samedi 5 juillet 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الدخان
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏
القولُ في نظائره تقدم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 6‏]‏
‏{‏وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏
القول في نظير هذا القَسَم وجوابه تقدم في أول سورة الزخرف‏.‏ ونوه بشأن القرآن بطريقة الكناية عنه بذكر فضل الوقت الذي ابتدئ إنزاله فيه‏.‏
فتعريف ‏{‏الكتاب‏}‏ تعريف العهد، والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن‏.‏
ومعنى الفعل في ‏{‏أنزلناه‏}‏ ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه انضمام الجزء للكل، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمّى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن‏.‏
وتنكير ‏{‏ليلة‏}‏ للتعظيم، ووصفها ب ‏{‏مباركة‏}‏ تنويه بها وتشويق لمعرفتها‏.‏ فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدُئ فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جَبل حِرَاءٍ في رمضان قال تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏
والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر‏.‏ وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلاً عظيماً لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم إلى النّاس كافة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تنزَّل الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربّهم من كل أمرٍ سلامٌ هي حتى مطلع الفجر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وذلك من معاني بركتها وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم‏.‏
فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها مُلابساً لوقت مبارك فيزداد بذلك فضلاً وشرفاً، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها‏.‏ والظاهر أن الله أمدّها بتلك البركة في كل عام كما أومأ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضْعَ عشرة سنة‏.‏ وقولُه ‏{‏ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 3‏]‏ وقوله ‏{‏تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وقوله‏:‏ فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهو قول ضعيف‏.‏
واختلف في الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان، فقيل‏:‏ هي ليلة سبعَ عشرة منه ذكره ابن إسحاق عن الباقر أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبعَ عشرة ليلة من رمضان اه‏.‏ أي تأول قوله‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ أنه ابتداء نزول القرآن‏.‏ وفي المراد ب ‏{‏ما أنزلنا‏}‏ احتمالات ترفع الاحتجاج بهذا التأويل بأن ابتداء نزول القرآن كان في مثل ليلة يوم بدر‏.‏
والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر‏.‏ ولما تضافرت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر «اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى»‏.‏ فالذي نعتمده أن القرآن ابتدئ نزوله في العشر الأواخر من رمضان، إلاّ إذا حُمل قول النبي صلى الله عليه وسلم «اطلبوها في العشر الأواخر» على خصوص الليلة من ذلك العام‏.‏ وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث «اطلبوها في العشر الأواخر» على كل احتمال‏.‏
وجملة ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏ معترضة‏.‏ وحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ يجوز أن يكون للتأكيد ردًّا لإنكارهم أن يكون الله أرسل رسلاً للناس لأن المشركين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بزعمهم أن الله لا يرسل رسولاً من البشر قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، فكان ردّ إنكارهم ذلك ردًّا لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون جملة ‏{‏إنا كنّا منذرين‏}‏ مستأنفة‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏إنَّ‏)‏ لمجرد الاهتمام بالخبر فتكون مغنية غناء فاء التسبب فتفيد تعليلاً، فتكون جملة ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏ تعليلاً لجملة ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي أنزلناه للإنذار لأن الإنذار شأننا، فمضمون الجملة علة العلة وهو إيجاز وإنما اقتصر على وصف ‏{‏منذرين‏}‏ مع أن القرآن منذر ومُبشّر اهتماماً بالإنذار لأنه مقتضى حال جمهور الناس يومئذٍ، والإنذار يقتضي التبشير لمن انتذر‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏منذرين‏}‏ لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ عليه، أي منذرين المخاطبين بالقرآن‏.‏
وجملة ‏{‏فيها يُفْرَقُ كلّ أمر حكيم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تنكير ‏{‏ليلة‏}‏‏.‏ ووصفها ب ‏{‏مباركة‏}‏ كما علمت آنفاً فدل على عظم شأن هاتِه الليلة عند الله تعالى فإنها ظهر فيها إنزال القرآن، وفيها يفرق عند الله كل أمر حكيم‏.‏ وفي هذه الجمل الأربع محسن اللف والنشر، ففي قوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ لفٌّ بين معنيين أولهما‏:‏ تعيين إنزال القرآن، وثانيهما‏:‏ اختصاص تنزيله في ليلة مباركة ثم علل المعنى الأول بجملة ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏، وعُلل المعنى الثاني بجملة ‏{‏فيها يُفْرَق كل أمر حكيم‏}‏‏.‏
والمنذر‏:‏ الذي ينذر، أي يخبر بأمر فيه ضرّ لقصد أن يتقيه المخبر به، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏119‏)‏‏.‏
والفرق‏:‏ الفصل والقضاء، أي فيها يُفصَل كل ما يراد قضاؤه في النّاس ولهذا يُسمى القرآن فرقاناً، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏25‏)‏، أي جَعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتاً لإنفاذ وقوع أمور هامة مِثل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لتلك المقضيات وتشريفاً لتلك الليلة‏.‏
وكلمة ‏{‏كلّ‏}‏ يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافّة‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏كل‏}‏ مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل ‏(‏23‏)‏ ‏{‏وأوتيت من كل شيءٍ‏}‏ أي فيها تُفْرَق أمور عظيمة‏.‏
والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عدّ تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يُفْرق‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في ‏{‏يفرق‏}‏ لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏‏.‏
والأمر الحكيم‏:‏ المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النُّظُم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه‏.‏ وبعض تلك الأمور الحكيمة يُنفِذُ الأمرَ به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشؤون، وبعضها يُنفذ الأمر به على لسان الرّسول مدة حياته الدنيوية، وبَعْضاً يلهمُ إليه من ألهمه الله أفعالاً حكيمة، والله هو العالم بتفاصيل ذلك‏.‏
وانتصب ‏{‏أمراً من عندنا‏}‏ على الحال من ‏{‏أمر حكيم‏}‏‏.‏
وإعادة كلمة ‏{‏أمراً‏}‏ لتفخيم شأنه، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله‏:‏ ‏{‏من عندنا‏}‏، فكان مقتضى الظاهر أن يقع ‏{‏من عندنا‏}‏ صفةً ل ‏{‏أمر حكيم‏}‏ فخولف ذلك لهذه النكتة، أي أمراً عظيماً فخماً إذا وصف ب ‏{‏حكيم‏}‏‏.‏ ثم بكونه من عند الله تشريفاً له بهذه العندية، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداءً وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتاً لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة‏.‏ وجملة ‏{‏إنا كنا مرسلين‏}‏ معترضة وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ فيها مثل ما وقع في ‏{‏إنا كنا منذرين‏}‏‏.‏
واعلم أن مفتتح السورة يجوز أن يكون كلاماً موجهاً إلى المشركين ابتداء لفتح بصائرهم إلى شرف القرآن وما فيه من النفع للناس ليكفُّوا عن الصدّ عنه ولهذا وردت الحروف المقطعة في أوَلها المقصودُ منها التحدّي بالإعجاز، واشتملت تلك الجمل الثلاث على حرف التأكيد، ويكون إعلام الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذه المزايا حاصلاً تبعاً إن كان لم يسبق إعلامه بذلك بما سبق من آي القرآن أو بوحي غير القرآن‏.‏ ويجوز أن يكون موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم أصالة ويكون علم المشركين بما يحتوي عليه حاصلاً تبعاً بطريق التعريض، ويكون التوكيد منظوراً فيه إلى الغرض التعريضي‏.‏
ومفعول ‏{‏مرسلين‏}‏ محذوف دل عليه مادة اسم الفاعل، أي مرسلين الرسل‏.‏ و‏{‏رحمة من ربّك‏}‏ مفعول له من ‏{‏إنَّا كنّا مرسلين‏}‏ أي كنّا مرسلين لأجل رحمتنا، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس لِيتَجنَبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب، قال تعالى‏:‏
‏{‏وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏رحمة‏}‏ حالاً من الضمير المنصوب في ‏{‏أنزلناه‏}‏‏.‏
وإيراد لفظ الربّ في قوله‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ رحمة منا‏.‏ وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بِالمَرْبُوبينَ ثم إضافة ‏(‏ربّ‏)‏ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله‏:‏ ‏{‏يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبكِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به‏.‏
وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربّه، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، ويعلم من كونه ربّ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرّب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول‏:‏ رحمة من ربّك وربهم، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك، ثم سيصرح بأنه ربّهم في قوله ‏{‏ربّكم ورب آبائكم الأولين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 8‏]‏ وهو مقام آخر سيأتي بيانه‏.‏
وجملة ‏{‏إنه هو السميع العليم‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏إنا كنّا مرسلين رحمة من ربّك‏}‏ أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه عَلم عبادة المشركين للأصنام وعلم إغواء أيمة الكفر للأمم وعلم ضجيج الناس من ظلم قويّهم ضعيفَهم وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم فأرسل الرُسل لتقويمهم وإصلاحهم وعَلم أيضاً نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرّسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم، فأشير إلى علم النوع الأول بوصف ‏{‏السميع‏}‏ لأن السميع هو الذي يعلم الأقوال فلا يخفى عليه منها شيء‏.‏ وأشير إلى علم النّوع الثاني بوصف ‏{‏العليم‏}‏ الشامل لجميع المعلومات‏.‏ وقدم ‏{‏السميع‏}‏ للاهتمام بالمسموعات لأنّ أصل الكفر هو دعاء المشركين أصنامهم‏.‏
واعلم أن السميع والعليم تعليلان لجملة ‏{‏إنا كنا مرسلين‏}‏ بطريق الكناية الرمزية لأن علة الإرسال في الحقيقة هي إرادة الصلاح ورحمة الخلق‏.‏ وأما العلم فهو الصفة التي تجري الإرادة على وفقه، فالتعليل بصفة العلم بناء على مقدمة أخرى وهي أن الله تعالى حكيم لا يحب الفساد، فإذا كان لا يحب ذلك وكان عليماً بتصرفات الخلق كان علمه وحكمته مقتضيين أن يرسل للناس رسلاً رحمةً بهم‏.‏ وضمير الفصل أفاد الحصر، أي هو السميع العليم لا أصنامكم التي تدعونها‏.‏ وفي هذا إيماء إلى الحاجة إلى إرسال الرّسول إليهم بإبطال عبادة الأصنام‏.‏
وفي وصف ‏{‏السميع العليم‏}‏ تعريض بالتهديد‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏
هذا عود إلى مواجهة المشركين بالتذكير على نحو ما ابتدأت به السورة‏.‏ وهو تخلّص للاستدلال على تفرد الله بالإلهية إلزاماً لهم بما يُقرّون به من أنه ربّ السماوات والأرض وما بينهما، ويُقرون بأن الأصنام لا تخلق شيئاً، غير أنهم مُعرضون عن نتيجة الدليل ببطلان إلهية الأصنام ألاَ ترى القرآن يكرر تذكيرهم بأمثال هذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين تدْعُون من دون الله لا يخلقُون شيئاً وهم يُخلَقون أمواتٌ غير أحياء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20، 21‏]‏، ولأجل ذلك ذَكر الربوبية إجمالاً في قوله‏:‏ ‏{‏رحمة من ربك‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 6‏]‏ ثم تفصيلاً بذكر صفة عموم العلم التي هي صفة المعبود بحق بصيغة قصر القلب المشير إلى أن الأصنام لا تسمع ولا تعلم‏.‏ وبذكر صفة التكوين المختصة به تعالى بإقرارهم ارتقاءً في الاستدلال‏.‏ فلما لم يكن مجال للريب في أنه تعالى هو الإله الحق أعقب هذا الاستدلال بجملة ‏{‏إن كنتم موقنين‏}‏ بطريقة إثارة التيقظ لعقولهم إذ نزلهم منزلة الْمَشْكُوككِ إيقانُهم لعدم جريهم على موجب الإيقان لله بالخالقية حين عبدوا غيره بأنْ أُتي في جانب فرض إيقانهم بطريقة الشرط، وأُتي بحرف الشرط الذي أصله عدم الجزم بوقوع الشرط على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إنْ كنتم قوماً مسرفين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏رب السموات‏}‏ برفع ‏{‏ربُّ‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال في مثله بعد إجراء أخبار أو صفات عن ذات ثم يردف بخبر آخر، ومن ذلك قولهم بعد ذكر شخص‏:‏ فتًى يفعل ويفعل‏.‏ وهو من الاستئناف البياني إذ التقدير‏:‏ إن أردت أن تعرفه فهو كذا‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بجر ‏{‏رب‏}‏ على أنه بَدَلٌ من قوله‏:‏ ‏{‏ربِّك‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وحذف متعلق ‏{‏موقنين‏}‏ للعلم به من قوله‏:‏ ‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما‏}‏‏.‏ وجواب الشرط محذوف دل عليه المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كنتم موقنين فلا تعبدوا غيره، ولذلك أعقبه بجملة ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 8‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ نتيجة للدليل المتقدم لأن انفراده بِرُبوبيَة السماوات والأرض وما بينهما دليل على انفراده بالإلهية، أي على بطلان إلهية أصنامهم فكانت هذه الجملة نتيجة لذلك فلذلك فصلت لشدة اقتضاء الجملة التي قبلها إياها‏.‏
وجملة ‏{‏يحي ويميت‏}‏ مستأنفة للاستدلال على أنه لا إله إلا هو بتفرده بالإحياء والإماتة، والمشركون لا ينازعون في أن الله هو المحيي والمميت فكما استدل عليهم بتفرده بإيجاد العوالم وما فيها استدل عليهم بخلق أعظم أحوال الموجودات وهي حالة الحياة التي شرّف بها الإنسان عن موجودات العالم الأرضي وكرّم أيضاً بإعطائها للحيوان لتسخيره لانتفاع الإنسان به بسببها، وبتفرده بالإماتة وهي سلب الحياة عن الحيّ للدلالة على أن الحياة ليست ذاتية للحيّ‏.‏ ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلاً واضحاً في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأمواتتِ بالوفاة يوماً فيوماً من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بَلْهَ جحودهم إياها ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تُميت، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلاً عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة‏.‏
وعطف ‏{‏ورب آبائكم الأولين‏}‏ ليسجل عليهم الإلزام بقولهم‏:‏ ‏{‏وإنا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ووصفهم ب ‏{‏الأولين‏}‏ لأنهم جعلوا أقدم الآباء حجة أعظم من الآباء الأقربين كما قال تعالى حكاية عنهم ‏{‏ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏
‏{‏بل‏}‏ للإضراب الإبطالي ردّ به أن يكونوا موقنين ومقرّين بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما فإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ثابت بل هو كالْعَدَممِ لأنهم خلطوه بالشك واللعب فارتفعت عنه خاصية اليقين والإقرار التي هي الجري على موجَب العلم، فإن العلم إذا لم يجر صاحبه على العمل به وتجديد ملاحظته تطرق إليه الذهول ثم النسيان فضعف حتى صار شكّاً لانحجاب الأدلة التي يرسخ بها في النفس، أي هم شاكّون في وحدانية الله تعالى‏.‏
والإتيان بحرف الظرفية للدلالة على شدة تمكن الشك من نفوسهم حتى كأنه ظرف محيط بهم لا يجدون عنه مخرجاً، أي لا يفارقهم الشك، فالظرفية استعارة تبعية مثل الاستعلاء في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏يلعبون‏}‏ حال من ضمير ‏{‏هم‏}‏ أي اشتغلوا عن النظر في الأدلة التي تزيل الشك عنهم وتجعلهم مهتدين، بالهزء واللعب في تلقي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأن انغماسهم في الشك مقارِناً لحالهم من اللعب، ولهذه الجملة الحالية موقع عظيم إذ بها أفيد أنّ الشك حامِل لهم على الهزء واللعب، وأن الشغل باللعب يزيد الشك فيهم رسوخاً بخلاف ما لو قيل‏:‏ بل هم في شك ولعب، فتفطّنْ‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏
‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 9‏]‏ قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم‏.‏
فالخطاب في ‏{‏ارتقبْ‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت‏.‏ والارتقاب‏:‏ افتعال من رقَبَه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر‏.‏ وفعل ‏(‏ارتقب‏)‏ يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب‏.‏
و ‏{‏يوم‏}‏ اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل ‏(‏ارتقب‏)‏ وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخافون يوماً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب ‏{‏يومَ‏}‏ نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة‏.‏
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه‏.‏ ولأن الجملة في قوة المصدر‏.‏ والتقدير‏:‏ فارتقب يوم إتيان السماء بدخان‏.‏ وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أياممٍ وشهور كثيرة‏.‏
والدخان‏:‏ ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان‏.‏
والمبين‏:‏ البين الظاهر، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته‏.‏ وقال أبو عبيدة وابن قتيبة‏:‏ الدخان في الآية هو‏:‏ الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف‏.‏ وعن الأعرج‏:‏ أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها‏.‏ والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين‏.‏
فالمراد بالنّاس من قوله‏:‏ ‏{‏يغشى الناس‏}‏ هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يُكشف زمناً قليلاً عنهم إعذاراً لهم لعلهم يؤمنون، وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله‏:‏ ‏{‏إنّا كاشفوا العذاب قليلاً‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ فهو عذاب آخر‏.‏ وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت الآية مكية تعيّن أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله لِيُعذِّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏
‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ فتعيّن أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة وتعيّن أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعيّن أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال‏.‏ والأصح أن هذا الدخان عُني به ما أصاب المشركين من سِنِي القحط بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏ والأصح في ذلك حديث عبد الله بن مسعود في «صحيح البخاري» عن مسلم وأبي الضحى عن مسروق قال‏:‏ دخلتُ على عبد الله بن مسعود فقال‏:‏ إنَّ قريشاً لما غَلَبوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال‏:‏ اللّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سَنة أكلوا فيها العظام والميتةَ من الجَهْد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ استسققِ لمُضر أن يكشف عنهم العذاب، فدعا فكشف عنهم وقال الله له‏:‏ إنْ كشفنا عنهم العذاب عَادوا، فعادُوا‏:‏ فانتقم الله منهم يومَ بدر فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخاننٍ مبينٍ‏}‏ إلى قوله ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10 16‏]‏ والبطشة الكبرى يوم بدر‏.‏ وإن عبَد الله قال‏:‏ مَضى خمس‏:‏ الدخانُ، والرومُ والقَمَرُ والبطشة واللِّزَام‏.‏
في حديث أبي هريرة في «صحيح البخاري» في أبواب الاستسقاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من الصبح يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم أنْج عياش بن أبي ربيعة‏.‏ اللّهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطْأتَك على مُضَر، اللهم اجعلها عليهم سنينَ كسنيننِ يوسُف ‏"‏ وهؤلاء الذين دعا لهم بالنجاة كانوا ممن حبسهم المشركون بعد الهجرة، وكل هذه الروايات يؤذن بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين بالسنين كان بعد الهجرة لئلا يعذب المسلمون بالجوع وأنه كان قبل وقعة بدر، وفي بعض روايات القنوت أنه دعا في القنوت على بني لحيان وعُصيَّة‏.‏
والذي يستخلص من الروايات أن هذا الجوع حلّ بقريش بُعيد الهجرة، وذلك هو الجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ اللّهم أعِنِّي عليهم بسبَععٍ كسَبْععِ يُوسف ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ اللّهم اشْدُدْ وَطْأتَك على مُضر، اللهم اجعلها عليهم سِنين كسنيننِ يوسف ‏"‏ فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ استسق لِمُضَر وفي رواية عن مسروق عن ابن مسعود في «صحيح البخاري» أن الذي أتى النبي هو أبُو سفيان‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ إن أبا سفيان أتاه في ناس من أهل مكة يعني أتوا المدينة لمَّا علموا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان دعا عليهم بالقحط، فقالوا‏:‏ إن قومك قد هلَكُوا فادع الله أن يسقيهم فدعا‏.‏
وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏ تمثيلاً لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغِشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجوّ بهيئة الدخان النازل من الأفق، فالمجاز في التركيب‏.‏ وأما مفردات التركيب فهي مستعملة في حقائقها لأن من معاني السماء في كلام العرب قُبة الجو، وتكون جملة ‏{‏يغشى الناس‏}‏ ترشيحاً للتمثيلية لأن الذي يغشاهم هو الظلمة التي في أبصارهم من الجوع، وليس الدخانَ هو الذي يغشاهم‏.‏ وبعض الروايات ركب على هذه الآية حديثَ الاستسقاء الذي في «الصحيح» أن رجلاً جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال‏:‏ يا رسول الله هلك الزرع والضرع فادعُ الله أن يسقينا فرفع يديه وقال‏:‏ اللّهم اسقنَا ثلاثاً، وما يُرَى في السماء قَزَعَةُ سحاب، فتلبدت السماء بالسحاب وأمطروا من الجمعة إلى الجمعة حتى سالت الأودية وسال وادي قَنَاة شهراً، فأتاه آت في الجمعة القابلة هو الأول أو غيره، فقال‏:‏ يا رسول الله تقطعت السبل فادع الله أن يمسك المطر عنا، فقال‏:‏ اللّهم حَوَالَينا ولا علينا، فتفرقت السحب حتى صارت المدينة في شبه الإكليل من السحاب‏.‏
والجمع بين الروايتين ظاهر‏.‏ ويظهر أن هذا القحط وقع بعد يوم بدر فهو قحط آخر غير قحط قريش الذي ذكر في هذه الآية‏.‏
ومعنى ‏{‏يغشى الناس‏}‏ أنه يحيط بهم ويعمّهم كما تحيط الغَاشية بالجسد، أي لا ينجو منه أحد من أولئك الناس وهم المشركون‏.‏ فإن كان المراد من الدخان ما أصاب أبصارهم من رؤية مثل الغبرة من الجوع فالغشيان مجاز، وإن كان المراد منه غبار الحرب يوم الفتح فالغشيان حقيقة أو مجاز مشهور‏.‏ ويجوز أن يكون غباراً متصاعداً في الجو من شدة الجفاف‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏ قال ابن عطية يجوز أن يكون إخباراً من جانب الله تعالى تعجيباً منه كما في قوله تعالى في قصة الذبيح ‏{‏إنَّ هذا لهوَ البلاء المبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 106‏]‏‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك من قول الناس الذين يغشاهم العذاب بتقدير‏:‏ يقولون‏:‏ هذا عذاب أليم‏.‏ والإشارة في ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏ إلى الدخان المذكور آنفاً، عُدل عن استحضاره بالإضمار وأن يقال‏:‏ هو عذاب أليم، إلى استحضاره بالإشارة، لتنزيله منزلة الحاضر المشاهد تهويلاً لأمره كما تقول‏:‏ هذا الشتاء قادم فأعدَّ له‏.‏
وقريب منه الأمر بالنظر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 24‏]‏ فإن المحكي مما يحصل في الآخرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
هذه جملة معترضة بين جملة ‏{‏هذا عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 11‏]‏ وجملة ‏{‏أنّى لهم الذكرى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 13‏]‏ فهي مقول قول محذوف‏.‏ وحملها جميع المفسرين على أنها حكاية قوللِ الذين يغشاهم العذابُ بتقدير يقولون‏:‏ ربّنا اكشف عنا العذاب، أي هو وَعد صادر من النّاس الذين يغشاهم العذاب بأنهم يؤمنون إن كشف عنهم العذاب أي فيكون مثل قوله تعالى في سورة الزخرف ‏(‏49‏)‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الساحر ادعُ لنا ربّك بما عهد عندك إننا لمهتدون‏}‏ أي إنْ دعوتَ ربّك اتبعناك ويكون بمعنى قوله في سورة الأعراف ‏(‏134‏)‏ ‏{‏ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادْعُ لنا ربّك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لئن كشفت عنا الرجز لَنُؤمِنَن لك‏.‏‏}‏ ومما تسمح به تراكيب الآية وسياقها أن يكون القول المحذوف مقدَّراً بفعللِ أمرٍ أي قولوا لتلقين المسلمين أن يستعيذوا بالله من أن يصيبهم ذلك العذاب إذ كانوا والمشركين في بلد واحد كما استعاذ موسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ وفيه إيماء إلى أن الله سيخرج المؤمنين من مكة قبل أن يحلّ بأهلها هذا العذاب، فهذا التلقين كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا لا تُؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ الآيات‏.‏ وعليه فجملة ‏{‏إنا مؤمنون‏}‏ تعليل لطلب دفع العذاب عنهم، أي إنا متلبسون بما يدفع عنا عذاب الكافرين، وفي تلقينهم بذلك تنويه بشرف الإيمان، وأسلوبُ الكلام جارٍ على أن جملة ‏{‏إنا مؤمنون‏}‏ تعليل لطلب كشف العذاب عنهم لما يقتضيه ظاهر استعمال حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ من معنى الإخبار دون الوعد، ومن التعليل دون التأكيد، ولما يقتضيه اسم الفاعل في زمن الحال دون الاستقبال، ولأن سياقه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بترقب إعانة الله إياه على المشركين، كما كان يدعو «أعني عليهم بسبع كسني يوسف» فمقتضى المقام تأمينُه من أن يصيبَ العذابُ المسلمين وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر مادة الكشف تقتضي إزالة شيء كان حاصلاً في شيء إلاّ أن الكشف هنا لما لم يكن مستعملاً في معناه الحقيقي كان مجازه محتملاً أن يكون مستعملاً في منع حصول شيء يُخشى حصوله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاَّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ فإن قوم يونس لم يحل بهم عذاب فزال عنهم ولكنهم تُوعدوا به فبادروا بالإيمان فنجاهم الله منه، وقول جعفر بن عُلْبة الحارثي‏:‏
لا يَكشف الغَماء إلا ابنُ حرة *** يَرى غمراتتِ الموت ثم يَزُورها
أراد أنه يمنع العدوّ من أن ينالهم بسوء، ومحتملاً للاستعمال في زوال شيء كان حصل‏.‏ ولم يذكر أحد من رواة السِير والآثار أن المشركين وعَدوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسلمون إن أزال الله عنهم القحط‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏
‏{‏أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏
هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جواباً عن قول القائلين ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏ تكذيباً لوعدهم، أي هم لا يتذكرون، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأمَّا على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شككٍ يلعبون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 9‏]‏ وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بُعداء عن الذكرى‏.‏
و ‏{‏أنَّى‏}‏ اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاماً عن الأحوال بمعنى ‏(‏كيف‏)‏ بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وقد جاءهم رسول مبين‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم بالتذكير‏.‏
والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه‏.‏ فجملة ‏{‏وقد جاءهم‏}‏ في موضع الحال‏.‏
و ‏{‏مبين‏}‏ اسم فاعل إما من أبان المتعدّي، وحذف مفعوله لدلالة ‏{‏الذِكرى‏}‏ عليه، أي مبين لهم ما به يتذكرون، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بانَ، أي رسول ظاهر، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه‏.‏
وإيثار ‏{‏مبين‏}‏ بتخفيف الياء على ‏{‏مبيّن‏}‏ بالتشديد من نكتتِ الإعجاز ليفيد المعنيين‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي وهو ترقَ من مفاد قوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شك يلعبون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 9‏]‏ الذي اتصلت به جملة كانت جملة وقد جاءهم رسول مبين‏}‏ من متعلِّقاتها‏.‏
فالمعنى‏:‏ وقد جاءهم رسول فشكُّوا في رسالته ثم تولّوا عنه وطعنوا فيه، فالتولّي والطعن حصلا عند حصول الشك واللعب، ولذلك كانت ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لا لتراخي الزمان‏.‏ ومعنى التراخي الرتبي هنا أن التولي والبهتان أفظع من الشك واللعب‏.‏ والمعلَّم الذي يعلِّمه غيره، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلِّمه بشر‏}‏ في سورة النحل ‏(‏103‏)‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم وصفوه مرة بأنه يعلّمه غيره، ووصفوه مرة بالجنون، تنقلاً في البهتان، أو وصفَه فريق بهذا وفريق بذلك، فالقول موزع بين أصحاب ضمير قالوا‏}‏ أو بين أوقات القائلين‏.‏ ولا يصح أن يكون قولاً واحداً في وقت واحد لأن المجنون لا يكون معلَّماً ولا يتأثر بالتعليم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
يجيء على مَا فسر به جميع المفسرين قولَه ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏، أن هذه الجملة جواب لسؤالهم، ويجيء على ما درجنا عليه أن تكون هذه الجملة إعلاماً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأنْ يُكشَف العذابُ المتوعَّد به المشركون مدةً، فيعودون إلى ما كانوا فيه، وعليه فضمير ‏{‏إنكم عائدون‏}‏ التفات إلى خطاب المشركين، أي يُمسكون عن ذلك مدة وهي المدة التي أرسلوا فيها وفْدَهم إلى المدينة ليسأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بكشف القحط عنهم فإنهم أيامئذٍ يمسكون عن الطعن والذمّ رجاء أن يدعو لهم ثم يعودون لما كانوا فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مَسّ الإنسانَ ضرٌّ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمةً منه نَسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ كما اقتضى أن العذاب عائد إليهم بعد عودتهم إلى ما كانوا فيه من أسباب إصابتهم بالعذاب‏.‏
فمعنى ‏{‏إنا كاشفوا العذاب‏}‏‏:‏ إنا كاشفوه في المستقبل بقرينة قوله قبله ‏{‏فارتَقب يوم تأتي السماء بدخاننٍ مبينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏ المقتضي أنه يحصل في المستقبل، والآية متصل بعضها ببعض وكذلك معنى ‏{‏إنكم عائدون‏}‏، أي في المستقبل‏.‏ واسم الفاعل يكون مراداً به الحصول في المستقبل بالقرينة‏.‏ روي أنهم كشف عنهم القحط بعد استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم فحيُوا وحييت أنعامهم ثم عادُوا فعاودهم القحط كمال سبع سنين، ولعلها عقبها فتحُ مكة‏.‏
وجملة ‏{‏إنكم عائدون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنهم إذا سمعوا ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً‏}‏ تطلّعوا إلى ما سيكون بعدَ كشفه، وتطلعَ المؤمنون إلى ما تصير إليه حال المشركين بعد كشف العذاب هل يقلعون عن الطعن فكان قوله‏:‏ ‏{‏إنكم عائدون‏}‏ مبيناً لما يتساءلون همخ‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
هذا هو الانتقام الذي وُعد به الرسول صلى الله عليه وسلم وتُوعِّد به أيمة الكفر‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله‏:‏ ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏ فإن السامع يُثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعْن فأجيب بأن الانتقام منهم هو البطشة الكبرى، وهي الانتقام التامّ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدَا بخبر بحرف التأكيد دفعاً للتردد‏.‏
وأصل تركيب الجملة‏:‏ إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى، ف ‏{‏يوم‏}‏ منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو ‏{‏منتقمون‏}‏‏.‏
وتقدم على عامله للاهتمام به لِتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن ‏(‏إنَّ‏)‏ بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد ‏(‏إنَّ‏)‏ لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها‏.‏
و ‏{‏البطشة الكبرى‏}‏‏:‏ هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذٍ كان بطشة بالشرك وأهلِه لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيّرون أهل مكة كما يريدون‏.‏
والبطشة‏:‏ واحدة البطش وهو‏:‏ الأخذ الشديد بعنف، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم أيد يبطشون بها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏195‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏‏}‏
جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلاً لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وجعل ما حلّ بهم إنذاراً بما سيحلّ بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويُسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 8‏]‏ فذكرها هنا تأييد للنبيء ووَعدٌ له بالنصر وحسننِ العاقبة، وتهديدٌ للمشركين‏.‏
وهذا المثل وإن كان تشبيهاً لمجْمُوععِ الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبَّه أبو جهل بفرعون، ويشبه أتباعه بملإِ فرعون وقومِه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل‏.‏ وقبولُ المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه‏.‏
وموقع جملة ‏{‏ولقد فتنا‏}‏ يجوز أن يكون موقع الحال فتكون الواوُ للحال وهي حال من ضمير ‏{‏إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏، أي منتقمون منهم في المستقبل وانتقمنا من قوممِ فرعون فيما مضى‏.‏
وأشعر قولَه قبلَهم‏}‏ أن أهل مكة سيُفتنون كما فُتِن قوم فرعون، فكان هذا الظرف مؤذناً بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز، والتقدير‏:‏ إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون، ومؤذناً بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر‏.‏
والمقصود تشبيه الحالة بالحالة ولكن عدل عن صَوغ الكلام بصيغة التشبيه والتمثيل إلى صوغه بصيغة الإخبار اهتماماً بالقصة وإظهاراً بأنها في ذاتها مما يهم العلمُ به، وأنها تذكير مستقل وأنها غير تابعة غيرها‏.‏ ولأن جملة ‏{‏وجاءهم رسول كريم‏}‏ عطفت على جملة ‏{‏فتنا‏}‏ أي ولقد جاءهم رسول كريم، عطفَ مفصل على مجمل، وإنما جاء معطوفاً إذ المذكور فيه أكثرُ من معنى الفتنة، فلا تكون جملة ‏{‏وجاءهم رسول كريم‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏فتنا‏}‏ بل هي تفصيل لقصة بعثة موسى عليه السلام‏.‏
والفَتن‏:‏ الإيقاع في اختلال الأحوال، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشدّ من القتل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏
والرسول الكريم‏:‏ موسى، والكريم‏:‏ النفيس الفائق في صنفه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَيَ أُلْقِيَ إليّ كتابٌ كريمٌ‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏، أي رسول من خِيرة الرسل أو من خِيرة الناس‏.‏
وأن أدوا إلي عباد الله‏}‏ تفسير لما تضمنه وصف ‏{‏رَسول‏}‏ وفعل ‏{‏جاءهم‏}‏ من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول‏.‏ ومعنى ‏{‏أدوا إلي‏}‏ أرْجعوا إلي وأعطوا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ من إن تأمَنْه بدينار لا يُؤدِه إليك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏، يقال‏:‏ أدَّى الشيء أوصله وأبلغه‏.‏ وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فِعل سالم غير مضاعف، جَعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية‏.‏
وخطاب الجمع لقوم فرعون‏.‏ والمرادُ‏:‏ فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق، ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لمّا رأى من فرعون صلفاً وتكبراً من الامتثال، فخطاب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق‏.‏
و ‏{‏عباد الله‏}‏ يجوز أن يكون مفعول ‏{‏أدوا‏}‏ مراداً به بنو إسرائيل، أجري وصفهم ‏{‏عباد الله‏}‏ تذكيراً لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم، وجاء في سورة الشعراء ‏(‏17‏)‏ ‏{‏أن أرسل معنا بني إسرائيل‏}‏ فحصل أنّه وصفهم بالوصفين، فوصف ‏{‏عباد الله‏}‏ مبطل لحسبان القبط إياهم عَبيداً كما قال‏:‏ ‏{‏وقومُهُما لنا عابدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏ وإنما هم عباد الله، أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية كقول بشار يخاطب نفسه‏:‏
أصبحتَ مولى ذي الجلال وبعضُهم *** مولَى العَبيد فلُذْ بفضلك وافخَر
ويجوز أن يكون مفعول فعل ‏{‏أدوا‏}‏ محذوفاً يدل عليه المقام، أي أدّوا إليَّ الطاعةَ ويكون ‏{‏عباد الله‏}‏ منادى بحذف حرف النداء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الظاهر من شرع موسى أنه بعث إلى دعاء فرعون للإيمان وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى فرعون أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، قال‏:‏ ويدل عليه قوله بعد ‏{‏وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ علة للأمر بتسليم بني إسرائيل إليه، أي لأني مرسل إليكم بهذا، وأنا أمين، أي مؤتمن على أني رسول لكم‏.‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على ‏{‏رسول‏}‏ للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداءً بأن يعطوه بني إسرائيل لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريععِ لها، وليس قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ خطاباً لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالتَه مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوففٍ من فرعون وملائهم أن يفتنهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏، وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبرراً لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده‏.‏
وعطف على طلب تسليم بني إسرائيل نهياً عن الاستكبار عن إجابة أمر الله أنَفَة من الحطّ من عظمته في أنظار قومهم فقال‏:‏ ‏{‏وأن لا تعلوا على الله‏}‏ أي لا تَعْلُوا على أمره أو على رسوله فلما كان الاعتلاء على أمر الله وأمر رسوله ترفيعاً لأنفسهم على واجب امتثال ربهم جعلوا في ذلك كأنهم يتعالون على الله‏.‏
و ‏{‏أن لا تعلوا‏}‏ عطف على ‏{‏أن أدوا إلي‏}‏‏.‏ وأعيد حرف ‏{‏أنْ‏}‏ التفسيرية لزيادة تأكيد التفسير لمدلول الرسالة‏.‏ و‏{‏لا‏}‏ ناهية، وفعل ‏{‏تعلوا‏}‏ مجزوم ب ‏{‏لا‏}‏ الناهية‏.‏
وجملة ‏{‏إني آتيكم بسلطان مبين‏}‏ علة جديرة بالعود إلى الجمل الثلاث المتقدمة وهي ‏{‏أدوا إلي عباد الله‏}‏، ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏، ‏{‏وأن لا تعلوا على الله‏}‏ لأن المعجزة تدل على تحقق مضامين تلك الجمل مَعلولِها وعلتها‏.‏
والسلطان من أسماء الحجة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن عندكم من سلطاننٍ بهذا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ فالحجة تلجئ المحوج على الإقرار لمن يحاجّه فهي كالمتسلط على نفسه‏.‏
والمعجزة‏:‏ حجة عظيمة ولذلك وصف السلطان ب ‏{‏مبين‏}‏، أي وَاضح الدلالة لا ريب فيه‏.‏ وهذه المعجزة هي انقلاب عصاه ثعباناً مبيناً‏.‏
و ‏{‏آتيكم‏}‏ مضارع أو اسم فاعل ‏(‏أتى‏)‏‏.‏
وعلى الاحتمالين فهو مقتض للإتيان بالحجّة في الحال‏.‏
وجملة ‏{‏وإني عذت بربي‏}‏ عطف على جملة ‏{‏أدوا إلي عباد الله‏}‏، فإن مضمون هذه الجملة مما شمله كلامه حين تبليغ رسالته فكان داخلاً في مجمل معنى ‏{‏وجاءهم رسول كريم‏}‏ المفسرُ بما بعد ‏{‏أنْ‏}‏ التفسيرية‏.‏ ومعناه‏:‏ تحذيرهم من أن يرجموه لأن معنى ‏{‏عذت بربي‏}‏ جعلتُ ربي عوذاً، أي مَلْجَأ‏.‏ والكلام على الاستعارة بتشبيه التذكير بخوف الله الذي يمنعهم من الاعتداء عليه بالالتجاء إلى حصن أو معقل بجامع السلامة من الاعتداء‏.‏ ومثل هذا التركيب ممّا جرى مجرى المثل، ومنه قوله في سورة مريم ‏(‏18‏)‏ ‏{‏قالت إنّي أعوذ بالرحمان منك إن كنتَ تقياً‏}‏ وقال أحَدُ رُجّاز العرب‏:‏
قالت وفيها حَيْدة وذُعْر *** عَوْذ بربي منكمُ وحِجْر
والتعبير عن الله تعالى بوصف ‏{‏ربي وربكم‏}‏ لأنه أدخل في ارعوائهم من رجمه حين يتذكرون أنه استعصم بالله الذي يشتركون في مربوبيته وأنهم لا يخرجون عن قدرته‏.‏
والرجم‏:‏ الرمي بالحجارة تباعاً حتى يموت المرمِي أو يثخنه الجراح‏.‏ والقصد منه تحقير المقتول لأنهم كانوا يرمون بالحجارة من يطردونه، قال‏:‏ ‏{‏فاخرُج منها فإنك رجيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 34‏]‏‏.‏
وإنّما استعاذ موسى منه لأنه علم أن عادتهم عقاب من يخالف دينهم بالقتل رمياً بالحجارة‏.‏ وجاء في سورة القصص ‏(‏33‏)‏ ‏{‏فأخاف أن يقْتلون‏}‏ ومعنى ذلك إن لم تؤمنوا بما جئت به فلا تقتلوني، كما دل عليه تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تؤمنوا لي‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إن لم تؤمنوا بالمعجزة التي آتيكم بها فلا ترجموني فإني أعوذ بالله من أن ترجموني ولكن اعتزلوني فكونوا غير موالين لي وأكون مع قرمي بني إسرائيل، فالتقدير‏:‏ فاعتزلوني وأعتزلكم لأن الاعتزال لا يتحقق إلا من جانبين‏.‏
وجيء في شرط ‏{‏إن لم تؤمنوا لي‏}‏ بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ التي شأنها أن تستعمل في الشرط غير المتيقّن لأن عدم الإيمان به بعد دلالة المعجزة على صدقه من شأنه أن يكون غير واقع فيفرضَ عدمُه كما يُفرض المحال‏.‏ ولعله قال ذلك قبل أن يعلمه الله بإخراج بني إسرائيل من مصر، أو أراد‏:‏ فاعتزلوني زمناً، يعني إلى أن يعيّن له الله زمن الخروج‏.‏
وعدّي ‏{‏تؤمنوا‏}‏ باللام لأنه يقال‏:‏ آمَن به وآمن لَه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فآمن له لوطٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏، وأصل هذه اللام لام العلة على تضمين فعل الإيمان معنى الركون‏.‏
وقد جاء ترتيب فواصل هذا الخطاب على مراعاة ما يبدو من فرعون وقومه عند إلقاء موسى دعوته عليهم إذْ ابتدأ بإبلاغ ما أرسل به إليهم فآنس منهم التعجب والتردد فقال‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏، فرأى منهم الصلف والأنفة فقال‏:‏ ‏{‏وأن لا تعلوا على الله‏}‏ فلم يرعُووا فقال‏:‏ ‏{‏إني آتيكم بسلطان مبين‏}‏، فلاحت عليهم علامات إضمار السوء له فقال‏:‏ ‏{‏وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏}‏، فكان هذا الترتيب بين الجُمللِ مغنياً عن ذكر ما أجابوا به على أبدع إيجاز‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
التعقيب المفاد بالفاء تعقيب على محذوف يقتضي هذا الدعاءَ إذ ليس في المذكور قبل الفاء ما يناسبه التعقيبُ بهذا الدعاء إذ المذكور قبله كلام من موسى إليهم، فالتقدير‏:‏ فَلَمْ يستجيبوا له فيما أمرهم، أو فأصرّوا على أذاه وعدم متاركته فدعا ربه، وهذا التقرير الثاني أليق بقوله‏:‏ ‏{‏أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏‏.‏ وهذا كالتعقيب الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏ اتفق القراء العشرة على قراءته بفتح الهمزة وشد النون فما بعدها في قوة المصدر، فلذلك تقدر الباء التي يتعدّى بها فعل ‏(‏دَعا‏)‏، أي دعا ربه بما يجمعه هذا التركيبُ المستعمل في التعريض بأنهم استوجبوا تسليط العقاب الذي يَدعو به الداعي، فالإخبار عن كونهم قوماً مجرمين مستعمل في طلب المجازاة على الإجرام أو في الشكاية من اعتدائهم، أو في التخوف من شرهم إذا استمرّوا على عدم تسريح بني إسرائيل، وكل ذلك يقتضي الدعاء لكف شرّهم، فلذلك أطلق على هذا الخبر فعل ‏{‏دعا‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 22‏]‏، والمفرَّع قول محذوف دلت عليه صيغة الكلام، أي فدعا فقلنا‏:‏ اسْرِ بعبادي‏.‏ وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ‏{‏فاسْرِ‏}‏ بهمزة وصل على أنه أمر من ‏(‏سرى‏)‏، وقرأه الباقون بهمزة قطع من ‏(‏أسرى‏)‏ يقال‏:‏ سرَى وَأَسْرى‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ فتقييده بزمان الليل هنا نظير تقييده في سورة الإسراء، والمقصود منه تأكيد معنى الإسراء بأنه حقيقة وليس مستعملاً مجازاً في التبكير بناءً على أن المتعارف في الرحيل أن يكون فجْراً‏.‏
وفائدة التأكيد أن يكون له من سعة الوقت ما يَبلغون به إلى شاطئ البحر الأحمر قبل أن يدركهم فرعون بجنوده‏.‏
وجملة ‏{‏إنكم متبعون‏}‏ تقيد تعليلاً للأمر بالإسراء ليلاً لأنه مما يستغرب، أي أنكم متَّبعون فأردنا أن تقطعوا مسافة يتعذّر على فرعون لحاقكم‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لتنزيل غير السائل منزلة السائل إذَا قُدّم إليْه ما يلوِّح له بالخبر فيستشرفُ له استشرافَ المتردد السائل، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏‏.‏
وأسند الإتباع إلى غير مذكور لأنه من المعلوم أن الذي سيتبعهم هو فرعون وجنوده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فأسرِ بعبادي ليلاً‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 23‏]‏ فيجوز أن تكون الجملتان صَدَرَتا متصلتين بأنْ أعلَم الله موسى حين أمره بالإسراء بأنه يضرب البحر بعصاه فينفلق عن قعره اليابس حتى يمر منه بنو إسرائيل كما ورد في آيات أخرى مثل آية سورة الشعراء‏.‏ ولما أمره بذلك طمَّنه بأن لا يخشَى بقاءه منفلقاً فيتوقع أن يلحق به فرعون بل يجتاز البحرَ ويتركه فإنه سَيَطغْى على فرعون وجنده فيغرقون، ففي الكلام إيجاز تقديره‏:‏ فإذا سريتَ بعبادي فسنفتح لكم البحر فتسلكونه فإذا سلكتَه فلا تخشَ أن يلحقكم فرعون وجندُه واتركه فإنهم مغرقون فيه‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة الثانية صدرت وقت دخول موسى ومن معه في طرائق البحر فيقدّر قول محذوف، أي وقُلنا له‏:‏ اترك البحر رَهْواً، أي سيدخله فرعون وجنده ولا يخرجون منه لأن في بَقائِهِ مفروقاً حكمةً أخرى وهي دخول فرعون وجنده في طرائقه طمَعاً منهم أن يلحقوا موسى وقومَه، حتى إذا توسطوه انضمّ عليهم، فتحصل فائِدة إنْجَاء بني إسرائيل وفائدةُ إهلاك عدوّهم، فتكون الواو عاطفة قولاً محذوفاً على القول المحذوف قبله‏.‏
وعلى الوجهين فالترك مستعمل مجازاً في عدم المبالاة بالشيء كما يقال‏:‏ دَعْه يفعل كذا، وذَرْه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، وقالت كبشة بنت معد يكرب‏:‏
ودَعْ عنك عَمْرا إن عَمرا مُسالم *** وهل بَطْن عمرو غيرُ شِبْر المَطْعَم
والبحر هو بحر القلزم المسمى اليوم البحر الأحمر‏.‏
والرهْوُ‏:‏ الفجوة الواسعة‏.‏ وأصله مصدر رها، إذا فتح بين رجليه، فسميت الفجوة رهواً تسمية بالمصدر، وانتصب ‏{‏رَهْواً‏}‏ على الحال من البحر على التشبيه البليغ، أي مثل رَهْو‏.‏
وجملة ‏{‏إنهم جند مغرقون‏}‏ استئناف بياني جواباً عن سؤال ناشئ عن الأمر بترك البحر مفتوحاً، وضمير ‏{‏إنهم‏}‏ عائد إلى اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 22‏]‏ والجند‏:‏ القوم والأمة وعسكر المَلك‏.‏
وإقحام لفظ ‏{‏جند‏}‏ دون الاقتصار على ‏{‏مغرقون‏}‏ لإفادة أن إغراقهم قد لزمهم حتى صار كأنه من مقومات عنديتهم كما قدمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏
‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏
‏{‏مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فاكهين‏}‏ ‏{‏فاكهين‏}‏‏.‏
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة، غروراً أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد فتنَّا قبلهم قوم فرعون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 17‏]‏ من التنظير الإجمالي‏.‏
وضمير ‏{‏تركوا‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏إنهم جند مغرقون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 24‏]‏‏.‏
والترك حقيقته‏:‏ إلقاء شيء في مَكاننٍ منتقلَ عنه إبقاء اختيارياً، ويطلق مجازاً على مفارقة المكان والشيءِ الذي في مكاننٍ غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال‏:‏ ترك الميت مالاً، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل‏.‏
وفعل ‏{‏تركوا‏}‏ مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر، وانضمام البحر عليهم قد تم، ففي الكلام إيجازُ حذففِ جمل كثيرة يدل عليها ‏{‏كم تركوا‏}‏‏.‏
و ‏{‏كم‏}‏ اسم لعدد كثير مُبهم يفسِّر نوعَه مميزٌ بعد ‏{‏كم‏}‏ مجرورٌ ب ‏{‏من‏}‏ مذكورةٍ أو محذوفة‏.‏ وحكم ‏{‏كم‏}‏ كالأسماء تكون على حسب العوامل‏.‏ وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبرَ مبتدأ ولا خبرَ ‏(‏كان‏)‏ ولا ‏(‏إنّ‏)‏ وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها‏.‏ وانتصب ‏{‏كم‏}‏ هنا على المفعول به ل ‏{‏تركوا‏}‏ أي تركوا كثيراً من جنات‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ مميزة لمبهم العدد في ‏{‏كم‏}‏‏.‏
والمَقام بفتح الميم‏:‏ مكان القيام، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان‏.‏
والكريم من كل نوع أنفسه وخيره، والمراد به‏:‏ المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة ‏(‏منفسين‏)‏‏.‏
والنَّعمة بفتح النون‏:‏ اسم للتنعم مصُوغ على وزنة المرة‏.‏ وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشي الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر، وهذا هو المناسب لِفِعْللِ ‏{‏تركوا‏}‏ لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري‏.‏
و ‏{‏فاكهين‏}‏ متصفين بالفُكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فاكهين‏}‏ بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وقرأه حفص وأبو جعفر ‏{‏فَكِهين‏}‏ بدون ألف على أنه صفة مشبهة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ راجع لفعل ‏{‏تركوا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ تركاً مثل ذلك الترك‏.‏
والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏‏.‏
كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً‏}‏‏.‏
عطف على ‏{‏تركوا‏}‏ أي تركوها وأورثناها غيرهم، أي لفرعون الذي وُلي بعد موت منفطا وسمي صطفا منفطا وهو أحد أُمراء فرعون منفطا تزوج ابنة منفطا المسماةَ طُوسِير التي خلفت أباها منفطا على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وُصف هو وَجُندُه بقوم آخرين، وليس المراد بقوله‏:‏ ‏{‏قوماً آخرين‏}‏ قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه
‏{‏ولقد نجينا بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 30‏]‏، ولم يقل ولقد نجيناهم‏.‏
ووقع في آية الشعراء ‏{‏فأخرجناهم من جناتتٍ وعيونٍ وكنوزٍ ومقاممٍ كريممٍ كذلك وَأورثناها بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 57 59‏]‏ والمراد هنالك أن أنواعاً مما أخرجنا منه قومَ فرعون أورثناها بني إسرائيل، ولم يُقصد أنواعُ تلك الأشياء في خصوص أرض فرعون‏.‏ ومناسبة ذلك هنالك أن القومَين أخرجا مما كانا فيه، فسُلب أحد الفريقين ما كان له دون إعادة لأنهم هلكوا، وأعطي الفريق الآخَر أمثال ذلك في أرض فلسطين، ففي قوله‏:‏ ‏{‏وأورثناها‏}‏ تشبيه بليغ وانظر آية سورة الشعراء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏كم تركوا من جنات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قوماً آخرين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 25 28‏]‏، فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا، أي فما كان مُهلَكُهم إلا كمُهلَك غيرهم ولم يكن حدثاً عظيماً كما كانوا يحسبون ويحسب قومُهم، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهوِّلوا أمر موته بنحو‏:‏ بَكت عليه السماء، وبكته الريح، وتزلزلتْ الجبال، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه‏:‏
فإن يهلك أبو قابوس يهلِك *** ربيعُ الناس والبلدُ الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني‏:‏
بكَى حارثُ الجَولان من فقد ربه *** وحَوْران منه موحَش مُتضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم، وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏، وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين، قال أبو بكر بن اللَّبَّانَةِ الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك إشبيلية‏:‏
تبكي السماء بمزن رائححٍ غَاد *** على البهاليل من أبناء عَباد
والمعنى‏:‏ فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم وَلا أنظروا بتأخير هلاكهم بل عجّل لهم الاستئصال‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏
معطوف على الكلام المحذوف الذي دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إنهم جندٌ مغرقون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 24‏]‏ الذي تقديره‏:‏ ‏{‏فأغرقناهم ونجّينا بني إسرائيل‏}‏ كما قال في سورة الشعراء ‏(‏64 66‏)‏ ‏{‏وأزلفنا ثَمَّ الآخَرين وأنجينا موسى ومن معه أجْمَعين ثم أغرقنا الآخَرين‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ ونجينا بني إسرائيل من عذاب فرعون وقساوته، أي فكانت آيةُ البَحر هلاكاً لقوم وإِنجاء لآخَرين‏.‏ والمقصود من ذكر هذا الإشارةُ إلى أن الله تعالى ينجي الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذاب أهل الشرك بمكة، كما نجّى الذين اتبعوا موسى من عذاب فرعون‏.‏
وجُعل طغيان فرعون وإسرافه في الشر مثلاً لطغيان أبي جهل وملئه ولأجل هذه الإشارة أُكد الخبر باللام‏.‏ وقد يفيد تحقيق إنجاء المؤمنين من العذاب المقدَّر للمشركين إجابة لدعوة ‏{‏ربَّنَا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏‏.‏
و ‏{‏العذاب المهين‏}‏‏:‏ هو ما كان يعاملهم به فرعون وقومه من الاستعباد والإشقاق عليهم في السخرة، وكان يكلفهم أن يصنعوا له اللَّبِن كل يوم لبناء مدينتي فيثوم ورعمسيس وكان اللبن يصنع من الطوب والتبْن فكان يكلفهم استحضار التبْن اللازم لصنع اللبن ويلتقطون متناثره ويذلونهم ولا يتركون لهم راحة، فذلك العذاب المهين لأنه عذاب فيه إذلال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من فرعون‏}‏ الأظهر أن يكون بدلاً مطابقاً للعذاب المهين فتكون ‏{‏مِن‏}‏ مؤكدة ل ‏{‏من‏}‏ الأولى المعدية ل ‏{‏نجينا‏}‏ لأن الحرف الداخل على المبدل منه يجوز أن يدخل على البدل للتأكيد‏.‏ ويحسن ذلك في نكت يقتضيها المقام وحسنّه هنا، فأظهرت ‏{‏مِن‏}‏ لخفاء كون اسم فرعون بدلاً من العذاب تنبيهاً على قصد التهويل لأمر فرعون في جَعل اسمه نفس العذاب المَهِين، أي في حال كونه صادراً من فرعون‏.‏
وجملة ‏{‏إنه كان عالياً‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان التهويل الذي أفاده جعل اسم فرعون بدلاً من العذاب المهين‏.‏ والعالي‏:‏ المتكبر العظيم في الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏
و ‏{‏من المسرفين‏}‏ خبر ثان عن فرعون، والإسراف‏:‏ الإفراط والإكثار‏.‏ والمراد هنا الإكثار في التعالي، يراد الإكثار في أعمال الشر بقرينة مقام الذم‏.‏ و‏{‏من المسرفين‏}‏ أشد مبالغة في اتصافه بالإسراف من أن يقال‏:‏ مسرفاً، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أنْ أكونَ من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏
‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله‏.‏ والمقصود‏:‏ التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و‏(‏قد‏)‏، كما أكد في قوله آنِفاً ‏{‏ولقد نجينا بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 30‏]‏، و‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على علم‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏، كقول الأحوص‏:‏
إني على ما قد علمتتِ محسَّد *** أنمي على البغضاء والشنآن
وموضع المجرور بها موضع الحال‏.‏
والمراد ب ‏{‏العالمين‏}‏ الأمم المعاصرة لهم‏.‏ ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم فقال‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ أي أخرجها الله للناس‏.‏ واختار المسلمين بعدهم اختياراً نسبياً على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏
إيتاء الآيات من آثار الاختيار لأنه من عناية الله بالأمة لأنه يزيدهم يقيناً بإيمانهم‏.‏ والمراد بالآيات المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام أيد الله به بني إسرائيل في مواقع حروبهم بنصر الفئة القليلة منهم على الجيوش الكثيرة من عدوّهم‏.‏
وهذا تعريض بالإنذار للمشركين بأن المسلمين سيغلبون جمعهم مع قِلتِهم في بدر وغيرها‏.‏
والبلاء‏:‏ الاختبار يكون بالخير والشر‏.‏ فالأول اختبار لمقابلة النعمة بالشكر أو غيره، والثاني اختبار لمقدار الصبر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونبْلوكم بالشر والخير فتنةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ أي ما فيه اختبار لهم في نظر الناس ليعلم بعضهم أنهم قابلوا نعمة إيتاء الآيات بالشكر، ويحذروا قومهم من مقابلة النعمة بالكفران‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏
‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ وجملة ‏{‏أهم خيرٌ أم قوم تُبّع‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 37‏]‏ فإنه لما هددهم بعذاب الدخان ثم بالبطشة الكبرى وضرب لهم المثل بقوم فرعون أعقب ذلك بالإشارة إلى أن إنكار البعث هو الذي صرفهم عن توقع جزاء السوء على إعراضهم‏.‏ وافتتاح الكلام بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ الذي ليس هو للتأكيد لأن هذا القول إلى المشركين لا تردّد فيه حتى يحتاج إلى التأكيد فتعين كون حرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لمجرد الاهتمام بالخبر، وهو إذا وقع مثل هذا الموقع أفاد التسبب وأغنى عَن الفاء‏.‏ فالمعنى‏:‏ إنا منتقمون منهم بالبطشة الكبرى لأنهم لا يرتدعون بوعيد الآخرة لإنكارهم الحياة الآخرة فلم ينظروا إلا لما هم عليه في الحياة الدنيا من النعمة والقوة فلذلك قدر الله لهم الجزاء على سوء كفرهم جزاء في الحياة الدنيا‏.‏
وضمير ‏{‏هي‏}‏ ضمير الشأن ويقال له‏:‏ ضمير القصة لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها‏.‏
وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها يعنون بذلك شيئاً ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة‏.‏ فلهم في نَفْي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت‏.‏
وكلمة ‏{‏هؤلاء‏}‏ حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه‏:‏ مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏89‏)‏‏.‏
ووصف ‏{‏الأولى‏}‏ مراد به السابقة مثل قوله‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ضلّ قبلهم أكثرُ الأولين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 71‏]‏‏.‏ ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفما نحن بميتين إلاّ موتَتَنا الأولى وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏
وأعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها، بقوله‏:‏ ‏{‏وما نحن بمنشرين‏}‏ تصريحاً بمفهوم القصر‏.‏ وجيء به معطوفاً للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر وجعلوا قولهم‏:‏ ‏{‏فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏ حجة على نفي البعث بأن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة وهو سفسطة لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا، وهذا من توركهم واستهزائهم‏.‏
وضمير جمع المخاطبين أرادوا به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يقولون لهم ‏{‏إنكم مبعوثون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ كما جاء في حديث خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل الذي نزل بسببه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوَتَيَنّ مالاً وولداً‏}‏ الآية، وتقدم في سورة مريم ‏(‏77‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
استئناف ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 17‏]‏ فضمير ‏{‏هم راجع إلى اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34، 35‏]‏ فبعد أن ضرب لهم المثل بمهلك قوم فرعون زادهم مثلاً آخر هو أقرب إلى اعتبارهم به وهو مُهلك قوم أقرب إلى بلادهم من قوم فرعون وأولئك قوم تبّع فإن العرب يتسامعون بعظمة مُلك تُبَّع وقومه أهل اليمن وكثير من العرب شاهدوا آثار قوتهم وعظمتهم في مراحل أسفارهم وتحادثوا بما أصابهم من الهلك بسيل العرم‏.‏ وافتتح الكلام بالاستفهام التقريري لاسترعاء الأسماع لمضمونه لأن كل أحد يعلم أن تُبَّعاً ومن قبله من الملوك خير من هؤلاء المشركين‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم ليسوا خيراً من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الذين استأصلهم الله لأجل إجرامهم فلما مَاثلوهم في الإجرام فلا مزيّة لهم تدفع عنهم استئصال الذي أهلك الله به أمماً قبلهم‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أهم خير أم قوم تبع‏}‏ تقريري إذ لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأن قوم تبّع والذين من قبلهم خير منهم لأنهم كانوا يضربون بهم الأمثال في القوة والمنعة‏.‏ والمراد بالخيرية التفضيل في القوة والمنعة، كما قال تعالى بعد ذكر قوم فرعون ‏{‏أكفاركم خيرٌ من أُولئكم‏}‏ في سورة القمر ‏(‏43‏)‏‏.‏ وقوم تُبّع هم حمير وهم سكان اليمن وحضرَموت من حمير وسبأ وقد ذكرهم الله تعالى في سورة قَ‏.‏
وتُبّع بضم الميم وتشديد الموحدة لقب لِمَن يملك جميع بلاد اليمن حِمْيراً وسبأ وحضرموت، فلا يطلق على الملك لقب تُبّع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة‏.‏ قيل سمّوه تُبّعاً باسم الظل لأنه يَتبع الشمس كما يتبع الظل الشمس، ومعنى ذلك‏:‏ أنه يسير بغزاوته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس، كما قال تعالى في ذي القرنين ‏{‏فاتّبع سبباً حتى إذا بلغ مغرب الشمس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لم نجعل لهم من دونها ستراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 85 90‏]‏، وقيل لأنه تتبعه ملوك مخاليف اليمن، وتخضع له جميع الأقيال والأذواء من ملوك مخاليف اليمن وأذوائه، فلذلك لُقِّبَ تُبّعاً لأنه تتبعه الملوك‏.‏
وتُبّع المراد هُنا المسمّى أسعد والمُكَنَّى أبا كَرِب، كان قد عظم سلطانه وغزا بلاد العرب ودخل مكة ويثرب وبلغ العراق‏.‏ ويقال‏:‏ إنه الذي بنى مدينة الحِيرة في العراق، وكانت دولة تُبّع في سنة ألف قبل البعثة المحمدية، وقيل كان في حدود السبعمائة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتعليق الإهلاك بقوم تُبّع دونه يقتضي أن تبّعاً نجا من هذا الإهلاك وأن الإهلاك سلط على قومه، قالت عائشة‏:‏ ألا ترى أن الله ذمّ قومه ولم يَذمه‏.‏
والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره أنه قال‏:‏ «لا تسبوا تُبعاً فإنه كان قد أسلم وفي رواية كان مؤمناً» وفسره بعض العلماء بأنه كان على دين إبراهيم عليه السلام وأنه اهتدى إلى ذلك بصحبة حبْرَين من أحبار اليهود لقيهما بيثرب حين غزاها وذلك يقتضي نجاته من الإهلاك‏.‏ ولعل الله أهلك قومه بعد موته أو في مغيبه‏.‏
وجملة ‏{‏أهلكناهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لما أثاره الاستفهام التقريري من السؤال عن إبهامه ماذا أريد به‏.‏ وجملة ‏{‏إنهم كانوا مجرمين‏}‏ تعليل لمضمون جملة ‏{‏أهلكناهم‏}‏، أيْ أهلكناهم عن بكرة أبيهم بسبب إجرامهم، أي شركهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏
‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34، 35‏]‏ ردّاً عليهم كما علمته آنفاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لو لم يكن بعثٌ وجزاءٌ لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثاً، ونحن خلقنا ذلك كله بالحق، أي بالحكمة كما دل عليه إتقان نظام الموجودات، فلا جرم اقتضى خلق ذلك أن يجازَى كل فاعل على فعله وأن لا يضاع ذلك، ولما كان المشاهد أن كثيراً من النّاس يقضي حياته ولا يرى لنفسه جزاء على أعماله تعيّن أن الله أخّر جزاءهم إلى حياة أخرى وإلا لكان خلقهم في بعض أحواله من قبيل اللعب‏.‏
وذكر اللعب توبيخ للذين أحالوا البعث والجزاء بأنهم اعتقدوا ما يفضي بهم إلى جعل أفعال الحكيم لعباً، وقد تقدم وجه الملازمة عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون‏}‏ في سورة المؤمنون ‏(‏115‏)‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وَما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا‏}‏ في سورة ص ‏(‏27‏)‏‏.‏
ولاعبين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏خلقنا‏}‏، والنفي متوجه إلى هذا الحال فاقتضى نفي أن يكون شيء من خلق ذلك في حالة عبث فمن ذلك حالة إهمال الجزاء‏.‏
وجملة ‏{‏ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏}‏‏.‏
والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، أي خلقنا ذلك ملابساً ومقارناً للحق، أو الباء للسببية، أي بسبب الحق، أي لإيجاد الحق من خلقهما‏.‏
والحق‏:‏ ما يحق وقوعه من عمل أو قول، أي يجب ويتعين لسببية أو تفرع أو مجازاة، فمن الحق الذي خُلقت السماوات والأرض وما بينهما لأجله مكافأة كل عامل بما يناسب عمله ويُجازيه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ في سورة الروم ‏(‏8‏)‏‏.‏
والاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ناشئ عما أفاده نفي أن يكون خلق المخلوقات لَعباً وإثبات أنه للحق لا غير من كون شأن ذلك أنْ لا يخفى ولكن جهل المشركين هو الذي سوّل لهم أن يقولوا ‏{‏ما نحن بمنشرين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 35‏]‏‏.‏
وجملة الاستدراك تذييل، وقريب من معنى الآية قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية‏}‏ في آخر سورة الحجر ‏(‏85‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏
‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏
هذه الجملة تتنزل من التي قبلها منزلة النتيجة من الاستدلال ولذلك لم تعطف، والمعنى‏:‏ فيوم الفصل ميقاتهم إعلاماً لهم بأن يوم القضاء هو أجَل الجزاء، فهذا وعيد لهم وتأكيد الخبر لرد إنكارهم‏.‏
و ‏{‏يوم الفصل‏}‏‏:‏ هو يوم الحكم، لأنه يفصل فيه الحق من الباطل وهو من أسماء يوم القيامة قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأيّ يوم أُجِّلَت ليوم الفصل‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 12، 13‏]‏‏.‏
والميقات‏:‏ اسم زمان التوقيت، أي التأجيل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل كان ميقاتاً‏}‏ ‏[‏النبإ‏:‏ 17‏]‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هي مواقيت للناس والحجّ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏189‏)‏ وحذف متعلق الميقات لظهوره من المقام، أي ميقات جزائهم‏.‏
وأضيف الميقات إلى ضمير المخبر عنهم لأنهم المقصود من هذا الوعيد وإلاّ فإن يوم الفصل ميقات جميع الخلق مؤمنيهم وكفارهم‏.‏
والتأكيد ب ‏{‏أجمعين‏}‏ للتنصيص على الإحاطة والشمول، أي ميقات لجزائهم كلهم لا يفلت منه أحد منهم تَقْوِيَةً في الوعيد وتأييساً من الاستثناء‏.‏
و ‏{‏يوم لا يغني مولى‏}‏ بدل من ‏{‏يوم الفصل‏}‏ أو عطف بيان‏.‏ وفتحة ‏{‏يوم لا يغنى‏}‏ فتحة إعراب لأن ‏{‏يوم‏}‏ أضيف إلى جملة ذات فعل معرب‏.‏
والمولى‏:‏ القريب والحليف، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني خِفتُ الموالي من ورائي‏}‏ في سورة مريم ‏(‏5‏)‏‏.‏ وتنكير مولًى‏}‏ في سياق النفي لإفادة العموم، أي لا يغني أحد من الموالي كائناً من كان عن أحد من مواليه كائناً من كان‏.‏
و ‏{‏شيئاً‏}‏ مفعول مطلق لأن المراد ‏{‏شيئاً‏}‏ من إغناء‏.‏ وتنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ للتقليل وهو الغالب في تنكير لفظ شيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ووقوعه في سياق النفي للعموم أيضاً، يعني أيَّ إغناء كان في القلة بَلْهَ الإغناء الكثير‏.‏ والمعنى‏:‏ يوم لا تغني عنهم مواليهم، فعُدل عن ذلك إلى التعميم لأنه أوسع فائدة إذ هو بمنزلة التذييل‏.‏
والإغناء‏:‏ الإفادة والنفع بالكثير أو القليل، وضميرا ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ راجعان إلى ما رجع إلَيْهِ ضمير ‏{‏أهم خيرٌ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 37‏]‏، وهو اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء ليقولون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يغني عنهم أولياؤهم المظنون بهم ذلك ولا ينصرهم مقيَّضون آخرون ليسوا من مواليهم تأخذهم الحمية أو الغيرة أو الشفقة فينصرونهم‏.‏
والنصر‏:‏ الإعانة على العدوّ وعلى الغالب، وهو أشد الإغْناء‏.‏ فعطف ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ على ‏{‏لا يغني مولى عن مولى شيئاً‏}‏ زيادة في نفي عدم الإغناء‏.‏
فمحصل المعنى أنه لا يغني مُوال عن مُواليه بشيء من الإغناء حسب مستطاعه ولا ينصرهم ناصر شديد الاستطاعة هو أقوى منهم يدفع عنهم غلب القوي عليهم، فالله هو الغالب لا يدفعه غالب‏.‏ وبُني فعل ‏{‏ينصرون‏}‏ إلى المجهول ليعم نفي كل ناصر مع إيجاز العبارة‏.‏
والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلا من رحم الله‏}‏ وقع عقب جملتي ‏{‏لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون‏}‏ فحُق بأن يرجع إلى ما يَصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين‏.‏
ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي ‏{‏مولى‏}‏ الأولُ المرفوع بفعل ‏{‏يغني‏}‏، و‏{‏مولى‏}‏ الثاني المجرورُ بحرف ‏{‏عن‏}‏، وضميرُ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏، فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل، أي إلا من رحمه الله من الموالي، أي فإنه يأذن أن يُشْفَع فيه، ويأذَن للشافع بأن يَشْفَعَ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذِن له‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا يَشْفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وفي حديث الشفاعة أنه يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم «سَلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشَفَّع»‏.‏ والشفاعة‏:‏ إغناء عن المشفوع فيه‏.‏ والشفعاء يومئذٍ أولياء للمؤمنين فإن من الشفعاء الملائكَة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين ‏{‏نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وقيل هو استثناء منقطع لأن من رحمه الله ليس داخلاً في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر، والمعنى‏:‏ لكن من رحمه الله لا يحتاج إلى من يُغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء‏.‏
وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سِر يعلمه الله‏.‏
وجملة ‏{‏إنه هو العزيز الرحيم‏}‏ استئناف بياني هو جوابٌ مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمهُ الله، أي أن الله عزيز لا يُكرهه أحد على العدول عن مراده، فهو يرحم من يَرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعدُه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏
‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏
لما ذكر الله فريقاً مرحومين على وجه الإجمال قابله هنا بفريق معذَّبون وهم المشركون، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة ‏(‏51، 52‏)‏ ‏{‏ثم إنكم أيها الضالّون المكذّبون لآكلون من شجرٍ من زقومٍ‏}‏ الآية، فعُدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماماً بالإعلام بحال هذه الشجرة‏.‏ وقد جُعلت شجرة الزقوم شيئاً معلوماً للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين‏.‏ ومعنى كون الشجرة طعاماً أن ثمرها طعام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏طَلعُها كأنه رؤوس الشياطين فإنَّهم لآكلون منها‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65، 66‏]‏‏.‏
وكتبت كلمة ‏{‏شجرت‏}‏ في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعى فيه حالة الوقف، فهذا مما جاء على خلاف الأصل‏.‏
و ‏{‏الأثيم‏}‏‏:‏ الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فَعيل‏.‏ والمراد به‏:‏ المشركون المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ هؤلاء ليَقُولُون إن هي إلاّ موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34، 35‏]‏، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه‏.‏
وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات ‏(‏62‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذَلك خَيْرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم‏.‏‏}‏ والمُهل بضم الميم دُرْدِيُّ الزيت‏.‏ والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه‏.‏
والحميم‏}‏‏:‏ الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم شرابٌ من حميم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏ ووجه الشبه هو هيئة غليانه‏.‏
وقرأ الجمهور تغلي‏}‏ بالتاء الفوقية على أن الضمير ل ‏{‏شجرة الزقوم‏}‏‏.‏ وإسناد الغليان إلى الشجَرَةِ مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها‏.‏ وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المُهل‏.‏
والغليان‏:‏ شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال‏:‏ غلي الماء وغلت القدر، قال النابغة‏:‏
يسير بها النعمان تغلي قدوره ***
وجملة ‏{‏خذوه‏}‏ الخ مقول لقول محذوف دلّ عليه السياق، أي يقال لملائكة العذاب‏:‏ خذوه، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه‏.‏
والعَتْلُ‏:‏ القوْد بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب، وماضيه جاء بضم العين وكسرها‏.‏
وقرأه بالضم نافع وابن كثير وابن عامر‏.‏ وقرأه الباقون بكسر التاء‏.‏
وسَواء الشيء‏:‏ وسطه وهو أشد المكان حرارة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلى سواء الجحيم‏}‏ يتنازعه في التعلق كلٌّ من فعلي ‏{‏خذوه فاعتلوه‏}‏ لتضمنهما‏:‏ سوقوه سوقاً عنيفاً‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله‏.‏
والصبّ‏:‏ إفراغ الشيء المظروف من الظرف وفعل الصّبّ لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب‏.‏ فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلاً، بخلاف قوله‏:‏
‏{‏يُصَبّ من فوق رءوسهم الحميم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها‏.‏
وجملة ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ مقول قول آخر محذوف تقديره‏:‏ قولوا له أو يقال له‏.‏
والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدّية‏.‏ والمقصود عكس مدلوله، أي أنت الذليل المهان، والتأكيد للمعنى التهكمي‏.‏ وقرأه الجمهور بكسر همزة ‏{‏إنك‏}‏‏.‏ وقرأه الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله‏:‏ ‏{‏أنت‏}‏ تأكيد للضمير المتصل في ‏{‏إنك‏}‏ ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل‏.‏
وجملة ‏{‏إن هذا ما كنتم به تمترون‏}‏ بقية القول المحذوف، أي ويقال للآثمين جميعاً‏:‏ إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا‏.‏ والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ واسم الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا‏.‏
والامتراء‏:‏ الشك، وأطلق الامتراء على جزيتهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خلياً عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس‏.‏
والمُقام بضم الميم‏:‏ مكان الإقامة‏.‏ والمَقام بفتح الميم‏:‏ مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه‏.‏ وقرأه نافع وابنُ عامر وأبو جعفر بضم الميم‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الميم‏.‏
والمراد بالمُقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم‏.‏
والأمين بمعنى الآمِن والمراد‏:‏ الآمن ساكنه، فوصفه ب ‏{‏أمين‏}‏ مجاز عقلي كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أولُ ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان آمناً في منزله كان مطمئن البال شاعراً بالنعيم الذي يناله‏.‏ وأبدل منه بأنهم ‏{‏في جنات وعيون‏}‏ وذلك من وسائل النزهة والطيب‏.‏ وأعيد حرف ‏{‏في‏}‏ مع البدل للتأكيد‏.‏
والجنات‏:‏ جمع جنة، وتقدم في أول البقرة‏.‏ والعيون‏:‏ جمع عين، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏60‏)‏، فهذا نعيم مكانهم‏.‏ ووُصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يَلبس هذا اللّباسَ إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنهِ وظاهره‏.‏
والسندس‏:‏ الديباج الرقيق النفيس، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي‏.‏ أصله‏:‏ سِنْدِي، منسوب إلى السنِد على غير قياس‏.‏ والسندس يلبس مما يلي الجسد‏.‏
والإستبرق‏:‏ الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية، وهو الغليظ مطلقاً ثم خص بغليظ الديباج، ثم عُرب‏.‏
وتقدما في قوله ‏{‏يلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏31‏)‏ فارجع إليه‏.‏ ومن‏}‏ لبيان الجنس، والمبيَّن محذوف دل عليه ‏{‏يلبسون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ثياباً من سندس وإستبرق‏.‏
ثم وُصف نَعيم نفوسهم بعضِهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ لأن الحديث مع الأصحاب والأحبّة نعيم للنفّس فأغنَى قوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادتُه على وجه الإيجاز البديع‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏
‏{‏كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏‏}‏
‏{‏متقابلين‏}‏‏.‏
اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبْراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏‏.‏ وتقدم نظيره آنفاً في هذه السورة‏.‏
‏{‏كَذَلِكَ وزوجناهم بِحُورٍ‏}‏ ‏{‏عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فاكهة ءَامِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت‏}‏‏.‏
معنى ‏{‏زوجناهم‏}‏ جعلناهم أزواجاً جمع زوج ضد الفرد، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجاً بسبب نساءٍ حور العيون‏.‏
والزوج هنا كناية عن القرين، أي قرنَّا بكل واحد نساءً حوراً عيناً، وليس فعل ‏{‏زوجناهم‏}‏ هنا مشتقاً من الزوج الشائععِ إطلاقُه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال‏:‏ زوجه ابنتَه وتزوج بنت فلان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏زوَّجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته، إذ ليس في الجنة عقود نكاح، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالاً لمتعارف الأنس بين الناس‏.‏ وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجرّ للنفس من النعيم الجثماني، وَهذا معنًى ساممٍ من معاني الانبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في الدّنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجرّ إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعاً ومثل الاعتداء على المرأة قسراً، ومن مصطلحات متكلفة، وقد سمى الله سكوناً فقال‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنُوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏‏.‏
والحور‏:‏ جمع الحوراء، وهي البيضاء، أي بنساء بضيضات الجلد‏.‏
والعِين‏:‏ جمع العيناء، وهي واسعة العين، وتقدم في سورة الصافات‏.‏ وشمل الحور العين النساء الّلاءِ كُنَّ أزواجهن في الدنيا، ونساءً يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنشأناهن إنشاءً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 35‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلالٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏يدعون فيها بكل فاكهة‏}‏ أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة، أي فيجابون‏.‏
والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة، أي بإحضار كل فاكهة‏.‏ و‏{‏كل‏}‏ هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة‏.‏
والفاكهة‏:‏ ما يتفكه به، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها‏.‏
وجملة ‏{‏يدعون‏}‏ حال من ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏، و‏{‏آمنين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يدعون‏}‏‏.‏ والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏في مقاممٍ أمينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏ وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة ‏{‏لا فيها غوْلُ ولا هم عنها ينزفون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏، أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه‏.‏
وجملة ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ حال أخرى‏.‏ وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الموتة الأولى‏}‏ من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب ‏{‏الأولى‏}‏‏.‏
والمراد ب ‏{‏الأولى‏}‏ السالفة، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 35‏]‏‏.‏
‏{‏الاولى ووقاهم عَذَابَ‏}‏ ‏{‏الجحيم * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏
عطف على ‏{‏وزوجناهم بحور عين‏}‏ وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم‏.‏ وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول‏:‏ الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه‏.‏ وضمير ‏{‏وقاهم‏}‏ عائد إلى ضمير المتكلم في ‏{‏وزوجناهم‏}‏ على طريقة الالتفات‏.‏
و ‏{‏فضلاً‏}‏ حال من المذكورات‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم
وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فضلاً منه أو منا‏.‏ ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى الله عليه وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به‏.‏
وجملة ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏ تذييل، والإشارة في ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏ لتعظيم الفضل ببعد المرتبة‏.‏ وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏
‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضاراً لتلك الأغراض وضبطاً لترتُّب علتها‏.‏
وضمير ‏{‏يسرناه‏}‏ عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله ‏{‏والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 2، 3‏]‏ الخ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب المبين، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر‏.‏ فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله‏:‏ فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعاً على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ‏.‏
ويجوز أن يكون المفرع قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏‏.‏ وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماماً بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم‏.‏
والقصر المستفاد من ‏(‏إنما‏)‏ قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شَككٍ يلعبون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 9‏]‏ أي إنا جعلنا فهمه يسيراً بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا‏.‏ فمفعول ‏{‏يسرناه‏}‏ مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره‏:‏ فهمه‏.‏
والباء في ‏{‏بلسانك‏}‏ للسببية، أي بسبب لغتك، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسوللٍ إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏بلساننٍ عربيٍ مبينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 195‏]‏‏.‏
وأفصح قوله ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏ عن الأمر بالتذكير بالقرآن‏.‏ والتقدير‏:‏ فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين‏}‏ الخ في سورة مريم ‏(‏97‏)‏‏.‏
و ‏(‏لعلّ‏)‏ مستعملة في التعليل، أي لأجل أن يتذكّروا به، وَهَذَا كقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسبباً قريباً لو لم يكونوا في شك يلعبون‏.‏ وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله‏:‏ ‏{‏فارتقب إنهم مرتقبون‏}‏ أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى‏.‏
وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقُون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين ‏(‏ارتقب‏)‏ و‏{‏مرتقبون‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنهم مرتقبون‏}‏ تعليل للأمر في قوله ‏{‏فارتقب‏}‏ أي ارتقب النصر بأنهم لاَقُوا العذاب بالقحط وقد أغنت ‏(‏إنّ‏)‏ التّسبُب والتعليل‏.‏
وفي هذه الخاتمة ردّ العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى‏.‏ فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز‏.‏
سورة الجاثية
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏
تقدم القول في نظائره، وهذه جملة مستقلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر‏.‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة‏.‏
والمقصود‏:‏ إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسنداً إليه ويخبر عنه فيقال القرآن مُنزّل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلاً من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلاً لَمَا كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مُقتضَى الظاهر لغرضين‏:‏
أحدهما‏:‏ التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه؛ فَأمَّا الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل الكتاب فيتهيّأون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم، والمؤمنون يترقبون لِمَا يزيدهم يقيناً بهذا التنزيل‏.‏
والغرض الثاني‏:‏ أن يُدَّعى أن كون القرآن تنزيلاً أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزّلاً من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلاً وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون مَا صْدَقَيْهما على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏لاَ ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وإيثار وصفي ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف ‏{‏العزيز‏}‏ بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏، أي هو غالب لمعانديه، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته، ولإشعار وصف ‏{‏الحكيم‏}‏ بأن ما نزل من عنده مناسب لِحكمته، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه، من جانب بلاغته إذ غَلبت بلاغةَ بلغائهم، ومن جانب معانيه إذْ أعجزت حكمته حكمة الحكماء، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏
‏{‏إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏
موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وأكد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خَلَق السماوات والأرض ليقولُن خلقهنّ العزيز العليم‏}‏ في سورة الزّخرف ‏(‏9‏)‏‏.‏
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال‏:‏ لآيات للمؤمنين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ لآيات لكم أو آيات لكم، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك‏.‏ والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له‏.‏
وعطف جملة ‏{‏وفي خلقكم‏}‏ الخ على جملة ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه‏.‏
والبث‏:‏ التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة‏.‏ وتقدم البث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبث فيها من كل دابّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏
وعبر بالمضارع في ‏{‏يبث‏}‏ ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها‏.‏ والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات‏.‏ والرزق‏:‏ القوت‏.‏ وقد ذكر في آية سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏وما أنزل الله من السماء من ماء‏}‏ وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة‏.‏
والمراد ب ‏(‏المؤمنين‏)‏، وب ‏(‏قوم يوقنون‏)‏، وب ‏(‏قوم يعقلون‏)‏ واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي يعلمون دلالة الآيات‏.‏
والمعنى‏:‏ أن المؤمنين والذين يُوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض‏.‏
وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل‏.‏ وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ استفهاماً إنكارياً بمعنى النفي‏.‏
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهاً إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء، وكان مقصوداً منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية، فهو أيضاً صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم‏.‏ فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها‏.‏
وقرأ الجمهور قوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يعقلون‏}‏ برفع ‏{‏آيات‏}‏ فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران‏.‏ وتقدّر ‏(‏في‏)‏ محذوفة في قوله ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ لدلالة أختها عليها التي في قوله‏:‏ ‏{‏وفي خلقكم‏}‏‏.‏ والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد‏.‏
وقرأها حمزة والكسائي وخلف ‏{‏لآيات‏}‏ في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف ‏{‏آياتٍ‏}‏ الأول عطف على اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ و‏{‏في خلقكم‏}‏ عطف على خبر ‏{‏إنّ‏}‏ فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏ فكذلك، إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين، أي ليسا مترادفين هما ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏في‏)‏ على اعتبار أن الواو عاطفة ‏{‏آيَات‏}‏ وليست عاطفة جملة ‏{‏في خلقكم‏}‏ الآية، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ‏(‏في‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة ‏{‏آياتٍ‏}‏ على اسم ‏(‏إنّ‏)‏ فلا يكون من العطف على معمولي عاملين‏.‏
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل‏.‏ وجعل ابن الحاجب في «أماليه» قراءة الجمهور برفع ‏{‏آياتٌ‏}‏ في الموضعين أيضاً من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عَامللٍ كما أن النصب يحتاج إلى عَامللٍ قال‏:‏ وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيًّا وهما سواء‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏آياتٍ‏}‏ الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح، والسحاب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله ‏{‏لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين‏.‏
وجملة ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏آيات الله‏}‏ والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا بَعْلِي شيخاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏‏.‏
والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ ومعنى كون الآيات مَتلوة أنّ في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل ‏(‏نتلو‏)‏ مجاز عقلي لأن المتلوَ ما يدل عليها‏.‏
ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دَل عليه قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن، فيكون استعمال فعل ‏{‏نتلوها‏}‏ في حقيقته‏.‏
وإسناد التلاوةِ إلى الله مجاز عقلي أيضاً لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏، و‏{‏بعد‏}‏ هنا بمعنى ‏(‏دون‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ فبأي حديث دون الله وآياته، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏44‏)‏، وفي الأعراف ‏(‏185‏)‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏ مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى‏:‏
فمن أيِّ ما تأتي الحوادث أفرَقُ ***
وإضافة ‏{‏بعد‏}‏ إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏، والتقدير‏:‏ بعد حديث الله، أي بعد سماعه، كقول النابِغة‏:‏
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل‏.‏
واسم ‏{‏بعد‏}‏ مستعمل في حقيقته‏.‏
والمراد بالحديث‏:‏ الكلام، يعني القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏الله نَزَّل أحسن الحديث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف ‏(‏185‏)‏ ‏{‏فبأيّ حديث بعده يؤمنون‏}‏ وفي آخر المرسلات ‏(‏50‏)‏ ‏{‏فبأيّ حديث بعده يؤمنون‏}‏ وعطف و‏{‏آياته‏}‏ على ‏{‏حديث‏}‏ لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السموات والأرض مما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب ‏{‏يؤمنون‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏
‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏
‏{‏يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ‏}‏ ‏{‏أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏
أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العَاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها، بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وافتتح ذكره بالويل له تعجيلاً لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله‏.‏ و‏(‏ويل له‏)‏ كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله‏.‏
و ‏(‏الأفَّاك‏)‏ القويّ الإفك، أي الكذب‏.‏ والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام، أي الخطايا‏.‏ وفسره الفيروزآبادي في «القاموس» بالكذّاب وهو تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم‏.‏
وجعلت حالتُه أنه يسمع آيات الله ثم يُصرّ مستكبراً لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبراً عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم، فلا جرم أن يكون أفاكاً أثيماً بَلْهَ ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم‏.‏
والمراد ب ‏{‏كل أفّاك أثيم‏}‏ جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا ‏{‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 31‏]‏ وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضْر بننِ الحارث، وأبي جهل وقرنائهم‏.‏ و‏{‏آيات الله‏}‏ أي القرآن فإنها المتلوة‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخراً عن سماع الآيات‏.‏
والإصرار‏:‏ ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه، وحُذف متعلق ‏{‏يصِرّ‏}‏ لدلالة المقام عليه، أي يُصرُّون على كفرهم كما دل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها‏.‏
و ‏{‏كَأنْ‏}‏ أصلها ‏(‏كأنَّ‏)‏ المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن‏.‏ وفرّع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الإخبار بما يسر على طريقة التهكم‏.‏
والمراد بالعلم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا علم من آياتنا شيئاً‏}‏ السمع، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هُزؤاً، أي لا يَتلقى شيئاً من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به، ففعل ‏{‏عَلِم‏}‏ هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عَرف‏.‏
وضمير التأنيث في ‏{‏اتخذها‏}‏ عائد إلى ‏{‏آياتنا‏}‏، أي اتخذ الآيات هزؤاً لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره، فهو إذا علم شيئاً منها استهزأ بما علمه وبغيره‏.‏
ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤاً‏:‏ أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العِلم بشيء منها‏.‏ ومن الاستهزاء ببعض الآيات تحريفُها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمداً للاستهزاء، كقول أبي جهل لما سَمِع ‏{‏إنَّ شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43، 44‏]‏ تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال‏:‏ «زقّمونا»، وقوله‏:‏ لما سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عَشَر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 30‏]‏‏:‏ أنا أَلْقَاهُمْ وحدي‏.‏
‏{‏هُزُواً أولئك لَهُمْ عَذَابٌ‏}‏ ‏{‏لله مُّهِينٌ * مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا‏}‏‏.‏
جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أفاك أثيم‏}‏ إلى قوله ‏{‏هزؤاً‏}‏ على أن المشار إليهم أحرياء بهِ لأجْللِ ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف‏.‏
وجملة ‏{‏من ورائهم‏}‏ بيان لجملة ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏من ورائهم‏}‏ تحقيق لحصول العذاب وكونه قريباً منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدوّ يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمناً‏.‏ ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، وقول لبيد‏:‏
أليسَ ورائي إنْ تراخت منيتي *** لُزومُ العصا تُحنى عليها الأصابع
ومن فسر وراء بقُدّام، فما رعَى حق الكلام‏.‏
وعطف جملة ‏{‏ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً‏}‏ على جملة ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الوليّ مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة‏.‏ ومعنى الإغناء في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يغني عنهم‏}‏ الكفاية والنفع، أي لا ينفعهم‏.‏
وعُدي بحرف ‏(‏عن‏)‏ لتضمينه معنى يدفع فكأنَّه عُبّر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏10‏)‏‏.‏
و ‏{‏ما كسبوا‏}‏‏:‏ أموالهم‏.‏ و‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئاً من الإغناء لأن ‏{‏شيئاً‏}‏ من أسماء الأجناسسِ العاليةِ فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده، وتنكيره للتقليل، أي لا يدفع عنهم ولو قليلاً من جهنم، أي عذابها‏.‏
‏{‏ولا ما اتخذوا‏}‏ عطف على ‏{‏ما كسبوا‏}‏ وأعيد حرف النفي للتأكيد، و‏{‏أولياء‏}‏ مفعول ثان ل ‏{‏اتخذوا‏}‏‏.‏ وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير‏.‏
وأردف ‏{‏عذاب مهين‏}‏ بعطف ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ لإفادة أن لهم عذاباً غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر، فالعذاب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ غير العذاب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏
جملة ‏{‏هذا هدى‏}‏ استئناف ابتدائي انتُقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن الذي هو في حال النزول وَالتِلاوةِ فهو كالشيء المشاهد، ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ إلى آخره ما صيره متميزاً شخصاً بِحسن الإشارة إليه‏.‏ ووصف القرآن بأنه ‏{‏هدى‏}‏ من الوصف بالمصدر للمبالغة، أي‏:‏ هاد للناس، فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حَرَمَ نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام‏.‏
فجملة ‏{‏والذين كفروا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏هذا هدى‏}‏ والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكِّر بها، فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات، وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب‏.‏
واستُحْضِروا في هذا المقام بعنوان الكُفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يُصِرّ مستكبراً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8‏]‏ لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضاً عن الشكر، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏‏.‏
والرجز‏:‏ أشد العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يَفْسُقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون حرف ‏{‏مِن‏}‏ للبيان فالعذاب هو الرجز ويجوز أن يكون للتبعيض، أي عذاب مما يسمى بالرجز وهو أشده‏.‏
و ‏{‏أليم‏}‏ يجوز أن يكون وصفاً ل ‏{‏عذاب‏}‏ فيكون مرفوعاً وكذلك قرأه الجمهور‏.‏ ويجوز أن يكون وصفاً ل ‏{‏رجزٍ‏}‏ فيكون مجروراً كما قرأه ابن كثير وحفص عن عاصم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوَالِها من حيث إنها دلالات على الوحدانية، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيثُ كانت منافع للناس تقتضي أن يشكروا مقدِّرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم، ولذلك عُلق بفعليْ ‏{‏سخر‏}‏ في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضاً مثلُ اختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء، وتصريف الرياح، ولكن لُوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة، والفَطِنُ يَستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك‏.‏ ومناسبة هذا الانتقال واضحة‏.‏
واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قَصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏، فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لتجري الفلك فيه‏}‏ بَدل اشتمال من ‏{‏لكم‏}‏ لأن في قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ إجمالاً أريد تفصيله‏.‏ فتعريف ‏{‏الفلك‏}‏ تعريف الجنس، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضاً عن المضاف إليه من باب ‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وعطف عليه ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل‏.‏
وعطف ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏لتجري الفلك فيه‏}‏ لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالاً، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله‏.‏ وهذا مناط سَوق هذا الكلام، أي لعلكم تشكرون فكفرتم، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن إعادته‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
‏{‏تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات‏}‏‏.‏
هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولاً ثم التعميم ثانياً‏.‏ و‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏ عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده‏:‏ كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله‏:‏ كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك‏.‏ وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال‏.‏
وانتصب ‏{‏جميعاً‏}‏ على الحال من ‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏‏.‏ وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه، أي جميع ذلك مثل تنوين ‏(‏كل‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كلاً هدينا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة‏.‏ وموقع قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوّض عنه التنوين أو من ضمير ‏{‏جميعاً‏}‏ لأنه في معنى مجموعاً‏.‏
‏{‏مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات لِّقَوْمٍ‏}‏‏.‏
أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السموات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت منناً يحق أن يشكرها الناس فإنها أيضاً دلائل إذا تفكر فيها المنعَم عليهم اهتدوا بها، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورةِ قبلها من قوله‏:‏ ‏{‏إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏، وإنما أُخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم، ثم عُقبت بالتنبيه على أنها أيضاً دلائل على تفرد الله بالخلق‏.‏
وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يوقنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 5‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏
‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفّاك أثيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لهم عذاب من رجز أليم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 11‏]‏ يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن‏.‏ وَقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بَدَرَ من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم‏.‏
قال القرطبي والسدي‏:‏ نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إِعراض واستكبار واستهزاء فتتهَيَّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر‏.‏ وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمراً له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم‏.‏ فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صَلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم‏.‏
وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلاً من المشركين شتم عمر بن الخطاب فَهَمّ أن يبطش به قال ابن العربي‏:‏ «وهذا لم يصح»‏.‏ وفي «الكشاف» أن عمر شتمه رجل من غِفار فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت‏.‏ وعن سعيد بن المسيب «كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال عمر‏:‏ ليَجزِيَ عُمَرَ بما صنع» يعني أنه سبب نزول الآية‏.‏ وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس‏:‏ إنها نزلت في غزوة بني المصطلق‏:‏ نزلوا على بئر يقال لها‏:‏ المُرَيْسِيع فأرسَل عبدُ الله بن أُبَيّ غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال‏:‏ ما حسبك‏.‏ قال‏:‏ غلام عُمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يسقي حتى مَلأ قِرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقِرَب أبي بكر ومَلأ لمولاه، فقال عبد الله بن أُبيّ‏:‏ ما مَثلُنا ومثَلُ هؤلاء إلا كما قال القائل‏:‏ «سَمِّن كلبَك يأكُلك» فهَمَّ عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت‏.‏
وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ الآية قال فنحاص اليهودي‏:‏ احتاج ربّ محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال‏:‏ ضع سيفك‏.‏ وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية‏.‏
وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب‏.‏ ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع‏.‏
وجزْم ‏{‏يغفروا‏}‏ على تقدير لام الأمر محذوفاً، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب ‏{‏قل‏}‏، والمقول محذوف دل عليه الجواب‏.‏ والتقدير‏:‏ قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا‏.‏ وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا‏.‏ والوجهان يتأتَّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة إبراهيم ‏(‏31‏)‏‏.‏
و ‏{‏الذين لا يرجون أيام الله‏}‏ يراد بهم المشركون من أهل مكة‏.‏
والرجاء‏:‏ ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية‏.‏
والأيام‏:‏ جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمَن أضيف هو إليه نَصر وغلب على معاند أو مُقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب‏:‏ أيامُ العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البَسوس، قال عمرو بن كلثوم‏:‏
وأيام لنَا غرٌّ طِوال *** عَصينا المَلْك فيها إن نَدِينا
فإذا قالوا‏:‏ أيام بني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون‏:‏ أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء مغلوب لتضمن لفظ ‏{‏أيام‏}‏ أو ‏(‏يوم‏)‏ معنى الانتصار والغلب‏.‏ وبذلك التضمّن كان المجرور متعلقاً بلفظ ‏{‏أيام‏}‏ أو ‏(‏يوم‏)‏ وإن كان جامداً، فمعنى ‏{‏أيام الله‏}‏ على هذا هو من قبيل قولهم‏:‏ أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله‏.‏
ومحمل ‏{‏أيام الله‏}‏ على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم‏:‏ إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها‏.‏
وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون‏.‏ والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفِروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر‏.‏
وقد يطلق ‏{‏أيام الله‏}‏ في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذَكِّرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يرجون أيام الله‏}‏ على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله‏.‏ وفسر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تَرْجَون لله وقاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏، فيكون المراد ب ‏{‏أيام الله‏}‏‏:‏ أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك اليوم الحقّ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 39‏]‏، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه ‏(‏يوم‏)‏ فيكون معنى هذه الآية‏:‏ أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث‏.‏
ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن أسامة بن زيد في هذه الآية‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ تعليل للأمر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏يغفروا‏}‏ أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح ‏{‏إني مغلوب فانتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذا من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظُ ‏{‏قوماً‏}‏ مشعراً بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ ‏(‏قوم‏)‏ مشعر بفريق له قِوامه وعزته ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وتنكير ‏{‏قوماً‏}‏ للتعظيم، فكأنه قيل‏:‏ ليجزي أيما قوم، أي قوماً مخصوصين‏.‏ وهذا مدح لهم وثناء عليهم‏.‏ ونحْوُه ما ذكر الطيبي عن ابن جنِّي عن أبي علي الفارسي في قول الشاعر‏:‏
أفآت بنو مروان ظلماً دماءنا *** وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
قال أبو علي‏:‏ هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر‏:‏ حكماً عدلاً وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف اه‏.‏ قيل‏:‏ والأظهر أن ‏{‏قوماً‏}‏ مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط‏.‏
والمعنى‏:‏ ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيداً للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعداً للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏ ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصّلت‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليجزي قوماً‏}‏ بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏يَرْجُونَ أَيَّامَ‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات‏.‏ وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونَصبَ ‏{‏قوماً‏}‏‏.‏ وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل ‏(‏يُجْزي‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ليجزَى الجزاءُ‏.‏ ‏{‏وقوماً‏}‏ مفعول ثان لفعل ‏(‏يجزى‏)‏ من باب كسا وأعطى‏.‏ وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولاً أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربّكم ترجعون‏}‏ أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم‏.‏
وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجُوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيداً عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله، وقد تقدمت نظائره‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏
الوجه أن يكون سَوق خبر بني إسرائيل هنا توطئةً وتمهيداً لقوله بعده ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ أثار ذلك ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكلّ أفّاك أثيم يسمع آيات الله تُتْلَى عليه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏اتخذها هزؤا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 9‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ فكان المقصدُ قولَه ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ ولذلك عطفت الجملة بحرف ‏{‏ثمَّ الدال على التراخي الرتبي، أي على أهمية ما عطف بها‏.‏
ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله‏:‏ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب‏}‏ الآيتين بعد قوله‏:‏ ‏{‏جعلناك على شريعة من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ فيكونَ دليلاً وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيداً قصداً للتشويق لما بعده، وليقع ما بعده معطوفاً ب ‏{‏ثم الدالةِ على أهمية ما بعدها‏.‏
وقد عرف من تورك المشركين على النبي في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفّاك أثيم إلى قوله‏:‏ وإذا عَلم من آياتنا شيئاً اتخذها هزؤا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏، فالجملة معطوفة على تلك الجمل‏.‏
وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم، لما فيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيراً في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه‏.‏
ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حَسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرففِ التحقيق، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 93‏]‏ تأكيداً للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل‏.‏
وقد بُسِط في ذكر النظير في بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طُوي من مِثللِ بعضِه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازاً في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله‏:‏ ‏{‏تِلك آيات الله نتلوها عليك بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ وقوله هذا هدى ‏[‏الجاثية‏:‏ 11‏]‏ فإن ذلك يقابل قولَه هنا ‏{‏ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحُكم والنبوءة‏}‏ ومثل قوله‏:‏ ‏{‏وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏ فإنه يقابل قولَه هنا ‏{‏ورَزقناهم من الطيبات‏}‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏يسمع آيات الله تُتْلَى عليه ثم يُصرّ مستكبراً‏}‏ إلى قوله ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8، 9‏]‏ فإنه يقابل قوله هنا ‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏، ومثل قوله‏:‏
‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ فإنه مقابل قوله هنا ‏{‏إن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏‏.‏
و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة‏.‏
و ‏{‏الحكم‏}‏ يصح أن يكون بمعنى الحِكمة، أي الفهم في الدّين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحُكم صبيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏، يعني يحيى، ويصح أن يكون بمعنى السيادة، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى و‏{‏جَعلَكم ملوكاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏، و‏{‏النبوءة‏}‏ أن يقوم فيهم أنبياء‏.‏ ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة‏:‏ إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور‏.‏
وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبناً وعسلاً كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وتَرد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف، وذلك بحُسن موقِععِ البلاد من بين المشرق براً والمغرب بحراً‏.‏ و‏{‏الطيبات‏}‏‏:‏ هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعْماً ومنظراً ونفعاً وزينة‏.‏ وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدّين والخَلق، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم، وبث أصول العدل فيهم، وبين حسن العيش والأمن والرخاء، فإن أمماً أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضَها استقامةُ الدّين والخلق، وبعضها عزة حكم النفس وبعضَها الأمن بسبب كثرة الفتن‏.‏
والمراد ب ‏{‏العالمين‏}‏‏:‏ أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عَمَّا آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم‏.‏
و ‏{‏بيّنات‏}‏ صفة نزلت منزلة الجامد، فالبينة‏:‏ الحجة الظاهرة، أي آتيناهم حججاً، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطإ إلى نفوسهم سبلاً إلا سدتها‏.‏
و ‏{‏الأمر‏}‏‏:‏ الشأن كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ والتعريف في ‏{‏الأمر‏}‏ للتعظيم، أي من شؤون عظيمة، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذْ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئاً مُهماً من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏من الأمر‏}‏ بمعنى ‏(‏في‏)‏ الظرفيّة فيحصل من هذا أن معنى ‏{‏وءاتيناهم بينات من الأمر‏}‏‏:‏ علمناهم حججاً وعلوماً في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطإ والخطل‏.‏ وفُرع على ذلك قولُه ‏{‏فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ تفريعَ إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فحذف المفرَّع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حينَ لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفاً من الكتاب والحُكم والنبوءة والبينات من الأمر، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى‏:‏
‏{‏وأضلّه الله على علم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته‏.‏
والبغي‏:‏ الظلم‏.‏ والمراد‏:‏ أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغياً منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظاً ومعاني‏.‏
وانتصب ‏{‏بغياً‏}‏ إمّا على المفعول لأجله، وإمّا على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل ‏{‏اختلفوا‏}‏، وإن كان منفياً في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتاً وما عدا ذلك غير منفي‏.‏
وجملة ‏{‏إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن خبرَهم العجيب يثير سؤالاً في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيُقضَى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقّاً ومبطلاً‏.‏
ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مُبَوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏93‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏
‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏
‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو‏.‏ وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف ‏{‏ثم‏}‏ أهم من مضمون الجملة المعطوففِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل‏.‏ وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتتِ من الأمر، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وتنوين ‏{‏شريعة‏}‏ للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي‏.‏
والشريعة‏:‏ الدين والملة المتَّبعة، مشتقة من الشرع وهو‏:‏ جَعل طريق للسير، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر‏.‏ وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك، قال الراغب‏:‏ استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ‏:‏ ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير‏.‏
و ‏{‏الأمر‏}‏‏:‏ الشأن، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، فتكون ‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً ‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 17‏]‏ لأن إضافة ‏{‏شريعة‏}‏ إلى ‏{‏الأمر‏}‏ تمنع من ذلك‏.‏
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها‏.‏ ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله‏:‏ ‏{‏فاتّبعها‏}‏ أي دُم على اتباعها، فالأمر لطلب الدوام مثل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏
وبين قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏}‏ محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر‏.‏ و‏{‏الذين لا يعلمون‏}‏ هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏
والأهواء‏:‏ جمع هوى، وهو المحبة والميل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين‏.‏
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه‏:‏ إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون‏.‏ وعن ابن عباس «أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه» قال البغوي‏:‏ كانوا يقولون له‏:‏ ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك‏.‏
وجملة ‏{‏إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً‏}‏ تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويتضمن تعليلَ الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئاً يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه‏.‏
والإغناء‏:‏ جعل الغير غنياً، أي غير محتاج، فالآثم المهدد من قدير غير غنيّ عن الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضُمّن فعل الإغناء معنى الدفع فعدّي ب ‏(‏عن‏)‏‏.‏ وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المفعول المطلق، و‏{‏من الله‏}‏ صفة ل ‏{‏شيئاً‏}‏ و‏{‏مِن‏}‏ بمعنى بَدل، أي لن يُغنُوا عنك بدلاً من عذاب الله، أي قليلاً من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ في آل عمران ‏(‏10‏)‏‏.‏
وعُطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو ‏{‏وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم‏.‏ وذُيل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله ولي المتقين‏}‏ وهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم الله وليُّه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏
إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون، فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئةِ لأغراضها تنبيهاً لما في طيها من عواصمَ عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف ‏(‏35‏)‏ ‏{‏بلاغ‏}‏ وقوله في سورة الأنبياء ‏(‏105، 106‏)‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوممٍ عابدين‏}‏ وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافاً أعيد بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريضُ بتحميق الذين أعرضوا عنه، وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفاً ‏{‏هذا هدىً والذين كفروا بآيات ربّهم لهم عذابٌ من رجزٍ أليم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 11‏]‏، وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضاً بأنهم لم يَحْظَواْ بهذه البصائر، وكلا الاحتمالين رشيق، وكل بأن يكون مقصوداً حقيق‏.‏
و ‏{‏بصائر‏}‏‏:‏ جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها، شبهت ببصر العين، وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أدْعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَن اتّبعني‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏108‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قال لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا ربّ السماوات والأرض بصائر‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏102‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس‏}‏ في سورة القصص ‏(‏43‏)‏‏.‏
ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر‏.‏ وجمع البصائر‏:‏ إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله‏:‏ للناس‏}‏ لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكَون صاحببِ كل بصيرة جزئياً مشخصاً فناسب أن تُورد جمعاً، فالبصيرة‏:‏ الحاسَّة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود‏.‏ وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفراداً وجَماعاتتٍ في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي‏.‏ وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحَرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة‏.‏
وجُعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته‏.‏
وذكر لفظ ‏(‏قوم‏)‏ للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين‏.‏
والإيقان‏:‏ العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه‏.‏ وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاءَ على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربّكم ترجعون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 15‏]‏‏.‏
فحرف ‏{‏أم‏}‏ للإضراب الانتقالي، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد ‏{‏أمْ‏}‏ استفهام إنكاري، والتقدير‏:‏ لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة وفي في الممات‏.‏ و‏{‏الذين اجترحوا السيئات‏}‏ في نقل عن ابن عباس‏:‏ أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء، فيكون إيمانهم به مرغباً في الجزاء، ولذلك كثُر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله‏:‏ ‏{‏ويلٌ للمطففين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألاَ يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1 5‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42 46‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 1 3‏]‏ ونظيره ‏{‏أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏، فإن ذلك حال الكفار، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في قوم من المشركين‏.‏ قال البغوي‏:‏ نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين‏:‏ لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدنيا‏.‏ وعن الكلبي‏:‏ أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين‏:‏ والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقاً أي إن كان البعث حقاً لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا‏.‏ وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه‏.‏
ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم وَالحديثين في الإسلام لأن شأن التصدّي للإرشاد أن لا يغادر مغمزاً لرواج الباطل إلا سدّه، كما في قوله تعالى‏:‏
‏{‏أفرأيتَ الذي كفر بآياتنا وقال لأُوتَيّن مالاً وولداً أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77، 78‏]‏ وله نظائر في القرآن‏.‏ وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها‏.‏
والاجتراح‏:‏ الاكتساب، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارحَ وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح، قالت أم زرع‏:‏ فنكحتُ بعدَه رَجُلاً سريّاً، ركب شَريّاً، وأخذ خطباً وأراح عليَّ نَعَماً ثَرَياً، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث‏.‏
وظاهر تركيب الآية أن قوله‏:‏ ‏{‏سواء محياهم ومماتهم‏}‏ داخل في الحسبان المنكور فيكون المعنى‏:‏ إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات، فكما خالف الله بين حالَيْهم في الحياة الدنيا فجعل فريقاً كفرة مسيئين وفريقاً مؤمنين محسنين، فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وُعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ مرفوعاً فيكون موقع جملة ‏{‏سواء محياهم‏}‏ موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مِثل على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق، فيكون جملة ‏{‏سواء محياهم ومماتهم‏}‏ بيانَ ما حسبه المشركون‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوباً، فلفظُ ‏{‏سواء‏}‏ وحده بدل من كاف المماثلة، بَدَل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في ‏{‏نجعلهم‏}‏‏.‏ وهذا لأن المشركين قالوا للمسلمين‏:‏ سنكون بعد الموت خيراً منكم كما كنا في الحياة خيراً منكم‏.‏
فضمير ‏{‏محياهم‏}‏ وضمير ‏{‏مماتهم‏}‏ عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا على التوزيع، أي مَحْيَا كلِّ مساوٍ لمماته، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكُونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله‏:‏ ‏{‏كالذين آمنوا‏}‏ ليس واضح الملاقاة لحُسبان المشركين المسلطِ عليه الإنكار لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسنَ حالاً من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم‏.‏ فبِنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية‏.‏
والذي أرى‏:‏ أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدّر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدَّر مَضرِبَ الأمثال ومناط التشبيه، وإلى أن حُسبان المشركين أنفسَهم في الآخرة على حالة حسنة باطل، فعبر عن حسبانهم الباطللِ بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عندِ الله وفي نفس الأمر، وليس المراد أن المشركين مَثَّلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله‏:‏ ‏{‏كالذين آمنوا‏}‏ إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائله، وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى
‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله، ربّي وربّكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ فإن ما أمره الله به‏:‏ أن اعبدوا الله ربَّك وربّهم، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله، فكأنه قيل‏:‏ أحسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالُهم‏.‏ فأُوجز الكلام، وفَهْم السامع يبسطه‏.‏ والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبتدأ به في قوله‏:‏ ‏{‏قل للذي آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ على أن لك أن تجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذين آمنوا‏}‏ معترضاً بين مفعولي ‏(‏نجعل‏)‏ وهما ضميرا الغائبين وجملة ‏{‏سواء محياهم‏}‏ أو ولفظ ‏{‏سواء‏}‏ في قراءة نصبه فلا يكون مراداً إدخاله في حسبان المشركين‏.‏
ويجوز على هذا أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏كالذين آمنوا‏}‏ تهكماً على المشركين في حسبانهم تأكيداً للإنكار عليهم‏.‏
ومِن خلاف ظاهر التركيب ما قيل‏:‏ إن مدلول ‏{‏سواء محياهم ومماتهم‏}‏ ليس من حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف، والمعنى‏:‏ أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقعُ حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم هو مقياس حال مماتهم، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربّهم آيسين من البعث والجزاء‏.‏ وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره‏.‏ والتقدير‏:‏ حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفاً في الحياة‏.‏
وجملة ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني‏.‏ واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة ‏{‏الذين اجترحوا السيئات‏}‏ يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح‏.‏ وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياض‏:‏ أنه كان كثيراً ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول‏:‏ ليت شعري من أي الفريقين أنت‏.‏ يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مَبكاة العابدين‏.‏
والمحيا والممات‏:‏ مصدران ميميان أو اسما زَمان، أي حياتهم وموتهم، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف، أي حالة محياهم وحالات مماتهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
الجملة معترضة والواو اعتراضية وهو اعتراض بين الكلام المتقدم وبين ما فرع عليه من قوله‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ هو كالدليل على انتفاء أن يكون الذين اجترحوا السيئات الذين هم في بحبوحة عيش مدة حياتهم أن يكونوا في نعيم بعد مماتهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مدة حياتهم فكان جزاؤهم النعيم بعد مماتهم، أي بعد حياتهم الثانية بأنَّ خلق السماواتتِ والأرض بالعدل يستدعي التفاوت بين المسيء والمحسن، والانتصاف للمعتدَى عليه من المعتدي‏.‏
ووجه الاستدلال أن خلق السماوات والأرض تبين كونه في تمام الإتقان والنظام بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يُعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهدُ أن المسيء كثير ما عكَف على إساءته حتى المماتتِ، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلققِ القوى الصادرِ عنها الإحسان والإساءة، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء، وقد تقدم في سورة آل عمران ‏(‏191‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار‏}‏ وقوله في سورة الدخان ‏(‏38 40‏)‏ وما خلقْنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏.‏
والباء في قوله‏:‏ بالحق‏}‏ للسببية أو للملابسة، أي خلقاً للسبب الحق أو ملابساً للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله‏.‏
والحق‏:‏ اسم جامع لما شأنه أن يَحقّ ويثبت، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه، ولذلك أشير بقوله‏:‏ ‏{‏وخلق الله‏}‏ فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة‏.‏
وعطف ‏{‏ولتجزى كل نفس بما كسبت‏}‏ على ‏{‏بالحق‏}‏ لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثارِ كون الحق سبباً لخلق السماوات والأرض أو ملابساً لأحوال خلقهما، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف‏.‏
والباء في ‏{‏بما كسبت‏}‏ للتعويض‏.‏ وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازَى بمثله وما يناسبه، فالكلام على حذف مضاف، أي بمثل ما كسبته‏.‏ وهذه المماثلة مماثلة في النوع، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعًى فيه عظمة عالَم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف‏.‏ ولهذا أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ فضمير ‏{‏وهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏كل نفس‏}‏، فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جُعل سبباً أو ملابساً لخلق السماوات والأرض وما فيهما، فهو عدل، فليس من الظلم في شيء فالمُجازَى غير مظلوم، وبالجزاء أيضاً ينتفي أثر ظلم الظالم عن المظلوم إذ لو ترك الجزاء لاستمر المظلوم مظلوماً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عَنْ غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم، فعطف بالفاء الاستفهامُ المستعملُ في التعجيب، وجعل استفهاماً عن رؤية حالهم، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية‏.‏
وأصل التركيب‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ الخ، فقدمت همزة الاستفهام، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود من معه من المسلمين، أو الخطاب لغير معيّن، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب‏.‏
و ‏{‏مَنْ‏}‏ الموصولة صادقة على فريق المستهزئينَ الذين حسبوا أن يكون مَحْياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ الخ‏.‏
والمعنى‏:‏ أن حجاجهم المسلمين مركَّز على اتباع الهوى والمغالطةِ، فلا نهوض لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدَى فلا يستطيع غيره هداهم‏.‏
و ‏{‏إلهه‏}‏ يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمراً‏.‏ ويجوز أن يبقى ‏{‏إلهه‏}‏ على الحقيقة ويكون ‏{‏هواه‏}‏ بمعنى مَهْوِيَّهُ، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتها لأنهم أحبوها، أي ألِفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏أضلّه الله‏}‏ أنه حفّهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة، اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حَمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها‏.‏ فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع بالمواعظ والبراهين، وقلوبُهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها، وأبصارُهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أنَّ بعد هذا العالم بعثاً وجزاء‏.‏
ومعنى ‏{‏على علم‏}‏ أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم، أي عقول سليمةٍ أوْ مع أنهم بلغهم العِلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام‏.‏
فحرف ‏{‏على‏}‏ هنا معناه المصاحبة بمعنى ‏(‏مع‏)‏ وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف‏.‏ وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني ‏(‏على‏)‏ كما في قول الحارث بن حلزة‏:‏
فيَقيناً على الشَّنَاءة تَنْمينا *** حُصون وعِزّة قعساء
والمعنى‏:‏ أنه ضال مع مَا له من صفة العلم، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏غشاوة‏}‏ بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏غَشْوةٌ‏}‏ بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة‏.‏ وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة‏.‏
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غيرُ الله يستطيع أن يهديهم، والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لإعراضهم وبقائهم في الضلالة‏.‏
و ‏{‏من بعد الله‏}‏ بمعنى‏:‏ دون الله، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأيّ حديثثٍ بعده يؤمنون‏}‏ آخر سورة الأعراف ‏(‏185‏)‏‏.‏
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة، أي كيف نَسُوها حتى ألحُّوا في الطمع بهداية أولئك الضالّين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري‏.‏
ومن المفسرين من حمل مَن‏}‏ الموصولة في قوله ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ على معيَّن فقال مقاتل‏:‏ هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينَه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل‏:‏ والله إني لأعْلَم إنه لصادق فقال له المغيرة‏:‏ مَهْ، وما دَلَّكَ على ذلك، قال‏:‏ كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن قال‏:‏ فما يمنعك أن تؤمن به قال‏:‏ تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كِسرَة، واللاتتِ والعُزّى إنْ اتبعتُه أبداً فنزلت هذه الآية‏.‏ وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضله الله على علم‏}‏ ظاهرة‏.‏ وعن مقاتل أيضاً‏:‏ أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يَعْبُد من الأصنام ما تهواه نفسه‏.‏
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق، فإذا كان الحق محبوباً لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعاً للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيامَ رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث «أرِحْنا بها يا بلال» يعني الإقامة للصلاة‏.‏ وعن عبد الله بن عمْرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» وعن أبي الدرداء «إذا أصبح الرجل اجتمع هَواه وعَمله وعلمه فإن كان عمَلُه تبعاً لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعاً لِعلمه فيومه يوم صالح»‏.‏ وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة‏.‏
قال عمرو بن العاصي‏:‏
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه *** ولم ينْه قلباً غاوياً حيثُ يَمَّمَا
فيوشك أن تَلقَى له الدهرَ سبَّة *** إذا ذُكرت أمثالها تَمْلأ الفما
ومن الكلمات المأثورة «ثلاث من المهلكات‏:‏ شُحّ مطاع، وهوًى متبع، وإعجاب المرأ بنفسه» ويروى حديثاً ضعيف السند‏.‏
وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سُورة البقرة ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ لأن المخبَر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العَقد صَارفاً السمع عن تلقي الآيات فَقُدِّمَ لإفَادةِ أنهم كالمختوم على سمعهم، ثم عطف عليه ‏{‏وقلبِه‏}‏ تكميلاً وتذكيراً بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما ‏{‏على بصره‏}‏ من شبهِ الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات‏.‏
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ الهوى كالإله أصلاً في وصف حالهم في آية سورة الجاثية‏.‏ فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبْع‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ بتشديد الذال‏.‏ وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع ‏{‏تتذكرون‏}‏‏.‏ فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالاً لتقارب مخرجيهما قصداً للتخفيف، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
هذا عطف على جملة ‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏ أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيراً من عقبى المسلمين، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلاً وإنما يقينُهم قولُهم ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏‏.‏
وتقدم في سورة الأنعام ‏(‏29‏)‏ ‏{‏وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏ وضمير ‏{‏هي‏}‏ ضمير القصة والشأن، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا، أي الحاضرة القريبَة منا، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث، ويجوز أن يكون ‏{‏هي‏}‏ ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حَصْراً لجنس الحياة في الحياة الدنيا‏.‏
وجملة ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيّاً خلفه من يوجد بعده‏.‏ فمعنى ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيّاً إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا‏.‏ وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع، أي تتجدد فينا الحياة والموت‏.‏ فالمعنى‏:‏ نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى‏.‏ ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فَلَعَلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم، وإنْ كانت حكايَة لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا‏:‏ يموت بعضنا ويحيَا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل‏.‏
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ يصرف عن خطور هذا بالبال‏.‏ والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً بين المتعاطفين في الحصول‏.‏
وإنما قدم ‏{‏نموت‏}‏ في الذكر على ‏{‏ونحيا‏}‏ في البيان مع أن المبيّن قولهم ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيَّن فيقال‏:‏ نَحيَا ونموت، فقيل قُدّم ‏{‏نموت‏}‏ لتتأتى الفاصلة بلفظ ‏{‏نحيا‏}‏ مع لفظ ‏{‏الدنيا‏}‏‏.‏ وعندي أن تقديم فعل ‏{‏نموت‏}‏ على ‏{‏نَحيا‏}‏ للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا‏.‏ وحصلت الفاصلة تبعاً، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ فالإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى قولهم ‏{‏وما يُهلكنا إلا الدهر‏}‏، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل‏.‏
وأما زيادة ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر‏.‏
فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر‏.‏ فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّاً فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره‏.‏
والمعنى‏:‏ أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان، أي حَدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عَمْرو بن قميئة‏:‏
رَمَتْنِي بناتُ الدهر من حيث لا أرى *** فمَا بال من يُرمى وليس بِرَامِ
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران‏:‏
منع البقاء تقلب الشمس *** وطلوعها من حيث لا تُمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء‏.‏ وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه، ولذلك أعقبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ فإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى قولهم ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري بَيَّن أن الدهر وهو الزمان ليس بمُميت مباشرةً وهو ظاهر ولا بواسطةٍ في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدِّر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة‏.‏
والمراد بالظن في قوله‏:‏ ‏{‏إن هم إلا يظنون‏}‏ ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة ‏{‏إن هم إلا يظنون‏}‏ مبيّنة بجملة ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ أو استئناف بياني كأنّ سائلاً حين سَمع قوله‏:‏ ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل‏.‏
وجيء بالمضارع في ‏{‏يظنون‏}‏ لأنهم يحددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏
‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏، أي عقدوا على عقيدة أن لا حياة بعد الممات استناداً للأوهام والأقيسة الخيالية‏.‏ وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون إن كان البعث حقاً فأتوا بآبائنا إن صدقتم‏.‏ فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا‏}‏ تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة، والمصيرِ إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث‏.‏
والخطاب بفعل ‏{‏ائتوا‏}‏ مُوجّهٌ للمؤمنين بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏إلا أن قالوا‏}‏ استثناء من حجتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة إذ هو بالبهتان أشبه فإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قبيل الصبح مِرْداة طحونَا
فسمى القتل قرى، وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا‏}‏ استثناء متصلاً تهكماً، وإمّا أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم وتقديرهم دونَ قَصد تهكّم بهم، أي أتوا بما توهموه حجّة فيكون الإطلاق استعارة صورية والاستثناء على هذا متصل أيضاً‏.‏ وإما أن يكون الإطلاق استعارة بعلاقة الضدية فيكون مجازاً مرسلاً بتنزيل التضاد منزلة التناسب على قصد التهكم فيكون المعنى أن لا حجة لهم البتة إذ لا حجة لهم إلا هذه، وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل أن لا حجة لهم بطريق التمليح والكناية كَقَول جِرَاننِ العَوْدِ‏:‏
وبلدةٍ ليس بها أنيس *** إلا اليَعافيرُ وإلا العِيس
أي لا أنس بها البتة‏.‏
ويقدر قوله‏:‏ ‏{‏أن قالوا ائتوا بآبائنا‏}‏ في محل رفع بالاستثناء المفرغ على الاعتبارات الثلاثة فهو اسم ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏حجتهم‏}‏ خبرها لأن حجتهم منصوب في قراءة جميع القراءات المشهورة‏.‏
وتقديم خبر ‏{‏كان‏}‏ على اسمها لأن اسمها محصور ب ‏{‏إلاّ‏}‏ فحقه التأخير عن الخبر‏.‏
‏(‏26‏)‏ ‏{‏صادقين * قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏‏.‏
تلقين لإبطال قولهم ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ يتضمن إبطال قولهم ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونَحْيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏‏.‏
والمقصود منه قوله‏:‏ ‏{‏ثم يميتكم‏}‏ وإنما قدم عليه ‏{‏يحييكم‏}‏ توطئة له، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو ‏{‏يحييكم ثم يميتكم‏}‏ يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم، إن الدهر هو الذي يميتهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثم يجمعكم إلى يوم القيامة‏}‏ إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ وليس هو إبطالاً بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ حال من ‏{‏يوم القيامة‏}‏، أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تُفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه‏.‏ فكان الشك فيه جديراً بالاقتلاع فكأنه معدوم‏.‏ وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان «ليسوا بشيء» مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏‏.‏
وعُطف ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏
‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏
اعتراض تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏قل الله يحييكم ثم يميتكم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 26‏]‏ أي لله لا لغيره مُلك السماوات والأرض، أي فهو المتصرف في أحوال ما حوته السماوات والأرض من إحياء وإماتة، وغير ذلك بما أوجد من أصولها وما قدّر من أسبابها ووسائلها فليس للدهر تصرف ولا لما سوى الله تعالى‏.‏ وتقديم المجرور على المسند إليه لإفادة التخصيص لرد معتقدهم من خروج تصرف غيره في بعض ما في السماوات والأرض كقولهم في الدهر‏.‏
لما جرى ذِكْر يوم القيامة أعقب بإنذار الذين أنكروه من سوء عاقبتهم فيه‏.‏
و ‏{‏المبطلون والارض وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون * وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم‏}‏‏:‏ الآتون بالباطل في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم إذ الباطل ما ضادَّ الحق‏.‏ والمقصود منه ابتداء هنا هو الشرك بالله فإنه أعظم الباطل ثم تجيء درجات الباطل متنازلة وما من درجة منها إلا وهي خسارة على فاعلها بقدر فعلته وقد أنذر الله الناس وهو العليم بمقادير تلك الخسارة‏.‏
‏{‏ويوم تقوم الساعة‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏يخسر‏}‏، وقدم عليه للاهتمام به واسترعاء الأسماع لما يرد من وصف أحواله‏.‏
و ‏{‏يومئذٍ‏}‏ توكيد ل ‏{‏يوم تقوم الساعة‏}‏ وتنوينه عوض عن المضاف إليه المحذوف لدلالة ما أضيف إليه يومَ عليه، أي يوم إذْ تقوم الساعة يخسر المبطلون فالتأكيد بتحقيق مضمون الخبر ولتهويل ذلك اليوم‏.‏
والخطاب في ‏{‏ترى‏}‏ لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين، ويجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم والمضارع في ‏{‏ترى‏}‏ مراد به الاستقبال فالمعنى‏:‏ وترى يومئذٍ‏.‏
والأمة‏:‏ الجماعة العظيمة من الناس الذين يَجمعهم دين جاء به رسول إليهم‏.‏
و ‏{‏جاثية‏}‏ اسم فاعل من مصدر الجُثُوِّ بضمتين وهو البروك على الرُكبتين باستئفاز، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع‏.‏
وظاهر كون ‏{‏كتابها‏}‏ مفرداً غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن، والتوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال، فمعنى ‏{‏تدعى إلى كتابها‏}‏ تدعى لتعرض أعمالها على ما أُمرت به في كتابها كما في الحديث «القرآن حجةٌ لك أو عليك» وقيل‏:‏ أريد بقوله‏:‏ ‏{‏كتابها‏}‏ كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَوضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه‏}‏
‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ أي كل مجرم مشفق مما في كتابه، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفاً باللام فقبل العمومَ‏.‏ وأما آية الجاثية فعمومها بدليّ بالقرينة‏.‏ فالمراد‏:‏ خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراككِ به مقررة في أصول الدين، وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏15‏)‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏كل أمة تدعى إلى كتابها‏}‏ برفع ‏{‏كل‏}‏ على أنه مبتدأ و‏{‏تدعى‏}‏ خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جُثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثوّ‏.‏ وقرأه يعقوب بنصب ‏{‏كلَّ‏}‏ على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏وترى كل أمة‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏تدعى‏}‏ حال من ‏{‏كل أمة‏}‏ فأعيدت كلمة ‏{‏كل أمة‏}‏ دون اكتفاء بقوله ‏{‏تدعَى‏}‏ أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه للحساب، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل‏:‏ وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معاً مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل‏.‏
وجملة ‏{‏اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏تدعى إلى كتابها‏}‏ بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم اليوم تجزون، أي يكون جزاؤكم على وفق أعْمالِكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات، وهذا البدل وقع اعتراضاً بين جملة ‏{‏وترى كل أمة جاثية‏}‏ وجملة ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 30‏]‏ الآيات‏.‏
وجملة ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏ من مقول القول المقدّر، وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لتوقع سؤال من يقول منهم‏:‏ ما هو طريق ثبوت أعمالها‏.‏ والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة، وإما إلى كُتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمين‏.‏
وإفراد ضمير ‏{‏ينطق‏}‏ على هذا الوجه مراعاة للفظ ‏{‏كتابنا‏}‏، فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق‏.‏
وإضافة ‏(‏كتاب‏)‏ إلى ضمير الله تعالى بعد أن أضيف إلى ‏{‏كل أمة‏}‏ لاختلاف الملابسة، فالكتاب يلابس الأمة لأنّه جعل لإحصاء أعمالهم أو لأن ما كلفوا به مثبت فيه، وإضافته إلى ضمير الله لأنه الآمر به‏.‏ وإسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم‏:‏ نطقت الحال‏.‏
والمعنى‏:‏ أن فيه شهادة عليهم بأن أعمالهم مخالفة لوصايا الكتاب أو بأنها مكتوبة في صحائف أعمالهم على التأويلين في المراد بالكتاب‏.‏ ولتضمن ‏{‏ينطق‏}‏ معنى ‏(‏يشهد‏)‏ عدي بحرف ‏(‏على‏)‏‏.‏
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية ‏{‏يَنطق‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ دون زيادة‏:‏ ولكم، إيثاراً لجانب التهديد‏.‏
وجملة ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ استئناف بياني لأنهم إذا سمعوا ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏ خطر ببالهم السؤال‏:‏ كيف شهد عليهم الكتاب اليوم وهم قد عملوا الأعمال في الدنيا، فأجيبوا بأن الله كَانَ يأمر بنسخ ما يعملونه في الصحف في وقت عمله‏.‏
وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ تعليلاً للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه بالحق، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبيّن ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم‏.‏
والاستنساخ‏:‏ استفعال من النسخ‏.‏
والنسخ‏:‏ يطلق على كتابة ما يكتب على مثاللِ مكتوببٍ آخرَ قبله‏.‏ ويسمى بالمعارضة أيضاً‏.‏ وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم‏:‏ نسخت الشمسُ الظلَّ مجاز‏.‏ وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ‏.‏ وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين، فإذا درجتَ على كلام الجمهور فقد جُعلت كتابةُ مكتوببٍ على مثال مكتوببٍ قبله كإزالةٍ للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشيَةِ ضياع الأصل‏.‏ وعن ابن عباس أنه يقول‏:‏ ألستُم عَرَباً وهل يكون النسخ إلا من كتاب‏.‏
وأما إطلاق النسخ على كتابة أُنففٍ ليست على مثال كتابةٍ أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة، وهو ظاهر كلامه في «الكشاف»، فيكون لفظ النسخ مشتركاً في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصلَ وكانت تسمية كتابةٍ على مثل كتابةٍ سابقة نسخاً لأن ذلك كتابة وكلام صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» أن نَقل الكتابة لا يسمى نسخاً إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة‏.‏ وهذا اختلاف مُعضل، والأظهر ما ذهب إليه صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» فيجوز أن يكون السين والتاء في ‏{‏نستنسخ‏}‏ للمبالغة في الفعل مثل استجاب‏.‏ ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف، أيْ نكلف الملائكة نسخ أعمالكم، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال‏:‏ إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه النّاس دون نقل عن أصل‏.‏
والمعنى‏:‏ إنا كنا نكتب أعمالكم‏.‏ وعن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن الحسن والسدّي‏.‏
والنسخ هنا‏:‏ الكتابة، وإسناد فعل الاستنتاج إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏
‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
الفاء لعطف المفصل على المجمل، وهو تفصيل لما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏وترى كل أمة جاثية‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏ وما بينهما اعتراض‏.‏
فالكلام هنا هو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وترى كل أمة جاثية كما دل عليه قوله‏:‏ وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏‏.‏
وابتدئ في التفصيل بوصف حال المؤمنين مع أن المقام للحديث عن المبطلين في قوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يخسر المبطلون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 27‏]‏ تنويهاً بالمؤمنين وتعجيلاً لمسرتهم وتعجيلاً لمساءة المبطلين لأن وصف حال المؤمنين يُؤذن بمخالفة حال الآخَرين لحالهم‏.‏
والتعبير ب ‏(‏يدخلهم في رحمته‏)‏ شامل لما تتصوره النفس من أنواع الكرامة والنعيم إذ جعلت رحمة الله بمنزلة المكان يدخلونه‏.‏
وافتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قِبَل الله تعالى، فقوله‏:‏ ‏{‏أفلم تكن آياتي‏}‏ مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد ‏{‏وقيل اليوم ننساكم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والفاء جواب ‏{‏أمّا‏}‏، أو فيقال لهم ‏{‏أفلم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ فلما حذف فعل القول قُدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتداداً باستحقاقه التصديرَ كما يُقدم الاستفهام على حروف العطف‏.‏ ولم يتعدّ بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف وهي موجُودة بعد حذف ما حُذف‏.‏
والاستفهام توبيخ وتقرير‏.‏ والمراد بالآيات القرآن، أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوماً مجرمين، أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحاً لأنفسهم بما سمعتم منه‏.‏ وإقحام ‏{‏قوماً‏}‏ دون الاقتصار على‏:‏ وكنتم مجرمين، للدلالة على أن الإجرام صار خُلقاً لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة‏.‏
وجملة ‏{‏وإذا قيل إن وعد الله حق‏}‏ إلخ عطف على جملة ‏{‏فاستكبرتم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وقلتم ما ندري ما الساعة إذا قيل لكم إن الساعة لا ريبَ فيها‏.‏ وَهذاننِ القولان مما تكرر في القرآن بلفظه وبمعناه، فهو تخصيص لبعض آيات القرآن بالذكر بعد التعميم في قوله‏:‏ ‏{‏أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم‏}‏‏.‏
والتعريف في ‏{‏الساعة‏}‏ للعهد وهي ساعة البعث، أي زمان البعث كما عبر عنه باليوم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏والساعة لا ريب فيها‏}‏ برفع ‏{‏الساعة‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏‏.‏ وقرأه حمزة وحده بنصب ‏{‏والساعة‏}‏ عطفاً على ‏{‏إن وعد الله‏}‏ من العطف على معمولي عامل واحد‏.‏ ومعنى ‏{‏ما ندري ما الساعة‏}‏ ما نعلم حقيقة الساعة ونفي العلم بحقيقتها كناية عن جحد وقوع الساعة، أي علمنا أنها لا وقوع لها، استناداً للتخيلات التي ظنوها أدلةً كقولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏ ظاهر في أنه متصل بما قبله من قولهم‏:‏ ‏{‏ما ندري ما الساعة‏}‏، ومبين بما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وما نحن بمستيقنين‏}‏ وموقعه ومعناه مشكل، وفي نظمه إشكال أيضاً‏.‏
فأما الإشكال من جهة موقعه ومعناه فلأن القائلين موقنون بانتفاء وقوع الساعة لما حُكي عنهم آنفاً من قولهم‏:‏ ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ الخ فلا يحق عليهم أنهم يظنون وقوع الساعة بوجه من الوجوه ولو احتِمالاً‏.‏
ولا يستقيم أن يطلق الظن هنا على الإيقان بعدم حصوله فيعضِل معنى قولهم ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏، فتأوله الفخر فقال‏:‏ إن القوم كانوا فريقين، وأن الذين قالوا ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏ فريق كانوا قاطعين بنفي البعث والقيامةِ وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه وهم الذين أراد الله بهذه الآية اه‏.‏
وأقول‏:‏ هذا لا يستقيم لأنه لو سلم أن فريقاً من المشركين كانوا يشكون في وقوع الساعة ولا يجزمون بانتفائه فإن جمهرة المشركين نافون لوقوعها فلا يناسب مقامَ التوبيخ تخصيصُه بالذين كانوا مترددين في ذلك‏.‏ والوجه عندي في تأويله‏:‏ إما يكون هذا حكاية لاستهزائهم بخبر البعث فإذا قيل لهم‏:‏ ‏{‏الساعة لا ريب فيها‏}‏ قالوا استهزاء ‏{‏ما نظنّ إلاّ ظنّاً‏}‏، ويدل عليه قوله عقبه ‏{‏وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وتأوله ابن عطية بأن معناه إن نظن بعدَ قبول خبركم إلا ظنًّا وليس يعطينا يقيناً اه، أي فهو إبطالهم لخصوص قول المسلمين‏:‏ الساعة لا ريب فيها‏.‏
وأما إشكاله من جهة النظم فمرجع الإشكال إلى استثناء الظن من نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏ فإن الاستثناء المفرغ لا يصح أنْ يكون مفرغاً للمفعول المطلق لانتفاء فائدة التفريع‏.‏ والخلاصُ من هذا ما ذهب إليه ابن هشام في «مغني اللّبيب» أن مصحح الاستثناء الظن من نفسه أن المسْتثنَى هو الظن الموصوفُ بما دل عليه تنكيره من التحقير المشعرِ به التنوينُ على حد قول الأعشى‏:‏
أحل به الشيب أثْقاله *** وما اغتره الشيبُ إلا اغترارا
أي، إلا ظناً ضعيفاً‏.‏
ومفعولا ‏{‏نظن‏}‏ محذوفان لدليل الكلام عليهما‏.‏ والتقدير‏:‏ إن نظن الساعةَ واقعة‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏{‏وما نحن بمستيقنين‏}‏ يفيد تأكيد قولهم ‏{‏ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً‏}‏، وعطفه عطف مرادف، أي للتشريك في اللفظ‏.‏ والسين والتاء في ‏{‏بمستيقنين‏}‏ للمبالغة في حصول الفعل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏أفلم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 31‏]‏ باعتبار تقدير‏:‏ فيقال لهم، أي فيقال لهم ذلك ‏{‏وبدا لهم سيئات ما عملوا‏}‏، أي جُمع لهم بين التوبيخ والإزعاج فوبخوا بقوله‏:‏ ‏{‏أفلم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ إلى آخره، وأُزعجوا بظهور سيئات أعمالهم، أي ظهور جزاء سيئاتهم حين رأوا دار العذاب وآلاته رؤيةَ من يوقن بأنها مُعَدة له وذلك بعِلم يحصل لهم عند رؤية الأهوال‏.‏ وعبر بالسيئات عن جزائها إشارة إلى تمام المعادلة بين العمل وجزائه حتى جعل الجزاء نفسَ العمل على حد قوله‏:‏ ‏{‏فذُوقوا ما كنتم تكنزونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 35‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏حاق‏}‏ أحاط‏.‏
و ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ يعُم كلّ ما كان طريق استهزاء بالإسلام من أقوالهم الصادرة عن استهزاء مثل قولهم‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقول العاصِي بن وائل لخباب بن الأرتّ‏:‏ لأوتين مالاً وولدا في الآخرة فأقضي منه دينَك‏.‏ ومن الأشياء التي جعلوها هُزؤاً مثل عذاب جهنم وشجرة الزقوم وهو ما عبر عنه آنفاً ب ‏{‏سيئات ما عملوا‏}‏‏.‏ وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصولية لأن في الصلة تغليطاً لهم وتنديماً على ما فرطوا من أخذ العدة ليوم الجزاء على طريقة قول عبدة بن الطيب‏:‏
إن الذين تُرونَهم إخوانَكم *** يشفي غليلَ صدورهم أن تُصرعوا
والمعنى‏:‏ أنهم قد أودعوا جهنم فأحاط بهم سرداقها‏.‏
والباء في ‏{‏به يستهزئون‏}‏ يجوز حملها على السببية وعلى تعدية فعل ‏{‏يستهزئون‏}‏ إلى ما لا يتعدى إليه أي العذاب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏
‏{‏وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏
لما أودعوا جهنم وأحاطت بهم نودوا ‏{‏اليوم ننساكم‏}‏ إلى آخره تأييساً لهم من العفو عنهم‏.‏
وبُني فعل ‏{‏قيل‏}‏ للنائب حطّاً لهم عن رتبة أن يصرح باسم الله في حكاية الكلام الذي واجههم به كما أشرنا إليه عند قوله آنفاً ‏{‏وإذا قيل إن وعد الله حقٌ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ بناء على أن ضمير ‏{‏ننساكم‏}‏ ضمير الجلالة وَليس من قول الملائكة، فإن كان من قول خزنة جهنم ببناءِ فِعل ‏{‏وقيل‏}‏ للنائب للعلم بالفاعل‏.‏
وأطلق النسيان على الترك المؤبد على سبيل المجاز المرسل لأن النسيان يستلزم ترك الشيء المنسي في محله أو تركه على حالته، ويجوز أن يكون النسيان مستعاراً للإهمال وعدم المبالاة، أي فلا تتعلق الإرادة بالتخفيف عنهم وعلى هذين الاعتبارين يفسر معنى النسيان الثاني‏.‏
والكاف في ‏{‏كما نسيتم لقاء يومكم‏}‏ للتعليل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، أي جزاء نسيانكم هذا اليوم، أي إعراضكم عن الإيمان به‏.‏
واللقاء‏:‏ وجدان شيء شيئاً في مكان، وهو المصادفة يُقال‏:‏ لقي زيد عمراً، ولقي العصفور حبة‏.‏ ولقاء اليوم، أطلق اليومُ على ما فيه من الأحداث على سبيل المجاز المرسل لأنه أوجزُ من تعداد الأهوال الحاصلة منذ البعث إلى قضاء الجزاء على الأعمال‏.‏
وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين في ‏{‏يومكم‏}‏ باعتبار أن ذلك اليوم ظرف لأحوال تتعلق بهم فإن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ألا ترى أنه أضيف إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏
ووصف اليوم باسم الإشارة تمييزه أكمل تمييز تكميلاً لتعريفه بالإضافة لئلا يلتبس عليهم بيوم آخر‏.‏
وعطف ‏{‏ومأواكم النار‏}‏ على ‏{‏اليوم ننساكم‏}‏ ليعلموا أن تركهم في النار ترك مؤبد فإن المأوى هو مسكن الشخص الذي يأوي إليه بعد أعماله، فالمعنى أنكم قد أَويْتم إلى النار فأنتم باقون فيها، وتقدم نظير قوله‏:‏ ‏{‏وما لكم من ناصرين‏}‏ قريباً، والمقصود تخطئة زعمهم السابق أن الأصنام تنفعهم في الشدائد‏.‏
و ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى ‏{‏مأواكم‏}‏ والباء للسببية، أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله، وهي آيات القرآن هزؤاً، أي مستهزأ بها، ‏{‏هزؤاً‏}‏ مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق‏.‏
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم‏.‏ والتغرير‏:‏ الإطماع الباطل‏.‏ ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم‏:‏ أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا وغرّهم أيضاً ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور‏.‏
وفرع على ذلك ‏{‏فاليوم لا يخرجون منها‏}‏ بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم لأن وقوع كلمة ‏(‏اليوم‏)‏ في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذٍ‏.‏ واتفق القراء على قراءة ‏{‏لا يخرجون‏}‏ بياء الغيبة‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ لا تُخرجون، بأسلوب الخطاب مثل سابقه ولكن عدل عن طريقة الخطاب إلى الغيبة على وجه الالتفات‏.‏ ويحسّنه هنا أنه تخييل للإعراض عنهم بعد توبيخهم وتأييسهم وصرف بقية الإخبار عنهم إلى مخاطب آخر ينبّأ ببقية أمرهم تحقيراً لهم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يُخرجون‏}‏ بضم الياء وفتح الراء، فالمعنى‏:‏ أنهم يسألون مَن يُخرجهم فلا يُخرجهم أحد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا أخرجنا منها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 107‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي ‏{‏يخرُجون‏}‏ بفتح الياء وضم الراء‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏‏.‏
والاستعتاب بمعنى‏:‏ الإعتاب، فالسين والتاء للمبالغة كما يقال‏:‏ أجاب واستجاب‏.‏ ومعنى الإعتاب‏:‏ إعطاء العُتبى وهي الرضا‏.‏ وهو هنا مبني للمجهول‏.‏ أي لا يستعتبهم أحد، أي ولا يُرضون بما يسألون، وتقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون‏}‏ في سورة الروم ‏(‏57‏)‏‏.‏
وتقدم ‏{‏هم‏}‏ على ‏{‏يستعتبون‏}‏ وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا تعريض بأن الله يُعتِب غيرهم، أي يُرضي المؤمنين، أي يغفر لهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏
‏{‏فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعاً على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله فيما خلق وأرشد وسخر وأقام من نُظم العدالة، والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم، فلما كان ذلك كله من الله كان دالاً على اتّصافه بصفات العظمة والجلال وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام كان حقيقاً بإنشاء قصر الحمد عليه فيجوز أن يكون هذا الكلام مراداً منه ظاهر الإخبار، ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملاً في معناه الكنائي وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه‏.‏ ويجوز أن يكون إنشاء حمدٍ لله تعالى وثناء عليه‏.‏ وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتض للوجوه الثلاثة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏45‏)‏‏.‏
وتقديم ‏(‏لله‏)‏ لإفادة الاختصاص، أي الحمد مختص به الله تعالى يعني الحمد الحق الكامل مختص به تعالى كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏
وإجراء وصف رب السموات‏}‏ على اسمه تعالى إيماء إلى علّة قصر الحمد على الله إخباراً وإنشاءً تأكيداً لما اقتضته الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فللَّه الحمد‏}‏‏.‏ وعُطف ‏{‏وربّ الأرض‏}‏ بتكرير لفظ ‏{‏رب‏}‏ للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض، فأما أهل السماء فقد حمدوه كما أخبر الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏والملائكةُ يسبحون بحمد ربّهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأما أهل الأرض فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية ومن حمد غيره وأعرض عنه فقد سجل على نفسه سِمة الإباق، وكان بمأوَى النار محَلّ استحقاق‏.‏
ثم أتبع بوصف ‏{‏رب العالمين‏}‏ وهم سكان السماوات والأرض تأكيداً لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفون بها وخالق ذواتهم فيها كذلك‏.‏
وعقب ذلك بجملة ‏{‏وله الكبرياء في السموات والأرض‏}‏ للإشارة إلى أن استدعاءه خلقَه لحمده إنما هو لنفعهم وتزكية نفوسهم فإنه غني عنهم كما قال‏:‏ ‏{‏وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏
وتقديم المجرور في ‏{‏وله الكبرياء‏}‏ مثله في ‏{‏فللَّه الحمد‏}‏‏.‏ والكبرياء‏:‏ الكبر الحق الذي هو كمال الصفات وكمال الوجود‏.‏ ثم أتبع ذلك بصفتي ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيارِ، والحكمةَ تجمع معاني تمام العلم وعمومه‏.‏

سورة الأحقاف
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏
تقدم القول في نظيره في أول سورة غافر‏.‏ وهذه جملة مستقلّة مثل نظائرها من الحروف المقطعة في أوائل من سور القرآن‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏
تقدم القول في نظيره في أول الجاثية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏
لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثباتُ وحدانية الله تعالى، وإثباتُ البعث والجزاء، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما، جُعِل قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 2‏]‏ تمهيداً للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء، فجُعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخَلق إلا ملابساً للحق، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلْقاً عبثاً بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون‏.‏ واستثناءُ ‏{‏بالحق‏}‏ من أحوال عامة، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفاً لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم، والتقدير‏:‏ إلا خلقاً كائناً بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق‏.‏
وصاحب الحال هو ‏{‏السماوات والأرض‏}‏، والمعنى‏:‏ ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما‏.‏ وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق‏.‏
وعطف ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ على ‏{‏بالحق‏}‏، عطفُ الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وملائِكتهِ ورسله وجبريل وميكائيل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏98‏)‏ لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال، وقد كان ظن الدهريين قدمَ هذا العالم وبقاءَه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيَا وما يُهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية‏.‏ فجملة ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ مرتبطة بالاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث‏.‏
وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب ‏{‏أنذروا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ عما أنذروه معرضون‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير‏.‏ والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه‏.‏
وتقديم ‏{‏عما أنذروا‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏معرضون‏}‏ للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏
انتقل إلى الاستدلال على بطلان نفي صفة الإلهية عن أصنامهم‏.‏ فجملة ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون‏}‏ أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم‏.‏
وجَاء هذا الاستدلالُ بأسلوب المناظرة فجُعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم بالاحتجاج ليكون إلجاءً لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله‏:‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أيتوني بكتاب‏}‏ الآية‏.‏ و‏{‏أرأيتم‏}‏ استفهام تقريري فهو كناية عن معنى‏:‏ أخبروني، وقد تقدم في سورة الأنعام ‏(‏40‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون‏}‏
وقوله‏:‏ أروني‏}‏ تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم ما تدعون‏}‏ وموقع جملة ‏{‏أروني‏}‏ في موقع المفعول الثاني لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏
والأمر في ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئاً فلا تستطيعوا أن تُروني شيئاً خلقوه في الأرض، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة، وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه‏.‏ و‏{‏ماذا‏}‏ بمعنى ما الذي خلقوه، ف ‏(‏ما‏)‏ استفهامية، و‏(‏ذا‏)‏ بمعنى الذي‏.‏ وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول‏.‏ وأصل التركيب‏:‏ ماذا الذي خلقوا، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالباً في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذَا الذي يشفع عنده‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ولهذا قال النحاة‏:‏ إن ‏(‏ذا‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ أو ‏(‏مَن‏)‏ الاستفهاميتين بمنزلة ‏(‏مَا‏)‏ الموصولة‏.‏
والاستفهامُ في ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏ إنكاري‏.‏ وجملة ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏ بدل من جملة ‏{‏أروني‏}‏ وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية بعده، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقاً لهم بطل أن يكونوا آلهة لِخروج المخلوقات عن خَلقهم، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسَهم ينصرون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏191، 192‏)‏‏.‏
وأم‏}‏ حرف إضراب انتقالي‏.‏ والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات‏.‏ وإنما أوثر انتفاء الشِركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفاً للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه‏.‏
وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر ‏(‏40‏)‏ ‏{‏قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله‏}‏ الآية فانظر ذلك‏.‏
ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله‏:‏ ائتوني بكتاب من قبل هذا‏}‏ فجملة ‏{‏ائتوني بكتاب‏}‏ في موقع مفعول ثان لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ‏.‏ ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام كما تقدم‏.‏ والمعنى‏:‏ نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات، ولا بأقوال الكتب، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر ‏(‏40‏)‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه‏}‏ والمراد ب ‏(‏كتاب‏)‏ أيُّ كتاب من الكتب المقروءة‏.‏ وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذِكراً غير الإبطال والتحذير من عبادتها، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين‏:‏ إمّا إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية، وإمّا عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده‏:‏ أو أثارة من علم‏}‏‏.‏
والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏23‏)‏‏.‏
والإشارة في قوله‏:‏ من قبل هذا‏}‏ إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يُقرأ عليهم معاودة‏.‏ ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يُصنع لهم، كمَا قالوا‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏‏.‏
و ‏{‏أثارة‏}‏ بفتح الهمزة‏:‏ البقية من الشيء‏.‏ والمعنى‏:‏ أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب‏.‏ وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور، وقد قال تعالى في سورة القصص ‏(‏50‏)‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم‏.‏‏}‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏
‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏
اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج، فلما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجّهم بالدليل وجّه الخطاب إليه تعجيباً من حالهم وضلالهم لأن قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداء‏}‏ الخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب الله‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ استفهامية، والاستفهام إنكار وتعجيب‏.‏ والمعنى‏:‏ لا أحد أشدّ ضلالاً وأعجب حالاً ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة‏.‏ ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادّعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال‏.‏
و ‏{‏من لا يستجيب‏}‏ الأصنام عُبّر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذْ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة، ولأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك، ومثلُ هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غافلون‏}‏ وهي عائدة إلى ‏{‏من لا يستجيب‏}‏‏.‏
وجَعْلُ يوم القيامة غايةً لانتفاء الاستجابة‏.‏ كنايةٌ عن استغراق مدة بقاء الدنيا‏.‏ وعبر عن نهاية الحياة الدنيا ب ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأن الموَاجه بالخبر هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كما علمت وهم يثبتون يوم القيامة‏.‏
وضميرا ‏{‏كانوا‏}‏ في الموضعين يجوز أن يَعودا إلى ‏{‏ممن يدعو من دون الله‏}‏ فإن المشركين يعادُون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم‏.‏ ويجوز أن يعودا إلى ‏{‏من لا يستجيب له‏}‏ فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذٍ فتنطق بالتبرّي عن عُبادها ومن عبادتهم إياها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوماً بُوراً فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17 19‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏ جارياً على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء والمنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي إلى شقائهم وكذبهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏
وعطف جملة ‏{‏وإذا حشر الناس‏}‏ الخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة‏.‏ ومن بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ وهذا يتدرج في محسِّن الجمع مع التفريق وأدق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5‏]‏، وقد علمت أن هذا مسوق مساق العَد لوجوه فرط ضلالهم فإن آيات القرآن تتلى عليهم صباحَ مساءَ تبين لهم دلائل خلوّ الأصنام عن مقومات الإلهية فلا يتدبرونها وتحدُو بهم إلى الحق فيغالطون أنفسهم بأن ما فهموه منها تأثر سحري، وأنها سحر، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا بهتاناً فزعموا أنه مبين، أي واضح كونه سحراً‏.‏ وهذا انتقال إلى إبطال ضلال آخر من ضلالهم وهو ضلال التكذيب بالقرآن فهو مرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏حم تنزيل الكتاب من الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 1، 2‏]‏ الخ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالكفر وبأنه سبب قولهم ذلك‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للحق‏}‏ لام العلة وليست لام تعدية فعل القول إلى المقول له أي قال بعض الكافرين لبعض في شأن الذين آمنوا ومن أجل إيمانهم‏.‏ والحق‏:‏ هو الآيات، فعدل عن ضمير الآيات إلى إظهار لفظ الحق للتنبيه على أنها حق وأن رميها بالسحر بهتان عظيم‏.‏ و‏{‏لما جاءهم‏}‏ توقيت لمقالتهم، أي يقولون ذلك بفور سماع الآيات وكلما جاءتهم، أي دون تدبر ولا إجالة فكر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏
إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضَلال أقوالهم‏.‏ وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى‏:‏ دَعْ قولهم‏:‏ ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم‏:‏ ‏{‏افتَراه‏}‏، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر‏.‏
والاستفهام الذي يقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ للإنكار على مقالتهم‏.‏ والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الانكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطاً على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم‏.‏
والضمير المنصوب في ‏{‏افتراه‏}‏ عائد إلى الحق في قوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا للحق‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، أو إلى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله‏.‏
وقد أمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم‏.‏ وقد تقدم ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في أوائل سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
وجعل الافتراء مفروضاً بحرف إن‏}‏ الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله‏.‏
وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المفعولية لفعل ‏{‏تملكون‏}‏، أي شيئاً يملك، أي يستطاع، والمراد‏:‏ شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئاً يَرد علي من الله‏.‏ وتقدم معنى ‏(‏لا أملك شيئاً‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏ في سورة العقود ‏(‏17‏)‏‏.‏
والتقدير‏:‏ إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها‏.‏ فقوله‏:‏ فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى ‏{‏لا تملكون لي‏}‏ لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى‏:‏ إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه‏.‏
واعلم أن الشائع في استعمال ‏(‏لا أملك لك شيئاً‏)‏ ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ وقوله ‏{‏وما أملك لك من الله من شيء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، أو أن يسند إلى عامّ نحو ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏، فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم‏.‏
واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله‏:‏ ‏{‏إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ أن الله لا يقرّ أحداً على أن يبلِّغ إلى الناس شيئاً عن الله لَمْ يأمره بتبليغه، وقد دلّ القرآن على هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تَقَوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 47‏]‏‏.‏ ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق، والله يَغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالمُ والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة، أو حيلة ومصانعة‏.‏ وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذَا يتلقَّوْنه فلذلك لا يُقره الله ويزيله‏.‏
وجملة ‏{‏هم أعلم بما تفيضون فيه‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ لأن جملة ‏{‏فلا تملكون لي‏}‏ تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يُخير عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله‏.‏ وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون، فمَا صْدَقُ ‏(‏ما‏)‏ الموصولة القرآن الذي دلّ عليه الضمير الظاهر في ‏{‏افتراه‏}‏ أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في ‏{‏افتراه‏}‏ أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها مختلف خوضهم‏.‏ ومتعلق اسم التفضيل محذوف، أي هو أعلم منكم‏.‏ والإفاضة في الحديث‏:‏ الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من‏:‏ فاض الماء؛ إذا سال‏.‏ ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع، والمعنى‏:‏ هو أعلم بحال ما تفيضون فيه‏.‏
وجملة ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏هو أعلم بما تفيضون فيه‏}‏ لأن الاخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى‏.‏ وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض الباطل ووعيد‏.‏
والشهيد‏:‏ الشاهد، أي المخبر بالواقع‏.‏ والمراد به هنا الحَاكم بما يعلمه من حالنا كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيدا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وإجراء وصفي ‏{‏الغفور الرحيم‏}‏ عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ من التهديد والوعيد، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏
أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفاً في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الآيات‏.‏ وهذا جواب عما تضمنه قولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله‏.‏ وإنما لم يعطف على جملة ‏{‏قل إن افتريته‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من ردّ إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير، وسيأتي بعده قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين ‏(‏81 84‏)‏ ‏{‏بل قالوا مثل ما قال الأولون إلى قل لمن الأرضُ ومَن فيها إن كنتم تعلمون وقولِه قل من رب السماوات السبع‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 86‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل من بيده ملكوت كل شيء‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏ الخ‏.‏
والبِدع بكسر الباء وسكون الدال، معناه البَديع مثل‏:‏ الخِفّ يعني الخفيف قال امرؤ القيس‏:‏
يزل الغلام الخف عن صواته *** ومنه‏:‏ الخِلّ بمعنى الخليل‏.‏ فالبِدْع‏:‏ صفة مشبهة بمعنى البَادع، ومن أسمائه تعالى‏:‏ «البديع» خالق الأشياء ومخترعها‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما كنت محدثاً شيئاً لم يكن بين الرسل‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، أي ما كنت آتياً منهم بديعاً غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي‏.‏ وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليلٌ وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء، أو أنه قاتل الذين كفروا، أو أنه أحبّ زينب بنت جحش‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم‏}‏ تتميم لقوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏ وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته‏:‏ أين ناقتي‏؟‏ ويقول أحدهم‏:‏ مَن أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏‏.‏
ولذلك كان قوله‏:‏ ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى‏}‏ استئنافاً بيانياً وإتماماً لما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يُعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا‏.‏ ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، ومثل قوله تعالى‏:‏
‏{‏إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حُكم نسخ الخبر‏.‏
ووجه عطف ‏{‏ولا بكم‏}‏ على ‏{‏بي‏}‏ بإقحام ‏(‏لا‏)‏ النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وليس في الصلة نفي، فلماذا لم يقل‏:‏ ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولاً للمنفي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدري‏}‏ تناول النفي ما هو في حيّز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملاً للجميع فحسّن إدخال حرف النفي على المعطوف، كما حسُن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجرَّ بها الاسم المنفي المعطوف على اسم ‏(‏إن‏)‏ وهو مُثبت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يَعْىَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ لوقوع ‏{‏أنّ‏}‏ العاملة فيه في خبر النفي وهو ‏{‏أو لم يروا‏}‏ وكذلك زيادة ‏(‏مِن‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يَودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏ فإن ‏{‏خيرٍ‏}‏ وقع معمولاً لفعل ‏{‏يُنزَّل‏}‏ وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيلَ صار التنزيل كالمنفي لديهم‏.‏
وعطف ‏{‏وما أنا إلا نذير مبين‏}‏ على جملة ‏{‏ما كنت بدعا من الرسل‏}‏ لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وما أنا نذير مبين لا مُفْتَرٍ، فالقصر قصر إضافي، وهو قصر قلب لردّ قولهم ‏{‏افتراه‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏
أعيد الأمر بأن يقول لهم حجة أخرى لعلها تردهم إلى الحق بعد ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تَدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏
وهذا استدراج لهم للوصول إلى الحق في درجات النظر فقد بادأهم بأن ما أحالوه من أن يكون رسولاً من عند الله ليس بمحال إذ لم يكن أولَ الناس جاء برسالة من الله‏.‏ ثم أعقبه بأن القرآن إذا فرضنا أنه من عند الله وقد كفرتم بذلك كيف يكون حالكم عند الله تعالى‏.‏
وأقحم في هذا أنه لو شهد شاهد من أهل الكتاب بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل، وآمن برسالتي كيف يكون انحطاطكم عن درجته، وقد جاءكم كتاب فأعرضتم عنه، فهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أو تقولوا لوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدَى منهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏، وهذا تحريك للهمم‏.‏ ونظير هذه الآية آية سورة فصّلت ‏(‏52‏)‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد‏}‏ سوى أن هذه أقحم فيها قوله‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ فإن المشركين كانت لهم مخالطة مع بعض اليهود في مكة ولهم صلة بكثير منهم في التجارة بالمدينة وخيبر فلما ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون من لَقوه من اليهود عن أمر الأديان والرسل فكان اليهود لا محالة يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه وكيف أظهره الله على فرعون‏.‏ فاليهود وإن كانوا لا يقرّون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يتحدثون عن رسالة موسى عليه السلام بما هو مماثل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وفيه ما يكفي لدفع إنكارهم رسالته‏.‏
فالاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ تقريري للتوبيخ ومفعولاً ‏{‏أرأيتم‏}‏ محذوفان‏.‏ والتقدير‏:‏ أرأيتم أنفسكم ظالمين‏.‏ والضمير المستتر في ‏{‏إن كان‏}‏ عائد إلى القرآن المعلوم من السياق أو إلى ما يُوحَى إليّ في قوله آنفاً ‏{‏إن أتبع إلا ما يُوحَى إليّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏وكفرتم به‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون عطفاً على فعل الشرط‏.‏ وكذلك جملة ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ لأن مضمون كلتا الجملتين واقع فلا يدخل في حيز الشرط، وجواب الشرط محذوف دل عليه سياق الجدل‏.‏ والتقدير‏:‏ أفترون أنفسكم في ضلال‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تذييل لجملة جواب الشرط المقدرة وهي تعليل أيضاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أتظنون إن تبين أن القرآن وحي من الله وقد كفرتم بذلك فشهد شاهد على حَقّية ذلك تُوقنوا أن الله لم يهدكم لأنكم ظالمون وأن الله لا يهدي الظالمين‏.‏
وضميرا ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏مثله‏}‏ عائدان إلى القرآن الذي سبق ذكره مرّات من قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ائتوني بكتاب من قبل هذا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏واستكبرتم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وشهد شاهد‏}‏ الخ وجملة ‏{‏وشهد شاهد‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن كان من عند اللَّه‏}‏‏.‏
والمِثل‏:‏ المماثل والمشابه في صفة أو فعل، وضمير ‏{‏مثله‏}‏ للقرآن فلفظ ‏{‏مثله‏}‏ هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذٍ‏.‏ ويجوز أن يحمل المِثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ ‏(‏مثل‏)‏، فيكون لفظ ‏(‏مثل‏)‏ بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب‏:‏ «مثلك لا يبخل»، وكما هو أحد محملين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه‏.‏
ويجوز يكون ضمير ‏{‏مثله‏}‏ عائداً على الكلام المتقدم بتأويل المذكور، أي على مثل ما ذكر في أنه ‏{‏من عند الله‏}‏ وأنه ليس بدعا من كتب الرسل‏.‏
فالمراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ شاهدٌ غيرُ معين، أي أيَّ شاهد، لأن الكلام إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود‏.‏ وبهذا فسر الشعبي ومسروق واختاره ابن عبد البر في «الاستيعاب» في ترجمة عبد الله بن سلام فالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ وما بعده موجه إلى المشركين من أهل مكة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة‏:‏ المراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ عبدُ الله بن سلاَم‏.‏ وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه قال‏:‏ فيَّ نزلت آيات من كتاب الله ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ الآية‏.‏
ومثل قول قتادة ومجاهد وعكرمة روي عن ابن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري ووقع في «صحيح البخاري» في باب فضل عبد الله بن سلام حديث عبد الله بن يوسف عن مالك عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ وفيه نزلت هذه الآية ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ الآية، قال عبد الله بن يوسف‏:‏ لا أدري قال مالك‏:‏ الآية أو في الحديث‏.‏ قال مسروق‏:‏ ليس هو ابن سلام لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، وقال الشعبي مثلَه‏.‏ ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وأمر بوضعها في سورة الأحقاف، وعلى هذا يكون الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ وما بعده لأهل الكتاب بالمدينة وما حولها‏.‏ وعندي أنه يجوز أن يكون هذا إخباراً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بما سيقع من إيمان عبد الله بن سَلام فيكون هو المراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ وإن كانت الآية مكية‏.‏
والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرّأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا‏:‏ ‏{‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ حين علموا أن قد لزمتهم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن‏.‏
وجملة ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله ما علمته آنفاً، أي ضللتم ضلالاً لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم‏.‏ وجيء في الشرط بحرف ‏{‏إن‏}‏ الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالاً لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاورة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏
‏{‏الظالمين * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏‏.‏
هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم، فهم الذين قالوا ‏{‏أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا‏}‏ كما تقدم في الأنعام ‏(‏53‏)‏، وهو نظير قول قوم نوح ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرَاذِلُنا بادي الرأي‏}‏ ‏(‏هود 27‏)‏، ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ لام التعليل متعلقة بمحذوف، هو حال من الذين كفروا تقديره‏:‏ مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏، وقوله في الآية السابقة ‏{‏قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو ‏{‏ألمْ أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 72‏]‏ المسمّاة لام التبليغ‏.‏
والضمير المستتر في ‏{‏كان‏}‏ عائد إلى ما عد إليه ضمير ‏{‏إن كان من عند الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وهو القرآن المفهوم من السياق أو ‏{‏ما يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏ والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر، شبّه بأسرع الوصول بين المتجارين، والمراد‏:‏ الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال‏.‏ وضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏سبقونا‏}‏ عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وسمية، وزنّيرة ‏(‏بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة‏)‏ أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهنّ المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق‏.‏
وعن عروة بن الزبير قال‏:‏ عظماء قريش‏:‏ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه زنّيرة، أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا‏.‏
‏{‏إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ‏}‏‏.‏
عطف على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا للذين آمنوا‏}‏ الآية، أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا‏:‏ ‏{‏سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏ وقالوا ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، وقالوا ‏{‏لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏}‏، وبقي أن يقولوا هو ‏{‏إفك قديم‏}‏‏.‏
وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكفرتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ لم يهتدوا به‏}‏ الآية‏.‏
وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعراً بأن جميعها أسباب لِجميعها‏.‏
وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو ‏{‏إفك قديم‏}‏ إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل‏.‏ ولمّا كانت ‏{‏إذ‏}‏ ظرفاً للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف ‏{‏لَم‏}‏ تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون ‏{‏هذا إفك‏}‏ أنهم يقولونه في المستقبل، وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضاً لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نَزلت قبل هذه السورة، فمعنى ‏{‏فسيقولون‏}‏ سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل‏.‏
فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 27‏]‏ فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي‏.‏ فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم ‏{‏سيقولون هذا‏}‏ ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل‏.‏ وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به ‏{‏إذ‏}‏‏.‏
وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام، وكثير في ‏{‏إذ‏}‏، ولذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏إذْ‏}‏ للتعليل، وتتعلق ‏{‏إذ‏}‏ ب ‏(‏يقولون‏)‏ ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق‏.‏ وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية، فالواو للعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به
وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في «الأمالي» دون ما ذهب إليه صاحب «الكشاف»، فإنه تكلف له تكلفاً غير شاف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو «التوراة» مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ كما تقدم‏.‏
ففي قوله‏:‏ ‏{‏ومن قبله كتاب موسى‏}‏ إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهاية سابقة معلومة أشهره «كتاب موسى»، أي «التوراة» وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود‏.‏ وضمير ‏{‏من قبله‏}‏ عائد إلى القرآن‏.‏ وتقديم ‏{‏من قبله‏}‏ للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة‏.‏
وعبر عن «التّوراة» ب ‏{‏كتاب موسى‏}‏ بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو «التوراة» لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحاً إلى مثار نتيجة قياس القرآن على «كتاب موسى» بالمشابهة في جميع الأحوال‏.‏
و ‏{‏إماماً ورحمة‏}‏ حالان من ‏{‏كتاب موسى‏}‏، ويجوز كونهما حالين من ‏{‏موسى‏}‏ والمعنيان متلازمان‏.‏
والإمام‏:‏ حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياساً لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقاً شائعاً على القدوة قال تعالى‏:‏ ‏{‏واجعلنا للمتقين إماماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ، وموسى إمام أيضاً بمعنى القدوة‏.‏
والرحمة‏:‏ اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي، رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه‏.‏ ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سبباً في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة‏.‏
ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة، وموسى أيضاً رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب مصدق‏}‏ الخ هو المقيس على ‏{‏كتاب موسى‏}‏‏.‏ والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات‏.‏
والمصدِّق‏:‏ المخبر بصدق غيره‏.‏ وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقا لما بين يديه‏}‏، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة‏.‏ وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنياً عنها ومبيناً لما فيها‏.‏ والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها‏.‏ وما حُرّف فهمه بها قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وزاده ثناء بكونه ‏{‏لساناً عربياً‏}‏، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل‏.‏
وأدمج لفظ ‏{‏لسانا‏}‏ للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذٍ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفَى عنها المساوي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق» وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر الذين ظلموا‏}‏ يجوز أن يتعلق ب ‏{‏مصدقا لما بين يديه‏}‏ لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في ‏{‏كتاب‏}‏ من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة‏.‏ وهذا أحسن ليكون ‏{‏لتنذر‏}‏ علة للكتاب باعتبار صفته وحاله‏.‏
والذين ظلموا هم المشركون ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان‏.‏ والنّذارة مراتب والبشارة مثلها‏.‏
و ‏{‏بشرى‏}‏ عطف على ‏{‏مصدق‏}‏، والتقدير‏:‏ وهو بشرى للمحسنين، أي الكتاب، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم‏.‏
وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوبُ ‏{‏لتنذر‏}‏ بالمثناة الفوقية خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصفُ كتابه بأنه ‏{‏بشرى‏}‏ وفيه احتباك‏.‏ وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏
استئناف بياني أوثر بصريحه جانب المؤمنين من المستمعين للقرآن لأنهم لما سمعوا البشرى تطلعوا إلى صفة البشرى وتعييننِ المحسنين ليضعوا أنفسهم في حق مواضعها، فأجيبوا بأن البشرى هي نَفي الخوف والحزن عنهم، وأنهم أصحاب الجنة وأن المحسنين هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في أعمالهم‏.‏ وأشير بمفهومه إلى التعريض بالذين ظلموا فإن فيه مفهوم القصر من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏‏.‏ وتعريفُهم بطريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من تعليل كرامتهم عند الله لأنهم جمعوا حسنَ معاملتهم لربهم بتوحيده وخوفه وعبادته، وهو ما دل عليه ‏{‏قالوا ربنا الله‏}‏ إلى حسن معاملتهم أنفسهم وهو معنى ‏{‏ثم استقاموا‏}‏‏.‏
وجيء في صلة الموصول بفعل ‏{‏قالوا‏}‏ لإيجاز المقول وغنيته عن أن يقال‏:‏ اعترفوا بالله وحده وأطاعوه‏.‏ والمراد‏:‏ أنهم قالوا ذلك واعتقدوا معناه إذ الشأن في الكلام الصدق وعملوا به لأن الشأن مطابقة العمل للاعتقاد‏.‏
‏{‏ثمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي‏:‏ وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة‏.‏ فهذا وجه التراخي الرتبي من جهة، وإن كان الإيمان أرقى درجة من العمل من حيث إنه شرط في الاعتداد بالعمل ولذلك عطف ب ‏{‏ثم‏}‏ التي للتراخي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العَقبة فَكّ رقبة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏، فالاعتباران مختلفان باختلاف المقام المسوق فيه الكلام كما يظهر بالتأمل هنا وهناك، وتقدم نظيره في سورة فصّلت‏.‏
ودخول الفاء على خبر الموصول وهو ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ لمعاملة الموصول معاملة الشرط كأنه قيل‏:‏ إن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم، ومثله كثير في القرآن، فأفاد تسبب ذلك في أمنهم من الخوف والحزن‏.‏ و‏{‏عليهم‏}‏ خبر عن خوف، أي لا خوف يتمكن منهم ويصيبهم ويلحقهم‏.‏
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ لتخصيص المسند إليه بالخبر نحو‏:‏ ما أنا قلتُ هذا، أي أن الحزن منتف عنهم لا عن غيرهم، والمراد بالغير‏:‏ من لم يتصف بالإيمان والاستقامة في مراتب الكفر والعصيان، فجنس الخوف ثابت لمن عداهم على مراتب توقع العقاب حتى في حالة الوجل من عدم قبول الشفاعة فيهم ومن توقع حرمانهم من نفحَات الله تعالى‏.‏
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرد من الإخبار عنهم بما بعد الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏
وأصحاب الجنة‏}‏ أدل على الاختصاص بالجنة من أن يقال‏:‏ أولئك في الجنة وأولئك لهم الجنة لما في ‏{‏أصحاب‏}‏ من معنى الاختصاص وما في الإضافة أيضاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ تصريح بما استفيد من تعليل الصلة في الخبر ومن اقتضاء اسم الإشارة جدارتهم بما بعده وما أفاده وصف أصحاب وما أفادته الإضافة، وهذا من تمام العناية بالتنويه بهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
‏{‏يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏
تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين‏.‏ وقال ابن عساكر‏:‏ لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن‏.‏ وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال‏.‏ ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما إلى قوله‏:‏ ‏{‏خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين ووَلد كافر، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين وَالديه كما سيأتي‏.‏ ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيداً لذكر هذا الجدال‏.‏
وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قوله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً إلى قوله‏:‏ ‏{‏يوعدون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15، 16‏]‏ نزل في أبي بكر الصديق‏.‏ وقال ابن عطية وغير واحد‏:‏ نزلت في أبي بكر وأبيه ‏(‏أبي قحافة‏)‏ وأمه ‏(‏أم الخير‏)‏ أسلم أبواه جميعاً‏.‏ وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهراً في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغاً في أمة مبلغه في المسلمين‏.‏ وتقدم ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حسنا‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏8‏)‏‏.‏
والمراد بالإنسان الجنس، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏
وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة‏.‏
والحُسن‏:‏ مصدر حَسُن، أي وصيناه بحُسن المعاملة‏.‏ وقرأه الجمهور كذلك‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏إحسانا‏}‏‏.‏ والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين ‏{‏وصيْنَا‏}‏ معنى‏:‏ ألزمنا‏.‏
والكره‏:‏ بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره، إذا امتعض من شيء، أي كان حمله مكروهاً لها، أي حالة حمله وولادته لذلك‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏كَرها‏}‏ في الموضعين بفتح الكاف‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين‏.‏
وانتصب ‏{‏كرها‏}‏ على الحال، أي كارهة أو ذات كَره‏.‏
والمعنى‏:‏ أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل‏.‏ ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه‏.‏ وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة‏.‏
وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع‏.‏
والفصال‏:‏ الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله‏:‏ ‏{‏وحملُه‏}‏ وانتهاءُ الرضاع بقوله‏:‏ ‏{‏وفصالُه‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏وفصْله‏}‏ بسكون الصاد، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام‏.‏
ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهراً لتُطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب، قيل‏:‏ كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعتْ المولود أحد وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهراً زائداً في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالاً‏.‏
ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدرَ بالمقام‏.‏ وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة ‏(‏233‏)‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏}‏ دليلاً على أن الوضع قد يكون لستة أشهر، ونسب مثله إلى ابن عباس‏.‏ ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال‏:‏ تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عَليّاً فأتاه فقال‏:‏ أما تقرأ القرآن قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أما سمعت قوله‏:‏ وحملهُ وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏حولين كامِلين‏}‏ فلم نجده بَقي إلا ستة أشهر‏.‏ فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علاّم الغيوب الذي أنزله تبياناً لكل شيء من مثل هذا‏.‏
وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة‏.‏
‏{‏شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى والدى وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه وَأَصْلِحْ لِى فِى ذريتى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ‏}‏‏.‏
‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم، وإذ كانت ‏{‏حتى‏}‏ لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده، أي هو موصًى بوالديه حسناً في الأطوار الموالية لفصاله، أي يوصيه وليّه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه‏.‏
ووقوع ‏{‏إذا‏}‏ بعد ‏{‏حتى‏}‏ ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ، وقد تقدمت نظائر ذلك قريباً وبعيداً منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏152‏)‏‏.‏
ولما كان إذا‏}‏ ظرفاً لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلباً إلى الاستقبال، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيهاً للمؤكد تحصيله بالواقع، فهو استعارة‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ تجريد للاستعارة، والمعنى‏:‏ حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه ‏{‏قال رب أوزِعْني‏}‏، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه‏.‏ ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لِوالديه‏.‏ ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعْمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما‏.‏
وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل ‏{‏قال ربّ أوزعني‏}‏ من جملة ما وُصِي به الإنسان، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد‏.‏ فالمعنى‏:‏ ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما‏.‏ وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين‏.‏
ومعنى ‏{‏قال ربّ أوزعني‏}‏ أنه دعا ربه بذلك، ومعناه‏:‏ أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وحاصل المعنى‏:‏ أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما، وهو معنى قوله تعالى‏:‏
‏{‏وقل رب ارحمهما كما رَبَّياني صغيرا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏ وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏"‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير ‏"‏ وما شُكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه‏.‏
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع «إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزِئ أن أحُجّ عنه، قال‏:‏ ‏"‏ نعم حُجِّي عنه ‏"‏، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه‏.‏
والأشُدّ‏:‏ حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد‏.‏ وقيل مفرده‏:‏ شِدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنْعُم، وليس الأشد اسماً لعدد من سني العمر وإنما سِنُو العمر مظنة للأشُدّ‏.‏ ووقتُه ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على ‏{‏بلَغ أشده‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده واستوى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14‏]‏، وتقدم في سورة يوسف، وليس قوله‏:‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ تأكيداً لقوله ‏{‏بلغ أشده‏}‏ لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضاً يبعد ذلك الاحتمال‏.‏
و ‏{‏أوزعني‏}‏‏:‏ ألهمني‏.‏ وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوَزْع، أي الانكفاف عن عمل ما، فالهمزة فيه للإزالة، وتقدم في سورة النمل‏.‏
و ‏{‏نعمتك‏}‏ اسم مصدر مضاف يعمّ، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجِدة‏.‏
وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله‏:‏ ‏{‏وأصلح لي في ذريتي‏}‏ استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد‏.‏
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن‏:‏ دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ‏"‏، وفي رواية «لولده» وهو حديث حسن متعددة طرقه‏.‏
واللام في ‏{‏وأصلح لي‏}‏ لام العلة، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى‏:‏
‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته، وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول‏:‏ كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كَمِّلْ إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي‏.‏ وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب‏.‏
ومعنى ظرفية ‏{‏في ذريتي‏}‏ أن ذريته نزلت منزلة الظرف يَستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم‏.‏ ونظيره في الظرفية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلها كلمة باقية في عقبه‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏إني تبت إليك‏}‏ كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية‏.‏ وحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر، وبذلك يستعمل حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ في مقام التعليل ويغني غناء الفاء‏.‏
والمراد بالتوبة‏:‏ الإيمان لأنه توبة من الشرك، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏من المسلمين‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وأسلمت كما قال‏:‏ ‏{‏تُبت إليك‏}‏ لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة‏.‏ هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ غير معيّن بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبلها من الوصف والحثّ يُحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم‏}‏ إلى آخره جواباً لترقية‏.‏
وعموم ‏{‏أحسنُ ما عملوا‏}‏ يكسب الجملة فائدة التذييل، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا‏.‏ وقد تُقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا‏.‏ والتقبل‏:‏ ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء‏.‏ وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجوّ الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة‏.‏
وعدّي فعل ‏{‏يتقبل‏}‏ بحرف ‏(‏عَن‏)‏، وحقه أن يعدّى بحرف ‏(‏مِن‏)‏ تغليباً لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة، لأن دعاء الوَلد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلاً علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضاً ففي الكلام اختصار كأنه قيل‏:‏ أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديْهم وذريتهم أحسن ما عملوا‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يتقبل‏}‏ و‏{‏يتجاوز‏}‏ بالياء التحتية مضمومة مَبْنيين للنائب و‏{‏أحسن‏}‏ مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب ‏{‏أحسنَ‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏في أصحاب الجنة‏}‏ في موضع الحال من اسم الإشارة، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشَّرفين كما يقال‏:‏ أكرمه في أهل العلم‏.‏
وانتصب ‏{‏وعْدَ الصدق‏}‏ على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني ‏{‏يتقبل‏}‏ و‏{‏يتجاوز‏}‏، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، أي العدل أقرب للتقوى‏.‏
والوعد‏:‏ مصدر بمعنى المفعول، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه‏.‏
وإضافة ‏{‏وعد‏}‏ إلى ‏{‏الصدق‏}‏ إضافةٌ على معنى ‏(‏من‏)‏، أي وعدٌ من الصدق إذ لا يتخلف‏.‏ و‏{‏الذي كانوا يوعدون‏}‏ صفة وعْد الصدق، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بِرّ الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏
هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه، وقد عُلم أن والديه كانا مؤمنين من قوله‏:‏ ‏{‏أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي‏}‏ الآية‏.‏
فجملة ‏{‏والذي قال لوالديه‏}‏ الأحسن أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏وإذا تُتْلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏ الخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏الذي قال لوالديه‏}‏ فالوجه جعله مفعولاً لفعل مقدر تقديره‏:‏ واذكر الذي قال لوالديه، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه‏.‏ ويجوز جعله مبتدأ وجملة ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ خبراً عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏‏.‏
و ‏{‏الذي‏}‏ هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته‏.‏ وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضمّوا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين وهو قبيح لمنافاته الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن حال الوالدين مع أبنائهما يقتضي معاملتهما بالحسنى، ويدل لعدم اختصاص قوله في آخرها ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ إلى آخره‏.‏
والذي عليه جمهور المفسرين‏:‏ أن الآية لا تعْني شخصاً معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذٍ‏.‏ وعن ابن عباس ومروانَ بن الحكم ومجاهد والسدّي وابن جريج أنّها نزلت في ابننٍ لأبي بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمان بعد أن أسلم عبد الرحمان قالوا‏:‏ كان قبل الهجرة مُشركاً وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رُومان إلى الإسلام ويذكّرانه بالبعث، فيردّ عليهما بكلام مثل ما ذكره في هذه الآية‏.‏ ويقول‏:‏ فأيْن عبد الله بن جُدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأيْنَ عامر بن كعب، ومشايخُ قريش حتى أسألهم عمّا يقول محمد‏.‏ لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه، وبهذا يؤول قول عائشة رضي الله عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمان هو الذي يقول الله فيه‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالِدَيْه أفّ لكما‏}‏‏.‏ وذلك في قصة إشارة عبد الرحمان على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة‏.‏
ففي «صحيح البخاري» في كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال‏:‏ «كان مروان ابن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايَع له بعد أبيه أي بولاية العهد فقال له عبد الرحمان بن أبي بكر أهِرَقْليَّة أي اجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل فقال‏:‏ خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان‏:‏ إن هذا الذي أنزل الله فيه ‏{‏والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني‏}‏، فقالت عائشة من وراء الحجاب‏:‏ ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري أي براءتي‏.‏
وكيف يكون المراد ب ‏{‏الذي قال لوالديه أف لكما‏}‏ عبد الرحمان بن أبي بكر وآخر الآية يقول‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول إلى خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ فذَكر اسم الإشارة للجَمع، وقضى على المتحدَّث عنهم بالخسران، ولم أقف على من كان مشركاً وكان أبواه مؤمنين‏.‏ وأيَّاماً كان فقد أسلم عبد الرحمان قبل الفتح فلما أسلم جبّ إسلامُه ما قبله وخرج من الوعيد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ الآية، لأن ذلك وعيد وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعَّد به غير مؤمن وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة‏.‏ وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة، على أنه قيل إن الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ عائدة إلى ‏{‏الأولين‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ما هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ كما سيأتي‏.‏
وأفَ‏:‏ اسم فعل بمعنى‏:‏ أتضجَّر، وتقدم الكلام عليه في سورة الإسراء وفي سورة الأنبياء، وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغلُ في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب على ما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أُفّ‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏23‏)‏‏.‏ وقرأ نافع وحفص عن عاصم أفَ‏}‏ بكسر الفاء منوناً‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب ‏{‏أفَّ‏}‏ بفتح الفاء غير منون‏.‏ وقرأه الباقون أفِّ بكسر الفاء غير منون، وهي لغات ثلاث فيه‏.‏
واعلم أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفّ لكما‏}‏ مُحَسّنَ الاتزان فإنه بوزن مصراع من الرمل عَروضه محذوفة، وضَربه محذوف، وفيه الخبن والقبض، ويزاد فيه الكف على قراءة غير نافع وحفص‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أتعدانِني أن أخرج‏}‏ إنكار وتعجب‏.‏ والإخراج‏:‏ البعث بعد الموت‏.‏
وجعلت جملة الحال وهي ‏{‏وقد خلت القرون من قبلي‏}‏ قيداً لمنتهى الإنكار، أي كيف يكون ذلك في حال مُضيّ القرون‏.‏
والقرون‏:‏ جمع قرن وهو الأمة التي تَقاربَ زمان حياتها، وفي الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» الحديث، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القُرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد‏.‏ وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أتعدانِني‏}‏ بنونين مفكّكين وقرأه هشام عن ابن عامر بإدغام النونين‏.‏
ومعنى ‏{‏يستغيثان الله‏}‏ يطلبان الغوث من الله، أي يطلبان من الله الغوث بأن يهديه، فالمعنى‏:‏ يستغيثان الله له‏.‏
وليست جملة ‏{‏ويلك آمِنْ‏}‏ بياناً لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة‏.‏ وكلمة ‏{‏ويلك‏}‏ كلمة تهديد وتخويف‏.‏
والويل‏:‏ الشر‏.‏ وأصل ويلك‏:‏ ويْل لك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة ‏(‏ويل‏)‏ ونصبوه على نزع الخافض‏.‏
وفعل ‏{‏آمِن‏}‏ منزل منزلة اللازم، أي اتصف بالإيمان وهو دعوة الإسلام، وجملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ تعليل للأمر بالإيمان وتعريض له بالتهديد من أن يحق عليه وعد الله‏.‏
والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال‏:‏ خرافة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ في سورة النحل ‏(‏24‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏ اكتتبها في سورة الفرقان ‏(‏5‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيراً إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏الأوَّلين‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏، وهم الذين روي أن ابنَ أبي بكر ذكرَهم حين قال‏:‏ فأين عبد الله بن جُدعان، وأيْنَ عثمان بن عمرو، ومشائخ قريش كما تقدم آنفاً‏.‏ واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة‏.‏
وتعريف ‏{‏القول‏}‏ تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية ‏{‏قال فالحق والحق أقول لأملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84، 85‏]‏، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏أفمن حقّ عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏، فإن الكلمة قول، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏ وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية‏.‏
وإقحام ‏{‏كانوا خاسرين‏}‏ دون أن يقال‏:‏ إنهم خاسرون، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه‏.‏
وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزاً ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسراً، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في البقرة ‏(‏16‏)‏‏.‏
وإيراد فعل الكون بقوله‏:‏ كانوا خاسرين‏}‏ دون الاقتصار على ‏{‏خاسرين‏}‏ لأن ‏(‏كان‏)‏ تدل على أن الخسارة متمكنة منهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏
عطف على الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏
وتنوين ‏(‏كلَ‏)‏ تنوين عوض عما تضاف إليه ‏{‏كل‏}‏ وهو مقدر يعلم من السياق، أي ولكل الفريقين المؤمن البار بوالديه والكافر الجامع بين الكفر والعقوق درجات، أي مراتب من التفاوت في الخبر بالنسبة لأهل جزاء الخير وهم المؤمنون، ودركات في الشر لأهل الكفر‏.‏ والتعبير عن تلك المراتب بالدرجات تغليب لأن الدرجة مَرتَبَة في العلو وهو علوّ اعتباري إنما يناسب مراتب الخير وأما المرتبة السفلى فهي الدركة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدَّرَك الأسفل من النار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ووجه التغليظ التنويه بشأن أهل الخير‏.‏
و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مما عملوا‏}‏ تبعيضية‏.‏ والمراد ب ‏{‏ما عملوا‏}‏ جَزاء ما عملوا فيقدر مضاف‏.‏ والدرجات‏:‏ مراتب الأعمال في الخير وضده التي يكون الجزاء على وفقها‏.‏ ويجوز كون ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، وما عملوا نفس العمل فلا يقدر مضاف والدرجات هي مراتب الجزاء التي تكون على حسب الأعمال، ومقادير ذلك لا يعلمها إلا الله وهي تتفاوت بالكثرة وبالسبق وبالخصوص، فالذي قال لوالديه أف لكما وأنكر البعث ثم أسلم بعد ذلك قد يكون هو دون درجة الذي بادر بالإسلام وبِرّ والديه وما يعقب إسلامَه من العمل الصالح‏.‏ وكل ذلك على حسب الدرجات‏.‏
وأشار إلى أن جزاء تلك الدرجات كلها بقدر يعلمه الله، وقوله بعده‏:‏ ‏{‏ولنوفيهم أعمالهم‏}‏ هو علة لمحذوف دل عليه الكلام وتقديره‏:‏ قدرنا جزاءهم على مقادير درجاتهم لنوفيهم جزاء أعمالهم، أي نجازيهم تاماً وافياً لا غبن فيه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولنوفيهم‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام عن ابن عَامر ويعقوب بالتحتية مراداً به العَود إلى الله تعالى لأنه معلوم من المقام‏.‏
وجملة ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ احتراس منظور فيه إلى توفية أحد الفريقين وهو الفريق المستحق للعقوبة لئلا يُحسب أن التوفية بالنسبة إليهم أن يكون الجزاء أشد مما تقتضيه أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏
انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين‏.‏ فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏والذي قال لوالديه أفّ لكما‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ الآيات‏.‏
والكلام مقول قول محذوف تقديره‏:‏ ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار ‏{‏أذهبتم طيباتكم‏}‏، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى ‏{‏لا يظلمون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 19‏]‏، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين‏.‏ وعن الأشعري‏:‏ أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا، وتُؤُوِّل بأنه خلاف لفظي، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة‏.‏ ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الرّبوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بِعدل الإلهية والحكمة‏.‏
وانتصب ‏{‏يوم يعرض‏}‏ على الظرفية لفعل القول المحذوف‏.‏ والعرض تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ في سورة هود ‏(‏18‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏النار يُعرضون عليها‏}‏ في سورة غافر ‏(‏46‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وتراهم يعرضون عليها‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏45‏)‏‏.‏
وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له‏.‏ والذهاب‏:‏ المبارحة‏.‏ والمعنى‏:‏ استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله‏:‏ فاليوم تجزون عذاب الهون‏}‏‏.‏
فالفاء فصيحة‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيّئ أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب‏.‏ وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه‏.‏
وروى الحسن عن الأحنف بن قيْس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً، وصلائق وصِنَاباً وكَراكر وأسْنِمَة ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال‏:‏ ‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏}‏‏.‏ وإنما أراد عمر بذلك الخشيةَ من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه‏.‏ وذكر ابن عطية‏:‏ أن عمر حين دخل الشام قدّم إليه خالد بن الوليد طعاماً طيباً‏.‏ فقال عمر‏:‏ هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير‏؟‏ فقال خالد‏:‏ لهم الجنة، فبكى عمر‏.‏ وقال‏:‏ لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيداً‏.‏
والهُون‏:‏ الهوان وهو الذلّ وإضافة ‏{‏عذاب‏}‏ إلى ‏{‏الهون‏}‏ مع إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم تستكبرون‏}‏ للسببية وهي متعلقة بفعل ‏{‏تجزون‏}‏‏.‏
والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد‏.‏
والفسوق‏:‏ الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين‏.‏ والفسوق‏:‏ هنا الشرك‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أذهبتم‏}‏ بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏أأذهبتم‏}‏ بهمزتين على الاستفهام التوبيخي‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏
سيقت قصة هود وقومه مساق الموعظة للمشركين الذين كذبوا بالقرآن كما أخبر الله عنهم من أول هذه السورة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏ مع ما أعقبت به من الحجج المتقدمة من قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الذي يقابله قول هود ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بِدْعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ الذي يقابله قوله‏:‏ ‏{‏وقد خَلَت النذُر من بين يديه ومن خلفه‏}‏، ذلك كله بالموعظة بحال هود مع قومه‏.‏ وسيقت أيضاً مساق الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى عناد قومه بذكر مثال لحالهم مع رسولهم بحال عاد مع رسولهم‏.‏ ولها أيضاً موقع التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما تلقاه به قومه من العناد والبهتان لتكون موعظة وتسلية معا يأخذ كل منها ما يليق به‏.‏
ولا تجد كلمة أجمع للمعنيين مع كلمة ‏{‏اذكر‏}‏ لأنها تصلح لمعنى الذكر اللساني بأن يراد أن يذكر ذلك لقومه، ولمعنى الذُكر بالضم بأن يتذكر تلك الحالة في نفسه وإن كانت تقدمت له وأمثالها لأن في التذكر مسلاة وإسوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ في سورة ص ‏(‏17‏)‏‏.‏ وكلا المعنيين ناظر إلى قوله آنفاً قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏ فإنه إذا قال لهم ذلك تذكروا ما يعرفون من قصص الرسل مما قصّه عليهم القرآن من قبل وتذكر هو لا محالة أحوال رسل كثيرين ثم جاءت قصة هود مثالاً لذلك‏.‏ ومشركو مكة إذا تذكروا في حالهم وحال عاد وجدوا الحالين متماثلين فيجدر بهم أن يخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم‏.‏
والاقتصار على ذكر عاد لأنهم أول الأمم العربية الذين جاءهم رسول بعد رسالة نوح العامة وقد كانت رسالة هود ورسالة صالح قبل رسالة إبراهيم عليهم السلام، وتأتي بعد ذكر قصتهم إشارة إجمالية إلى أمم أخرى من العرب كذبوا الرسل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏
وأخو عاد هو هود وتقدمت ترجمته في سورة الأعراف‏.‏ وعبّر عنه هنا بوصفه دون اسمه العلَم لأن المراد بالذكر هنا ذكر التمثيل والموعظة لقريش بأنهم أمثال عاد في الإعراض عن دعوة رسول من أمتهم‏.‏
والأخ يراد به المشارك في نسب القبيلة، يقولون‏:‏ يا أخا بني فلان، ويا أخا العرب، وهو المراد هنا وقد يراد بها الملازم والمصاحب، يقال‏:‏ أخو الحرب وأخو عزمات‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة «أنت أخونا ومولانا» وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 160، 161‏]‏‏.‏
ولم يكن لوط من نسب قومه أهل سَدُوم‏.‏
و ‏{‏إذْ أنذر‏}‏ اسم للزمن الماضي، وهي هنا نصب على البدل من أخا عاد، أي اذكر زمن إنذاره قومه فهي بدل اشتمال‏.‏ وذكر الإنذار هنا دون الدعوة أو الارسال لمناسبة تمثيل حال قوم هود بحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم فهو ناظر إلى قوله تعالى في أول السورة ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏‏.‏
والأحقاف‏:‏ جمع حِقْف بكسر فسكون، وهو الرمل العظيم المستطيل وكانت هذه البلاد المسماة بالأحقاف منازل عاد وكانت مشرفة على البحر بين عمان وعدن‏.‏ وفي منتهى الأحقاف أرض حضرموت، وتقدم ذكر عاد عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هودا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏65‏)‏‏.‏
وجملة وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏أنذر‏}‏ وجملة ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ المفسرة بها‏.‏ وقد فسرت جملة ‏{‏أنذر‏}‏ بجملة ‏{‏لا تعبدوا إلا الله‏}‏ الخ‏.‏
و ‏(‏أن‏)‏ تفسيرية لأن ‏{‏أنذر‏}‏ فيه معنى القول دون حروفه‏.‏
ومعنى ‏{‏خلت النذر‏}‏ سبقت النذر أي نذر رسل آخرين‏.‏ والنذر‏:‏ جمع نِذارة بكسر النون‏.‏ و‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ بمعنى قريباً من زمانه وبعيداً عنه، ف ‏{‏مِن بين يديه‏}‏ معناه القرب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏، أي قبل العذاب قريباً منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقروناً بين ذلك كثيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏، وقال ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وأما الذي من خلفه فنوح فقد قال هود لقومه ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، وهذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها فهو ناظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بِدْعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك‏.‏
وجملة ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ تعليل للنهي في قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏، أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم بسبب شرككم‏.‏ وعذاب اليوم العظيم يحتمل الوعيد بعذاب يوم القيامة وبعذاب يوم الاستئصال في الدنيا، وهو الذي عجّل لهم‏.‏ ووصف اليوم بالعظم باعتبار ما يحدث فيه من الأحداث العظيمة، فالوصف مجاز عقلي‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
جواب عن قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏، ولذلك جاء فعل ‏{‏قالوا‏}‏ مفصولاً على طريق المحاورة‏.‏
والاستفهام إنكار‏.‏ والمجيء مستعار للقصد بطلب أمر عظيم، شبه طروّ الدعوة بعد أن لم يكن يدعو بها بمجيء جاء لم يكن في ذلك المكان‏.‏
والأفك بفتح الهمزة‏:‏ الصرَّف، وأرادوا به معنى الترك، أي لنترك عبادة آلهتنا‏.‏ وهذا الإنكار تعريض بالتكذيب فلذلك فرع عليه ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏ فصرحوا بتكذيبه بطريق المفهوم‏.‏
والمعنى‏:‏ ائتنا بالعذاب الذي تَعِدنا به، أي عذاب اليوم العظيم، وإنما صرَفوا مراد هود بالعذاب إلى خصوص عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث وبهذا يؤذن قوله بعده ‏{‏فلما رأوه عارضاً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وأرادوا‏:‏ ائتنا به الآن لأن المقام مقام تكذيب بأن عبادة آلهتهم تجر لهم العذاب‏.‏
و ‏{‏من الصادقين‏}‏ أبلغ في الوصف بالصدق من أن يقال‏:‏ إن كنت صادقاً، كما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏34‏)‏، أي إن كنت في قولك هذا من الذين صدَقوا، أي فإن لم تأت به فما أنت بصادق فيه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
لما جعلوا قولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ فصْلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم، كان الأمر في قولهم ‏{‏فأتنا‏}‏ مقتضياً الفور، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم‏.‏
وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب أن يدعو الله أن يعجّله، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضياً أن بينه وبين الله تعاوناً وتطاوعاً، أي فلا تتأخر عن الإتيان به‏.‏
وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فلذلك كان جوابه أنْ قال‏:‏ ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد، فالتعريف في ‏{‏العلم‏}‏ للاستغراق العرفي، أي علم المغيبات، أو التعريف عوض عن المضاف إليه، أي وقت العذاب‏.‏ صلى الله عليه وسلم وهذا الجواب يجري على جميع الاحتمالات في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏فأتِنا بما تَعِدُنا‏}‏ لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته‏.‏
والحصر هنا حقيقي كقوله‏:‏ ‏{‏لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم رداً على قولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏‏.‏
و ‏{‏عند‏}‏ هنا مجاز في الانفراد بالعلم، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره‏.‏
ومعنى ‏{‏وأبلغكم ما أرسلت به‏}‏ أنه بُعث مبلغاً أمر الله وإنذاره ولم يُبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها فِيمَ أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42 45‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏أبلغكم ما أرسلت به‏}‏ جملة معترضة بين جملة ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ وجملة ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏‏.‏
وموقع الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ أنه عن قوله‏:‏ ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحِكمة إرساله الرسل، فتحسبون أن الرسل وسائط لإنهاء اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب، فمناط الاستدراك هو معمول خبر ‏(‏لكنّ‏)‏ وهو ‏{‏قوماً تجهلون‏}‏، والتقدير‏:‏ ولكنكم قوم يَجهلون، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالاً لطائرهم، فجعل جهلهم مظنوناً له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها‏.‏ وإنما زيد ‏{‏قوماً‏}‏ ولم يقتصر على ‏{‏تجهلون‏}‏ للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقوّمات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه ‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏وأبلّغكم‏}‏ بتشديد اللام‏.‏ وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام‏.‏ يقال‏:‏ بلّغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز، إذا جعله بالغاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏
‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوهُ عارض قالوا‏:‏ ‏{‏هذا عارض‏}‏ إلى آخره، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق، ويسمى التفريع فيه فصيحة، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هوداً وبين نزول العذاب بهم، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين، وأن هوداً فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها، وقد قيل إنه دفن في الحِجر حول الكعبة، وتقدم في سورة الحجر‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر‏.‏ وورد في سورة هود ‏(‏52‏)‏ قول هود لهم‏:‏ ‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُرسِل السماء عليكم مدراراً‏}‏ وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود‏.‏
وضمير رأوه‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما تعَدِنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏، وهو العذاب‏.‏ وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المَرئِي سبب العذاب وهو ما حملته الريح‏.‏ و‏{‏عارضاً‏}‏ حال منه، والعارض‏:‏ السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض‏.‏ وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح‏}‏‏.‏ و‏{‏مستقبل أوديتهم‏}‏ نعت ل ‏{‏عارضاً‏}‏‏.‏
والاستقبال‏:‏ التوجه قبالة الشيء، أي سائراً نحو أوديتهم‏.‏
وأودية‏:‏ جمع وادٍ جمعاً نادراً مثل نادٍ وأندية‏.‏ ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقاً أغلبياً لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه‏.‏ وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية‏:‏ لا ترفع صوتك على أبي الحكم سَيِّد أهل الوادي‏.‏ وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها‏.‏
والعارض في قولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏‏:‏ السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل، و‏{‏ممطرنا‏}‏ نعت ل ‏{‏عارض‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ مقول لقول محذوف، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظَهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك إلى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشرّ في ذلك السحاب‏.‏ قيل‏:‏ القائل هو بكر بن معاوية من قوم عاد‏.‏ قال لما رآه‏:‏ «إني لأَرى سحاباً مرمداً لا تدع من عاد أحداً» لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضاً غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حلّ العذاب بهم، أو كان قد آمن من قبل فنجّاه الله من العذاب بخارق عادة‏.‏ وإنّما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعاً لهم‏.‏ وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب‏:‏
دعاني الهوى من أهل وُدِّي وجِيرتي *** بذي الشَّيِّطَيْن فالتفتُّ ورائيا
فتخيل داعياً يدعوه فالتفت، وهذا من التخيّل في الكلام البليغ‏.‏
وجعل العذاب مظروفاً في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفيّة أشدّ ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب‏.‏ والتدمير‏:‏ الإهلاك، وقد تقدم‏.‏
و ‏{‏كل شيء‏}‏ مستعمل في كثرة الأشياء فإن ‏(‏كُلاَّ‏)‏ تأتي كثيراً في كلامهم بمعنى الكثرة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ في سورة يونس ‏(‏97‏)‏‏.‏
والمعنى‏:‏ تدمر ما من شأنه أن تُدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار‏.‏
وقوله‏:‏ بأمر ربها‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تدمر‏}‏‏.‏ وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية‏.‏ وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين‏.‏
‏{‏فأصبحوا‏}‏ أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار‏.‏ وليس المراد‏:‏ أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لا ترى‏}‏ لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة‏.‏
والمراد بالمساكن‏:‏ آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ولقد مكناهم فيما إن مكَّنَّاكم فيه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏لا ترى‏}‏ بالمثناة الفوقية مبنياً للفاعل وبنصب ‏{‏مساكنهم‏}‏ وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنياً للمجهول وبرفع ‏{‏مساكنُهم‏}‏ وأجرى على الجمع صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب ‏{‏إلاّ‏}‏ وهي فاصلة بينه وبين الفعل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم‏.‏ ولإفادة هذا الاستخلاص غُيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم‏.‏ وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب‏.‏
والتمكين‏:‏ إعطاء المَكِنة ‏(‏بفتح الميم وكسر الكاف‏)‏ وهي القدرة والقوة‏.‏ يقال‏:‏ مكُن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه‏.‏ ويقال‏:‏ مكَّنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى‏:‏ ‏{‏مكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏6‏)‏‏.‏
فالمعنى‏:‏ جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكَّنَّاهم في الأرض‏}‏ في أول الأنعام ‏(‏6‏)‏ فضمّ إليه ما هنا‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ من قوله فيما‏}‏ موصولة‏.‏ و‏{‏إن‏}‏ نافية، أي في الذي ما مَكَّناكم فيه‏.‏
ومعنى مكناكم فيه‏:‏ مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات، فلذلك حسن تعدية فعل ‏{‏مكناكم‏}‏ بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مُكنت منها عاد‏.‏ ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ النافية مع أنَّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب ‏(‏ما‏)‏ النافية قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما ‏(‏ما‏)‏ الموصولة و‏(‏ما‏)‏ النافية وإن كان معناهما مختلفاً، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في ‏(‏مهما‏)‏، فإن أصلها‏:‏ ‏(‏ما ما‏)‏ مركبة من ‏(‏ما‏)‏ الظرفية و‏(‏ما‏)‏ الزائدة لإفادة الشرط مثل ‏(‏أينما‏)‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ ولقد أغَثَّ أبو الطيب في قوله‏:‏
لعمرك مَا مَا بَان منك لِضَاربٍ *** وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي‏:‏
وَصَاليات كَكَمَا يُؤثفَيْنْ *** ولا يغتفر مثله للمولدين‏.‏
فأما إذا كانت ‏(‏ما‏)‏ نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيداً لفظياً، فالإتيان بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ أحرى كما في قول النابغة‏:‏
رماد ككحل العين ما إنْ أبينُه *** ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
وفائدة قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة‏}‏ أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أي يخلّ بإدراكهم الحق لولا العناد، وهذا تعريض بمشركي قريش، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حُرموه، والحالة متحدة والسبب متّحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك‏.‏ وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏46‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم مَن يملك السمع والأبصار‏}‏ في سورة يونس ‏(‏31‏)‏‏.‏
ومِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون ‏{‏شيء‏}‏ المجرور ب ‏{‏من‏}‏ الزائدة نائباً عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء، وحق ‏{‏شيء‏}‏ النصب وإنما جُرّ بدخول حرف الجر الزائد‏.‏
و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقاً نفيُه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة ‏{‏إذْ‏}‏ إلى الجملة بعدها، عُلم أن لذلك الزمان تأثيراً في نفي الإغناء‏.‏
وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه‏.‏ وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جَمَعت حقيقة الآيات بالمعنيين‏.‏
وحاق بهم‏:‏ أحاط بهم ‏{‏وما كانوا به يستهزئون‏}‏ العذاب، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏
أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيداً في بابه فقد أهلك الله أقواماً آخرين من مجاوريهم تُماثل أحوالهم أحوال المشركين، وذكَّرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبَأ وقوم تبع، والجملة معطوفة على جملة ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ الخ‏.‏ وكنِّي عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنّى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله‏:‏
فشككت بالرمح الأصم ثيابه *** ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهّر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدّل عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد‏.‏ وكنّي به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحاً‏.‏ ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية، وتارة بالتهديد على الفعل، وأخرى بالوعيد، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها‏.‏ وجملة ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ مستأنفة لإنشاء الترجّي وموقعها موقع المفعول لأجله، أي رجاء رجوعهم‏.‏
والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عمّا هم فيه من الشرك والعناد، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازاً في الطلب، أي توسعة لهم وإمهالاً ليتدبروا ويتّعظوا‏.‏ وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم من آيات إعجاز القرآن والكلام على ‏(‏لعل‏)‏ في كلام الله تقدم في أوائل البقرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏
تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصَّل، وبعذاب أهل القرى المُجمل، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهيُّ أسبابَ المنهيِّ عنه كقولهم لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أرينَّك هنا‏.‏ والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنِصرِ والدفع وذلك مستعمل تعريضاً بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماماً للموعظة والتوبيخخِ بطريق التنظير وقياس التمثيل، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏بل ضلّوا عنهم‏}‏ لأن التوبيخ آل إلى معنى نفي النصر‏.‏
وحرف ‏{‏لولا‏}‏ إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحْضيض، أي تحْضيض فاعل الفعل الذي بعد ‏{‏لولا‏}‏ على تحصيل ذلك الفعل، فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت ‏{‏لولا‏}‏ دالة على التوبيخ ونحو إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره‏.‏
والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطإ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً، كقول عبدة بن الطّبيب‏:‏
إنَّ الذين تُرَوْنَهُم إخوانكم *** يَشفِي غَليل صدورهم أن تُصْرَعوا
وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جمع العقلاء عليهم جرياً على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة‏.‏
و ‏{‏قُرباناً‏}‏ مصدر بوزن غُفران، منصوبٌ على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليُقربونا إلى الله زُلفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا المصدر معترض بين ‏{‏اتخذوا‏}‏ ومفعوله، و‏{‏من دون الله‏}‏ يتعلق ب ‏{‏اتخذوا‏}‏‏.‏ و‏{‏دون‏}‏ بمعنى المباعدة، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشبيعها‏.‏
و ‏{‏بل‏}‏ بمعنى لكن إضراباً واستدراكاً بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قَربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب، بل ضلُّوا عنهم، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم‏.‏
والضلال أصله‏:‏ عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم، وهذا نظير التهكم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل ادعوا شركاءَكم فدَعوْهُم فلم يستجيبوا لهم‏}‏ في سورة القصص ‏(‏64‏)‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ وذلك إفكهم‏}‏ فهو فذلكة لجملة ‏{‏فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله‏}‏ الخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله‏:‏ ‏{‏ضلوا عنهم‏}‏‏.‏ والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة‏}‏ من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله، والإفك بكسر الهمزة‏.‏
والافتراء‏:‏ نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فَرِي الجلد، فالافتراء الكذب الذي يقوله، فعطف ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ على ‏{‏إفكهم‏}‏ عطف الأخص على الأعم، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل فهو إفك‏.‏ وأما زعمهم أنها تقرِّبهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه‏.‏
وإقحام فعل ‏{‏كانوا‏}‏ للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم‏.‏ ومجيء ‏{‏يفترون‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏
‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏
هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله‏.‏
والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم‏.‏ ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏‏.‏
فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا ‏{‏إذْ صرفنا‏}‏ بفعل يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ والتقدير‏:‏ واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن‏.‏ وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون‏.‏
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه‏.‏ ففي «جامع الترمذي» عن ابن عباس قال‏:‏ «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم، فقالوا‏:‏ إنا سمعنا قرآناً عجباً»‏.‏ وفي «الصحيح» عن ابن مسعود «افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال ‏"‏ أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن ‏"‏
وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏130‏)‏‏.‏
والصرف‏:‏ البعث‏.‏ والنفر‏:‏ عدد من الناس دون العشرين‏.‏ وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله‏:‏ من الجن‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏يستمعون القرآن‏}‏ في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو ‏{‏صرفنا‏}‏ كان التقدير‏:‏ يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله‏.‏
فالمعنى‏:‏ صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن‏.‏
وضمير ‏{‏حضروه‏}‏ عائد إلى القرآن، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏أنصتوا‏}‏ أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء‏.‏ وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «استنصت الناس»، أي قبل أن يبدأ في خطبته‏.‏
وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت ‏"‏، أي قالوا كلُّهم‏:‏ أنصتوا، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم‏.‏
و ‏{‏قُضِي‏}‏ مِبني للنائب‏.‏ والضمير للقرآن بتقدير مضاف، أي قضيت قراءته، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ‏(‏ولَّوا‏)‏، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب ‏{‏قومهم‏}‏ على طريقة المجاز، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن‏.‏
والمنذر‏:‏ المخبر بخبر مخيف‏.‏
ومعنى ‏{‏ولوا إلى قومهم منذرين‏}‏ رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن‏.‏ والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن‏.‏ ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص‏.‏
وجملة ‏{‏قالوا يا قومنا‏}‏ إلى آخرها مبينة لقوله‏:‏ ‏{‏منذرين‏}‏‏.‏ وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس، وكذلك فعل ‏{‏قالوا‏}‏ مجاز عن الإفادة، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معانيَ ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتاباً تمهيداً للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرفَ المخاطبون لما بعد ذلك‏.‏
ووصْف الكتاب بأنه ‏{‏أنزل من بعد موسى‏}‏ دون‏:‏ أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن «التوراة» آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل «زبور داود» و«إنجيل عيسى»، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد «التوراة» فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه «التوراة»‏.‏
و ‏{‏ما بين يديه‏}‏‏:‏ ما سبقه من الأديان الحق‏.‏ ومعنى ‏{‏يهدي إلى الحق‏}‏‏:‏ يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به‏.‏
والمراد بالطريق المستقيم‏:‏ ما يسلك من الأعمال والمعاملة‏.‏ وما يترتب على ذلك من الجزاء، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره‏.‏ ويجوز أن يراد ب ‏{‏الحق‏}‏ ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق‏.‏
وإعادتهم نداءَ قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ إلى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا، ولأن اختلاف الأغراض وتجدّد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله‏:‏ «أيها الناس» كما وقع في خطبة حجة الوداع‏.‏ واستعير ‏{‏أجيبوا‏}‏ لمعنى‏:‏ اعملوا وتقلدوا تشبيهاً للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية‏:‏ ‏{‏إلا أن دعوتُكم فاستَجَبْتُم لي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه‏.‏
وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم‏:‏ ‏{‏إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى‏}‏‏.‏ وأطلق على القرآن ‏{‏داعي الله‏}‏ مجازاً لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه ‏{‏داعي الله‏}‏ على طريقة التّبعيّة وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏داعي الله‏}‏ محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن‏.‏ وعطف ‏{‏وآمنوا به‏}‏ على ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ عطف خاص على عام‏.‏
وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى ‏{‏الله‏}‏، أي وآمنوا بالله، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع ‏{‏يغفر لكم‏}‏ و‏{‏يُجرْكم من عذاب أليم‏}‏ أو عائد إلى داعي الله، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام‏.‏
و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ذنوبكم‏}‏ الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل ‏{‏أجيبوا‏}‏ باعتبار أنه مجاب بفعل ‏{‏يغفر‏}‏، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازاً في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه‏.‏ ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة ‏{‏من‏}‏ في الإثبات كما تزاد في النفي‏.‏ وأما ‏{‏مِن‏}‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏ويُجِرْكُم من عذاب أليم‏}‏ فهي لتعدية فعل ‏{‏يجركم‏}‏ لأنه يقال‏:‏ أجاره من ظلم فلان، بمعنى منعه وأبعده‏.‏
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكاً للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس‏.‏
وهؤلاء قد نبهوا إليها بصَرْفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبَّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، وقال في خطاب الشيطان ‏{‏لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ‏.‏ وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون‏.‏ واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة‏:‏ ليس للجن ثواب إلا أن يُجَاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك‏:‏ كما يجازَون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة‏.‏ وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أرَه لغيره‏.‏ وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالِم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها‏.‏
ومعنى ‏{‏فليس بمُعْجِزِ في الأرض‏}‏ أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه، فمفعول ‏{‏معجز‏}‏ مقدر دلّ عليه المضاف إليه في قوله‏:‏ ‏{‏داعي الله‏}‏ أي فليس بمعجز الله، وقال في سورة الجن ‏(‏12‏)‏ ‏{‏أن لن نُعْجِز الله في الأرض ولن نُعْجِزه هرباً‏}‏ وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه، أي ناجياً من قدرة الله عليه‏.‏ والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب‏.‏
والمقصود من قوله‏:‏ في الأرض‏}‏ تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معيّن‏.‏ و‏{‏ليس له من دونه أولياء‏}‏، أي لا نَصير ينصره على الله ويحميه منه، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله‏.‏ وذكر هذا تعريض للمشركين‏.‏
واسم الإشارة في ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ للتنبيه على أن مَن هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والظرفية المستفادة من ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال‏.‏ والمبين‏:‏ الواضح، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏
عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما أتَعِدَانِني أن أُخرج وقد خلت القرون من قبلي إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17، 18‏]‏ فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرّأهم على إحالة البعث، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏ الآية ويتصل بقوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما أتِعَدَانني أن أخرج إلى قوله‏:‏ أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏‏.‏
والواو عاطفة جملة الاستفهام، وهو استفهام إنكاري، والرؤية عِلمية‏.‏ واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات‏.‏
ووقعت ‏{‏أنّ‏}‏ مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي ‏{‏يروا‏}‏‏.‏ ودخلت الباء الزائدة على خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وهو مثبت وموكَّد، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي، لأن ‏{‏أن‏}‏ وقعت في خبر المنفي وهو ‏{‏أولم يروا‏}‏‏.‏
ووقع ‏{‏بلى‏}‏ جواباً عن الاستفهام الإنكاري‏.‏ ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب ‏(‏لم‏)‏ فيصير نفي النفي إثباتاً، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف ‏(‏نعم‏)‏ دون ‏{‏بلى‏}‏، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام‏.‏ وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطَى جميع أحكامه‏.‏
ومحل التعجيب هو خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه‏.‏ ووقوع الباء في خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وهو ‏{‏بقادر‏}‏ باعتبار أنه في حيّز النفي لأن العامل فيه وهو حرف ‏{‏أنّ‏}‏ وقع في موضع مفعولي فِعل ‏{‏يروا‏}‏ الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله، فقرن بالباء لأجل ذلك، وفي «الكشاف» «قال الزجاج لو قلت‏:‏ ما ظننت أن زيداً بقائم جاز، كأنه قيل‏:‏ أليس الله بقادر» اه‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور‏.‏
وأما موقع الجواب بحرف ‏{‏بلى‏}‏ فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غيرُ قادر على أن يحيي الموتى، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ تعليماً للمسلمين وتلقيناً لما يجيبونهم به‏.‏
وحرف ‏{‏بلى‏}‏ لما كان جواباً كان قائماً مقام جملة تقديرها‏:‏ هو قادر على أن يحيي الموتى‏.‏
وجملة ‏{‏ولم يَعْيَ بخلقهن‏}‏ عطف على جملة ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لم يعييَ‏}‏ مضارع عَيِيَ من باب رضي، ومصدره العِيّ بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام، ومنه العيّ في الكلام، أي عسر الإبَانِة‏.‏ وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه‏.‏
وكثير من أيمة اللغة يرون أن العِيّ يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة‏.‏ وعن الكسائي والأصمعي‏:‏ العِيُّ خاص بالعجز في الحيلة والرأي‏.‏ وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه، وفعله أعيا، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب «القاموس»‏.‏
وظاهر الأساس‏:‏ أن أعيا لا يكون إلا متعدياً، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث‏.‏
وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع‏.‏ قلت‏:‏ وهو راجع إلى تنازع العاملين‏.‏
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا ‏{‏ولم يَعْي‏}‏ دالاً على سَعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به‏.‏ وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين، لأنهم لم ينكروا ذلك، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحِكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات‏.‏ وعليه أيضاً تكون تعدية فعل ‏{‏يَعْيَ‏}‏ بالباء متعينة‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏بقادر‏}‏ بالموحدة بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وقرأه يعقوب ‏{‏يقدر‏}‏ بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة، وتكون جملة ‏{‏يقدر‏}‏ في محل خبر ‏{‏أنَّ‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنه على كل شيء قدير‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏بلى‏}‏ لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض‏.‏ وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏أنَّ‏)‏ لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء‏.‏
ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف ‏{‏قادر‏}‏، وفي القدرة على كل شيء بوصف ‏{‏قدير‏}‏ الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف ‏{‏قادر‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعاً بين الاستدلال والإنذار، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعاً بين ما رُدّ به في الدنيا من قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ وما يُردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم‏:‏ ‏{‏بلى وربنا‏}‏‏.‏ والجملة عطف على جملة ‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ الخ‏.‏ وأول الجملة المعطوفة قوله‏:‏ ‏{‏أليسَ هذا بالحق‏}‏ لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره‏:‏ ويُقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار‏.‏
وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوممِ لزيادة تقريره في الأذهان‏.‏
وذِكر ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا‏.‏ والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعده ‏{‏قال فذوقوا العذاب‏}‏‏.‏ والحق‏:‏ الثابت‏.‏
والاستفهام تقريري وتنديمٌ على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكَذب، وقالوا ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 59‏]‏، وإنما أقسموا على كلامهم بقسم ‏{‏وربّنا‏}‏ قسماً مستعملاً في الندامة والتغليظ لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تَحَنُّناً وتخضُّعاً‏.‏ وفرع على إقرارهم ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏‏.‏ والذوق مجاز في الإحساس‏.‏ والأمر مستعمل في الإهانة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏
‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏
‏{‏تَكْفُرُونَ * فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ‏}‏
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد‏.‏ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم‏.‏ ويجوز أن تكون الفاء فصيحة‏.‏ والتقدير‏:‏ فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا‏.‏
وأولوا العزم‏:‏ أصحاب العزم، أي المتصفون به‏.‏ والعزم‏:‏ نية محققة على عمل أو قول دون تردد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكّل على الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏‏.‏ وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه‏:‏
إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه *** ونكَّب عن ذكر العواقب جانباً
والعزم المحمود في الدين‏:‏ العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏ وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف، وعلى هذا تكون ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الرسل‏}‏ تبعيضية‏.‏ وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون ‏{‏مِن‏}‏ بيانية‏.‏
وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة‏.‏
وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة‏.‏
ومفعول ‏{‏تستعجل‏}‏ محذوف دل عليه المقام، تقديره‏:‏ العذاب أو الهلاك‏.‏ واللام في ‏{‏لهم‏}‏ لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير‏:‏ لا تستعجل لهلاكهم‏.‏ وجملة ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏ تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله، قال مرة بن عداء الفقعسي، ولعله أخذ قولَه من هذه الآية‏:‏
كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً *** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة‏.‏
و ‏{‏من نهار‏}‏ وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله‏.‏ فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء ‏"‏، وأشار بيده يقللها، والساعة جزء من الزمن‏.‏
‏{‏نَّهَارٍ‏}‏‏.‏
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمِنهم وكافِرهم ليعلم كلٌّ حَظّه من ذلك، فقوله‏:‏ ‏{‏بلاغ‏}‏ خبر مبتدإ محذوف تقديره‏:‏ هذا بلاغ، على طريقة العنوان والطالع نحوَ ما يُكتب في أعلى الظهير‏:‏ «ظهير من أمير المؤمنين»، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو‏:‏ «إيداع وصية»، أو ما يكتب في التآليف نحو ما في «الموطأ» «وقوت الصلاة»‏.‏ ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة‏:‏ «إعلان»‏.‏
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 52‏]‏، وقول سيبويه‏:‏ «هذا باب علم ما الكلم من العربية»، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 106‏]‏‏.‏
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، ‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏‏.‏
‏{‏بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم‏}‏‏.‏
فرع على جملة ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يُوعدون‏}‏ إلى ‏{‏من نهار‏}‏، أي فلا يصيبُ العذاب إلا المشركين أمثالهم‏.‏ والاستفهام مستعمل في النفي، ولذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون، وذلك من قوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنتُ بِدْعاً من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12، 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏
والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏، وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة‏:‏ وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين‏.‏
وتعريف ‏{‏القوم‏}‏ تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل‏.‏
والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏فهل يُهلَك‏}‏ على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم‏.‏ ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون‏}‏ الآية، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك‏.‏
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك‏.‏ وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire