dimanche 6 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة يونس
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة، لا محل لها من الإعراب، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد‏.‏ ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف‏:‏ را‏.‏ ها‏.‏ يا‏.‏ طا‏.‏ حا‏.‏ التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة‏.‏
اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها‏.‏
واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو ‏{‏آيات الكتاب الحكيم‏}‏ كما فسره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهذا يومُ البعث‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 56‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا فراقُ بيني وبينك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا‏.‏
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 88‏]‏‏.‏ فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به‏.‏ وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتتِ بقرآن غير هذا أو بَدله‏}‏ فقيل لهم ‏{‏تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه‏.‏
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي، كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و‏{‏آيات‏}‏ خبره‏.‏ وإضافة ‏{‏آيات‏}‏ إلى ‏{‏الكتاب‏}‏ إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق‏.‏
ويجوز أن تجعل الإشارة ب ‏{‏تلك‏}‏ إلى حروف ‏{‏ألر‏}‏ لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم‏.‏
فيصح أن يجعل ‏(‏ألر‏)‏ في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبراً عنه‏.‏ والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف‏.‏
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالاً إذ هو مركب من حروف كلامهم‏.‏
والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ فالتعريف فيه للعهد‏.‏ ويجوز جعل التعريف دالاً على معنى الكمال في الجنس، كما تقول‏:‏ أنتَ الرجل‏.‏
والحكيم‏:‏ وصف إما بمعنى فاعل، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها، مثل قوله‏:‏ ‏{‏ومُهيمِناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين، أي مُحكَم، مثل عَتِيد، بمعنى مُعَد‏.‏
وإما بمعنى ذي الحِكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوُصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشئ عن البليغ كقول الأعشى‏:‏
وغريبةٍ تأتي الملوك حَكِيمة *** قد قلتُها ليقال مَن ذَا قالها
وإما أن يكون وُصِفَ بوصف منزّله المُتكلم به، كما مشَى عليه صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1، 3‏]‏
واختيار وصف ‏{‏الحكيم‏}‏ من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله‏:‏ ‏{‏الر تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏، ولِما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك‏.‏
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏يونس 16‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏
‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين ءامنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة ‏{‏تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 1‏]‏ بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالاً عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعادَ إحالة‏.‏ وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دَعا إليه وتجهيل المتسببين فيه، ولك أن تجعله استئنافاً ابتدائياً، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث‏.‏
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة‏.‏
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على ‏(‏كان‏)‏ دون أن يقال‏:‏ أعجِبَ الناسُ، هي الدلالة على التعجيب من تَعَجُّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر‏.‏
والمعنى‏:‏ أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعَرَ بأن هذا غير متوقَّع حصوله‏.‏
و ‏{‏للناس‏}‏ متعلق ب ‏{‏كَان‏}‏ لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم، لأن أصل اللام أن تفيد الملك، ويستعار ذلك للتمكن، أي لتمكن الكون عجباً من نفوسهم‏.‏
و ‏{‏عَجباً‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏ مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار‏.‏
و ‏{‏أنْ وأحينا‏}‏ اسم كان، وجيء فيه ب ‏(‏أنْ‏)‏ والفعل دون المصدر الصريح وهو وَحْينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقاً لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمداً‏.‏
والعجب‏:‏ مصدر عَجِب، إذا عَدَّ الشيءَ خارجاً عن المألوف نادر الحصول‏.‏ ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيباً جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأوْلى ويَقلع التكذيب من عروقه‏.‏
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت يا ويْلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 72، 73‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كانَ إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحى إليهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 43‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 95‏]‏‏.‏
وأطلق ‏{‏الناس‏}‏ على طائفة من البشر، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام‏.‏
وهذا الإطلاق مثل ما في قوله‏:‏ ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏ وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ الله أعظم من أن يكون له رسول بشراً، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس‏}‏‏.‏
و ‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن أنذر الناس‏}‏ تفسيرية لفعل ‏{‏أوحينا‏}‏ لأن الوحي فيه معنى القول‏.‏
و ‏{‏الناس‏}‏ الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم، فهو عموم عرفي‏.‏ ولكون المراد ب ‏{‏الناس‏}‏ ثانياً غير المراد به أولَ ذُكر بلفظه الظاهر دون أن يقال‏:‏ أن أنذرهم‏.‏
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمرُ بالتبشير للذين آمنوا بقي ‏{‏الناس‏}‏ المتعلق بهم الإنذار مخصوصاً بغير المؤمنين‏.‏
وحذف المنذر به للتهويل، ولأنه يُعلم حاصله من مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا أن لهم قَدَم صدق‏}‏، وفعل التبشير يتعدى بالباء، فالتقدير‏:‏ وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق، فحذف حرف الجر مع ‏(‏أنَّ‏)‏ جرياً على الغالب‏.‏
والقَدم‏:‏ اسم لما تَقدم وسلَف، فيكون في الخير والفضل وفي ضده‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏
لكم قَدم لا ينكِر الناس ألها *** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّت على البحر
وذكر المازري في «المُعْلم» عن ابن الأعرابي‏:‏ أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة‏.‏ وهو فَعَل بمعنى فاعل مثل سلَف وثَقَل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم‏:‏ ‏"‏ حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط ‏"‏ يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله صلى الله عليه وسلم ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة ‏(‏وفي رواية الجبار‏)‏ فيها قدمه فتقول قط قط، وعزتك‏.‏ ويُزوَى بعضُها إلى بعض‏.‏ وهذا أحد تأويلين لمعنى «قَدمه»‏.‏ وأصل ذلك في «المُعلم على صحيح مسلم» للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل‏.‏
والمراد ب ‏{‏قدم صدق‏}‏ في الآية قدم خَير، وإضافة ‏{‏قدم‏}‏ إلى ‏{‏صِدق‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ وأصله قدمٌ صِدقٌ، أي صادق وهو وصف بالمصدر‏:‏ فعلى قول الجمهور يكون وصف ‏{‏صدق‏}‏ ل ‏{‏قدم‏}‏ وصفاً مقيِّداً‏.‏ وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفاً كاشفاً‏.‏
والصدق‏:‏ موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد، واشتهر في مطابقة الخَبر‏.‏ ويضاف شيء إلى ‏(‏صدق‏)‏ بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أن أنذر الناس‏}‏ تفسير لفعل ‏{‏أوحينا‏}‏‏.‏ وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم‏.‏ وإيضاً في ذكر المفسِّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية‏.‏
‏{‏قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ‏}‏
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً‏}‏ الخ‏.‏ ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبئ عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول‏:‏ ‏{‏إن هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ أو ‏{‏إن هذا لساحِر مبين‏}‏ فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة ‏{‏أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا‏}‏‏.‏
وقرأه الجمهور «لسِحْر» بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر، أي أن هذا الكلام كلام السحرِ، أي أنه كلام يُسحر به‏.‏ فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاماً غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة، فالإشارة إلى الوحي‏.‏
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ‏{‏لسَاحر‏}‏ فالإشارة إلى رجل من قوله‏:‏ ‏{‏إلى رجل منهم‏}‏ وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبئ بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذياناً وباطلاً فهرعوا إلى ادعائه سِحراً، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالاً تستنزل عقول المسحورين‏.‏ وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه‏.‏
والسحر‏:‏ تخييل ما ليس بكائن كائناً‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏
والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، أي ظهر، أي سحر واضح ظاهر‏.‏ وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية‏.‏ وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بَعثَ المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالوا‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهةَ إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته‏.‏
والخطاب للمشركين، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد، وأوقع عقبه ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏، فهو التفات من الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏أكَانَ للناس عجباً وقوله قال الكافرون‏}‏‏.‏ وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏، كما دل عليه قوله بعده‏:‏ ‏{‏ذالكم الله ربكم فاعبدوه‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ في موضع الحال من اسم الجلالة، أو خبر ثان عن ‏{‏ربكم‏}‏‏.‏
والتدبير‏:‏ النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودةَ العاقبة‏.‏
والغاية من التدبير الإيجاد والعملُ على وفق ما دُبر‏.‏ وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق‏.‏
والأمر‏:‏ جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم‏.‏ وتقدم في قوله ‏{‏وقلَّبوا لك الأمور‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم آلهة لا تخلق ولا تعلم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يخلُقون شيئاً وهم يخلقون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ولذلك حسن وقع جملة ‏{‏ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏ عقب جملة‏:‏ ‏{‏الذي خلق‏}‏ بتمامها، لأن المشركين جعلوا آلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، أي حُماتنا من غضبه‏.‏ فبعد أن وُصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نُفِي عن آلهتهم وصْف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه‏.‏
وأكد النفي ب ‏{‏من‏}‏ التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت ‏(‏من‏)‏ على اسمه بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية‏.‏
وزيادة ‏{‏إلاّ مِنْ بعد إذنه‏}‏ احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لآلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده‏.‏ والشفاعة تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وكذلك الشفيع تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فهل لنا من شفعاء‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وموقع جملة‏:‏ ما من شفيع‏}‏ مثل موقع جمله‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ ابتدائية فذلكةٌ للجمل التي قبلها ونتيجة لها، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعَة عليها، وهي جملة‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله‏}‏‏.‏
والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز، لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالاً مبيناً، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شؤونها والمتصرفَ المطلق مستحقٌ للعبادة نظير الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله‏:‏ هم يوقنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2 4‏]‏‏.‏
وفُرّع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته، والمفرَّعُ هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله‏}‏ تأكيداً بفذلكة وتحصيل‏.‏ والتقديرُ‏:‏ إن ربكم الله إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحُوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ إذ وقع قوله ‏(‏فبذلك‏)‏ تأكيداً لجملة بفضل الله وبرحمته‏.‏ وأوقع بعده الفرع وهو ‏(‏فليفرحوا‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك‏.‏
والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أفلا تذَّكَّرون‏}‏ ابتدائية للتقريع‏.‏ وهو غرض جديد، فلذلك لم تعطف، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذْ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها‏.‏
والتذكُّر‏:‏ التأمل‏.‏ وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته، أي حركته في معلوماته، فهو قريب من التفكر؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقاً من مادة الذكر التي هي في الأصل جريَان اللفظ على اللسان، والتي يعبر بها أيضاً عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعراً بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل‏.‏
فلذلك أوثر هنا دون ‏{‏لعلكم تتفكرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقررَ في النفوس بالفطرة، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفي في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏
وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذاراً وتبشيراً، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السماوات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقاً ثانياً‏.‏ ومما يشير إلى هذا قوله‏:‏ ‏{‏إنه يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏، فبَدء الخلق هو ما سبق ذكره، وإعادتُه هي ما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏ ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال، على أنها يجوز كونها خبراً آخر عن قوله‏:‏ ‏{‏إن ربكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، أو عن قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وقد تضمنت هذه الجملة إثبات الحشر الذي أنكروه وكذبوا النبيءَ صلى الله عليه وسلم لأجله‏.‏
وفي تقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم‏}‏ إفادة القصر، أي لا إلى غيره، قطعاً لمطامع بعضهم القائلين في آلهتهم ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقاً بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلاً‏.‏
والمرجع‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الرجوع‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 105‏]‏‏.‏
و ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ضمير المخاطبين المضاف إليه المصدر العامل فيه‏.‏
وانتصب ‏{‏وعدَ الله‏}‏ على المفعولية المطلقة توكيداً لمضمون الجملة المساوية له، ويسمى موكِّداً لنفسه في اصطلاح النحاة، لأن مضمون ‏{‏إليه مرجعكم‏}‏ الوعد بإرجاعهم إليه وهو مفاد وعد الله، ويقدر له عامل محذوف لأن الجملة المؤكدة لا تصلح للعمل فيه‏.‏ والتقدير‏:‏ وعدَكم اللّهُ وعداً حقاً‏.‏
وانتصب ‏{‏حقاً‏}‏ على المفعولية المطلقة المؤكدة لمضمون جملة ‏{‏وعد الله‏}‏ باعتبار الفعل المحذوف‏.‏ ويسمى في اصطلاح النحاة مؤكداً لغيره، أي موكداً لأحد معنيين تحتملهما الجملة المؤكدة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنه يبدأ الخلق‏}‏ واقعة موقع الدليل على وقوع البعث وإمكانه بأنه قد ابتدأ خلق الناس، وابتداء خلقهم يدل على إمكان إعادة خلقهم بعد العدم، وثبوت إمكانه يدفع تكذيب المشركين به، فكان إمكانه دليلاً لقوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏، وكان الاستدلال على إمكانه حاصلاً من تقديم التذكير ببدء خلق السماوات والأرض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏
وموقع ‏(‏إن‏]‏ تأكيد الخبر نظراً لإنكارهم البعث، فحصل التأكيد من قوله‏:‏ ‏{‏ثم يعيده‏}‏ أما كونه بدأ الخلق فلا ينكرونه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏إنه يبدأ الخلق‏}‏ بكسر همزة ‏(‏إنه‏)‏‏.‏ وقرأه أبو جعفر بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل محذوفة، أي حق وعده بالبعث لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده فلا تعجزه الإعادة بعد الخلق الأول، أو المصدر مفعول مطلق منصوب بما نصب به ‏{‏وعْدَ الله‏}‏ أي وَعَدَ الله وعداً بَدْءَ الخلق ثم إعادته فيكون بدلاً من ‏{‏وعْد الله‏}‏ بدلاً مطابقاً أو عطف بيان‏.‏
ويجوز أن يكون المصدر المنسبك من ‏(‏أنَّ‏)‏ وما بعدها مرفوعاً بالفعل المقدر الذي انتصب ‏(‏حقاً‏)‏ بإضماره‏.‏ فالتقدير‏:‏ حَقَّ حقاً أنه يبدأ الخلق، أي حق بدؤه الخلق ثم إعادته‏.‏
والتعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ليجزى الذين آمنوا‏}‏ الخ إبداءٌ لحكمة البعث وهي الجزاء على الأعمال المقترفة في الحياة الدنيا، إذ لو أرسل الناس على أعمالهم بغير جزاء على الحسن والقبيح لاستوى المُحسن والمسيء، وربما كان بعضُ المسيئين في هذه الدنيا أحسن فيها حالاً من المحسنين‏.‏ فكان من الحكمة أن يلقَى كل عامل جزاء عمله‏.‏ ولم يكن هذا العالم صالحاً لإظهار ذلك لأنه وُضع نظامه على قاعدة الكون والفساد، قابلاً لوقوع ما يخالف الحق ولصرف الخيرات عن الصالحين وانهيالِها على المفسدين والعكس لأسباب وآثار هي أوفق بالحياة المقررة في هذا العالم، فكانت الحكمة قاضية بوجود عالم آخر متمحض للكون والبقاء وموضوعاً فيه كل صنف فيما يليق به لا يعدوه إلى غيره إذ لا قبل فيه لتصرفات وتسببات تخالف الحق والاستحقاق‏.‏ وقدم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لشرفه ولياقته بذلك العالم، ولأنهم قد سلكوا في عالم الحياة الدنيا ما خلق الله الناس لأجله ولم يتصرفوا فيه بتغليب الفساد على الصلاح‏.‏
والباء في ‏{‏بالقسط‏}‏ صالحة لإفادة معنى التعدية لفعل الجزاء ومعنى العِوض‏.‏ والقسط‏:‏ العدل‏.‏ وهو التسوية بين شيئين في صفة والجزاء بما يساوي المجْزي عليه‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ في أول ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فتفيد الباء أنهم يُجزون بما يعادل أعمالهم الصالحة فيكون جزاؤهم صلاحاً هنالك وهو غاية النعيم، وأن ذلك الجزاء مكافاة على قسطهم في أعمالهم في عَدلهم فيها بأن عملوا ما يساوي الصلاح المقصود من نظام هذا العالم‏.‏
والإجمال هنا بين معنيي الباء مفيد لتعظيم شأن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع الإشارة إلى أنه جزاء مماثل لصلاح أعمالهم‏.‏
وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلاً زائداً على العدل لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏‏}‏ تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قداستحقوه بما عملوا، كقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ومن أعظم الكرم أن يُوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرَم هو حقه وأن لا فضل له فيه‏.‏
الأمر الثاني‏:‏ الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جُوزوا على قدر جُرمهم لكان عذابهم أشد، ولأجل هذا خولف الأسلوب في ذكر جزاء الذين كفروا فجاء صريحاً بما يعم أحوال العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏لهم شراب من حميم وعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وخص الشراب من الحميم بالذكر من بين أنواع العذاب الأليم لأنه أكره أنواع العذاب في مألوف النفوس‏.‏ ‏{‏أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏
في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏‏.‏ والباء في قوله‏:‏
وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كانوا يكفرون‏}‏ للعِوض‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ إلى آخرها استئناف بياني لأنه لما ورد ذكر جزاء المؤمنين على أنه العلة لرجوع الجميع إليه ولم يذكر في العلة ما هو جزاء الجميع لا جرم يتشوف السامع إلى معرفة جزاء الكافرين فجاء الاستئناف للإعلام بذلك‏.‏
ونكتة تغيير الأسلوب حيث لم يعطف جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين فيقال‏:‏ ويَجزي الذين كفروا بعذاب الخ كما في قوله‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً شديداً من لدنه ويُبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ هو الإشارة إلى الاهتمام بجزاء المؤمنين الصالحين وأنه الذي يبادر بالإعلام به وأن جزاء الكافرين جدير بالإعراض عن ذكره لولا سؤال السامعين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏
هذا استئناف ابتدائي أيضاً، فضمير ‏(‏هو‏)‏ عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمناً لِعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها‏.‏ وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديراً مضبوطاً ألهم الله البشر للانتفاع به في شؤون كثيرة من شؤون حياتهم‏.‏
فجَعْلُ الشمسسِ ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم‏.‏ وجَعْل القمر نوراً للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل‏.‏ ولذلك جُعل نوره أضعف ليُنتفع به بقدر ضرورة المنتفع، فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعرُ بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جُعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطُهم وكمالُ حياتهم‏.‏
والضياء‏:‏ النور الساطع القوي، لأنه يضيء للرائي‏.‏ وهو اسم مشتق من الضوء، وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء‏.‏ ويَاء ‏(‏ضياء‏)‏ منقلبة عن الواو لوقوع الواو إثر كَسرة الضاد فقلبت ياء للتخفيف‏.‏
والنور‏:‏ الشعاع، وهو مشتق من اسم النار، وهو أعم من الضياء، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي، فضياء الشمس نور، ونور القمر ليس بضياء‏.‏ هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء، ولكن يكثر في كلام العرب إطلاق بعض هذه الكلمات في موضع بعض آخر بحيث يَعسر انضباطه‏.‏ ولما جعل النور في مقابلة الضياء تعين أن المراد به نورٌ مَّا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ضياء‏}‏ و‏{‏نوراً‏}‏ حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما‏.‏ والتقدير‏:‏ جعل الأشياء على مِقدار عنْد صُنعها‏.‏
والضمير المنصوب في ‏(‏قَدَّره‏)‏‏:‏ إما عائد إلى النور فتكون المنازل بمعنى المراتب، وهي مراتب نور القمر في القوة والضعف التابعة لما يظهر للناس نيراً من كُرة القمر، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعُرجون القديم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏‏.‏ أي حتى نقص نوره ليلةً بعد ليلة فعاد كالعرجون البالي‏.‏ ويكون ‏{‏منازل‏}‏ في موضع الحال من الضمير المنصوب في ‏{‏قدَّره‏}‏ فهو ظرف مستقر، أي تقديراً على حسب المنازل، فالنور في كل منزلة لَه قدَر غير قدره الذي في منزلة أخرى‏.‏ وإما عائد إلى ‏(‏القمر‏)‏ على تقدير مضاف، أي وقدر سيره، فتكون ‏{‏منازل‏}‏ منصوباً على الظرفية‏.‏
والمنازل‏:‏ جمع منزل؛ وهو مكان النزول‏.‏ والمراد بها هنا المواقع التي يظهر القمر في جهتها كل ليلة من الشهر‏.‏ وهي ثمان وعشرون منزلة على عدد ليَالي الشهر القمري‏.‏ وإطلاق اسم المنازل عليها مجاز بالمشابهة وإنما هي سُمُوت يلوح للناس القمرُ كل ليلة في سَمْت منها، كأنه ينزل بها‏.‏ وقد رَصدها البشر فوجدوها لا تختلف‏.‏
وعلم المهتدون منهم أنها ما وجدت على ذلك النظام إلا بصنع الخالق الحكيم‏.‏
وهذه المنازل أماراتها أنجم مجتمعة على شكل لا يختلف، فوضع العلماء السابقون لها أسماء‏.‏ وهذه أسماؤها في العربية على ترتيبها في الطلوع عند الفجر في فصُول السنة‏.‏ والعرب يبْتدئون ذِكرها بالشَرَطَاننِ وهكذا، وذلك باعتبار حلول القمر كل ليلة في سمت منزلة من هذه المنازل، فأول ليلة من ليالي الهلال للشَّرَطان وهكذا‏.‏ وهذه أسماؤها مرتبة على حسب تقسيمها على فصول السنة الشمسية‏.‏ وهي‏:‏ العَوَّاء، السِّمَاك الاعْزل، الغَفْر، الزُّبَاني، الإكليل، القَلْب، الشَّوْلَةَ، النَعَائم، البَلْدَة، سَعْد الذَّابححٍ، سَعْدُ بَلَع، سَعْد السُّعود، سَعْد الأخْبِيَة، الفَرْغ الأعلى، الفَرْغ الأسفل، الحُوت، الشَّرَطَاننِ، البُطَيْن، الثُّرَيَّا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، ذِرَاع الأسَد، النَّشْرَة، الطَّرْف، الجَبْهَة، الزُّبْرَة، الصَّرْفَة‏.‏
وهذه المنازل منقسمة على البروج الاثني عشر التي تحل فيها الشمس في فصول السنة، فلكل برج من الاثني عشر بُرجاً مَنزلتان وثُلُث، وهذا ضابط لمعرفة نجومها ولا علاقة له باعتبارها مَنازل للقمر‏.‏
وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب، أي عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر‏.‏
والحساب‏:‏ مصدر حسب بمعنى عد‏.‏ وهو معطوف على ‏{‏عدد‏}‏، أي ولتعلموا الحساب‏.‏ وتعريفه للعهد، أي والحساب المعروف‏.‏ والمراد به حساب الأيام والأشهر لأن حساب السنين قد ذكر بخصوصه‏.‏ ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر، لأن السنة الشرعية قمرية، ولأن ضمير ‏{‏قدره‏}‏ عائد على ‏{‏القمر‏}‏ وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر حسبانا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏‏.‏
فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة‏.‏ وفي ذلك رفق بالناس في ضبط أمورهم وأسفارهم ومعاملات أموالهم وهو أصل الحضارة‏.‏ وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏}‏ مستأنفة كالنتيجة للجملة السابقة كلها لأنه لما أخبر بأنه الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وذكر حكمة بعض ذلك أفضى إلى الغرض من ذكره وهو التنبيه إلى ما فيها من الحكمة ليستدل بذلك على أن خالقهما فاعل مختار حكيم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم، كما قال تعالى في هذه السورة ‏[‏7‏]‏ ‏{‏والذين هم عن آياتنا غافلون‏.‏‏}‏ والباء للملابسة‏.‏ و‏(‏الحق‏)‏ هنا مقابل للباطل‏.‏
فهو بمعنى الحكمة والفائدة، لأن الباطل من إطلاقاته أن يطلق على العبث وانتفاء الحكمة فكذلك الحق يطلق على مقابل ذلك‏.‏ وفي هذا رد على المشركين الذين لم يَهتدوا لما في ذلك من الحكمة الدالة على الوحدانية وأن الخالق لها ليس آلهتَهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين مَا خلقناهما إلا بالحق ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38 39‏]‏‏.‏
ولذلك أعقب هذا التنبيه بجملة ‏{‏نُفصّل الآيات لقوم يعلمون‏}‏، فهذه الجملة مستأنفة ابتدائية مسوقة للامتنان بالنعمة، ولتسجيل المؤاخذة على الذين لم يهتدوا بهذه الدلائل إلى ما تحتوي عليه من البيان‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏}‏‏.‏ فعلى قراءة نفصل بالنون وهي لنافع والجمهور ورواية عن ابن كثير ففي ضمير صاحب الحال التفات، وعلى قراءة ‏{‏يفصل‏}‏ بالتحتية وهي لابن كثير في المشهور عنه وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب أمرها ظاهر‏.‏
والتفصيل‏:‏ التبيين، لأن التبيين يأتي على فصول الشيء كلها‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏‏.‏ والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار‏.‏
وجعل التفصيل لأجل قوم يعلمون، أي الذين من شأنهم العلم لما يؤذن به المضارع من تجدد العِلم، وإنما يتجدد لمن هو ديدنه ودَأبه، فإن العلماء أهل العقول الراجحة هم أهل الانتفاع بالأدلة والبراهين‏.‏
وذكر لفظ ‏(‏قوم‏)‏ إيماء إلى أنهم رسخ فيهم وصف العلم، فكان من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون ولا ممن رسخ فيهم العلم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏
استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير‏.‏ وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة‏.‏ وهو بما فيه من عطف قوله‏:‏ ‏{‏وما خلق الله في السماوات والأرض‏}‏ أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم‏.‏
وتأكيد هذا الاستدلال بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم‏.‏
وتقدم القول في شبيهة هذه الآية وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ وفي خواتم سورة آل عمران‏.‏
وشمل قوله‏:‏ ‏{‏وما خلق الله‏}‏ الأجسام والأحوال كلها‏.‏
وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ وفي آية آل عمران ‏(‏190‏)‏ لأولي الألباب لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمَانهم من الانتفاع بالآيات، وأن نفعها حاصل للذين يتقون، أي يحذرون الضلال‏.‏ فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاسْتدلال بالدلائل‏.‏ وقد مر تعليل ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدى للمتقين‏}‏ في أول البقرة ‏(‏2‏)‏ على أنه قد سبق قوله في الآية قبلها ‏{‏نفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وأما آية البقرة وآية آل عمران فهما واردتان في سياق شامل للناس على السواء‏.‏ وذكر لفظ ‏(‏قوم‏)‏ تقدم في الآية قبل هذه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعاً بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غُلوائهم حتى يلاقوا العذاب‏.‏ وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتَّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم وَالمصيرَ إليه‏.‏
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حُصول الخبر‏.‏
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن‏.‏ ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا‏}‏ في هذه السورة ‏[‏15‏]‏‏.‏
والرجاء‏:‏ ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوباً وإن كان ذلك كثيراً في كلامهم لكنه ليس بمتعيّن‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏لا يرجون لقاءنا‏}‏ لا يظنونه ولا يتوقعونه‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏رضوا بالحياة الدنيا‏}‏ أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياةً ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة ومُلقياً في مهواة الخسران‏.‏
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدارُ التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة‏.‏ وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها‏.‏ وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية، وأعلاها مقام قول النبي صلى الله عليه وسلم «فقلتُ ما لي وللدنيا» والاطمئنان‏:‏ السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيتها النفس المطئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏
ومعنى اطمئنوا بها‏}‏ سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره‏.‏
وعن قتادة‏:‏ إذا شئت رأيت هذا الموصوفَ صاحب دنيا، لها يرضى، ولها يغضب، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن‏.‏
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر‏.‏ وإنما لم يعد الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ورضوا بالحياة الدنيا‏}‏ لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏‏.‏
والمراد بالغفلة‏:‏ إهمال النظر في الآيات أصلاً، بقرينة المقام والسياق وبما تومئ إليه الصلة بالجملة الاسمية ‏{‏هم عن آياتنا غافلون‏}‏ الدالة على الدوام، وبتقديم المجرور في قوله ‏{‏عن آياتنا غافلون‏}‏ من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عناداً ومكابرة‏.‏ وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات‏.‏
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضاء صفاتهم في أذهان السامعين، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجْل تلك الأوصاف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والمأوى‏:‏ اسم مكان الإيواء، أي الرجوع إلى مصيرهم ومرجعهم‏.‏
والباء للسببية‏.‏ والإتيان ب ‏(‏ما‏)‏ الموصولة في قوله‏:‏ بما كسبوا‏}‏ للإيماء إلى علة الحكم، أي أن مكسوبهم سَبب في مصيرهم إلى النار، فأفاد تأكيد السببية المفادة بالباء‏.‏
والإتيان ب ‏(‏كان‏)‏ للدلالة على أن هذا المكسوب ديدنهم‏.‏
والإتيان بالمضارع للدلالة على التكرير، فيكون ديدنهم تكرير ذلك الذي كسبوه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏
جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر‏.‏ ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويهاً بأهلها وإغاضة للكافرين‏.‏
وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم‏.‏
والهداية‏:‏ الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه‏.‏ فمعنى ‏{‏يهديهم ربهم‏}‏ يرشدهم إلى ما فيه خيرهم‏.‏ والمقصود الإرشاد التكويني، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها‏.‏ وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين‏.‏
والباء في ‏{‏بإيمانهم‏}‏ للسببية، بحيث إن الإيمان يكون سبباً في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا إلى بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7، 8‏]‏ في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى، بأن يجعل الله للإيمان نُوراً يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سبباً مغناطيسياً لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكماللِ لا يزال يزداد يوماً فيوماً، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «قد يكون في الأمم محدَّثون فإن يك في أمتي أحدٌ فعمر بن الخطاب» قال ابن وهب‏:‏ تفسير محدَّثون ملهمون الصواب، وفي الحديث‏:‏ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه يَنظر بنور الله» ولأجل هذا النور كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع‏.‏
وفي العدول عن اسم الجلالة العَلَم إلى وصف الربوبية مضافاً إلى ضمير ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولًى لأوليائه فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة‏.‏
والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة‏.‏ وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعُروج مراتب الكمال‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم‏}‏ خبر ثان لِذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا‏.‏ وتقدم القول في نظير ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والمراد من تحت منازلهم‏.‏ والجنات تقدم‏.‏ والنعيم تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها نعيم مقيم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 21‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ دعواهم فيها سبحانك اللهم‏}‏ وما عطف عليها أحوال من ضمير ‏{‏الذين آمنوا‏}‏‏.‏
والدعوى‏:‏ هنا الدعاء‏.‏ يقال‏:‏ دعوة بالهاء، ودعوَى بألف التأنيث‏.‏
وسبحان‏:‏ مصدر بمعنى التسبيح، أي التنزيه‏.‏
وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏‏.‏
‏{‏اللهم‏}‏ نداء لله تعالى، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي‏.‏ ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم، كما قال أمية بن أبي الصلت‏:‏
إذَا أثنى عليك المرءُ يوماً *** كَفَاه عن تَعَرضِه الثناء
واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر، ‏(‏وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام‏)‏ ولكن قوله‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ يفيد أن هذا التحميد من دعواهم، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى‏.‏
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه، فهو جامع للعبارة عن الكمالات‏.‏
والتحية‏:‏ اسم جنس لما يُفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة‏.‏ وأصلها مشتقة من مصدر حيَّاهُ إذا قال له عند اللقاء أحياك الله‏.‏ ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء، كما غلب لفظ السلام، فيشمل‏:‏ نحو حيَّاك الله، وعِم صباحاً، وعِمْ مساء وصبّحك الله بخير، وبتّ بخير‏.‏ وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏‏.‏
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام، أي لفظ سلام، إخباراً عن الجنس بفرد من أفراده، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم‏.‏
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة ‏(‏سلام‏)‏، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام، وهو كلمة السلام عليكم‏.‏ وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى‏:‏ ‏{‏سلام قولاً من رب رحيم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 58‏]‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23، 24‏]‏ فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام‏.‏
ونكتة حذف كلمة ‏(‏عليكم‏)‏ في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏
مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها‏.‏ والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعاً سريعاً، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدّين بالبطولة والعجائب، فكانوا لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وركبوا رؤوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غروراً بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلاً من قبل الله تعالى‏.‏ وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله‏:‏ ‏{‏وإذْ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن للذين ظلموا ذَنوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم فلا يستعجلون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 59‏]‏ وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال‏.‏
وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبيء عليه الصلاة والسلام وأصحابه كما جاء في الحديث‏:‏ أنَّ المسلمين قالوا‏:‏ ألا تستنصر‏.‏ وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفُرون به‏.‏ فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمَعه قوله‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليْهم أجلهم‏}‏‏.‏
وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة، فالخيرات المُفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏‏.‏
فهذه الجملة معطوفة على جملة ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ الآية، فحيث ذكر عذابهم الذي هم آيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمةً من حكم تصرف الله في هذا الكون‏.‏ والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ قولُه في آخر هذه ‏{‏فنذَر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏
فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستمراً على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذْ أراد ثَبات بنائِه، وأنه لم يقدّر توازيَ الشر في هذا العالم بالخير لطفاً منه ورفقاً، فالله لطيف بعباده، وفي ذلك منة عظيمة عليهم، وأن الذين يستحقون الشر لو عُجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم‏.‏
والناس‏:‏ اسم عام لجميع الناس، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشرّ كانوا أولَ من يتبادر من عموم الناس، كما زاده تصريحاً قوله‏:‏ ‏{‏فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏
وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع، فذُكر في جانب الشر ‏{‏يُعَجل‏}‏ الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه، وعبر عن تعجيل الله الخيرَ لهم بلفظ ‏{‏استعجالهم‏}‏ الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زياد السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا، وهو نحو قولهم‏:‏ استأخر واستقدم واستجلَب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغشوا ثيابهم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ومعناه‏:‏ تعجّلهم الخيرَ، كما حمله عليه في «الكشاف» للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدُنه‏.‏
فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل، بل هو بمعنى التعجل الكثير، كما في قول سُلْمِيّ بن رَبيعة‏:‏
وإذا العذارَى بالدخان تقنَّعت *** واستعجلتْ نصب القدور فملت
أي تعجلت‏)‏، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول، كما في البيت وكما في الحديث ‏"‏ فاستعجلَ الموتَ ‏"‏‏.‏
وانتصب ‏{‏استعجالهم‏}‏ على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه، والعامل فيه ‏{‏يُعجل‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ ولو يعجل الله للناس الشر كما يجعل لهم الخير كثيراً، فقوله‏:‏ ‏{‏استعجالهم‏}‏ مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله، وفاعل الاستعجال هو الله تعالى كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله‏}‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالخير‏}‏ لتأكيد اللصوق، كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وأصله‏:‏ استعجالهم الخير، فدلَّت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين‏.‏ وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة‏.‏ وسيجيء في النحل‏.‏
وقد جعل جواب ‏(‏لو‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏لقضي إليهم أجلهم‏}‏، وشأن جواب ‏(‏لو‏)‏ أن يكون في حيز الامتناع، أي وذلك ممتنع لأن الله قدَّر لآجال انقراضهم ميقاتاً معيَّناً ‏{‏ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والقضاء‏:‏ التقدير‏.‏
والأجل‏:‏ المدة المعينة لبقاء قوم‏.‏ والمعنى‏:‏ لقضي إليهم حلول أجلهم‏.‏ ولما ضمن ‏(‏قضي‏)‏ معنى بَلَغ ووصل عدي ب ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها، ولا يلتفت إلى غيره في فهمها‏.‏ وهذا المعنى مثل معنى ‏{‏قُل لو أن عندي ما تستعجلون به لقُضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 58‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فنذر الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ الخ مفرعة على جملة ‏{‏ولو يعجل الله للناس‏}‏ إلى آخرها‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لقضي‏}‏ بالبناء للنائب ورفععِ ‏{‏أجلهم‏}‏ على أنه نائب الفاعل‏.‏ وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب ‏{‏أجلهم‏}‏ على أن في ‏(‏قضي‏)‏ ضميراً عائداً إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ولو يجعل الله للناس الشر‏}‏ الخ‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فنذر الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ مفرعة على جملة ‏(‏لو‏)‏ وجوابها المفيدة انتفاء أن يعجل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم، أي فرطِ تكبرهم وتعاظمهم‏.‏
والعمه‏:‏ عدم البصر‏.‏ وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحْض، وأما النفي المستفاد من ‏(‏لو‏)‏ فحاصل بالتضمن، ولأن شأن جواب النفي أن يكون مسبباً على المنفي لا على النفي، والتفريع هنا على مستفاد من النفي‏.‏ وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يُسبب أن يترك الكافرين يعمهون، وبذلك تعرف أن قوله‏:‏ ‏{‏فنذر‏}‏ ليس معطوفاً على كلام مقدر وإنما التقديرُ تقدير معنى لا تقدير إعراب، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجاً لهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏في طغيانهم يعمهون‏}‏ تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ والطغيان‏:‏ الكفر‏.‏
والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏ الآية، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعاً لحالهم وتحذيراً من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة ‏{‏كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏ فلما بُين في الآية السابقة وجه تأخير عذاببِ الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بُين في هذه الآية حالهم عندما يمسهم شيء من الضر وعندما يُكشف الضر عنهم‏.‏
فالإنسان مراد به الجنس، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي، أي الإنسان الكافر، لأن جمهور الناس حينئذٍ كافرون، إذ كان المسلمون قبل الهجرة لا يعْدُون بضعة وسبعين رجلاً مع نسائهم وأبنائهم الذين هم تبع لهم‏.‏ وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أئذا ما مِت لسَوف أخرج حيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كلٌّ من غفلته‏.‏
وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى ‏(‏الناس‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ولو يجعل الله للناس الشر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏ لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض‏.‏ ومن المفسرين من جعل اللام في الإنسان للعهد وجعل المراد به أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، واسمه مُهَشِّم، وكان مشركاً، وكان أصابه مرض‏.‏ والضر تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ في سورة ‏{‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏‏.‏
والدعاء‏:‏ هنا الطلب والسؤال بتضرع‏.‏
واللام في قوله‏:‏ لجنبه‏}‏ بمعنى ‏(‏على‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرون لِلأذقان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 109‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتلَّه للجبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف ‏(‏على‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏ ونحوه قول جابر بن جني التغلبي‏:‏
تناولَه بالرمح ثم انثنى به *** فخَرَّ صريعاً لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه‏.‏
وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره‏.‏ وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين‏.‏
وموضع المجرور في موضع الحال، ولذلك عطف ‏{‏أو قاعداً أو قائماً‏}‏ بالنصب‏.‏ وإنما جعل الجنب مجروراً باللام ولم ينصب فيقال مثلاً مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابَسَةً للدعاء، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون‏.‏
ولذلك ابتدئ بذكر الجنب، وأما زيادة قوله‏:‏ ‏{‏أو قاعداً أو قائماً‏}‏ فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء‏.‏
والجنب‏:‏ واحد الجنوب‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فتكوى بها جباههم وجنوبهم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 35‏]‏‏.‏
والقعود‏:‏ الجلوس‏.‏
والقيام‏:‏ الانتصاب‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏
و ‏(‏إذا‏)‏ هٌّا لمجرد الظرفية وتوقيتتِ جوابها بشرطها، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة آلهتهم عند الرخاء، بقرينة قوله‏:‏ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏ إذ جعلها حالاً للمسرفين‏.‏ وإذ عبر عن عملهم بلفظ ‏{‏كانوا‏}‏ الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخلُ في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة‏.‏
ولهذا فرع عليه جملة‏:‏ ‏{‏فلما كشفنا عنه ضره مرَّ‏}‏ لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها‏.‏
والكشف‏:‏ حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء‏.‏ وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة‏.‏ إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء‏.‏
والمرور‏:‏ هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها‏.‏ شُبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال، أي انتقل إلى حال كحَال من لم يسبق له دعاؤُنا، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج‏.‏
و ‏(‏كأنْ‏)‏ مخففة كأنَّ، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب‏.‏ وعدي الدعاء بحرف ‏(‏إلى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى ضر‏}‏ دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله‏:‏
دعوت لما نابني مسورا ***
على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعو إلى من فاجأه ناصراً إلى دفعه‏.‏ وجَعْل ‏(‏إلى‏)‏ بمعنى اللام بُعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏ تذييل يعم ما تقدم وغيره، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم‏.‏
وتقدم القول في معنى مَوقع ‏(‏كذلك‏)‏ في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وقوله‏:‏
‏{‏كذلك زينا لكل أمة عملهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء، أي مثلَ هذا التزيين العجيب زين لكل مُسرف عمله‏.‏
والإسراف‏:‏ الإفراط والإكثار في شيء غير محمود‏.‏ فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون‏.‏ واختير لفظ المسرفين‏}‏ لدلالته على مبالغتهم في كفرهم، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم‏.‏
وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غيرَ مرة، أو لأن معرفة المزين لهم غيرُ مهمة ههنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحساناً شنيطاً‏.‏
والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دُربة تُحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل‏:‏
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يَرى حسناً ما ليس بالحسن
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
عاد الخطاب إلى المشركين عودا على بدئه في قوله‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله إلى قوله لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3 5‏]‏ بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب عنهم حتى حل بهم الهلاك فجأة‏.‏ وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم‏.‏
والجملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏ بما تضمنته من الإنذار بأن الشر قد ينزل بهم ولكن عذاب الله غير معجل، فضرب لهم مثلاً بما نزل بالأمم من قبلهم فقضَى إليهم بالعذاب أجلُهم وقد كانوا يعرفون أمما منهم أصابهم الاستيصال مثل عاد وثمود وقوم نوح‏.‏
ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحْقيق‏.‏
والإهلاك‏:‏ الاستيصال والإفناء‏.‏
والقرون‏:‏ جمع قرن وأصله مدة طويلة من الزمان، والمراد به هنا أهل القرون‏.‏ وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ من قبلكم‏}‏ حال من القرون‏.‏
و ‏{‏لمّا‏}‏ اسم زمان بمعنى حين على التحقيق، وتضاف إلى الجملة‏.‏
والعرب أكثروا في كلامهم تقديم ‏(‏لما‏)‏ في صدر جملتها فأشِمَّت بذلك التقديم رائحة الشرطية فأشبهت الشروط لأنها تضاف إلى جملة فتشبه جملةَ الشرط، ولأن عاملها فعل مُضي فبذلك اقتضت جملتين فأشبهت حروفَ الشرط‏.‏
والمعنى‏:‏ أهلكناهم حينما ظلموا، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وجاءتهم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ظلموا‏}‏‏.‏
والبينات‏:‏ جمع بينة، وهي الحجة على الصدق، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ وما كانوا ليؤمنوا‏}‏ معطوفة عليها‏.‏ ومجموع الجمل الثلاث هو ما وُقِّت به الإهلاك ‏{‏وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏
وعبر عن انتفاء إيمانهم بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفائه إشارة إلى اليأس من إيمانهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ تذييل‏.‏ والتعريف في ‏{‏القوم المجرمين‏}‏ للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين، وبذلك كان إنذاراً لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك‏.‏ والمُراد بالإجرام أقصاه، وهو الشرك‏.‏
والقول في ‏{‏كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ كالقول في نظيره آنفاً‏.‏ وكذلك ذكر لفظ ‏(‏القوم‏)‏ فهو كما في نظيره في هذه السورة وفي البقرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏
‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏أهلكنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏ وحرف ‏(‏ثم‏)‏ مؤذن ببعد ما بين الزمنين، أي ثم جعلناكم تخلفونهم في الأرض‏.‏ وكون حرف ‏(‏ثم‏)‏ هنا عاطفاً جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم، ولأنه عوضهم بهم‏.‏
والخلائف‏:‏ جمع خليفة‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 165‏]‏‏.‏ والمراد بالأرض‏}‏ بلاد العرب، فالتعريف فيه للعهد؛ لأن المخاطبين خلفوا عاداً وثموداً وطسماً وجديساً وجُرهماً في منازلهم على الجملة‏.‏
والنظر‏:‏ مستعمل في العلم المحقق، لأن النظر أقوى طرق المعرفة، فمعنى ‏{‏لننظر‏}‏ لنتعلم، أي لنعلم علماً متعلقاً بأعمالكم‏.‏ فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي‏.‏
و ‏{‏كيف‏}‏ اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، وهو منصوب ب ‏{‏ننظر‏}‏، والمعنى في مثله‏:‏ لنعلم جواب كيف تعملون، قال إياس بن قبيصة‏:‏
وأقبلت والخطى يخطر بيننا *** لا علم مَن جبانها من شجاعها
أي ‏(‏لا علم‏)‏ جَواب مَن ‏(‏جبانها‏)‏‏.‏
وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو ممَّا لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم علمها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علماً أزلياً، كما أن بيت إياس بن قبيصة معناه ليَظهر الجبانُ من الشجاع‏.‏ وليس المقصود بتعليل الإقْدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنّى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع‏.‏ وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏ الخ لأن ذلك ناشئ عن قولهم‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ايتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ كما تقدم فذلك أسلوب من أساليب التكذيب‏.‏ ثم حُكي في هذه الآية أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن موحى إليه من الله تعالى فهم يتوهمون أن القرآن وضَعه النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ولذلك جعلوا من تكذيبهم أن يقولوا له ‏{‏ايت بقرآننٍ غير هذا أو بَدّله‏}‏ إطماعاً له بأن يؤمنوا به مغايراً أو مبدَّلاً إذا وافق هواهم‏.‏
ومعنى ‏{‏غير هذا‏}‏ مخالفهُ‏.‏ والمراد المخالفة للقرآن كله بالإعراض عنه وابتداء كتاب آخر بأساليب أخرى، كمثل كتب قصص الفرس وملاحمهم إذ لا يحتمل كلامهم غير ذلك، إذ ليس مرادهم أن يأتي بسُورَ أخرى غير التي نزلتْ من قبل لأن ذلك حاصل، ولا غَرض لهم فيه إذا كان معناها من نوع ما سبقها‏.‏
ووصف الآيات ب ‏{‏بينات‏}‏ لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها لا بطلب تبديله إذ لا طمع في خير منه‏.‏
والتبديل‏:‏ التغيير‏.‏ وقد يكون في الذوات، كما تقول‏:‏ بدلت الدنانير دراهم‏.‏ ويكون في الأوصاف، كما تقول‏:‏ بدلت الحلقة خاتماً‏.‏ فلما ذكر الإتيان بغيره من قبل تعيَّن أن المراد بالتبديل المعنى الآخر وهو تبديل الوصف، فكان المراد بالغير في قولهم‏:‏ ‏{‏غير هذا‏}‏ كلاماً غير الذي جاء به من قبل لا يكون فيه ما يكرهونه ويغيظهم‏.‏ والمراد بالتبديل أن يعمد إلى القرآن الموجود فيغير الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه، وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها، وعبارات البعث والنشر بضدها، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة‏.‏
وسموا ما طلبوا الإتيان به قُرآناً لأنهُ عوض عن المسمى بالقرآن، فإن القرآن علَم على الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أي ائت بغير هذا مما تُسميه قرآناً‏.‏
والضمير في ‏{‏بدله‏}‏ عائد إلى اسم الإشارة، أي أو بدل هذا‏.‏ وأجمل المراد بالتبديل في الآية لأنه معلوم عند السامعين‏.‏
ثم إن قولهم يحتمل أن يكون جداً، ويحتمل أن يريدوا به الاستهزاء، وعلى الاحتمالين فقد أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بما يقلع شبهتهم من نفوسهم إن كانوا جادين، أو من نفوس من يسمعونهم من دهمائهم فيحسبوا كلامهم جِداً فيترقبوا تبديل القرآن‏.‏
وضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم‏}‏ راجع إلى الناس المراد منهم المشركون أو راجع إلى ‏{‏الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وتقديم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إذا تتلى‏}‏ على عامله وهو ‏{‏قَال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ للاهتمام بذكر ذلك الوقت الذي تتلى فيه الآيات عليهم فيقولون فيه هذا القول تعجيباً من كلامهم ووهن أحلامهم‏.‏
ولكون العامل في الظرف فعلاً ماضياً عُلم أن قولهم هذا واقع في الزمن الماضي، فكانت إضافة الظرف المتعلق به إلى جملة فعلها مضارع وهو ‏{‏تتلى‏}‏ دالة على أن ذلك المضارع لم يرد به الحال أو الاستقبال إذ لا يتصور أن يكون الماضي واقعاً في الحال أو الاستقبال فتعين أن اجْتلاب الفعل المضارع لمجرد الدلالة على التكرر والتجدد، أي ذلك قولهم كُلما تتلى عليهم الآيات‏.‏
وماصْدق ‏{‏الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ هو ما صدق الضمير في قوله‏:‏ ‏(‏عليهم‏)‏، فكان المقام للإضمار، فما كان الإظهار بالموصولية إلا لأن الذين لا يرجون لقاء الله اشتهر به المشركون فصارت هذه الصلة كالعلَم عليهم‏.‏ كما أشرنا إليه عند قوله آنفاً ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضُوا بالحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏، وليس بين الصلة وبين الخبر هنا علاقةُ تعليل فلا يكون الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏
ولما كان لاقتراحهم معنى صريح، وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجودِ، ومعنى التزامي كنائي، وهو أنه غير منزل من عند الله وأن الذي جاء به غير مرسل من الله، كان الجواب عن قولهم جوابين، أحدهما‏:‏ ما لقنه الله بقوله‏:‏ ‏{‏قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ وهو جواب عن صريح اقتراحهم، وثانيهما‏:‏ ما لَقنه بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لو شاء الله ما تلوته عليكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏ وهو جواب عن لازم كلامهم‏.‏
وعن مجاهد تسمية أناس ممن قال هذه المقالة وهم خمسة‏:‏ عبد الله بن أمية، والوليدُ بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر، قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللاتتِ والعزى ومناةَ وهُبل، وليس فيه عَيبها‏.‏
وقد جاء الجواب عن اقتراحهم كلاماً جامعاً قضاء لحق الإيجاز البديع، وتعويلاً على أن السؤال يبين المراد من الجواب، فأحسوا بامتناع تبديل القرآن من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا جواب كاف، لأن التبديل يشمل الإتيان بغيره وتبديل بعض تراكيبه‏.‏ على أنه إذا كان التبديل الذي هو تغيير كلمات منه وأغراض ممتنعاً كان إبطال جميعه والإتيان بغيره أجدر بالامتناع‏.‏
وقد جاء الجواب بأبلغ صيغ النفي وهو ‏{‏ما يكون لي أن أبدله‏}‏ أي ما يكون التبديل مِلكاً بيدي‏.‏
و ‏{‏تِلقاء‏}‏ صيغة مصدر على وزن التفعال‏.‏ وقياس وزن التفعال الشائع هو فتح التاء وقد شذ عن ذلك تلقاء، وتبيان، وتمثال، بمعنى اللقاء والبيان والمُثول فجاءت بكسر التاء لا رابع لها، ثم أطلق التلقاء على جهة التلاقي ثم أطلق على الجهة والمكان مطلقاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما توجه تلقاء مدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فمعنى ‏{‏من تلقاء نفسي‏}‏ من جهة نفسي‏.‏
وهذا المجرور في موضع الحال المؤكدة لجملة‏:‏ ‏{‏ما يكون لي أن أبدله‏}‏ وهي المسماة مؤكدة لغيرها إذ التبديل لا يكون إلا من فعل المبدل فليست تلك الحال للتقييد إذ لا يجوز فرض أن يبدَّل من تلقاء الله تعالى التبديلَ الذي يرومونه، فالمعنى أنه مبلغ لا متصرف‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏ما يكون لي أن أبدله‏}‏ أي ما أتبع إلا الوحي وليس لي تصرف بتغيير‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏ واتباع الوحي‏:‏ تبليغ الحاصل به، وهو الموصى به‏.‏ والاتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للاتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي‏.‏
واقتضت ‏(‏إنْ‏)‏ النافية وأداةُ الاستثناء قصرَ تعلق الاتباع على ما أوحى الله وهو قصر إضافي، أي لا أبلغ إلا ما أوحي إلي دون أن يكون المتَّبَع شيئاً مخترعاً حتى أتصرف فيه بالتغيير والتبديل، وقرينة كونه إضافياً وقوعه جواباً لرد اقتراحهم‏.‏
فمن رام أن يحتج بهذا القصر على عدم جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم فقد خرج بالكلام عن مهيعه‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إني أخاف إن عصيت ربي‏}‏ الخ في موضع التعليل لجملة‏:‏ ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ ولذلك فصلت عنها‏.‏ واقترنت بحرف ‏(‏إن‏)‏ للاهتمام، و‏(‏إنَّ‏)‏ تؤذن بالتعليل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن عصيت ربي‏}‏، أي عصيته بالإتيان بقرآن آخر وتبديله من تلقاء نفسي‏.‏
ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع‏.‏
ولذلك لم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول هنا‏:‏ إلا ما شاء الله، أو نحو ذلك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايتهِ عن رميهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله‏.‏ ولكونه جواباً مستقلاً عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولاً عن الأول غير معطوف عليه تنبيهاً على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول‏.‏
وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليللٍ التفَّتْ في مطاويه أدلة، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب، إذ قوله‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما تلوته‏}‏ تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوتُه‏.‏ فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدَّعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله، فكان الاستدلال إبطالاً لدعواهم ابتداء وإثباتاً لدعواه مآلا‏.‏ وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري‏.‏
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب ‏(‏لو‏)‏، فإن جواب ‏(‏لو‏)‏ يقتضي استدراكاً مطرداً في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب، فقد يُستغنى عن ذكره وقد يذكر، كقول أبَي بن سُلْمِي بن ربيعة‏:‏
فلو طَار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
فتقديره هنا‏:‏ لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم‏.‏ وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علمياً إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغياً إذ جاء كلاماً أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقاً على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثلَه أحد منهم‏.‏
ولذلك فُرعت على الاستدلال جملةُ‏:‏ ‏{‏فقد لبثت فيكم عُمراً من قبله أفلا تعقلون‏}‏ تذكيراً لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمةِ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحَى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهاراً بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالاً معتاداً وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطواراً وتدرجاً‏.‏ فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رَباني محض، وأن هذا الكلام موحًى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه‏.‏
فما كان هذا الكلام دليلاً على المشركين وإبطالاً لادعائهم إلا لَما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه، ثم لما فرع عليه جملة‏:‏ ‏{‏فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون‏}‏ إذ كان تذكيراً لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة، أي استدلالاً بعين الدعوى لأنهم ينهَض لهم أن يقولوا حينئذٍ‏:‏ ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله‏.‏
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية‏.‏
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية‏.‏ ولكلمة ‏{‏تلوته‏}‏ هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تالياً كلاماً، ومتلواً، وباعثاً بذلك المتلو‏.‏
فبالأول‏:‏ تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم‏.‏
وبالثاني‏:‏ تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48، 49‏]‏‏.‏
وبالثالث‏:‏ تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته عن الله تعالى‏.‏
والتلاوة‏:‏ قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلِّغ‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏
و ‏{‏أدراكم‏}‏ عَرَّفكم‏.‏ وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضاً، يقال‏:‏ دَريته ودريت به‏.‏ وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية سيبويه‏.‏
قرأ الجمهور ‏{‏ولا أدراكم به‏}‏ بحرف النفي عطفاً على ‏{‏ما تلوته عليكم‏}‏ أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به‏.‏ وقرأه البزي عن ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية، أي بدون ألِف بعد اللام فتكون عطفاً على جواب ‏(‏لو‏)‏ فتكون اللام لاماً زائدة للتوكيد كشأنها في جواب ‏(‏لو‏)‏‏.‏ والمعنى عليه‏:‏ لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذِبوا‏.‏
وتفريع جملة‏:‏ ‏{‏فقد لبثت فيكم‏}‏ تفريع دليللِ الجملة الشرطية وملازمتها لطَرَفَيها‏.‏
والعُمُر‏:‏ الحياة‏.‏ اشتق من العُمران لأن مدة الحياة يَعْمُر بها الحي العالم الدنيوي‏.‏
ويطلق العُمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء‏.‏ وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير ‏{‏عُمرا‏}‏ وليس المراد لبثت مدة عُمري، لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدْرها قدْر عُمُرٍ متعارَف، أي بقدر مدة عُمر أحد من الناس‏.‏ والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن‏.‏
وانتصب ‏{‏عمراً‏}‏ على النيابة عن ظرف الزمان، لأنه أريد به مقدار من الزمان‏.‏
واللبث‏:‏ الإقامة في المكان مدة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال كم لبثتَ‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏
والظرفية في قوله فيكم‏}‏ على معنى في جماعتكم، أي بيْنكم‏.‏
و ‏(‏قبل‏)‏ و‏(‏بعد‏)‏ إذا أضيفاً للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام، أي من قبللِ نزوله‏.‏ وضمير ‏(‏قبله‏)‏ عائد إلى القرآن‏.‏
وتفريع جملة‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل‏.‏ ولذلك اختير لفظ ‏{‏تعقلون‏}‏ لأن العقل هو أول درجات الإدراك‏.‏ ومفعول ‏{‏تعقلون‏}‏ إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه‏.‏ والتقدير أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمناً طويلاً وعُمراً مديداً، فكيف تأتَّى ما هو أعظم من ذلك المعتادِ دَفعةً لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساءَ، وما عُرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عَكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس‏.‏
وإما أن ينزل ‏{‏تعقلون‏}‏ منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول، أي أفلا تكونون عاقلين، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏
لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا‏}‏ أي أشركوا إلى قوله‏:‏ ‏{‏لننظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13، 14‏]‏ وتكذيبهم بآيات الله في قولهم‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غير هذا أو بدّله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وفي ذلك أيضاً توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافاً بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غير هذا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فُرع عليه أن المفتري على الله كذباً والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وُجد انصبابه على الخصم وحده‏.‏
والتفريع صالح للمعنيين، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن‏.‏
ومحل ‏(‏أو‏)‏ على الوجهين هو التقسيم، وهو إما تقسم أحوال، وإما تقسم أنواع‏.‏
والاستفهام إنكاري‏.‏ والظلم‏:‏ هنا بمعنى الاعتداء‏.‏ وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح المجرمون‏}‏ تذييل، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيَّل ‏(‏بفتح التحتية‏)‏ فيقتضي أن أولئك مجرمون، وأنهم لا يفلحون‏.‏
والفلاح تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين‏.‏
وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏
على جملة‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ عطفَ القصة على القصة‏.‏ فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غير هذا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون‏:‏ ‏{‏هم شفعاؤنا عند الله‏}‏‏.‏
والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفراً أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم ‏(‏كما أوهموا أنه إنْ أتاهم قرآن غيرُ المتلو عليهم أو بُدل ما يرومون تبديلَه آمنوا‏)‏ كانوا إذا أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا‏:‏ تشفع لنا آلهتنا عند الله‏.‏ وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث ‏(‏على معنى فرض ما لا يقع واقعاً‏)‏ «إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعُزّى»‏.‏ وهذا كقول العاص بن وائل، وكان مشركاً، لخبّاب بن الأرت، وهو مسلم، وقد تقاضاه أجراً له على سيف صنعه «إذا كان يوم القيامة الذي يُخبر به صاحبك ‏(‏يعني النبي صلى الله عليه وسلم فسيكون لي مال فأقضيك منه»‏.‏
‏(‏وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوُتَيَنَّ مالاً وولداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ الآية‏.‏
ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏ويعبدون‏}‏ الخ عطفاً على جملة‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 17‏]‏ فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء‏.‏
وإيثار اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما لا يضرهم ولا ينفعهم‏}‏ لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مُخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف ‏{‏ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة‏.‏
واختيار صيغة المضارع في ‏{‏يعبدون‏}‏ و‏{‏يقولون‏}‏ لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيباً من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ فاعترفوا بأن المتصرف هو الله‏.‏
وقُدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدَتها بأنها تُلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تُسلم فقالت‏:‏ «أما تخشى على الصبية من ذي الشَّرى»‏.‏ فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصَّادَّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام‏.‏
وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لَهم شفعاء لهم عنده‏.‏ ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئاً اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف‏.‏
ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه‏:‏ ما علم الله هذا مني‏.‏ وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء‏:‏ يعلم الله كذا، حتى صار عند العرب من صيغ اليمين‏.‏
و ‏{‏في السماوات ولا في الأرض‏}‏ حال من الضمير المحذوف بعد ‏{‏يعلم‏}‏ العائد على ‏(‏ما‏)‏، إذْ التقدير‏:‏ بما لا يعلمه، أي كائناً في السماوات ولا في الأرض‏.‏ والمقصود من ذكرهما تعميم الأمكنة، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب‏.‏ وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي‏.‏
والاستفهامُ في ‏{‏أتنبئون‏}‏ للإنكار والتوبيخ‏.‏ والإنباء‏:‏ الإعلام‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى‏}‏ إنشاء تنزيه، فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت‏.‏ وتقدم الكلام على نظيره عند قوله‏:‏ ‏{‏وخرّقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏‏.‏
‏(‏و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ عما يشركون‏}‏ مصدرية، أي عن إشراكهم، أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتاً له‏.‏
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏تشركون‏}‏ بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول‏.‏ وقرأه الباقون بالتحتية على أنها تعقيب للخطاب بجملة ‏{‏قُل‏}‏‏.‏ وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏
ة معترضة بين جملة ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ومناسبة الاعتراض قوله‏:‏ ‏{‏قل أتنبئون الله بما لا يعلم‏}‏ لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحِكم العُمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبَت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد‏.‏
وحسَّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، بخلاف آية سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله‏:‏ ‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 211‏]‏ وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة‏.‏ فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت‏}‏ إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيئين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضاً عقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله‏:‏ ‏{‏وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏
وتقدم القول في ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏
والناس‏:‏ اسم جمع للبشر‏.‏ وتعريفه للاستغراق‏.‏ والأمة‏:‏ الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا‏.‏
والمراد هنا أمة واحدة في الدين‏.‏ والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشيء عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف‏.‏ والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف‏.‏ وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاماً على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووَضَع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعاً جِبلِّياً كما وضَع الإلهامات في أصناف الحيوان‏.‏
وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام‏.‏
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة‏.‏ وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4 6‏]‏، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمةً واحدة الوحدة في الحق، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك‏.‏
ووقوعُه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناماً لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح «كَذبوا والله إِنْ استقسما بها قَطِ، وقرأ‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏» وبهذا الوجه يجعل التعريف في ‏{‏الناس‏}‏ للاستغراق‏.‏
ويجوز أن يراد بالناس العربُ خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيدِ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 28‏]‏، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المُبطل وإبقاءِ المحق‏.‏ وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مُسمى لقضي بينهم‏.‏‏}‏ والأجل‏:‏ هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب‏.‏ وأصرح من ذلك في بيان معنى ‏(‏الكلمة‏)‏ قولُه في سورة ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏ ‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمةُ ربك لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ وسيأتي بيانها‏.‏
وتقديم المجرور في قوله‏:‏ فيما فيه يختلفون‏}‏ للرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوءة‏.‏
والضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد للنبيء صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد‏.‏ وقد كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مُقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد، علم المتخاطبون أنه المقصود‏.‏ ونظير هذا كثير في القرآن‏.‏
و ‏(‏لولا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ حرف تحْضيض، وشأن التحْضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيضَ من الطلب وشأنُ الطلب أن يواجَه به المطلوب، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مُؤولاً بأحد وجهين‏:‏
إما أن يكون التفاتاً، وأصل الكلام‏:‏ لولا أنزل عليكَ، وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ أي قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع‏.‏
وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضُهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعاً في أن يردوهم إلى الكفر‏.‏
والآيةُ‏:‏ علامة الصدق‏.‏ وأرادوا خارقاً للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم‏:‏ ‏{‏أو ترقى في السماء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهَم في حقائق الأشياء، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يستفزّه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دَرَوا أن الله قَدر نظام الأمور تقديراً، ووضع الحقائق وأسبابها، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها، ولا يضره أن يُكذّب المكذّبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة، وفي الدنيا تارات، كل ذلك يجري على نُظم اقتضتها الحكمةُ لا يحمله على تبديلها سُؤال سائل ولا تسفيه سفيه‏.‏ وهو الحكيم العليم‏.‏
فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلاً على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله، لأنه لو أرسله لأيَّده بما يوجب له القبول عند المرسَل إليهم‏.‏
وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وطلباً لصلاحهم، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته‏.‏ ولذلك أتَى في حكاية كلامهم العدولُ عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏من ربه‏}‏ إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي ‏(‏بصيغة اسم الفاعل‏)‏ للمصطفى ‏(‏بصيغة المفعول‏)‏ من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى‏.‏
وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى من مداركهم جواباً فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله‏:‏ ‏{‏فقل إنما الغيبُ لله‏}‏، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره‏.‏
والغيب‏:‏ ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات‏.‏ وتفسير هذا قوله‏:‏ ‏{‏قل إنما الآيات عند الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏‏.‏
واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله‏.‏ وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومُه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسُؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏ تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏إنما الغيب لله‏}‏ أي ليس دأبي ودأبكم إلاّ انتظار ما يأتي به الله إن شاء، كقول نوح لقومه‏:‏ ‏{‏إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شراً لهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقُضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏‏.‏
والمعية في قوله‏:‏ ‏{‏معكم‏}‏ مجازية مستعملة في الإشراك في مطلق الانتظار‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون‏.‏ وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله ‏{‏فانتظروا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏ كما في الحديث‏:‏ «تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة» فالمراد ب ‏{‏الناس‏}‏ الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له‏.‏ والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان‏.‏ وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي بطشة يوم بدر‏.‏ فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة‏.‏
والإذاقة‏:‏ مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 95‏]‏‏.‏
والرحمة‏:‏ هنا مطلقة على أثر الرحمة، وهو النعمة والنفع، كقوله‏:‏ ‏{‏وينشر رحمته‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏‏.‏
والضراء‏:‏ الضر‏.‏ والمس‏:‏ مستعمل في الإصابة‏.‏ والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر، كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض‏.‏
و ‏(‏إذا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا لهم مكرٌ‏}‏ للمفاجأة، وهي رابطة لجواب ‏(‏إذا‏)‏ الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف ‏(‏إذا‏)‏ الفجائية، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها‏.‏
والمكرُ‏:‏ حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏
و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ في آياتنا‏}‏ للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة، أي مكرهم المصاحب لآياتنا‏.‏ ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك‏.‏
ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله‏.‏
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضاً، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع‏.‏ والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكرمكم بآيات الله‏.‏
وأسرعُ‏:‏ مأخوذ من أسرع المزيدِ على غير قياس، أو من سَرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي‏.‏
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون‏}‏ استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب‏.‏ وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك‏.‏ والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل، وهو إنذار بالعذاب عليه، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك‏.‏
وعبر بالمضارع في ‏{‏يكتبون‏}‏ و‏{‏يمكرون‏}‏ للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، فليس في قوله‏:‏ ‏{‏ما تمكرون‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين‏.‏
وقرأه الجمهور ‏{‏ما تمكرون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه روح عن يعقوب ‏{‏ما يمكرون‏}‏ بياء الغائب، والضمير ل ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة‏}‏‏.‏ وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم
تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
‏{‏هُوَ الذى يُسَيِّرُكُمْ فِى البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏{‏فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏
هذه الجملة بدل اشمال من جملة ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 21‏]‏ إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله‏.‏ والمقصود من هذه الجملة هو قوله‏:‏ ‏{‏فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض‏}‏ وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان‏.‏ أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضَراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تُفرج عنهم رحمةً بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أنَّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏ وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزاً عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية‏.‏
وإسناد التسْيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة‏:‏ ‏{‏هو الذي يسيركم‏}‏ قصر ادعائي‏.‏ والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر‏.‏
و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة‏.‏ وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله‏:‏ ‏{‏دَعَوا الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏بغير الحق‏}‏، والمغيَّا هو ما في قوله ‏{‏يسيركم‏}‏ من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد ‏(‏حتى‏)‏ ومعطوفاتها نهايةَ ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد ‏(‏حتى‏)‏ ينتهي عندها السير المنعَم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام‏.‏
ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال‏:‏ ‏{‏وجَرين بهم‏}‏ على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم‏.‏ وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال‏:‏ ‏{‏فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين‏.‏
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز‏.‏
وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعاً «للكشاف» بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضاً، وما نحوتُه أنا أليق‏.‏
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيبة‏}‏ للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم‏.‏ فهو تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وجاءهم الموج من كل مكان‏}‏‏.‏
والسير في البر معروف للعرب‏.‏ وكذلك السير في البحر‏.‏ كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة‏.‏ وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك‏.‏ وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته، والنابغة في داليته‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يُسيّركم‏}‏ بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء من السير، أي يجعلكم تسيرون‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ‏{‏ينشركم‏}‏ بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء من النّشر، وهو التفريق على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا أنتم بشر تنتشرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 20‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا في الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل‏:‏ كانوا ‏(‏أي أهل الكوفة‏)‏ يقرأون ‏{‏ينشركم‏}‏ فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها ‏{‏يسيركم‏}‏ ‏(‏أي بتحتية فسين مهملة فتحتية‏)‏ فأوَّل من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف، أي أمر بكتبها في مصاحب أهل الكوفة‏.‏
و ‏{‏حتى‏}‏ غاية للتسيير‏.‏ وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابِه، والجملة والغايةُ هي مفاد جواب ‏{‏إذا‏}‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، إذ حينئذٍ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة‏.‏
والفلك‏:‏ اسم لمَركَب البحر، واسم جمع له بصيغة واحدة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وهو هنا مراد به الجمع‏.‏
والجري‏:‏ السير السريع في الأرض أو في البحر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏باسم الله مجراها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ والظاهر أنه حقيقة فيهما‏.‏
والريح مؤنثة في كلام العرب‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يَدي رحمته‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏ والطيبة‏:‏ الملائمة الرفيقة بالراكبين‏.‏
والطيب‏:‏ الموصوف بالطِيب الشديد‏.‏ وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلنحيينه حياةً طيبة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏، ويقال‏:‏ طاب له المقام في مكان كذا‏.‏ ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طِيباً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ جواب ‏{‏إذَا‏}‏‏.‏ وفي ذكر جَريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب‏.‏ وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقديرٍ مرادٍ لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته‏.‏
وضمير ‏{‏جاءتها‏}‏ عائد إلى ‏{‏الفُلك‏}‏ لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث‏.‏
والعاصف‏:‏ وصف خاص بالريح، أي شديدة السرعة‏.‏ وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل‏:‏ نافس وحائض ومرضع، فشاع استعماله كذلك، وذكر وصفاً للريح فبقي لا تلحقه التاء‏.‏ وقالوا‏:‏ إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب، مثل‏:‏ لابن، وتامر‏.‏ وفيه نظر‏.‏
ومعنى ‏{‏من كل مكان‏}‏ من كل جهة من جهات الفُلك، فالابتداء الذي تفيده ‏(‏من‏)‏ ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك‏.‏
ومعنى ‏{‏أحيط بهم‏}‏ أخذوا وأهلكوا، فالعرب يقولون‏:‏ أحاط العَدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها‏.‏ ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكاً لها صار ترتيب ‏{‏أحيط بهم‏}‏ استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله محيط بالكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 66‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ أي هلكت‏.‏ فمعنى ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ ظنوا الهلاك‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏دعَوا الله مخلصين‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏‏.‏ ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم‏.‏ وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد‏.‏ وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لئن أنجيتنا‏}‏ بيان لجملة ‏{‏دَعوا‏}‏ لأن مضمونها هو الدعاء‏.‏
والإشارة ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم‏.‏
وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات‏:‏ لاممِ توطئة القسم، ونوننِ التوكيد، والتعبير بصيغة ‏{‏من الشاكرين‏}‏ دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏
وأتى بحرف ‏(‏إذا‏)‏ الفجائية في جواب ‏(‏لما‏)‏ للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة‏.‏
والبغي‏:‏ الاعتداء‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏والإثم والبغي بغير الحق‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والمراد به هنا الإشراك كما صُرح به في نظيرها ‏{‏فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وسمي الشرك بغياً لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلماً في آيات كثيرة منها قوله‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم، ولأنه لا يناسب قولَه بعد ‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏‏.‏ ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر، كقوله‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خَوَّله نعمة منه نسي ما كَان يدعُو إليه من قبل وجَعل لله أنداداً ليضل عن سبيله‏}‏
‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ الآية‏.‏
وزيادة ‏{‏في الأرض‏}‏ لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة‏.‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نجّاهم إلى البر فمنهم مقتصد‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 32‏]‏ أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكاناً للبغي‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق، فهو كالتقييد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏‏.‏
استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق‏.‏
وافتُتح الخطاب ب ‏{‏يأيها الناس لاستصغاء أسماعهم‏.‏ والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم‏.‏
وصيغة قصر البغي على الكون مُضراً بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تضروه شيئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فمعنى ‏(‏على‏)‏ الاستعلاء المجازي المكنَّى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلَى عليه، ولذلك يكثر أن يقولوا‏:‏ هذا الشيء عليك، وفي ضده‏:‏ هذا الشيء لك، كقوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ويقول المقر‏:‏ لك عليّ كذا‏.‏ وقال توبة بن الحمير‏:‏
وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها
وقال السموأل اليهودي‏:‏
أليَ الفضل أمْ عليّ إذا حُو *** سِبْتُ أني على الحساب مُقيت
وذلك أن ‏(‏على‏)‏ تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ القرآنُ حجة لك أو عليك ‏"‏‏.‏
فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوْزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله‏:‏ ‏{‏بغيكُم‏}‏ وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم‏:‏ «ركب القوم دوابَّهم» أي، ركب كل واحد دابته‏.‏ فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يُضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب‏.‏
و ‏{‏متاع‏}‏ مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو متاعُ الحياة الدنيا‏.‏ وقَرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من ‏(‏بغيكم‏)‏‏.‏ ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة‏.‏ وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالاً طويلاً فهلاّ تتذكرون‏؟‏ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزاً وسيُؤاخدكم به في الآخرة‏.‏ وفي كلتا القراءتين وجوهٌ غير ما ذكرنا‏.‏
والمتاع‏:‏ ما ينتفع به انتفاعاً غير دائم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والمعنى على كلتا القراءتين واحد، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا‏.‏
وجملة‏:‏ ثم إلينا مرجعكم‏}‏ عطفت ب ‏(‏ثم‏)‏ لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديداً من مضمون جملة ‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏‏.‏
وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏إلينا مرجعكم‏}‏ لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلاً للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله‏.‏
وتفريع ‏{‏فننبئكم‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏إلينا مرجعكم‏}‏ تفريع وعيد على تهديد‏.‏ واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع‏.‏ وفي ذكر ‏{‏كنتم‏}‏ والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم‏.‏ والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظاً من هذا الوعيد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏ المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد‏.‏
والمثَل‏:‏ الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة‏.‏ عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة‏.‏
وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء‏.‏ ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ‏.‏ والمعنى‏:‏ قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة‏.‏
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاماً ومصيره حصيداً‏.‏ ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏كماء أنزلناه من السماء‏}‏ شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فاختلط به نبات الأرض‏}‏ شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها‏.‏ وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مما يأكل الناس والأنعام‏}‏ وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظاً في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته‏.‏
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‏}‏
‏[‏محمد‏:‏ 12‏]‏‏.‏
والقول في ‏{‏حتى إذا أخذت الأرض زخرفها‏}‏ كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء‏.‏
وأمر الله‏:‏ تقديره وتكوينه‏.‏ وإتيانه‏:‏ إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء‏.‏ وفي معنى الغاية المستفادِ من ‏(‏حتى‏)‏ ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطواراً كثيرة، فذلك طوي في معنى ‏(‏حتى‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ليلاً أو نهاراً‏}‏ ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت‏.‏
والزخرف‏:‏ اسم الذهب‏.‏ وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي‏.‏
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية‏.‏ شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان‏.‏ والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وقال بشار بن برد
وخُذي ملابس زينة *** ومُصَبَّغات وهي أفخر
وذكر ‏{‏ازينت‏}‏ عقب ‏{‏زخرفها‏}‏ ترشيح للاستعارة، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين‏.‏ و‏{‏ازّينت‏}‏ أصله تزينت فقلبت التاء زَاياً؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن‏.‏
واعلم أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً‏}‏ إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه، ويزيد تلك الإشارة وضوحاً قوله‏:‏ ‏{‏وظن أهلها أنهم قادرون عليها‏}‏ المؤذنُ بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏أنهم قادرون عليها‏}‏ أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة‏.‏
والحصيد‏:‏ المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته‏.‏ والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها‏.‏ ومعنى ‏{‏لم تغْنَ‏}‏ لم تَعْمُر، أي لم تعمر بالزرع‏.‏ يقال‏:‏ غَنِي المكان إذا عَمَر‏.‏ ومنه المغنَى للمكان المأهول‏.‏ وضد أغنى أقفر المكان‏.‏
والباء في ‏{‏بالأمس‏}‏ للظرفية‏.‏ والأمس‏:‏ اليوم الذي قبل يومك‏.‏ واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن‏.‏ والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال‏.‏ وجمَعَها قولُ زهير‏:‏
وأعلم عِلم اليوم والأمسسِ قبلَه *** ولكنني عن عِلم ما في غد عَمِ
وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك نفصل الآيات‏}‏ إلى آخرها تذييل جامع، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع‏.‏ فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات‏.‏ وتقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيلَ المجرمين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏‏.‏
واللام في لقوم يتفكرون‏}‏ لام الأجْل‏.‏
والتفكر‏:‏ التأمل والنظر، وهو تفعل مشتق من الفكر، وقد مر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم‏.‏ وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏
‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏
الجملة معطوفة على جملة ‏{‏كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، أي نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها، وندعو إلى دار السلام دارِ الخلد‏.‏ ولما كانت جملة ‏{‏كذلك نفصل الآيات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ تذييلاً وكان شأن التذييل أن يكون كاملاً جامعاً مستقلاً جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعُدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذْ وضع قوله‏:‏ ‏{‏والله يدعو‏}‏ موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد‏.‏
وحُذف مفعول ‏{‏يدعو‏}‏ لقصد التعميم، أي يدعو كل أحد‏.‏ والدعوة هي‏:‏ الطلب والتحريض‏.‏ وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه‏.‏
ودار السلام‏:‏ الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام عند ربهم‏}‏، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏‏.‏
والهداية‏:‏ الدلالة على المقصود النافع، والمراد بها هنا خَلْق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله‏:‏ مَن يشاء‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏والله يدعُو‏}‏ المفيد التعميمَ فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أنَّ ‏{‏يهدي‏}‏ هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر، وهي حصول الاهتداء بالفعل، أي خلق حصوله بأمر التكوين، كقوله‏:‏ ‏{‏فريقاً هدَى وفريقاً حق عليهم الضلالة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 30‏]‏ وهذا التكوين يقع إما في كل جزئية من جزئيات الاهتداء على طريقة الأشاعرة، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال، وشؤون الغيب خَفية‏.‏ وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والصراط المستقيم‏:‏ الطريق الموصل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏
‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة ‏{‏ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهدياً وغير مهدي‏.‏ ففي هذه الجملة ذِكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين، ولك أن تجعلها بدل مفصَّل من مجمل‏.‏
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان عَلم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن، وأن الحُسنى هي دار السلام‏.‏ ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 125 127‏]‏‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون‏}‏
والحسنى‏:‏ في الأصل صفةُ أثنى الأحسن، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولَم تَتبع موصوفها‏.‏
وتعريفها يفيد الاستغراق، مثل البُشرى، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات‏.‏ والمعنى‏:‏ للذين أحسنوا جنسُ الأحوال الحسنى عندهم، أي لهم ذلك في الآخرة‏.‏ وبذلك تعين أن ماصْدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علماً بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة‏.‏
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحُسنى بالمعنى الذي صار علماً بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذٍ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل‏:‏ هي رضى الله تعالى كما قال‏:‏ ‏{‏ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏، وقيل‏:‏ هي رؤيتهم الله تعالى‏.‏ وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في «صحيح مسلم» و«جامع الترمذي» عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ قال‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا‏:‏ ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال‏:‏ فيُكشف الحجاب، قال‏:‏ فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه‏.‏ وهو أصرح ما ورد في تفسيرها‏.‏
والرهق‏:‏ الغشيان‏.‏ وفعله من باب فرح‏.‏
والقَتَرُ‏:‏ لوْنٌ هو غُبرة إلى السواد‏.‏ ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأيمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوففِ‏.‏ وهو من آثار تهيج الكَبد من ارتجاف الفؤاد خوفاً وتوقعاً‏.‏
والذلة‏:‏ الهوان‏.‏ والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل‏.‏ والكلام مستعمل في صريحه وكنايته، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة‏.‏
وليس معنَى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحاً لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعاً بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلاً للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وتَرهقهم ذلة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مظلماً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ نتيجة للمقدمة، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف‏.‏
واسم الإشارة يرجع إلى ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏‏.‏ وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وعبر في جانب المسيئين بفعل ‏{‏كسبوا السيئات‏}‏ دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فِعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون‏.‏
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافاً للمعتزلة والخوارج‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏جزاءُ سيئة بمثلها‏}‏ خبر عن ‏{‏الذين كسبوا السيئات‏}‏‏.‏ وتنكير ‏(‏سيئة‏)‏ للعموم، أي جزاء كل سيئة بمثلها، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ‏.‏ كقول الحريري‏:‏
يا أهلَ ذا المغنَى وُقيتم ضُرا ***
أي كل ضر‏.‏ وذلك العموم مُغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ، أو يقدر مجرور، أي جَزاء سيئةٍ منهم، كما قدر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ أي فعليه‏.‏
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويَرهقهم قَتر، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله‏:‏ ‏{‏كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ما لهم من الله من عاصم‏}‏ خبر ثان، أو حال من ‏{‏الذين كسبوا السيئات‏}‏ أو معترضة‏.‏ وهو تهديد وتأييس‏.‏
والعاصم‏:‏ المانع والحافظ‏.‏ ومعنى ‏{‏من الله‏}‏ من انتقامه وجزائه‏.‏ وهذا من تعليق الفعل باسم الذات، والمرادُ بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل ‏{‏حُرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏كأنما أغشيت وجوهُهم‏}‏ الخ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ترهقهم ذلة‏}‏ بيانَ تمثيل، أو حالٌ من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وترهقهم‏}‏‏.‏
و ‏{‏أغشيت‏}‏ معدَّى غَشِي إذا أحاط وغَطا، فصار بالهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسَا‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُغشي الليلَ النهارَ‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يُغْشِيكُم النعاس‏}‏ في ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والقِطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور‏:‏ جمع قِطعة، وهي الجزء من الشيء، سمي قطعة لأنه يُقتطع من كل غالباً، فهي فعْلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية‏.‏ وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب قِطْعاً‏}‏ بسكون الطاء‏.‏ وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسر بأهلك بقِطْع من الليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مظلماً‏}‏ حال من الليل‏.‏ ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلماً لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم‏:‏ ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكّن ظلمته‏.‏ وشُبهت قَترة وجوههم بظلام الليل‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ هي كجملة ‏{‏أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏
‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏
هذه الجملة معطوفة على جملة ‏{‏والذين كسبوا السيئات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏ باعتبار كونها معطوفة على جملة ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة بإجماللِ حالةٍ جامعةٍ للفريقين ثم بتفصيل حَالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها‏.‏
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعاً، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال، ونحشرهم جميعاً‏.‏ وإنما زيد لفظ ‏{‏يوم‏}‏ في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعماللٍ عظيمة أريد التذكير به تهويلاً وموعظة‏.‏
وانتصاب ‏{‏يوم نحشرهم‏}‏ إما على المفعولية بتقدير‏:‏ اذْكر، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا مكانكم‏}‏ والتقدير‏:‏ ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعاً‏.‏ وضمير ‏{‏نحشرهم‏}‏ للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من الضمير البارز في ‏{‏نحشرهم‏}‏ للتنصيص على إرادة عموم الضمير‏.‏ وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم‏.‏ ومن نكت ذِكر حشر الجميع هُنا التنبيهُ على أن فظيعَ حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين‏.‏
والحشر‏:‏ الجمع من أمكنة إلى مكان واحد‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحشرنا عليهم كل شيء‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ مكانَكم‏}‏ منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره‏:‏ الزموا مكانكم، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر، نحو‏:‏ صَهْ، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره، قال عمرو بن الأطنابة‏:‏
مكانَككِ تحمدي أو تستريحي ***
وأمرُهم بملازمة المكان تثقيف وحَبس‏.‏ وإذ قد جمع فيه المخاطَبون وشركاؤهم عُلِم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين، وهي كون أحد الفريقين عابداً والآخرِ معبوداً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أنتم‏}‏ تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر، وهو المسوغ للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان‏.‏
والشركاء‏:‏ الأصنام‏.‏ وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك، ولذلك أضيف إلى ضميرهم، أي أنتم والذين زَعمتم أنهم شركاء‏.‏ فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم‏.‏
وعطف ‏{‏فزيلْنا‏}‏ بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث‏.‏ ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارناً لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله‏:‏
‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وزيَّل‏:‏ مضاعف زال المتعدي‏.‏ يقال‏:‏ زَاله عن موضعه يَزِيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين، فزيَّل فعل للمبالغة في الزيْل مثل فَرَّق مبالغة في فرق‏.‏ والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوِصَل التي كانت بينهم‏.‏ والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول‏.‏
وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبّادها‏.‏
وجملة ‏{‏وقال شركاؤهم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فزيلنا‏}‏ فهو في حيز التعقيب، ويجوز جعلها حالاً‏.‏
ويقول الشركاء هذا الكلام بخَلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم، وذلك مما يزيدهم ندامة‏.‏ وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم‏.‏ وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذباً‏.‏ وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر‏.‏
والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مُبيناً لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادةً كاملة وهي العبادة التي يقصِد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالماً وآمراً بتلك العبادة‏.‏ ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نَفْيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏ كما تفسره الآية الأخرى وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء إياكم كانوا يعبُدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏
فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها، ويجوز أن يكون نُطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولاً فكانت عقولها مستحدثة يومئذٍ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عَبدوها‏.‏ ويفسر هذا قولهم بعد ذلك ‏{‏إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فكفى بالله شهيدا‏}‏ مؤكدة بالقسم ليُثبتوا البراءة مما ألصق بهم‏.‏ وجواب القسم ‏{‏إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏‏.‏ وليس قولهم‏:‏ ‏{‏كفى بالله شهيدا‏}‏ قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة‏.‏
وعطفت جملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبرٌ غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم‏.‏ والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمَا أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90 93‏]‏‏.‏ ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مُؤكداً لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكِّداً لما بعده بطريق جواب القسم به‏.‏
وهذه الآية لم تفسَّر حق تفسيرها‏.‏
والشهيد‏:‏ الشاهد، وهو المؤيد والمصدّق لدعوى مدع، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏
و ‏(‏كفى‏]‏ بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وليا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وهو صيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم‏.‏ والباء مزيدة للتأكيد‏.‏ وأصله كفى الله شهيداً‏.‏
وانتصب‏:‏ شهيدا‏}‏ على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏ جواب للقسم‏.‏ ‏(‏وإنْ‏)‏ مخففة من ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏ واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏ مفسّرة لضمير الشأن‏.‏ واللام فارقة بين ‏(‏إنْ‏)‏ المؤكدة المخففة و‏(‏إنْ‏)‏ النافية‏.‏
وتقديم قوله‏:‏ ‏{‏عن عبادتكم‏}‏ على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏
‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ‏}‏
تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله‏:‏ ‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ إلى هنا‏.‏ وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة‏.‏
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله‏:‏ ‏{‏نَحْشرهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه‏.‏ واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية‏.‏ وعامله ‏{‏تبلو‏}‏، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه‏.‏
و ‏{‏تبلو‏}‏ تختبر، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين‏.‏ و‏{‏أسلفت‏}‏ قدّمتْ، أي عملاً أسلفته‏.‏ والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه، وضدُه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تبلو‏}‏ بموحدة بعد المثناة الفوقية‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار‏.‏
يجوز أن تكون معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت‏}‏ فتكون من تمام التذييل، ويكون ضمير ‏(‏ردوا‏)‏ عائداً إلى ‏(‏كل نفس‏)‏‏.‏ ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و‏{‏يوم نحشرهم جميعاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ الآية فلا تتصل بالتذييل، أي ونردهم إلينا، ويكون ضمير ‏(‏ردوا‏)‏ عائداً إلى الذين أشركوا خاصة‏.‏ والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه‏.‏ ويناسب هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏مولاهم الحق‏}‏ فإن فيه إشعاراً بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة‏.‏
والرد‏:‏ الإرجاع‏.‏ والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين‏.‏
والمولى‏:‏ السيد، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك‏.‏ ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه‏.‏
والحقّ‏:‏ الموافق للواقع والصدق، أي ردوا إلى الاله الحق دون الباطل‏.‏ والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق، أي الحاق المولوية، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلاً‏.‏
‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح‏.‏
والضلال‏:‏ الضياع‏.‏
و ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام، فيجوز أن يكون ماصْدق ‏(‏ما‏)‏ الموصولة الأصنام، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه، فالتقدير‏:‏ ما كانوا يكذبون عليه أو له‏.‏ وضلاله‏:‏ عدم وجوده على الوصف المزعوم له‏.‏
ويجوز أن يكون ماصدق ‏(‏ما‏)‏ نفس الافتراء، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه‏.‏ وضلاله‏:‏ ظهور نَفْيِه وكذبه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏
انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية‏.‏ وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله‏:‏ ‏{‏مولاهم الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏]‏ لأنها برهان على أنه المستحق للولاية‏.‏
فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية‏.‏
والاستفهام تقريري‏.‏ وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجواببِ لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من السماء والأرض‏}‏ تذكير بأحوال الرزق؛ ليكون أقوى حضوراً في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ‏.‏
و ‏(‏أم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أم من يملك السمع‏}‏ للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏يملك السمع والأبصار‏}‏ يملك التصرف فيهما، وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه‏.‏
وأفرد ‏{‏السمع‏}‏ لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس‏.‏
وأما ‏{‏الأبصار‏}‏ فجيء به جمعاً لأنه اسم، فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏ لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقفُ ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وإخراجُ الحي من الميت‏:‏ هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ مِن الميت‏}‏ للابتداء‏.‏ وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضضِ من الحيوان‏.‏
والتعريف في ‏{‏الحي‏}‏ و‏{‏الميت‏}‏ في المرتين تعريف الجنس‏.‏
وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 27‏]‏‏.‏ غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء‏.‏
وقوله‏:‏ ومن يدبر الأمر‏}‏ تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة‏.‏ وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله‏:‏
‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون الله‏}‏ فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم‏:‏ ‏{‏اللّهُ‏}‏ على السؤال المأمور به النبيءُ عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل ‏{‏قل‏}‏ منزلة الشرط فكأنه قيل‏:‏ إن تَقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51، 52‏]‏‏.‏ وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعباديَ الذين آمنوا يقيمُوا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقل لعبادِي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏‏.‏ التقدير‏:‏ إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا‏.‏ وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يُخَرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام‏.‏ والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور‏.‏
ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جَاءت الفاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لِمَن الأرضُ ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84، 85‏]‏ الآيات‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقل‏}‏ فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم‏.‏ ومفعول ‏{‏تتقون‏}‏ محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك‏.‏
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن‏.‏ وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحاً، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامتْ عليهم الحجة بقوله‏:‏ ‏{‏فقل أفلا تتقون‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏
‏{‏فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏، فالمفرع من جملة المقول‏.‏ واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة مِن أجْل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق، الواهب الإدراك، الخالق، المدبر، لأن اسم الإشارة قد جمعها‏.‏ وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها‏.‏ واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضاً بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية‏.‏ و‏{‏ربكم‏}‏ خبر‏.‏ و‏{‏الحق‏}‏ صفة له‏.‏ وتقدم الوصف بالحق آنفاً في الآية مثل هذه‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏ تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع‏.‏
و ‏{‏ماذا‏}‏ مركَّبٌ من ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية و‏(‏ذا‏)‏ الذي هو اسم إشارة‏.‏ وهو يقع بعد ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية كثيراً‏.‏ وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لِمجرد التأكيد‏.‏ ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنباً من إلزام أن يكون الاسم مزيداً كما هنا‏.‏ وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماذا أراد الله بهذا مثلاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وانظر ما يأتي عند قوله‏:‏ ‏{‏ماذا يستعجل منه المجرمون‏}‏ في هذه ‏[‏السورة‏:‏ 50‏]‏‏.‏
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله‏:‏ إلا الضلال‏}‏‏.‏
و ‏{‏بعْدَ‏}‏ هنا مستعملة في معنى ‏(‏غير‏)‏ باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما الذي يكون إثر انتفاء الحق‏.‏
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهَم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الضلال‏}‏‏.‏ فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما‏.‏ فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل‏.‏ وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل‏.‏
والفاء في ‏{‏فأنَّى تصرفون‏}‏ للتفريع أيضاً، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال‏.‏
و ‏{‏أنَّى‏}‏ استفهام عن المكان، أي إلى مكان تَصرفكم عقولكم‏.‏ وهو مكان اعتباري، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقاً غير موصلة فهو يُصرف من ضلال إلى ضلال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفْسير براعة وإيجازاً ووضوحاً‏.‏
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون الله‏}‏‏:‏ الأولى جوابية، والثانية فصيحة، والبواقي تفريعية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏
تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعدما ظهر لهم من الحجج والآيات، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الأزل‏.‏ والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه‏.‏ والمشبه به هو المشار إليه، وهو حالهم وضلالهم، أي كما شاهدتَ حقَّت كلمة ربك، يعني أن فيما شاهدتَ ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أنهم لا يؤمنون‏}‏ بَدل من ‏(‏كلِمة‏)‏ أو ‏{‏من كلمات‏.‏ والمراد مضمون جملة أنهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏
وقرأ نافع، وابن عامر ‏{‏كلمات ربك‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأها الباقون بالإفراد، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين‏.‏
والفسق‏:‏ الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يُضل به إلا الفاسقين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏
ثم يجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن، فتكون الجملة تذييلاً لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق، ولإفادة كون فسقهم علة في أنْ حقت عليهم كلمة الله، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من ‏{‏حَقَّت‏}‏ أي كذلك الحق حقَّتْ عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏
وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏
استئناف على طريقة التكرير لقوله قبله ‏{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال، وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال آلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن آلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها‏.‏ وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل، وموقع التكرير يزيده استقلالاً‏.‏
والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من آلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ فصار مجموع الجملتين قصراً لصفة بَدْء الخلق وإعادته على الله تعالى قصرَ إفراد، أي دون شركائكم، أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها‏.‏
وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضَرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع‏.‏
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏مكانكم أنتم وشركاؤكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فأنى تؤفكون‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فأنى تصرفون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وأفكهُ‏:‏ قلبه‏.‏ والمعنى‏:‏ فإلى أي مكان تقلبون‏.‏ والقلب مجازي وهو إفساد الرأي‏.‏ و‏(‏أنى‏)‏ هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يُحول فيها التفكير‏.‏ واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضاً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏
‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏
هذا تكرير آخر بعد قوله‏:‏ ‏{‏قل هل من شركائكم من يَبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وهذا استدلال بنقصان آلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق، ومجموع الجملتين مفيد قَصْر صفة الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم قصرَ إفراد، كما تقدم في نظيره آنفاً‏.‏ ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويّهم على ضعيفهم، ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة في مضمحلة‏.‏
والمراد بالحق الدين، وهو الأعمال الصالحة، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح‏.‏
وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم عليه السلام ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ وقول موسى عليه السلام ‏{‏ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هَدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1 3‏]‏‏.‏ وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أفمن يهدي إلى الحق أحق من يتبع‏}‏ إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم‏.‏ وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح، والأرواح مراد منها الاهتداء، فالمقصود الأعلى هو الهداية‏.‏ وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطإ وهو جانب الله تعالى، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري، فاتباعه واجب عقلاً واتباع غيره لا مصحح له، إذ لا غاية ترجى من اتباعه‏.‏ وأفعال العقلاء تصان عن العبث‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أمّن لا يَهدّي إلا أن يُهدى‏}‏ أي الذي لا يهتدي فضلاً عن أن يَهدي غيره، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع‏.‏
والمراد ب ‏{‏من لا يهدي‏}‏ الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء، كما قال إبراهيم ‏{‏يا أبتتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وقد اختلف القراء في قوله‏:‏ ‏{‏أمَّن لا يَهدي‏}‏ فقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بفتح التحتية وفتح الهاء على أن أصله يهتدي، أبدلت التاء دالاً لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى الهاء الساكنة ‏(‏ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع إلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح الهاء مختلساً بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافاً في القراءة‏)‏‏.‏
وقرأ حفص عن عاصم، ويعقوبُ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على الهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر الباء وكسر الهاء بإتباع كسرة الياء لكسرة الهاء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال على أنه مضارع هَدَى القاصر بمعنى اهتدى، كما يقال‏:‏ شَرى بمعنى اشترى‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يُهدى‏}‏ تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده‏.‏ وأريد بالهَدْي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها، فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية، ورُمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في ‏{‏لا يهدي إلا أن يهدى‏}‏‏.‏
وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل ‏{‏إلا أن يهدى‏}‏ بمعنى إهداء العروس، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها، فيقال‏:‏ هديت إلى زوجها‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فمالكم كيف تحكمون‏}‏ تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال‏.‏ واتباعهم هو عبادتهم إياهم‏.‏
ف ‏{‏ما‏}‏ استفهامية مبتدأ، و‏{‏لكم‏}‏ خبر، واللام للاختصاص‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلاً من مكان إلى مكان‏.‏
وقوله العرب‏:‏ مالك‏؟‏ ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه‏.‏ وفي الحديث أن رجلاً قال للنبيء صلى الله عليه وسلم دُلني على عمل يُدخلني الجنة، فقال الناس‏:‏ «مَا لَه مَا لَه» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أرَبٌ مَّا له ‏"‏‏.‏ فإذا كان المستفهم عنه حالاً ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد ‏(‏مَا له‏)‏ كما وقع في الحديث‏.‏
وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏‏:‏ كلام تام، أي أي شيء لكم في عبادة الأوثان‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ ووقف القراء ‏{‏فما لكم‏}‏ ثم يبدأ ‏{‏كيف تحكمون‏}‏‏.‏
وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تناصرون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49‏]‏ ولذلك قال بعض النحاة‏:‏ مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كيف تحكمون‏}‏ استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب‏.‏ ولك أن تجعل هذه الجملة دليلاً على حال محذوفة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏
‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏ باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلَها، فبعد أن أمر الله رسولَه بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل، أي لوهَم ليس فيه شبهة حق‏.‏
والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى أصحاب ضمير ‏{‏شركائكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏ وضمير ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏‏.‏
وإنما عَمَّهم في ضمائر ‏{‏شركائِكم وما لَكم كيف تحكمون‏}‏، وخصّ بالحكم في اتِّباعهم الظن أكثرَهم، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام‏.‏ وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عُقَلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفاً ولكنهم أظهروا عبادتها تبعاً للهوَى وحفظاً للسيادة بين قومهم‏.‏ والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تَخيل، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عُبَّادها فريقاً ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها‏.‏ وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن‏.‏ ففيه إيقاظ لجمهورهم، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطْمئن إليه قلوبهم‏.‏ وهذا كقوله الآتي‏:‏ ‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 40‏]‏‏.‏
والظن‏:‏ يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45، 46‏]‏؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك‏.‏ ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 66‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 118‏]‏‏.‏
وقد أطلق مجازاً على الاعتقاد المخطئ، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ وقول النبي عليه الصلاة والسلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث‏.‏
والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة، قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه‏.‏
وهو العلم المستند إلى دليل راجح مع احتمال الخطإ احتمالاً ضعيفاً‏.‏ وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة‏.‏
فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه، فمحمل قوله هنا‏:‏ ‏{‏إن الظن لا يغني مِن الحق شيئاً‏}‏ أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئاً في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقينُ من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالاً صائباً إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفي فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد‏.‏
و ‏{‏ظناً‏}‏ منصوب على المفعولية به ل ‏{‏يتبع‏}‏‏.‏ ولما كان الظن يقتضي مظنوناً كان اتباع الظن اتباعاً للمظنون أي يتبعون شيئاً لا دليل عليه إلا الظن، أي الاعتقاد الباطل‏.‏
وتنكير ‏{‏ظناً‏}‏ للتحقير، أي ظناً واهياً‏.‏ ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق رداً على اعتقادهم أنهم على الحق‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق‏.‏
والحق‏:‏ هو الثابت في نفس الأمر‏.‏ والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته، وما دل عليها فعل الله مثلُ العلم والقدرة والإرادة‏.‏
و ‏{‏شيئاً‏}‏ مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي لا يغني شيئاً من الإغناء‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ للبدلية، أي عوضاً عن الحق‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله عليم بما يفعلون‏}‏ استئناف للتهديد بالوعيد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم‏.‏ ثم انتقل بعد ذلك إلى سُؤَالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن، وتخلل ذلك كلَّه وصفُ افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقاداً مبنياً على سوء النظر والقياس الفاسد، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضاً بقياسهم أحوالَ النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسُوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك، فقارعتهم هذه الآيةُ بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وما يتبع أكثرهم إلا ظناً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 36‏]‏ بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين‏:‏ شؤون الإلهية وفي شؤون النبوءة، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض على الغرض والقصة على القصة، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ تكملة للجواب عن قولهم ‏{‏ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن، وهي مفيدة للمبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله، أي منسوباً إلى الله كذباً وهو آتتٍ من غيره، فإن قوله‏:‏ ‏{‏ما كان هذا القرآن أن يفترى‏}‏ أبلغ من أن يقال‏:‏ ما هو بمفترى، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود، أي ما وجد أن يفترى، أي وجوده مناف لافترائه، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملاً صادقاً في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال‏:‏ ما كان ليفترى، بلام الجحود، فحُذف لام الجحود على طريقة حَذْف الجار اطراداً مع ‏(‏أنْ‏)‏، ولما ظهرت ‏(‏أنْ‏)‏ هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر ‏(‏أنْ‏)‏ ولا تذكر، فلما ذكر فعل ‏(‏كان‏)‏ الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصداً للإيجاز‏.‏
وإنما عدل عن الإتيان بلام الجحود بأن يقال‏:‏ ما كان هذا القرآن ليفترى، لأن الغالب أن لام الجحود تقع في نفي كون عن فاعل لا عن مفعول بما تدل عليه اللام من معنى الملك‏.‏
واعلم أن الإخبار ب ‏{‏أن‏}‏ والفعل يساوي الإخبار بالمصدر، وهو مصدر بمعنى المفعول لأن صلة ‏{‏أن‏}‏ هنا فعل مبني للنائب‏.‏ والتقدير ما كان هذا القرآن افتراءَ مُفتر، فآل إلى أن المصدر المنسبك من ‏(‏أن‏)‏ مصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، وهو أيضاً أقوى مبالغة من أن يقال‏:‏ ما كان مفترًى، فحصلت المبالغة في جهتين‏:‏ جهة فعل ‏(‏كَان‏)‏ وجهة ‏(‏أن‏)‏ المصدرية‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ للابتداء المجازي متعلقة ب ‏{‏يفترى‏}‏ أي أن يفتريه على الله مفتر‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يفترى‏}‏ وهي في قوة الوصف الكاشف‏.‏
والافتراء‏:‏ الكذب، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 103‏]‏‏.‏
ولما نفي عن القرآن الافتراء أخبر عنه بأنه تصديق وتفصيلٌ، فجرت أخباره كلها بالمصدر تنويهاً ببلوغه الغاية في هذه المعاني حتى اتحد بأجناسها‏.‏
وتصديق الذي بين يديه‏}‏ كونُه مصدقاً للكتب السالفة، أي مبيّناً للصادق منها ومييزاً له عما زيد فيها وأسيء من تأويلها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ كما تقدم في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وأيضاً هو مصدَّق ‏(‏بفتح الدال‏)‏ بشهادة الكتب السالفة فيما أخذت من العهد على أصحابها أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقاً وخاتماً‏.‏ فالوصف بالمصدر صالح للأمرين لأن المصدر يقتضي فاعلاً ومفعولاً‏.‏
والتفصيل‏:‏ التبيين بأنواعه‏.‏ والظاهر أن تعريف الكتاب‏}‏ تعريف الجنس فيستغرق الكتب كلها‏.‏ ومعنى كون القرآن تفصيلاً لها أنه مبين لما جاء مجملاً في الكتب السالفة، وناسخ لما لا مصلحة للناس في دوام حكمه، ودافع للمتشابهات التي ضل بها أهل الكتاب، فكل ذلك داخل في معنى التفصيل، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومهيمناً عليه‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وهذا غير معنى قوله‏:‏ ‏{‏وتفصيلَ كل شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏ في الآية الأخرى‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه مستأنفة ردت مزاعم الذين زعموا أنه مفترى باقتلاع دعوى افترائه، وأنها مما لا يروج على أهل الفِطن والعقوللِ العادلة، فالريب المنفي عنه هو أن يكون من أحواله في ذاته ومقارناته ما يثير الريب، ولذلك كان ريب المرتابين فيه ريباً مزعوماً مدعًى وهو لو راجعوا أنفسهم لوجدوها غير مرتابة‏.‏ وقد تقدم القول في نظير هذا في طالعة سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وموقع قوله‏:‏ ‏{‏من رب العالمين‏}‏ محتمل وجوهاً أظهرها أنه ظرف مستقر في موضع الخبر عن مبتدإ محذوف هو ضمير القرآن، والجملة استئناف ثان، و‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية تؤذن بالمجيء، أي هو وارد من رب العالمين، أي من وحيه وكلامِه، وهذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏
‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترًى من دون الله‏.‏
ولما اختصت ‏{‏أم‏}‏ بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدراً معها حيثما وقعت، فالاستفهام الذي تشعر به ‏(‏أم‏)‏ استفهام تعجيبي إنكاري، والمعنى‏:‏ بل أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء‏.‏
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب، وبتشريف نسبته إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي‏.‏
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله‏.‏ والأمر أمر تعجيز، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن، أي تشابهه في البلاغة وحسننِ النظم‏.‏ وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله في سورة البقرة ‏(‏23‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ وادْعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين هو كقوله في آية البقرة ‏(‏23‏)‏‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏، ومعنى ‏{‏صادقين‏}‏ هنا، أي قولكم أنه افترى، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏استطعتم‏}‏ لظهوره من فعل ‏(‏ادْعوا‏)‏، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏
‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏
‏{‏بل‏}‏ إضرابٌ انتقالي لبيان كنه تكذيبهم، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ إنهم بادروا إلى تكذيبِه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله‏:‏ ‏{‏وما كان هذَا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37‏]‏‏.‏
والتكذيب‏:‏ النسبة إلى الكذب، أو الوصف بالكذب سواء كان من اعتقاد أم لم يكنه‏.‏
واختيار التعْبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ لِمَا تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب، فهم قد كذبوا قبل أن يختبروا، وهذا من شأن الحماقة والجهالة‏.‏
والإحاطة بالشيء‏:‏ الكون حوله كالحَائط، وقد تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُحيطون به علماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأحاط بما لديهم‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏ أي علمِه، فمضى ‏{‏بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ بما لم يتقنوا علمه‏.‏
والباء للتعدية‏.‏ وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المُحاط به وهو المعلوم، وهو هنا القرآن‏.‏ وعدل عن أن يقال بما لم يحيطوا به علماً أو بما لم يحط علمهم به إلى ‏{‏بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ للمبالغة إذ جُعل العِلم معلوماً‏.‏ فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا عِلْمه أشد إتقان فلما نُفي صار لم يحيطوا بعلمه، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر عِلمُ أدلته ثم إعادةُ التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم‏.‏ وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل‏.‏
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه‏.‏ وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونِه مكذوباً‏.‏ ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت‏:‏ فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب‏.‏ ونظير هذه الآية في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 84‏]‏ ‏{‏قال أكذَّبتم بآياتي ولم تُحيطوا بها علماً أم ماذا كنتم تعملون‏}‏
وجملة‏:‏ ولماَّ يأتهم تأويله‏}‏ معطوفة على الصلة، أي كذبوا بما لمّا يأتهم تأويله‏.‏ وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأنَاةِ والتثبت، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل‏.‏
والتأويل‏:‏ مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء‏.‏ وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيراً يظهر المعنى، فيؤول واضحاً بعد أن كان خفياً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏ وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير‏.‏ وقد مرَّ في سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير‏.‏ ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا تأويل رؤْياي من قبل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا تأويله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب‏.‏ والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد، أي لما يأتهم تأويل ما يدَّعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها، مثل حكمة التشريع، ووقوع البعث، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين، وتنزيل القرآن منجماً، ونحو ذلك‏.‏ فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله‏.‏ ولو آمنوا ولازموا النبي صلى الله عليه وسلم لعلموها واحدةً بعد واحدة‏.‏ وأيضاً لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلاً على الكذب كما قالوا‏:‏ ‏{‏إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ايتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ظناً أنهم إن استغضبوا الله عَجَّل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلاً على أن القرآن ليس حقاً من عنده‏.‏ وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق، كقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ ولو أسلموا ولازموا النبي عليه الصلاة والسلام لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضُلال‏.‏
وعلى الوجهين فحرف ‏{‏لمّا‏}‏ موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقَّع الوقوع، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد، فهي بذلك وعد، وأنه سيحِل بهم ما توعدهم به، كقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ الآية‏.‏ فهي بهذا التفسير وعيد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك كذّب الذين من قبلهم‏}‏ استئناف‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى منه السماع‏.‏ والإشارة ب ‏{‏كذلك‏}‏ إلى تكذيبهم المذكور، أي كان تكذيب الذين مِن قبلهم كتكذيبهم، والمراد بالذين من قبلهم الأممُ المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به‏.‏
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك‏.‏
الثاني‏:‏ التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها‏.‏
الثالث‏:‏ تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم‏.‏
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطابُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏ أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء‏.‏
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب‏.‏ والنظر هنا بصري‏.‏
و ‏{‏كيف‏}‏ يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية، كقولهم‏:‏ كن كيف شئت‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فكيف‏}‏ مفعول به لفعل ‏{‏انظر‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏كان عاقبة الظالمين‏}‏ صفة ‏{‏كيف‏}‏‏.‏ والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين، وهي حالة خراب منازلهم خراباً نشأ من اضمحلال أهلها‏.‏
ويجوز أن تكون ‏{‏كيف‏}‏ اسم استفهام، والمعنى فانظر هذا السؤال، أي جوابَ السؤال، أي تدَبره وتفكَّر فيه‏.‏ و‏{‏كيفَ‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏‏.‏ وفعل النظر معلق عن العمل في مفعوليه بما في ‏{‏كيف‏}‏ من معنى الاستفهام‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏ لأن الإخبار عن تكذيبهم بأنه دون الإحاطة بعلم ما كذبوا به يقتضي أن تكذيبهم به ليس عن بصيرة وتأمل‏.‏ وما كان بهاته المثابة كان حال المكذبين فيه متفاوتاً حتى يبلغ إلى أن يكون تكذيباً مع اعتقاد نفي الكذب عنه، ولذلك جاء موقع هذه الآية عقب الأخرى موقع التخصيص للعام في الظاهر أو البيان للمجمللِ من عدم الإحاطة بعلمه، كما تقدم بيانه في قوله‏:‏ ‏{‏بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فكان حالهم في الإيمان بالقرآن كحالهم في اتباع الأصنام إذ قال فيهم‏:‏ ‏{‏وما يتبع أكثرهم إلا ظناً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 36‏]‏، فأشعر لفظ ‏{‏أكثرهم‏}‏ بأن منهم من يعلم بطلان عبادة الأصنام ولكنهم يتبعونها مشايعة لقومهم ومكابرة للحق، وكذلك حالهم في التكذيب بنسبة القرآن إلى الله، فمنهم من يؤمن به ويكتم إيمانه مكابرة وعَداء، ومنهم من لا يؤمنون به ويكذبون عن تقليد لكبرائهم‏.‏
والفريقان مشتركان في التكذيب في الظاهر كما أنبأت عنه ‏(‏من‏)‏ التبعيضية، وضمير الجمع عائد إلى ما عادت إليه ضمائر ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ فمعنى يؤمن به يصدق بحقيته في نفسه ولكنه يظهر تكذيبه جمعاً بين إسناد الإيمان إليهم وبين جعلهم بعضاً من الذين يقولون ‏{‏افتراه‏}‏‏.‏
واختيار المضارع للدلالة على استمرار الإيمان به من بعضهم مع المعاندة، واستمرار عدم الإيمان به من بعضهم أيضاً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بالمفسدين‏}‏ معترضة في آخر الكلام على رأي المحققين من علماء المعاني، وهي تعريض بالوعيد والإنذار، وبأنهم من المفسدين، للعلم بأنه ما ذكر ‏{‏المفسدين‏}‏ هنا إلاّ لأن هؤلاء منهم وإلا لم يكن لذكر ‏{‏المفسدين‏}‏ مناسبة، فالمعنى‏:‏ وربك أعلم بهم لأنه أعلم بالمفسدين الذين هم من زمرتهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏
‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏
لما كان العلم بتكذيبهم حاصلاً مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل، أي الاستمرار على التكذيب‏.‏ وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبِت لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتى به، أي إن أصروا على التكذيب بعدما قارعتْهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تَبرؤوا منك‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏لي عملي ولكم عملكم‏}‏ المتاركة‏.‏ وهو مما أجري مُجرى المثل، ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى، فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب ‏{‏عَملي‏}‏ و‏{‏عَمَلكم‏}‏، ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون، كما عُبر به بعد‏.‏
والبريء‏:‏ الخلي عن التلبس بشيءٍ وعن مخالطته‏.‏ وهو فَعيل من بَرّأ المضاعف على غير قياس‏.‏ وفعل بَرَّأ مشتق من برئ بكسر الراء من كذا، إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به‏.‏
وهذا التركيب لا يراد به صريحُه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة‏.‏ وقد جاء هذا المكنى به مصرحاً به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 216‏]‏، ولذلك فجملة‏:‏ ‏{‏أنتم بريئون مما أعمل‏}‏ إلى آخرها بيان لجملة‏:‏ ‏{‏لي عملي ولكم عملكم‏}‏ ولذلك فصلت‏.‏
وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدراً كما أتي به في قوله‏:‏ ‏{‏لي عملي ولكم عملكم‏}‏ إلى الإتيان به فعلاً صلة ل ‏{‏ما‏}‏ الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه‏.‏ ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد؛ لأن جملة البيان من تمام المبيَّن، ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم، لأن في ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مما أعمل‏}‏ من المد ما يجعله أسعد بمد النَفَس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله‏:‏ ‏{‏مما تعملون‏}‏، ولما في ‏{‏تعملون‏}‏ من المد أيضاً، ولأنه يراعي الفاصلة‏.‏
وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏
‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏
لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين‏:‏ من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه؛ كمُل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين‏:‏ قِسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته‏.‏ وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين؛ فإن سماع كلام النبي وإرشادِه ينير عقول القابلين للهداية، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبي أو رؤية هديه مؤذناً ببلوغهم الغاية في الضلالة مَيئوساً من نفوذ الحق إليهم، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها، فما عُدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ‏}‏ في الموضعين، فطويت جملة‏:‏ ولا ينتفعون أو نحوها لِلإيجاز بدلالة التقسيم‏.‏ وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر‏.‏ والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ مع ما طوي فيها‏.‏ وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتعليم للمسلمين، فقُربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صُم لا يعقلون في أنهم حُرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم‏.‏
وبُني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صَممهم عدم العقل وضموا إلى عَماهم عدم التبصر‏.‏ وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعقلونها، وإذ ينظرون أعماله وسِيرته ولا يهتدون بها، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبي إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبُو عن ذلك‏.‏
وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكاراً، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع ‏(‏لو‏)‏ الوصلية هنا بعدما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها ‏(‏لو‏)‏ الوصلية، بل المعنى بالعكس‏.‏
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقَوّي الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله‏:‏ ‏{‏أفأنت تسمع‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفأنت تهدي‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ‏{‏أتسمع الصم‏}‏ و‏{‏أتهدي العمي‏}‏، فكان هذا التعجيب مؤكداً مقوى‏.‏
و ‏(‏لو‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا لا يعقلون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا لا يبصرون‏}‏، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض‏.‏ ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة ‏(‏لو‏)‏ مضمونها ضِد الجملة التي دخلت عليها ‏(‏لو‏)‏، فيقال هنا‏:‏ أفأنت تسمع الصم لَوْ كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون‏.‏
ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏لا يعقلون‏}‏ ليس لهم إدراك العقول، أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطَبِه واستدل بملامحه‏.‏
وأما معنى‏:‏ ‏{‏لا يبصرون‏}‏ فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها‏.‏ وهو الذي فسر به «الكشاف» وهو الوجه، إذ بدونه يكون معنى‏:‏ ‏{‏لا يبصرون‏}‏ مساوياً لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب ‏(‏لو‏)‏ الوصلية موقعها، إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عمياً‏.‏ ومقتضى كلام «الكشاف» أنه يقال‏:‏ أبصر إذا استعمَل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء‏.‏ وكلامُ «الأساس» يحوم حوله‏.‏ وأيَّاً ما كان فالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏لا يبصرون‏}‏ معنى التأمل، أي ولو انضم إلى عَمى العُمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولاً لفعل ‏{‏يبصرون‏}‏ بالوضع الحقيقي أو المجازي‏.‏ فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق‏.‏
وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارَهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقاباً لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صماً وعمياً‏.‏ فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة‏.‏
وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالاً عن وجه التفرقة بين قوله‏:‏ ‏{‏من يستمعون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من يَنظر‏}‏ إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني‏.‏ وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة‏.‏ وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والإفراد هنا سواء لأن مفاد ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصاً واحداً‏.‏
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ ‏(‏من‏)‏ ومعناها، فلعل الابتداء بالجمع في صلة ‏(‏مَن‏)‏ الأولى الإشارة إلى أن المراد ب ‏(‏من‏)‏ غير واحد معيَّن وأن العدول عن الجمع في صلة ‏(‏من‏)‏ الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد أن حصل فهم المراد، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي ‏(‏يستمع‏)‏ و‏(‏ينظر‏)‏‏.‏ ففعل ‏(‏ينظر‏)‏ لا تلائمه صيغة الجمع لأن حروفه أثقل من حروف ‏(‏يَستمع‏)‏ فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏
‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏
يل، وشمل عموم الناس المشركين الذين يستمعون ولا يهتدون وينظرون ولا يعتبرون‏.‏ والمقصود من هذا التذييل التعريض بالوعيد بأنْ سينالهم ما نال جميع الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسل الله‏.‏ وعموم ‏{‏الناس‏}‏ الأوللِ على بابه وعموم ‏{‏الناس‏}‏ الثاني مراد به خصوص الناس الذين ظلَموا أنفسهم بقرينة الخبر‏.‏ وإنما حسن الإتيان في جانب هؤلاء بصيغة العموم تنزيلاً للكثرة منزلة الإحاطة لأن ذلك غالب حال الناس في ذلك الوقت‏.‏
وهذا الاستدراك أشعر بكلام مطوي بعد نفي الظلم عن الله، وهو أن الله لا يظلم الناس بعقابه من لم يستوجب العقاب ولكن الناس يظلمون فيستحقون العقاب، فصار المعنى أن الله لا يظلم الناس بالعقاب ولكنهم يظلمون أنفسهم بالاعتداء على ما أراد منهم فيعاقبهم عدلاً لأنهم ظلَموا فاستوجبوا العقاب‏.‏
وتقديم المفعول على عامله لإفادة تغليطهم بأنهم ما جنوا بكفرهم إلا على أنفسهم وما ظلموا الله ولا رسله فما أضروا بعملهم إلا أنفسهم‏.‏
وقرأ الجمهور بتشديد نون ‏{‏لكنّ‏}‏ ونصب ‏{‏الناس‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف النون ورفع ‏{‏الناس‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏
‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏
على‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ عطف القصة على القصة عَوْداً إلى غرض من الكلام بعد تفصيله وتفريعه وذم المسوق إليهم وتقريعهم فإنه لما جاء فيما مضى ذكر يوم الحشر إذ هو حين افتضاح ضلال المشركين ببراءة شركائهم منهم أتبع ذلك بالتقريع على عبادتهم الأصنام مع وضوح براهين الوحدانية لله تعالى‏.‏ وإذ كان القرآن قد أبلغهم ما كان يعصمهم من ذلك الموقف الذليل لو اهتدوا به أتبع ذلك بالتنويه بالقرآن وإثبات أنه خارج عن طوق البشر وتسفيه الذين كذبوه وتفننوا في الإعراض عنه واستُوفي الغرض حقَّه عاد الكلام إلى ذكر يوم الحشر مرة أخرى إذ هو حين خيبة أولئك الذين كذبوا بالبعث وهم الذين أشركوا وظهر افتضاح شركهم في يوم الحشر فكان مثلَ رد العجز على الصدر‏.‏
وانتصب ‏{‏يوم‏}‏ على الظرفية لفعل ‏{‏خسر‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم، فارتباط الكلام هكذا‏:‏ وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم‏.‏ وتقديم الظرف على عامله للاهتمام لأن المقصود الأهم تذكيرهم بذلك اليوم وإثبات وقوعه مع تحذيرهم ووعيدهم بما يحصل لهم فيه‏.‏
ولذلك عدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏ دون قد خسروا، للإيماء إلى أن سبب خسرانهم هو تكذيبهم بلقاء الله وذلك التكذيب من آثار الشرك فارتبط بالجملة الأولى، وهي جملة‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم إلى قوله‏:‏ وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28 30‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏نحشرهم‏}‏ بنون العظمة، وقرأه حفص عن عاصم بياء الغيبة، فالضمير يعود إلى اسم الجلالة في قوله قبله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏كأنْ لم يلبثوا إلا ساعة من النهار‏}‏ إما معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏نحشرهم‏}‏ وجملة ‏{‏يتعارفون بينهم‏}‏، وإما حال من الضمير المنصوب في ‏{‏نحشرهم‏}‏‏.‏
و ‏{‏كأن‏}‏ مخففةُ ‏(‏كأنَّ‏)‏ المشددةِ النون التي هي إحدَى أخوات ‏(‏إنَّ‏)‏، وهي حرف تشبيه، وإذا خففت يكون اسمها محذوفاً غالباً، والتقدير هنا‏:‏ كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من النهار‏.‏ وقد دل على الاسم المحذوف ما تقدم من ضمائرهم‏.‏
والمعنى تشبيه المحشورين بعد أزمان مضت عليهم في القبور بأنفسهم لو لم يلبثوا في القبور إلا ساعةً من النهار‏.‏
و ‏{‏من النهار‏}‏ ‏(‏من‏)‏ فيه تبعيضية صفة ل ‏{‏ساعة‏}‏ وهو وصف غير مراد منه التقييد إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب لأن النهار هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في المتعارف، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان كقوله تعالى‏:‏
‏{‏وعلى الأعراف رجال‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ومن هذا ما وقع في الحديث «وإنما أحِلَّت لي ساعة من نهار»، والمقصود ساعة من الزمان وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار‏.‏
والساعة‏:‏ المقدار من الزمان، والأكثر أن تطلق على الزمن القصير إلا بقرينة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏‏.‏
ووجه الشبه بين حال زمن لبثهم في القبور وبين لبثثِ ساعة من النهار وجوهٌ‏:‏ هي التحقق والحصول، بحيث لم يمنعهم طول الزمن من الحشر، وأنهم حشروا بصفاتهم التي عاشوا عليها في الدنيا فكأنهم لم يفنوا‏.‏ وهذا اعتبار بعظيم قدرة الله على إرجاعهم‏.‏
والمقصود من التشبيه التعريض بإبطال دعوى المشركين إحالتهم البعث بشبهة أن طول اللبث وتغير الأجساد ينافي إحياءها ‏{‏يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاماً نخرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏يتعارفون بينهم‏}‏ حال من الضمير المنصوب في ‏{‏نحشرهم‏}‏‏.‏
والتعارف‏:‏ تفاعل من عَرف، أي يعرف كل واحد منهم يومئذٍ من كان يعرفه في الدنيا ويعرفه الآخَر كذلك‏.‏
والمقصود من ذكر هذه الحال كالمقصود من ذكر حالة ‏{‏كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار‏}‏ لتصوير أنهم حشروا على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا في أجسامهم وإدراكهم زيادة في بيان إبطال إحالتهم البعث بشبهة أنه ينافي تمزق الأجسام في القبور وانطفاء العقول بالموت‏.‏
فظهر خسرانهم يومئذٍ بأنهم نفوا البعث فلم يستعدوا ليومه بقبول ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم
تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏
‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏
كانَ ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله‏:‏ ‏{‏قال الكافرون إنّ هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم، والإشارةُ إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر إلى قوله‏:‏ ‏{‏لننظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11 14‏]‏ منذراً بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم، وكان معلوماً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم رأفتُه بالناس ورغبتُه أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه، فربما كان النبي يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم‏.‏ وكان قوله‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏ تصريحاً بإمكان استبقائهم وإيماءً إلى إمهالهم‏.‏ جاء هذا الكلام بياناً لذلك وإنذاراً بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل‏.‏
وجاء الكلام على طريقة إبْهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجاء وإن كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم
والمرادُ ب ‏{‏بعض الذي نعدهم‏}‏ هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك‏}‏‏.‏ فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيتَه أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال‏.‏
فمضمون ‏{‏أو نتوفينك‏}‏ قسيم لمضمون ‏{‏نرينك بعضَ الذي نعدهم‏}‏‏.‏
والجملتان معاً جملتا شرط، وجواب الشرط قوله‏:‏ ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏‏.‏
ولما جعل جواب الشرطين إرجاعَهم إلى الله المكنَّى به عن العقاب الآجِل، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة‏.‏ وأما إراءة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير‏.‏
وإنما كُني عن التعجيل بأن يريد اللّهُ الرسولَ للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه، ولذلك بُني على ضد ذلك ضدّ التعجيل فكُني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذْ كانت حكمة التعجيل هي الانتصافَ للرسول صلى الله عليه وسلم
ولما جعل مضمون جملة‏:‏ ‏{‏نتوفينك‏}‏ قسيماً لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏نرينك‏}‏ تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذَاهُم له انتصاراً له حتى يكون أمره جارياً على سنة الله في المرسلين، كما قال نوح‏:‏
‏{‏رب انصرني بما كذبون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 26‏]‏ وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه‏:‏ ‏{‏ولكل أمة رسول‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 47‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة، وقتل صناديدهم، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلّم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10 16‏]‏‏.‏
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الأرض‏.‏ والبطشة الكبرى‏:‏ بطشة يوم بدر‏.‏
وتأمَّلْ قوله‏:‏ ‏{‏ثم تولوا عنه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا منتقمون‏}‏‏.‏
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضاً إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول‏:‏ لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده‏.‏
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة‏.‏
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازاً محكماً وصارت قوة الكلام هكذا‏:‏ وإمّا نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا، أي مرجعهم ثابت إلينا دوماً فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة‏.‏
وكلمة ‏{‏إما‏}‏ هي ‏(‏إن‏)‏ الشرطية و‏(‏ما‏)‏ المؤكدة للتعليق الشرطي‏.‏ وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة ‏(‏ما‏)‏ بعد ‏(‏إن‏)‏ الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب «الكشاف» في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما نرينّك‏}‏ في سورة ‏[‏غافر‏:‏ 77‏]‏، فلا يقولون‏:‏ إن تكرِمَنِّي أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون‏:‏ إن تُكْرِمْني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال‏:‏ إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول‏:‏ إن تكرمني‏.‏ وشذ قول الأعشى‏:‏
فإما تريْنِي ولي لِمة *** فإنَّ الحوادث أودَى بها
ثم أكد التعليق الشرطي تأكيداً ثانياً بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو مرجعهم‏}‏ للاهتمام‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إلينا مرجعهم‏}‏ اسمية تفيد الدوام والثبات، أي ذلك أمر في تصرفنا دوماً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ثم الله شهيد على ما يفعلون‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏فإلينا مرجعهم‏}‏‏.‏ وحرف ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرُّتبي كما هو شأن ‏(‏ثم‏)‏ في عطفها الجمل‏.‏ والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبةً من المعطوفة عليها فإن جملة‏:‏ ‏{‏ثم الله شهيد على ما يفعلون‏}‏ لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل، والتفصيل أهم من الإجمال‏.‏
وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد‏.‏ وأما كون عذاب الآخرة حاصلاً بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الله شهيد على ما يفعلون‏}‏ خبر مستعمل في معناه الكنائي، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئاً‏.‏
والشهيد‏:‏ الشاهد، وحقيقته‏:‏ المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق‏.‏
وعبر بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يفعلون‏}‏ للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏، وهي بمنزلة السبب لمضمون الجملة التي قبلها‏.‏ وهذه بينت أن مجيء الرسول للأمة هي منتهى الإمهال، وأن الأمة إن كذبت رسولها استحقت العقاب على ذلك‏.‏ فهذا إعلام بأن تكذيبهم الرسول هو الذي يجر عليهم الوعيد بالعقاب، فهي ناظرة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لكل أمة رسول‏}‏ ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء رسولهم‏}‏ الخ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمناً طويلاً‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ ولكل أمة من الأمم ذواتتِ الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهودِ والكلدان‏.‏ والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط‏}‏‏.‏
والفاء للتفريع و‏(‏إذا‏)‏ للظرفية مجردة عن الاستقبال، والمعنى‏:‏ أن في زمن مجيء الرسول يكون القضاء بينهم بالقسط‏.‏ وتقديم الظرف على عامله وهو ‏(‏قضي‏)‏ للتشويف إلى تلقي الخبر‏.‏
وكلمة ‏(‏بين‏)‏ تدل على توسط في شيئين أو أشياء، فتعين أن الضمير الذي أضيفت إليه هنا عائد إلى مجموع الأمة ورسولها، أي قُضي بين الأمةِ ورسولها بالعَدل، أي قضَى اللّهُ بينهم بحسب عملهم مع رسولهم‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولاً فإرسالُه أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مرادَ الله منهم فإن أطاعوه رضي الله عنهم وربحوا، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا‏.‏
وقد أشعر قوله‏:‏ ‏{‏قضي بينهم‏}‏ بحدوث مشاقة بين الكافرين وبين المؤمنين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا تحذير من مشاقة النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار لأهل مكة بما نالهم‏.‏ وقد كان من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ورغبته أن أبقى الله على العرب فلم يستأصلهم، ولكنه أراهم بطشته وأهلك قادتهم يوم بدر، ثم ساقهم بالتدريج إلى حظيرة الإسلام حتى عمهم وأصبحوا دعاته للأمم وحملة شريعته للعالم‏.‏
ولما أشعر قوله‏:‏ ‏{‏قضي بينهم‏}‏ بأن القضاء قضاء زجر لهم على مخالفة رسولهم وأنه عقاب شديد يكاد من يراه أو يسمعه أن يجول بخاطره أنه مبالغ فيه أتي بجملة ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏، وهي حال مؤكدة لعاملها الذي هو ‏{‏قُضي بينهم بالقسط‏}‏ للإشعار بأن الذنب الذي قضي عليهم بسببه ذنب عظيم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏
‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏، والمناسبة أنه لما بيَّنت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد‏.‏
وحُكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏ للدلالة على تكرر صدوره منهم، وأطلق الوعد على الموعود به، فالسؤال عنه باسم الزمان مُؤول بتقدير يدل عليه المقام، أي متى ظهوره‏.‏
والسؤال مستعمل في الاستبطاء، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي إن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به‏.‏ والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا‏.‏
والخطاب بقولهم‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ للرسول، فضمير التعظيم للتهكم كما في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنَّك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ وقوللِ أبي بكر بن الأسود الكناني ‏{‏‏:‏ يخَبّرنا الرسولُ بأنْ سنحْيَاوكيفَ حياة أصداء وهامِ‏}‏ وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أملك‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء وللمسلمين، جمعوهم في الخطاب لأن النبي أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعاً لتكذيب النبي وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به‏.‏ وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏لا أملك لنفسي ضَراً ولا نفعاً‏}‏‏:‏ لا أستطيع، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضَراً ولا نفعاً‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء‏.‏ والمقصود من جمع الأمرين الإحاطةُ بجنسي الأحوال‏.‏ وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية‏.‏
وقوله‏:‏ إلا ما شاء الله‏}‏ استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي‏.‏ وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي، أي بطريق برهاني، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً فعدم استطاعته ما فيه ضَر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه، فلو كان الله مقدراً إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته، لأن بعض أسبابها في مقدرته، فلا جرم كان الإنسان مسيّراً في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه‏.‏
فكان معنى الجواب‏:‏ أن الوعد من الله لا مِني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلاً عند الله‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ من المقول المأمور به، وموقعها من جملة‏:‏ ‏{‏لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً‏}‏ موقع العلة لأن جملة ‏{‏لا أملك لنفسي‏}‏ اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم‏.‏ ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله‏.‏
وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ قضية كلية تشمل كل أمة‏.‏ ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم‏:‏ أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ صفة ل ‏(‏أجل‏)‏، أي أجل محدود لا يقبل التغير‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ في هذه الآية مشربة معنى الشرط، فلذلك اقترنت جُملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في ‏(‏إذا‏)‏ معاملة جواب الشرط‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏
هذا جواب ثان عن قولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به، كما حكي عنهم في الآية الأخرى ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمتَ علينا كِسفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90 92‏]‏، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطئ بالإبطال‏.‏ وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذٍ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم‏.‏ وهذا كما قال بعض الواعظين‏:‏ نحن نريد أن لا نموت؛ حتى نتوب؛ ونحن لا نتوب حتى نموت‏.‏
ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذالعذاب الموعود بقوله‏:‏ ‏{‏إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً‏}‏ تخييلاً يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلاً قريباً أو أقلَّ قرباً، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلاً مَا لصورة وقوع العذاب استحضاراً له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازاً لِفرصة الموعظة، كالتذكير به في قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 47‏]‏‏.‏
والبيات‏:‏ اسم مصدر التبييت، ليلاً كالسلام للتَّسليم، وذلك مباغتة‏.‏ وانتصب ‏{‏بياتاً‏}‏ على الظرفية بتقدير مضاف، أي وقت بيات‏.‏
وجواب شرط ‏{‏إن أتاكم عذابه‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ماذا يستعجل منه المجرمون‏}‏ الذي هو ساد مسد مفعولي ‏(‏أرأيتم‏)‏ إذ علقه عن العمل الاستفهام ب ‏(‏ماذا‏)‏‏.‏
و ‏{‏ماذا‏}‏ كلمتان هما ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية و‏(‏ذا‏)‏‏.‏ أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده‏.‏ واستعمل ‏(‏ذا‏)‏ مع ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفاً‏.‏ وقد يظهر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله‏.‏
و ‏(‏مِن‏)‏ للتبعيض‏.‏ والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب، أي لا شيء من العذاب بصالححٍ لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله‏.‏
وفائدة الإشارة إليه، تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى‏:‏
‏{‏ماذا أراد الله بهذا مثلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون، فجملة ‏{‏يستعجل منه‏}‏ في موضع الحال من اسم الإشارة، أي أن مثله لا يُستعجل بل شأنه أن يُستأخَر‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ بيانية، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد‏.‏
واعلم أن النحاة يذكرون استعمال ‏(‏ماذا‏)‏ بمعنى ‏(‏ما الذي‏)‏ وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالاً مطرداً‏.‏ وقد حقق ابن مالك في «الخلاصة» إذ زاد قيداً في هذا الاستعمال فقال
ومثل ما، ذا بعد ما استفهام *** أو مَن إذا لم تلغ في الكلام
يريد إذا لم يكن مزيداً‏.‏ وإنما عبر بالإلغاء فراراً من إيراد أن الأسماء لا تزاد‏.‏ والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب «مغنى اللبيب» في فصل عقده ل ‏(‏ماذ‏)‏ وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض‏.‏ وانظر ما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏ المتقدم آنفاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماذا أراد الله بهذا مثلاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏
والمجرمون‏:‏ أصحاب الجرم وهو جرم الشرك‏.‏ والمراد بهم الذين يقولون ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ماذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام، وللتنبيه على خَطَئِهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يُفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلاّ شراً‏.‏
وعطفت جملة‏:‏ ‏{‏أثم إذا ما وقع‏}‏ بحرف المهلة للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأن ‏(‏ثم‏)‏ في عطفها الجمل، لأن إيمانهم بالعذاب الذي كانوا ينكرون وقوعه حين وقوعه بهم أغرب وأهم من استعجالهم به‏.‏ وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير كما هو استعمالها مع حروف العطف المفيدة للتشريك‏.‏ والتقدير‏:‏ ثم أإذا ما وقع، وليس المراد الاستفهام عن المهلة‏.‏
والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب، وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار بمعنى التغليط وإفساد رأيهم، فإنهم وعدوا بالإيمان عند نزول العذاب استهزاء منهم فوقع الجواب بمجاراة ظاهر حالهم وبيان أخطائهم، أي أتؤمنون بالوعد عند وقوعه على طريقة الأسلوب الحكيم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏.‏‏]‏
وكلمة ‏{‏آلآن‏}‏ استفهام إنكاري عن حصول إيمانهم عند حلول ما توعدهم، فعبر عن وقت وقوعه باسم الزمان الحاضر وهو ‏(‏الآن‏)‏ حكاية للساننِ حاللِ منكر عليهم في ذلك الوقت استحضر حال حلول الوعد كأنه حاضر في زمن التكلم، وهذا الاستحضار من تخييل الحالة المستقبلة واقعة‏.‏
ولذلك يحسن أن نجعل ‏(‏آلآن‏)‏ استعارة مكنية بتشبيه الزمن المستقبل بزمن الحال، ووجه الشبه الاستحضار‏.‏ ورمز إلى المشبه به بذكر لفظ من روادفه، وهو اسم الزمن الحاضر‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وقد كنتم به تستعجلون‏}‏ ترشيح، وإما تقدير قول في الكلام، أي يقال لهم إذا آمنوا بعد نزول العذاب آلآن آمنتم، كما ذهب إليه أكثر المفسرين‏.‏ فذلك تقدير معنى لا تقدير نظم وإعراب لأن نظم هذا الكلام أدق من ذلك‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏تستعجلون‏}‏ تكذبون، فعبر عن التكذيب بالاستعجال حكايةً لحاصل قولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ الذي هو في صورة الاستعجال، والمرادُ منه التكذيب‏.‏
وتقديم المجرور للاهتمام بالوعد الذي كذبوا به، وللرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏
‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏
معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 50‏]‏ الآية‏.‏ و‏(‏ثم‏)‏ للتراخي الرتبي، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 50‏]‏ فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا، فذلك موقع عطف جملته بحرف ‏(‏ثم‏)‏‏.‏
وصيغة المضي في قوله‏:‏ ‏{‏قيل للذين ظلموا‏}‏ مستعملة في معنى المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه مثل ‏{‏أتَى أمرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏.‏‏]‏
والذين ظلموا هم القائلون ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك‏.‏ ومعنى ظلموا‏:‏ أشركوا‏.‏
والذوق‏:‏ مستعمل في الإحساس، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق‏.‏
والاستفهام في ‏{‏هل تجزون‏}‏ إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء بعده الاستثناء ‏{‏إلا بما كنتم تكسبون‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون‏}‏ استئناف بياني لأن جملة ‏{‏ذوقوا عذاب الخلد‏}‏ تثير سؤالاً في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏
‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏
هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافاً به، ومرة يُقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه‏:‏ أهذا العذاب الخالد، أي عذاب الآخرة، حق‏.‏
فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم، وضمير ‏(‏هو‏)‏ عائد إلى ‏{‏عذاب الخلد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 52‏]‏‏.‏
والحق‏:‏ الثابت الواقع، فهو بمعنى حاقّ، أي ثابت، أي أن وقوعه ثابت، فأسند الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أحق هو‏}‏ استفهامية معلقة فعل ‏{‏يستنبئونك‏}‏ عن العمل في المفعول الثاني، والجملة بيان لجملة ‏{‏يستنبئونك‏}‏ لأن مضمونها هو الاستثناء‏.‏
والضمير يجوز كونه مبتدأ، و‏{‏أحقّ‏}‏ خبر مقدم‏.‏
واستعملوا الاستفهام تَبالُها، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولاً ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطاً لهم واغتناماً لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذْ جمع بين حرف ‏{‏إي‏}‏ وهو حرف جواب يحقق به المسؤول عنه، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب، وبالقسم، وإنّ، ولام الابتداء، وكلها مؤكدات‏.‏
والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقْسم عليه‏.‏ ولما كان المقسم عليه جواباً عن استفهامهم كان مضمون ‏{‏ما أنتم بمعجزين‏}‏ جواباً عن الاستفهام أيضاً باعتبار ما أضمروه من التكذيب، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه‏.‏ وليس فعل ‏{‏يستنبئونك‏}‏ مستعملاً في الظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام‏.‏
و ‏{‏إي‏}‏ بكسر الهمزة‏:‏ حرف جواب لتحْقيق ما تضمنه سؤال سائل، فهو مرادف ‏(‏نَعم‏)‏، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم‏.‏
والمعجزون‏:‏ الغالبون، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم، أي بمفلتين‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏
‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏
الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملة ‏{‏إي وربي إنه لحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏ إعلاماً لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلِّق الثاني لفعل ‏(‏افتدت‏)‏ لأنه يقتضي مفدياً به ومفدياً منه، أي لافتدت به من العذاب‏.‏
والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر ‏{‏كل نفس‏}‏ دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به‏.‏
وجملة ‏{‏أن لكل نفس ظلمتْ ما في الأرض‏}‏ واقعة موقع شرط ‏(‏لو‏)‏‏.‏
و ‏{‏ما في الأرض‏}‏ اسم ‏(‏أن‏)‏‏.‏ و‏{‏ولكل نفس‏}‏ خبر ‏(‏أن‏)‏ وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك‏.‏ وجملة ‏{‏ظلمت‏}‏ صفة لِ ‏{‏لنفس‏}‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏لافتدت به‏}‏ جواب ‏(‏لو‏)‏‏.‏
فعموم ‏{‏كل نفس‏}‏ يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم‏.‏
ومعنى ‏{‏ظلمت‏}‏ أشركت، وهو ظلم النفس ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏
و ‏{‏ما في الأرض‏}‏ يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء‏.‏
و ‏(‏افتدى‏)‏ مرادف فدى‏.‏ وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به‏.‏
جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام‏.‏ وضمير ‏{‏أسروا‏}‏ عائد إلى ‏{‏كل نفس‏}‏ باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبَلي بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه حتى كأنَّه قد مضى، والمعنى‏:‏ وسيسرُّون الندامة قطعاً‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وقُضيَ بينهم‏}‏‏.‏
والندامة‏:‏ الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قولٌ أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولاً ولا فعلاً فقد أسر الندامة، أي قصرها على سِره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخاً ولا عويلاً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وقُضي بينهم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وأسروا‏}‏ مستأنفة‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏قضي بينهم‏}‏ قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 47‏]‏ فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلنَسألنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ حالية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏
‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏
تذييل تنهية للكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوْم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين‏.‏ وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه‏.‏
فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفاً لا يشاركه فيه غيره؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس‏.‏ ثم أعقب بتحقيق وعده، وأعقب بتجهيل منكريه، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث‏.‏
وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفاً‏.‏
وتأكيد الخبر بحرف ‏{‏إن‏}‏ للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله‏.‏ ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ لأن ذلك اضطراب وخبط‏.‏
وقدم خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم الشركة كما علمت‏.‏
وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر‏.‏
واللام في ‏{‏لله‏}‏ للملك، و‏(‏ما‏)‏ اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية‏.‏
ووعْد الله‏:‏ هو وعده بعذاب المشركين، وهو وعيد، ويجوز أن يكون وعده مراداً به البعث، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعْداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ فسمَّى إعادة الخلق وعْداً‏.‏
وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة لتجري مجرى المثل والكلام الجامع‏.‏
ووقع الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون‏}‏ لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما، فكأنه قيل‏:‏ لا شك يَحق في ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يَشكّون‏.‏
وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة، كما قال في الآية السابقة ‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ للمتحدث عنهم فيما تقدم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏
استئناف أو اعتراض، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رُسلَها، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله إلى قوله‏:‏ ولو كانوا لا يبصرون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37 43‏]‏‏.‏ فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به، ولذلك كان الخطاب هنا عاماً لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول‏.‏ وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب ‏{‏يأيّها الناس‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة‏.‏
ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب ‏{‏يأيها الناس‏}‏ فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك‏.‏
وافتتاح الكلام ب ‏{‏قد‏}‏ لتأكيده، لأن في المخاطبين كثيراً ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن‏.‏
والمجيء‏:‏ مستعمل مجازاً في الإعلام بالشيء، كما استعمل للبلوغ أيضاً، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر، يُقال‏:‏ بلغني خبر كذا، ويقال أيضاً‏:‏ جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا‏.‏ وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز‏.‏
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي‏:‏ أنه موعظة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه هدى، وأنه رحمةٌ للمؤمنين‏.‏
والموعظة‏:‏ الوعظ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر‏.‏ وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظهم‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ووصفها ب من ربكم‏}‏ للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها‏.‏
والشفاء تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وحقيقته‏:‏ زوال المرض والألم، ومجازه‏:‏ زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا‏.‏
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال‏.‏
والهدى تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ في طالع سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وأصله‏:‏ الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود‏.‏ ومجازه‏:‏ بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة‏.‏
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة‏.‏
وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكسَ له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليماً وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبَا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلاً لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبَّهة بأجزاء الهيئة المشبَّه بها، فزواجرُ القرآن ومواعظه يُشبَّه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطالُه العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمُه الدينية وآدابه تشبَّه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية، وعبر عنها بالهَدى، ورحمتُه للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية‏.‏
ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلاً كأظفار المنية‏.‏ ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع‏.‏
فالأوصاف الثلاثة الأُول؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك مَن قَبِلها وعمل بها، ومن أعرض عنها ونبذها، إلا أن وصفه بكونه هدًى لمَّا كان وصفاً بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع‏.‏ والوصف الرابع وهو الرحمة، خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأُول، فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة‏.‏ وهو ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏
فقَيْد ‏{‏للمؤمنين‏}‏ متعلق ب ‏{‏رحمة‏}‏ بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين‏.‏ ومن المحققين من جعله قيداً ل ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ ناظراً إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون‏.‏
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ فكانت عامة لمن خوطب ب ‏{‏يأيُّها الناس‏}‏‏.‏ وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله‏.‏
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حَصَلت له حقيقتُهما، وأما لمن لم تحصل له آثارهما، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق‏.‏
وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه ‏{‏شفاء ورحمة للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وصرح في آية ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ بأنه ‏{‏هدى للمتقين،‏}‏ فالأظهر أن قيد للمؤمنين راجع إلى ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ معاً إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات، وأما رجوعه إلى ‏{‏شفاء‏}‏ فمحتمل، لأن وصف ‏{‏شفاء‏}‏ قد عُقب بقيد ‏{‏لما في الصدور‏}‏ فانقطع عن الوصفين اللذين بعده، ولأن تعريف ‏{‏الصدور‏}‏ باللام يقتضي العموم، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله‏.‏ وهو إطلاق كثير‏.‏ وصَدَّر به في «اللسان» و«القاموس»، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 69‏]‏‏.‏
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم‏}‏ فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة‏.‏ ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم، كما دل عليه قوله بعده‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ أي المؤمنون‏.‏ وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174، 175‏]‏ فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏
‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏
يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حُرم منها أكثر المؤمنين ومُنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع‏.‏
وجيء بالأمر بالقول معترضاً بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويهاً بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمراً خاصاً بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأموراً بأن يقوله‏.‏
وتقدير نظم الكلام‏:‏ قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بِذلك ليفرحوا‏.‏
فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليفرحوا‏}‏ فاء التفريع، و‏{‏بفضل الله وبرحمته‏}‏ مجرور متعلق بفعل ‏{‏فليفرحوا‏}‏ قُدم على متعلَّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعَرض المال فقالوا‏:‏ نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏.‏
والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فبذلك‏}‏ للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار‏.‏ ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيداً لفاء التفريع التي في ‏{‏فليفرحوا‏}‏ لأنه لما قدم على متعلَّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل ‏(‏ليفرحوا‏)‏ فصار مفيداً مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع‏.‏ وتقدير معنى الكلام‏:‏ قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه‏.‏
والفرح‏:‏ شدة السرور‏.‏
ولك أن تجعل الكلام استئنافاً ناشئاً مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن‏.‏ ولما قدم المجرور وهو ‏{‏بفضل الله وبرحمته‏}‏ حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط‏.‏ وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «ففيهما فجاهد»، وقوله‏:‏ «كما تكونوا يوَلَّ عليكم» بجزم ‏(‏تكونوا‏)‏ وجزم ‏(‏يول‏)‏‏.‏ فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبذلك‏}‏ رابطة للجواب، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليفرحوا‏}‏ مؤكدة للربط‏.‏
ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته‏.‏ وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ فضل الله القرآن‏.‏ ورحمته أن جعلكم من أهله ‏(‏يعني أن هداكم إلى اتباعه‏)‏‏.‏ ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏ مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين‏.‏
وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة‏.‏ والضمير عائد إلى اسم الإشارة، أي ذلك خير مما يجمعون‏.‏
و ‏{‏ما يجمعون‏}‏ مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جمع مالاً وعدده‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه‏.‏
وضمير ‏{‏يجمعون‏}‏ عائد إلى ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موعظة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ بقرينة السياق وليس عائداً إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏يفرحوا‏}‏ فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها، كقول عباس بن مرداس‏:‏
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا مَا جمَّعوا
ضمير ‏(‏أحرزوا‏)‏ عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله‏:‏ ‏(‏جمعهم‏)‏‏.‏ وضمير ‏(‏جمَّعوا‏)‏ عائد إلى المسلمين، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمَعه المسلمون من الغنائم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعمروها أكثر مما عمروه‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور، وهو أيضاً المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذٍ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر‏.‏ وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 14، 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم‏:‏ ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد قال الله للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52، 53‏]‏ حين قال له المشركون‏:‏ لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خيرٌ منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة‏.‏ وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يجمعون‏}‏ المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة‏.‏
والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يجمعون‏}‏ بياء الغيبة فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب ‏{‏مما تجمعون‏}‏ بتاء الخطاب فيكون خطاباً للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك‏.‏ ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفاً، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة‏.‏
وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي‏.‏ وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافتُه الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل ‏{‏يجمعون‏}‏ إلى ضمير ‏{‏الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وهذا الفضل أخروي ودنيوي‏.‏ أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مَرضية‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏ فجعل رضاها حالاً لها وقت رجوعها إلى ربها‏.‏ قال فخر الدين‏:‏ «والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به‏.‏ وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد»‏.‏
ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏
استئناف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين‏.‏ وافتتاحه ب ‏{‏قل‏}‏ لقصد توجه الأسماع إليه‏.‏ ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته‏.‏ فلما استوفى ذلك بأوضح حجة، وبانت لِقاصد الاهتداء المَحجة، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم، فإنه بعد أن كان تكذيباً بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها، فإنهم قد وضعوا ديناً فجعلوا بعض أرزاقهم حلالاً لهم وبعضها حراماً عليهم فإن كان ذلك حقاً بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتَروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل‏.‏‏.‏
ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن آخر الكلام المتقدم جملة ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏، أي من أموالهم‏.‏ وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالاً ومنها حراماً وكَفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة، وأبواباً من الخير في وجوههم مغلقة‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ و‏{‏ءَالله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏ تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين‏:‏ إما أن يكون الله أذن لهم، أو أن يكونوا مفترين على الله، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين‏.‏
والرؤية علمية، و‏{‏ما أنزل الله لكم من رزق‏}‏ هو المفعول الأول ل ‏(‏رأيتم‏)‏، وجملة ‏{‏فجعلتم منه‏}‏ الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه‏.‏ والاستفهام في ‏{‏آلله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏ مفعول ثان ل ‏(‏رأيتم‏)‏، ورابط الجملة بالمفعول محذوف، تقديره‏:‏ أذنكم بذلك، دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فجعلتم منه حراماً وحلالاً‏}‏‏.‏
و ‏{‏قل‏}‏ الثاني تأكيد ل ‏{‏قل‏}‏ الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه‏.‏ وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏ وفعل الرؤية معلق عن العمل في المفعول الثاني؛ لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني‏.‏ وزعم الرضي أن الرؤية بصرية‏.‏ وقد بسطت القول في ذلك عند قوله‏:‏
‏{‏أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏
و ‏{‏أم‏}‏ متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين‏.‏
والرزق‏:‏ ما ينتفع به‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أو مما رزقكم الله‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال؛ لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار، ومعظم أموالهم الأنعام، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24، 32‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ أي سبب رزقكم وهو المطر‏.‏ وقد عُرف العرب بأنهم بنو ماء السماء‏.‏ وهو على المجاز في كلمة ‏(‏بني‏)‏ لأن الابن يطلق مجازاً على الملازم للشيء‏.‏ وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ بهذا الاعتبار‏.‏
والمجعول حراماً هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حِجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حُرمت ظهورها وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومُحرَّم على أزواجنا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 138، 139‏]‏‏.‏
ومحل الإنكار ابتداءً هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراماً عليهم‏.‏ وأما عطف حلالاً‏}‏ على ‏{‏حراماً‏}‏ فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراماً ومَيَّزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضاً حلالاً، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراماً وأبقَوا بعض الحلال على الحل، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالاً ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراماً وبعضه حلالاً، وإلا فإنهم لم يجعلوا ما كان حراماً حلالاً إذ لم يكن تحريم في الجاهلية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏حلالاً‏}‏ عطف على ‏{‏حراماً‏}‏ والتقدير‏:‏ ومنه حلالاً، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراماً وحلالاً، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم‏.‏
وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏آلله أذن لكم‏}‏ لتقوية الحكم مع الاهتمام‏.‏ وتقديم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏أم على الله تفترون‏}‏ للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعاً لتعليق الافتراء به‏.‏ وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه‏.‏
وحذف متعلق ‏{‏أذن‏}‏ لظهوره‏.‏ والتقدير‏:‏ آلله أذن لكم بذلك الجعل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏
‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏جملة قل أرأيتم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 59‏]‏، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ للاستفهام‏.‏ والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم‏.‏ والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم‏.‏
ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ‏(‏هم‏)‏ مضافاً إليه الظن إما ضميرَ خطاب أو غيبة‏.‏ فيقال‏:‏ وما ظنكم أو وما ظنهم، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترْديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرَّموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم، فإذ تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم‏.‏ وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة‏.‏
وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له، أي ما ظنهم بحالهم وبجزائهم وبأنفسهم‏.‏ وانتصب ‏{‏الكذبَ‏}‏ على المفعول المطلق، واللام فيه لتعريف الجنس، كأنه قيل كذباً، ولكنه عرف لتفظيع أمره، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول‏.‏
و ‏{‏يوم القيامة‏}‏ منصوب على الظرفية وعامله الظن، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذٍ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون، وهذا تهويل‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ تذييل للكلام المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موْعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وفيه قطع لعذر المشركين، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏
‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏
معطوفة على جملة ‏{‏وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 60‏]‏ عطفَ غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعدُ بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه‏.‏ وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏إلا كنا عليكم شهوداً‏}‏ لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين‏}‏‏.‏ ويتضمن ذلك تنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يُلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ الأولى و‏{‏ما‏}‏ الثانية نافيتان‏.‏
والشأن‏:‏ العمل المهم والحال المهم‏.‏ و‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس‏.‏
وضمير ‏(‏منه‏)‏ إما عائد إلى ‏(‏شأن‏)‏، أي وما تتلو من الشَّأن قرآناً فتكون ‏(‏مِن‏)‏ مبينة ل ‏(‏ما‏)‏ الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآناً‏.‏ وعَطْف ‏{‏وما تتلو‏}‏ من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏
وإما عائد إلى ‏{‏قرآن‏}‏، أي وما تتلو من القرآن قرآناً، فتكون ‏{‏منه‏}‏ للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع‏.‏ وواو ‏(‏تتلو‏)‏ لام الكلمة، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم
فيكون الكلام قد ابتدئ بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل، وثُنِّي بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثُلِّث بما هو من شؤون الأمة في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعمَلون من عمل‏}‏ فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملاً للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تَعملون‏}‏ فلا يبقى مراداً منه إلا ما يعمله بقية المسلمين‏.‏
ووقع النفي مرتين بحرف ‏(‏ما‏)‏ ومرة أخرى بحرف ‏(‏لا‏)‏ لأن حرف ‏(‏ما‏)‏ أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولاً استحضار الحال العظيم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها‏.‏
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواءٌ، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز‏.‏ وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة ‏{‏تكونُ وتتلو وتعملون‏}‏ وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها ‏{‏إلاَّ كنا‏}‏ للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباس كأنه قيل‏:‏ وما كنتم وتكون وهكذا، إلاَّ كنا ونكون عليكم شهودا‏.‏
و ‏{‏من عمل‏}‏ مفعول ‏{‏تعملون‏}‏ فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه ‏(‏من‏)‏ للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كنا عليكم شهوداً‏}‏ استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العَمل، أي إلا في حالة علمْنا بذلك، فجملة ‏{‏كنا عليكم‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف ‏(‏قد‏)‏ لأن الربط ظاهر بالاستثناء‏.‏
والشهود‏:‏ جمع شاهد‏.‏ وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعاً لضمير الجمع المستعمل للتعظيم، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن عُلبة الحارثِي‏:‏
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم *** لشيء ولا أني من الموت أفرق
وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها‏.‏
والشاهد‏:‏ الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف ‏(‏على‏)‏‏.‏
و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف، أي حين تفيضون‏.‏
والإفاضة في العمل‏:‏ الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين‏.‏ وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماماً بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل‏:‏ ولا تعملون من عمللٍ مَّا وعمللٍ عظيممٍ تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهوداً حين تعملونه وحين تفيضون فيه‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما يعزب عن ربك‏}‏ الخ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وما تكون في شأن‏}‏، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين‏.‏
والعزوب‏:‏ البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفواتتِ العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال‏:‏ ‏{‏عن ربك‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يعزب‏}‏ بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي وهما وجهان في مضارع ‏(‏عزب‏)‏‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من مثقال ذرة‏}‏ مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في ‏{‏ما يعزب‏}‏‏.‏
والمِثقال‏:‏ اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء فهو وزن مِفعال من ثَقُل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل‏.‏
والذرة‏:‏ النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبارٍ دقيق جداً، والظاهر أن المراد في الآية الأولُ‏.‏ وذُكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن مَا هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم‏.‏
والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي‏.‏ والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة‏.‏ وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏}‏ فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض‏.‏
وعطف ‏{‏ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏}‏ على ‏{‏ذرة‏}‏ تصريحاً بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام‏.‏
و ‏{‏أصغر‏}‏ بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعاً من الصرف لأنه معطوف على ‏{‏ذرة‏}‏ المجرور على أنَّ ‏{‏لا‏}‏ مقحمة لتأكيد النفي‏.‏ وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون ‏{‏لا‏}‏ نافية للجنس ‏{‏وأصغر‏}‏ اسمها مبنياً على الفتح فيكون ابتداء كلام‏.‏
وقرأ حمزة وخلف ويعقوب ‏{‏ولا أصغرُ ولا أكبرُ‏}‏ برفعهما باعتبار عطف ‏{‏أصغر‏}‏ على محل ‏{‏مثقال‏}‏ لأنه فاعل ‏{‏يعزب‏}‏ في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون ‏{‏لا‏}‏ نافية عاملة عمل ليس و‏{‏أصغر‏}‏ اسمها‏.‏
والاستثناء على الوجهين الأوَّلين من قراءتي نصب ‏{‏أصغرَ‏}‏ ورفعه استثناء منقطع بمعنى ‏(‏لكن‏)‏، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغرَ منها وأكبر‏.‏ وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده‏.‏ والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه في كتاب مُبين، أي إلا معلوماً مكتوباً ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني‏.‏
والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلاً والمجرور ظرفاً مستقلاً في محل خبر ‏(‏لا‏)‏ النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏
والكتاب‏:‏ علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان‏.‏ ومبين‏:‏ اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بيّن لا احتمال فيه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏
‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏
استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ الآية، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبيء والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه ‏{‏لا تَبديل لكلمات الله‏}‏‏.‏
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏، ولذلك أكدت الجملة بإنَّ‏}‏ بعد أداة التنبيه‏.‏
وفي التعبير ب ‏{‏أولياء الله‏}‏ دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله‏:‏ ‏{‏وما تعملون من عمل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏
والخوف‏:‏ توقع حصول المكروه للمتوقِّع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله‏.‏ فيقال‏:‏ خاف الشيْء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخافوهم وخَافون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏.‏ وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع‏:‏ خاف عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 135‏]‏‏.‏
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن ‏(‏لا‏)‏ إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم ‏(‏لا‏)‏ وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديثثِ أم زرع «زوجي كلَيْللِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح‏.‏
فمعنى ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏ أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمننٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى‏:‏
‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25، 26‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏{‏لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون‏}‏‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول‏:‏ «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض» ثم خرج وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير ‏{‏أولياء الله‏}‏ مع الابتداء به، وإيراد الفعل بَعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم «وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون» فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ لأن جملة‏:‏ ‏{‏هم يحزنون‏}‏ يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصاً منه‏.‏
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم‏.‏ ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم‏.‏ وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏
والولي‏:‏ الموالي، أي المحالف والناصر‏.‏ وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي ‏(‏بسكون اللام‏)‏، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله اتخذ ولياً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة‏.‏ وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة‏:‏ لا خوف عليهم‏}‏ خبر ‏{‏إنّ‏}‏ ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفاً جارياً على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه‏.‏
5 وأياً ما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر‏:‏
الألْمعِي الذي يظن بك الظَّنَّ *** كأنْ قد رأى وقد سَمعا
ودل قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ على أن التقوى ملازمة لهم أخذاً من صيغة ‏{‏كانوا‏}‏ وأنها متجددة منهم أخذاً من صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يتقون‏}‏‏.‏ وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خَلَتْ في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يُعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعاً وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ من عادَى لي ولياً فقد آذنته بحرب ‏"‏‏.‏
وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏ وتعريف ‏{‏البشرى‏}‏ تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة‏.‏
و ‏{‏في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ حال من ‏{‏البشرى‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها‏:‏ في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏
وروى الترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏ ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أوْ ترى له ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ وليس فيه عطاء بن يسار أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء، وعليه فالحديث منقطع غير متصل السند‏.‏ وقد رواه الترمذي بسندين آخرين فيهما عطاء بن يسار عن رجل من أهل مِصر عن أبي الدرداء وذلك سند فيه مجهول، فحالة إسناد هذا الخبر مضطربة لظهور أن عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء‏.‏
ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله‏:‏ ‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏ الآية ونحوها من الآيات‏.‏
وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية ‏{‏لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ قال‏:‏ هي الرؤيا الصالحة يَراها الرجل أوْ تُرى له‏.‏ ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء، وتمكينُهم من السلطان في الدنيا، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة‏.‏
ومقابلة الحَزَن بالبشرى من محسنات الطباق‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏ مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏، تذكيراً لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل‏.‏
والتبديل‏:‏ التغيير والإبطال، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه‏.‏
و ‏{‏كلمات الله‏}‏ الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه، ويؤخذ من عموم ‏{‏كلمات الله‏}‏ وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله‏.‏
رُوي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال‏:‏ إنه قد بَدَّل كتاب الله‏.‏ وكان ابن عمر حاضراً فقال له ابن عمر‏:‏ لا تطيق ذلك أنت ولا ابنُ الزبير‏:‏ ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏ذلك هو الفَوْز العظيم‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏لهم البشرى‏}‏ ومقررة لمضمونها فلذلك فُصلت‏.‏
والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذُكر، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه‏.‏ وذكرُ ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر، أي هو الفوز العظيم لا غيرُه مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنَعَة وقوة، لأن ذلك لا يعد فوزاً إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعدَه العذاب الخالد في الآخرة، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرَّنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏
‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏
الجملة معطوفة على جملة ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خَوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هُم يحزنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عُدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالاً بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق‏.‏ والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم‏.‏ ووجه الاقتصار على دحضه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزناً إلا أذى القول البذئي‏.‏
وصيغة ‏{‏لا يحزنك قولهم‏}‏ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كلام المشركين، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يتأثر بما شأنه أن يُحزن الناس من أقوالهم، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تُحزنك، وهذا كما يقولون‏:‏ لا أريَنَّك تفعل كذا، ولا أعرفنَّك تفعل كذا، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلاً كذا‏.‏ والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تفعلن كذا فأراك تفعله‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يحزنك قولهم‏}‏ لا تحزن لقولهم فيحزنك‏.‏
ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبي هي أقوال التكذيب والاستهزاء، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن العزة لله جميعاً‏}‏ تعليل لدفع الحزن عنه، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأنَّ النبي يقول‏:‏ كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعَة، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك‏.‏ وهي أيضاً في محل استئناف بياني‏.‏ وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضاً استئنافاً بيانياً، فالاستئناف البياني أعم من التعليل‏.‏ وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها، ولأنَّه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب‏.‏
ويحسن الوقف على كلمة ‏{‏قولهم‏}‏ لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة ‏{‏إنّ العزة لله جميعاً‏}‏ فيحسبه مقولاً لقولهم فيتطلب لماذا يكونُ هذا القول سبباً لحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولهم‏:‏ ‏{‏إنّ العزّة لله‏}‏ وإن كان في المقام ما يهدي السَّامع سريعاً إلى المقصود‏.‏
ونظير هذا الإيهام ما حكي أنّ ابن قتيْبة ‏(‏وهو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة‏)‏ ذكر قراءة أبي حيْوة ‏{‏أنّ العزّة لله‏}‏ بفتح همزة ‏(‏أن‏)‏ وأعرب بدلاً من ‏(‏قولُهم‏)‏ فحكم أنّ هذه القراءة كُفر‏.‏ حكى ذلك عنه ابن عطيَّة‏.‏ وأشار إلى ذلك في «الكشاف» فقال‏:‏ «ومن جعله بدلاً من ‏(‏قولُهم‏)‏ ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه»‏.‏
ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملاً لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل ‏{‏قولهم‏}‏ لأن شأن ‏(‏إن‏)‏ بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعيَّن لأنَّه يحتمل أيضاً أن تكون الجملة استئنافاً، والسياق يعيّن الاحتمال الصحيح‏.‏
فأمَّا إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حَيْوَة فقد تعيَّنت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ ‏{‏قولُهم‏}‏ ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك‏.‏ منها بدل من كلمة ‏{‏قولهم‏}‏، فيصير المعنى‏:‏ أنّ الله نهى نبيئه عن أن يحزن من قول المشركين ‏{‏العزةُ لله جميعاً‏}‏ وكيف وهو إنَّما يدعوهم لذلك‏.‏ وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهى عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبي عليه الصلاة والسلام بالحَزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم، ومقصده التَّشنيع على صاحب هذه القراءة‏.‏
وإنَّما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل ‏(‏أنّ‏)‏ لعلَّه راعى أنّ التقدير خلاف الأصل أو أنَّه غير كاف في دفع الإيهام‏.‏ فالوجه أنّ ابن قتيبة هوّل ما له تأويل، ورد العلماء عليه رد أصيل‏.‏
والتَّعريف في ‏{‏العزّة‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السِّياق‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ للملك‏.‏ وقد أفاد جعل جنس العزة ملكاً لله أنّ جميع أنواعها ثابت لله، فيفيد أنّ له أقوى أنواعها وأقصاها‏.‏ وبذلك يفيد أنّ غير الله لا يملك منها إلاّ أنواعاً قليلة، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في مِلك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى‏.‏ فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله، فكل عزّة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب الله لأغلبنّ أنا ورُسلي إنّ الله قوي عزيز‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ وإذ قد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أنّ الله أرسله وأمره بزجر المشركين عمَّا هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده، ويعلم أنّ ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم‏.‏
و ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ‏{‏العزّة‏}‏ موكّدة مضمونَ الجملة قبلها المفيدَ لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزّة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏هو السَّميع العليم‏}‏ مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركناً في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلاً آخر أو تكملة للتعليل الأوّل، لأنه إذا تذكر المخاطب أنّ صاحب العزة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحُزن مِن أقوالهم عن نفسه لأنّ الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم‏.‏ فهو إذا نهاك عن الحزن من أقوالهم ما نهاك إلا وقد ضمن لك السَّلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدُّك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم‏.‏
والمراد ب ‏{‏السميع‏}‏ العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع، وب ‏{‏العليم‏}‏ ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم ‏(‏السَّميع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏
‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏
د بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأييسهم من كل احتمال لانتصارهم على النَّبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فإن كثيراً منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السَّابقة من قوله‏:‏ ‏{‏وما تكون في شأن‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ إلى هنا من التصريح بهوان، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأنّ ما توعَّدهم به حق، ثمّ يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنَّه إن تحقَّق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم‏:‏ لمثل هذا عبدناهم، وللشَّفاعة عند الله أعددناهم، فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنَّهم دون ما يظن بهم‏.‏
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ومناسبة وقوعها عقب جملة ‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 65‏]‏ أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة‏.‏ وأما وقوعها عقب جملة ‏{‏إن العزة لله جميعاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 65‏]‏ فلأنها حجَّة على أنّ العزّة لله لأنّ الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزّة الحق‏.‏
وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهميَّة العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد، وزيد ذلك تأكيداً بتقديم الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ وباجتلاب لام الملك‏.‏
و ‏{‏مَنْ‏}‏ الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأوّل إثبات أنّ آلهتهم ملك لله تعالى، وهي جمادات غير عاقلة، تغليباً ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجَّة عليه حتَّى على لازم اعتقاده‏.‏ والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكاً لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف فإن من العرب من عَبَد الملائكة، ومنهم من عبدوا المسيح، وهم نصارى العرب‏.‏
وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل‏:‏ ألا إنّ لله جميع الموجودات‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ الخ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏‏.‏ وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله، واتّباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ نافية لا محالة، بقرينة تأكيدها ب ‏(‏إنْ‏)‏ النَّافية، وإيراد الاستثناء بعدهما‏.‏ و‏{‏شركاء‏}‏ مفعول ‏{‏يدْعون‏}‏ الذي هو صلة ‏{‏الذين‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن يتبعون‏}‏ تَوكيدٌ لَفظي لجملة ‏{‏ما يتبع الذين يدعون‏}‏ وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض‏.‏
و ‏{‏الظن‏}‏ مفعول لِكلا فعلي ‏{‏يتَّبعُ، ويتْبعون‏}‏ فإنهما كفعل واحد‏.‏ وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملاً لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير‏:‏ وما يتبع المشركون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون‏.‏
والظنُّ‏:‏ هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين، أي شأنهم اتباع الظنون‏.‏ والمراد بالظن هنا العلم المخطئ‏.‏
وقد بينت الجملة التي بعدها أنّ ظنهم لا دليل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏‏.‏
والخرْص‏:‏ القول بالحزر والتخمين‏.‏ وتقدّم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ‏(‏116‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلا يخرصون‏.‏‏}‏
تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏
جملة معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظنّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخَرْصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهَدِ في كل يوم من العمر مرّتين وهم في غفلة عن دلالته، وهو خلق نظام النهار والليل‏.‏
وكيف كان النهار وقتاً ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل‏.‏
وكيف كان الليل وقتاً تغشاه الظلمة فكان مناسباً للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار‏.‏ فاكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفَطِن والغافل‏.‏
ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار، والليل والنهار ضدّان دلّ ذلك على أنّ علة السكون عدم الإبصار، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك‏.‏
ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتَّى جعل النَّهار هو المبصر‏.‏ والمراد‏:‏ مبصِراً فيه الناسُ‏.‏
ومن لطائف المناسبة أنّ النّور الذي هو كيفية زمن النَّهار، شيء وجودي، فكان زمانه حقيقاً بأن يوصف بأوصاف العقلاء، بخلاف الليل فإن ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الليل‏}‏ طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه‏.‏ وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافياً كما توهَّمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الإلهية، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام‏.‏ وهذا الامتنان مستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏جعل لكم‏}‏ ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه، وخلق النهار بعلة إبصار الناس، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك، فإن في العمل بالنهار نعماً جمّة من تحصيل رغبات، ومشاهدة محبوبات، وتحصيل أموال وأقوات، وأن في السكون باللّيل نعماً جمّة من استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد، على أن في اختلاف الأحوال، ما يدفع عن المرء الملال‏.‏
وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما‏:‏ وصمة مخالفة الحق، ووصمة كفران النعمة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ مستأنفة‏.‏ والآيات‏:‏ الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فإن النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع‏.‏
فمن تلك الآيات‏:‏ خلق الشمس، وخلق الأرض، وخلق النور في الشمس، وخلق الظلمة في الأرض، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجهاً للشعاع ونصفها الآخر محجوباً عن الشعاع، وخلق الإنسان؛ وجَعْللِ نظام مزاجه العصبي متأثراً بالشعاع نشاطاً، وبالظلمة فُتُوراً، وخلق حاسة البصر، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء؛ وجعل نظام العمل مرتبطاً بحاسة البصر؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشتملاً على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعاً إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي، ثم فاقداً بالعمل نصيباً من قواه محتاجاً إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة‏.‏ وأيَّة آيات أعظم من هذه، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع الله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه‏.‏
ووصف ‏{‏قوم‏}‏ بأنهم ‏{‏يسمعون‏}‏ إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها وتفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفِطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون‏.‏
ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن، وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمْع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تسمع الصم أو تهدي العميْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 40‏]‏
تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏
‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏
بيان لجملة ‏{‏ألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء‏.‏
فضمير ‏{‏قالوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ أي قال المشركون ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏‏.‏ وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيراً منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سَروات نساء الجن، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏
والاتخاذ‏:‏ جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به‏.‏ وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته‏.‏
والولد‏:‏ اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب‏.‏ وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج‏.‏ يقال‏:‏ ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح‏.‏ ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر‏.‏ يقال‏:‏ هؤلاء ولد فلان‏.‏ وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله البنات سبحانه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 57‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها‏.‏ وهو اسم مصدر ل ‏(‏سَبَّح‏)‏ إذا نزّه، نائب عن الفعل، أي نسبحه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، أي تنزيهاً لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة‏:‏ هو الغني‏}‏ بياناً لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصاً غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات‏.‏
وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال‏.‏
والغَنِيُّ‏:‏ الموصوف بالغِنى، فعيل للمبالغة في فعل ‏(‏غَنِيَ‏)‏ عن كذا إذا كان غير محتاج، وغنى الله هو الغنى المطلق، وفسر في أصول الدين الغنى المُطلق بأنه عدم الافتقار إلى المُخَصِّص وإلى المحل، فالمخصص هو الذي يُعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضاً عن الأخرى، فبذلك ثبت للإله الوجودُ الواجب، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد، فلا جرم أنْ كان الغَنِيُّ منزّهاً عن الولد من جهة الانفصال، ثم هو أيضاً لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولداً له بالتبني لأجل كونه غنياً عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلَف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه، فهنو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله، فلا يحتاج إلى إعانة ولد، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعاً له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم‏.‏ وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفاً ‏{‏ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يَتبع الذين يَدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ ودل قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ على أن صفة العبودية تنافي صفة البُنُوة وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مُكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏‏.‏
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يُسترقُّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عَلَيَا‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنْ عندكم من سلطان بهذا‏}‏ جواب ثان لقولهم‏:‏ ‏{‏اتَّخذ الله ولداً‏}‏ فلذلك فُصلت كما فصلت جملة ‏{‏سبحانه‏}‏، فبعد أن استدل على إبطال قولهم، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك‏.‏
و ‏{‏إن‏}‏ حرف نفي‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويِّها وضعيفها، عقليِّها وشرعيِّها‏.‏
و ‏(‏عند‏)‏ هنا مستعملة مجازاً‏.‏ شُبِّه وجودُ الحجة للمحتج بالكون في مكانه، والمعنى‏:‏ لا حجَّة لكم‏.‏
و ‏{‏سلطان‏}‏ محله رفع بالابتداء، وخبره ‏{‏عِندكم‏}‏ واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة‏.‏
والسلطان‏:‏ البرهان والحجة، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 71‏]‏‏.‏
والباء للملابسة، وهي في موضع صفة لسلطان‏}‏، أي سلطان ملابس لهذا‏.‏ والإشارة إلى المقول‏.‏
والمعنى‏:‏ لا حجة لكم تصاحب مَقولكم بأن الله اتخذ ولداً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ جواب ثالث ناشيء عن الجوابين لأنهم لما أُبطل قولهم بالحجة‏.‏ ونُفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون، أي بما لا يوقنون به، ولكونها جواباً فصلت‏.‏ فالاستفهام مستعمل في التوبيخ، لأن المذكور بعده شيء ذميم، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏
‏{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏
استئناف افتتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الأمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه، وذلك أن المَقُول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا‏:‏ اتخذ الله ولداً، على مقالتهم تلك، وعلى أمثالها كقولهم‏:‏ ‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرَّم على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ وقولهم‏:‏ ما كان لآلهتهم من الحَرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم، وقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ فذلك كله افتراء على الله، لأنهم يقولونه على أنه دين، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يفتري على الله ما لم يقله، فالمقول لهم ابتداءاً هم المشركون‏.‏
والفلاح‏:‏ حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء‏.‏ وتقدم في طالع سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏ فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم
وجملة‏:‏ ‏{‏متاعٌ في الدنيا‏}‏ استئناف بياني، لأن القضاء عليه بعدم الفلاح يتوجه عليه أن يسأل سائل كيف نراهم في عزة وقدرة على أذى المسلمين وصد الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجاب السائل بأن ذلك تمتيع في الدنيا لا يَعبأ به، وإنما عدم الفلاح مظهره الآخرة، ف ‏{‏متاع‏}‏ خبر مبتدأ محذوف يعلم من الجملة السابقة، أي أمرهم متاع‏.‏
والمتاع‏:‏ المنفعة القليلة في الدنيا إذ يقيمون بكذبهم سيادتهم وعزتهم بين قومهم ثم يزول ذلك‏.‏
ومادة ‏(‏متاع‏)‏ مؤذنة بأنه غير دائم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في أوائل سورة الأعراف ‏(‏24‏.‏ ‏(‏
وتنكيره مؤذن بتقليله، وتقييده بأنه في الدنيا مؤكد للزوال وللتقليل، و‏(‏ثم‏)‏ من قوله‏:‏ ثم إلينا مرجعهم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن مضمونه هو محقة أنهم لا يفلحون فهو أهم مرتبة من مضمون لا يفلحون‏.‏
والمرجع‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الرجوع‏.‏ ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى وقت نفاذ حكمه المباشر فيهم‏.‏
وتقديم ‏{‏إلينا‏}‏ على متعلَّقه وهو المرجع للاهتمام بالتذكير به واستحضاره كقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة إلى قوله ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ ويجوز أن يكون المرجع كناية عن الموت‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ثم نذيقهم العذاب الشديد‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ثم إلينا مرجعهم‏}‏‏.‏ وحرف ‏(‏ثم‏)‏ هذا مؤكد لنظيره الذي في الجملة المبينة على أن المراد بالمرجع الحصول في نفاذ حكم الله‏.‏
والجمل الأربع هي من المقول المأمور به النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى‏.‏
وإذاقة العذاب إيصاله إلى الإحساس، أطلق عليه الإذاقة لتشبيهه بإحساس الذوق في التمكن من أقوى أعضاء الجسم حاسية لمس وهو اللسان‏.‏
والباء في ‏{‏بما كانوا يكفرون‏}‏ للتعليل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كانوا يكفرون‏}‏ يؤذن بتكرر ذلك منهم وتجدده بأنواع الكفر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏
‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏
من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبيء عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص ‏{‏أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ الآيات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ الآيات‏.‏
وبهذا يظهر حسن موقع ‏(‏إذْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال لقومه يا قوم‏}‏ إلى آخره، فإن تقييد النبأ بزمن قوله‏:‏ ‏{‏لقومه‏}‏ إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ اسم للزمن الماضي‏.‏ وهو هنا بدل اشتمال من ‏{‏نبأ‏}‏ أو من ‏{‏نوح‏}‏‏.‏ وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏‏.‏
وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين يفترون على الله الكذب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 69‏]‏‏.‏
والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وتقدمت في سورة الأنفال‏.‏
والنبأ‏:‏ الخبر‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏‏.‏
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران‏.‏
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله‏:‏ إذ قَال لقومه‏}‏ إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه
‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏
وظرف ‏{‏إذ‏}‏ وما أضيف إليه في موضع الحال من ‏{‏نبأ نوح‏}‏‏.‏
وافتتاح خطاب نوح قومَه ب ‏{‏يا قوم‏}‏ إيذان بأهيمة ما سيلقيه إليهم، لأن النداء طلب الإقبال‏.‏ ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله‏.‏
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً‏.‏ وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ شق عليكم وأحرجكم‏.‏
والكبَر‏:‏ وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، ويكون ذماً كقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كان كَبُر عليك إعراضهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ وكذلك هنا‏.‏
والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام‏.‏ وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمَن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ أي خير حالة وشأناً‏.‏ وهو استعمال من قبيل الكناية، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته، وفيهما مظاهر أحواله‏.‏
وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه، فعطفه من عطف الخاص على العام‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏كَبُر عليكم مقامي وتذكيري‏}‏ سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله‏.‏
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم، شديد الإيلام لقلوبهم، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم، وتشمئز منها نفوسهم، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم‏.‏ وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏
والباء في ‏{‏بآيات الله‏}‏ لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني، والمفعولُ الأول محذوف، والتقدير‏:‏ تذكيري إياكم‏.‏
و ‏{‏آيات الله‏}‏ مفعول ثان للتذكير‏.‏
يقال‏:‏ ذكرته أمراً نسيه، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي‏:‏
أذَكَّر بالبقيا على من أصابني *** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
ولذلك قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله‏.‏
وآيات الله‏:‏ دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يُبرمهم ويحرجهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ جواب شرط ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف، لا يصُده عن استمرار الدعوة، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله‏.‏ ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ أي لا على غيره‏.‏
والتوكل‏:‏ التعويل على من يدبر أمره‏.‏ وقد مر عند قوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏
والفاء في فأجمعوا أمركم‏}‏ للتفريع على جملة ‏{‏على الله توكلت‏}‏ فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول‏:‏ إن كان كبُر عليكم مقامي الخ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت، كما قال هود لقومه ‏{‏فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏
وإجماع الأمر‏:‏ العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده‏.‏ وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً‏.‏ فالهمزة فيه للجعل، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً‏.‏
ويقولون‏:‏ جاؤوا وأمرهم جميع، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف‏.‏
والأمر‏:‏ هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله‏.‏
و ‏{‏شركاءكم‏}‏ منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه‏.‏ والواو بمعنى ‏(‏مع‏)‏ أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم‏.‏
وقرأ يعقوب ‏{‏وشركاؤكم‏}‏ مرفوعاً عطفاً على ضمير ‏{‏فأجمعوا‏}‏، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول‏.‏ والمعنى‏:‏ وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم‏.‏
وصيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا‏}‏ مستعملة في التسوية، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته‏.‏ وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم، وذلك تهكم بهم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195‏]‏‏.‏
وعطْف جملة‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة‏}‏ ب ‏{‏ثم‏}‏ الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم‏.‏
وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك‏.‏
والغمة‏:‏ اسم مصدر للغم‏.‏ وهو الستر‏.‏ والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي، وهو انبهام الحال، وعدم تبين السداد فيه، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل‏:‏
لعمرك ما أمري علي بغمة *** نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وإظهار لفظ الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏ مع أنه عين الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه‏.‏
و ‏(‏ثم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم اقضوا إلي‏}‏ للتراخي في الرتبة، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه، فعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل‏.‏
و ‏{‏اقضُوا‏}‏ أمر من القضاء، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي‏.‏ ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم، وهو قريب من الوجه الأول، أي أنفذوا حكمكم‏.‏
وعدي ب ‏(‏إلى‏)‏ دون ‏(‏على‏)‏ لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو، ويكون بالفعل، فهو قضاء بتنفيذ‏.‏ ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تُنظرون‏}‏ تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والإنظار التأخير، وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏تنظرون‏}‏ للتخفيف، وهو حذف كثير في فصيح الكلام، وبقاء نون الوقاية مشعر بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏
‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏
لتفريع الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين، ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مرادٌ به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضاً‏.‏ وإنما قُصد إقرارهم به قطعاً لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن كنتم قد توليتم فقد علمتُم أني ما سألتكم أجراً فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شُحَّا بأموالكم أو اتهاماً بتكذيبي، وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه‏.‏ وبذلك برّأ نفسه من أن يكون سبباً لتولّيهم، وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوعُ جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط‏.‏ وذلك مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته فقد علِمتَه‏}‏ في آخر سورة ‏[‏العقود‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ إن أجري إلا على الله‏}‏ تعميم لنفي تطلبه أجراً على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة‏:‏ ‏{‏فما سألتكم من أجر‏}‏ مع زيادة التعميم‏.‏ وطريقُ جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه‏.‏
وأتى بحرف ‏(‏على‏)‏ المفيد لكونه حقاً له عند الله بناء على وعد الله إيَّاه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده، فصار بالوعد حقاً على الله التزم الله به‏.‏
والأجر‏:‏ العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ معطوفة على جملة الجواب، والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين، أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي‏.‏ وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال‏.‏
وبُني فعل ‏{‏أمرت‏}‏ للمجهول في اللفظ للعلم به، إذ من المعلوم من سياق الكلام أنّ الذي أمره هو الله تعالى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أن أكون من المسلمين‏}‏ أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام، أي توحيد الله دون عبادة شريك، لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعنِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاماً في مختلف العصور وسمَّى الله به سُنن الرسل فحكاه عن نوح عليه السلام هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏، وعن إسماعيل
‏{‏ربنا واجعلنا مُسْلِمَين لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، وعن يوسف ‏{‏توفني مسلماً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وعن موسى ‏{‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 8‏]‏، وعن سليمان ‏{‏أن لا تعلوا علي واتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏، وعن عيسى والحواريين ‏{‏قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك مفصلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أن أكون من المسلمين‏}‏ أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من‏:‏ أن أكون مسلماً، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 119‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏
‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع الذكري، أي تفريع ذكر هذه الجمل على ذكر الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لِما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 72‏]‏، وإلا فإن تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الخ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته‏.‏
ولك أن تجعل معنى فعل ‏{‏كذبوه‏}‏ الاستمرار على تكذيبه مثل فِعل ‏{‏آمنوا‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏، فتكون الفاء لتفريع حصول ما بعدها على حصول ما قبلها‏.‏
وأما الفاء التي في جملة‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ فهي للترتيب والتعقيب، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومَن اتبعه‏.‏ وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمناً بقوله‏:‏ ‏{‏إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الآية، فكان كرد العجز على الصدر‏.‏ ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلةَ نوح الأخيرة قومَه المنتهية بقوله‏:‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏ فكان تفنناً بديعاً في النظم مع إيجاز بهيج‏.‏
وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة‏.‏
والفلك‏:‏ السفينة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏
والخلائف‏:‏ جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة‏.‏
وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله‏:‏ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق، وأنه التكذيب بآيات الله إنذاراً للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار‏.‏
والنظر‏:‏ هنا نظر عين، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد‏.‏
والخطاب ب ‏{‏انظر‏}‏ يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم فخصّ بالخطاب تعظيماً لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏
‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏
‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تَلقوهم بمثل ما تلقَّى به نوحاً قومه أعجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر‏.‏ وليست ‏(‏ثم‏)‏ لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏‏.‏
وقد أُبهم الرسل في هذه الآية‏.‏ ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم‏:‏ هود وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب‏.‏ وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أن نوحاً أول الرسل‏.‏
والبينات‏:‏ هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق‏.‏ والفاءُ للتعقيب، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم‏.‏ والباء للملابسة، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات‏.‏
وقد قوبل جمع الرسل بجمع ‏(‏البينات‏)‏ فكان صادقاً ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين، فقد يكون لكل نبيء من الأنبياء آيات كثيرة، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ للتفريع، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا‏.‏
وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء‏.‏ حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه‏.‏ ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة‏.‏
ودل قوله‏:‏ ‏{‏بما كذبوا به من قبل‏}‏ أن هنالك تكذيباً بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبرِ مخبر فقوله‏:‏ ‏{‏فجاءهم بالبينات‏}‏ مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل‏.‏ وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة‏.‏ وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله‏:‏ ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل‏}‏ وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما من شأنه أن يقلعه كان تكذيباً واحداً منسياً‏.‏ وهذا من بلاغة معاني القرآن‏.‏
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه ‏{‏كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏ فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم‏.‏
وقد جُعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلاً لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله‏:‏ ‏{‏كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به‏.‏
والطبع‏:‏ الختم‏.‏ وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏.‏
‏(‏والاعتداء‏:‏ افتعال من عدا عليه، إذا ظلمه، فالمعتدين مرادف الظالمين، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏ فهذا التَّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏
‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏
‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصَّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت إنقلاباً عظيماً وتطوراً جديداً في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليَّة والتشريعيَّة فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلَّة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسدَ في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لِجميع ما يُحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها‏.‏
فأمَّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمَّة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمَّة، ووضع ساسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من الأمم، ويمكِّنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أوّل مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوّقه على جميع ما تقدّمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطَّلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصَّالح وإزالة الفاسد‏.‏
وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إنّ الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيِّداً ومُعرباً عن مقاصد موسى فكان بذلك مأموراً من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فَبُعِثَ معيناً له وناصراً، لأنّ تلك الرّسالة كانت أوّل رسالة يصحبها تكوين أمة‏.‏
وفرعون مَلك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، وعلى صفة إرسال موسى إلى فرعون وملئه، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط‏.‏ والمرَاد بالملأ خاصَّةُ الناس وسادتُهم وذلك أنّ موسى بعث إلى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل‏.‏
والسِّين والتَّاء في استكبروا‏}‏ للمبالغة في التكبّر، والمراد أنَّهم تكبَّروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنَّهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولاً من الله وهو من قوم مستعبَدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التَّعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا‏:‏ ‏{‏أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وتفريع ‏{‏استكبروا‏}‏ على جملة ‏{‏بعثنا‏}‏ يدلُّ على أنّ كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبَار‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وكانوا قوماً مجرمين‏}‏ في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخُلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم‏.‏
والإجرام‏:‏ فعل الجُرم، وهو الجناية والذّنْب العظيم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وقد كان الفراعنة طُغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم قروناً فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم ‏{‏إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏، وكان القبط يعتقدون أوهاماً ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا قوماً مجرمين‏}‏، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرّشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون ‏{‏إنّ هذان لَساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 63‏]‏ فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى‏.‏
وعبر ب ‏{‏قوماً مجرمين‏}‏ دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏
‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏
أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى صادق فيما ادّعاه، تدرجوا من مجرّد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية‏.‏
والحقُّ‏:‏ يطلق اسماً على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفاً على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال‏:‏ أنت الصديق الحق‏.‏ ويُلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به‏.‏ والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازاً لهم لقوله قبله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏ فكان جعل الحق جائياً بتلك الآيات صالحاً لمعنيي الحقّ، لأنّ تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقاً فمجيئها حصولُها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائياً معها، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ وبهذا يظهر أن لكلمة ‏{‏الحقّ‏}‏ هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد، ولكلمة ‏{‏من عندنا‏}‏ ما ليس لغيرهما في الإيجاز، وهذا من حدّ الإعجاز‏.‏
وبهذا تبين أنّ الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأنّ المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق‏.‏
واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي قهرته الحجة وبهره سلطان الحقّ، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محكّ النقد‏.‏
«ولا بدّ للمغلوب من بارد العذر»
وإذ قد اشتهر بين الدّهماء من ذوي الأوهام أنّ السحر يظهر الشيء في صورة ضدّه، ادّعى هؤلاء أنّ ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحقّ بتخييل السحر‏.‏
ومعنى إدّعاء الحقّ سحراً أنّ دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين، وقد حملهم استشعارهم وَهَنَ معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبّت صاحبُه فأكَّدوا الكلام بما دلّ عليه حرف التوكيد ولام الابتداء ‏{‏إنّ هذا لسحرٌ‏}‏، وزادوا ذلك ترويجاً بأن وصفوا السِّحر بكونه مُبيناً، أي شديدَ الوضوح‏.‏ والمبين اسم فاعل من أبان القاصر، مرادف بَانَ‏:‏ ظهر‏.‏
والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ هذا‏}‏ إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء، أي أنّ هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏قال موسى‏}‏ مجاوبة منه عن كلامهم ففُصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة، إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، ونظائره الكثيرة‏.‏ تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة، ولأن المعجزات ظهرت على يديه‏.‏
واستفهام ‏{‏أتقولون‏}‏ إنكاري‏.‏ واللام في ‏{‏للحق‏}‏ لام التعليل‏.‏ وبعضهم يسميها لام البيان‏.‏ وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى ‏(‏عن‏)‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏ مستأنفة للتوبيخ والإنكار، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر‏.‏ والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء‏.‏ ولذلك كان مفعول ‏{‏أتقولون‏}‏ محذوفاً لدلالة الكلام عليه وهو ‏{‏إنّ هذا لسحر مبين‏}‏ فالتقدير‏:‏ أتقولون هذا القول للحق لمَّا جاءكم‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قُلتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 81‏]‏‏.‏
ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحراً ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيراً لهم، لأنهم كانوا ينوّهون بشأن السحر‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏ولا يفلح الساحرون‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏أسحر هذا‏}‏‏.‏
فالمعنى‏:‏ هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحراً لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏
‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏
الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ مثل الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏قال موسى أتقولون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 77‏]‏‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أجئتنا‏}‏ إنكاري، بنَوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى‏.‏ وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما‏.‏
و ‏{‏تلْفِتَنَا‏}‏ مضارع لَفَتَ من باب ضرَب متعدياً‏:‏ إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه‏.‏ والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة‏.‏ يقال‏:‏ التفت‏.‏ وهو هنا مستعمل مجازاً في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلاً لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة‏.‏
وقد جمعت صلة ‏{‏ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها‏.‏ واختير التعبير ب ‏{‏وَجدنا‏}‏ لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها، وذلك مما يكسبهم تعلقاً بها، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقاً بها تبعاً لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته‏.‏
وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 53، 54‏]‏، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفساداً ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏‏.‏ والإتيان بحرف ‏(‏على‏)‏ للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها‏.‏
وعطف ‏{‏وتكون لكما الكبرياء‏}‏ على الفعل المعلَّل به، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به، أي أنهما يحاولان نفعاً لأنفسهما لا صلاحاً للمدعوين، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة‏.‏
والكبرياء‏:‏ العظمة وإظهار التفوق على الناس‏.‏
والأرض‏:‏ هي المعهودة بينهم، وهي أرض مصر، كقوله‏:‏ ‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضراً فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين‏.‏ وإنَّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظاً لنفسه‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏أجئتنا‏}‏‏.‏ وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين‏.‏ وتقديم ‏{‏لكما‏}‏ على متعلَّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما‏.‏ فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم‏.‏
وصيغت جملة‏:‏ ‏{‏وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏ اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكُما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏
‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏
جملة‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا إنّ هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف ‏(‏لَما‏)‏ حكي أولاً ما تلقَّى به فرعون وملؤُه دعوة موسى ومعجزتَه من منع أن يكون ما جاء به تأييداً من عند الله‏.‏ ثم حُكي ثانياً ما تلقى به فرعون خاصةً تلك الدعوةَ من محاولة تأييد قولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا لسحر مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تَحصيل أسبابه من خصائص فرعون، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه‏.‏
والمخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏إيتوني‏}‏ هم ملأ فرعون وخاصتُه الذين بيدهم تنفيذ أمره‏.‏
وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظهره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجاً لدعوة موسى بين دهماء الأمة‏.‏
والعموم في قوله‏:‏ ‏{‏بكل ساحر عليم‏}‏ عموم عرفي، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به، أو أريد ‏{‏بكل‏}‏ معنى الكثرة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فلما جاء السحرة‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏، عُطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة ‏{‏قال فرعون‏}‏ بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمِثل الشيء المأمور به، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقُب قوله‏:‏ ‏{‏ائتوني بكل ساحر‏}‏ هو إتيانهم بهم، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله‏:‏ ‏{‏جاء السحرة‏}‏ على طريقة الإيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى‏.‏ والتعريف في ‏{‏السحرة‏}‏ تعريف العهد الذكري‏.‏
وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهاراً لقوة حجته لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب، والتي يتطلَّب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خَيَّروا موسى بين أن يبتديء هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين‏.‏
وفعل الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏ مستعمل في التسوية المرادِ منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين‏.‏
والإلقاء‏:‏ رمي شيء في اليد إلى الأرض‏.‏ وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض‏.‏ وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، وأنها يخيَّل من سحرهم أنها تسعى، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حياً‏.‏
و ‏{‏ما أنتم ملقون‏}‏ قصد به التعميم البدلي، أيّ شيء تلقونه، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله‏.‏
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه «المواقف»‏.‏
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء، ليكونوا مثلاً للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى عليه السلام حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده، وبأن العاقبة للحق‏.‏ وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام، ولأجل هذا لم يذكر مفعول ‏{‏ألقوا‏}‏ لتنزيل فعل ‏{‏ألقوا‏}‏ منزلة اللازم، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله‏.‏
ومعنى ‏{‏جئتم به‏}‏ أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازاً في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية‏.‏ وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلِّهم قد أقبلوا من مدن عديدة، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو‏:‏ جاء بكذا، فإنه وإن استقام في نحو ‏{‏وجاءوا على قميصه بدَم كذب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏ لا يستقيم في نحو ‏{‏إنّ الذين جَاءوا بالإفك‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 11‏]‏‏.‏
ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجَعْللِ ‏{‏ما جئتم‏}‏ مسنداً إليه دون أن يجعل مفعولاً لفعللِ ‏{‏سيبطله‏}‏، وبجَعْله اسماً مُبهماً، ثُم تفسيره بجملة ‏{‏جئتم به‏}‏ ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر، وهو جملة ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ ثم مَجيء ضمير السحر مفعولاً لفعل ‏{‏سيبطله‏}‏، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكَّن في أذهان السامعين فَضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏السحر‏}‏ قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة ‏(‏ال‏)‏، فتكون ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما جئتم به‏}‏ اسم موصول، والسحرُ عطفَ بيان لاسم الموصول‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وأبو جعفر ‏{‏آلسحر‏}‏ بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية، فتكون ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما جئتم به‏}‏ استفهامية ويكون ‏(‏آلسحرَ‏)‏ استفهاماً مبيناً لِ ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية‏.‏
وهو مستعم في التحقير‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون‏.‏
و ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ خبر ‏(‏ما‏)‏ الموصولة على قراءة الجمهور، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم‏.‏
وإبطاله‏:‏ إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية، وهي مدلول ‏{‏إن الله لا يصلح عملَ المفسدين‏}‏‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ معترضة، وهي تعليل لمضمون جملة ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح‏.‏ وتعريف ‏{‏المفسدين‏}‏ بلام الجنس، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليُعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين، وإضافة ‏{‏عمل‏}‏ إلى ‏{‏المفسدين‏}‏ يؤذن بأنه عمل فاسد، لأنه فعل مَنْ شأنُهم الإفساد فيكون نسجاً على منوالهم وسيرة على معتادهم، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده‏.‏ وليس المراد نفي تصييره صالحاً، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحاً حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنَها، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل‏.‏
ولما قدم قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ عُلم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُبطلَ الباطلَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 8‏]‏ أي يظهرَ بطلانه‏.‏
وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلاً‏.‏ أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ويُحق الله الحق‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏إن الله سيبطله‏}‏ أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة‏.‏
والإحقاق‏:‏ التثبيت‏.‏ ومنه سمِّي الحق حقاً لأنه الثابت‏.‏
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم‏.‏ والباء في ‏{‏بكلماته‏}‏ للسببية‏.‏
والكلمات‏:‏ مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه‏.‏ وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم، وعلى علمه‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ في موضع الحال، و‏(‏لو‏)‏ وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يُظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه‏.‏ وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم‏.‏
وأراد ‏(‏بالمجرمين‏)‏ فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضاً بهم‏.‏ وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول‏:‏ وإن كرهتم أيها المجرمون عدولاً عن مواجهتهم بالذم، وقوفاً عند أمر الله تعالى إذ قال له‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك‏.‏ وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له‏:‏ ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة‏.‏ ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولاً فرعونَ وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏
‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏
تفريع على ما تقدم من المحاورة، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازاً‏.‏ والتقدير‏:‏ تفرع على ذلك تصميم على الإعراض‏.‏
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامُها ما ألقوه من سحرهم، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة‏.‏
وفعل ‏{‏آمن‏}‏ أصله ‏(‏أَأْمن‏)‏ بهمزتين‏:‏ إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة، والثانية همزة مزيدة للتعدية، أي جعله ذَا أمانة، أي غير كاذب فصار فعل ‏{‏آمن‏}‏ بمعنى صدّق، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى صدّق من الأمانة وبين ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى جَعله في أمن، أي لا خوف عليه منه‏.‏
وهذه اللام سماها ابنُ مالك لامَ التبيين وتبعه ابن هشام، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل ‏(‏آمن‏)‏ بمعنى صدّق دفعُ أن يلتبس بفعل ‏(‏آمنه‏)‏ إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏‏.‏
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏‏.‏
والذرية‏:‏ الأبناء وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ذُرية بعضها من بعض‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 34‏]‏‏.‏ أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذٍ‏.‏
و ‏(‏على‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ‏(‏ذرية‏)‏، أي في حال خوفهم المتمكن منهم‏.‏ وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خَوفهم من فرعون‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار‏.‏ أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يُقال‏:‏ الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله‏:‏ ‏{‏اذهبا إلى فرعون إنه طغى‏}‏
‏[‏طه‏:‏ 43‏]‏ فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر‏.‏
و ‏(‏الملأ‏)‏ تقدم آنفاً في هذه القصة، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها‏.‏
و ‏(‏الفتن‏)‏ ادخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏ فهذا وجه تفسير الآية‏.‏
وجملة‏:‏ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏ في موضع الحال فهي عطف على قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون‏}‏ وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد، فبعد أن أثنى عَليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم، ومن مَلئهم، أي قومهم، وهو خوف شديد، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسةِ قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفراً منهم، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور، ومَن هذه حالته لا يزَعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ للاهتمام بتحقيق بطش فرعون‏.‏
والعلو‏:‏ مستعار للغلبة والاستبداد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏‏.‏
والإسراف‏:‏ تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل، فهو تجاوز مذموم، وأشهر موارده في الإنفاق، ولم يذكر متعلَّق الإفراط فتعيَّن أن يكون إسرافاً فيما عُرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من المسرفين‏}‏ أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال‏:‏ وإنه لَمُسرف لما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضللتُ إذن وما أنا من المهتدين‏}‏ في ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏
‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏
عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة ‏{‏وقال فرعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 79‏]‏، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏‏.‏ والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم، وأن لا يخشوا فرعون، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله حقاً كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له‏.‏
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقاً بالشرط محتمل الوقوع، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ‏.‏ وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال، وعمار، وأبي بكر، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏
فتقديم المجرور على متعلقه في قوله‏:‏ ‏{‏فعليه توكلوا‏}‏ لإفادة القصر، وهو قصر إضافي يفسره قوله‏:‏ ‏{‏على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون‏.‏
والتوكلُ‏:‏ تقدم آنفاً في قصة نوح‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن كنتم مسلمين‏}‏ شرط ثان مؤكد لشرط ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام، ومبين أيضاً للشرط الأول، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر‏.‏
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط، والإيمان‏:‏ تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي، ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإسلام، والإسلامُ‏:‏ النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإيمان، فالإيمان انفعال قلبي نفساني، والإسلام عمل جسماني، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة، وإذ لا يكون القول حقاً إلا إذا وافق ما في النفس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏
‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقد ورد ذلك صريحاً في حديث سؤال جبريل في «الصحيحين»‏.‏
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين‏.‏ ومن ثم كان قوله‏:‏ ‏{‏فعليه توكلوا‏}‏ جواباً للشرطين كليهما‏.‏ أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول‏.‏ هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام‏.‏
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيئهم مسرعاً بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة، وإلى عقد العزم على التوكل على الله، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة ‏{‏على الله توكلنا‏}‏ مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى‏.‏
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافاً للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير معطوفة، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة‏.‏
ثم ذيَّلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم منه أن يقيهم ضر فرعون، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم‏:‏ لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامةُ الكفرة ويظنون أن دينهم الحق‏.‏
والفتنة‏:‏ تقدم تفسيرها آنفاً‏.‏ وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر، والكفر فتنة‏.‏ والفتنة مصدر‏.‏ فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة، فتعدية فعل ‏{‏تجعلنا‏}‏ إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين‏.‏
ووصفوا الكفار ب ‏{‏الظالمين‏}‏ لأن الشرك ظلم، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم‏:‏ ظلم أنفسهم، وظلم الخلائق، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين، أي من بطشهم وإضرارهم‏.‏
وزيادة ‏{‏برحمتك‏}‏ للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وذكر لفظ القوم في قوله‏:‏ ‏{‏للقوم الظالمين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من القوم الكافرين‏}‏ للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة، وفي هذه السورة غير مرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏
‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وقال موسى يا قوم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، ويجوز أن يكون عطفَ قصة على قصة، أي على مجموع الكلام السابق، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار لقصة موسى وقومه‏.‏
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومُؤَازره‏.‏
والتبَوُّؤ‏:‏ اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البَوْء، أي الرجوع، كأنّ صاحب المسكن يُكلف نفسه الرجوع إلى محل سَكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُبَوّئ المؤمنين مَقاعد للقتال‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏‏.‏ فمعنى تَبَوّءا لقومكما‏}‏ اجعلا قومكما متبوئينَ بيوتاً‏.‏
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تَبَوّؤ قومهما للبيوت‏.‏ والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لقومكما‏}‏ إذ جعل التبوؤ لأجل القوم‏.‏
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به‏.‏ وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض ‏(‏جَاسان‏)‏ قرب مدينة ‏(‏منفيس‏)‏ قاعدة المملكة يومئذٍ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها‏.‏
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذٍ‏.‏ فقيل‏:‏ أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوّله وقوعُ قوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ عقبه‏.‏ وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريباً بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت‏.‏ وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضاً لإطلاق البيوت، وكونها بمصر‏.‏
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في ‏(‏جاسان‏)‏ قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج‏:‏ إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة‏.‏
قاله ابن عطية عن ابن عباس‏.‏
والقِبلة‏:‏ اسم في العربية لجهة الكعبة‏.‏ وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمرُ بني إسرائيل يومئذٍ جارياَ على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة‏.‏
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة‏:‏ إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال‏.‏
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة‏.‏
وعن ابن عباس‏:‏ كانت الكعبة قبلة موسى‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء‏.‏ وهذا التفسير يلائم تركيب ‏{‏اجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه‏.‏
وأسند فعل ‏{‏اجعلوا‏}‏ إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة‏.‏
وأمْرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعاً لإبراهيم عليه السلام وأبنائه‏.‏ والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم‏.‏
وعَطْفُ جملة‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 85‏]‏ فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏
‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏
عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة‏.‏ وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومَن معه من أرض مصر‏.‏ فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه، وأنفذ برسالته مُراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد‏.‏
ومهَّد موسى لدعائه تمهيداً يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلولَ العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان‏.‏
ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغرياً لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحاً لهم وتطلباً لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال‏.‏
وافتتح الدعاءُ بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء‏.‏ ونودي الله بوصف الربوبية تذللاً لإظهار العبودية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً‏}‏ توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏‏.‏ ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه‏.‏
فاقتران الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّك آتيت فرعون‏}‏ الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار‏.‏
وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏‏.‏ والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة‏.‏ ونُقل ذلك عن نحاة البصرة‏:‏ الخليل وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما، على نحو اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علةً فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره، فالمعنى‏:‏ إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً فضلوا بذلك وأضلوا‏.‏
وللمفسرين وجوه خمسة أخرى‏:‏
أحدها‏:‏ أن يكون للتعليل، وأن المعنى‏:‏ إنك فعلت ذلك استدراجاً لهم، ونسب إلى الفراء، وفسر به الطبري‏.‏
الثاني‏:‏ أن الكلام على حذف حرف، والتقدير‏:‏ لئَلا يضلوا عن سبيلك أي فضلُّوا‏.‏ حكاه الفخر‏.‏
الثالث‏:‏ أن اللام لام الدعاء‏.‏ روي هذا عن الحسن‏.‏ واقتصر عليه في «الكشاف»‏.‏ وقاله ابن الأنباري‏.‏ وهو أبعد الوجوه وأثقلها‏.‏
الرابع‏:‏ أن يكون على حذف همزة الاستفهام‏.‏ والتقدير‏:‏ أليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالاً تقريراً للشنعة عليهم، قاله ابن عطية‏.‏
ويكون الاستفهام مستعملاً في التعجب، قاله الفخر‏.‏
الخامس‏:‏ تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك، قاله الفخر‏.‏ وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها‏.‏
والزينة‏:‏ ما يتزين به الناس، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏زيَّن للناس حب الشهوات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والأموال‏:‏ ما به قوام المعاش، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ، وتعظّم شأنهم في أنظار قومهم، والأموال يسخِّرون بها الرعيَّة لطاعتهم، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاعية العيش ما سار ذكره في الآفاق‏.‏ وظهرت مُثل منه في أهرامهم ونواويسهم‏.‏
وأعيد النداء بين الجملة المعلِّلة والجملة المعلَّلة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قَصد الاعتراض‏.‏
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب ‏{‏ليَضلوا‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس‏.‏
والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضَلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلاً لغيرهم، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم‏.‏ وقد علمت آنفاً أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس‏.‏
وأعيد النداء ثالثَ مرة؛ لزيادة تأكيد التوجه والتضرع‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏اطمس على أموالهم‏}‏ هي المقصود من هذا الكلام، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف‏.‏
والطمْس‏:‏ المَحْو والإزالة‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن نَطْمس وجوهاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء، ويُعدى بحرف ‏(‏على‏)‏ كما هنا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لطمسنا على أعينهم‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 66‏]‏‏.‏ ولعل تعديته ب ‏(‏على‏)‏ لإرادة تمكن الفعل من المفعول، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها‏.‏
وأما قوله‏:‏ واشدد‏}‏ فأحسب أنه مشتق من الشد، وهو العسر‏.‏ ومنه الشدة للمصيبة والتحرج، ولو أريد غير ذلك لقيل‏:‏ واطبع، أو واختم، أو نحوهما، فيكون شدّ بمعنى أدخل الشدّ أو استعمله مثل جَد في كلامه، أي استعمَل الجد‏.‏
وحرف ‏(‏على‏)‏ مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة‏.‏ والمعنى‏:‏ أدخل الشدة في قلوبهم‏.‏
والقلوب‏:‏ النفوس والعقول‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر‏.‏ وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك، فعجَّلوا بالنَّوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربَّه منيباً إليه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏اشدد‏}‏ من الشد، وهو الهجوم‏.‏
يقال‏:‏ شد عليه، إذا هجم، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه، تمثيلاً لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يَشُد على عدوّه ليقتله وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأجْلب عليهم بخيلك ورجلك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ أي طوّعهم لحكمك وسَخّرهم‏.‏
وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء، أي افعَلْ بهم ذلك ليؤمنوا‏.‏ والفعل منصوب بأن مضمرة إضماراً واجباً بعد فاء السببية‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب‏}‏ في قوة أن يقال‏:‏ فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قَبْل ذلك‏.‏
وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان، إلى إيراده بصيغة نفي مُغيّا بغاية هي رؤية العذاب سلوكاً لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية، وكل ذلك علاجٌ بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تُجْد فيهم وسائل الحجة، فقال‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ أي أن شأنهم ذلك، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيانَ علة الدعاء عليهم بذلك‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم‏.‏
والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى، فتلك هي مصب الجواب‏.‏ وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال، ولا يعسر معه المنال، ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فلا يومنوا‏}‏ الخ عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا عن سبيلك‏}‏ وجملة الدعاء بينهما معترضة‏.‏
والمعنى‏:‏ ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم‏.‏ وهذا تأويل المبرد والزجاج‏.‏ والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس‏.‏
والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏
‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏
جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أنْ لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة‏.‏
وافتتاح الجملة ب ‏{‏قد‏}‏ والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل، فشبه بالمضي‏.‏
وأضيفت الدعوة إلى ضمير التثنية المخاطب به موسى وهارون وإن كانت الدعوة إنما حكيت عن موسى عليه السلام وحدَه لأن موسى عليه السلام دعا لما كان هارون مواطئاً له وقائلاً بمثله لأن دعوتهما واحدة‏.‏ وقيل‏:‏ كان موسى عليه السلام يدعو وهارون عليه السلام يؤمّن‏.‏
ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربّه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم، ويواليَ عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومةَ دعوة موسى وتنحطّ غلواؤهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنينَ ونقصصٍ من الثمرات لعلهم يذّكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏‏.‏
وفرع على إجابة دعوتهما أمرهما بالاستقامة، فعلم أن الاستقامة شكر على الكرامة فإن إجابة الله دعوة عبده إحسانٌ للعبد وإكرام وتلك نعمة عظيمة تستحق الشكر عليها وأعظم الشكر طاعة المنعم‏.‏
وإذ قد كان موسى وهارون مستقيمين، وناهيك باستقامة النبوءة كان أمرهما بالاستقامة مستعملاً في الأمر بالدوام عليها‏.‏ وأعقب حثهما على الاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الذين لا يعلمون وإن كان ذلك مشمولاً للاستقامة تنبيهاً على توخي السلامة من العدول عن طريق الحق اهتماماً بالتحذير من الفساد‏.‏
والاستقامة‏:‏ حقيقتها الاعتدال، وهي ضد الاعوجاج، وهي مستعملة كثيراً في معنى ملازمة الحق والرشد، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء‏.‏ وقيل للحق‏:‏ طريق مستقيم‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فكان أمرهما بالاستقامة جامعاً لجميع خصال الخير والصلاح‏.‏
وفي حديث أبي عَمْرَةَ الثقفي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك‏.‏ قال‏:‏ قل‏:‏ آمنت بالله ثم استقم‏.‏ ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا‏.‏
والسبيل‏:‏ الطريق، وهو هنا مستعمل للسيرة والعمل الغالب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبعان‏}‏ قرأه الجمهور بتشديد النون مكسورة‏.‏ وهما نونان‏:‏ إحداهما نون المثنى والأخرى نون التوكيد‏.‏ وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر ‏{‏ولا تتبعان‏}‏ بنون خفيفة مكسورة‏.‏ وهي نون رفع المثنى لا نون التوكيد، فتعين أن تكون ‏(‏لا‏)‏ على هاته القراءة نافية غير ناهية، والجملة في موضع الحال والواو واو الحال، لأن جملة الحال المضارعة المفتتحة بحرف نفي يجوز اقترانها بالواو وعدمُه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏
‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏
معطوفة على جملة ‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَتَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 87‏]‏ عطف الغرض على التمهيد، أي، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر‏.‏
وجاوزنا، أي قطعنا بهم البحر، والباء للتعدية، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر‏.‏ وتقدم نظيره في سورة الأعراف ‏[‏138‏]‏‏.‏ ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمُرون منها‏.‏
و ‏{‏أتبعهم‏}‏ بمعنى لحقهم‏.‏ يقال‏:‏ تَبعه فأتْبَعَه إذا سار خلفه فأدركه‏.‏ ومنه ‏{‏فأتبعَه شهابٌ ثاقب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أتبع مُرادف تبع‏.‏
والبغي‏:‏ الظلم، مصدر بغى‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والإثم البغيَ بغير الحق‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏
والعَدْو‏:‏ مصدر عدا‏.‏ وهو تجاوز الحد في الظلم، وهو مسوق لتأكيد البغي‏.‏ وإنما عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا‏.‏
والمعنى‏:‏ أن فرعون دخل البحر يتقصّى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنْعَهم من السفر، وإنما كان اتباعه إياهم ظلماً وعُدواناً إذ ليس له فيه شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء، فإن لذي الوطن حقاً في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخَلع في الجاهلية عقاباً، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بالمكان عقاباً، ومنه السجن، فليس الخروج من الوطن طوعاً بعُدوان‏.‏ فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشدّ للحاق بهم لردهم كرهاً كان في ذلك ظالماً معتدياً، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم‏.‏
وحتى‏}‏ ابتدائية لوقوع ‏{‏إذا‏}‏ الفُجائية بعدها‏.‏ وهي غاية للإتباع، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه، كل ذلك لا يفتأ يجدّ في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده، فغرقوا وهلك فرعون غريقاً، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من ‏(‏إذا‏)‏، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذففٍ‏.‏ والتقدير‏:‏ حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع، وليست الغاية هي قوله‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ وإن كان الأمران متقارنين‏.‏
والإدراك‏:‏ اللحاق وانتهاء السير‏.‏ وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجياً بهول البحر ومصارعته الموج، وهو يأمل النجاة منه، وأنه لم يُظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت، وذلك لتصلبه في الكفر‏.‏
وتركيب الجملة إيجاز، لأنها قامت مقام خمس جمل‏:‏
جملة‏:‏ تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق‏.‏
وجملة‏:‏ تفيد أنه لم يلحقهم‏.‏
وهاتان مستفادان من ‏(‏حتى‏)‏، وهاتان منَّة على بني إسرائيل‏.‏
وجملة‏:‏ تفيد أنه غمره الماء فغرق، وهذه مستفادة من قوله‏:‏ ‏{‏أدركه الغرق‏}‏ وهي عقوبة له وكرامة لموسى عليه السلام‏.‏
وجملة‏:‏ تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان‏.‏ وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق‏}‏‏.‏ وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية‏.‏
وجملة‏:‏ تفيد أنه مَا آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله‏.‏ وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى‏.‏
وقد بُني نظم الكلام على جملة‏:‏ ‏{‏إذا أدركه الغرق‏}‏، وجعل ما معها كالوسيلة إليها، فجعلت ‏(‏حتى‏)‏ لبيان غاية الإتْبَاع وجعلت الغاية أن قال‏:‏ ‏{‏آمنتُ‏}‏ لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعاً إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه، فكانت غايتُه إيمانَه بحقهم‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏ ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هُدوا إليه، فجعل الصلة طريقاً لمعرفته بالله، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر، ولذلك احتاج أن يزيد ‏{‏وأنا من المسلمين‏}‏ لأنه كان يسمع من موسى دعوتَه لأنْ يكون مسلماً فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف، ولذلك لم يقل‏:‏ أسلمتُ، بل قال أنا من المسلمين، أي يلزمني ما التزموه‏.‏ جاء بإيمانه مجملاً لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله‏.‏
وسيأتي قريباً في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏آمنتُ أَنه‏}‏ بفتح همزة ‏(‏أنه‏)‏ على تقدير باء الجر محذوفة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار ‏(‏إنّ‏)‏ واقعة في أول جملة، وأنّ جملتها بدل من جملة ‏{‏آمنت‏}‏ بحذف متعلق فعل ‏{‏آمنت‏}‏ لأن جملة البدل تدل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏
‏{‏آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره‏:‏ قال الله‏.‏ وهو جواب لقوله‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافاً لله بالربوبية، فكأنه وجه إليه كلاماً‏.‏ فأجابه الله بكلام‏.‏
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييساً له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق‏.‏ ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه ‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك‏}‏ كما سيأتي‏.‏
والاستفهام في ‏{‏ألآن‏}‏ إنكاري‏.‏ والآن‏:‏ ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏آمنتُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ تقديره‏:‏ الآن تؤمن، أي هذا الوقت‏.‏ ويقدر الفعل مؤخراً، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف‏.‏
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتاً ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى‏:‏ لا إيمان الآن‏.‏
والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة‏.‏ وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت‏.‏ وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏
و ‏(‏الآن‏)‏ اسم ظرف للزمان الحاضر‏.‏‏.‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن خفَّف الله عنكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين‏}‏ في موضع الحال من معمول ‏(‏تؤمن‏)‏ المحذوف، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكاراً أن صاحبه كان عاصياً لله ومفسداً للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسداً في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر‏.‏
وصيغة‏:‏ ‏{‏كنتَ من المفسدين‏}‏ أبلغ في الوصف بالإفساد من‏:‏ وكنتَ مُفسداً، كما تقدم آنفاً، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب‏.‏
والفاء التي في قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن رمتَ بإيمانك بعد فوات وقته أن أُنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية‏.‏
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملاً بشكّته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكماً، والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ حال‏.‏
والأظهر أن الباء من قوله‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله‏:‏ ‏(‏بدنك‏)‏ في معنى البدل المطابق من الكاف في ‏{‏ننجيك‏}‏ كزيادة الباء في قول الحريري‏:‏ «فإذا هو أبو زيد بعينه ومَينه»‏.‏
والبدَن‏:‏ الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق‏.‏ والمعنى‏:‏ ننجيك وأنت جسم‏.‏ كما يقال‏:‏ دخلت عليه فإذا هو جثة، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد، فإن كل زيادة في كلام البليغ يقصد منها معنى زائد، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز‏.‏
و ‏{‏لمن خلفك‏}‏ أي من وراءك‏.‏ والوراء‏:‏ هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي، أي من ليسوا معك‏.‏ والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحاً على شاطيء البحر غريقاً‏.‏ فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يُغلب، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود‏.‏ ولذلك كانوا يموّهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفَس الأشياء عنده، فموته بالغرق وهو يُتبع أعداءه ميتَة لا تُوَوّلُ بشيء من ذلك، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتاً كاملاً، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية‏.‏
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج، وتلك حالة أقل خزياً من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله‏.‏
وكلمة ‏{‏فاليوم‏}‏ مستعملة في معنى ‏(‏الآن‏)‏ لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازاً بعلاقة الكلية والجزئية‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وإنْ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون‏}‏ تذييل لموعظة المشركين، والواو اعتراضية، أو واو الحال‏.‏
والمراد منه‏:‏ دفع توهم النقص عن آيات الله عندما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم‏.‏
واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالةً على أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق‏.‏ وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة‏.‏
وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له ‏(‏مَيْرنْبَتَا‏)‏ بياء فارسية أو ‏(‏منفتاح‏)‏، أو ‏(‏منيفتا‏)‏ وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم ‏(‏سَيْزُوسْتريس‏)‏، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة1491 قبل المسيح‏.‏
قال ابن جُريج‏:‏ كان فرعون هذا قصيراً أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقاً في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدُفن في وادي الملوك في صعيد مصر‏.‏ فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبرُه هناك، وذلك يومئ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليومَ نُنَجّيك ببدنك لتكونَ لمن خلفك آية‏}‏‏.‏ ووجود قبر له إن صح بوجه محقق، لا ينافي أن يكون مات غريقاً، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة‏.‏
وخلفتْه في ملك مصر ابنته المسماة ‏(‏طوسير‏)‏ لأنه تركها وابناً صغيراً‏.‏
وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق‏.‏
ومن دقائق القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم نُنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‏}‏ وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي‏.‏ والظاهر أن الأمواج ألْقَت جثّته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقُوا بعده بمدينة مصر لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أكُفاركم خير من أولئكم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏‏.‏
فلما ضرب الله مثل السوء أتْبعَه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق، ليكون ذلك ترغيباً للمشركين في الإيمان، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة‏.‏
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بَوأهم مُبَوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرَققِ فرعون وجنوده، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم، ورُزقوا المنّ والسَّلوى، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة‏.‏
فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مُبَوّأ الصدق‏.‏
والرزقُ‏:‏ من الطيبات‏.‏
فمعنى ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ أولئك ولا مَن خلفهم من أبنائهم وأخلافهم‏.‏
والتبوّؤ تقدم آنفاً، والمُبَوّأ‏:‏ مكان البَوْء، أي الرجوع، والمراد المسكن كما تقدم، وإضافته إلى ‏(‏صدق‏)‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدراً ميمياً‏.‏ والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنّ لهم قَدَمَ صدق عند ربهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشارقَ الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏‏.‏
وتفريع قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ على ‏{‏بوأنا‏}‏ وما عطف عليه تفريعُ ثناء عليهم بأنهم شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوَّأهم الله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، فجعلوا لله شركاء، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم‏.‏ فوقع في الكلام إيجاز حذف‏.‏ وتقدير معناه‏:‏ فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد‏.‏ وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخَلْف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل ‏(‏اكتسب‏)‏ مبالغة في ‏(‏كسب‏)‏، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مُبوّأ صدق‏.‏
وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء‏.‏ وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله‏:‏ ‏{‏جاءهم العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاؤوهم به، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام‏.‏
فعن ابن عباس‏:‏ هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبيء يأتي، فلما جاءهم العلم، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس‏:‏ هم قريظة والنضير وبنو قينقاع‏.‏
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏ فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفاً مطهّرة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1، 2‏]‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏‏.‏
وهذا المحمل هو المناسب لحرف ‏(‏حتى‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏‏.‏
وتعقيبُ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر، أي فبقوا في ذلك المُبَوّأ، وفي تلك النعمة، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فإن الله سلبهم أوطانهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة‏}‏ تذييل وتوعد، والمقصود منه‏:‏ أن أولئك قوم مضَوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة‏.‏
و ‏(‏بينَ‏)‏ ظرفُ مكان للقضاء المأخوذ من فعل ‏(‏يَقضي‏)‏ ففعل القضاء كأنه متخلّل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل‏.‏
وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائد إلى ما يفهم من قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ من وُجود مخالف ‏(‏بكسر اللام‏)‏ ومخالَف ‏(‏بفتحها‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏
‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏
تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلاً لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم‏.‏ انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من ‏{‏ما أنزلنا إليك‏}‏ هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص‏.‏
ثم أن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما؛ أولهما‏:‏ أن تبقى الظرفية التي دلت عليها ‏(‏في‏)‏ على حقيقتها، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال‏:‏ دخل في الفتنة، أي في أهلها‏.‏ ويكون معنى ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار‏.‏ فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن تكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة‏.‏ وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكُونَنّ من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص‏.‏
وكلا الاحتمالين يلاقي قوله‏:‏ ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها‏.‏ وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، ويقتضي أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لمكان قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏‏.‏
وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب، لأن قوله‏:‏ ‏{‏مما أنزلنا إليك‏}‏ يناكد ذلك إلا بتعسف‏.‏
وإنما تكون جملة‏:‏ ‏{‏فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ جواباً للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب، كما دلت عليه جملة‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فاسأل‏}‏ بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين‏.‏ وقرأه ابن كثير والكسائي ‏{‏فسَل‏}‏ بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سَأل‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏لقد جاءك الحق من ربك‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه، كأنّ السامع يقول‏:‏ فإذا سألتهم ماذا يكون، فقيل‏:‏ لقد جاءك الحق من ربك‏.‏
ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي التأكيد، وهما‏:‏ لام القسم وقد، لدفع إنكار المعرّض بهم‏.‏
وبذلك كان تفريع ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ تعريضاً أيضاً بالمشركين بأنهم بحيث يُحذر الكون منهم‏.‏
والامتراء‏:‏ الشك فيما لا شبهة للشك فيه‏.‏ فهو أخص من الشك‏.‏
وكذلك عطف ‏{‏ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله‏}‏ وهو أصرح في التعريض بهم ‏{‏فتكون من الخاسرين‏}‏‏.‏ وهذا يقتضي أنهم خاسرون‏.‏ ونظيره ‏{‏لئن أشركت ليحبطنّ عملُك ولتكوننّ من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏، وحاصل المعنى‏:‏ فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلَكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏
تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشّاكّين في صدق النبي صلى الله عليه وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غيرُ قابلة لحقائق الإيمان، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون، تلك أماراتهم‏.‏ وهذا مَسوق مساق التأييس من إيمانهم‏.‏
ومعنى ‏(‏حقت‏)‏ ثبتت‏.‏ و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به‏.‏ والمراد بكلمات الله‏:‏ أمر التكوين، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة‏.‏
وقرأ غير نافع، وابن عامر ‏{‏كلمةُ ربك‏}‏ على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة، وهذا الكلام عظة للمشركين‏.‏ قال غيرهم‏:‏ وتحذير من أن يكونوا مظهراً لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم‏.‏
فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود، والجملة كلها مستأنفة، و‏(‏إنّ‏)‏ للتوكيد المقصود به التحقيق، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم‏.‏
ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون ‏(‏إن‏)‏ لمجرد الاهتمام بالخبر، فتفيد التعليل والربط، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار‏:‏
إن ذاك النجاح في التبكير ***
كما تقدم غير مرة ويكون في الآية تعريض آخر بالمشركين‏.‏
و ‏(‏لو‏)‏ وصلية للمبالغة، أي لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية فكيف إذا لم تجئهم إلا بعض الآيات‏.‏
و ‏(‏كل‏)‏ مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال كثير في القرآن‏.‏ كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى كُلّ ضامر‏}‏ في سورة الحج ‏(‏31‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏27‏)‏، أي ولو جاءتهم آيات كثيرة تشبه في الكثرة استغراق جميع الآيات الممكن وقوعها‏.‏ وقد تقدم نظير ذلك آنفاً‏.‏
ورؤية العذاب، كناية عن حلوله بهم‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم الإيمان، لأن نزول العذاب هو ابتداء مجازاتهم على كفرهم، وليس بعد الشروع في المجازاة عفو‏.‏
ومن بركة هذا الدين أن الذين كفروا به قد هداهم الله قبل أن ينزل بهم عذاباً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏
‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فإن أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا‏.‏ والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية‏.‏
و ‏(‏لولا‏)‏ حرف يرد لمعان منها التوبيخ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط، لأن أهل القرى قد انقضوا، وذلك أن أصل معنى ‏(‏لولا‏)‏ التحضيض، وهو طلب الفعل بحَثّ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وإذا توجه الكلام الذي فيه ‏(‏لولا‏)‏ إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه، كقوله‏:‏ ‏{‏لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود ‏(‏كان‏)‏ الدالة على المضي والانقضاء‏.‏ والمقصود‏:‏ التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنَن أهل القرى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما آمنتْ قبلهم من قرية أهلكناها أفَهُم يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏، ونظير هذه الآية استعمالاً ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولُوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب‏.‏
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعاً لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءاً منقطعاً‏.‏
وإذ كان الكلام تغليطاً لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضاً بالتحذير مما وقعوا فيه‏.‏ كان الكلام إثباتاً صريحاً ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري‏:‏ «يا أهل ذا المغْنَى وقيتم ضُراً» أي كل ضر لا ضراً معيناً، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله‏:‏ ‏{‏إلا قومَ يونس‏}‏ فهذا وجه تفسير الآية‏.‏ وجرى عليه كلام العُكبري في «إعراب القرآن»، والكواشي في «التخليص» وجمهور المفسرين جعلوا جملة‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ في قوة المنفية، وجعلوا الاستثناء منقطعاً منصوباً ولا داعي إلى ذلك‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لمّا آمنوا‏}‏ مستأنفة لتفصيل مجمَل معنى الاستثناء‏.‏ وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب‏.‏ وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعُدة، فيكاد يحل بهم عذاب استئصال لولا أنهم عجّلوا بالإيمان يوم الفتح‏.‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «أنتُم الطلقاء»
وقوم يونس هم أهل قرية نَيْنَوَى من بلاد العراق‏.‏ وهم خليط من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر‏.‏ وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرى الثامن قبل المسيح‏.‏ وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام‏.‏
ولما كذّبه أهل نَيْنَوَى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوماً، وخرج من المدينة غاضباً عليهم، فلمّا خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذّبهم‏.‏ والمذكور أنهم رأوا غيماً أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب‏.‏ وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء‏.‏
والكشف‏:‏ إزالة ما هو ساتر لشيء، وهو هنا مجاز في الرفع‏.‏ والمراد‏:‏ تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلاً لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع‏.‏
والخزي‏:‏ الإهانة والذل‏.‏ وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله‏.‏ وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجّى قوم يونس‏.‏
و ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ صفة ل ‏{‏عذاب الخزي‏}‏ للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد أدخر لها عذاب الآخرة‏.‏
والتمتيع‏:‏ الإمهال‏.‏
وإبهام ‏{‏حين‏}‏ لأنه مختلف باختلاف آجال أحادهم، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا‏.‏
ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الله علم أن تكذيبهم يونس عليه السلام في ابتداء دعوته لم يكن ناشئاً عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله، ولكنه كان شكاً في صدق يونس عليه السّلام‏.‏ ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى عليه السّلام وإنما حرّفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله، فإن في نَيْنَوَى كثيراً من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الأشوريين كما علمت آنفاً، فلما أوعدهم يونس عليه السّلام بالعذاب بعد أربعين يوماً ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوماً اهتدَوا وآمنوا إيماناً خالصاً‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن يونس عليه السّلام لمّا صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئاً من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه، ولذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ من توهم أنّ ما جرى ليونس عليه السّلام من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يقول أنَا خير من يونس بن متّى» يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها‏.‏
وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعُوا في قبضة الأسر، ولذلك لم ينج منهم عبدُ الله بن خطل، لأنه لم يأت مُؤمناً قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الحرم لا يعيذ عاصياً» وقد بيّنّا في آخر سورة غافر ‏(‏84‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏}‏ إلى آخر السورة فانظره‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏
‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه‏.‏ وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس‏.‏ وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها، وهي جملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره‏}‏ المفرعة على الجملة الأولى، وهي المقصود من التسلية‏.‏
والناس‏:‏ العرب، أو أهل مكة منهم، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ نوح‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏‏.‏
والتأكيد ب ‏{‏كلهم‏}‏ للتنصيص على العموم المستفاد من ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة فإنها للعموم، والتأكيد ب ‏{‏جميعاً‏}‏ لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي‏.‏
والمعنى‏:‏ لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح‏.‏
و ‏(‏لو‏)‏ تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها‏.‏ فالمعنى‏:‏ لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ الخ مفرّعة على التي قبلها، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعاً‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أفأنت تُكره الناس‏}‏ إنكاري، فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه‏.‏
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، فقيل‏:‏ ‏{‏أفأنت تُكره الناس‏}‏ دون أن يقال‏:‏ أفتكره الناس، أو أفأنت مُكره الناس، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار‏.‏ وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه، ومَن بلغ المجهود حق له العذر‏.‏
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيداً للتخصيص، أي القصر، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر، إذ مجرد تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه‏.‏ فما وقع في «الكشاف» من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه، لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي‏.‏
والإكراه‏:‏ الإلجاء والقسر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏
‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك‏.‏
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان‏.‏
والإذن‏:‏ هنا إذن تكوين وتقدير‏.‏ فهو خلْق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يُتبع وما لا ينبغي، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وُجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى‏.‏
ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابله ‏{‏ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون‏}‏ فقابَلَ هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون، فبينت آية ‏{‏ولو شك ربك لآمن مَن في الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه‏.‏ وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول‏.‏
والرجس‏:‏ حقيقته الخبث والفساد‏.‏ وأطلق هنا على الكفر، لأنه خبث نفساني، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً إلى قوله‏:‏ ‏{‏فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون‏.‏ والمراد نفي العقل المستقيم، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏ويجعل الرجس‏}‏ بياء الغيبة، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم ‏{‏ونجعل‏}‏ بنون العظمة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏
‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏
استئناف ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ الخ‏.‏ قسّم الناس إلى قسمين‏:‏ مؤمنين وكافرين، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية، مثل أجرام الكواكب، وتقادير مسيرها، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر، وكذلك البحار والجبال‏.‏
وافتتحت الجملة ب ‏{‏قل‏}‏ للاهتمام بمضمونها‏.‏ وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كلّ نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالاً عليه لديها‏.‏
والنظر‏:‏ هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فَجيءَ بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن‏.‏
و ‏{‏ماذا‏}‏ بمعنى ما الذي، و‏(‏ما‏)‏ استفهام، و‏(‏ذا‏)‏ أصله اسم إشارة، وهو إذا وقع بعد ‏(‏ما‏)‏ قَام مقام اسم موصول‏.‏ و‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ قائم مقام صلة الموصول‏.‏ وأصل وضع التركيب‏:‏ مَا هذا في السماوات والأرض، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض، فكثر استعماله حتى صار في معنى‏:‏ ما الذي‏.‏ والمقصود‏:‏ انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين، نحو‏:‏ انظروا الشمس طالعة، وانظروا السحاب ممطراً، وهكذا، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو‏:‏ انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث‏.‏ ف ‏(‏ذا‏)‏ لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته، وأخص ذلك التأمل في خُلق النبي صلى الله عليه وسلم ونشأة دعوته، والنظر فيما جاء به‏.‏ فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه‏.‏
وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان، فالتقدير‏:‏ انظروا تَرَوا آيات مُوصّلة إلى الإيمان‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات‏}‏ معترضة ذيلت بها جملة‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى‏.‏ والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن، ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ مفيداً أن ذلك آيات كما تقدم حَسُن وقع التعبير عنها بالآيات هنا، فمعنى ‏{‏وما تغني الآيات‏}‏‏:‏ وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار‏.‏
وزيدت ‏(‏النذر‏)‏ فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها، وذلك أن القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات‏.‏
ولفظ ‏{‏قوم لا يؤمنون‏}‏ يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم، لأن اجتلاب لفظ ‏{‏قوم‏}‏ هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم، بخلاف ما لو قيل‏:‏ عمن لا يؤمنون‏.‏ ألا ترى إلى قول العنبري‏:‏
قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زَرافات ووُحدانا
أي قوم هذه سجيتهم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآياتتٍ لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏ وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفاً‏.‏ وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار‏.‏ وهذا من بدائع الإعجاز هنا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏
‏{‏فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏ما تغني الآيات والنذر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏ باعتبار ما اشتملت عليه من ذكر النُذُر‏.‏ فهي خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أي يتفرع على انتفاء انتفاعهم بالآيات والنذر وعلى إصْرارهم أنْ يُسأل عنهم‏:‏ ماذا ينتظرون، ويجاب بأنهم ما ينتظرون إلا مِثل ما حلّ بمن قبلهم ممن سِيقت قصصهم في الآيات الماضية، ووقع الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ لإفادتها تحقيق السؤال وهو باعتبار تحقيق المسؤول عنه وأنه جدير بالجواب بالتحْقيق‏.‏
والاستفهام مجاز تهكمي إنكاري، نزلوا منزلة من ينتظرون شيئاً يأتيهم ليؤمنوا، وليس ثمة شيء يصلح لأن ينتظروه إلا أن ينتظروا حلول مثل أيام الذين خلوا من قبلهم التي هلكوا فيها‏.‏ وضمن الاستفهام معنى النفي بقرينة الاستثناء المفرَّغ‏.‏ والتقدير‏:‏ فهل ينتظرون شيئاً مَا ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏.‏ وأطلقت الأيام على ما يقع فيها من الأحداث العظيمة‏.‏ ومن هذا إطلاق «أيام العرب» على الوقائع الواقعة فيها‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏قل فانتظروا‏}‏ مفرعة على جملة‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون‏}‏‏.‏ وفصل بين المفرّع والمفرّع عليه ب ‏{‏قُل‏}‏ لزيادة الاهتمام‏.‏ ولينتقل من مخاطبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وبذلك يصير التفريع بين كلامين مختلفَي القائل شبيهاً بعطف التلقين الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ على أن الاختلاف بين كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي والتبليغ اختلاف ضعيف لأنهما آئلان إلى كلام واحد‏.‏ وهذا موقع غريب لفاء التفريع‏.‏
وبهذا النسج حصل إيجاز بديع لأنه بالتفريع اعتبر ناشئاً عن كلام الله تعالى فكأنّ الله بلغه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلّغه قومه فليس له فيه إلاّ التبليغ، وهو يتضمن وعد الله نبيئه بأنه يرى ما ينتظرهم من العذاب، فهو وعيد وهو يتضمن النصر عليهم‏.‏ وسيصرح بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ثم ننجي رسلنا‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن جملة‏:‏ ‏{‏انتظروا‏}‏ لأنها تثير سؤال سائل يقول‏:‏ ها نحن أولاء ننتظر وأنت ماذا تفعل‏.‏ وهذا مستعمل كناية عن ترقبه النصر إذ لا يظن به أنه ينتظر سوءاً فتعين أنه ينتظر من ذلك ضد ما يحصل لهم، فالمعية في أصل الانتظار لا في الحاصل بالانتظار‏.‏ و‏(‏مع‏)‏ حال مؤكدة‏.‏ و‏{‏من المنتظرين‏}‏ خبر ‏(‏إنّ‏)‏ ومفاده مفاد ‏(‏مع‏)‏ إذ ماصدق المنتظرين هم المخاطبون المنتظرون‏.‏
و ‏{‏ثم ننجّي رسلنا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا‏}‏ لأن مثل تلك الأيام يومُ عذاب‏.‏ ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك حقاً علينا ننجِّي المؤمنين‏}‏ تذييل‏.‏ والإشارة ب ‏{‏كذلك‏}‏ إلى الإنجاء المستفاد من ‏{‏ثم ننجِّي‏}‏‏.‏
و ‏{‏حقّاً علينا‏}‏ جملة معترضة لأن المصدر بدل من الفعل، أي حق ذلك علينا حقاً‏.‏
وجعله اللّهُ حقاً عليه تحقيقاً للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏نُنَجّي المؤمنين‏}‏ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان ‏{‏ننجي رسلنا‏}‏‏.‏ وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم ‏{‏نُنْجي المؤمنين‏}‏ بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء‏.‏ فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن، والمعنى واحد‏.‏
وكتب في المصحف ‏{‏ننج المؤمنين‏}‏ بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها للاتقاء الساكنيْن‏.‏ ”
تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏قُل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين‏.‏ والمراد ب«الناس» في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة‏.‏
و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏في شك‏}‏ للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيهاً لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة‏.‏
وعلق الظرف بذات الدين، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ديني‏}‏ للابتداء المجازي، أي شككٍ آتتٍ من ديني‏.‏ وهو ابتداء يَؤول إلى معنى السببية، أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقوله‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وقد تقدم آنفاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً، وكونِه من عند الله‏.‏ وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى‏.‏ فالتقدير الجواب‏:‏ فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله‏.‏
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام‏.‏ فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1، 2‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏لكم دينكم ولي دين‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ فيتأتى في هذه الآية غرضان‏.‏ فيكون المراد بالناس في قوله‏:‏ ‏{‏قل يأيها الناس‏}‏ جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا‏.‏
والذين يعبدونهم الأصنام‏.‏ وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير‏.‏ ونظير هذا في القرآن كثير‏.‏
واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت‏.‏
واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم مُعَرَّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم‏.‏
والجمع بين نفي أن يَعبد الأصنام، وبين إثبات أنه يعبد الله؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال‏:‏ فلا أعبد إلا اللّهَ، فوجه العدول عن صيغة القصر‏:‏ أنّ شأنَها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبَت لأنه المقصود‏.‏ وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلاً عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات‏.‏ فهو إطناب اقتضاه المقام، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل‏:‏
تسيل على حد الظُبَات نفوسنا *** وليست على غير الظُبات تسيل
و‏{‏أمرت‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏‏.‏
و ‏{‏أن أكون‏}‏ متعلق ب ‏{‏أمرت‏}‏ بحذف حرف الجر‏.‏ وهو الباء التي هي لتعدية فعل ‏(‏أمرت‏)‏، و‏(‏أن‏)‏ مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية‏.‏
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق‏.‏ وفي جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏
‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏
‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا‏}‏
موقع هذه الجملة مُعضل لأن الواو عاطفة على محالة، ووقعت بعدها ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ فالأظهر أن تكون ‏(‏أنْ‏)‏ مصدرية، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة ‏(‏أنْ‏)‏ أن تكون جملة خبرية‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ قد سوغ سيبويه أن توصف ‏(‏أن‏)‏ بالأمر والنهي، لأن الغرض وصل ‏(‏أن‏)‏ بما تكون معه في معنى المصدر، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال اه‏.‏ يشير إلى ما في «كتاب سيبويه» «بابٌ تكون ‏(‏أنْ‏)‏ فيه بمنزلة ‏(‏أيْ‏)‏»‏.‏ فالمعنى‏:‏ وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفاً، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد‏.‏
وقيل الواو عطفتْ فعلاً مقدّراً يدل عليه فعل ‏(‏أمرت‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأوحي إلي، وتكون ‏(‏أنْ‏)‏ مفسرة للفعل المقدر، لأنه فيه معنى القول دون حروفه‏.‏
وعندي‏:‏ أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضًى بلاغي، فلا بد من أن يكون لصيغة ‏{‏أقم وجهك‏}‏ خصوصية في هذا المقام، فلنُعرض عمّا وقع في «الكشاف» وعن جعل الآية مثالاً لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعاً في استعمالها بأن استعملت نائبة مَناب الفعل الذي عَطفت عليه، أي فعلَ ‏{‏أمرت‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 104‏]‏ دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره‏.‏ والتقديرُ‏:‏ أمرت أنْ أقم وجهك فتكون ‏(‏أن‏)‏ تفسيراً لما في الواو من تقدير لفظ فعل ‏(‏أمرْت‏)‏ لقصد حكاية اللفظ الذي أمره الله به بلفظه، وليتأتّى عطف ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ عليه‏.‏ وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 49‏]‏، وهو هنا أوْعب‏.‏
والإقامة‏:‏ جعل الشيء قائماً‏.‏ وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر‏.‏ واللام للعلة، أي لأجل الدين، فيصير المعنى‏:‏ محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكاً في توجهك‏.‏ وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها‏.‏ وقريب منه قوله‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏
و ‏{‏حنيفاً‏}‏ حال من ‏{‏الدين‏}‏ وهو دين التوحيد، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏‏.‏
نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحاً بمعنى ‏{‏حنيفاً‏}‏‏.‏ وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرّؤ من الشرك‏.‏
وقد تقدم غير مرة أن قوله‏:‏ ‏{‏من المشركين‏}‏ ونحوَه أبلغ في الاتصاف من نحو‏:‏ لا تكن مشركاً، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏
‏{‏وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏‏.‏ ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد؛ لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما لا يَنفعك ولا يضرك‏}‏ يومئ إلى وجه النهي عن دعائك، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل‏.‏
و ‏{‏من دون الله‏}‏ اعتراض بين فعل ‏{‏تدع‏}‏ ومفعوله، وهو إدماج للحث على دعائه الله‏.‏
وتفريع ‏{‏فإن فعلت‏}‏ على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه‏.‏
وأكّد الكون من الظالمين على ذلك التقدير ب ‏(‏إنّ‏)‏ لزيادة التحذير، وأُتي ب ‏(‏إذن‏)‏ للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلاً سأل‏:‏ فإن فعلت فماذا يكون‏؟‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏من الظالمين‏}‏ من تأكيدٍ مثل ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من المشركين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏ ونظائره‏.‏
والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏
‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏ لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله، فلما أبطَلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل، عقبت جملة ‏{‏ولا تدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 106‏]‏ بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة‏.‏
ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة، وبصيغتي العموم في قوله‏:‏ ‏{‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فلا رادَّ لفضله‏}‏ الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة، كما صُرح به في قوله تعالى في سورة ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن مُمسكات رحمته‏}‏
وتوجيهُ الخطاب للنبيء لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر‏.‏ فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود‏.‏
والمس‏:‏ حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه، وقد يطلق على الإصابة مجازاً مرسلاً‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان‏}‏ في آخر سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏
والإرادة بالخير‏:‏ تقديرُه والقصدُ إليه‏.‏ ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئاً فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده‏:‏ يصيب به من يشاء من عباده‏}‏‏.‏ وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏ ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذٍ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند‏.‏
والفضل‏:‏ هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء‏.‏
وتنكير ‏(‏ضُر‏)‏ و‏(‏خير‏)‏ للنوعية الصالحة للقلة والكثرة‏.‏
وكل من جملة؛ فلا كاشف له إلا هو‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فلا رادَّ لفضله‏}‏ جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏يصيب به من يشاء من عباده‏}‏ واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له، فلذلك فصلت عنها‏.‏
والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير، فيكون امتناناً وحثاً على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير؛ أو يعودُ إلى ما تقدم من الضر، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفاً وتبشيراً وتحذيراً وترغيباً‏.‏
وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان‏.‏
والإصابة‏:‏ اتصال شيء بآخر ووروده عليه، وهي في معنى المس المتقدم، فقوله‏:‏ ‏{‏يصيب به من يشاء‏}‏ هو في معنى قوله في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏
والتذييل بجملة‏:‏ وهو الغفور الرحيم‏}‏ يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم‏.‏
ولولا غفرانه لَما كانوا أهلاً لإصابة الخير، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «إني ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»
ويشير أيضاً إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسْرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يرضَى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏
‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاماً جامعاً وموادعة قاطعة‏.‏
وافتتاحها ب ‏{‏قل‏}‏ للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي‏.‏
وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر، والمقصود منه ابتداءً المشركون، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم، وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفاً لهم‏.‏
وأكد الخبر بحرف ‏{‏قد‏}‏ تسجيلاً عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقاً لكونه حقاً‏.‏
والحق‏:‏ هو الدين الذي جاء به القرآن، ووصفه ب ‏{‏من ربكم‏}‏ للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب، فهو معصوم من ذلك‏.‏
واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير ‏{‏الناس‏}‏ على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يربّ، أي يسوس ويدبر‏.‏
وتفريع جملة‏:‏ ‏{‏فمن اهتدى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏قد جاءكم‏}‏ للإشارة إلى أن مجيء الحق الواضح يترتب عليه أن إتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه، ورتب عليها تبعة الإعراض‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لنفسه‏}‏ دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه‏.‏
ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ وفي ‏{‏فإنما يضل عليها‏}‏ للرد على المشركين إذ كانوا يتمطَّون في الاقتراح فيقولون‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيداً أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لنفسه‏}‏ أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي‏.‏ وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي‏.‏
وجملة ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏من اهتدى‏}‏ فهي داخلة في حيز التفريع، وإتمام للمفرع، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطّوا ويشترطوا، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضُرُّهم‏.‏
والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال‏.‏
ومعنى الوكيل‏:‏ الموكول إليه تحصيل الأمر‏.‏ و‏{‏عليكم‏}‏ بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏
‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏قل‏}‏ أي بلغ الناس ذلك القول ‏{‏واتّبع ما يوحى إليك‏}‏، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك‏.‏ و‏{‏اصبر‏}‏ أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله‏:‏ ‏{‏حتى يحكم الله‏}‏ فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر‏.‏
ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلاً على قرينة السياق، أي حتى يحكم الله بينك وبينهم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ ثناء وتذييل لما فيه من العمُوم، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها، فالتعريف في ‏{‏الحاكمين‏}‏ للاستغراق بقرينة التذييل‏.‏
و ‏{‏خير‏}‏ تفضيل، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال‏.‏ والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفَاء الإنصاف في إعطاء الحقوق‏.‏ وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدًى عليه، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا‏.‏ وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع‏.‏

1 commentaire:

  1. 1xbet | 1xbet | Bet with a Bonus - RMC | Riders Casino
    1XBet allows communitykhabar you to bet on any favourite jancasino horse races or any 1xbet login other sporting event. ✓ Get up to £300 + 200 Free goyangfc.com Spins No Deposit

    RépondreSupprimer