة وبهاء تأنيث في آخره‏.‏ فهو مشتق من اسم الاثنين‏.‏
والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنّها يثنى بها، أي تعاد في كلّ ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الإثنين المراد به مطلق التكرير، فيكون استعماله هذا مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق، أو كناية لأن التّكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرّتين‏}‏ ‏[‏سورة الملك‏:‏ 4‏]‏ أي كرّات وفي قولهم‏:‏ لبّيْك وسعديك ودواليْك‏.‏
أو هو جمع مَثناة مصدراً ميمياً على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول‏.‏
ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبيّ بن كعب وأبي هُريرة في الصحيح عن رسول الله أن أمّ القرآن هي السبع المثاني فهو الأوْلى بالاعتماد عليه‏.‏
وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة‏.‏
ومعنى التكرير في الفاتحة أنّها تكرّر في الصّلاة‏.‏
وعن ابن عبّاس‏:‏ أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال‏:‏ أولاها البقرة وآخرها براءة‏.‏ وقيل‏:‏ السور الّتي فوق ذوات المئين‏.‏
وعطْفُ القرآن‏}‏ على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كلّه نعمة عظيمة‏.‏ وفي حديث أبي سعيد بن المعلّى قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وَالقرآنُ العظيم الّذي أوتيتُه ‏"‏ على تأويله بأن كلمة «القرآن» مرفوعة بالابتداء «والّذي أوتيتُه» خبره‏.‏
وأجري وصف ‏{‏العظيم‏}‏ على القرآن تنويهاً به‏.‏
وإن كان المراد بالسبع سوراً كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصّحابة والسّلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر، فيكون إبهامها مقصوداً لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏
‏{‏لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏‏}‏
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 85‏]‏، ومن تساؤل يجيش في النّفس عن الإملاء للمكذّبين في النّعمة والتّرف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ بياناً لما يختلج في نفس السامع من ذلك، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن الّتي قبلها فصل البيان عن المبيّن‏.‏
ولولا أن الجملة الّتي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذٍ مجرد نهي لا اتّصال له بما قبله، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه ‏(‏129 131‏)‏‏:‏ ‏{‏فاصبر على ما يقولون وسبّح بِحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ومن ءَاناء اللّيل فسبّح وأطراف النّهار لعلّك ترضى ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الحياة‏}‏ فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة الّتي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم‏.‏
والمَدّ‏:‏ أصله الزيادة‏.‏ وأطلق على بسط الجسم وتَطويله‏.‏ يقال‏:‏ مَدّ يده إلى كذا، ومدّ رجله في الأرض‏.‏ ثم استعير للزيادة من شيء‏.‏ ومنه مدد الجيش، ومدّ البحر، والمد في العمر‏.‏ وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة‏.‏ واستعير المدّ هنا إلى التّحديق بالنظر والطموح به تشبيهاً له بمدّ اليد للمتناول، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتّبعوا ما آتيناك ولكنّهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم‏.‏
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور، أي الكفّار ونسائهم‏.‏ ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتّع لاستكمالها جميع اللّذات والأنس‏.‏ ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب‏.‏ فوجه ذكره في الآية أن التمتّع الّذي تمتدّ إلى مثله العين ليس ثابتاً لجميع الكفّار بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش‏.‏
والنّهي عن الحزن عليهم شامل لكلّ حال من أحوالهم من شأنها أن تحْزن الرّسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه‏.‏ فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعلّ رسول الله أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب‏.‏ ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول بالنّاس‏.‏
ولما كان هذا النّهي يتضمنّ شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله واخفض جناحك للمؤمنين‏}‏‏.‏ وهو اعتراض مراد منه الاحتراس‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏سورة الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع حفض جناحه يريد الدنوّ، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه‏.‏ وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية، والجناح تخييل‏.‏ وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله‏:‏ ‏{‏واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 24‏]‏ وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثَل في التواضع واللّين في المعاملة‏.‏ وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدّة‏.‏
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب مَن كان متواضعاً فظهر منه تكبرّ ‏(‏ذكره في سورة الشعراء‏)‏‏:‏
وأنْتَ الشّهيرُ بخفض الجناح *** فلا تكُ في رفعه أجدلاً
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 94‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏وقل إنى أنا النذير المبين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏‏.‏ فالمقولُ لهم هذا القولُ هم المتحدّث عنهم بالضّمائر السابقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ وقل لهم لأن هذا القول مراد منه المتاركة، أي ما عليّ إلاّ إنذاركم، والقرينة هي ذكر النذارة دون البشارة لأن النذارة تناسب المكذبين إذ النذارة هي الإعلام بحدث فيه ضرّ‏.‏
والنّذير‏:‏ فعيل بمعنى مُفعِل مثل الحكيم بمعنى المُحكم، وضرب وجيع، أي موجع‏.‏
والقصر المستفاد من ضمير الفصل ومن تعريف الجزءين قصر قلب، أي لست كما تحسبون أنكم تغيظونني بعدم إيمانكم فإنّي نذير مبين غير متقايض معكم لتحصيل إيمانكم‏.‏
و ‏{‏المبين‏}‏‏:‏ الموضح المصرح‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏
‏{‏كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ موصولة أو مصدرية، وهي المشبه به‏.‏
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعل ‏{‏آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 87‏]‏، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين‏.‏ شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى المقتسمين‏}‏‏.‏
ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أنا النذير المبين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 89‏]‏، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 92 93‏]‏‏.‏
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم‏.‏
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وحرف على‏}‏ هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 185‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 4‏]‏، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة‏:‏
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا *** وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر
ولفظ ‏{‏المقتسمين‏}‏ افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً‏.‏ وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل‏.‏
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلاً، سنذكر أسماءهم، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم، وهو كتاب الإسلام‏.‏
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقساماً، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه، فيكون القرآن مصدراً أطلق بمعناه اللغوي، أي المقروء من كتبهم؛ أو قسّموا كتاب الإسلام، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه‏.‏
وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالاً بيّنه وصفهم بالصلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏؛ فلا يَحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقيْن المذكوريْن آنفاً‏.‏
ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصّفات والأحوال لا تجزئة الذّات‏.‏
و ‏{‏القرآن‏}‏ هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علماً لكتاب الإسلام‏.‏ ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل‏.‏
و ‏{‏عضين‏}‏ جمع عضة، والعضة‏:‏ الجزء والقطعة من الشيء‏.‏ وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفّة‏.‏ وحذف اللاّم قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها، فعوضوا عنها حرفاً لئلا تبقى الكلمة على حرفين، وجعلوا العوض هاء لأنّها أسعد الحروف بحالة الوقف‏.‏ وجمع ‏(‏عضة‏)‏ على صيغة جمع المذكر السّالم على وجه شاذ‏.‏
وعلى الوجهين المتقدّمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما أنزل إليهم من القرآن، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء، فأظهروا بعضاً وكتموا بعضاً، قال الله تعالى‏:‏
‏{‏تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 91‏]‏ فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزّل على محمد وهم أيضاً جعلوا القرآن المنزل على محمد عضين فصدّقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم، وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوّة عيسى لله تعالى، فكانوا إذا سألهم المشركون‏:‏ هل القرآن صدق‏؟‏ قالوا‏:‏ بعضه صدق وبعضه كذب، فأشبه اختلافُهم اختلافَ المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة، كقولهم‏:‏ ‏{‏أساطيرُ الأولين‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 25‏]‏، وقولُ كاهن، وقول شاعر‏.‏
وروي عن قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي قريش جمعهم الوليد بن المغيرة لما جاءَ وقت الحجّ فقال‏:‏ إن وفود العرب ستقدَم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجْمعوا فيه رأياً واحداً، فانتدب لذلك ستة عشر رجلاً فتقاسموا مداخل مكة وطرقها ليُنفّروا الناس عن الإسلام، فبعضهم يقول‏:‏ لا تغترّوا بهذا القرآن فهو سحر، وبعضهم يقول‏:‏ هو شعر، وبعضهم يقول‏:‏ كلام مجنون، وبعضهم يقول‏:‏ قول كاهن، وبعضهم يقول‏:‏ هو أساطير الأولين اكتتبها، فقد قسموا القرآن أنواعاً باعتبار اختلاف أوصافه‏.‏
وهؤلاء النّفر هم‏:‏ حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شَيبة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأخوه العاص، وأبو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أميّة، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الحجّاج، وأميّة بن خلف، وأوس بن المغيرة‏.‏
واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن‏.‏ وهذا هو معنى جعلوا القرآن عضين‏}‏، فكان ثاني الوصفين بياناً لأولهما وإنّما اختلفت العبارتان للتفنّن‏.‏
وأن ذمّ المشبّه بهم يقتضي ذمّ المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالردّ والتكذيب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏
‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 85‏]‏‏.‏
والواو للقسم، فالمفرع هو القسم وجوابُه‏.‏ والمقصود بالقسم تأكيد الخبر‏.‏ وليس الرسول عليه الصلاة والسلام ممن يشكّ في صدق هذا الوعيد؛ ولكن التأكيد متسلطّ على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في ‏{‏لنسألنهم‏}‏‏.‏
ووصف الربّ مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حَظّاً من التنويه به، وهو سؤال الله المكذّبين عن تكذيبهم إياه سؤال ربّ يغضب لرسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏
والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسؤول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم‏}‏ ‏[‏سورة التكاثر‏:‏ 8‏]‏ فهو وعيد للفريقين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏
‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 87‏]‏ بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه‏.‏
نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله عليه الصلاة والسلام مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم‏.‏ رُوي عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ما زال النبي مستخفياً حتى نزلتْ‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ فخرج هو وأصحابه‏.‏ يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة المدثّر كان يدعو النّاس خفية وكان من أسلم من النّاس إذا أراد الصّلاة يذهب إلى بعْض الشّعاب يستخفي بصلاته من المشركين، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم ويعِيبون صلاتهم، فحدث تضارب بينهم وبين سعد بن أبي وقاص أدمَى فيه سعد رجلاً من المشركين‏.‏ فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصّفا فكانوا يقيمون الصّلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ الآية‏.‏ وبنزولها ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدّعوة للإسلام جهراً‏.‏
والصدع‏:‏ الجهر والإعلان‏.‏ وأصله الانشقاق‏.‏ ومنه انصداع الإناء، أي انشقاقه‏.‏ فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان‏.‏
وما صدقُ «ما تؤمر» هو الدّعوة إلى الإسلام‏.‏
وقَصْدُ شمول الأمر كلّ ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه هو نكتة حذف متعلّق ‏{‏تؤمر‏}‏، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدّعوة إليه‏.‏ وهو إيجاز بديع‏.‏
والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم‏.‏ وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم، وعن استهزائهم، وعن تصدّيهم إلى أذى المسلمين‏.‏ وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ مانع من ذلك، وكذلك جملة ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به، فإن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمّها تعدّد الداخلين في الإسلام في تلك المدّة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدّين مع أن دعوته مخفية، ثم إن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيّأ اعتبارها في علمه تعالى‏.‏
والتّعبير عنهم بوصف ‏{‏المستهزئين‏}‏ إيماء إلى أنّه كفاه استهزاءهم وهو أقلّ أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشدّ من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحْرى‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ لتحقيقه اهتماماً بشأنه لا للشكّ في تحقّقه‏.‏
والتّعريف في ‏{‏المستهزءين‏}‏ للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزء‏.‏ وفي التّعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى‏:‏
‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 111‏]‏، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء‏.‏ وذلك لطف من الله برسوله‏.‏
ومعنى الكفاية تولّي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي‏.‏ يقال‏:‏ كفيتُ مهمك، فيتعدّى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه‏.‏ فالأصل أن يكون مصدراً فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدلّ عليها المقام، فإذا قلت‏:‏ كفيتك عدوّك، فالمراد‏:‏ كفيتك بأسه، وإذا قلت‏:‏ كفيتك غريمك، فالمراد‏:‏ كفيتك مطالبتَه‏.‏ فلما قال هنا ‏{‏كفيناك المستهزئين‏}‏ فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم‏.‏ وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم‏.‏
ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة، كما في «الإتقان» في ذكر أسماء السور‏.‏
وعُد من كبرائهم خمسة هم‏:‏ الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطّلب، والحارث بن عيطلة ‏(‏ويقال ابن عيطل وهو اسم أمّه دُعِي لها واسم أبيه قيس‏.‏ وفي «الكشاف» و«القرطبي» أنه ابن الطُلاَطِلَة، ومثله في «القاموس»، وهي بضم الطاء الأولى وكسر الطاء الثّانية‏)‏ والعاصي بن وائل، هلكوا بمكّة متتابعين، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفاً أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عِقدهم‏.‏
وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيّاً؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فاعتزّ به المسلمون، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلاّ الاستهزاء، ثم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخشيه سفهاء المشركين، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة‏.‏
ووصفهم ب ‏{‏الذين يجعلون مع الله إلها آخر‏}‏ للتشويه بحالهم، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم ما اقتصروا على الافتراء عليه فقد افتروا على الله‏.‏
وصيغة المضارع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون‏}‏ للإشارة إلى أنهم مستمرون على ذلك مجدّدون له‏.‏
وفرع على الأمرين الوعيد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ لدلالة المقام عليه، أي فسوف يعلمون جزاء بهتانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏
لما كان الوعيد مؤذناً بإمهالهم قليلاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومهّلهم قليلا‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 11‏]‏ كما دلّ عليه حرف التنفيس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 96‏]‏ طمأن الله نبيه بأنه مطّلع على تحرّجه من أذاهم وبهتانهم من أقوال الشرك وأقوال الاستهزاء فأمره بالثبات والتفويض إلى ربّه لأن الحكمة في إمهالهم، ولذلك افتتحت الجملة بلام القسم وحرف التحقيق‏.‏
وليس المخاطب ممن يداخله الشكّ في خبر الله تعالى ولكن التحقيق كناية عن الاهتمام بالمخبر وأنه بمحل العناية من الله؛ فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 95‏]‏ أو حال‏.‏
وضيق الصدر‏:‏ مجاز عن كدر النفس‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضائق به صدرك‏}‏ في سورة هود ‏(‏12‏)‏‏.‏
وفرع على جملة ولقد نعلم‏}‏ أمره بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عمّا يقولونه من نسبة الشريك، أي عليك بتنزيه ربّك فلا يضرّك شركهم‏.‏ على أن التسبيح قد يستعمل في معناه الكنائي مع معناه الأصلي فيفيد الإنكار على المشركين فيما يقولون، أي فاقتصر في دفعهم على إنكار كلامهم‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏
والباء في بحمد ربك‏}‏ للمصاحبة‏.‏ والتقدير‏:‏ فسبح ربّك بحمده؛ فحُذف من الأول لدلالة الثاني‏.‏ وتسبيح الله تنزيهه بقول‏:‏ سُبحان الله‏.‏
والأمر في ‏{‏وكن من الساجدين واعبد ربك‏}‏ مستعملان في طلب الدّوام‏.‏
و ‏{‏من الساجدين‏}‏ أبلغ في الاتّصاف بالسجود من ‏(‏ساجداً‏)‏ كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ في سورة براءة ‏(‏119‏)‏، وقوله ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏ ونظائرهما‏.‏
والساجدون‏:‏ هم المصلّون‏.‏ فالمعنى‏:‏ ودم على الصلاة أنتَ ومن معكَ‏.‏
وليس هذا موضع سجدة من سجود التلاوة عند أحد من فقهاء المسلمين‏.‏ وفي تفسير القرطبي‏}‏ عن أبي بكر النقاش أن أبا حُذيفة ‏(‏لعلّه يعني به أبا حذيفة اليمان بن المغيرة البصري من أصحاب عكرمة وكان منكر الحديث‏)‏ واليمان بن رئاب ‏(‏كذا‏)‏ رأياها سجدةَ تلاوة واجبة‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ شاهدت الإمام بمحراب زكرياء من البيت المقدس سجد في هذا الموضع حين قراءته في تراويح رمضان وسجدتُ معه فيها‏.‏ وسجود الإمام عجيب وسجود أبي بكر بن العربي معه أعجب للإجماع؛ على أنه لا سجدة هنا، فالسجود فيها يعدّ زيادة وهي بدعة لا محالة‏.‏
و ‏{‏اليقين‏}‏‏:‏ المقطوع به الذي لا شكّ فيه وهو النصر الذي وعده الله به‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire