{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}
افتتحت السورة ب {الحمد لله} للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإِلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإِخبار باختصاصه به. فجملة {الحمد لله} هنا يجوز كونها إخباراً بأن جنس الحمد مستحَق لله تعالى فتكون الّلام في قوله: {لله} لام الملك. ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وَجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام: أحمد الله.
وقد تقدم الكلام على {الحمد لله} في سورة الفاتحة (2)، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف.
وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب {الحمد لله} وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه، والربع الأخير، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف.
واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإِنشاء الثناء عليه لأن مِلكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجادُ تلك المملوكات وذلك الإِيجادُ عمل جميل يستحق صاحبه الحمد، وأيضاً هو يتضمن نعماً جمة. وهي أيضاً تقتضي حمد المنعِم، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضِل؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية، فيها هدى حسِّي ونفساني، وإليه معارجَ للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السِيَر، وإزالةُ الغِيَر، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين.
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.
وجملة {وله الحمد في الآخرة} عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة.
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.
واعلم أن جملة: {الحمد لله} وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصراً مجازياً للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة {الحمد لله} وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة {له الحمد} لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]، فالمعنى: أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه.
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي {الحكيم الخبير}، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة: إتقان التصرف بالإِيجاد وضده، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها، وهو يستلزم التمكن من تصريفها، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}
بيان لجملة {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقانُ العمل بالعلم.
وخص بالذكر في متعلِّق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يَدِبّ على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دَابًّا وجائلاً فيهما، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدبّ عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها.
والولوج: الدخول والسلوكُ مثل ولُوج ماء المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يُقبرون في الأرض وأحوالهم. والذي ينزل من السماء: المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواصف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء، وعروجُ الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4].
واعلم أن كلمتي {يلج} و{يخرج} أوضح ما يُعَبَّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي {ينزل} و{يعرج} أوضح ما يعبَّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالةً مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإِنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقتها بكتابي «أصول الإنشاء والخطابة» بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.
ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلم الطيّب أتبع ذلك بقوله: {وهو الرحيم الغفور} أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)}
{الرحيم الغفور * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}.
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعراً بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً} [المرسلات: 25، 26] وقال: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44]، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها مومياً إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله: {وله الحمد في الآخرة} [سبأ: 1] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة}، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطراداً واعتراضاً، وتقدم آنفاً ما قيل: إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.
وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعَلَم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين.
و {الساعة}: عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر.
وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت، لأن وقوعها هو إتيانها.
وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس.
ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإِبطال المؤكد على عادة إرشاد القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد.
و {بلى} حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير (بل) أو مركب من (بل) وألف زائدة، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثُمّة ورُبّة، لكن {بلى} حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفاً و(بل) يجاب به الإِثبات والنفي وهو عاطف، وتقدم الكلام على {بلى} عند قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة} في سورة البقرة (81).
وأكد ما اقتضاه بلى} من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإِقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين.
وعُدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون: لَتأتينَّا، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال: أتاكم العدوّ، وأتاك أتاك اللاّحقون، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب.
وفعل (أتى) يرد كثيراً في معنى حلول المكروه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] و{فأتاهم العذاب} [الزمر: 25] و{يوم يأتي بعض آيات ربك} [الأنعام: 158]، وقول النابغة:
فلتأتينك قصائد وليدفعَن *** جيشاً إليك قوادم الأكوار
وقوله:
أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتني ***
ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل (أتى) بحرف (على) فيقولون: أتى على كذا، إذا استأصله. ويكثر في غير ذلك استعمال فعل (جاء)، وقد يكون للمكروه نحو {وجاءهم الموج من كل مكان} [يونس: 22].
{وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى}.
{عالمُ الغيب} خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله: {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] في قراءة من قرأه بالرفع، وصفة ل {ربي} المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكرَه مناسبةُ تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس.
وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذُكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.
والغيب تقدم في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] على معان ذكرت هنالك.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {عالمُ الغيب} بصيغة اسم الفاعل، وبرفع {عالمُ} على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضاً ومجروراً على الصفة لاسم الجلالة في قوله: {ربّي}.
وقرأ حمزة والكسائي {علاّم} بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلاً سفسطائياً على أنها ليست بواقعة، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 1، 2].
والعزوب: الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى {لا يعزب عنه}: لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس {وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} 61).
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء {وإن كان مثقال حبة من خردل} (47).
وأشار بقوله: مثقال ذرة} إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رُفاتاً وتراباً فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلاً يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإن عَدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالماً بمصير كل جزء، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتُنفخ فيها أرواحها.
فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] ثم تنمو تلك الأجسام سريعاً فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا.
وانظر قوله تعالى: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} في سورة القمر (6، 7)، وقوله: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} في سورة القارعة (4) فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البَيْض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تصير جراداً وتطير. ولهذا سمى الله ذلك البعث نَشْأة لأن فيه إنشاء جديداً وخلقاً معاداً وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع رُوح كل جسد إليه بعد تصويره بما سُمي بالنفخ فقال: {وإن عليه النشأة الأخرى} [النجم: 47] وقال: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان} [ق: 15، 16] الآية. أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل.
وأشار بقوله: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}
لام التعليل تتعلق بفعل {لتأتينكم} [سبأ: 3] دون تقييد الإِتيان بخصوص المخاطبين بل المراد من شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل: لتأتين الساعة ليجزَى الذين آمنوا ويجزَى الذين سعوا في آياتنا معاجزين، وهم المخاطبون، وضمير «يجزي» عائد إلى {عالمُ الغيب} [سبأ: 3].
والمعنى: أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم، أي جزاءً صالحاً مماثلاً، وجزاء المفسدين جزاء سيئاً، وعُلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه.
والإِتيان باسم الإِشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إليه جدير بما سيرد بعد اسم الإِشارة من الحكم لأجْل ما قبل اسم الإِشارة من الأوصاف.
فجملة {أولئك لهم مغفرة} ابتدائية معترضة بين المتعاطفين.
وجملة {أولئك لهم عذاب من رجز} ابتدائية أيضاً.
وقوله: {والذين سعوا} عطف على {الذين آمنوا}، وتقدير الكلام: ليُجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق.
والمعنى: أن عالم الإِنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم، وفاسدين متفاوت فسادهم، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين، وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذّب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاءً على إحسانه ولا المفسد جزاء على إفساده، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحاً، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم. وإذ قد شوهد أن ذلك لم يحصل في هذه الحياة علمنا أن بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى، فهذا مما يدل عليه العقل السليم، وقد أعلَمَنا خالقُ الخلق بذلك على لسان رسوله ورسله صلى الله عليه وسلم فتوافق العقل والنقل، وبطل الدَّجْل والدَّخْل.
وجُعل جزاء الذين آمنوا مغفرة، أي تجاوزُوا عن آثامهم، ورزقاً كريماً وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آيلون إلى المغفرة والرزق الكريم.
ووصفَ بالكريم، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {كتاب كريم} في سورة النمل (29).
وقوبل الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ب {الذين سَعوا في آياتنا} لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها، وبذلك يشمل عَمل السيئات وهو سيئة من السيئات، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل} [سبأ: 7] الخ.
ومعنى {سعوا في آياتنا} اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها، فالسعي مستعار للجد في فعل ما، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} في سورة الحج (51). وآيات الله هنا: القرآن كما يدل عليه قوله بعد:
{الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ: 6].
و {معاجزين} مبالغة في مُعْجِزين، وهو تمثيل: شُبِّهت حالهم في مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بحال من يمشي مشياً سريعاً ليسبق غيره ويعجزه. والعذاب: عذاب جهنم. والرّجز: أسوَأْ العذاب وتقدم في قوله تعالى: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} في سورة البقرة (59). ومِن} بيانية فإن العذاب نفسه رجز.
وقرأ الجمهور: {معاجزين} بصيغة المفاعلة تمثيلاً لحال ظنهم النجاة والانفلات من تعذيب الله إياهم بإنكارهم البعث والرسالة بحال من يسابق غيره ويعاجزه، أي يحاول عجزه عن لحاقه.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده {معجِّزين} بصيغة اسم الفاعل من عجّز بتشديد الجيم، ومعناه: مثبطين الناس عن اتباع آيات الله، أو معجزين من آمن بآيات الله بالطعن والجدال.
وقرأ الجمهور: {أليمٍ} بالجر صفة ل {رجز}. وقرأه ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع صفة ل {عذاب}، وهما سواء في المعنى.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}
عطف على {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سبأ: 4] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمراد بالذين سَعوا في الآيات الذين كفروا، عدل عن جعل صلة اسم الموصول {كفروا} [سبأ: 3] لتصلح الجملة أن تكون تمهيداً لإِبطال قول المشركين في الرسول صلى الله عليه وسلم {أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 8]، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديراً بأن يمهد لإِبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض، وهذه طريقة في إبطال شُبَه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبهة ما يقابلها من إبطالها، وربما سلك أهل الجدل طريقة أخرى هي تقديم الشبهة ثم الكرور عليها بالإِبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب «المواقف»، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها التفتزاني في كتاب «المقاصد».
والحق أن الطريقتين جادّتان وقد سُلكتا في القرآن.
ويجوز أن تكون جملة {ويرى الذين أوتوا العلم} عطفاً على جملة {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} [سبأ: 5] فبعد أن أوردت جملة {والذين سعوا} لمقابلة جملة {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سبأ: 4] الخ اعتبرت مقصوداً من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة {ويرى الذين أوتوا العلم} للإِشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيباً للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى.
والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون (ويعلم) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العِلم بالمرئيات التي علمها ضروري، ومفعولا (يرى) {الذي أنزل} و{الحق}. وضمير {هو} فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصراً إضافياً، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن، ويجوز أيضاً أن يفيد قصراً حقيقياً ادعائياً، أي قصر الحقِّيَّة المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل.
و {الذين أوتوا العلم} فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخباراً عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]، فهذا تحدَ للمشركين وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وليس احتجاجاً بأهل الكتاب لأنهم لم يعلنوا به ولا آمن أكثرهم، أو هو احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذٍ تبعاً لعامتهم.
وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من {الذين أوتوا العلم} مَن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه، فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظًّا غليظاً حتى إذا أسلم رقّ قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإِسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإِسلام. وهذا ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطاً فيه الجد بالهزل:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل
فإنهم كانوا إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوءة فملأتهم حكمة وتقْوَى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: «لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها». وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيهم ومُعَاهَدِهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة. وعلى هذا المحمل حمل {الذين أوتوا العلم} في سورة الحج (54) ويؤيده قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} في سورة الروم (56).
وجملة ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} في موضع المعطوف على المفعول الثاني ل {يَرَى}. والمعنى: يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هادياً إلى العزيز الحميد، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو {الحق} فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق. والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإِشعارها بتجدد الهداية وتكررها. وإيثار وصفي {العزيز الحميد} هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإِيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8]، ويبلغ إلى الحمد، أي الخصال الموجبة للحمد، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}
انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} [سبأ: 3]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم {لا تأتينا الساعة} دعوى وقولهم: {هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} مستنَد تلك الدعوى، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه.
وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بنقيض دليلهم، ثم إرداف ذلك التعجيب بالطعن في المتعجَّب به.
والمخاطب بقولهم: {هل ندلكم} غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول، ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولاً بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقوله كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل {ندلكم} من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم
والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] وهو عرض مكنّى به عن التعجيب، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال.
والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هَيأوا ما يكون جواباً للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يُبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسمُ وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأَجْمِعوا فيه رأيا واحداً ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكُم بعضاً ويردّ قولُكم بعضه بعضاً، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقُل وأقم لنا رأياً نقول به. قال: بل أنتم قولوا أسمعْ، قالوا: نقول كاهن؟ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأيْنا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجُنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر؟ قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: فنقول ساحر؟ قال: ما هو بنفثه ولا عَقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.
فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} طمعاً منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبساً باستحالة هذا الخَلْق الجديد.
ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام {أفترى على الله كذباً أم به جنة}.
ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضِهم لبعض، فالتعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم ب {رجل} منكَّر مع كونه معروفاً بينهم وعن أهل بلدهم، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلاً منهم. قال السكاكي «كأنْ لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما».
وإن كان قول المشركين موجهاً إلى الواردين مكّة في الموسم، كان التعبير ب {رجل} جرياً على مقتضى الظاهر لأن الواردين لا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ولا دعوتَه فيكون كقول أبي ذَرّ (قبل إسلامه) لأخيه «اذهب فاستعلم لنا خبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيء».
ومعنى: {ندلكم} نُعرفكم ونُرشدكم. وأصل الدلالة الإِرشاد إلى الطريق الموصل إلى مكان مطلوب. وغالب استعمال هذا الفعل أن يكون إرشادَ من يطلبُ معرفةً، وبذلك فالآية تقتضي أن هذا القول يقولونه للذين يسألونهم عن خبر رجل ظهر بينهم يدّعي النبوءة فيقولون: هل ندلكم على رجل يزعم كذا، أي ليس بنبيء بل مُفْترٍ أو مجنون، فمورد الاستفهام هو ما تضمنه قولهم: {إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} أي هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته، أي وليس من صفته أنه نبيء بل هو: إما كاذب أو غير عاقل.
والإِنباء: الإِخبار عن أمر عظيم، وعظمةُ هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع.
وجملة {إنكم لفي خلق جديد} هي المنبَّأُ به. ولمّا كان الإِنباء في معنى القول لأنه إخبار صح أن يقع بعده ما هو من قول المنبِّئ. فالتقدير من جهة المعنى: يقول إنكم لفي خلق جديد، ولذلك اجتلبت (إنَّ) المكسورة الهمزة دون المفتوحة لمراعاة حكاية القول.
وهذا حكاية ما نبَّأ به لأن المنبئ إنما نَبّأ بأن الناس يصيرون في خلق جديد.
وأما شبه الجملة وهو قوله: {إذا مزقتم كل ممزق} فليس مما نَبَّأ به الرجلُ وإنما هو اعتراض في كلام الحاكين تنبيهاً على استحالة ما يقوله هذا الرجل على أنّه لازم لإِثبات الخلق الجديد لكل الأموات. وليس {إذَا} بمفيد شرطاً للخلق الجديد لأنه ليس يلزم للخلق الجديد أن يتقدمه البِلى، ولكن المراد أنه يكون البِلى حائلاً دون الخلق الجديد المنبَّأ به.
وتقديم هذا الاعتراض للاهتمام به ليتقرر في أذهان السّامعين لأنه مناط الإِحالة في زعمهم، فإن إعادة الحياة للأموات تكون بعد انعدام أجزاء الأجساد، وتَكون بعد تفرقها تفرقاً قريباً من العدم، وتَكون بعدَ تفرق مَّا، وتَكون مع بقاء الأجساد على حالها بقاء متفاوتاً في الصلابة والرطوبة، وهم أنكروا إعادة الحياة في سائر الأحوال، ولكنهم خَصُّوا في كلامهم الإِعادة بعد التمزق كل ممزق، أي بعد اضمحلال الأجساد أو تفرقها الشديد، لقوة استحالة إرجاع الحياة إليها بعدئذٍ.
والتمزيق: تفكيك الأجزاء المتلاصقة بعضها عن بعض بحيث تصير قطعاً متباعدة.
والممزَّق: مصدر ميمي لمزَّقه مثل المسرَّح للتسريح.
و {كل} على الوجهين مستعملة في معنى الكثرة كقوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقول النابغة:
بها كل ذيّال ***
وقد تقدم غير مرة.
والخلق الجديد: الحديث العهد بالوجود، أي في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان، فجديد فعيل من جَدّ بمعنى قطع. فأصل معنى جديد مقطوع، وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج فإذا أتمه قطعه من المنوال. أريد به أنه بحدثان قطعه فصار كناية عن عدم لبسه، ثم شاع ذلك فصار الجديد وصفاً بمعنى الحديث العهد، وتنوسي معنى المفعولية منه فصار وصفاً بمعنى الفاعلية، فيقال: جَدّ الثوب بالرقع، بمعنى: كان حديث عهد بنسج. ويشبه أن يكون (جد) اللازم مطاوعاً ل (جدّه) المتعدّي كما كان (جَبر العظمُ) مطاوعاً ل (جبر) كما في قول العجاج:
قد جبر الدينَ الإِله فجَبر ***
وبهذا يحق الجمع بين قول البصريين الذين اعتبروا جديداً فعيلاً بمعنى فاعل، وقول الكوفيين بأنه فعيل بمعنى مفعول، وعلى هذين الاعتبارين يجوز أن يقال: ملحفة جديد كما قال: {إن رحمة الله قريب} [الأعراف: 56].
ووصف الخلق الجديد باعتبار أن المصدر بمنزلة اسم الجنس يكون قديماً فهو إذن بمعنى الحاصل بالمصدر، ويكون جديداً فهو بمنزلة اسم الفاعل، فوصف بالجديد ليتمحّض لأحد احتماليه، والظرفية من قوله: {في خلق جديد} مجازية في قوة التلبس بالخلق الجديد تلبساً كتلبس المظروف بالظرف.
وجملة {أفترى على الله كذباً أم به جنة} في موضع صفة ثانية ل {رجل} أتوا بها استفهامية لتشريك المخاطبين معهم في ترديد الرجل بين هذين الحالين.
وحذفت همزة فعل {أفترى} لأنها همزة وصل فسقطت لأن همزة الاستفهام وُصلت بالفعل فسقطت همزة الوصل في الدرج.
وجعلوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم دائراً بين الكذب والجنون بناء على أنه إن كان ما قاله من البعث قاله عن عمد وسلامة عقل فهو في زعمهم مفتر لأنهم يزعمون أن ذلك لا يطابق الواقع لأنه محال في نظرهم القاصر، وإن كان قاله بلسانه لإِملاء عقل مختلّ فهو مجنون وكلام المجنون لا يوصف بالافتراء. وإنما ردَّدوا حاله بين الأمرين بناء على أنه أخبر عن تلقي وحي من الله فلم يبق محتملاً لقسم ثالث وهو أن يكون متوهماً أو غالطاً كما لا يخفى.
وقد استدل الجاحظ بهذه الآية لرأيه في أن الكلام يصفه العرب بالصدق إن كان مطابقاً للواقع مع اعتقاد المتكلم لذلك، وبالكذب إن كان غير مطابق للواقع ولا للاعتقاد، وما سوى هذين الصنفين لا يوصف بصدق ولا كذب بل هو واسطة بينهما وهو الذي يخالف الواقع ويوافق اعتقاد المتكلم أو يخالف الاعتقاد الواقع أو يخالفهما معاً، أو لم يكن لصاحبه اعتقاد، ومن هذا الصنف الأخير كلام المجنون.
ولا يصح أن تكون هذه الآية دليلاً له لأنها حكت كلام المشركين في مقام تمويههم وضلالهم أو تضليلهم فهو من السفسطة، ثم إن الافتراء أخص من الكذب لأن الافتراء كان عن عمد فمقابلته بالجنون لا تقتضي أن كلام المجنون ليس من الكذب بل إنه ليس من الافتراء.
والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على اللَّه الكذب} في سورة العقود (103).
وقد ردّ الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالّون أو مُضِلُّون، وواهِمون أو مُوهِمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإِضراب، ثم بجملة الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}. فقابل ما وصَفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أَنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: {أفترى على الله كذباً} لأن الذي يكذب على الله يسلِط الله عليه عذابه، وأنهم في {الضلال البعيد} وذلك مقابل قولهم: {به جنة}.
وعدل عن أن يقال: بل أنتم في العذاب والضلال إلى {الذين لا يؤمنون بالآخرة} إدماجاً لتهديدهم.
و {الضلال}: خطأ الطريق الموصّل إلى المقصود. و{البعيد} وصف به الضلال باعتبار كونه وصفاً لطريق الضالّ، فإسناد وصفه إلى الضلال مجازي لأنه صفة مكان الضلال وهو الطريق الذي حاد عن المكان المقصود، لأن الضالّ كلما توغّل مسافة في الطريق المضلول فيه ازداد بُعداً عن المقصود فاشتد ضلاله، وعسر خلاصه، وهو مع ذلك ترشيح للإِسناد المجازي.
وقوله: {في العذاب} إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا.
والظرفية بمعنى الإِعداد لهم فحصل في حرف الظرفية مجازان إذا جُعِل العذاب والضلال لتلازمهما كأنهما حاصلان معاً، فهذا من استعمال الموضوع للواقع فيما ليس بواقع تنبيهاً على تحقيق وقوعه.
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
الفاء لتفريع ما بعدها على قوله: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب} [سبأ: 8] الخ، لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل.
والاستفهام للتعجيب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدَر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإِنسان بعد العدم.
والرؤية بصرية بقرينة تعليق {إلى}. فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي. والمقصود: حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه. وهذا كقوله: {أفلم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون} [الروم: 8].
والمراد ب {ما بين أيديهم} ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وب {ما خلفهم} ما هو وراء كل أحد منهم، فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمراً مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق. وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه.
و {من} في قوله: {من السماء والأرض} تبعيضية.
والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
وجملة {إن نشأ نخسف بهم الأرض} اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإِنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيْكة من سقوط الكسف.
وقرأ الكسائي وحده «نخسبّهم» بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك: اضرب فلاناً، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضرب مالكاً، ولا تدغم الميم في الباء كقولك: اضمم بكراً، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصْب.
والكِسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء.
وقد تقدم في قوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} في سورة الإِسراء (92).
وقرأ الجمهور نخسف} و{نسقط} بنون العظمة. وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام.
وجملة {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} تعليل للتعجيب الإِنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفاً، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل، كقول بشار:
إنّ ذاك النجاحَ في التبكير ***
ولك أن تجعل تذييلاً. والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من الكائنات فيهما.
والآية: الدليل والتعريف للجنس، فالمفرد المعرّف مساو للجمع، أي لآيات كثيرة.
والمنيب: الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدّر المواعظ حقّ قدرها ويتلقّاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مرتدياً برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}
مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفيَّة. فقال ابن عطية: ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً.
وقال الزمخشري عند قوله: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} [سبأ: 9] لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كلّ شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به ا ه. فقال الطيبي: فيه إشارة إلى بيان نظم هذه الآية بقوله: {ولقد آتينا داود منا فضلاً} لأنه كالتخلص منه إليه، لأنه من المنيبين المتفكرين في آيات الله، قال تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17] ا ه. يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثُل في المنيبين بما اشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعياً غليظاً إلى أن اصطفاه الله نبيئاً وملكاً صالحاً مُصْلِحاً لأمة عظيمة، فهو مَثَل المنيبين كما قال تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} وقال: {فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب} [ص: 24]، فلإِنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله. وفي ذكر فضله عبرة للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضاً بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله، وفي هذا إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإِيماء أوضح في قوله تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب} الآية في سورة ص (17). وسمَّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصاً، والوجه أن يسميه استطراداً أو اعتراضاً وإن كان طويلاً، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعدما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} [سبأ: 20].
وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالى: {وآتينا داود زبوراً} في سورة النساء (163) وعند قوله: {ومن ذريته داود} في سورة الأنعام (84).
و (مِنْ) في قوله: منا} ابتدائية متعلقة ب {آتينا}، أي من لدنّا ومن عندنا، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود، كقوله تعالى: {رزقاً من لدنا} [القصص: 57]. وتنكير {فضلاً} لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل المُلك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سَعَة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطولَ العمر في الصلاح وغير ذلك.
وجملة {يا جبال أوبي معه} مقول قول محذوف، وحذف القول استعمال شائع، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة {آتينا داود منا فضلاً}.
وفي هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون ما لو كانت حرف عطف.
والأمر في {أوبي معه} أمر تكوين وتسخير.
والتأويب: الترجيع، أي ترجيع الصوت، وقيل: التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب في اللغة العربية، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء.
و {الطير} منصوب بالعطف على المنادَى لأن المعطوف المعرَّف على المنادى يجوز نصبُه ورفعه، والنصب أرجح عند يونس وأبي عمرو وعيسى بن عمر والجَرْميّ وهو أوجه، ويجوز أن يكون {والطير} مفعولاً معه ل {أوبي}. والتقدير: أوبي معه ومع الطير، فيفيد أن الطير تأوّب معه أيضاً.
وإلانة الحديد: تسخيره لأصابعه حينما يلوي حَلَق الدروع ويغمز المسامير.
و {أنْ} تفسيرية لما في {ألنا له} من معنى: أشعرناه بتسخير الحديد ليُقدم على صنعه فكان في {ألنا} معنى: وأوحينا إليه: {أن اعمل سابغات}.
و {الحديد} تراب معدني إذا صُهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولاَنَ وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} في سورة الإِسراء (50).
وسابغات} صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
ومعنى {قَدِّر} اجعله على تقدير، والتقدير: جعل الشيء على مقدار مخصوص.
و {السَّرْد} صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة. قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مَسرودتان قضاهما *** داوُد أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ
ويقال لناسج الدروع: سَرَّاد وزرّاد بالسين والزاي، وقال المعري يصف درعاً:
وداوُد قين السابغات أذالها *** وتلك أضاة صانها المرء تبع
فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم.
وضمير {اعملوا} لداود وآله كقوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] أو له وحده على وجه التعظيم.
وقوله: {إني بما تعملون بصير} موقع «إن» فيه موقع فاء التسبب كقول بشار:
إن ذاك النجاحَ في التبكير ***
وقد تقدم غير مرة.
والبصير: المطلع العليم، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)}
عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامةً لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على {لقد آتينا داود منا فضلاً} [سبأ: 10] والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفاً بالإِنابة قال تعالى: {ثم أناب} في سورة ص (34).
والريح} عطف على {الحديد} في قوله: {وألنا له الحديد} [سبأ: 10] بتقدير فعل يدل عليه {وألنا}. والتقدير: وسخرنا لسليمان الريح على نحو قول الشاعر:
مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمْحاً ***
أي وحاملاً رمحاً.
واللام في قوله: {لسليمان} لام التقوية أنه لما حذف الفعل لدلالة ما تقدم عليه قرن مفعوله الأول بلام التقوية لأن الاحتياج إلى لام التقوية عند حذف الفعل أشد من الاحتياج إليها عند تأخير الفعل عن المفعول. و{الريح} مفعول ثان.
ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحاً موسمية تهبّ شهراً مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهراً مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين كما قال تعالى: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} في سورة الأنبياء (81).
فأطلق الغدوّ على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهاً بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيهاً بغدّو الناس في الصباح.
وأطلق الرواح على الرجوع من النهمة التي يخرج لها كقول ابن أبي ربيعة:
أمِن آللِ نعم أنتَ غاد فمُبكِرُ *** غداةَ غَدٍ أمْ رائح فمؤخِّرُ
لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء فهو مشتق من راح إذا رجع إلى مقره.
وقرأ الجمهور ولسليمان الريح} بلفظ إفراد {الريح} وبنصب {الريح} على أنه معطوف على {الحديد} في قوله: {وألنا له الحديد} [سبأ: 10]. وقرأ أبو بكر عن عاصم برفع {الريحُ} على أنه من عطف الجمل و{الريحُ} مبتدأ و{لسليمان} خبر مقدم. وقرأه أبو جعفر {الرياح} بصيغة الجمع منصوباً.
و {القِطْر} بكسر القاف وسكون الطاء النحاس المُذاب. وتقدم في قوله تعالى: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} في سورة الكهف (96).
والإِسالة: جعل الشيء سائلاً، أي مائعاً منبطحاً في الأرض كمسيل الوادي. وعين القطر} ليست عيناً حقيقة ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتَوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقاً، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقيْن للمعتاد بقوة إلهية، شبه الإِصهار بالكهرباء أو بالألسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته مَلك من ملوك زمانه.
ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القِطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كُثيّر:
وسالتْ بأعناق المَطي الأباطح ***
ويكون {أسلنا} أيضاً ترشيحاً لاستعارة اسم العين لمعنى مُذاب القطر، ووجه الشبه الكثرة.
وقوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه} يجوز أن يكون عطفاً على جملة {وأسلنا له عين القطر} فقوله: {من يعمل بين يديه} مبتدأ وقوله: {بإذن ربّه} خبر. و{من} في قوله: {من الجن} بيان لإِبهام {مَن} قدم على المبيَّن للاهتمام به لغرابته، وهو في موضع الحال. ولك أن تجعل {من يعمل} عطفاً على {الريح} في قوله: {ولسليمان الريح} أي سَخرنا له من يعمل بين يديه من الجن، وتجعلَ جملة {وأسلنا له عين القطر} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومعنى {يعمل بين يديه} يخدمه ويطيعه. يقال: أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقتضي هذا أن يكون عملتُه الجنّ وحدهم بل يقتضي أن منهم عملة، وفي آية النمل (17) {من الجن والإِنس والطير} والزيغ: تجاوز الحد والطريق، والمعنى: من يَعْص أمرنا الجاري على لسان سليمان.
وذِكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل.
و {عذاب السعير}: عذاب النار تشبيه، أي عذاباً كعذاب السعير، أي كعذاب جهنم، وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}
و {يعملون له ما يشاء} جملة مبينة لجملة {يعمل بين يديه} [سبأ: 12].
و {من محاريب} بيان ل {ما يشاء}.
والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص، قال تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} وتقدم في سورة آل عمران (39). وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} في سورة ص (21).
وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته، فتسمية ذلك محراباً تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدئ فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف. واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية، والمظنون أنه حدث في أولها في حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة، وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محراباً، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة، قال عُمر بن أبي ربيعة:
دُمية عند راهب قسيس *** صوَروها في مذابح المحراب
والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية.
وما حكي عن أنس بن مالك إن صحّ فإنما يُعنى به بيت للصلاة خاص. ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفَراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال: المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محرابُ المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذٍ مطلقاً على مكان العبادة.
ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرَّب أن يكون النبي يصلي فيه صورَة محراب منفصل يسمونه محراب النبي وإنما هو علامة على تحري موقفه.
والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيراً، ثم وسعوها شيئاً فشيئاً حتى صيروها في صورة نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإِمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه، وذلك في مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى}.
والتماثيل: جمع تِمثال بكسر التاء، ووزنه تِفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تِفعال بكسر التاء، وأما قياس هذا الباب وأكثرُه فهو بفتح التاء. والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين: تبيان، وتلقاء بمعنى اللقاء. وأما الأسماء فورد منها على الكسر نحو من أربعة عشر اسماً منها: تِمثال، أحصاها ابن دريد، وزاد ابن العربي في «أحكام القرآن» عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين. والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صوراً مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود، فقد كان كرسي سليمان محفوفاً بتماثيل أُسود أربعة عشر كما وصف في الإِصحاح العاشر من سفر الملوك الأول. وكان قد جَعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس.
ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل فحرّم الإِسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإِشراك. واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظلّ من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس. وحكم صنعها يتبع اتخاذها. ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت.
والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء. وقدرت الجفنة في التوراة بأنها تسع أربعين بَثَّا (بالمثلثة) ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال. وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي. وهي جمع: جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع، قال الأعشى:
نفي الذم عن رهط المحلَّق جفنة *** كجابية الشيخ العراقي تَفْهَق
أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي.
وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا بيت المقدس لأجل وضع الماء ليغلسوا فيها ما يقربونه من المحرَقات كما في الإِصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
وكتب في المصحف {كالجواب} بدون ياء بعد الموحدة. وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين. وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف.
والقدور: جمع قِدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل.
قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي:
له بِفناء البيت سوداء فخمة *** تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر
بقية قِدر من قُدور تُورثت *** لآل الجلاح كابراً بعد كابر
أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مَرقاً ونحوه.
وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالاً في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
والراسيات: الثابتات في الأرض التي لا تُنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباحَ مساءَ.
وجملة {اعملوا آل داود شكراً} مقول قول محذوف، أي قلنا: اعملوا يا آل داود، ومفعول {اعملوا} محذوف دل عليه قوله: {شكراً}. وتقديره: اعملوا صالحاً، كما تقدم آنفاً، عملاً لشكر الله تعالى، فانتصب {شكراً} على المفعول لأجله. والخطاب لسليمان وآله.
وذُيل بقوله: {وقليل من عبادي الشكور} فهو من تمام المقول، وفيه حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح. ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاماً جديداً جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعَمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة.
و {الشكور}: الكثيرُ الشكر. وإذْ كان العمل شكراً أفاد أن العاملين قليل.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
تفريع على قوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه} إلى قوله: {وقدور راسيات} [سبأ: 12، 13] أي دام عملهم له حتى مات {فلما قضينا عليه الموت} إلى آخره. ولا شك أن ذلك لم يطل وقتُه لأن مثله في عظمةِ ملكه لا بد أن يفتقده أتباعُه، فجملة {ما دلهم على موته} الخ جواب «لمَّا قضينا عليه الموت».
وضمير {دلهم} يعود إلى معلوم من المقام، أي أهلَ بَلاطه.
والدلالة: الإِشْعار بأمر خفيّ. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل} [سبأ: 7].
و {دابة الأرض} هي الأَرَضَة (بفتحات ثلاث) وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث: سوس ينخر الخشب. فالمراد من الأرض مصدرُ أَرَضَت السُّرفَة الخَشَبَ من باب ضَرب، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيراً من السُرْف فتعَجَّل لها النخر.
وجملة {فلما خر} مفرعة على جملة {ما دلهم على موته}. وجملة {تبينت الجن} جواب «لمّا خرّ». والمِنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين، وتخفَّفُ الهمزة فتصير ألفاً هي العَصا العظيمة، قيل: هي كلمة من لغة الحبشة.
وقرأ نافع وأبو عَمرو بألف بعد السين. وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر بهمزة مفتوحة بعد السين. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفاً وهو تخفيف نادر.
وقرأ الجمهور: {تبينت الجن} بفتح الفوقية والموحدة والتحتية. وقرأه رُويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول، أي تبين الناس الجنّ. و{أن لو كانوا يعلمون} بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين.
وقوله: {تبينت الجن} إسنادُ مُبهم فصَّله قوله: {أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} ف {أَن} مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من {الجن} بدلَ اشتمال، أي تبينت الجنُّ للناس، أي تبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، أي تبين عدم علمهم الغيب، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب.
و {العذاب المهين}: المذل، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزَليًّا، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب، ويسمونه رَئيًّا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهونَ عليهم.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}
جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة «بلقيس»، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإلهية.
وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلاً} [سبأ: 10] «لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم (أي للمشركين أي لحالهم) بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ» ا ه. فهذه القصة تمثيل أمة بأمة، وبلاد بأخرى، وذلك من قياس وعبرِه. وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى: {ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} [النحل: 112، 113] فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ. والمعنى: لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية. والآية هنا: الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته.
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم، وتجريد {كان} من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور.
واللام في {لسبأ} متعلق ب {آية}. والمساكن: البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله: {جنتان عن يمين وشمال} والمساكن: ديار السكنى. وتقدم الكلام على سبأ عند قوله: {وجئتك من سبأ} في سورة النمل (22).
واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله.
وقرأ الجمهور في مساكنهم} بصيغة جمع مسكن. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد {في مسكنهم} إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين. وشذ نحو قولهم: مسجد لبيت الصلاة.
و {جنتان} بدل من {آية} باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر.
و {جنتان} تشبيه بليغ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة، وما على يسَاره كجنة.
وقيل: كان لكل رجل منهم في مَسكنه، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفيؤون ظِلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارهما من نخيل وأعناب وغيرها، فيكون معنى التركيب على التوزيع، أي: لكل مسكن جنتان، كقولهم: ركِب القومُ دوابهم، وهذا مناسب لقوله: {في مساكنهم} دون أن يقول في بلادهم، أو ديارهم، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمروها مثل غوطة دمشق، وهذا يناسب قوله بعدُ {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} [سبأ: 16] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد.
والمعنى: أنهم كانوا أهل جنّات مغروسة أشجاراً مثمرة وأعناباً.
وكانت مدينتهم مأرب (بهمزة ساكنة بعد الميم) وهي بين صنعاء وحضرموت، قبل، كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد ملئ ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها. ولعل في هذا القول شيئاً من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة. وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب.
وجملة {كلوا من رزق ربكم} مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله:
امتلأ الحوض وقال قَطْني ***
وإما أُبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم، قيل: بعث فيهم اثنا عشر نبيئاً، أي مثل تُبع أسعد، فقد نقل أنه كان نبيئاً كما أشار إليه قوله تعالى: {وقوم تبع} [ق: 14] أو غيره، قال تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ، وفي جعل {جنتان} في نظم الكلام بدلاً عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم. قيل: كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام.
والطيِّبة: الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى: {وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} [يونس: 22] وقال: {فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97] وقال: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] وقال: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران: 38]. وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط (بئرحاء): «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب». والطيّب ضد الخبيث قال تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 2] وقال: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].
واشتقاقه من الطِيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة.
وجملة {بلدة طيبة} من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول، أي بلدةٌ لكم طيبة، وتنكير {بلدة} للتعظيم. و{بلدة} مبتدأ و{طيبة} نعت ل {بلدة}، وخبره محذوف، تقديره: لكم، وعُدل عن إضافة {بلدة} إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل.
وجملة {ورب غفور} عطف على جملة {بلدة طيبة}.
وتنكير {رب} للتعظيم. وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان {بلدة طيبة}، والتقدير: ورب لكم، أي ربكم غفور.
والعدول عن إضافة {رب} لضمير المخاطبين إلى تنكير {رب} وتقديرِ لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلباً للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل.
ومعنى {غفور}: متجاوز عنكم، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان (بلقيس) بدين سليمان عليه السلام، ولا يُعلم مقدار مدة بقائهم على الإِيمان.
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
تفريع على قوله: {واشكروا له} [سبأ: 15] وقع اعتراضاً بين أجزاء القصة التي بقيتها قوله: {وجعلنا بينهم وبين القرى} [سبأ: 18] الخ. وهو اعتراض بالفاء مثل قوله تعالى: {ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} وتقدم في سورة الأنفال (14).
والإِعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبيء، والمعنى: أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعود إلى عبادة الشمس بعد أن أقلعوا في زمن سليمان وبلقيس، فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم، وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين.
والإِرسال: الإطلاق وهو ضد الحبس، وتعديته بحرف (على) مؤذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوساً بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يَسقون جناتهم، فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقاباً بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم غرقاً وإتلافاً للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلال نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم.
والعرم} يجوز أن يكون وصفاً من العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة «السيل» إلى {العرم} من إضافة الموصوف إلى الصفة. ويجوز أن يكون {العرم} اسماً للسيل الذي كان ينصبّ في السد فتكون الإِضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، أي السيْل العرم.
وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم: سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، ويَدل على هذا المعنى قول الأعشى:
ومأرب عفى علَيها العَرم ***
وقيل: {العرم} اسم جمع عرَمَة بوزن شَجرة، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية. وهي المسناة بلغة أهل الحجاز، والمسناة بوزن مفعلة التي هي اسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سَقيت، ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإِضافة على هذين أصيلة.
والمعنى: أرسلنا السيل الذي كان مخزوناً في السدّ.
وكان لأهل سبأ سدّ عظيم قرب بلاد مأرب يعرف بسد مأْرب (ومأرب من كور اليمن) وكان أعظم السداد في بلاد اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتي به السيول في وقت نزول الأمطار في الشتاء والربيع ليسقوا منها المزارع والجنات في وقت انحباس الأمطار في الصيف والخريف فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سوراً من صخور يبنونها بناء محكماً يصبون في الشقوق التي بين الصخور القَار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخَزَّان جعلوا بجانبيه جوابي عظيمة يصب فيها الماء الذي يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزَن.
وكان سدّ مأرب الذي يُحفظ فيه {سيل العرم} شَرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حِمير. وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعية أو رممت بناءه ترميماً أطلق عليه اسم البناء، فقد كانوا يتعهدون تلك السداد بالإِصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها.
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السَّكْر إذا أرادوا إرسال الماء إلى الجنات على نوبات يرسل عندها الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة. وكان يصب في سد مأرب سبعون وادياً.
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبَلَق فهما البلَق الأَيمن والبلق الأَيسر.
وأعظم الأودية التي كانت تَصبّ فيه اسمه «إذنه» فقالوا: إن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشحْر وأودية اليمن.
وهذا السد حائط طُوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعاً وعرضه مائة وخمسون ذراعاً.
وقد شاهده الحَسَن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى ب«الإِكليل» وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصله. ووصفه الرحالة (أرنو) الفرنسي سنة 1883 والرحالة (غلازر) الفرنسي.
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك. والظاهر أن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات.
وفي {العرم} قال النابغة الجعدي:
من سَبَإِ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سيله العَرِما
والتبديل: تعويض شيء بآخر وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} في سورة النساء (2).
فالمعنى: أعطيناهم أشجار خَمْط وأثْل وسِدر عوضاً عن جنتيهم، أي صارت بلادهم شَعْراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العِضاه والبادية، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار، فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتيْ أكل خمط} إلى آخره.
وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قبيل الصُبح مِرداة طحونا
وقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [الانشقاق: 24].
وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءاً ونهاية بقوله:
وفي ذاكَ للمؤنسي عِبرة *** ومأْرب عَفى عليها العرم
رخام بنته لهم حِمير *** إذا جاء مَوَّاره لم يَرم
فأروى الزروع وأعنابها *** على سَعة ماؤهم إذا قُسم
فعاشوا بذلك في غبطة *** فحاربهم جارف منهزم
فطار القيول وقيلاتها *** ببهماء فيها سراب يطِم
فطاروا سراعاً وما يقدرو *** ن منه لشرب صُبيّ فُطِم
والخَمْط: شَجر الأراك. ويطلق الخمط على الشيء المُرّ.
والأثل: شجر عظيم من شجر العضاه يشبه الطرفاء. والسدر: شجر من العضاه أيضاً له شَوْك يشبه شجر العناب. وكلها تنبت في الفيافي.
والسدر: أكثرها ظلاً وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإِفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه، وزيد تقليله قلة بذكر كلمة {شَيء} المؤذنة في ذاتها بالقلة. يقال: شيء من كذا، إذا كان قليلاً.
وفي القرآن: {وما أغني عنكم من الله من شيء} [يوسف: 67].
والأُكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف: المأكول. قرأه نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه باقي العشرة بضم الكاف.
وقرأ الجمهور {أكل} بالتنوين مجروراً فإذا كان {خمط} مراداً به الشجر المسمّى بالخمط، فلا يجوز أن يكون {خمط} صفة ل {أكل} لأن الخمط شجر، ولا أن يكون بدلاً من {أكل} كذلك، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق، فتعين أن يكون {خمط} هنا صفة يقال: شيء خَامط إذا كان مُرًّا.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {أكل} بالإِضافة إلى {خمط}، فالخمط إِذَن مراد به شجر الأراك، وأُكله ثمره وهو البَرير وهو مرّ الطعم.
ومعنى {ذواتي أكل} صاحبتي {أُكل} ف (ذوات) جمع (ذَات) التي بمعنى صَاحبة، وهي مؤنث (ذو) بمعنى صاحب، وأصل ذات ذَواة بهاء التأنيث مثل نَواة ووزنها فَعَلة بفتحتين ولامها واو، فأصلها ذَوَوَه فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفاً ثم خففوها في حال الإِفراد بحذف العين فقالوا: ذات فوزنها فَلَتْ أو فَلَهْ. قال الجوهري: أصل التاء في ذات هاء مثل نَواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت: ذاه بالهاء، ولكنهم لما وصلوها بما بعدها بالإِضافة صارت تاء. ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صُغر يقال ذُويَّة بهاء التأنيث ا ه. ولم يبين أيمة اللغة وجه هذا الإِبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مَدّة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلاً في حال الوقف، ثم لما ثنّوْها ردُّوها إلى أصلها لأن التثنية تردُّ الأشياء إلى أصولها فقالوا: ذَوَاتَا كذا، وحذفت النون للزوم إضافته، وأصله: ذَوَيات. فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ووزنه فَعَلَتَان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبتات، وأصله ذويات فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فأصل وزن ذوات فَعَلاَت ثم صار وزنه بعد القلب فَعَات، وهو مما أُلحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضاً عن الهاء التي في المفرد على سُنة الجمع بألف وتاء.
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} [سبأ: 16] فهو من تمام الاعتراض.
واسم الإِشارة يجوز أن يكون في محل نصب نائباً عن المفعول المطلق المبيِّن لنوع الجزاء، وهو من البيان بطريق الإِشارة، أي جزيناهم الجزاء المشار إليه وهو ما تقدم من التبديل بجَنَّتَيْهم جنتين أخريين. وتقديمه على عامله للاهتمام بشدة ذلك الجزاء. واستحضاره باسم الإِشارة لما فيها من عظمة هوله.
ويجوز أن يكون اسم الإِشارة في محل رفع بالابتداء وتكون الإِشارة إلى ما تقدم من قوله: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} إلى قوله: {من سدر قليل} [سبأ: 16] ويكون جملة {جزيناهم} خبرَ المبتدأ والرابط ضمير محذوف تقديره: جزيناهموه.
والباء في {بما كفروا} للسبيبة و(ما) مصدرية، أي بسبب كفرهم.
والكفر هو الكفر بالله، أي إنكار إلهيته لأنهم عبَدةُ الشمس.
والاستفهام في {وهل يجازى} إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء.
و {الكفور}: الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون الله ويعبدون الشمس فهم أسوأ حالاً من أهل الشرك.
والمعنى: ما يُجَازَى ذلك الجزاء إلا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء. والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل {ذلك جزيناهم بما كفروا} تعين أن المراد: وهل يجازى مثل جزائهم إلا الكفور، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازَى على معصيته، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإِشارة من بيان نوع الجزاء، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين.
وقرأ الجمهور {يجازى} بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع {الكفورُ}. وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب {الكفور}.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18)}
تكملة القصة بذكر نعمة بعد نعمة فإن ما تقدم لِنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإِقامة، وما هنا لِنعمة الأمن وتيسير الأسفار وعمران بلادهم.
والمراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلداً أو داراً للاستراحة واستراحوا وتزودوا. فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزواداً إذا خرجوا من مأْرب.
وهذه القرى الظاهرة يحتمل أنها تكونت من عمل الناس القاطنين حَفافي الطريق السابلة بين مأرب وجِلّق قصدَ استجلاب الانتفاع بنزول القوافل بينهم وابتياع الأزواد منهم وإيصال ما تحتاجه تلك القرى من السلع والثمار وهذه طبيعة العمران.
ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذاً بهم عند نزولهم. فيكون ذلك من جملة ما وطَّد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل، وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها.
وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى لأنه الملهم الناس والملوك أو لأنه الذي خلق لهم تربة طيبة تتوفر محاصيلها على حاجة السكان فتسمح لهم بتطلب ترْويجها في بلاد أخرى.
ووصف {ظاهرة} أنها متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض. وقيل: الظاهرة التي تظهر للسائر من بعد بأن كانت القرى مبنية على الآكام والظِراب يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها. وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن معنى {ظاهرةً} أنها خارجة عن المدن فهي في ظواهر المدن ومنه قولهم: نزلنا بظاهر المدينة الفلانية، أي خارجاً عنها. فقوله: {ظاهرةً} كتسمية الناس إياها بالبادية وبالضاحية، ومنه قول الشاعر وأنشده أهل اللغة:
فلو شهدتني من قريش عصابة *** قريششِ البطاح لا قريششِ الظواهر
وفي حديث الاستسقاء: «وجاء أهل الظواهر يشتكون الغرق» ا ه. وهو تفسير جميل. ويكون في قوله: {ظاهرةً} على ذلك كناية عن وفرة المدن حتى إن القرى كلها ظاهرة منها.
ومعنى تقدير السير في القرى: أن أبعادها على تقدير وتَعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة. فكانَ الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية. فالمعنى: قدرنا مسافات السير في القرى، أي في أبعادها. ويتعلق قوله: {فيها} بفعل {قدرنا} لا بالسير لأن التقدير في القرى وأبعادها لا في السير إذ تقدير السير تبع لتقدير الأبعاد.
وجملة {سيروا في ليالي} مقول قول محذوف. وجملة القول بيان لجملة {قدرنا} أو بدل اشتمال منها.
وهذا القول هو قول التكوين وهو جعلها يسيرون فيها. وصيغة الأمر للتكوين. وضمير {فيها} عائد إلى القرى، والظرفية المستفادة من حرف الظرف تخييل لمكنيةٍ، شبهت القُرى لشدة تقاربها بالظرف وحذف المشبه به ورُمز إليه بحرف الظرفية. والمعنى: سيروا بينها.
وكانوا يسيرون غدوًّا وعشيًّا فيسِيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون، ويسيرون المساء فتعترضهم قرية يبيتون بها. فمعنى قوله: {سيروا فيها ليالي وأياماً}: سيروا كيف شئتم.
وتقديم الليالي على الأيام للاهتمام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القُطاع والسباع.
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}
الفاء من قوله: {فقالوا ربنا} لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيبُ في كل شيء بحسبه، فلما تمت النعمة بَطروها فحَلت بهم أسباب سلبها عنهم.
ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإِسكندري «من لم يشكر النَعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالِها».
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش: {اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32]، قبل هذا «فأعرضوا فإن الإِعراض يقتضي دعوة لشيء» ويفيدُ هذا المعنى قوة {وظلموا أنفسهم} عقب حكاية قولهم، فإنه إما معطوف على جملة {فقالوا}، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك، فإن ظلم النفس أطلق كثيراً على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق.
ويجوز أن تكون جملة {وظلموا أنفسهم} في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارناً للإِشراك.
وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسبباً بسببين كما هو صريح قوله: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين} إلى قوله: {إلا الكفور} [سبأ: 16، 17].
فالمُسَبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله: {فجعلناهم أحاديث} كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمةِ تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوَّش.
ودرج المفسرون على أنهم دَعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرِّين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدُروا نعمته العظيمة قَدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب.
ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها.
والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف. فالمعنى: ربنا أبعد بين أسفارنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب ".
وقرأه الجمهور {باعِد}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {بَعِّد} بفتح الباء وتشديد العين. وقرأه يعقوب وحده {ربُّنا} بالرفع و{باعَدَ} بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على أن الجملة خبر المبتدأ.
والمعنى: أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلّوه وطلبوا أن تزداد البلاد قرباً وذلك من بطر النعمة وطلب ما يتعذر حينئذٍ.
والتركيب يعطي معنى «اجعل البعد بين أسفارنا». ولما كانت {بين} تقتضي أشياء تعين أن المعنى: باعد بين السفَر والسفر من أسفارنا. ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفراً، أي باعد بين مراحل أسفارنا.
ومعنى {فجعلناهم أحاديث} جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث، أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعاً فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعلمه. وفعل الجعل يقتضي تغييراً ولما علق بذواتهم انقلبت من ذوات مشاهدة إلى كونها أخباراً مسموعة. والمعنى: أنهم هلكوا وتحدث الناس بهم. وهذا نظير قولهم: دخلوا في خبر كان، وإلاّ فإن الأحاديث لا يخلو منها أحد ولا جماعة. وقد يكون في المدح كقوله:
هاذي قبورهُم وتلكَ قصورهم *** وحديثُهم مستودَع الأوْراق
أو أريد: فجعلناهم أحاديث اعتبار وموعظة، أي فأصبناهم بأمر غريب من شأنه أن يتحدث به الناس فيكون {أحاديث} موصوفاً بصفة مقدرة دل عليها السياق مثل قوله تعالى: {يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة بقرينة قوله: {فأردت أن أعيبها} [الكهف: 79].
والتمزيق: تقطيع الثوب قِطَعاً، استعير هنا للتفريق تشبيهاً لتفريق جامعة القوم شذر مذر بتمزيق الثوب قطعاً.
و {كل} منصوب على المفعولية المطلقة لأنه بمعنى الممزق كله، فاكتسب معنى المفعولية المطلقة من إضافته إلى المصدر.
ومعنى {كل} كثيرة التمزيق لأن (كلاً) ترد كثيراً بمعنى الكثير لا بمعنى الجميع، قال تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقال النابغة:
بها كل ذيال ***
وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أُصيبت به قبيلة سبأ إذ حملهم خراب السد وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقاً ضربَت به العرب المثل في قولهم: ذهبوا، أو تفرقوا أيدي سبا، أو أياديَ سبا، بتخفيف همزة سبا لتخفيف المَثل. وفي «لسان العرب» في مادة (يدي) قال المعري: لم يهمزوا سبا لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد. هكذا ولعله التباس أو تحريف، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء «أيادي» أو «أيدي» كما هو مقتضى التعليل لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبا كشأن المركب المزجي. قال في «لسان العرب»: وبعضهم ينوِّنه إذا خففه، قال ذو الرمة:
فيا لك من دار تفرق أهلها *** أيادي سباً عنها وطال انتقالها
والأكثر عدم تنوينه قال كثير:
أيادي سَبا يا عز ما كنتُ بعدكم *** فلم يحلُ بالعينين بعدككِ منظر
والأيادي والأيدي فيه جمع يد. واليد بمعنى الطريق.
والمعنى: أنهم ذهبوا في مذاهب شتّى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله تعالى: {كنا طرائق قِدداً}
[الجن: 11]. وقيل: الأيادي جمع يد بمعنى النعمة لأن سبا تلِفت أموالهم.
وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشر أفخاذ وهم: الأزد، وكندة، ومَذحج، والأشعريون، وأنمار، وبَجيلة، وعاملة، وهم خُزاعة، وغسان، ولخم، وجُذام.
فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن والأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب، ولعلهم معدودون في لخم، ولحقت غسان ببُصرَى والغُوير من بلاد الشام، ولحقت لخم بالعراق.
وقد ذكر أهل القصص لهذا التفرق سبباً هو أشبه بالخرافات فأعرضتُ عن ذكره، وهو موجود في كتب السير والتواريخ. وعندي أن ذلك لا يخلو من خذلان من الله تعالى سلبهم التفكر في العواقب فاستخفّ الشيطان أحلامهم فجزعوا من انقلاب حالهم ولم يتدرّعوا بالصبر حين سلبت عنهم النعمة ولم يجأروا إلى الله بالتوبة فبعثهم الجزع والطغيان والعناد وسوء التدبير من رؤسائهم على أن فارقوا أوطانهم عوضاً من أن يلموا شعثهم ويرقعوا خرقهم فتشتتوا في الأرض، ولا يخفى ما يلاقون في ذلك من نصب وجوع ونقص من الأنفس والحمولة والأزواد والحلول في ديار أقوام لا يرْثُون لحالهم ولا يسمحون لهم بمقاسمة أموالهم فيكونون بينهم عافين.
وجملة {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} تذييل فلذلك قطعت، وافتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخبر. والمشار إليه بذلك هو ما تقدم من قوله: {لقد كان لسبإ في مساكنهم آية} [سبأ: 15].
ويظهر أن هذا التذييل تنهية للقصة وأن ما بعد هذه الجملة متعلق بالغرض الأول المتعلق بأقوال المشركين والمنتقل منه إلى العبرة بداود وسليمان والممثَّل لحال المشركين فيه بحال أهل سبا.
وجُمع «الآيات» لأن في تلك القصة عدة آيات وعِبَر فحالةُ مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه، وفيه آية على أنه الواحد بالتصرف، وفي إرسال سير العرم عَليهم آية على انفراده تعالى بالتصرف، وعلى أنه المنتقم وعلى أنه واحد، فلذلك عاقبهم على الشرك، وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم وآية على صفات الأفعال لله تعالى من خَلْق ورَزق وإحياء وإماتة، وفي ذلك آية مِن عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر. وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات، وآية على أن الأمن أساس العمران. وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المفضي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها، وفيما صاروا إليه من النزوححِ عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يُلجئ الاضطرارُ إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره كما يقول المثل: الحُمى أضرعتني إليك.
والجمع بين {صبار} و{شكور} في الوصف لإِفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخُلقين وهما: الصبر على المكاره، والشكر على النعم، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فيطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمَّهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض، ولا تسأل عما لاقوه في ذلك من المتالف والمذلات.
فالصبّار يَعْتَبر من تلك الأحوال فيعلم أن الصبر على المكاره خير من الجزع ويرتكب أخف الضرين، ولا يستخفه الجزع فيلقي بنفسه إلى الأخطار ولا ينظر في العواقب.
والشكور يعتبر بما أعطي من النعم فيَزداد شكراً لله تعالى ولا يبطر النعمة ولا يطغى فيُعاقبَ بسلبها كما سلبت عنهم، ومن وراء ذلك أن يَحرمهم الله التوفيق. وأن يقذف بهم الخذلانُ في بنيات الطريق.
وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً} [البقرة: 125] وقال: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات} [البقرة: 126] وقال: {وآمنهم من خوف} [قريش: 4]، فلذلك قال هنا: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين} [سبأ: 18].
وعلى أن الإِجحاف في إيفاء النعمة حقها من الشكر يعرّض بها للزوال وانقلاب الأحوال قال تعالى: {ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها اللَّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112].
من أجل ذلك كله كان حقاً على ولاة أمور الأمة أن يسعَوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتيسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل، وكان ذلك من أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين وما يبذل فيه أهل الخير من الموسرين أموالهم عوناً على ذلك، وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «ارحموا من في الأرض يرحَمْكم من في السماء».
وكان حقاً على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأيمة والأمة إلى طريق الخير وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الإِجمال، فقد افتقرت الأمة إلى العمل وسئمت الأقوال.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}
الأظهر أن هذا عطف على قوله: {وقال الذين كفروا هل ندلُّكم على رجل} [سبأ: 7] الآية وأن ما بينهما من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير {عليهم} عائداً إلى {الذين كفروا} من قوله: {وقال الذين كفروا هل نُدلكم} الخ. والذي درج عليه المفسرون أن ضمير {عليهم} عائد إلى سبأ المتحدث عنهم. ولكن لا مفرّ من أن قوله تعالى بعد ذلك: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون اللَّه} [سبأ: 22] الآيات هو عَوْد إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبا. وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها، وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية.
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شَرَك وسوسته.
فالمعنى: أن الشيطان سوّل للمشركين أو سوّل للمُمثَّل بهم حالُ المشركين الإِشراك بالمنعم وحسَّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم فَصَدق توسُّمُه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه.
ففي قوله: {صدق عليهم إبليس ظنه} إيجاز حذف لأن صِدق الظن المفرع عنه اتَّباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانّاً استجابة دعوته إياهم.
وقرأ الجمهور {صدق} بتخفيف الدال ف {إبليس} فاعل و{ظنه} منصوب على نزع الخافض، أي في ظنه. و{عليهم} متعلق ب {صدق} لتضمينه معنى أوقع أو ألقى، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه. والصِدق بمعنى الإِصابة في الظن لأن الإِصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق. قال أبو الغول الطُهَوي من شعراء الحماسة:
فدتْ نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقَتْ فيهم ظنوني
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صدَّق} بتشديد الدال بمعنى حقّق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لمّا وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجدّ في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم.
وفي (على) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم.
وقوله: {فاتبعوه} تفريع وتعقيب على فعل {صدق عليهم إبليس ظنه} أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإِشراك والكفران.
و {إلا فريقاً} استثناء من ضمير الرفع في {فاتبعوه} وهو استثناء متصل إن كان ضمير «اتبعوه» عائداً على المشركين وأما إن كان عائداً على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة، أو الذين آمنوا من أهل سبا. فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم.
والفريق: الطائفة مطلقاً، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية، وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى:
{فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} [الأعراف: 30].
والتعريف في {المؤمنين} للاستغراق و{مِن} تبعيضية، أي إلا فريقاً هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان.
وقوله: {وما كان له عليهم من سلطان} أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه.
وفعل {كان} في النفي مع {مِن} التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان، أي المِلك والتصريف للشيطان، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى.
والاستثناء في قوله: {إلا لنعلم} استثناء من علل. فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله، أي لكن جعلنا الشيطان سبباً يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوستُه فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال أو الممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات.
ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان، وحذف المستثنى ودلّ عليه علته والتقدير: إلا سلطاناً لنعلم من يؤمن بالآخرة. فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة.
وانظر ما قلناه عند قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} في سورة الحجر (42) وضُمَّه إلى ما قلناه هنا.
واقتُصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز مَن يؤمن بالآخرة ومَن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سَبا وهم كفار قريش لأن جحودهم الآخرة قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك له، وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين، والمتقين من المعرضين. وكني ب نعلم عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف. قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار:
وأقبلت والخطيُّ يَخطِر بيننا *** لأعَلَم مَن جبانها من شجاعها
أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس، فإن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلا لكان متردداً في إقدامه. فالمعنى: ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمّن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقاً جُزئياً عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزيّ لعلم الله. ورأيت في الرسالة الخاقانية} لعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك التعلق ولم يعين قائله. وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة {من يؤمن بالآخرة} فعلية، وجاءت جملة {هو منها في شك} اسمية لأن الإِيمان بالآخرة طارئ على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا. فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه.
وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الإسمية.
وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله: {منها} بقوله: «بشك».
وجملة {وربك على كل شيء حفيظ} تذييل. والحفيظ: الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعهما تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يُتبع الحفظ بالعلم كثيراً كقوله تعالى: {إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]. وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم {كل شيء} أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله: {لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك}، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}
كانت قصة سبا قد ضُربت مثلاً وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص: 57] وقوله: {لإيلاف قريش} [قريش: 1] إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإِشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهَمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالاً مناسبته بينة وهو أيضاً عَوْد إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضاً فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإِشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه.
وافتتح الكلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات المتتابعة بكلمة {قل} فأُمر بالقول تجديداً لِمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن.
والأمر في قوله: {ادعوا} مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استَمِروا على دعائكم.
و {الذين زعمتم من دون الله} معناه زعمتموهم أرباباً، فحذف مفعولا الزعم: أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصداً لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي {من دون الله}.
و {من دون الله} صفة لمحذوف تقديره: زعمتم أولياء.
ومعنى {من دون الله} أنهم مبتدأُون من جانب غيرِ جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة.
وجملة {لا يملكون} مبينة لما في جملة {ادعوا الذين زعمتم} من التخطئة.
وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض.
والذّرة: بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} في سورة يونس (61). والمراد بالسماوات والأرض جوهرهُما وعينُهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدَّعِي المشركون فيه ملكاً لآلهتهم، فالمثقال: إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازاً مرسلاً، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازاً، وتقدم المثقال عند قوله: {وإن كان مثقال حبة من خردل} في سورة الأنبياء (47).
ومثقال الذرة: ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئاً من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به.
وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض، أي شِرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازاً لأنه محل الوفاق.
ثم نفى أن يكون منهم ظهير، أي معين لله تعالى. وتقدم الظهير في قوله تعالى: {ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} في سورة الإِسراء (88). وهنا تعين التصريح بالمتعلق ردّاً على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تُقرِّب إليه وتُبَعّد عنه، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء. وقد صرح بالمتعلق هنا أيضاً رداً على قول المشركين {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع. وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإِله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله: {إلا لمن أذن له} لا يبطل شفاعة الأصنام فافهَمْ.
وجاء نظم قوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} نظماً بديعاً من وفرة المعنى، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة:
ولا حَلِفي على البراءة نافع *** ومنه قوله تعالى: {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} [الأنعام: 158]، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه. ومنه: دواء نافع، ونفعني فلان. فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشفوع له بالشفاعة، أي حصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]. فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول احتمل النفع أن يكون نفع الفاعل، أي قبول شفاعته، ونفعَ المفعول، أي قبول شفاعة من شفع فيه.
وتعدية فعل الشفاعة باللام دون (في) ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً فيه فكان بذلك أوفرَ معنىً.
فالاستثناء في قوله: {إلا لمن أذن له} استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء من متعلَّق {تنفع} لأن الفعل لا يعدّى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع، وأن (مَن) المجرورة باللام صادقة على الشافع، أي لا تقبل شفاعةٌ إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك كقولك: الكرم لزيد، أي هو كريم فيكون في معنى قوله: {ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع} [السجدة: 4]. وأن تكون اللام داخلة على المشفوع فيه، و(مَن) صادقة على مشفوع فيه، أي إلا شفاعةً لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك: قمت لزيد، فهو كقوله تعالى:
{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28].
وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نُظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجائهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعُوّ.
وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فأبطل هذا الزعمَ قولُه: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض}؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفها في الأرض، وأما في الأرض فبقوله: {ولا في الأرض}. ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإِلهية فنفي ذلك بقوله: {وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}، ومنهم من يزعمون أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده} الآية.
وقرأ الجمهور {أذن} بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب. والمجرور من قوله: {له} في موضع نائب الفاعل.
وقوله: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} {حتى} ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد {حتى} عائدة على ما يصلح لها في الجُمل التي قبلها. وقد أفادت {حتى} الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله: {إلا لمن أذن له} من أن هنالك إذناً يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناساً من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإِشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبلت الشفاعة فيهم، أي وأيس المحرومون من قبول الشفاعة فيهم. وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكر نظيره أو ضده، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسرّ المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء.
وقد طويت جمل مِن وراء {حتى}، والتقدير: إلا لمن أذن له ويومئذٍ يبقى الناس مرتقبين الإِذن لمن يشفع، فَزعين من أن لا يؤذن لأحد زمناً ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حينَ يؤذن للشافعين بأن يشفعوا، وهو إيجاز حذف.
و {إذا} ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة {فزع عن قلوبهم} ومتعلق ب {قالوا}.
و {فزع} قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة، وهو مضاعف فزع. والتضعيف فيه للإِزالة مثل: قشّر العود، ومَرَّض المريض إذا باشر علاجَه، وبُني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم، ففيه جانب الآذن فيه، وجانب المبلغ له وهو الملك.
والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم: {ماذا قال ربكم} ليعلموا من أُذِن له ممن لم يؤذن له، وهذا كما يكَرِّر النظَرَ ويُعَاوِد المطالعَةَ مَن ينتظر القبول، أو هم يتساءلون عن ذلك من شدة الخَشية فإنهم إذا فُزِّع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق.
فضمير {قالوا ماذا قال ربكم} عائد على بعض مدلول قوله: {لمن أذن له}. وهم الذين أذن للشفعاء بقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافّين، وضمير {قالوا الحق} عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة.
ويظهر أن كلمة {الحق} وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذٍ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال: ماذا قال القاضي للخصم؟ فيقال: قال الفصلَ. فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى.
وانتصاب {الحق} على أنه مفعول {قالوا} يتضمن معنى الكلام، أي قال الكلام الحق، كقوله:
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة *** قد قلتُها ليقال من ذا قالها
هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها. وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قدداً، وتفرقوا بَدَداً بَدَداً.
و (ذا) من قوله: {ماذا} إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل: {ماذا قال}: ما هذا الذي قال، فلما كثر استعمالها بدون ذِكر اسم الموصول قِيل إن (ذا) بعد الاستفهام تصير اسم موصول، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده} [البقرة: 255].
وقرأ ابن عامر ويعقوب {فزع} بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل، أي فَزّع الله عن قلوبهم.
وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم: «أخرج بعث النار من ذريتك»، وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم " ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ". وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له: «سل تُعْطَ واشفع تُشَفّع»، وفي حديث أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه».
وجملة {وهو العلي الكبير} تتمة جواب المجيبين، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله، وهما صفة {العلي} وصفة {الكبير}.
والعلو: علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم.
والكبر: العظمة المعنوية، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل. وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله: {وأن الله هو العلي الكبير} في سورة الحج (62).
واعلم أنه قد ورد في صفة تلقّي الملائكة الوحي أن من يتلقى من الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري} وغيره: أن نبيء الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير " ا ه. فمعنى قوله في الحديث: قضَى صدَر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه، وقوله في الحديث: " في السماء " يتعلق ب «قضى» بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقرّ الملائكة، وقوله: «خُضْعَاناً لقوله» أي خوفاً وخشية، وقوله: {فزع عن قلوبهم} أي أزيل الخوف عن نفوسهم.
وفي حديث ابن عباس عند الترمذي " إذا قضى ربنا أمراً سبح له حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال: " ثم أهل كل سماء " الحديث. وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة.
وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مراداً به أنه وارد في ذلك، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ. وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسّفوها في تفسير هذه الآية وتعَلّقها بما قبلها.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}
انتقال من دَمْغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإِلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض.
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام.
و {مَن} استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله: {قل الله} لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار} إلى قوله: {فسيقولون اللَّه} في سورة يونس (31). وتقدم نظير صدر هذه الآية في سورة الرعد.
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية تُوقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بَيْن موافقة الحق وعدمها، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما. ولذلك جيء بحرف أو} المفيد للترديد المنتزع من الشك.
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصِف وهو أن لا يترك المُجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاءَ العنان للمناظِر، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.
ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ. فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهُون إلى الضلال المبين، لا سيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا أيضاً من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم.
وفيه أيضاً تجاهل العارف فقد التأمَ في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات.
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده. وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب، متَسعَ النظر، منشرحَ الصدر: ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.
وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه.
وفيه أيضاً تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} [الأنعام: 125].
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة: الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفرٌ دون كفر، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.
{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)}
أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالاً آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفاً واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإِصغاء إليه.
ولما كان هذا القول يتضمن بياناً للقول الذي قبله فُصِلتْ جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردَّد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما على هدى والآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإِجرام اتّسِعَ في المحاجة فقيل لهم: إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مُؤَاخَذِين بجُرمنا وإذا عمِلْتُم عملاً فنحن غير مؤاخذين به، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أيّ الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله.
وأيضاً فُصِلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافاً ابتدائياً، وهي مع ذلك اعتراض بيّن أثناء الاحتجاج.
فمعنى: {لا تسألون} {ولا نسأل}، أن كل فريق له خويّصته.
والسؤال: كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإِجرام بمثله، كما هو في قول كعب بن زهير:
وقيل إنك منسُوب ومسؤول ***
أراد ومؤاخَذ بما سبَق منك لقوله قبلَه:
لَذَاك أَهيبُ عندي إذْ أُكلمه ***
وإسناد الإِجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبنيّ على زعم المخاطبين، قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32] كان المشركون يؤنِّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم.
وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأنه متحقق على زعم المشركين. وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملاً تعريضاً بأنهم يأتون عملاً غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم.
وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم. وفيه زيادة إنصاف إذ فرض المؤمنون الإِجرام في جانب أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين.
وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال.
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}
إعادة فعل {قل} لِمَا عرفتَ في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافاً ابتدائياً.
وأيضاً فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالاً عن عمل نفسه فبُيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تَحقَّق ما أنكروه.
وهنا تدرج الجدل من الإِيماء إلى الإِشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنهم الضالّون. ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقّي.
والفتح: الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [الأعراف: 89] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإِظهار ما خلفها.
وجملة {وهو الفتاح العليم} تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته وإحاطة العلم، وبذلك كان تذييلاً لجملة {يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} المتضمنة حكماً جزئياً فذيل بوصف كلي. وإنما أتبع {الفتاح} ب {العليم} للدلالة على أن حكمه عدْلُ مَحض لأنه عليم لا تحفّ بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب.
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على بطلان الشرك فهو كالنتيجة لجملة {قل من يرزقكم من السماوات والأرض} [سبأ: 24].
والأمر في قوله: {أروني} مستعمل في التعجيز، وهو تعجيز للمشركين عن إبداء حجة لإِشراكهم، وهو انتقال من الاحتجاج على بطلان إلهية الأصنام بدليل النظير في قوله: {قل من يرزقكم} إلى إبطال ذلك بدليل البداهة.
وقد سُلك من طرق الجدل طريقُ الاستفسار، والمصطلح عليه عند أهل الجدل أن يكون الاستفسار مقدَّماً على طرائق المناظرة وإنما أخّر هنا لأنه كان مفضياً إلى إبطال دعوى الخصم بحذافيرها فأريد تأخيره لئلا يَفوت افتضاح الخصم بالأدلة السابقة تبسيطاً لبساط المجادلة حتى يكون كل دليل منادياً على غلط الخصوم وباطلهم. وافتضاح الخطأ من مقاصد المناظِر الذي قامت حجته.
والإِراءة هنا من الرؤية البصرية فيتعدى إلى مفعولين: أحدهما بالأصالة، والثاني بهمزة التعدية.
والمقصود: أروني شخوصهم لنبصر هل عليها ما يناسب صفة الإِلهية، أي أن كل من يشاهد الأصنام بادئ مرة يتبيّن له أنها خليّة عن صفات الإِلهية إذ يرى حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه لأن انتفاء الإِلهية عن الأصنام بديهي ولا يحتاج إلى أكثر من رؤية حالها كقول البحْتري:
أَن يَرى مُبْصِرٌ ويسمعَ واع ***
والتعبير عن المرئِي بطريق الموصولية لتنبيه المخاطبين على خطئهم في جعلهم إياهم شركاء لله تعالى في الربوبية على نحو قول عبدة بن الطيب:
إن الذينَ ترونهم إخوانَكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصْرَعوا
وفي جعل الصلة {ألحقتم} إيماء إلى أن تلك الأصنام لم تكن موصوفة بالإِلهية وصفاً ذاتياً حقاً ولكن المشركين ألحقوها بالله تعالى، فتلك خلعة خلعها عليهم أصحاب الأهواء.
وتلك حالة تخالف صفة الإِلهية لأن الإِلهية صفة ذاتية قديمة، وهذا الإِلحاق اخترعه لهم عَمرو بن لُحَيّ ولم يكن عند العرب من قبل، وضمير {به} عائد إلى اسم الجلالة من جملة {قل ما يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} [سبأ: 24].
وانتصب {شركاء} على الحال من اسم الموصول. والمعنى: شركاء له.
ولما أعرض عن الخوض في آثار هذه الإِراءة علم أنهم مفتضحون عند تلك الإِراءة فقُدرت حاصلة، وأُعقب طلب تحصيلها بإِثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها، وإبطالُها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإِبطال ثم الانتقال إلى تعيين الإِله الحق على طريقة قوله: {كلا بل لا تكرمون اليتيم} [الفجر: 17].
وضمير {هو الله} ضمير الشأن. والجملة بعده تفسير لمعنى الشأن و{العزيز الحكيم} خبراننِ، أي بل الشأن المهمّ الله العزيز الحكيم لا آلهتكم؛ ففي الجملة قصر العزة والحكم على الله تعالى كناية عن قَصر الإِلهية عليه تعالى قصرَ إفراد.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الإِله المفهوم من قوله: {الذين ألحقتم به شركاء} وهو مبتدأ والجملة بعده خبر.
ويجوز أن يكون عائداً إلى المستحضر في الذهن وهو الله. وتفسيره قوله: {الله} فاسم الجلالة عطف بيان. و{العزيز الحكيم} خبرَان عن الضمير. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول يظهر في اختلاف مدلول الضمير المنفصل واختلاففِ موقع اسم الجلالة بعده، واختلاف موقع الجملة بعد ذلك.
والعِزَّة: الاستغناء عن الغير. و{الحكيم}: وصف من الحكمة وهي منتهى العلم، أو من الإِحكام وهو إتقان الصنع، شاع في الأمرين. وهذا إثبات لافتقار أصنامهم وانتفاء العلم عنها. وهذا مضمون قول إبراهيم عليه السلام: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض.
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود.
فإن {كافَّة} من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالاً من «الناس» مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} في سورة البقرة (208)، وعند قوله: {وقاتلوا المشركين كافة} في سورة براءة (36). وذكرنا أن التحقيق: أن كافة} يوصف به العاقلُ وغيرُه وأنه تعتوره وجوهُ الإِعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافاً لابن هشام في «مغني اللبيب»، وأن ما شدد به التّنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز. والتقدير في هذه الآية: وما أرسلناك للناس إلاّ كافّة. وقدّم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم.
وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل {كافة} نعتاً لمحذوف، أي إرساله كافة، أي عامة. وقد ردّ عليه ابن مالك في «التسهيل» وقال: قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كَيسان. وقلت: وجوّزه ابن عطية والرضيّ. وجعل الزجاج {كافة} هنا حالاً من الكاف في {أرسلناك} وفسره بمعنى جامع للناس في الإِنذار والإِبلاغ، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلاّمة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضاً.
وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج {كافة} عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معيّن إلى معنى الجمع الكلّي المستفاد من وراء ذلك. وهذا كمن يعمد إلى (كل) فيقول: إنك كلٌ للناس، أي جامع للناس؛ أو يعمد إلى (على) الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول: إياك وعلى، يريد إياك والاستعلاءَ.
والبشير النذير تقدم في قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} في سورة البقرة (119).
وأفاد تركيب وما أرسلناك إلا كافة للناس} قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله: {أرسلناك} وهو قصر إضافي، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإِيمان والإِرشاد كما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول للنبيء صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلساً هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أُبي:
«لا أحسنَ مما تقول أيها المرء ولكن اقعُد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه» ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الردَّ على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها.
وموقع الاستدراك بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغرّ المتأمل لأنهم لا يعلمون.
ومفعول {يعلمون} محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لا يعلمون ما بشرتَ به المؤمنين وما أنذرتَ به الكافرين، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين.
ويجوز أن يكون فعل {يعلمون} منزَّل منزلة اللام مقصوداً منه نفي صفة العلم عنهم على حدّ قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}
كان من أعظم ما أنكروه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم القيامةُ والبعثُ ولذلك عقب إبطال قولهم في إنكار الرسالة بإبطال قولهم في إنكار البعث، والجملة معطوفة على خبر {لكِنَّ} [سبأ: 28]. والتقدير: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حق البشارة والنذارة ويتهكمون فيسألون عن وقت هذا الوعد الذي هو مظهر البشارة والنذارة. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو للاستئناف.
وضمير {يقولون} عائد إلى المحاجّين من المشركين الذين صدرت عنهم هذه المقالة. وصيغة المضارع في {يقولون} تفيد التعجيب من مقالتهم كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] مع إفادتها تكرر ذلك القول منهم وتجدّده.
وجملة {قل لكم ميعاد يوم} إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه، وحسَّن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه.
وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقاً للمقصود من الاستفهام، ولذلك زيد في الجواب كلمة {لكم} إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء.
وضمير جمع المخاطب في قوله: {إن كنتم صادقين} إما للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن معه جماعة يخبرون بهذا الوعد، وإما الخطاب موجه للمسلمين.
وإسم الإِشارة في هذا الوعد للاستخفاف والتحقير كقول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها
وجواب: {كنتم صادقين} دل عليه السؤال، أي إن كنتم صادقين فعيِّنُوا لنا ميقات هذا الوعد. وهذا كلام صادر عن جهالة لأنه لا يلزم من الصدق في الإِخبار بشيء أن يكون المخبِر عالماً بوقت حصوله ولو في المضيّ فكيف به في الاستقبال.
وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإِتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إِلى الإِتيان باسم ظاهر وهو {ميعاد يوم} لما في هذا الاسم النكرة من الإِبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك، وهو أن يكون يومَ البعث أو يوماً آخر يحلّ فيه عذاب على أيمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر ولعل الذين قتلوا يومئذٍ هم أصحاب مقالة {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وأفاد تنكير {يوم} تهويلاً وتعظيماً بقرينة المقام.
والميعاد: مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية. ويجوز كونه مستعملاً في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه.
وجملة {لا تستأخرون عنه ساعة} إمّا صفة ل {ميعاد} وإما حال من ضمير {لكم}.
والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل: استحباب، فالسين والتاء للمبالغة.
وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه مِيعاد بَأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره، ويكون {ولا تستقدمون} تتميماً لتحققه عند وقته المعيّن في علم الله.
والساعة: حصة من الزمن، وتنكيرها للتقليل بمعونة المقام.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)}
{وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى}.
كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإِسلام وأخَذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة، وقد كانوا قبل ظهور الإِسلام لاَهِينَ عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسماعهم دعوة الإِسلام اضطربت أقوالهم: فقالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]، وقالوا غيرَ ذلك، فمن ذلك أنهم لجأَوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليَتَلقَّوا منهم ملقَّنَات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتب يُمْلُون عليهم كلما لَقُوهم ما عساهم أن يُمَوِّهُوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية، فمرة يقولون: {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} [القصص: 48]، ومرة يقولون: {لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} [الإسراء: 93]، وكثيراً ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولاً إليهم مختاراً من عند الله فقالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 17] وإلى قوله: {هل كنت إلا بشراً رسولاً} [الإسراء: 93]، وهم لا يُحاجُّون بذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإِبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمداً ما هو بِدْعٌ من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجَّهم بقوله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] الآية. فلما لما يجدوا سبيلاً للمكابرة في مساواة حاله بحال الرسل الأولين وأوَوْا إلى مأْوى الشرك الصريح فلجأُوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}.
وقد كان القرآن حاجَّهم بأنهم كفروا {بما أوتي موسى من قبل} كما في سورة القصص (48)، أي كفر أمثالهم من عَبدة الأصنام وهم قِبط مصر بما أوتي موسى وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل.
فهذا وجه قولهم: ولا بالذي بين يديه} لأنهم لم يكونوا مدْعُوِّين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإِلزام الجدلي.
وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملة {ويقولون متى هذا الوعد} [سبأ: 29].
والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها بادٍ لكل مَنْ يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح.
وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها.
وجيء بحرف {لن} لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييساً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الطمع في إيمانهم به.
واسم الإِشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهدَ. وليس في اسم الإِشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان، أَلا ترى إلى قول الوليد بن المغيرة: «إن أعلاه لمُثْمِر وإن أسفله لَمُغْدق»، وقول عبد الله بن أُبيّ بعد ذلك: «لاَ أحسن مما تقول أيها المرء»، وأن عتبة بن ربيعة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال له: " هل ترى بما أقول بأساً؟ " فقال: «لا والدِّماء». وكيف وقد تحداهم الإِتيان بسورة مثله فلم يفعلوا، ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخَف لقالوا: نحن نترفع عن معالجة الإِتيان بمثله.
ومعنى {بين يديه} القريب منه سواء كان سابقاً كقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت بين يدي الساعة " أم كان جائياً بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السّلام " ومصدقاً لما بين يدي من التوراة " في سورة آل عمران (50). وليس مراداً هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى.
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى}.
أُردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزائهم وتصوير فظاعته بما في قوله: {ولو ترى إذ الظالمون} الآية من الإِبهام المفيد للتهويل. والمناسبة ما تقدم من قوله: {ويقولون متى هذا الوعد} [سبأ: 29] فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله: {قل لكم ميعاد يوم} [سبأ: 30] الخ أتبعَه بتصوير حالهم فيه.
والخطاب في {ولو ترى} لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممّن تبلغه هذه الآية، أي ولو يرى الرائي هذا الوقت.
وجواب {لو} محذوف للتهويل وهو حذف شائع. وتقديره: لرأيت أمراً عجباً.
و {إذْ} ظرف متعلق ب {ترى} أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم.
و {الظالمون}: المشركون، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وتقدم قريب منه قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} في سورة الأنعام (27)، وقد وقع التصريح بأنه إيقاف جمَع بين المشركين والذين دَعَوْهم إلى الإِشراك في قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} الآية في سورة يونس (28).
والإِتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف إسمية هنا لإِفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولاً يستوجب الضجر ويَملأ القلوب رعباً وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبي لأهل المحشر: تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتدّ عليهم حرها فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يُرِيحَنا من مكاننا الحديث.
وجملة يرجع بعضهم إلى بعض القول} في موضع الحال من {الظالمون} أو من ضمير {موقوفون}.
وجيء بالمضارع في قوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} لاستحضار الحالة كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74].
ورجْع القولِ: الجواب، ورجْع البعضضِ إلى البعض: المجاوبة والمحاورة. وهي أن يقول بعضهم كلاماً ويجيبه الآخر عنه وهكذا؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول كأنَّ المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكِفائه وعدْلِه، قال بشار:
وكأنَّ رجْعَ حديثها *** قِطَع الرياض كُسِينَ زَهْرا
أي كأنَّ جوابها حيث تجيبه، ومنه قيل للجواب: ردّ. ورجَعْ الرشق في الرمي: ما تَرُدّ عليه من التراشق.
{بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ}.
هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة {يرجع بعضهم إلى بعض القول}. وجيء بالمضارع فيها على نحو ما جيء في قوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} ليكون البيان كالمبيَّن بها لاستحضار حالة القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبِرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرُّونهم به حتى أوقعوهم في هذا المأزق.
والسين والتاء في {استضعفوا} للعدّ والحسبان، أي الذين يعدّهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدُّهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويُعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم.
والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتياج في المهمات إلى من يضطلع بشؤونهم ويَذُّب عنهم ويصرّفهم كيف يشاء.
ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل ب «الذين استكبروا»، أي عدُّوا أنفسهم كبراءَ وهم ما عدُّوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوُصِفوا بالغرور والإِعجاب الكاذب. ولهذا عبّر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبنيّ للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم، وقد تقدم في سورة هود.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جواب (أي انتفائه) لأجل وُجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنهم اختصروا العبارة، ومعنى: لأجل وجود شرطه، أي حصوله في الوجود، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الإسمية فيلزم إيلاؤه اسماً هو مبتدأ. وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالباً بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف {لولا} يؤذن بتعليق حصول جَوابه على وجود شرطه. فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصاراً. ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومةٍ من السياق لأنه لا يكون الوجود المجردُ لشيءٍ سبباً في وجود غيره وإنما يؤخذ أخصّ أحواله الملازمة لوجوده.
وهذا المعنى عبر عنه النحويُّون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود به وإلا فإن الوجود المطلق، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط.
وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير «الذين استكبروا» فاقتضى أن المستضعفين ادَّعَوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين. فاقتضى أن جميع أحوال المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإِيمان فكَأنَّ وجودهم لا أثر له إلا في ذلك مِن انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دلّ عليه قولهم فيما بعد {بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله} [سبأ: 33] من فرط إلحاحهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات، فكأنه استغرق وجودهم، لأن الوجود كونٌ في أزمنة فكَانَ قولهم هنا {لولا أنتم} مبالغةً في شدة حرصهم على كفرهم. وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه.
واعلم أن المراد بقولهم: {مؤمنين} بالمعنى اللقبيّ الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لِ {مؤمنين} متعلِّق.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}
جُرِّد فعل {قال} عن العاطف لأنه جاء على طريقة المجاوبة والشأنْ فيه حكاية القول بدون عطف كما بيّناه غير مرة.
وهمزة الاستفهام مستعملة في الإِنكار على قول المستضعفين تبرّؤا منه. وهذا الإِنكار بهتان وإنكار للواقع بعثه فيهم خوف إلقاء التبعة عليهم وفرط الغضب والحسرة من انتقاض أتباعهم عليهم وزوال حرمتهم بيْنهم فلم يتمالكوا أن لا يكذبوهم ويذيلوا بتوريطهم.
وأتى بالمسند إليه قبل المسند الفعلي في سياق الاستفهام الإِنكاري الذي هو في قوة النفي ليفيد تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي على طريقة: ما أنا قلت هذا.
والمعنى: ما صددناكم ولكن صدكم شيء آخر وهو المعطوف ب {بل} التي للإِبطال بقوله: {بل كنتم مجرمين} أي ثبت لكم الإِجرام من قبل وإجرامكم هو الذي صدّكم إذ لم تكونوا على مقاربة الإِيمان فنصدكم عنه ولكنكم صددتم وأعرضتم بإجرامكم ولم تقبلوا دعوة الإِيمان.
وحاصل المعنى: أن حالنا وحالكم سواء، كل فريق يتحمل تبعة أعماله فإن كلا الفريقين كان مُعْرِضاً عن الإِيمان. وهذا الاستدلال مكابرة منهم وبهتان وسفسطة فإنهم كانوا يصدون الدهماء عن الدين ويختلقون لهم المعاذير. وإنما نفوا هنا أن يكونوا محوِّلين لهم عن الإِيمان بعد تقلده وليس ذلك هو المدَّعَى. فموقع السفسطة هو قولهم: {بعد إذ جاءكم} لأن المجيء فيه مستعمل في معنى الاقتراب منه والمخالطة له.
و {إذ} في قوله: {إذ جاءكم} مجردة عن معنى الظرفية ومحضة لكونها اسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30)، ولهذا صحت إضافة بعد} إليها لأن الإِضافة قرينة على تجريد {إذ} من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم: حينئذٍ ويومئذٍ. والتقدير: بعد زمن مجيئه إياكم. و{بل} إضراب إبطال عن الأمر الذي دخل عليه الاستفهام الإِنكاري، أي ما صددناكم بل كنتم مجرمين.
والإِجرام: الشرك وهو مؤذن بتعمدهم إياه وتصميمهم عليه على بصيرة من أنفسهم دون تسويل مسوّل.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}
{كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله}.
لم تَجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكى بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] الآية، فجِيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا {أنحن صددناكم} [سبأ: 32] الآية لنكتة دقيقة، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم المحكية بقوله: {يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} [سبأ: 31] تنبيهاً على أن مقالتهم تلقَّفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلعوهم ريقَهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولكنهم قاطعوا كلامهم من فرط الجَزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون.
وحكي قولهم هذا بفعل الماضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون، انقلبَ جواباً عن تبرُّؤ المستكبِرين من أن يكونوا صدُّوا المستضعَفين عن الهدى، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف {بل} وبزيادة {مكر الليل والنهار}. وأصل الكلام: يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تأمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله الخ. فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف {بل} إبطالاً لقول المستكبرين {بل كنتم مجرمين} [سبأ: 32]. وبذلك أفاد تكملةَ الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا أنه جواب عن كلام المستكبِرين فقط، وهذا من أبدع الإِيجاز.
و {بل} للإِضراب الإِبطالي أيضاً إبطالاً لمقتضَى القصر في قولهم: {أنحن صددناكم عن الهدى} [سبأ: 32] فإنه واقع في حيّز نفي لأن الاستفهام الإِنكاري له معنى النفي.
و {مكر الليل والنهار} من الإِضافة على معنى (في). وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق، أي مكركم بنا.
وارتفع {مكر} على الابتداء. والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه. فالتقدير: بل مكركم صَدَّنا، فيفيد القصر، أي ما صدَّنا إلاّ مكركم، وهو نقض تام لقولهم: {أنحن صددناكم عن الهدى} [سبأ: 32] وقولِهم: {بل كنتم مجرمين} [سبأ: 32].
والمكر: الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليَغُرّ المحتال عليه، وتقدم في قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} في آل عمران (54).
وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم: إنه دين آبائكم وكيف تأمنون غضب الآلهة عليكم إذا تركتم دينكم ونحو ذلك. والاحتيال لا يقتضي أن المحتَال غيرُ مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله.
والمعنى: ملازمتهم المكر ليلاً ونهاراً، وهو كناية عن دوام الإِلحاح عليهم في التمسك بالشرك. وإذ تأمروننا} ظرف لما في {مكر الليل والنهار} من معنى (صدّنا) أي حين تأمروننا أن نكفر بالله.
والأنداد: جمع نِدّ، وهو المماثل، أي نجعل لله أمثالاً في الإِلهية.
وهذا تطاولٌ من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم واحتقروهم حين علموا كذبهم وبهتانهم.
وقد حكى نظير ذلك في قوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} الآيتين في سورة البقرة (166).
لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا}.
يجوز أن يكون عطفاً على جملة {يرجع بعضهم إلى بعض القول} [سبأ: 31] فتكون حالاً. ويجوز أن تعطف على جملة {إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} [سبأ: 31].
وضمير الجمع عائد إلى جميع المذكورين قبلُ وهم الذين استضعفوا والذين استكبروا. والمعنى: أنهم كشف لهم عن العذاب المعدّ لهم، وذلك عقب المحاورة التي جرت بينهم، فعلموا أن ذلك الترامي الواقع بينهم لم يُغن عن أحد من الفريقين شيئاً، فحينئذٍ أيقنوا بالخيبة وندِموا على ما فات منهم في الحياة الدنيا وأسرُّوا الندامة في أنفسهم، وكأنهم أسَرُّوا الندامة استبقاء للطمع في صرف ذلك عنهم أو اتقاء للفضيحة بين أهل الموقف، وقد أعلنوا بها من بعدُ كما في قوله تعالى: {قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} في سورة الأنعام (31)، وقوله: {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} في سورة الزمر (58).
وذكر الزمخشري وابن عطية: أن من المفسرين مَن فسّر أسَرّوا} هنا بمعنى أظهروا، وزعم أن (أسرّ) مشترك بين ضدين. فأما الزمخشري فسلمه ولم يتعقبه وقد فسر الزوزني الإِسرار بالمعنيين في قول امرئ القيس:
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليّ حِراصاً لو يُسِرّون مقتلي
وأما ابن عطية فأنكره، وقال: «ولم يثبت قط في اللغة أن (أسرّ) من الأضداد». قلت: وفيه نظر. وقد عد هذه الكلمة في الأضداد كثير من أهل اللغة وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق:
ولما رأى الحجاجَ جرَّد سيفه *** أسرّ الحَروريُّ الذي كان أضمرا
وفي كتاب «الأضداد» لأبي الطيب الحلبي قال أبو حاتم: ولا أثق بقول أبي عبيدة في القرآن ولا بقول الفرزدق والفرزدق كثير التخليط في شعره. وذكر أبو الطيب عن التَّوزي أن غير أبي عبيدة أنشد بيت الفرزدق والذي جرَّ على تفسير «أسرّوا» بمعنى أظهروا هنا هو ما يقتضي إعلانهم بالندامة من قولهم: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} [سبأ: 31]. وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} [الفرقان: 27] الآية.
والندامة: التحسُّر من عمل فات تداركه. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {فأصبح من النادمين} في سورة المائدة (31).
{رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الاغلال فى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا}.
عطف على جملة {إذ الظالمون موقوفون} [سبأ: 31].
والتقدير: ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. وجواب (لو) المحذوفُ جواب للشرطين.
و {الأغلال}: جمع غُلّ بضم الغين، وهو دائرة من حديد أو جلد على سعة الرقبة توضع في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل، وتقدم في أول سورة الرعد. وجعل الأغلال في الأعناق شعار على أنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه. وتقدم عند قوله تعالى: {وأولئك الأغلال في أعناقهم} في الرعد (5). والذين كفروا} هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإِتيان بالاسم الظاهر وكونِه موصولاً للإِيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر، ولذلك عقب بجملة {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم.
والاستفهام ب {هل} مستعمل في الإِنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء، فتقدير المعنى: هل جُزوا بغير ما كانوا يعملون، والاستثناء مفرّغ.
و {ما كانوا يعملون} هو المفعول الثاني لفعل {يجزون} لأن (جَزى) يتعدّى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى، كما يتعدى إليه بالباء على تضمينه معنى: عَوَّضه.
وجعل جزاؤهم ما كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ، أي مثل ما كانوا يعملون، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزوا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى: {جزاء وفاقاً} [النبأ: 26].
واعلم أن كونه مماثلاً في المقدار أمر لا يعلمه إلا مُقَدِّرُ الحقائق والنيات، وأما كونه {وفاقاً} في النوع فلأن وضع الأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم فناسب نوعه أن يكون جزاء على ما عبَّدوا به أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95] وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى: {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} [الأحزاب: 67].
ومن غُرَر المسائل أن الشيخ ابن عرفة لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71] فسأله بعض الحاضرين: هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإِتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى (في حد الفاحشة) فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكاً إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا، وهذا من تصرفات الله في الآخرة فلا بُدَّ لِجوازه من دليل.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}
اعتراض للانتقال إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما مُنيَ به من المشركين من أهل مكة وبخاصة مَا قابله به سادتهم وكبراؤهم من التأليب عليْه بتذكيره أن تلك سنة الرسل من قبله فليس في ذلك غضاضة عليه، ولذلك قال في الآية في الزخرف {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة (23) الخ، أي وكذلك التكذيب الذي كذبك أهل هذه القرية. والتعريض بقومه الذين عادَوه بتذكيرهم عاقبة أمثالهم من أهل القرى التي كذَّب أهلها برسلهم وأغراهم بذلك زعماؤهم.
والمترَفون: الذين أُعطُوا التَرَف، والترف: النعيم وسعة العيش، وهو مبني للمفعول بتقدير: إن الله أترفهم كما في قوله تعالى: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا} في سورة المؤمنون (33).
وفي بنائه للمفعول تعريض بالتذكير بنعمة الله عليهم لعلّهم يشكرونها ويقلعون عن الإِشراك به، وبعض أهل اللغة يقول تقديره: أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم.
وإنا بما أرسلتم} حكاية للقول بالمعنى: أي قال مترفو كل قرية لرسولهم: إنا بما أرسلتَ به كافرون. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع التي يراد منها التوزيع على آحاد الجمع.
وقولهم: {أرسلتم به} تهكم بقرينة قولهم: {كافرون} وهو كقوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6]؛ أو المعنى: إنّا بما ادّعيتم أنكم أرسلتم به.
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}
قَفّوْا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوْا به عن إبطال حقية الإِسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى، فضمير {وقالوا} عائد إلى {الذين كفروا} من قوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن} [سبأ: 31] الخ. وهذا من تمويه الحقائق بما يحفّ بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والولد حجةً على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما هم عليه هو الحق. وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد. وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات.
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم.
فجملة {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً} عطف على جملة {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن} [سبأ: 31] الخ، وقولهم: {وما نحن بمعذبين} كالنتيجة لقولهم {نحن أكثر أموالا وأولاداً}، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنتاج الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإِبطال ما جاء به الإِسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لِجانب المسلمين بإِشارة إلى قياس استثنائي بناء على ملازمة موهومة، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقرّبون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد. ولولا هذا التأويل لخلت كلتا الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب ب {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أشدّ اتصالاً بالمعنى، أي قل لهم: إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي، والهدى والضلال، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيّقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون.
وهذا ما جعل قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} مصيباً المحزّ، فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زيْنها وشَيْنها.
وقد أفاد هذا أن حالهم غير دالّ على رضَى الله عنهم ولا على عدمه، وهذا الإِبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضاً إجمالياً.
وبسط الرزق: تيسيره وتكثيره، استعير له البسط وهو نشر الثوب ونحوِه لأن المبسوط تكثر مساحة انتشاره.
وقَدْر الرزق: عُسر التحصيل عليه وقلة حاصله؛ استعير له القَدْر، أي التقدير وهو التحديد لأن الشيء القليل يسهل عدّه وحسابه ولذلك قيل في ضده {يرزق من يشاء بغير حساب} [البقرة: 212]، ومفعول {يقدر} محذوف دل عليه مفعول {يبسط}. وتقدم نظيره في سورة الرعد.
ومفعول {يعلمون} محذوف دل عليه الكلام، أي لا يعلمون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر باعتبار عموم من يشاء من كونه صالحاً أو طالحاً، ومن انتفاء علمهم بذلك أنهم توهموا بسط الرزق علامة على القرب عند الله، وضده علامة على ضد ذلك. وبهذا أخطأ قول أحمد بن الرواندي:
كم عَاقِللٍ عَاقل أعيتْ مذاهبُه *** وجَاهل جَاهل تلقاه مَرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة *** وصيَّر العالم النحرير زنديقا
فلو كان عالماً نحريراً لما تحيّر فهمه، وما تزندق من ضيق عطن فكره.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37)}
يجوز أن تكون جملة {وما أموالكم} عطفاً على جملة {قل إن ربي يبسط الرزق} [سبأ: 36] الخ فيكون كلاماً موجهاً من جانب الله تعالى إلى الذين قالوا: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} [سبأ: 35] فتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى الذين قالوا: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً}.
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة {إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء} [سبأ: 36]، فيكون مما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويبلغه عن الله تعالى، ويكون في ضمير {عندنا} التفات، وضمائر الخطاب تكون عائدة إلى الذين قالوا: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35] وفيها وجه ثالث ننبه عليه قريباً.
وهو ارتقاء من إبطال الملازمة إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضى من الله تعالى على طريقة النقض التفصيلي المسمى بالمناقضة أيضاً في علم المناظرة. وهو مقام الانتقال من المنع إلى الاستدلال على إبطال دعوى الخصم، فقد أبطلت الآية أن تكون أموالُهم وأولادهم مقربة عند الله تعالى، وأنه لا يقرّب إلى الله إلا الإِيمان والعمل الصالح.
وجيء بالجملة المنفية في صيغة حصر بتعريف المسند إليه والمسند، لأن هذه الجملة أريد منها نفي قولهم: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} أي لا أنتم، فكان كلامهم في قوة حصر التقريب إلى الله في كثرة الأموال والأولاد فنُفي ذلك بأسره.
وتكرير {لا} النافية بعد العاطف في {ولا أولادكم} لتأكيد تسلط النفي على كلا المذكورْين ليكون كل واحد مقصوداً بنفي كونه مما يقرب إلى الله وملتفتاً إليه.
ولما كانت الأموال والأولاد جمعَيْ تكسير عوملا معاملة المفرد المؤنث فجيء بخبرهما اسم موصول المفرد المؤنث على تأويل جماعة الأموال وجماعة الأولاد ولم يلتفت إلى تغلب الأولاد على الأموال فيخبر عنهما معاً ب (الذين) ونحوه.
وعدل عن أن يقال: بالتي تقربكم إلينا، إلى {تقربكم عندنا} لأن التقريب هنا مجاز في التشريف والكرامة لا تقريب مكان.
والزلفى: اسم للقرب مثل الرُّجعى وهو مفعول مطلق نائب عن المصدر، أي تقربكم تقريباً، ونظيره {واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17].
وقوله: {إلا من آمن وعمل صالحاً} استثناء منقطع. و{إلا} بمعنى (لكنْ) المخففة النون التي هي للاستدراك وما بعدها كلام مستأنف، وذلك من استعمالات الاستثناء المنقطع؛ فإنه إذا كان ما بعد {إلا} ليس من جنس المستثنى منه كان الاستثناء منقطعاً، ثم إن كان ما بعد {إلا} مفرداً فإن {إلا} تقدّر بمعنى (لكنّ) أخت (إنّ) عند أهل الحجاز فينصبون ما بعدها على توهم اسم (لكنّ) وتقدر بمعنى (لكنْ) المخففة العاطفة عند بني تميم فيتبع الاسم الذي بعدها إعراب الاسم الذي قبلها وذلك ما أشار إليه سيبويه في باب يختار فيه النصب من أبواب الاستثناء.
فأما إن كان ما بعد {إلا} جملة اسمية أو فعلية فإن {إلا} تقدر بمعنى (لكنْ) المخففة وتجعل الجملة بعدُ استئنافاً، وذلك في نحو قول العرب: «والله لأفعلن كذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا» قال سيبويه: «فإن: أَن أفعل كذا، بمنزلة: إلاّ فِعْل كذا، وهو مبني على حِلّ (أي هو خبر له). وحِلّ مبتدأ كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا» ا ه.
قال ابن مالك في «شرح التسهيل»: وتقرير الإِخراج في هذا أن تجعل قولهم: إلا حلُّ ذلك، بمنزلة: لا أرى لهذا العَقد مبطِلاً إلا فِعْلَ كذا. وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر} [الغاشية: 22 24] على أن يكون {مَن} مبتدأ و«يعذبه الله» الخبر ودخل الفاء لتضمين المبتدأ معنى الجزاء. وقال أبو يَسعود: إن {إلاّ} في الاستثناء المنقطع يكون ما بعدها كلاماً مستأنفاً ا ه.
وعلى هذا فقوله تعالى هنا: {إلا من آمن وعمل صالحاً} تقديره: لكن من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف، فيكون {مَن} مبتدأ مضمَّناً معنى الشرط و{لهم جزاء الضعف} جملة خبر عن المبتدأ وزيدت الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط.
وأسهل من هذا أن نجعل {مَن} شرطية وجملة {فأولئك لهم جزاء الضعف} جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية. وهذا تحقيق لمعنى الاستثناء المنقطع وتفسير للآية بدون تكلف ولا تردد في النظم.
ويجوز أن تكون جملة {وما أموالكم ولا أولادكم} الخ اعتراضاً بين جملة {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [سبأ: 36] وجملة {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} [سبأ: 39] وتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى جميع الناس المخاطبين بالقرآن من مؤمنين وكافرين. وعليه فيكون قوله: {إلا من آمن وعمل صالحاً} الخ مستثنى من ضمير الخطاب، أي ما أموالكم بالتي تقربكم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وتكون جملة {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} ثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وجيء باسم الإِشارة في الإِخبار عن {من آمن} للتنويه بشأنهم والتنبيه على أنهم جديرون بما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل تلك الأوصاف التي تقدمت اسم الإِشارة على ما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] وغيره. ووزان هذا المعنى وزان قوله: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} إلى قوله: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات} [آل عمران: 198] الآية.
و {الضِعف} المضاعف المكرر فيصدق بالمكرر مرة وأكثر. وفي الحديث " والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة " وقد أشار إليه قوله تعالى: {كمثل حبّة أنبتت سبعَ سنابل في كل سنبلة مائةُ حبة واللَّه يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261].
وإضافة {جزاء} إلى {الضعف} إضافة بيانية، أي الجزاء الذي هو المضاعفة لأعمالهم، أي لما تستحقه كما تقدم.
وكنّي عن التقريب بمضاعفة الجزاء لأن ذلك أمارة كرامة المجزي عند الله، أي أولئك الذين يقربون زلفى فيجزون جزاء الضعف على أعمالهم لا على وفرة أموالهم وأولادهم، فالاستدراك ورد على جميع ما أفاده كلام المشركين من الدعوى الباطلة والفخر الكاذب لرفع توهم أن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله بحال، فإن من أموال المؤمنين صدقات ونفقات، ومن أولادهم أعواناً على البرّ ومجاهدين وداعين لآبائهم بالمغفرة والرحمة.
والباء في قوله: {بما عملوا} تحتمل السببية فتكون دليلاً على ما هو المضاعف وهو ما يناسب السبب من الصالحات كقوله تعالى: {هل جزاء الإِحسان إلا الإِحسان} [الرحمن: 60]، وتحتمل العوض فيكون «ما عملوا» هو المجازَى عليه كما تقول: جزيته بألف، فلا تقدير في قوله: {جزاء الضعف}.
و {الغرفات} جمع غُرفة. وتقدم في آخر الفرقان وهي البيت المعتلي وهو أجمل منظراً وأشمل مرأى. و{آمنون} خبر ثان يعني تلقي في نفوسهم الأمن من انقطاع ذلك النعيم.
وقرأ الجمهور {في الغرفات} بصيغة الجمع، وقرأ حمزة «في الغُرْفة» بالإِفراد.
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}
جرى الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسِه، فكان هذا بمنزلة الاعتراض بين الثناء على المؤمنين الصالحين وبين إرشادهم إلى الانتفاع بأموالهم للقرب عند الله تعالى بجملة {وما أنفقتم من شيء} [سبأ: 39] الخ. والذين يسعون في الآيات هم المشركون بصدهم عن سماع القرآن وبالطعن فيه بالباطل واللغو عند سماعه.
والسعي مستعار للاجتهاد في العمل كقوله تعالى: {ثم أدبر يسعى} [النازعات: 22] وإذا عدي ب {في} كان في الغالب مراداً منه الاجتهاد في المضرة فمعنى {يسعون في آياتنا} يجتهدون في إبطالها، و{معاجزين} مغالبين طالبين العجز. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} في سورة الحج (51).
واسم الإِشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الجحيم لأجل ما ذُكر قبل اسم الإِشارة مثل {أولئك على هدىً من ربهم} [البقرة: 5] و{في العذاب} خبر عن اسم الإِشارة. و{محضرون} هنا كناية عن الملازمة فهو ارتقاء في المعنى الذي دلت عليه أداة الظرفية من إحاطة العذاب بهم وهو خبر ثان عن اسم الإِشارة ومتعلقه محذوف دل عليه الظرف وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {فأولئك في العذاب محضرون} في سورة الروم (16).
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}
أتبع إبطال أن تكون الأموال والأولاد بذاتهما وسيلة قرب لدى الله تعالى ردّاً على مزاعم المشركين بما يشبه معنى الاستدراك على ذلك الإِبطال من إثبات انتفاع بالمال للتقرب إلى رضَى الله إن استعمل في طلب مرضاة الله تفضيلاً لما أشير إليه إجمالاً من أن ذلك قد يكون فيه قربة إلى الله بقوله: {إلا من آمن وعمل صالحاً} [سبأ: 37] كما تقدم.
وقوله: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} تقدم نظيره قريباً تأكيداً لذلك وليبنَى عليه قوله: {وما أنفقتم من شيء} الآية. فالذي تقدم ردٌّ على المشركين، والمذكور هنا ترغيب للمؤمنين، والعبارات واحدة والمقاصد مختلفة. وهذا من وجوه الإِعجاز أن يكون الكلام الواحد صالحاً لغرضين وأن يتوجه إلى طائفتين.
ولما كان هذا الثاني موجهاً إلى المؤمنين أشير إلى تشريفهم بزيادة قوله: {من عباده} أي المؤمنين، وضمير {له} عائد إلى {من}، أي ويقدر لمن يشاء من عباده. ومفعول {يقدر} محذوف دلّ عليه مفعول {يبسط}.
وكان ما تقدم حديثاً عن بسط الرزق لغير المؤمنين فلم ينعموا بوصف {من عباده} لأن في الإِضافة تشريفاً للمؤمنين، وفي هذا امتنان على الذين يبسط عليهم الرزق بأن جمع الله لهم فضل الإِيمان وفضل سعة الرزق، وتسلية للذين قدر عليهم رزقهم بأنهم نالوا فضل الإِيمان وفضل الصبر على ضيق الحياة.
وفي تعليق {له} ب {يقْدر} إيماء إلى أن ذلك القَدْر لا يخلو من فائدة للمقدور عليه رزقُه، وهي فائدة الثواب على الرضى من قسم له والسلامة من الحساب عليه يوم القيامة. وفي الحديث «ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كُفِّر بها عنه حتى الشوكةُ يُشاكُها».
ولولا هذا الإِيماء لقيل: ويقدر عليه، كما قال: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه} [الطلاق: 7]. وأما حال الكافرين فإنهم ينعم على بعضهم برزق يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة إذ لم يشكروا رازقهم، ويُقدر على بعضهم فلا يناله إلا الشقاء. وهذا توطئة لقوله: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} حثاً على الإِنفاق. والمراد الإِنفاق فيما أذن فيه الشرع.
وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا، قال تعالى: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا} [البقرة: 201، 202]. فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله تعالى ويسّرها لمن يسّرها في علمه بغيبه، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعَّمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان وعلى كثير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكثير من أيمة الدين مثل مالك بن أنس والشافعي والشيخ عبد الله بن أبي زيد وسحنون.
فأما اختيار الله لنبيئه محمد صلى الله عليه وسلم حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غايات الكمال من التمحّض لتلقي الوحي وجميل الخصال ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم، وقد بسطناه بياناً في رسالة طعام رسول الله عليه السلام. وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في الإِنفاق في سبيل الله فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإِنفاق لأن وعد الله بإِخلافه معَ تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنفقين.
وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط وبجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {فهو يخلفه}، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.
و {من شيء} بيان لما في {ما} من العموم، وجملة {وهو خير الرازقين} تذييل للترغيب والوعد بزيادة، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق. {خير} بمعنى أخير لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة.
والمراد بالإِنفاق: الإِنفاق المرغب فيه في الدين كالإِنفاق على الفقراء والإِنفاق في سبيل الله بنصر الدين. رَوى مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك ". قال ابن العربي: قد يعوّض مثله أو أزيد، وقد يعوض ثواباً، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإِجابة» ا ه. قلت: وقد يعوّض صحة وقد يعوّض تعميراً. ولله في خلقه أسرار.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}
عطف على جملة {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} [سبأ: 31] الآية استكمالاً لتصوير فظاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعاً لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين؛ فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.
وضمير الغيبة من {نحشرهم} عائد إلى ما عاد عليه ضمير {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً} [سبأ: 35] الذي هو عائد إلى {الذين كفروا} من قوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن} [سبأ: 31]. والكلام كله منتظم في أحوال المشركين، وجميع: فعيل بمعنى مفعول، أي مجموع وكثر استعماله وصفاً لإِفادة شمول أفراد ما أجري هو عليه من ذوات وأحوال، أي يجمعهم المتكلم، قال لبيد:
عريت وكان بها الجميعُ فأبكروا *** منها وغودر نُؤيها وثُمامها
وتقدم عند قوله تعالى: {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} في سورة هود (55). فلفظ {جميعاً} يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقد كان مشركو العرب نِحَلا شتّى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهباً منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضاً.
والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله، وقولهم: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} كما في سورة الزخرف (20). وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسباً، فكانوا يقولون: الملائكة بنات الله من سَروات الجن.
وقد كان حَيّ من خزاعة يقال لهم: بنو مُليح، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، يعبدون الجن والملائكة، والاقتصار على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونها ممن أُعيد من دون الله بدلالة الفحوى، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أهم ما جعل الحشر لأجله.
وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل في التعريض بالمشركين على طريقة المَثل إياك أعنِي واسمَعِي يا جارة.
والإِشارة بهؤلاء} إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.
وتقديم المفعول على {يعبدون} للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.
وجواب الملائكة يتضمن إقراراً مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يَحكي كفر أحد فيقول قال: هُو مشرك بالله، وإنما القائل قال: أنا مشرك بالله.
فمورد التنزيه في قول الملائكة {سبحانك} هو أن يكون غير الله مستحقاً أن يعبد، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا مَعبودين.
والولي: الناصر والحَليف والصديق، مشتق من الوَلْي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم. وكلٌّ من فاعل الوَلْي ومفعوله وليّ لأن الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلاً صالحاً لمعنى فاعل ولمعنى مفعول.
فيقع اسم الولِيّ على المُوالِي بكسر اللام وعلى المُوالَى بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيراً.
فمعنى {أنت ولينا} لا نوالي غيرك، أي لا نرضى به وليّاً، والعبادةُ ولاية بين العابد والمعبود، ورضَى المعبود بعبادة عابده إياه ولايةٌ بين المعبود وعابده، فقول الملائكة {سبحانك} تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإِلهية، لأن العابد لا يكون معبوداً. وقد تقدم الكلام على لفظ (ولي) عند قوله تعالى: {قل أغير اللَّه أتخذ ولياً} في سورة الأنعام (14) وفي آخر سورة الرعد.
ومِن} زائدة للتوكيد و(دون) اسم لمعنى غير، أي أنت ولينا وهم ليسوا أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم ف {من دونهم} تأكيد لما أفادته جملة {أنت ولينا} من الحَصر لتعريف الجزأين.
و {بل} للإِضراب الانتقالي انتقالاً من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سَوّلوا لهم عبادة غير الله تعالى، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة، والمعنى: بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجنّ راضين بعبادتهم إياهم. وحاصل المعنى: أنا منكرون عبادتهم إياناً ولم نأمرهم بها ولكن الجن سوّلت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.
وجملة {أكثرهم} للمشركين وضمير {بهم} للجن، والمقام يردّ كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين:
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمَّعوا
أي أحرز جَمْع المشركين ما جَمَّعه المسلمون من مغانم.
وقرأ الجمهور {نحشرهم} و{نقول} بنون العظمة. وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما، والضمير عائد إلى {ربي} من قوله: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} [سبأ: 39].
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
{بِهِم مُّؤْمِنُونَ * فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ}.
الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجنَّ. والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة. وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به: التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به. والمعنى: إذ علمتم أنكم عبدتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً.
ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخاً لهم وإظهاراً للغضب عليهم تحقيقاً للتبرؤ منهم، والفاء أيضاً فصيحة وهي ظاهرة.
وقُدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذٍ قد اختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عُبَّادهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإِضلال، وكذلك الضر في الدنيا أيضاً.
والمِلك هنا بمعنى: القدرة، أي لا يقدر بعضكم على نصر أو نفع بعض. وتقدم عند قوله تعالى: {قل فمَن يملك من اللَّه شيئاً إن أراد أن يهلك المسيحَ ابن مريم} في سورة العقود (17).
وقدم النفع في حَيز النفي تأييساً لهم لأنهم كانوا يرجون أن يشفعوا لهم يومئذٍ و{يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].
وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب.
{وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم}.
عطف على قوله: {ثم نقول للملائكة} [سبأ: 40]. وقد وقع الإِخبار عن هذا القول بعد الإِخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذٍ إظهاراً لاستحْقاقهم هذا الحكم الشديد، ولكونه كالمعلول لقوله: {لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً}.
والذوق: مجاز لمطلق الإِحساس، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله.
ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها لما في صلة الموصول من إيذان بغلطهم وتنديمهم.
وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المُناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة (20) {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} لأن القول المخبر عنه هنا هو قول الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى آنفاً: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} [سبأ: 33] فإن الذي يرى هو ما به العذاب، وأما القول المحكي في سورة السجدة (20) فهو قول ملائكة العذاب بدليل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.} وتقديم المجرور للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)}
انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتابَ والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لما تقدم من كفرهم.
وجملة {إذا تتلى} معطوفة على جملة {ويوم نحشرهم جميعاً} [سبأ: 40] عطف القصة على القصة. وضمير {عليهم} عائد إلى {الذين كفروا} [سبأ: 31] وهم المشركون من أهل مكة.
وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدةً بالزمن الذي تتلى عليهم فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأنه وقت ظهور حجة صدقه لكل عاقل متبصر.
وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقه قُدّم الظرف على عامله والتشوق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح.
والمراد بالآيات البينات آيات القرآن، ووصفها بالبيّنات لأجل ظهور أنها من عند الله لإِعجازها إياهم عن معارضتها، ولِما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على صدق ما تدعو إليه، فهي محفوفة بالبيان بألفاظها ومعَانيها.
وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو تالي آيات الله، فالإِشارة في قولهم: {ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستحضروه بطريق الإِشارة دون الاسم إفادة لحضوره مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فُصلت وقراءِته على عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون. 4
وابتدأوا بالطعن في التالي لأنه الغرض الذي يرمون إليه، وأثبتوا له إرادة صدّهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضُهم حميةَ بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلا حَقّاً ولا يفعلون إلا صواباً وحكمة، فلا جرم أن يكون مريد الصدّ عنها محاولاً الباطل وكاذباً في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قولٌ غير مطابق للواقع فهو الكذب.
وفعل {كان} في قولهم: {عمّا كان يعبد آباؤكم} إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة. وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيغار لصدورهم ليتألبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزدادوا تمسكاً بدينهم وقد قصروا الرسول عليه الصلاة والسلام على صفة إرادة صدهم قصراً إضافياً، أي إلا رجل صادق فما هو برسول.
وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلوّ بأنه كذب مفترىً وإعادة فعل القول للاهتمام بحكاية قولهم لفظاعته وكذلك إعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعاً لهما في نفس السامعين فجملة {وقالوا ما هذا إلا إفك} عطف على جملة {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم}، فالفعلان مشتركان في الظرف.
والإِشارة الثانية إلى القرآن الذي تضمنه {تتلى} لتعيُّنه لذلك.
والإِفك: الكذب، ووصفه بالمفترَى إما أن يتوجّه إلى نسبته إلى الله تعالى أو أريد أنه في ذاته إفك وزادوا فجعلوه مخترعاً من النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسبوقاً به.
فكونه إفكاً يرجع إلى جميع ما في القرآن، وكونه مفترىً يُرجعونه إلى ما فيه من قصص الأولين. وهذا القول من بهتانهم لأنهم كثيراً ما يقولون: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] فليس {مفترى} تأكيداً ل {إفك}.
ثم حُكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم: {إن هذا إلا سحر مبين}، فهذا المقال الثالث يشمل ما تقدم وغيره، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل. وأُظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معاداً للضمير فقيل: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم} ولم يَقُل: وقالوا للحق لما جاءهم، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
وأُظهر المشار إليه قبل اسم الإِشارة في قوله: {للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} لأنه لا دليل عليه في الكلام السابق، أي إذ ظهر لهم ما هُو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا: ما هذا إلا سحر مبين. فالمراد من الحق: ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان: أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهم من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحِيل وخفة أيدٍ تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات، فإذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول، وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدتْ معجزةَ تكثير الماء في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لقومها «أتيتُ أسحرَ الناس، أو هو نبيء كما زعموه».
ومعنى {مبين} أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.
وجملة {وقال الذين كفروا} معطوفة على جملة {وإذا تتلى}.
{وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}
الواو للحال، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} [سبأ: 43] الآية، تحميقاً لجهالتهم وتعجيباً من حالهم في أمرين:
«أحدهما»: أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه، فيكون معنى الآية: فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدرُ بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب لقوله: {يدرسونها} أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.
«وثانيهما»: أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرَّطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدققِ الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر: فيكون المعنى: التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم، فليس معنى جملة {وما آتيناهم من كتب} الخ على العطف ولا على الإِخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإِخبار به، ولكن على الحال لإِفادة التعجيب والتحميق، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.
والدراسة: القراءة بتمهّل وتفهّم، وتقدم عند قوله تعالى: {وبما كنتم تدرسون في آل عمران (79).
وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قُيّد الإِرسال بقوله: قبلَك} لأن الإِيتاء هو التمكين من الشيء وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه.
ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية التفرقةَ بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجرّ إلى معذرة أهل الكتاب في عضّهم بالنواجذ على دينهم، على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإِسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيضاً لا يكون للتقييد ب {قبلَك} فائدة خاصة كما علمت. وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعداً وأبعد عن القصد جداً.
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذّبوه، فموقع التسلية منه قوله: {وكذب الذين من قبلهم}، وموقع التهديد بقية الآية، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذَّبتْ رُسلَها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى: {فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً} [الزخرف: 8].
ومفعول {كذّب} محذوف دل عليه ما بعده، أي كذبوا الرسل، دل عليه قوله: {فكذبوا رسلي}.
وضمير {بلغوا} عائد إلى {الذين من قبلهم}، والضمير المنصوب في {آتيناهم} عائد إلى {الذين كفروا} في قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا سحر مبين} [سبأ: 43]. والمقام يردّ على كل ضمير إلى معاده، كما تقدم قريباً عند قوله تعالى: {أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 41].
والمِعشار: العشر، وهو الجزء العاشر مثل المِرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية.
وذُكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله: {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} لا يستقيم معهما سياق الآية.
وجملة {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} معترضة، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27].
والفاء في قوله: {فكذبوا رسلي} للتفريع على قوله: {وكذب الذين من قبلهم} باعتبار أن المفرع عطف عليه قوله: {فكيف كان نكير}، وبذلك كانت جملة {فكذبوا رسلي} تأكيداً لجملة {وكذب الذين من قبلهم} ونظيره قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا} في سورة القمر (9)، ولكون الفاء الثانية في قوله: فكيف كان نكير} تأكيداً لفظياً للفاء في قوله: {فكذبوا رسلي}.
وقوله: {فكيف كان نكير} مفرع على قوله: {وكذب الذين من قبلهم}.
و (كيف) استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعُدَيل ابن الفرخ «فكيفَ رأيتَ الله أمْكَنَ منك»، أي أمكنني منك، في قصة هروبه.
فجملتا {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة {وكذب الذين من قبلهم}. والتقدير: وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل، ولكن لما كانت جملة {وكذب الذين من قبلهم} مقصوداً منها تسلية الرسول ابتداءً جعلت مقصورة على ذلك اهتماماً بذلك الغرض وانتصاراً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خُصّت عِبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلاً للتكذيب وهو من مقامات الإِطناب، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحداً اتحاد السبب لمسببين أو العلةِ لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم. وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنباً لثقل إعادة الجملة إعادةً ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول {كذب} وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى: {وكذَّب الذين من قبلهم} كما تقدم، ونظيره قوله تعالى:
{كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9].
والنكير: اسم للإِنكار وهو عدّ الشيء منكراً، أي مكروهاً، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية.
والمعنى: فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره، أي كان عقاباً عظيماً على وفق إنكارنا تكذيبهم.
و {نكير} بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها. وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون.
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}
افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجُمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإِنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإِسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذاراً لهم في المجادلة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حَيِي عن بينة} [الأنفال: 42].
ولذلك اجتلبت صيغة الحصر ب {إنما}، أي ما أعظكم إلا بواحدة، طيّاً لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريباً لشقة الخلاف بيننا وبينكم.
وهو قصر إضافي، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة، أي إن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقد كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب: أمَا ينتهي ابن أخيك عن شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول: والخلاصة أو والفذلكة كذا.
وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهّموا الإِقبال على هذا النظر الذي عقدوا نياتهم على رفضه، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهداً ولا يضيع عليهم زمناً فَلْيتأملوا فيه قليلاً ثم يقضوا قضاءهم، والكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به.
والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده. وتقدم عند قوله تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء} في سورة الأعراف (145)، وقوله: {يعظكم اللَّه} في سورة النور (17).
و واحدة صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة.
والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال وإيجازاً في نظم الكلام واستنزالاً لطائر نفورهم وإعراضهم.
وبنيت هذه الواحدة بقوله: أن تقوموا لله مثنى وفرادى} إلى آخره، فالمصدر المنسبك من {أن} والفعل في موضع البدل من «واحدة»، أو قُل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق. وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمِين فلا تَخُضْ في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا.
والقيام في قوله: {أن تقوموا} مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} [النساء: 127].
واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالى: {وقال إنما اتخذتم من دون اللَّه أوثاناً مودّةً بينكم} [العنكبوت: 25]، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.
وكلمة {مثنى} معدول بها عن قولهم: اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريراً يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يُعدّ بعدد اثنين منه مرصفاً على نحو عدده.
وكلمة {فرادى} معدول بها عن قولهم: فرداً فرداً تكريراً يفيد معنى الترصيف كذلك. وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وتقدم في سورة النساء (3).
وانتصب مثنى وفرادى} على الحال من ضمير {تقوموا}، أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى: أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد، فيكون {مثنى} كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازماً للتثنية ادعاءً كما في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصرُ خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] فإن البصر لا يرجع خاسئاً من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر، ومنه قولهم: لبَّيك وسَعديك، وقولهم: دواليكَ.
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعيناً أحدكم بصاحب له أو منفرداً بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخَلوة. ومنهم من حاله بعكس هذا، فلهذا اقتصر على {مثنى وفرادى} لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه. وقدم {مثنى} لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يُغالِط فيه صاحبُ هوىً ولا شبهةٍ ولا يخشى فيه الناظر تشنيعاً ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء بما يلازم نواياهم من الخبث تصحبهم جُرأة لا تترك فيهم وازعاً عن الباطل ولا صدًّا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأٍ، ولا حياء يهذبُ من حِدّتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا {مثنى وفرادى} فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رَأياً فسلم كلاهما من غش صاحبه.
وحرف {ثمّ} للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبَوْنه.
والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم، وتقدم عند قوله تعالى: {أفلا تتفكرون} في الأنعام (50).
وقوله: ما بصاحبكم من جنة} نفي يُعلّق فعلَ {تتفكروا} عن العمل لأجل حرف النفي.
والمعنى: ثم تعلَموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة {ما بصاحبكم من جنة} معمولة ل {تتفكروا}. ومن وقف على {تتفكروا} لم يتقن التفكر.
والمراد بالصاحب: المخالط مطلقاً بالموافقة وبالمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خُلقه كقول الحجّاج في خطبته للخوارج «ألستُمْ أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدْر واستبطنتم الكفر» يعني فلا تخفى عليّ مقاصدكم. وتقدم في قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة} في سورة الأعراف (184).
والتعبير بصاحبكم} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ما بي من جِنّة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً. وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تَذَر للجهالة مجالاً فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله: {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16].
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجِنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كاذب. فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجِنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن، قال تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] في السورة الثانية نزولاً. وقال: {وما صاحبكم بمجنون في السورة السابعة} [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى: {ثم تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون} [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإِنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود {إِن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54]، وقالت ثمود لصالح {قد كنت فينا مَرجُوًّا قبل هذا} [هود: 62].
فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب (حاشاه). فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما؛ فأما انتفاء السحر فبيّن لأنه يحتاج إلى معالجة تعلّم ومزاولة طويلة والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يَخفى عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قوله: {بصاحبكم} فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذباً كما قال النضر بن الحارث: فلما رأيتم الشَيْب في صدغيه قلتُم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون، ووالله ما هو بأولئكم. وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه كذباً قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. قال: فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
ومن أجل هذا التدرج الذي طُوي تحت جملة {ما بصاحبكم من جنة} أعقب ذلك بحصر أمره في النذراة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة.
قال في «الكشاف»: أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وإما عاقل راجح العقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة، وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما به من جِنّة بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأرزنَهم حِلماً وأثقبهم ذهناً وآصلهم رأياً وأصدقهم قولاً وأجمعهم لما يُحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن تظنّوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب» ا ه.
فالقصر المستفاد من {إن هو إلا نذير لكم} قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.
ومعنى {بين يدي عذاب} القرب، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية، أي قبل عذاب، وقد تقدم آنفاً في هذه السورة، والمراد عذاب الآخرة.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}
هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم: كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا أنه يريد بهذه الدعوة نفعاً لنفسه يكون أجراً له على التعليم والإِرشاد.
وهم لما ادّعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض لجائزة الشاعر، وحُلوان الكاهن؛ فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجراً على الإِرشاد فقيل لهم: {ما سألتكم من أجر فهو لكم} إن كان بكم ظنّ انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه، فما كان لي من أجر عليه فخذوه. وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجراً {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} [ص: 86، 87] أو إن كنت سألتكم أجراً فلا تعطونيه، وإن كنتم أعطيتم شيئاً فاستردّوه، فكُنِّي بهذا الشرط المحقّق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالباً أجراً منهم على حدّ قوله تعالى: {إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116]. وهذا ما صرح به عقبه من قوله {إن أجري إلا على الله}، فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدلّ على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر؛ على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفائه في المستقبل أيضاً. وهذا جار مجرَى التحدِّي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجراً منهم لجَارُوا حين هذا التحدّي بمكافحته وطالبوه بردّه عليهم.
وينتقل من هذا إلى تعين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أجراً أو يتطلب نفعاً لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يريد جزاء منهم.
و {مَا} يجوز أن تكون شرطية، و{من أجر} بياناً لإِبهام {ما} وجملة {فهو لكم} جواب الشرط. ويجوز أن تكون {ما} نافية. وتكون {من} لتوكيد عموم النكرة في النفي، وتكون الفاء في قوله: {فهو لكم} تفريعاً على نفي الأجر، وضمير «هو» عائداً على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} [سبأ: 43] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله: {ما سألتكم من أجر} يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة.
ويكون معنى الآية نظيرَ معنى قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} [ص: 86، 87].
والأجْر تقدم عنه قوله تعالى: {ليجزيك أجر ما سقيت لنا} في سورة القصص (25).
وجملة إن أجري إلا على الله} مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر أن يسأل السامع: كيف لا يكون له على ما قام به أجر، فأجيب بأن أجره مضمون وَعَده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره.
وحرف {على} يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وَعده الصادق، ثم ذيّل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها، وعليم بخفاياها فهو من باب: {قل كَفى بالله شهيداً بيني وبينكم} [الرعد: 43] أي وهو شاهد على ذلك كله.
والأجر: عوض نافع على عمل سواء كان مالاً أو غيره.
وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وحفص ياء {أجريَ} مفتوحة. وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإِضافة.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.
وأعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً.
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده. فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد. وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يقذف بالحق} من معنى: الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
والقذف: إلقاء شيء من اليد، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه. والمعنى: أن ربي يقذفكم بالحق.
أو هو إشارة إلى قوله: {بل نقذف بالحق على الباطل} [الأنبياء: 18] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.
وتخصيص وصف {علام الغيوب} من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى: {يقذف بالحق} يرسل الوحي، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر: 15] ويكون قوله {علام الغيوب} إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون: لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
وارتفع {علام} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو علاّم الغيوب، أو على أنه نعت لاسم {إنّ} إما مقطوع، وإما لمراعاة محل اسم {إنّ} حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق. وقال الفراء: رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب. ومثَّله بالبدل في قوله تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} [ص: 64].
وقرأ الجهور {الغيوب} بضم الغين. وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في بَاء «بيوت».
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}
أعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما تقدم آنفاً.
وجملة {قل جاء الحق} تأكيد لجملة {قل إن ربي يقذف بالحق} [سبأ: 48] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإِسلام. وعُطف {وما يبدئ الباطل وما يعيد} على {جاء الحق} لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حلّ فيه الحق.
و {يبدئ} مضارع أبدأَ بهمزة في أوله وهمزة في آخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة: أجاء، وأسرى. وإسناد الإِبداء والإِعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.
ومعنى {ما يبدئ الباطل وما يعيد} الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقاً} في سورة الإِسراء (81). وذلك أن الموجود الذي تكون له آثارٌ إمّا أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إِبداء ولا إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون ما يبدئ وما يعيد} كناية عن الهلاك كما قال عَبيد بن الأبرص:
أفقر من أهله عَبيد *** فاليوم لا يُبدي ولا يعيد
(يعني نفسه).
ويقولون أيضاً: فلان ما يبدئ وما يعيد، أي ما يتكلم ببادئة ولا عائدة، أي لا يرتجل كلاماً ولا يجيب عن كلام غيره. وأكثر ما يستعمل فعل (أبدأ) المهموز أوله مع فعل (أعاد) مزدوجين في إثبات أو نفي، وقد تقدم قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده} في سورة العنكبوت (19).
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}
لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبي عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الردّ عليهم قاطعاً بأنه على هدى بقوله: {قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} [سبأ: 49] انتُقل هنا إلى متاركة جِدالهم وتركهم وشأنَهم لقلة جدوى مراجعتهم.
وهذا مَحْضَر خاص وطَيّ بساط مجلس واحد، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلاً مشتملاً على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم.
وصيغة القصر التي في قوله: {فإنما أضل على نفسي} لقصر الضلال المفروض، أي على نفسي لاَ عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلعَ عمَّا دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم.
وتعدية {أَضل} بحرف {على} تتضمن استعارة مكنية إذ شُبه الضلال بجريرة عليه فعدّاه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكرَه عليها غير الملائمة، عكس اللام، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يُقال: ضُمِّن {أَضِلّ} معنى أَجنِي، لأن {ضللت} الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر.
وأما قوله: {وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي} فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصراً على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصِل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52].
واختير في جانب الهدى فعل {اهتديت} الذي هو مطاوع (هَدَى) لما فيه من الإِيماء إلى أن له هادياً، وبيَّنه بقوله: {فبما يوحي إلي ربي} ليحصل شكره لله إجمالاً ثم تفصيلاً، وفي قوله: {فبما يوحي إلي ربي} إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحياً من الله وارِد إليه.
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه، من إسناد فعل {أَضِلّ} إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم، وهو أغرق في التعلق به، وليس الغرض من ذلك الكلاممِ بيانَ التسبب ولكن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به، ولم يُرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتدائه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملاً له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناسَ إلى اتّباعه، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يُعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجَّح جانب اهتدائه بقوله: {فبما يوحي إلي ربي}.
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه.
وجملة {إنه سميع قريب} تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابله من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه.
والقرب هنا كناية عن العلم والإِحاطة فيه قرب مجازي. وهذا تعريض بالتهديد.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)}
لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله: {فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي} [سبأ: 50] للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحلّ بهم الفزع من مشاهدة ما هدّدوا به.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب. وحذف جواب {لو} للتهويل. والتقدير: لرأيت أمراً فظيعاً.
ومفعول {ترى} يجوز أن يكون محذوفاً، أي لو تراهم، أو ترى عذابهم ويكونَ {إذ فزعوا} ظرفاً ل {ترى} ويجوز أن يكون {إذ} هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية، أي لو ترى ذلك الزمان، أي ترى ما يشتمل عليه.
والفزع: الخوف المفاجئ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " إنكم لَتَكْثُرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطمع ". وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيِّئين لهذا الوقت أسبابَ النجاة من هوله.
والأخذ: حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى: {فأخذهم أخذة رابية} [الحاقة: 10]. والمعنى: أُمسِكُوا وقَبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب.
وجملة {فلا فوت} معترضة بين المتعاطفات. والفوت: التفلت والخلاص من العقاب، قال رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم *** مما علي بذنب منكم فوت
أي إذا أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم.
وفي «الكشاف»: «ولو، وإذْ، والأفعال التي هي فَزِعوا، وأُخذوا، وحيل بينهم، كلها للمضيّ، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووُجد لتحققه» ا ه. ويزداد عليها فعل {وقالوا}.
والمكان القريب: المحشر، أي أخذوا منه إلى النار، فاستغني بذكر {مِن} الابتدائية عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب.
وليس بين كلمتي {قريب} هنا والذي في قوله: {إنه سميع قريب} [سبأ: 50] ما يشبه الإِيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسِّن الجناس التام.
وعطف {وقالوا} على {وأخذوا} أي يقولون حينئذٍ: آمنّا به.
وضمير {به} للوعيد أو ليوم البعث أو للنبيء صلى الله عليه وسلم أو القرآن، إذا كان الضمير مَحكياً من كلامهم لأن جميع ما يصحّ مَعاداً للضمير مشاهد لهم وللملائكة، فأُجملوا فيما يراد الإِيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه مُنجياً لهم من العذاب، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله: {قل إن ربي يقذف بالحق} [سبأ: 48] لأن الحقّ يتضمن ذلك كله.
ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم {آمنّا به} إلى إضاعتهم وقت الإِيمان بجملة {وأنى لهم التناوش} إلى آخرها.
و {أنَّى} استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإِنكار.
و {التناوش} قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإِبل شرباً خفيفاً من الحوض ونحوه، قال غَيلان بن حُريْث:
باتتْ تنُوش الحوضَ نَوْشاً من عَلا *** نَوْشاً به تقطع أجْواز الفَلا
يتحدث عن راحلته، أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.
وجملة {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المِكْنَة منها حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاؤوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله.
وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلفٌ بالهمزة في موقع الواو فقال الزجاج: وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى: {أقتت} [المرسلات: 11] وقولهم: أَجُوهٌ: جمع وجه. وبحث فيه أبو حيان، وقال الفراء والزجاج أيضاً: هو من نَأش بالهمز إذا أبطأ وتأخر في عمل. ومنه قول نهشل بن حَرِي النهشلي:
تمنّى نَئِيشاً أن يكون أطاعني *** وقد حدثت بعد الأمور أمور
أي تمنّى أخيراً. وفسر المعري في «رسالة الغفران» نئيشاً بمعنى: بعد ما فات. وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم: {آمنا به} بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته.
وفي الجمع بين {مكان قريب} و{مكان بعيد} محسن الطباق.
وجملة {وقد كفروا به من قبل} في موضع الحال، أي كيف يقولون آمنّا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبلُ في وقت التمكن فهو كقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43].
{ويقذفون} عطف على {كفروا} فهي حال ثانية. والتقدير: وكانوا يقذفون بالغيب. واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى: {ويصنع الفلك} [هود: 38].
والقذف: الرمي باليد من بعد. وهو هنا مستعار للقول بدون تروِّ ولا دليل، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم: هم شفعاؤنا عند الله.
ولك أن تجعل {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} تمثيلاً مثل ما في قوله {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد}، شبهوا بحال من يقذف شيئاً وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة.
وحُذف مفعول {يقذفون} لدلالة فعل {وقد كفروا به من قبل} عليه، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافاً.
والغيب: المغيَّب. والباء للملابسة، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير {يقذفون}، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد.
و {مكان بعيد} هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا، وهي مكان بعيد عن الآخرة للاستغناء عن استعارته لِما لا يشاهد منه بقوله: {بالغيب} كما علمت فتعين للحقيقة لأنها الأصل، وبذلك فليس بين لفظ {بعيد} المذكور هنا والذي في قوله: {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} ما يشبه الإِيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه وهي جُمل {فَزِعوا وأُخذوا وقالوا} [سبأ: 51، 52] أي وحَال زَجُّهم في النار بينهم وبين ما يأملُونه من النجاة بقولهم: {آمنا به} [سبأ: 52]. وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أَوْ عودتهم إلى الدنيا؛ فقد حُكي عنهم في آيات أُخرى أنهم تمنَّوه {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} [الأنعام: 27]، «ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل».
والتشبيه في قوله: {كما فعل بأشياعهم من قبل} تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإِمهال حين حلّ بهم عذاب الدنيا، مثل فرعون وقومه إذ قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90]، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان، وما من أمة حلّ بها عذاب إلا وتمنّت الإِيمان حينئذٍ فلم ينفعهم إلاّ قوم يونس.
والأشياع: المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين. وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله: {من قبل}، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد.
وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركو أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليُوقنوا أن سنة الله واحدة وأنهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله.
وجملة {إنهم كانوا في شك مريب} مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها. وفُعِل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وُصف لهم من أهواله.
وإنما جعلت حالتهم شكاً لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكّين وفي بعضها موقنين، ألا ترى قوله تعالى: {قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]. وإذا كان الشك مفضياً إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإِيمان به وعدم النظر في دليله.
ويجوز أن تكون جملة {إنهم كانوا في شك مريب} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئة عن سؤال يثيره قولُه: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} كأن سائلاً سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنّوه؟ فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشِيَهم اليأس، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل.
والمريب: المُوقع في الريب. والريب: الشك، فوصفُ الشك به وصفٌ له بما هو مشتق من مادته لإِفادة المبالغة كقولهم: شِعْر شاعر، وليْل أَليل، أو ليلٌ داج. ومحاولة غير هذا تعسف.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire