

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}
{الحاقة} صيغة فاعِل من: حقّ الشِيء إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الحاقة} وصفاً لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قُطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فَعْلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضَربة لاَزِب. فالحاقة إذْن بمعنى الحق كما يقال «مِن حاقِّ كذا»، أي من حقه.
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي، أي حادثة تحق أو حَقٌّ يحق.
ويجوز أن يكون المراد بها لَقباً ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك «يوم القيامة» لأنه يوم محقق وقوعُه، كما قال تعالى: {وتنذِر يوم الجمع لا ريب فيه} [الشورى: 7]، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها، قال تعالى {ولا تُظلمون فتيلاً} [النساء: 49] وقال: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يَره} [الزلزلة: 78].
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإِيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.
فيجوز أيضاً أن تكون {الحاقة} وصفاً لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديداً بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرَّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفاً للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {كذلك حَقَّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} [غافر: 6]، أو التي حقّت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين} [الصافات: 171174].
ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفاً ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} [الأنبياء: 97]، أو وصفاً للقرآن كقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29] وقال: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق} [الأحقاف: 30].
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.
و {الحاقّة} مبتدأ و{مَا} مبتدأ ثان. و{الحاقّة} المذكورة ثانياً خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
و {ما} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدْري ما الحاقة؟ أي ما هي الحاقة، أيْ شيءٌ عظيم الحاقّةُ.
وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبراً عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإِظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى: {وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين} [الواقعة: 27].
وجملة {ومَا أدراك ما الحاقّة} يجوز أن تكون معترضة بين جملة {ما الحاقّة} وجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4]، والواو اعتراضية.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {ما الحاقة.
ومَا} الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنَّى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقّة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يُتساءل عن فهمه.
والخطابُ في قوله: {وما أدراك} لغير معيَّن. والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كُنْهَهُ.
وتركيب «مَا أدراك كذا» مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلمَ وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو (دَرى) مفعولاً أول بسبب التعدية. وقد علق فعل {أدراك} عن نصب مفعولين ب {ما} الاستفهامية الثانية في قوله: {مَا الحاقّة.} وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركْتُ الحاقّة أمراً عظيماً، ثم صار أدْركني فلان الحاقّة أمراً عظيماً.
و {ما} الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكارياً، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.
والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.
هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان.
و {مَا} الثالثة علقت فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين.
وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.
واستعمال {ما أدراك} غير استعمال {ما يدريك في قوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} [الأحزاب: 63] وقوله: {وما يدريك لعل الساعة قريب} في سورة الشورى (17).
روي عن ابن عباس: كل شيء من القرآن من قوله: ما أدراك} فقد أدرَاه وكل شيء من قوله: {وما يدريك} فقد طُوي عنه». وقد روي هذا أيضاً عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بين سلاّم فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول {ما أدراك} محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول {ما يدريك} غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإِنكار وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب: كل موضع ذُكر في القرآن {وما أدراك} فقد عقب ببيانه نحو {وما أدراك ماهيه نار حامية} [القارعة: 10 11]، {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 2 3]، {ثم ما أدراك ما يوم الدين يومَ لا تملك نفس لنفس شيئاً} [الانفطار: 18 19]، {وما أدراك ما الحاقّة كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 3 4]، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
ولم أرَ من اللغويين من وفَّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلاً.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}
إن جعلتَ قوله: {ومَا أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3] نهايةَ كلام فموقع قوله: {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وما اتصل به استئناف، وهو تذكير بما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضاً بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليهم مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله {الحاقّة} [الحاقة: 1] الخ توطئة له وتمهيداً لهذه الموعظة العظيمة استرهاباً لنفوس السامعين.
وإن جعلتَ الكلام متصلاً بجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وعيّنت لفظ {الحاقّة} [الحاقة: 1] ليوم القيامة وكانت هذه الجملة خبراً ثالثاً عن {الحاقّة} [الحاقة: 1].
والمعنى: الحاقة كذبت بها ثمود وعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير {الحاقّة} [الحاقة: 1] فيقال: كذبت ثمودُ وعادٌ بها، فعدل إلى إظهار اسم (القارعة) لأن (القارعة) مرادفةالحاقة في أحد محملي لفظ {الحاقة} [الحاقة: 1]، وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله: {وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3].
و (القارعة) مراد منها ما أريد ب {الحاقّة} [الحاقة: 1].
وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالاً وجنوباً.
والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضرباً قوياً، يقال: قرع البعير. وقالوا: العبد يقرع بالعصا، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارعَ لما فيها من زجر الناس عن أعمال. وفي المقامة الأولى «ويقْرَع الأسماعَ بزواجر وعِظه»، ويقال للتوبيخ تقريع، وفي المثل «لا تُقرع له العصا ولا يُقلقل له الحصا»، ومورده في عامر بن الظرب العَدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت.
ف (القارعة) هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثاً ليوافق وصفَه المذكور نحو الساعة أو القيامة. القارعةِ: أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع، أو التي تصيب الموجودات بالقَرع مثل دك الجبال، وخسف الأرض، وطَمس النجوم، وكسوف الشمس كسوفاً لا انجلاء له، فشبه ذلك بالقرع.
ووصف {الساعة} [الأعراف: 187] أو {القيامة} [البقرة: 85] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأوُّللٍ لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى: {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 14]. وهي ما سيأتي بيانها في قوله: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدة} الآيات [الحاقة: 13].
وجيء في الخبر عن هاتين الأمتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعتا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)}
ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصيحة. والطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نَزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم، لأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: 52]، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضاً.
وإنما سميت الصاعقةُ أو الصيحة {بالطاغية} لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش.
والباء في قول {بالطاغية} للاستعانة.
و {ثمود}: أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثَمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب على الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} في سورة الأعراف (73).
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)}
الصرصر: الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات} في سورة فصلت (16). والعاتية: الشديدة العَصف، وأصل العُتُوِّ والعُتِيِّ: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوزِ الحدَّ المعتادَ تشبيهاً بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.
والتسخير: الغصْب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكويناً متجاوزاً المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه.
وعلق به عليهم} لأنه ضمن معنى أرسلها.
و (حسوم) يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قُعود جمع قاعد، وشهود جمع شاهد، غُلِّب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عدداً إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان:
أحدها أن يكون المعنى: يتابع بعضها بعضاً، أي لا فصل بينها كما يقال: صيام شهرين متتابعين، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرَّق بينَ بينِهمُ زمانٌ *** تتابع فيه أعوام حُسُومٌ
قيل: والحسوم مشتق من حسْم الداءِ بالمكواة إذ يكوى ويُتابع الكي أيّاماً، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإِسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن.
المعنى الثاني: أن يكون من الحَسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف حُساماً لأنه يقطع، أي حَسَمَتْهم فلم تُبققِ منهم أحداً، وعلى هذين المعنيين فهو صفة ل {سبع ليال وثمانية أيّام} أو حال منها.
المعنى الثالث: أن يكون حسوم مصدراً كالشُكور والدخُول فينتصب على المفعول لأجله وعاملُه {سَخَّرها،} أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم.
وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه.
وقد سمّى أصحاب المِيقات من المسلمين أياماً ثمانية منصَّفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالباً، أيامَ الحُسوم على وجه التشبيه، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح، وهو من الأوهام، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام.
ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها: أيامُ العَجُوز أو العَجُز، وهي آخر فصل الشتاء ويُعدها العرب خمسة أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة، وشتان بينها وبين حُسوم عاد في العِدة والمُدة.
وفرع على {سخرها عليهم} أنهم صاروا صَرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضراً تلك الحالة.
والخطاب في قوله: {فترى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راءٍ، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويُتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مُهْلَكهم أو شَاهَدَهم بعدَه، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية، فيعتبر خطاباً فرضياً فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين، وقريب منه قوله تعالى:
{وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل} [الشورى: 45]، وقوله: {وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيماً وملكاً كبيراً} [الإنسان: 20]، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي.
والتعريف في {القومَ} للعهد الذِّكري، والقوم: القبيلة وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة.
وضمير {فيها} عائد إلى الليالي والأيام.
و {صرعى}: جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتاً.
وشُبهوا بأعجاز نخل، أي أصول النخل، وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها.
ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسُقُف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عَمَداً وأساطين.
والنخل: اسمُ جمععِ نخلة.
والخاوي: الخالي مما كان مالئاً له وحالاً فيه.
وقوله: {خاويةٍ} مجرور باتفاق القراء، فتعين أن يكون صفة {نخل.
ووصفُ نخل} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم «النخل» على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة، ففيه استخدام. والمعنى: خالية من الناس، وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية، فإن لهذا الوصف وقعاً في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها، ومنه قول كعب بن زهير:
لَذاكَ أهْيَبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيلَ إنَّك مَنسُوبٌ ومَسْؤول
مِن خادرٍ من لُيُوثثِ الأسْدِ مسكَنه *** من بَطْن عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غِيل
الأبيات الأربعة، وقول عنترة:
فتركتُه جَزَر السباععِ يَنُشْنَه *** يَقضِمْنَ حُسنَ بنانِه والمعصم
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}
تفريع عَلى مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكة لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى وثموداً فما أبقى} [النجم: 5051] أي فما أبقاهما.
والخطاب لغير معين.
والباقية: إما اسم فاعل على بابه، والهاء: إما للتأنيث بتأويل نفس، أي فما ترى منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة، أي ما ترى فرقة منهم باقية.
ويجوز أن تكون {باقية} مصدراً على وزن فَاعلة مثل ما تقدم في الحاقة، أي فما ترى لهم بقاء، أي هلكوا عن بكرة أبيهم.
واللام في قوله: {لهم} يجوز أن تجعل لشبه الملك، أي باقية لأجل النفع.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى (مِن) مثل قولهم: سمعت له صراخاً، وقول الأعشى:
تسمَع للحلي وسواساً إذا انصرفت *** كما استعانَ بريح عِشْرقٌ زَجِلُ
وقول جرير:
ونحن لكم يومَ القيامة أفضل *** أي ونحن منكم أفضل.
ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإِضافة إذا لم تكن الإِضافة على معنى (من). والأصل: فهل ترى باقيتَهم، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب (مِن) الزائدة لزم تنكير مدخول (من) الزائدة فأعطي حقُّ معنى الإِضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا} [الإسراء: 5] فإن أصله: عبادنا.
وموقع المجرور باللام في موقع النعت ل {باقية} قُدم عليها فصار حالاً.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)}
عطف على جملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4].
وقد جُمع في الذكر هنا عدةُ أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالاً وتصريحاً، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكراً عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم، فحصل في الكلام احتباك.
والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو (مِنفطاح الثاني). وإنما أسند الخِطْء إليه لأن موسى أرسل إليه ليُطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات: 17] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالاً لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.
وشمل قوله: {ومَن قبله} أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
وقرأ الجمهور {ومن قَبله} بفتح القاف وسكون الباء. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن كان من جهته، أي قومه وأتباعه.
و {المؤتفكات}: قُرى لوط الثلاثُ، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قُراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] وقال: {ولقد أتوا على القرية التي أُمْطِرت مطَر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40].
ووصفت قرى قوم لوط ب {المؤتفكات} جمع مؤتفكة اسم فاعل ائتفك مُطاوع أفَكَه، إذا قلَبَه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب، أي خسف بها قال تعالى: {جعلنا عاليها سافلها} [هود: 82].
والخاطئة: إمّا مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدراً قطع النظر عن المرة، كما تقدم في قوله: {الحاقة} [الحاقة: 1] فهو مصدر خَطِئ، إذا أذنب. والذنب: الخِطْء بكسر الخاء، وإِما اسم فاعل خَطِئ وتأنيثه بتأويل: الفعلة ذات الخِطْء فهاؤه هاء تأنيث.
والتعريف فيه تعريف الجنس على كلا الوجهين، فالمعنى: جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب. وفرع عنه تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخَاطئة فقال {فعصوا رسول ربّهم} وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9] في أنه تفريع بيان على المبيَّن.
وضمير (عصوا) يجوز أن يرجع إلى {فرعون} باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور، وإما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير (عصوا) يكون المراد ب {رسول ربّهم} موسى عليه السلام. وتعريفه بالإِضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإِشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياه إلها لهم.
ويجُوز أن يرجع ضمير (عصوا) إلى {فرعون ومَن قبله والمؤتفكات.
ورسول ربّهم} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء.
فإفراد {رسول} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظماً من أن يقال: فعصوا رسُل ربّهم، لما في إفراد {رسول} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفادياً من تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان (37) {وقومَ نوح لمّا كذَّبوا الرُسل أغرقناهم}، وإنما كذبوا رسولاً واحداً، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} وما بعده في سورة الشعراء (105)، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه.
والأخذ: مستعمل في الإِهلاك، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} في سورة الأنعام (44) وفي مواضع أخرى.
وأخْذَةً:} واحدة من الأخذ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق، كما قال تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى {فرعون ومن قبله والمؤتفكات} كان إفراد الأخذة كإفراد {رسول ربّهم،} أي أخذنا كل أمة منهم أخذة.
والرابية: اسم فاعل من ربَا يَربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة، قلبت الواو ياء لوقوعها متَحركة إثر كسرة.
واستعير الرُّبُوّ هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {وادعوا ثبوراً كثيراً} [الفرقان: 14].
والمراد بالأخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}
إِنَّ قوله تعالى: {ومَن قبله} [الحاقة: 9] لما شمل قومَ نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حَسَّن اقتضاب التذكير بأخذهم لِمَا فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عِظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة، وهذا من قبيل الإِدماج.
وقد بُني على شهرة مُهلك قوم نوح اعتبارُه كالمذكور في الكلام فجعل شرطاً ل {لمَّا} في قوله: {إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية}، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان.
والطغيان: مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيهاً لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.
و {الجارية}: صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى: {وله الجواري المنشآت في البحر} [الرحمن: 24].
وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة.
وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين} الآية [المؤمنون: 27].
وذكر إحدى الحِكَم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الأعصار ليكون لهم باعثاً على الشكر، وعظةً لهم من أسواء الكفر، وليخبر بها من عَلِمها قوماً لم يعلموها فتعيهَا أسماعهم.
والمراد ب {أذن}: آذَان واعية. وعموم النكرة في سياق الإِثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى: {ولْتنظُرْ نفسٌ ما قدّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها أذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}
الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صُدرت به السورة من قوله: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 13] فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هُدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا. ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعثثِ وهي الواقعة.
و {الصور}: قرن ثَوْر يقعر ويجعل في داخله سِداد يسُد بعض فراغه حتى إذا نفَخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوَّت صوتاً قوياً، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضاً عند إرادة النفير أو الهجوم، وتقدم عند قوله تعالى: {وله المُلْك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73).
والنفخ في الصور: عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مُثِّل الإِحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة، وقد يكون للملك الموكَّل موجود يصوّت صوتاً مؤثّراً.
و {نفخة:} مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكّل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل.
ووصفت {نفخة ب واحدة} تأكيد لإِفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصاً على الوحدة المفادة من التاء.
والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيباً عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فَتعداد أهواله مقصود، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحد في قوله تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دَعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} في سورة الروم (25).
فحصل من ذكر نفحة واحدة تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، وهذا يبين ما روي عن صاحب «الكشاف» في تقريره بلفظٍ مجمل نقله الطيبي، فليس المراد بوصفها ب {واحدة} أنها غير مُتَبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان، بل المراد أنها غير محتاج حصولُ المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة، أي يوم الواقعة.
وأما ذكر كلمة {نفخة} فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذِكر {نفخة} تبعٌ غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقراض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات.
وجملة {وحُملت الأرض والجبال} الخ في موضع الحال لأن دَكّ الأرضضِ والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا.
ومعنى {حُملت:} أنها أُزيلت من أماكنها بأن أُبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أُخرى في الفضاء {فدكَّتا}، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئاً ليلقيه على الأرض، مثل حمل الكرة بين اللاعبين، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبهاً بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لحفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى.
والدك: دَقّ شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.
وبنيت أفعال {نفخ، وحُملت، ودُكّتا} للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته.
وجملة {فيومئذٍ وقعت الواقعة} مشتملة على جواب (إذَا)، أعني قولَه {وقعت الواقعة،} وأما قوله: {فيومئذٍ} فهو تأكيد لمعنى {فإذا نُفخ في الصور} إلخ لأن تنوين (يومئذٍ) عوض عن جملة تدل عليها جملة {نُفخ في الصور} إلى قوله {دَكّة واحدة،} أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكَّد، فإن المراد ب (يوم) من قوله {فيومئذٍ وقَعت الواقعة،} مطلقُ الزمان كما هو الغالب في وقوعه مُضافاً إلى (إذا).
ومعنى {وقعت الواقعة} تحقق ما كان متوقَّعاً وقوعُه لأنهم كانوا يُتَوعَّدون بواقعة عظيمة فيومئذٍ يتحقق ما كانوا يُتوعدون به.
فعبر عنه بفعل المضي تنبيهاً على تحقيق حصوله.
والمعنى: فحينئذٍ تقع الواقعة.
و {الواقعة}: مرادفة للحاقة والقارعة، فذكرها إظهار في مقام الإِضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة.
و {الواقعة} صار علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى: {إذا وقَعت الواقعة ليس لوقْعَتِها كاذبة} [الواقعة: 12].
وفعل {انشقت السماء} يجوز أن يكون معطوفاً على جملة {نفخ في الصور} فيكون ملحقاً بشرط (إذا)، وتأخيرُ عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات وذكر حملته.
ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير: وقد انشقت السماء.
وانشقاق السماء: مطاوعتها لِفعل الشق، والشقُّ: فتح منافذ في محيطها، قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلاً المُلكُ يومئذٍ الحقُ للرحمان وكان يوماً على الكافرين عسيراً} [الفرقان: 25، 26].
ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37] ويحتمل أنه عينه.
وحقيقة {واهية} ضعيفة ومتفرقة، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة، يقال: وهَى عزمه، إذا تسامح وتساهل، وفي المثل «أوهى من بيت العنكبوت» يضرب لعدم نهوض الحجة.
وتقييده ب {يومئذٍ} أن الوهي طرا عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزائها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق، أي فهي يومئذٍ مطروقة مسلوكة.
والوهي: قريب من الوهن، والأكثر أن الوهْي يوصف به الأشياء غير العاقلة، والوهن يوصف به الناس.
والمعنى: أن الملائكة يترددون إليها صعوداً ونزولاً خلافاً لحالها مِن قبلُ قال تعالى:
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37].
وجملة {والمَلَك على أرجائها،} حال من ضمير {فهي}، أي ويومئذٍ الملك على أرجائها.
و {المَلك}: أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جنس المَلَك، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول، ولذلك قال ابن عباس: الكتابُ أكْثَرُ من الكُتب، ومنه {ربّ إني وهَن العظمُ منّي} [مريم: 4].
والأرجاء: النواحي بلُغة هذيل، واحدُها رجَا مقصوراً وألفه منقلبة عن الواو.
وضمير {أرجائها} عائد إلى {السماء.
والمعنى: أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفّذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسَوق أهل النار إلى النار.
وعرش الرب: اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات.
والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش: ثمانيةٌ من الملائكة، فقيل: ثمانية شخوص، وقيل: ثمانية صُفوف، وقيل ثمانية أعشار، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة، وقيل غير ذلك، وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية.
ولعل المقصود بالإِشارة إلى ما زاد على الموعظة، هو تعليم الله نبيئه شيئاً من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يُرد تشغيلنا بعلمها.
وكأنَّ الدَّاعي إلى ذكرهم إجمالاً هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضاباً بعد ذكر الملائكة.
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي حديثاً ذكر فيه أبْعَادَ ما بين السماوات، وفي ذكر حملة العرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية، وأحد رواتِه عبد الله بن عُميرة عن الأحْنف بن قيس قال البخاري: لا نعلم له سماعاً عن الأحنف.
وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها، وقال ابن العربي فيها: إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت، ولم يصح أن النبي أنشد بين يديه فصدّقه. اه.
وضمير فوقهم} يعود إلى {المَلك}.
ويتعلق {فوقَهم} ب {يحمل عرش ربّك} وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عالياً فهو بمنزلة القيدين في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38].
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله: {وطهر بيتي للطائفين} الآية [الحج: 26]، والله منزه عن الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت.
والخطاب في قوله: {تُعرضون} لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل.
والعرض: أصله إمْرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره، وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة معَ جواز إرادة المعنى الصريح.
ومعنى {لا تخفى منكم خافية:} لا تخفى على الله ولا على ملائكته.
وتأنيث {خافية} لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفَعلة من أفعال العباد، أو يقدر بنفْس، أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد، ولا يلتبس كافر بمؤمن، ولا بارٌّ بفاجر.
وجملة {يومئذٍ تعرضون} مستأنفة، أو هي بيان لجملة {فيومئذٍ وقعت الواقعة،} أو بدل اشتمال منها.
و {منكم} صفة ل {خافية} قدمت عليه فتكون حالاً.
وتكرير {يومئذٍ} أربعَ مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجُمل بعده، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن {فيومئذٍ وقَعَتْ الواقعة} تكرير ل (إذا) من قوله: {فإذا نفخ في الصور} إذ تقدير المضاف إليه في {يومئذٍ} هو مدلول جملة {فإذا نفخ في الصور،} فقد ذكر زمان النفخ أولاً وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات.
وقرأ الجمهور {لا تخفى} بمثناة فوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث {خافية} غير حقيقي، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله.
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}
الفاء تفصيل لما يتضمنه {تُعرضون} [الحاقة: 18] إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعمال. و(أمَّا) حرف تفصيل وشرطٍ وهو يفيد مفاد (مَهْمَا يكن من شيء)، والمعنى: مهما يكن عَرْض {مَن أوتي كتابه بيمينه... فهو في عيشة راضية}، وشأن الفاء الرَّابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين (أما) بجُزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتَم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول (أما) كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسيناً لصورة الكلام، فقوله: {من أوتي كتابه بيمينه} أصله صدر جملة الجواب، وهو مبتدأ خبره {فيَقول هاؤم اقرأوا كتابيه} كما سيأتي.
ودل قوله: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} على كلام محذوف للإِيجاز تقديره فيؤتى كلُّ أحد كتابَ أعماله، فأما من أوتي كتابه إلخ على طريقة قوله تعالى: {أنْ اضربْ بعصاك البحرَ فانفلق} [الشعراء: 63].
والباء في قوله: {بيمينه} للمصاحبة أو بمعنى (في).
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به، قال الشمَّاخ:
إذا مَا رايةٌ رُفِعَتْ لمجد *** تلقّاها عَرابة باليمين
وقال تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود} الآية [الواقعة: 2728] ثم قال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم} الآية [الواقعة: 4142].
وجملة {فيقول هَاؤُم اقروا كتابِيْه} جواب شرط (أمَّا) وهو مغن عن خبر المبتدأ، وهذا القوْل قول ذي بهجة وحُبور يبعثان على إطْلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العَرْض.
و {هاؤم} مركب من (هاء) ممدوداً ومقصوراً والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجَّه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء. وإذا خوطب به أكثر من واحد التُزم مدُّه ليتأتى إلحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضمُّوا همزته ضمةً كضمةِ ضمير الخطاب إذ لحقتْه علامة التثنية والجمع، فيقال: هاؤُما، كما يقال: أنتما، وهاؤُمُ كما يقال: أنتم، وهاؤُنَّ كما يقال: أنتن، ومن أهل اللغة من ادعى أن {هاؤم} أصله: هَا أُمُّوا مركباً من كلمتين (هَا) وفعللِ أمر للجماعة من فعل أمَّ، إذا قصد، ثم خفف لكثرة الاستعمال، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح «الكافية» وابن مكرم في «لسان العرب».
و {هاؤم} بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى: خذ، كما في «الكشاف» وبمعنى تعال، أيضاً كما في «النهاية».
والخطاب في قوله: {هاؤم اقرأوا} للصالحين من أهل المحشر.
و {كتابيَه} أصله: كتابِيَ بتحريك ياء المتكلم على أحد وجُوه في يَاء المتكلم إذا وقعت مضافاً إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف، محافظة على حركة الياء المقصودِ اجتلابها.
و {اقرأُوا} بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله {هاؤم.
وقد تنازع كل من هاؤُم واقرأوا} قوله: {كتابيه}. والتقدير: هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه. والهاء في كتابيه ونظائرها للسْكتتِ حين الوقف.
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الهاء بالوقف على كلتا الجملتين.
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تعتبر بحالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل: اقرأوا كتابيَ إني ظننت أني ملاققٍ حسابيَ، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسّنَيْن.
وقرأها يعقوب إذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع.
وأُطلق الظن في قوله: {إني ظننت أني ملاققٍ حسابيه،} على معنى اليقين وهو أحد معنييه، وعن الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك.
وحقيقة الظن: عِلم لم يتحقق؛ إِما لأن المعلوم به لم يقع بعدُ ولم يخرج إلى عالم الحس، وإِما لأن علم صاحبه مخلوط بشك. وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقاً حقيقياً. وعلى هذا جرى الأزهري في «التهذيب» وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى ابن عطية.
وكلام «الكشاف» يدل على أن أصْل الظن: علم غير متيقن ولكنه قد يُجرى مُجرى العِلْم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، وقال: يقال: أظن ظناً كاليقين أن الأمر كَيت وكَيت، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازاً. وهذا أيضاً رأي الجوهري وابن سيده والفيروزابادي، وأما قوله تعالى: {إن نظن إلاّ ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] فلا دلالة فيه لأن تنكير {ظناً أريد به التقليل، وأكد، ب ما نحن بمستيقنين فاحتمل الاحتمالين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وإنا لنظنك من الكاذبين} في سورة الأعراف (66) وقوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه} في سورة براءة (118).
والمعنى: إني علمت في الدنيا أني ألقى الحساب، أي آمنت بالبعث. وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإِيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته.
وجملة إني ظننت أني ملاق حسابيه} في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله: {هاؤم اقرأُوا كتابيهْ} وبذلك يكون حرف (إنَّ) لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب.
وموقع {فهو في عيشة راضية} موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في المحشر، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها.
ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة {فيقول هاؤم اقرأُوا كتابيه} فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخرنا} [المائدة: 114].
والعيشة: حالة العيش وهيئته.
ووصف {عيشة ب راضية} مجاز عقلي لِملابسة العيشة حالةَ صاحبها وهو العائش ملابسة الصفةِ لموصوفها.
والراضي: هو صاحب العيشة لا العِيشة، لأن {راضية} اسم فاعل رضيَت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة.
والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رَضي صاحبها، فوصفُها ب {راضية} من إسناد الوصف إلى غير ما هو له وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها، ولذلك الاعتبار أرجع السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذُكر في عالم البيان.
و {في} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
وجملة {في جنة عالية} بدل اشتمال من جملة {فهو في عيشة راضية.
والعلوّ: الارتفاع وهو من محاسن الجنّات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يَلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم، ووقع في شعر زهير:
كأن عينيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَة *** من النواضح تسقِي جَنَّة سُحُقاً
فقد قال أهل اللغة: يجوز أن يكون سُحُقاً، نعتاً للجنة بدون تقدير كما قالوا: ناقةُ عُلُط وامرأة عُطُل. ولم يعرجوا على معنى السَّحَق فيها وهو الارتفاع لأن المرتفع بعيد، وقالوا: سَحُقت النخلة ككرم إذا طالت. وفي القرآن {كمثَل جنة بربْوة} [البقرة: 265].
وجوزوا أن يراد أيضاً بالعلو علوّ القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة، وبذلك كان للفظ {عالية} هنا ما ليس لقوله: {كمثل جنة بربوة} لأن المراد هنالك جنة من الدنيا.
والقُطوف: جمع قِطْف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يُقطف وأصله فِعل بمعنى مَفعول مثل ذِبْح.
ومعنى دُنوها: قربها من أيدي المتناولين لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه، قال تعالى: {وذُلِّلتْ قطوفُها تذليلاً} [الإنسان: 14].
وجملة {كلوا واشربوا} إلى آخرها مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع صفة ل {جنة} إذ التقدير: يقال للفريق الذين يُؤتَون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة: {كلوا واشربوا} الخ.
ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً عن الضمير في قوله: {فهو في عيشة راضية.
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم لأن هذه الضمائر السابقة حُكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه. وأما ضمير كلوا واشربوا} فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيُحيّي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيِّفهم بعبارات الإِكرام.
و {هنيئاً} يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوباً على النيابة عن المفعول المطلق لأنه وصفه وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي لأنهما متلبسان بالهناء للآكِللِ والشارب.
ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي. والتقدير: مهنّئاً، أي سبب هناء، كما قال عَمرو بن معد يكرب:
أمِنْ ريْحَانَةَ الداعي السميع *** أي المسْمع، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحُكم المصنوعات، ويجوز أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول، أي مَهْنِيئاً به.
وعلى الاحتمالات كلها فإفراد {هنيئاً} في حال أنه وصف لشيئين بناءٌ على أن فَعيلاً بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.
و {بما أسلفتم} في موضع الحال من ضمير {كلوا واشربوا.
والباء للسببية.
ومَا صْدَقُ (ما) الموصولة هو العمل، أي الصالح.
والإِسلاف: جعل الشيء سلفاً، أي سابقاً.
والمراد أنه مقدم سابق لإِبانه لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلَف للقرض، والإِسلاف للإِقراض، والسُّلْفَة للسَّلَم.
والأيام الخالية}: الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)}
هذا قَسِيم {من أُوتي كتابه بيمينه} [الحاقة: 19]، فالقول في إيتائه كتابه بشماله قد عرف وجَهه ممَّا تقدم.
وتمنِّي كل من أوتي كتابه بشماله أنه لم يُؤْت كتابه، لأنه علم من الإِطلاع على كتابه أنه صائر إلى العذاب فيتمنى أن لا يكون عَلِم بذلك إبقاء على نفسه من حزنها زمناً فإن ترقُّب السوء عذاب.
وجملة {ولم أدْرِ ما حسابيه} في موضع الحال من ضمير {لَيتَني.
والمعنى: إنه كان مكذباً بالحساب وهو مقابل قول الذي أوتي كتابه بيمينه: {إِني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيه} [الحاقة: 20].
وجملة الحال معترضة بين جملتي التمني.
ويجوز أن يكون عطفاً على التمني، أي يا ليتني لم أدر مَا حسابيَه، أي لم أعرِف كنه حسابي، أي نتيجته، وهذا وإن كان في معنى التمني الذي قبله فإِعادته تكرير لأجْل التحسر والتحزن.
و {ما} استفهامية، والاستفهام بها هو الذي عَلَّق فعل {أدْرِ} عن العمل، و{يا ليتها كانت القاضية} تمنَ آخر ولم يعطف على التمنّي الأول لأن المقصود التحسر والتندم.
وضمير {ليتها} عائد إلى معلوم من السياق، أي ليت حالتي، أو ليت مصيبتي كانت القاضية.
و {القاضية}: الموت وهو معنى قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]، أي مقبوراً في التراب.
وجملة {يا ليتها كانت القاضية} من الكلام الصالح لأن يكون مثلاً لإيجازه ووفرة دلالته ورشاقة معناه عبر بها عما يقوله من أوتي كتابه بشماله من التحسر بالعبارة التي يقولها المتحسر في الدنيا بكلام عربي يؤدي المعنى المقصود. ونظيره ما حكي عنهم في قوله تعالى: {دَعَوا هنالك ثبوراً} [الفرقان: 13] وقوله: {يا وَيْلَتَا ليتني لم أتَّخِذْ فُلاناً خليلاً} [الفرقان: 28] وقوله: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب الآية} [الكهف: 49].
ثم أخذ يتحسر على ما فرط فيه من الخير في الدنيا بالإِقبال على ما لم يُجْدِه في العالم الأبدي فقال: {ما أغنى عني مَاليَه}، أي يقول ذلك من كان ذا مال وذا سلطان من ذلك الفريق من جميع أهل الإشراك والكفر، فما ظنك بحسرة من اتبعوهم واقتدوا بهم إذا رأوهم كذلك، وفي هذا تعريض بسادة مشركي العرب مثل أبي جهل وأمية بن خلف قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النَّعمة} [المزمل: 11].
وفي {أغْنَى عَنّي} الجناس الخَطِّي ولو مَع اختلاف قليل كما في قولهم «غرّك عِزُّك فَصَار قصارى ذَلِك ذُلّك».
ومعنى هلاك السلطان: عدم الانتفاع به يومئذٍ فهو هلاك مجازي. وضمّن {هلك} معنى (غاب) فعدي ب (عن)، أي لم يحضرني سلطاني الذي عهدته.
والقول في هاءَات {كتابيهْ، وحسابيهْ، وماليهْ، وسلطانيهْ}، كالقول فيما تقدم إلاّ أن حمزة وخلفاً قرآ هنا {ما أغنى عني مالِيه هلك عني سلطانيه} بدون هاء في حالة الوصل.
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}
{خذوه} مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير {فيقول يا ليتني لم أَوْت كتابيه} [الحاقة: 25]، والتقدير: يُقال: خذوه.
ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسَوق أهللِ الحساب إلى ما أُعد لهم.
والأخذ: الإِمساك باليد.
وغُلُّوه: أمر من غلّه إذا وضعه في الغُل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد، ولم يسمع إلاّ ثلاثياً ولعل قياسه أن يقال: غَلَّله بلامين لأن الغُل مضاعف اللام، فحقه أن يكون مثل عَمَّم، إذا جعل له عمامة، وأزَّر، إذا ألبسه إزاراً، ودرَّع الجاريةَ، إذا ألبسها الدِرع، فلعلهم قالوا: غَلَّه تخفيفاً. وعطف بفاء التعقيب لإِفادة الإِسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه.
و {ثم} في قوله: {ثم الجحيم صلُّوه} للتراخي الرتبي لأن مضمون الجملة المعطوفة بها أشد في العقاب من أخذه ووضعه في الأغلال.
وصلَّى: مضاعف تضعيف تعدية لأن صَلِي النار معناه أصابه حرقها أو تدفَأ بها، فإذا عدّي قيل: أصلاه ناراً، وصلاَّه ناراً.
و {ثم} من قوله: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً} أعظم من مضمون {فغلوه.
ومضمون فاسلكوه} دل على إدخاله الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم.
ومعنى {اسلكوه:} اجعلوه سالِكاً، أي داخلاً في السلسلة وذلك بأن تَلف عليه السلسلة فيكون في وسطها، ويقال: سلَكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبَّلاً في أغلاله.
وتقديم {الجحيمَ} على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم {في سلسلة} على عامله.
واقتران فعل {اسلكوه} بالفاء إمَّا لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل {فَغلّوه،} وإما للايذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالباً كأنه قيل: مهما فعلتم به شيئاً فاسلكوه في سلسلة، أو مهما يكن شيء فاسلكوه.
والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحثُّ على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف، ونظيره قوله تعالى: {وربَّك فكبّر وثِيابَك فطهّر والرِّجز فاهجر} [المدثر: 35]، وتقدم عند قوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} في سورة [يونس: 58].
والسلسلة: اسم لمجموع حَلَققٍ من حديد داخللٍ بعضُ تلك الحَلَق في بعض تجعل لِوثاق شخص كي لا يزول من مكانه، وتقدم في قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} في سورة غافر (71).
وجملة ذرعها سبعون ذراعاً} صفة {سِلْسلة} وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلَّقِهِ للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة، وليست الجملة مما خوطب الملائكة الموكلون بسوْق المجرمين إلى العذاب، ولذلك فعَدَدُ السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى: {إِنْ تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}
[التوبة: 80].
والذَّرع: كيلُ طوللِ الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإِنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع، والأصبَع، والأنملة، والقَدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشِبْر، والفِتْر، والرتب (بفتح الراء والتاء)، والعَتَب، والبُصْم، والخُطوة.
وجملة {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضّ على طعام المسكين} في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم.
ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفراناً بعظيم فكان جزاء وفاقاً.
والحض على الشيء: أن يَطْلُبَ من أحد فعلَ شيء ويُلِحّ في ذلك الطلب.
ونفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى أنه لا يُطعم المسكين من ماله لأنه إذا كان لا يأمر غيره بإطعام المسكين فهو لا يطعمه من ماله، فالمعنى لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه، وقد كان أهل الجاهلية يطعمون في الولائم، والميسر، والأضيَاف، والتحابُب، رياء وسُمعة. ولا يطعمون الفقير إلاّ قليلاً منهم، وقد جُعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشحّ عنهم بماله، كما جُعل الحرص على إطعام الضيف كناية عن الكرم في قول زينب بنت الطَّثَرِيَّةِ ترثي أخاها يزيدَ:
إذا نَزل الأضياف كان عَذَوَّراً *** على الحَي حتى تَستقل مَراجِلُه
تريد أنه يحضر الحي ويستعجلهم على نصف القدور للأضياف حتى توضع قدور الحي على الأثافي ويَشرعوا في الطبخ، والعَذوَّر بعين مهملة وذال معجمة كعملَّس: الشكِس الخُلق.
إلاّ أن كناية ما في الآية عن البخل أقوى من كناية ما في البيت عن الكرم لأن الملازمة في الآية حاصلة بطريق الأولوية بخلاف البيت.
وإذ قد جُعل عدم حضه على طعام المسكين جزء علة لشدة عذابه، علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم في الأموال وهو الحق المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها.
وقوله: {فليس له اليوم ههنا حميم} من تمام الكلام الذي ابتدئ بقوله {خذوه،} وتفريع عليه.
والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعاً يدفع عنه بشفاعة، وتنديمٌ له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب. وهذا وجه تقييد نفي الحميم ب {اليوم} تعريضاً بأن أحِمَّاءهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى: {ثم نقول للذين أشركوا أيْن شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} [الأنعام: 22] وقوله عنهم {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} [الأعراف: 53] وغير ذلك مما تفوق في آي القرآن.
فقوله {له} هو خبر {ليس} لأن المجرور بلام الاختصاص هو محط الأخبار دون ظرف المكان. وقوله: {ههنا} ظرف متعلق بالكون المنوي في الخبر بحرف الجر. وهذا أولى من جعل {ههنا} خبراً عن {ليس} وجعل {له} صفةً ل {حميم} إذ لا حاجة لهذا الوصف.
والحَميم: القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته.
{ولا طعام} عطف على {حميم.
والغِسلين: بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله فهو عَلَم على ذلك مثل سِجين، وسرقين، وعِرنين، فقيل إنه فِعْلِين من الغَسل لأنه سَالَ من الأبدان فكأنه غُسل عنها. ولا مِوجب لبيان اشتقاقه.
والخاطئون:} أصحاب الخطايا يقال: خطِئ إذا أذنب.
والمعنى: لا يأكله إلاّ هو وأمثاله من الخاطئين.
وتعريف {الخاطئون} للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشدّ الخِطأ وهو الإِشراك.
وقرأ الجمهور {الخاطئون} بإظهار الهمزة، وقرأ أبو جعفر {الخاطُون} بضم الطاء بعدها واو على حذف الهمزة تخفيفاً بعد إبدالها ياء تخفيفاً. وقال الطيبي: قرأ حمزة عند الوقف الخاطيُون بإبدال الهمزة ياء ولم يذكره عنه غير الطيبي.
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}
الفاء هنا لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه، تفريعاً على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبَر بوقوعه، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى.
وابتدئ الكلام بالقَسَم تحقيقاً لمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {والصافات صفاً} [الصافات: 1].
وضمير {أُقسم} عائد إلى الله تعالى. *
جمع الله في هذا القَسَم كل ما الشأن أن يُقسَم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصِلَتان {بما تبصرون وما لا تبصرون}، فمما يبصرون: الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون: الأرواح والملائكة وأمور الآخرة.
و {لا أقسم} صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها أنها امتناع من القسَم امتناع تحرّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف (لا) كالمزيد كما تقدم عند قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75)، ومن المفسرين من جعل حرف (لا) في هذا القسم إبطالاً لكلام سابق وأنّ فعل أُقْسِم} بعدها مستأنف، ونُقض هذا النوع بوقوع مثله في أوائل السور مثل: {لا أقسم بيوم القيامة} [القيامة: 1] و{لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1].
وضمير {إنه} عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه.
وتأكيد الخبر بحرف (إنَّ) واللاممِ للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك.
والمراد بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه عطف قوله: {ولو تَقَول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44]، وهذا كما وصف موسى ب {رسول كريم في قوله تعالى: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءَهم رسول كريم} [الدخان: 17] وإضافة {قول} إلى {رسول} لأنه الذي بلّغه فهو قائله، والإِضافة لأدنى ملابسة وإلاّ فالقرآن جَعَله الله تعالى وأجَراه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [مريم: 97].
رَوي مقاتل أن سبب نزولها: أن أبا جهل قال: إن محمداً شاعر، وأن عقبة بن أَبي مُعيط قال: هو كاهن، فقال الله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} الآية.
ويجوز أن يراد ب {رسول كريم} جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي.
وفي لفظ {رسول} إيذان بأن القول قول مُرسله، أي الله تعالى، وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه {تنزيل من رب العالمين.
ووصف الرسول ب كريم} لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله: {إني أُلقي إليّ كتاب كريم} في سورة النمل (29).
وقد أثبت للرسول الفضل على غيره من الرسل بوصف كريم}، ونفي أن يكون شاعراً أو كاهناً بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم.
وعطف {ولا بقول كاهن} على جملة الخبر في قوله: {بقول شاعر،} و{لا} النافية تأكيد لنفي {ما}.
وكني بنفي أن يكون قولَ شاعر، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً أو كاهناً، رد لقولهم: هو شاعر أو هو كاهن.
وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم: افتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنوناً أو كاذباً إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.
والمعنى: ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبَه إلى الله تعالى.
و {قليلاً} في قوله: {قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذكَّرون} مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله: {فلا يؤمنون إلاّ قليلاً} [النساء: 46]، وهو أسلوب عربي، قال ذو الرمة:
أُنيحَتْ ألْقَتْ بَلْدَةً فوق بَلْدةٍ *** قَلِيللٍ بها الأصواتُ إلاّ بُغَامُها
فإن استثناء بُغام راحلته دل على أنه أراد من (قليل) عدم الأصوات.
والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعدُ. وقد تقدم في سورة البقرة (88) قوله: {فقليلاً ما يؤمنون}
وانتصب قليلاً في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه {تؤمنون} و{تذكَّرون} أي تؤمنون إيماناً قليلاً، وتذكَّرون تذكراً قليلاً.
و {ما} مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي:
قليلاً به ما يَحْمَدَنَّك وَارث *** إذَا نال مما كنتَ تَجمع مَغْنَمَا
وجملتَا {قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذَّكَّرون} معترضتان، أي انتفى أن يكون قول شاعر، وانتفى أن يكون قول كاهن، وهذا الانتفاء لا يحصِّل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد.
وقرأ الجمهور {ما تؤمنون، وما تذكرون} كليهما بالمثناة الفوقية، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر (واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر) ويعقوبُ بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسَّن ذلك كونُهما معترضتين.
وأوثر نفي الإِيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر، ونفي التذكُّر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخرِ الأجزاء، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمَّد ينادي على أنهم لا يُرجى إيمانهم، وأما انتفاء كون القرآن قولَ كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبَّه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه عَلم أنه ليس بقول كاهن، فنظمُه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإِخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفياً عنهم التذكر والتدبر، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم.
وقوله: {تنزيل من رب العالمين} خبر ثان عن اسم (إنّ) وهو تصريح بعد الكناية.
ولك أن تجعل {تنزيل من رب العالمين} خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ، وتجعلَ الجملة استئنافاً بيانياً لأن القرآن لمَّا وصف بأنه {قول رسول كريم} ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقَّب السامع معرفة كنهه، فبُين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
و {تنزيل} وصف بالمصدر للمبالغة.
والمعنى: إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم.
وعبر عن الجلالة بوصف {ربّ العالمين} دون اسمِه العلَم للتنبيه على أنه رب المخاطَبين وربُ الشعراءِ والكهاننِ الذين كانوا بمحل التعظيم والإِعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} [الشعراء: 26].
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}
هذه الجملة عطف على جملة {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [الحاقة: 3839] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومَن جاء به وقال: إنه وحي من الله تعالى.
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القَسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخَطابي.
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا، لما أقررناه على ذلك، ولعجّلنا بإهلاكه. فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن {لو} تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها.
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:
أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله.
وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم {افتراه} [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى {أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون} [الطور: 33] فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك.
ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءَنا إيْتتِ بقرآننٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه} [يونس: 15]. وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك.
والتقول: نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغةَ الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولاً لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عُدي ب (على).
والمعنى: لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولاً لم نقله إلخ.
و {بعضَ} اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به ل {تقوَّل.
والأقاويل}: جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضاً من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلاً من أقواللٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئاً قليلاً من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره.
ومعنى {لأخذنا منه باليمين} لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية.
واليمين: اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملاً من الشِمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة.
وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم} في سورة البقرة (224) وقوله: {وعن أيمانهم وعن شمائلهم} في سورة الأعراف (17) وقوله: {ولا تخطُّه بيمينك} في سورة العنكبوت (48).
وقال أبو الغُول الطَهَوِي:
فدَت نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صدَّقوا فيهم ظنوني
والمعنى: لأخذناه أخذاً عاجلاً فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتَصَرْ على نحو: لأهْلكناه.
ومنه} متعلق ب (أخذنا) تعلق المفعول بعامله. و(مِن) زائدة في الإِثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح. وقد بينته عند قوله تعالى: {فأخرجنا منه خَضِراً نُخرج منه حباً متراكباً ومن النخل} [الأنعام: 99]، فإن {النخل معطوف على خَضِرا بزيادة مِن} ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإِعراب إلاّ بكلفة، وفائدة {من} الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول: نأخذ بعضَه.
و {الوتين}: عِرق معلَّق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له: نَهرُ الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور.
فقطع الوتين من أحوَال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يُفرض تَقوُّله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها.
ولم أقف على أن العرب كانوا يكنّون عن الإِهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.
و {منه} صفة للوتين، أو متعلق ب (قطعنا)، أي أزلناه منه.
وبينَ {منه} الأولى و{منه} الثانية محسِّن الجناس.
وأما موقع تفريع قوله: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقوُّل من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاماً لا يسوءَهم، ففي تلك الحالة من أحوال التَقوُّل لو أخذنَا منه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يَظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله: {وإن كادُوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذن لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً إذنْ لأذقناك ضِعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} [الإسراء: 73 75].
والخطاب في قوله: {منكم} للمشركين.
وإنما أخبر عن {أحد} وهو مفرد ب {حاجزين} جمعاً لأن {أحد} هنا وإن كان لفظه مفرداً فهو في معنى الجمع لأن {أحد} إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلاّ في سياق النفي مثل عَريب، ودَيّار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلاّ منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: {لا نُفرق بين أحد من رسله}
[البقرة: 285] وقال: {لَسْتُنَّ كأحدٍ من النساء} [الأحزاب: 32].
والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.
والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه. والضمير عائد إلى {رسول كريم} [الحاقة: 40].
و {مِن} في قوله: {مِن أحد} مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم. وذِكر {منكم} مع {عنه} تجنيس محرّف.
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحداً يدعي أن الله أوحى إليه كلاماً يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.
فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قوللٍ أُوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليَمن، ومُسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليَمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثْلهما من ادعَوا النبوءة في الإِسلام مثل (بَابك ومازيّار).
وقال الفخر: «قيل: اليمين بمعنى القُوة والقدرة، والمعنى: لأخذنا منه اليمينَ، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة. واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك: إِما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذٍ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدْماً لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب» اه. فركّب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقوِّل لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تَبعه فيه مَن بعده فيما رأينا. وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر.
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}
عطف على {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40]، والضمير عائد إلى القرآن الذي تقدم ضميره في قوله: {إنه لقول رسول كريم، فلما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعاناً في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البيّن بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء.
والتذكرة: اسم مصدر التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
والإِخبار ب وإنه لتذكرة} إخبار بالمصدر للمبالغة في الوصف. والمعنى: أنه مذكِّر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكَّر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذِكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى في سورة طه (3) {إلاّ تذكرة لمن يخشى} وقوله: {وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة [الحجر: 6].
والمراد بالمتقين المؤمنون فإنهم المتصفون بتقوى الله لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء دون المشركين. فالقرآن كان هادياً إياهم للإيمان كما قال تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وكلما نزل منه شيء أو تلوا منه شيئاً ذكرهم بما علموا لئلا تعتريهم غفلة أو نسيان فالقرآن تذكرة للمتقين في الماضي والحال والمستقبل، فإن الإِخبار عنه باسم المصدر يتحمل الأزمنة الثلاثة إذ المصدر لا إشعار له بوقت بخلاف الفعل وما أشبهه.
وإنما علق {للمتقين} بكونه (تذكرة) لأن المتقين هم الذين أدركوا مزيته.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}
هاتان جملتان مرتبطتان، وأولاهما تمهيد وتوطئة للثانية، وهي معترضة بين التي قبلها والتي بعدها، والثانية منهما معطوفة على جملة {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48]، فكان تقديم الجملة الأولى على الثانية اهتماماً بتنبيه المكذبين إلى حالهم وكانت أيضاً بمنزلة التتميم لِجملة {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48].
والمعنى: إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون له وبه، وعلمنا بذلك لم يصرفنا عن توجيه التذكير إليكم وإعادتِه عليكم {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّى عن بينة} [الأنفال: 42]، فقوبلت صفة القرآن التي تنفع المتقين بصفته التي تُضر بالكافرين على طريقة التضاد، فبين الجملتين المتعاطفتين مُحسّن الطباق.
والحَسرة: الندَم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها: التلهف، اشتقت من الحَسْر وهو الكشف لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه ولا يزال يعاوده، فالقرآن حسرة على الكافرين أي سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة، فهو حسرة عليهم في الدنيا لأنه فَضح تُرَّهَاتِهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لا سيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدّقوا به.
والمكذبون: هم الكافرون. وإنما عدل عن الإتيان بضميرهم إلى الاسم الظاهر لأن الحسرة تعم المكذبين يومئذٍ والذين سيكفرون به من بعد.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}
عطف على {وإنه لحسرة على الكافرين} [الحاقة: 50] فيحتمل أن يكون الضمير عائداً على القرآن لأن هذه من صفات القرآن، ويحتمل أن يكون مراداً به المذكور وهو كون القرآن حسرة على الكافرين، أي إن ذلك حق لا محالة أي هو جالب لحسرتهم في الدنيا والآخرة.
وإضافة حق إلى يقين يجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إِنه لليقينُ الحق الموصوف بأنه يقين لا يَشك في كونه حقاً إلاّ من غشي على بصيرته وهذا أولى من جعل الإِضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لليقين الحق، أي الذي لا تعتريه شبهة.
واعلم أن حق اليقين، وعين اليقين، وعلم اليقين، وقعت في القرآن.
فحق اليقين وقع في هذه السورة وفي آخر سورة الواقعة، وعلم اليقين وعين اليقين وقعا في سورة التكاثر، وهذه الثلاثة إضافتها من إضافة الصفة إلى الموصوف أو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما ذكرنا. ومعنى كل مركب منها هو محصل ما تدل عليه كلمتاه وإضافةُ إحداهما إلى الأخرى.
وقد اصطلح العلماء على جعل كلمة (عِلم اليقين) اسما اصطلاحياً لما أعطاه الدليل بتصوّر الأمور على ما هي عليه حسب كلام السيد الجرجاني في كتاب «التعريفات»، ووقع في كلام أبي البقاء في «الكليات» ما يدل على أن بعض هذه المركبات نقلت في بعض الاصطلاحات العلمية فصارت ألقاباً لمعان، وقال: علم اليقين لأصحاب البرهان، وعين اليقين وحق اليقين أيضاً لأصحاب الكشف والعيان كالأنبياء والأولياء على حسب تفاوتهم في المراتب، قال: وقد حقق المحققون من الحكماء بأن بعد المراتب الأربع للنفس (يعني مراتب تحصيل العلم للنفس المذكورةَ في المنطق الأوليات، والمشاهدات الباطنية، والتجريبات، والمتواترات) مرتبتين: إحداهما مرتبة عين اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تشاهد المعقولات في المعارف التي تفيضها النفس كما هي، والثانية مرتبة حق اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تتصل بالمعقولات اتصالاً عقلياً وتلاقي ذاتها تلاقياً روحانياً. واصطلح علماء التصوف على جعل كل مركب من هذه الثلاثة لقباً لمعنى من الانكشاف العقلي وجرت في كتاب «الفتوحات المكية» للشيخ محيي الدين بن عربي.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
تفريع على جميع ما تقدم من وصف القرآن وتنزيهه على المطاعن وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المشركون، وعلى ما أيده الله به من ضرب المثل للمكذبين به بالأمم التي كذبت الرسل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكراً له على ما أنعم به عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه.
واسم الله هو العَلَم الدال على الذات.
والباء للمصاحبة، أي سبح الله تسبيحاً بالقول لأنه يجمع اعتقاد التنزيه والإقرارَ به وإشاعته.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص بالاعتقاد والعبادةِ والقول، فتعين أن يجري في التسبيح القولي اسم المنزِّه فلذلك قال {فسبح باسم ربك} ولم يقل فسبح ربَّك العظيم. وقد تقدم في الكلام على البسملة وجه إقحام اسم في قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1].
وتسبيح المُنعم بالاعتقاد والقول وهما مستطاع شكر الشاكرين إذ لا يُبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك، قال ابن عطية: وفي ضمن ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته وإبلاغها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية «اجعلوها في ركوعكم» واستحَب التزامَ ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك التزام ذلك لئلا يعد واجباً فرضاً اه. وتقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الواقعة.
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)}
كان كفار قريش يستهزئون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به، ويسألونه تعجيله، قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48] {ويستعجلونك بالعذاب} [الحج: 47] وكانوا أيضاً يسألون الله أن يوقع عليهم عذاباً إن كان القرآن حقاً من عنده قال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
وقيل: إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال: {إن كان هذا (أي القرآن) هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله، ولذلك فالمراد ب {سائل} فريقٌ أو شخص.
والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز. ويجوز أن يكون {سأل سائل} بمعنى استعجل وأَلَحّ.
وقرأ الجمهور {سأل} بإظهار الهمزة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {سال} بتخفيف الهمزة ألفاً. قال في «الكشاف»: وهي لغة قريش وهو يريد أن قريشاً قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياساً في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمز ولذلك قال سيبويه: وليس ذا بقياس مُتْلَئِبَ (أي مطرد مستقيم) وإنما يحفظ عن العرب قال: ويكون قياساً متلئباً، إذا اضطُر الشاعر، قال الفرزدق:
راحتْ بِمسلمةَ البغال عشية *** فارْعَيْ فَزازةُ لا هَنَاككِ المَرتَع
يريد لا هَنَأككِ بالهمز. وقال حسان:
سَالتْ هُذْيلٌ رسولَ الله فاحشةً *** ضلتْ هُذيلٌ بمَا سَالت ولم تُصِبِ
يريد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحَةَ الزنا. وقال القرشي زيدُ بن عمرو بن نفيل (يذكر زَوجيه):
سَألتَانِي الطلاقَ أنْ رَأتَاني *** قَلَّ مَالي قد جيتُمانِي بنُكْرِ
فهؤلاء ليس لغتهم سَال ولا يَسَالُ وبلغنا أن سَلْتَ تَسَال لغة ا ه. فجعل إبدال الهمز ألفاً للضرورة مطرداً ولغير الضرورة يُسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعاً. وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة: أن من قرأ {سَالَ} غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل: قَال وخاف. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول: هما متساوِلان. وقال في «الكشاف»: يقولون (أي أهل الحجاز): سَلْتَ تَسَالُ وهما يتسَايلان، أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب. وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز {سال} غيرَ مهموز سماعي، وليس بقياس عندهم وأنه إمّا تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي سيبويه، وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واوياً كما هو رأي أبي علي أو أجوف يائياً كما هو رأي الزمخشري.
وبذلك يندحض تردد أبي حيان جعل الزمخشري قراءة {سال} لغة أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد.
وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل الهمز المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات، ولذلك لم يرد في القرآن مخففاً في بعض القراءات إلاّ في هذا الموضع إذ لا نظير له في توالي حركات، وإلاّ فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله: {وإذا سَألك عبادي} [البقرة: 186] وهو يساوي {سال سائل بعذاب} بله قوله: سالتهم وتسالهم ولا يسالون.
وقوله: {سال سائل} بمنزلة سُئل لأن مجيء فاعل الفعل اسمَ فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو، فالعدول عن أن يقول: سُئِل بعذاب إلى قوله {سال سائل بعذاب}، لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب، ومثله قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة:
وإن الغدْر قد عَلِمت معدٌّ *** بنَاه في بني ذُبيان بَانِي
ومن بلاغة القرآن تعدية {سال} بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال، لأن الباء تأتي بمعنى (عن) وهو من معاني الباء الواقعة بعد فعل السؤال نحو {فاسال به خبيراً} [الفرقان: 59]، وقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب
أي إن تسألوني عن النساء، وقال الجوهري عن الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وجعل في «الكشاف» تعدية فعل سأل بالباء لتضمينه معنى عُني واهتمّ. وقد علمت احتمال أن يكون سال بمعنى استعجل، فتكون تعديته بالباء كما في قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} [الحج: 47] وقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18].
وقوله: {للكافرين} يجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلقاً ب {واقع،} ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو للكافرين.
واللام لشبه الملك، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة: 24].
ووصف العذاب بأنه واقع، وما بعده من أوصافه إلى قوله: {إنهم يرونه بعيداً} [المعارج: 6] إدماج معترض ليفيد تعجيل الإِجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي السؤال لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مُجْملاً لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف، فحكي السؤال مجملاً ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحفّ به من الأهوال.
وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازاً إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل، واستجابة الداعي، والإِنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع، ولا يغرهم تأخره.
وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهَوْلِه ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه، دون أن يخوضوا في تعيين وقته، فحصل من هذا كله معنى: أنهم سألوا عن العذاب الذي هُددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذاباً إن كان القرآن حقاً، إظهاراً لقلة اكتراثهم بالإِنذار بالعذاب.
فأعلمهم أن العذاب الذي استهزأوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته، فإن أرادوا النجاة فليحذروه.
وقوله: {من الله} يتنازع تعلقه وصفا {واقع ودافع.} و{مِن} للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلَّق به.
فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة. وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مَجازي تتناوله قدرة القادر مثل {من} في قوله تعالى: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه} [التوبة: 118] وقوله: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} [النساء: 108].
وبهذا يكون حرف {مِن} مستعملاً في تعيين مجازين متقاربين.
وإجراء وصف {ذي المعارج} على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلالة ولإِدماج الإِشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى: {لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف: 33]. ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى: {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين.
و {المعارج}: جمع مِعْرَج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به، أي يصعد من سلم ومدرج.
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}
اعتراض لبيان أن المعارج منازل من الرفعة الاعتبارية ترتقي فيها الملائكة وليست معارج يعرج إليه فيها، أي فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها، أي جاعلها، ونظيره قوله تعالى: {ذو العرش} [غافر: 15].
و {الروح}: هو جبريل عليه السلام الموكل بإبلاغ إرادة الله تعالى وإذنه وتخصيصه بالذكر لتمييزه بالفضل على الملائكة. ونظير هذا قوله: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4] أي في ليلة القدر.
و {الروح}: يطلق على ما به حياة الإِنسان وتصريفُ أعماله وهو المذكور في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85]. فيجوز أن يكون مما شمله قوله: {تعرج الملائكة والروح إليه}، أي أرواح أهل الجنة على اختلاف درجاتها في المعارج. وهذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة. وهذه تقريبات لنهاية عظمة تلك المنازل وارتقاء أهل العالم الأشرف إليها وعظمة يوم وقوعها.
وضمير {إليه} عائد إلى الله على تأويل مضاف على طريقة تعلق بعض الأفعال بالذوات، والمراد أحوالها مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكلها. و{في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} يتنازع تعلقه كل من قوله: {واقع} [المعارج: 1] وقوله: {تعرج}.
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}
اعتراض مفرع: إِما على ما يومئ إليه {سأَل سائل} [المعارج: 1] من أنه سؤال استهزاء، فهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وإما على {سأل سائل} بمعنى: دعا داع.
فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة {سال سائل إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضاً بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف.
والصبر الجميل: الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر، أي اصبر صبراً محضاً، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعَكر معناها من بقايا أضدادها، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب فصبْرٌ جميل في سورة يوسف (18) وسيجيء قوله تعالى: {واهجرهم هجراً جميلاً} في المزمل (10).
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}
تعليل لجملتي {سال سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1] ولِجملة {فاصبر صبراً جميلاً} [المعارج: 5]، أي سألوا استهزاء لأنهم يرونه مُحالاً وعليك بالصبر لأنا نعلم تحققهُ، أي وأنت تثق بأنه قريب، أي محقق الوقوع، وأيضاً هو تجهيل لهم إذ اغتروا بما هم فيه من الأمن ومسالمة العرب لهم ومن الحياة الناعمة فرأوا العذاب الموعود بعيداً، إن كان في الدنيا فلأمنهم، وإن كان في الآخرة فلإِنكارهم البعث، والمعنى: وأنت لا تشبه حالهم وذلك يهوِّن الصبر عليك فهو من باب {ولا تتبع أهواءَهم} [المائدة: 48]، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتَبَع هواه} [الكهف: 28].
و {بعيداً} هنا كناية عن معنى الإِحالة لأنهم لا يؤمنون بوقوع العذاب الموعود به، ولكنهم عبروا عنه ببعيد تشكيكاً للمؤمنين فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} [ق: 3].
واستعمل {قريباً} كناية عن تحقق الوقوع على طريق المشاكلة التقديرية والمبالغة في التحقق. وبين {بعيداً} و{قريباً} محسن الطباق.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}
يجوز أن يتعلق {يوم تكون السماء} بفعل {تعرج} [المعارج: 4]، أو أن يتعلق ب {يَوَدُّ المجرم} قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله: {يوم تكون السماء كالمهل} ابتداء كلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة {ولا يسأل حميم حميماً} لأن عدم المساءلة مسبب عن شدة الهَول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المَوَل لو يفتدي من ذلك العذاب.
و {المُهل}: دُردِيّ الزيتتِ.
والمعنى: تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمان (37) {فكانت وردة كالدِهان}
والعِهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقاً، وقيل المصبوغ ألواناً مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير:
كان فُتات العِهن في كل منزِلٍ *** نَزلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحَطَّم
والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر. والعهنة: شجر بالبادية لها ورد أحمر.
ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة (5) {وتكون الجبال كالعهن المنفوشِ} فإيثار العهن بالذكر لإِكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: {ومن الجبال جُدد بيضٌ وحُمْرٌ مختلف ألوانها} [فاطر: 27]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصيرِ إلى عالم الآخرة.
ومعنى {ولا يسأل حميم حميماً} لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق {يسأل} لظهوره من المقام ومن قوله: {يبصرونهم} أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميماً، قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنتُ ءآمُله *** لا أُلْهِيَنَّك إِني عنك مشغول
والحميم: الخليل الصديق.
وقرأ الجمهور بفتح ياء {يسأل} على البناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول. فالمعنى: لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.
وموقع {يبصّرونهم} الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحِمَّاء لا يرى بعضهم بعضاً يومئذٍ لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذاباً فوق العذاب.
ويجوز أن تكون جملة {يبصرونهم} في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميماً في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له: انظر مَاذا يقاسي فلان. و{يبصرونهم} مضارع بَصَّره بالأمر إذا جعله مبصراً له، أي ناظراً فأصله: يبصَّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.
والضميران راجعان إلى {حميم} المرفوع وإلى {حميماً} المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظراً إلى عموم {حمِيمٌ} و{حميماً} في سياق النفي.
و {يودّ}: يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب.
وإما بكلام يصدر منه نظير قوله: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذٍ فيقول: أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون ذلك فضيحة له يومئذٍ بين أهله.
و {المجرم}: الذي أتى الجُرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.
و {يومئذٍ} هو {يوم تكون السماء كالمهل} فإن كان قوله: {يوم تكون السماء} متعلقاً ب {يودّ} فقوله: {يومئذٍ} تأكيد ل {يوم تكون السماء كالمهل،} وإن كان متعلقاً بقوله: {تعرج الملائكة} [المعارج: 4] فقوله: {يومئذٍ} إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.
و {لو} مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل {يود}، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.
وقرأ الجمهور {يومئذٍ} بكسر ميم (يوم) مجروراً بإضافة (عذاب الله). وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإِضافة (يوم) إلى (إذ)، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.
والافتداء: إعطاء الفِداء، وهو ما يعطى عوضاً لإِنقاذٍ من تبعةٍ، ومنه قوله تعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} في البقرة (85) وقوله: ولو افتدى به في آل عمران (91)، والمعنى: لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.
ومعنى مِن} الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يَتخلص و{صاحبِته}: زوجِهِ.
والفصيلة: الأقرباء الأدْنَوْن من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول مِنهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والأمهاتتِ قال ابن العربي: قال أشهب: سألتُ مالكاً عن قول الله تعالى: {وفصيلته التي تؤويه} فقال هي أمه اه، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.
وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.
ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصداً للإِيجاز.
والايواء: الضم والانحياز. قال تعالى: {ءاوَى إليه أخاه} [يوسف: 69] وقال: {سآوي إلى جبل} [هود: 43].
و {التي تؤويه:} إن كانت القبيلةَ، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئاً يومئذٍ.
وإن كانت الأمَّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} [الروم: 48] أي يودّ لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.
{ومن في الأرض جميعاً} عطف على {بنِيه}، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعزّ عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة في استبقائه على نحو قوله تعالى:
{فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به} [آل عمران: 91].
و {مَن} الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.
و {ثم} في قوله: {ثم ينجيه} للتراخي الرتبي، أي يودّ بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإِنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله: {ينجيه} عائد إلى الافتداء المفهوم من {يفتدي} على نحو قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
والمعطوف ب {ثم} هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى: {ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكُونون سواء} [النساء: 89] وقوله: {ودُّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه ب {ثم} للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.
ومتعلق {ينجيه} محذوف يدل عليه قوله: {من عذاب يومئذٍ.
وكَلاَّ} حرف ردع وإبطال لكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإِبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو لإِبطال ما يتفوه به من تمنّي ذلك. قال تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]، ألا ترى أنه عبر عن قوله ذلك بالودادة، في قوله تعالى: {يومئذٍ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض} [النساء: 42] أي يصيرون من ترابها.
فالتقدير: يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء.
وجملة {إنها لظَى} استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف {كلا} من الإِبطال. وضمير {إنها} عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى. ولما كان {لظى} مقترناً بألف التأنيث أنّث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف. والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شَواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله: {تدعو من أدبر وتولى وجَمع فأوعى،} أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلاّ بجمع المال.
فحرف (إنَّ) للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، لا إلى الإِخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس ذلك بمحل التردد. و{لظى} خبر (إن).
ويجوز أن يكون ضمير {إنها} ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي إن قصتك وشأنك لَظى، فتكون {لظى} مبتدأ.
وقرأ الجمهور {نزّاعةٌ} بالرفع فهو خبر ثان عن (إنَّ) إن جعل الضمير ضميراً عائداً إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن {لظى} إن جعل الضمير ضمير القصة وجُعل {لظى} مبتدأ.
وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة. والتعريض هو هو، وحرف (إنّ) إما للتوكيد متوجهاً إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأَخبار المهتم بها.
و {لَظى}: علَم منقول من اسم اللهب، جعل علَماً ل «جهنم»، وألفه ألف تأنيث، وأصله: لظى بوزن فتًى منوناً اسم جنس للهب النار.
فنقل اسم الجنس إلى جعله عَلَماً على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيهاً بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.
والعرب قد يدخلون تغييراً على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شُمْس بضم الشين منقولاً من شَمْس بفتح الشين. كما قال ابن جني في شرح قول تأبط شراً:
إني لمهد من ثنائي فقاصدٌ *** به لابننِ عمِّ الصِدِق شُمْسسِ بننِ مالك
وليس من العلَم بالغلبة إذ ليس معرفاً ولا مضافاً، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعاً من الصرف فلا تقول: لظًى بالتنوين إلاّ إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول: اللَّظَى إلاّ إذا أردت لهباً معيناً، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.
والنّزاعة: مبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.
والشوى: اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غيرُ الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكل أحد من شوى، وقيل الشواة: جلْدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.
وجملة {تدعو} إما خبر ثان حسب قراءة {نزّاعة} بالرفع وإمّا حال على القراءتين. والدعاء في قوله: {تدعو} يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظّى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدُبة، ورُمز إلى ذلك ب {تدعو} وذلك على طريقة التهكم.
ويكون {من أدبر وتولى وجمع فأوعى} قرينةً، أو تجريداً، أي من أدبر وتولى عن الإِيمان بالله. وفيه الطباق لأن الإِدبار والتولي يضادَّاننِ الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون (يدعوا) مشتقاً من الدُعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوَهْبَيْننِ مُخْتَاراً لِمَرْتَعه *** من ذي الفوارس تدعُو أنفَه الرِّبَبُ
الرِّبَب بكسر الراء وبموحدتين: جمع رِبَّة بكسر الراء وتشديد الموحدة: نبات ينبت في الصيف أخضرُ.
ويجوز أن يكون {تدعو} مستعملاً حقيقة، و«الذين يَدْعون»: هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسنادُ الدعاء إلى جهنم إسناداً مجازياً لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعو حقيقة بأن يخلُق الله فيها أصواتاً تنادي الذين تولوا أن يَرِدوا عليها فتلتهمهم.
و {من أدبر وتولى وجمع فأوعى} جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتَدوا من عذاب يومئذٍ. وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإِسلام.
وهي ثلاثة: الإِدبار والإِعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم.
والإِدبار: ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر، فأدبر: جعل شيئاً وراءه بأن لا يعرج عليه أصلاً أو بأن يقبل عليه ثم يفارقَه.
والتولّي: الإِدبار عن شيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الوَلاية وهي الملازمة قال تعالى:
{فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144]، ثم قالوا: ولَّى عنه، أرادوا اتخذ غيره ولياً، أي ترك وَلايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا: رَغب فيه ورغب عنه، فصار «ولي» بمعنى: أدبر وأعرض، قال تعالى: {فأعْرض عمن تولَّى عن ذِكرنا} [النجم: 29] أي عامِلْه بالإِعراض عنه.
ففي التولي معنى إيثار غير المتولَّى عنه، ولذلك يكون بين التولّي والإِدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عُطف و{تولَّى} على {أدبر} أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإِدبار مراداً به إدبارَ غير تَول، أي إدباراً من أول وهلة، ويكون التولي مراداً به الإِعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإِدبار مستعاراً لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حال الذين قال الله فيهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، والتولي مستعار للإِعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} [الأنفال: 31] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.
والمقصود من ذكرهما معاً تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلِّق {أدبر وتولى} متّحداً يتنازعه كلا الفعلين، ويقدر بنحو: عن الحق، وفي «الكشاف»: أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحداً.
ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلِّقٌ هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي: أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإِيمان من أصله، وأعرض عن طاعة الرسول بعد سماع دعوته. وعن قتادة عكسه: أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وتبعه الفخر والنيسابوري.
والجمع والإِيعاء في قوله: {وجمع فأوعى} مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتب الثاني على الأول أن مفعول {جمع} المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يُجعل في وعاء.
والوعاء: الظرف، أي جمع المال فكنزه ولم ينفع به المحَاويج، ومنه جاء فعل {أوعى} إذا شحّ. وفي الحديث: " ولا تُوعي فيُوعَى عليك "
وفي قوله: {جمَع} إشارة إلى الحرص، وفي قوله: {فأوعى} إشارة إلى طول الأمل. وعن قتادة {جمع فأوعى} كان جَمُوعاً للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يُقدَّر ل {جمع} مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث. وعليه يكون {فأوعى} مستعاراً لملازمته مَا فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنَة لا يفرط فيها.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}
معترضة بين {من أدبر وتولّى وجمع فأوعى} [المعارج: 1718] وبين الاستثناء {إلاّ المصلّين} [المعارج: 22] الخ.
وهي تذييل لجملةِ {وجمع فأوعى} تنبيهاً على خصلةٍ تخامر نفوس البشر فتحملهم على الحرص لنيل النافع وعلى الاحتفاظ به خشية نفاده لما فيهم من خلق الهلع. وهذا تذييل لَوْم وليس في مَساقه عُذر لمن جمَع فأوعى، ولا هو تعليل لفعله.
وموقع حرف التوكيد ما تتضمنه الجملة من التعجيب من هذه الخصلة البشرية، فالتأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر ولفت الأنظار إليه والتعريضضِ بالحذر منه.
والمقصود من التذييل هو قوله: {وإذا مسَّه الخير منوعاً} وأما قوله: {إذا مسه الشر جزوعاً} فتمهيد وتتميم لحالتيه.
فالمراد بالإِنسان: جنس الإِنسان لاَ فرد معيّن كقوله تعالى: {إن الإِنسان ليطْغَى أن رآه استغنى} [العلق: 67] وقوله: {خلق الإِنسان من عَجَل} [الأنبياء: 37]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.
وهلوع: فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلَع.
والهلع لفظ غامض من غوامض اللّغة قد تساءل العلماء عنه، قال «الكشاف»: «وعن أحمد بن يحيى (هو ثعلب) قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله ولا يكون تفسير أبْيَنَ من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس» ا ه. فسارت كلمة ثعلب مسيراً أقنع كثيراً من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع. وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى: {إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} تفسيراً لمدلول الجزوع، تعيّن أن يكون مدلول الكلمة معنًى مركباً من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيراً له، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم، وكثيراً من أيمة اللغة فسر الهلع بالجزع، أو بشدة الجزع، أو بأفحش الجزع، والجزع: أثر من آثار الهلع وليس عينه، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب:
ما إن جَزِعْتُ ولا هَلِعْتُ *** ولا يَرُدُّ بُكَايَ زَنْدَا
إذ عَطف نفي الهلع على نفي الجزع، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف، ولو كان الهلع أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشواً. ولذلك تكلّف المرزوقي في «شرح الحماسة» لمعنى البيت تكلفاً لم يُغن عنه شيئاً قال: فكأنه قال: ما حَزنت عليه حزناً هَيِّناً قريباً ولا فظيعاً شديداً، وهذا نفي للحزن رأساً كقولك: ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم ا ه.
والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يُحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاققِ منه. وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره، وبعضهم بالضجر، وبعضهم بالشح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء.
وما ذكرناه في ضبطه يَجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع. ومعنى {خُلق هلوعاً:} أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية، إذ ليس في تَعلُّق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها، وقد تكون للشيء الحالةَ وضدها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حاللٍ مع تَحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه، وإِذْ ذَكَر الله الهلع هنا عقب مَذَمَّة الجمع والإِيعاء، فقد أشعر بأن الإِنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله: {خُلق هلوعاً} كناية بالخَلْق عن تمكن ذلك الخُلق منه وغلبته على نفسه.
والمعنى: أن من مقتضى تركيب الإِدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية رُكِّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف، وساعية إلى المُلائم ومعرضة عن المنافر. وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإِدراك في استخدامها كما يُجب في حدود المقدرة البدنية التي أُعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع، كل ذلك ليَصلُح الإِنسانُ لإِعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحاً يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعداداً لصلاحيته لإعمار عالم الخلود، ثم جعل له إدراكاً يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر. وخلق فيه إلهاماً يُحِب النافع ويكرهَ الضار، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يُريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضارّ فيبْتغي ما يظنه نافعاً غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل، أو شاعراً بذلك ولكن شَغَفَه بحصول النفع العاجل يرجِّح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدِّراً معاذيرَ أو حِيَلاً يقتحم بها ما فيه من ضر آجل. وإِن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنْه ضُرَّ الضار ونفعَ النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تُحدث فيه إيثاراً لاتباع الضار لملاءمة فيه ولو في وقت أو عند عارض، إعراضاً عن اتباع النافع لكلفةٍ في فعله أو منافرة لوجدانه، وذلك من اشتمال تركيب قُواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان، وصلاحيةً لإِفساد ذلك أو بعثرته.
غير أن الله جعل للإِنسان عقلاً وحكمة إن هو أحسن استعمالهما نَخَلَتْ صفاته، وثقَّفت من قناتِه، ولم يُخْلِه من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يَريض جامح نفْسه، وكيف يُوفق بين إدراكه وحِسّه، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.
فإذا أُخبر عن الإِنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجُعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك: إلقاء تَبِعة ذلك عليه لأنه فرط في إِراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء.
وإذا أُسند ما يأتيه الإِنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود: التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79] عقب قوله: {قلْ كلٌّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} [النساء: 78]. وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة، وحَلِكَتْ عليهم الأجواء، ففكروا وقدَّروا، وما استطاعوا مخلصاً وما قدَروا.
واعلم أن كلمة (خُلق الإنسان) إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمْشاج} [الإنسان: 2] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يُعنى بها التنبيه على جبلة الإِنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضاً بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو {خلق الإنسان من عَجل} [الأنبياء: 37] {إن الإِنسان خلق هلوعاً}، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإِنسان ضعيفاً} [النساء: 28]، وقد ترد لبيان أصل ما فُطر عليه الإِنسان ومَا طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى: {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} [التين: 45] ففعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة. قال عروة بن أذَيْنَة:
إن التي زَعَمَتْ فؤادَك ملّها *** خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هوًى لها
أراد إبطال أن يكون ملَّها بحجة أنها خُلقت حبيبة له كما خُلق محبوبها، أي إن محبته إياها لا تنفك عنه.
والهلع: صفة غير محمودة، فوصف الإِنسان هنا بها لوْم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها، ولذلك ذيل به قوله: {وجمع فأوعى} [المعارج: 18] على كلا معنييه.
وانتصب {جزوعاً} على الحال من الضمير المستتر في {هلوعاً،} أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر.
وقوله: {منوعاً} عطف على {جزوعاً،} أي خلق هلوعاً في حال كونه جزوعاً إذا مسه الشر، ومنوعاً إذا مسه الخير.
و {الشر}: الأذى مثل المرض والفقر.
و {الخير}: ما ينفع الإنسان ويلائم رغباته مثل الصحة والغنى.
والجزوع: الشديد الجزع، والجزع: ضد الصبر.
والمنوع: الكثير المنع، أي شديد المنع لبذل شيء مما عنده من الخير.
و {إذا} في الموضعين ظرفان يتعلقان كل واحد بما اتصل به من وصفي {جزوعاً ومنوعاً.
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}
استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ به من قوله: {يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ} [المعارج: 11] الآية.
فالمعنى على الاستدراك. والتقدير: لكن المصلين الموصوفين بكَيْت وكَيْتتِ أولئك في جنات مكرمون.
فجملة {أولئك في جنات مكرمون} حيث وقعت بعد {إلاَّ} المنقطعة وهي بمعنى (لكنَّ) فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم (لكنَّ) المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد (لكنْ) المخففة وهو ما حققه الدماميني، وإن كان ابن هشام رأى عدّ الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب.
والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة.
وهذه صفات ثمان هي من شعار المسلمين، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطناباً في الثناء عليهم لأن مقام الثناء مقام إطناب، وتنبيهاً على أن كلّ صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات.
وهذه الصفات لا يشاركهم المشركون في معظمها بالمرة، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدْر، ومع أحلافه دون أعدائِه، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب، وإذا خشي أن يوصم بالكذب. وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث، وغدر بعضهم بعضاً، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة.
ولما كان وصف {المصلين} غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى: {ما سلككم في سقَر قالوا لم نك من المصلين} الآية [المدثر: 42، 43]، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف {الذين هم على صلاتهم دائمون} أي مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها. والدوام على الشيء: عدم تركه، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواماً فيه، كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار.
وفي إضافة (صلاة) إلى ضمير {المصلين} تنويه باختصاصها بهم، وهذا الوصف للمسلمين مُقابل وصف الكافرين في قوله: {بعذاب واقع للكافرين} [المعارج: 1، 2].
ومجيء الصلة جملةً اسمية دون أن يقال: الذين يدومون، لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام.
وإعادة اسم الموصول مع الصِّلات المعطوفة على قوله {الذين هم على صلاتهم دائمون} لمزيد العناية بأصحاب تلك الصِّلات.
وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم {حق} للإِشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم في مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذٍ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت.
ومعنى كون الحق معلوماً أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم.
ومجيء الصلة جملة اسمية لإِفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعاً لتوهم الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشحّ للنفوس.
والسائل: هو المستعطي، و{المحروم}: الذي لا يَسأل الناس تعففاً مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم.
وأصل المحروم: الممنوع من مرغوبه، وتقدم في سورة الذاريات (19) في قوله: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم. وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله: وجمَع فأوعَى} [المعارج: 18].
والتصديق بيوم الدين هو الإِيمان بوقوع البعث والجزاءِ، و{الدينُ}: الجزاء. وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله: {إنهم يرونه بعيداً} [المعارج: 6].
ولما كان التصديق من عمل القلب لم يتصور أن يكون فيه تفاوت أُتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار.
ووصفهم بأنهم {من عذاب ربهم مشفقون} مقابل قوله في حق الكافرين {سال سائل بعذاب واقع للكافرين} [المعارج: 1، 2] لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله.
والإِشفاق: توقع حصول المكروه وأخذُ الحذر منه.
وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإِشفاق لأنه من المغيبات، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه.
وجملة {إن عذاب ربهم غير مأمون} معترضة، أي غير مأمون لهم، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمْنَ منه إذ قالوا: {وما نحن بمعذبين} [الشعراء: 138]. ووصفُهم بأنهم {لفروجهم حافظون} مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله: {ولا يَسْأل حميم حميماً} [المعارج: 10] إذ أخص الأحِمَّاء بالرجل زوجه، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة عن غير الأزواج، قال تعالى: {الأخلاَّءُ يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين} [الزخرف: 67].
وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين، أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنا ولا مخالّة ولا بغاء، ولذلك عقب بالتفريع بقوله: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.
والعادي: المفسد، أي هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم، ونشأت بينهم الإِحن من الغيرة.
وذكرُ رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يودّ الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة. وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بمواليه وأهل عهده.
والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله.
والرعي: الحفظ والحراسة. وأصله رعي الغنم والإِبل.
وقرأ الجمهور لأماناتهم} بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير {لأمانتهم} بالإِفراد والمراد الجنس.
وقوله: {والذين هم بشهادتهم قائمون} ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد.
ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجباً عليه، قال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة: 282].
والقيام بالشهادة: الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في سورة البقرة (3).
وباء بشهادتهم} للمصاحبة، أي يقومون مصاحبين للشهادة ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية.
فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإِسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم.
والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريباً أو صديقاً، وقد تثير الشهادة على المرء إِحْنَة منه وعداوة.
وقرأ الجمهور {بشهادتهم} بصيغة الإِفراد، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها. وقرأ حفص ويعقوب {بشهاداتهم} بصيغة الجمع. وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه.
وقوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل: عافاه الله، وقاتله الله، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها. وإيثار الفعل المضارع لإِفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به، وبذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجرد تأكيد لجملة {الذين هم على صلاتهم دائمون} بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين.
وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة، وأن الصلوات تكفر الذنوب كحديث «مَا يُدريكم ما بَلَغتْ به صلاته»
وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع.
ولما أُجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مُكرمون في الجنة.
وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجْل ما سبَق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5).
والإِكرام: التعظيم وحسن اللقاء، أي هم مع جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء، قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] وقال {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72].
وهذا يقتضي أن يكون قوله: {في جنات} خبراً عن اسم الإِشارة وقوله {مكرمون} خبراً ثانياً.
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}
تفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.
فرع ذلك على ما أفاده في قوله: {أولئك جنات مكرمون} [المعارج: 35].
والمعنى: أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.
وهذا وإن كان خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.
ومعنى {فما للذين كفروا}: أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا} في سورة البقرة (246). وتركيب ما لَه لا يخلو من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبَّ الاستفهام. فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي قِبَلَك} فيكون ظرفاً مستقراً وصاحب الحال هو {للذين كفروا}. ويجوز أن تكون {مهطعين،} فيكون {قِبَلَك} ظرفاً لغْواً متعلقاً ب {مهطعين.} وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخَر المُجرى اللائق به في التركيب. وكتب في المصحف اللام الداخلة على {الذين} مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر.
والإِهطاع: مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} في سورة القمر (8).
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب الكشاف}: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم. فأنزل الله هذه الآية.
وقِبَل: اسم بمعنى (عند).
وتقديم الظرف على {مهطعين} للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة.
وموقع قوله: {عن اليمين وعن الشمال} مثل موقع {قبلك} وموقع {مهطعين.} والمقصود: كثرة الجهات، أي واردين إليك.
والتعريف في {اليمين} و{الشمال} تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه.
والمقصود من ذكر اليمين والشمال: الإِحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما، ومثله قول قَطَريّ بن الفُجَاءَةِ:
فلقد أراني للرماح دَريئَةً *** مِن عَنْ يميني مَرّة وأَمامي
يريد: من كل جهة.
و {عزِين} حال من {الذين كفروا}. و{عزين}: جمع عِزَة بتخفيف الزاي، وهي الفِرقة من النّاس، اسم بوزن فِعْلَة. وأصله عِزوة بوزن كِسوة، وليست بوزن عِدَة. وجرى جمع عِزة على الإِلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سَنَة من كل اسم ثلاثي حذفت لاَمه وعُوض عنها هاء التأنيث ولم يكسّر مثل عِضَة (للقطعة).
وهذا التركيب في قوله تعالى: {فما للذين كفروا قِبَلك مهطعين} إلى قوله {جنة نعيم} يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يُظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ طالبوا الاهتداء بهديه.
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها.
ويجوز أن يكون الكلام استفهاماً مستعملاً في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم.
وجملة {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم} بدل اشتمال عن جملة {فما للذين كفروا قِبلك مهطعين} الآية، لأنّ التفافهم حول النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يكون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأُورد استفهام عليه.
وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين: نحن ندخل الجنة قبل المسلمين، فجاز أن يكون الاستفهام إنكاراً لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، أو بالتعبير بفعل {يَطمع} عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سُورة تنبئهم بما في قلوبهم} [التوبة: 64] أي يتظاهرون بأنهم يحذرون.
وأُسند الطمع إلى {كل امرئ منهم} دون أن يقال: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، تصويراً لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله: {كل امرئ منهم} تقوية التهكم بهم.
ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما بني عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي {كلا} أي لا يكون ذلك. وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعاً لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكماً.
وهُنا تمّ الكلام على إثبات الجزاء.
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}
كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاً {إنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً} [المعارج: 6، 7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} [الواقعة: 62] فالخبر بقوله: {إنّا خلقناهم مما يعلمون} مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم.
فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً.
والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.
فما صْدَقُ (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر.
وعُدِل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2] وقال: {أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 77، 78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: {مما يعلمون} توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون} [الواقعة: 62]. وكان في قوله تعالى: {مما يعلمون} إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني {مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36] وقال: {وننشئكم فيما لا تعلمون} [الواقعة: 61] فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه.
ومجيء {إنا خلقناهم} موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم} مفرعاً على قوله: {إنا خلقناهم مما يعلمون} والتقدير: فإنا لقادرون الآية.
وجملة (لا أقسم برب المشارق) الخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقَسَم بالله بعنوان ربوبيته المشارقَ والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع {المشارق والمغارب} باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسَم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن.
وفي إيثار {المشارق والمغارب} بالقسم بربها رَعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإِحياءِ بعد الموت.
وتقدم القول في دخول حرف النفي مع (لا أقسم) عند قوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} في سورة الحاقة (38، 39)، وقوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75).
وقوله: على أن نبدل خيراً منهم} يحتمل معنيين: أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيراً منهم، أي نبدل ذواتهم خلقاً خيراً من خلْقهم الذي هم عليه اليوم. والخيرية في الإِتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقاً أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلْق الأول مناسباً لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون {نُبدِّلَ} مضمناً معنى: نعوّض، ويكون المفعول الأول ل {نبدل} ضميراً مثل ضمير {منهم} أي نبدلهم والمفعولُ الثاني {خيراً منهم}.
و (مِن) تفضيلية، أي خيراً في الخلقة، والتفضيلُ باعتبار اختلاف زمانَي الخلْق الأول والخلق الثاني، أو اختلاففِ عالميهما.
والمعنى الثاني: أنْ نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمَّة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون {نبدل} على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفاً مثل ما في المعنى الأول، ويكون {خيراً} منصوباً على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61]، ويكون هذا تهديداً لهم بأنْ سيستأصلهم ويأتيَ بقوم آخرين كما قال تعالى: {إن يشا يذهبكم ويأتتِ بخلق جديد} [فاطر: 16] وقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38].
وفي هذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.
وذيل بقوله: {وما نحن بمسبوقين،} والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق في الحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} [العنكبوت: 4]، ومنه قول مرة بن عَدَّاء الفقعسي:
كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنتَ تطلُب
يريد: كأنك لم تُغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك.
و {على أن نبدل خيراً منهم} مُتعلق ب {مسبوقين،} أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة (61) إنا لقادرون {على أن نبدل أمثالكم.}
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}
تفريع على ما تضمنه قوله: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين} [المعارج: 36] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم: إننا ندخل الجنة، الاستهزاءَ بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وبعدَ إبطاله إجمالاً وتفصيلاً فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعِلم بأنهم لم يُجْدِ فيهم الهَديُ والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة.
ومعنى الأمر بالترك في قوله: {فذرهم} أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله: {يخوضوا ويلعبوا.
فجملة يخوضوا} وجملة {ويلعبوا} حالان من الضمير الظاهر في قوله: {فذرهم}. وتلك الحال قيد للأمر في قوله: {فذرهم}. والتقدير: فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم.
وتعدية فعل (ذَرْ) إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات. والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالى: {حُرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي حرم عليكم أكلُها، وقوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] أي أن تجمعُوهما معاً في عصمة نكاححِ والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} في سورة الطور (45)، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله: يخوضوا ويلعبوا} في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفاً كما في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] إذ التقدير: فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأَنصاب والاستقسام بالأزلام.}
وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يَعُدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافاً للكرخي وبعض الشافعية.
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كَبْشَةَ أختتِ عَمرو بن معديكرب تُلْهَب أخاها عمراً للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل:
ودَعْ عنك عَمْراً اِنَّ عَمْراً مُسالم *** وهل بَطْنُ عَمرو غَيْرُ شِبْرٍ لمَطْعَم
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8].
وبهذا تعلم أن قوله تعالى: {فذرهم} لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.
والخوض: الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
واللعب: الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأَمر لاستطارة رشدهم حسداً وغيظاً وحنقاً.
وجزم {يخوضوا ويلعبوا} في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر: أن تذرهم يَخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك، ومثل هذا الجزم كثير نحو {قُل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليَجْزِيَ قوماً بما كانوا يكسبون} [الجاثية: 14] ونحو {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]. وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوماً بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيت نكتة المبالغة.
و {حتى} متعلقة ب (ذرهم) لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازَوْن على استهزائهم وكفرهم، فلا يكون غاية ل {يخوضوا ويلعبوا} والغاية هنا كناية عن دوام تركهم.
وإضافة (يوم) إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
وقرأ الجمهور {يلاقوا} بألف بعد اللام من الملاقاة. وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء.
واللقاء: مجاز على كل تقدير: فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يَلقى ولا يُلقى. وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذَّوات.
و {يوم يخرجون من الأجداث} بدل من {يومَهم} ليس ظرفاً.
والخروج: بروز أجسادهم من الأرض.
وقرأ الجمهور {يخرجون} بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول.
و {الأجداث}: جمع جدث بفتحتين وهو القبر، والقبر: حفير يجعل لمواراة الميت.
وضمير {يخرجون} عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة. وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر.
والنَّصْب بفتح فسكون: الصنم، ويقال: نُصُب بضمتين، ووجه تسميته نصباً أنه ينصب للعبادة، قال الأعشى:
وذا النُصُبَ المنصوبَ لا تنسكنه *** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
و {يوفِضون} مضارع أوفض، إذا أسرع وعدا في سيره، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم، شُبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإِسراع اختصاصاً بهم، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دعَ، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام.
وقرأ الجمهور {نَصْب} بفتح النون وسكون الصاد. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد.
وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل، كما قال تعالى: {ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] وقال: {خُشَّعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]. وأصل الخشوع: ظهور الطاعة أو المخافة على الإِنسان.
والرهق: الغشيان، أي التغطية بساتر، وهو استعارة هنا لأن الذلة لا تغشى.
وجملة {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} فذلكة لما تضمنته السورة في أول أغراضها من قوله: {بعذاب واقع إلى قوله: {في يوم كان مقداره} الآيات [المعارج: 1 4]، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة {حتى يلاَقوا يومهم الذي يوعدون.} وفيها مُحسِّن رد العجز على الصدر.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)}
افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام. وكثيراً ما يَفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا (إن) دَاخلةً على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى: {إنه من سليمان وإِنه باسم الله الرحمان الرحيم * أن لا تعلوا علي} الآية [النمل: 30، 31].
وذكْر نوح عليه السلام مضى في سورة آل عمران. وتقدم أن هذا الاسم غير عربي، وأنه غير مشتق من مادة النّوح.
و {أن أنذر قومك} إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه، ف {أنْ} تفسيرية لأنها وقعت بعد {أرسلنا}. وفيه معنى القول دون حروفه. ومعنى {من قِبْل أن يأتيهم عذاب أليم} أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله، فأمره الله أن ينذرهم عذاباً يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدّماً على حلول العذاب. وهذا يقتضي أنه أُمر بأن يعلمهم بهذا العذاب، وأن الله وقَّته بمدة بقائهم على الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أُرسل به في مدة يقع الإِبلاغ في مثلها، فحذف متعلّق فعل {أنذر} لدلالة ما يأتي بعده من قوله: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح: 3].
وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قبل}.
و«قوم نوح» هم الناس الذين كانوا عامرين الأرضَ يومئذٍ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة.
والقوم: الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم.
وإضافة (قوم) إلى ضمير {نوح} لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بيَن أبناءٍ لَه وأنسباءٍ فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد.
وعُدل عن أن يقال له: أنذر الناس إلى قوله: {أنذر قومك} إلهاباً لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته، وهم عدد تكوّن بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض. ولعل عددهم يوم أرسل إليهم نوح لا يتجاوز بضعة آلاف.
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}
{قَالَ ياقوم إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}.
لم تعطف جملة {قال يا قوم} بالفاء التفريعية على جملة {أرسلنا نوحاً إلى قومه} [نوح: 1] لأنها في معنى البيان لجملة {أنذر قومك} [نوح: 1] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أُدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أُمر أن يقول فقال، تنبيهاً على مبادرة نوح لإِنذار قومه في حين يلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه.
ولك أن تجعلها استئنافاً بيانياً لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه {أن أنذر قومك، وهما متقاربان.
وافتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.
والنذير: المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عَمرو بن معديكرب:
أمِنْ ريْحانةَ الداعي السميع ***
وقد تقدم في أول سورة البقرة (10) عند قوله: {ولهم عذاب أليم} وحذف متعلق {نذير} لدلالة قوله: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} عليه. والتقدير: إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقُوه ولم تطيعوني.
والمبين: يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بَانَ، أي مُوَضِّح أو مِن أبان القاصر، الذي هو مرادف بَان المجردِ، أي نذير وَاضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء (109، 110) {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتقوا الله وأطيعون.} وتقديم {لكم} على عامله وهو {نذير} للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.
فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي: النداءُ وجعلُ المنادَى لفظ {يا قوم} المضاف إلى ضميره، وافتتاحُ كلامه بحرف التأكيد، واجتلابُ لام التعليل، وتقديمُ مجرورها.
و {أن} في {أن اعبدوا} تفسيرية لأن وصف {نذير} فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس (71) {فأجمِعوا أمركم وشرُكاءكم} وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلاً تاماً.
واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: حال من أحوال الذات من باب {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون: لم يكن في شريعة نوح إلاّ الدعوةُ إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تُطلب الطاعة فيها، لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله: {يغفر لكم من ذنوبكم} ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإِشراك اعتقاداً وسجوداً.
وجَزْمُ {يغفر لكم من ذنوبكم} في جواب الأوامر الثلاثة {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.
وحرف {مِن} زائد للتوكيد، وهذا من زيادة {مِن} في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي وجميععِ نحاة الكوفة. فيفيد أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإِسلام.
ويجوز أن تكون {مِن} للتبعيض، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم، أي ذنوب الإِشراك وما معه، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية، ومغفرةُ الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله. وقال ابن عطية: معنى التبعيض: مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد. وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر {مِن} التبعيضية اقتصاداً في الكلام بالقدر المحقق.
وأما قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإِنسان حُب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارضَ ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإِنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع. قال المعري:
وكلّ يريدُ العيشَ والعيشُ حَتفُه ويستعْذِبُ اللذاتتِ وهي سِمَام ***
والتأخيرُ: ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء.
وقد أشعر وعدُه إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جُعل جزاءً لكل من عَبدَ الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله: {أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} [نوح: 1] كما تقدم آنفاً، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود (38) {ويصنَعُ الفلك وكلَّما مرّ عليه ملأ من قومه سَخِروا منه} أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى: ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة.
والأجل المسمى: هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقةِ كل أحد منهم، فالتنوين في {أجل} للنوعية، أي الجنس، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى:
{ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَدّ إلى أرذل العمر} [الحج: 5].
ومعنى {مسمى} أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى: {وأجل مسمى عنده} في سورة الأنعام (2).
فالأجل المسمى: هو عمر كل واحد، المعيّنُ له في سَاعةِ خلْقه المشار إليه في الحديث أن المَلَك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما يَنفُخ فيه الروحَ، واستعيرت التسمية للتعيين لشَبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال.
والمعنى: ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعاً فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم.
فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود (3) {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتّعْكم متاعاً حسناً إلى أجللٍ مسمّى} وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ}.
يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لقوله: {ويؤخرْكم إلى أجل مسمى،} أي تعليلاً للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله: {أن اعبدوا الله} إلى قوله: {ويؤخِّركم} الخ لأن الربط بين الأمْر وجوابِه يعطي بمفهومه معنى: إِنْ لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى، فعُلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة {إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر}، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إِبَّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإِيمان ساعتئذٍ، كما قال تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس: 98]، فيكون هذا حثاً على التعجيل بعبادة الله وتقواه.
فالأجَل الذي في قوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} غير الأجل الذي في قوله: {ويؤخركم إلى أجللٍ مسمى} ويُناسِب ذلك قولُه عقبه {لو كنتم تعلمون} المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيَّنة لاستئصالهم، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين. وفي إضافة {أجل} إلى اسم الجلالة في قوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذاراً لهم ليؤمنوا بالله. ويحتمل أن تكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى، أي دون تأخيرهم تأخيراً مستمراً فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله: {إلى أجل مسمى}.
ويحتمل أن تكون الجملة تعليلاً لكلا الأجلين: الأجل المفاد من قوله: {من قبل أن يَأتيهُم عذابٌ أليم} [نوح: 1] فإن لفظ {قبل} يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مُبْهم غير بعيد، والأجَل المذكورِ بقوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} فيكون أجل الله صادقاً على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم.
وإضافته إلى الله إضافة كشف، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد.
وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} وبين قوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} إما لاختلاف المراد بلفظيّ (الأجل) في قوله: {إلى أجل مسمى} وقوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر،} وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله: {إذا جاءَ لا يؤخر} فانفكت جهة التعارض.
أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإِنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين: أصل العلم الإلهي بما سيكون، وأصل تقدير الله للأسباب وترتُّب مسبباتها عليها.
فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى: {وما يعمَّر من معمَّر ولا يُنقص من عمره إلاّ في كتاب} [فاطر: 11] أي في علم الله، والناس لا يطلعون على ما في علم الله.
وأما وجودُ الأسباب كلها كأسباب الحياة، وترتبُ مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيِّراتتٍ لم تكن موجودة إكراماً لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر. وفي الحديث صدقة المرء المُسلم تزيد في العُمر. وهو حديث حسن مقبول. وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يُمد في عمره فليتق الله وليصِل رحمه. وسنده جيد. فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص. وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مُهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صْدَقُ قوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} وقد قال الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج.
فالذي رغَّب نوحٌ قومَه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرتْ آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كُشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «اعملُوا فكل مُيسَّر إلى ما خُلق له» وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.
وفي إقحام فعل {كنتم} قبل {تعلمون} إيذان بأن علمهم بذلك المنتفيَ لوقوعه شرطاً لحرف {لو} محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} في سورة يونس (2).
وجواب لو} محذوف دل عليه قوله: {لا يؤخَّر}. والتقدير: لأيقنتم أنه لا يؤخر.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}
جرد فعل {قال} هنا، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له {أنْذِر قومك} [نوح: 1] عومل معاملة الجواب الذي يُتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30)، تنبيهاً على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله: {ليلاً ونهاراً} وحصول يأسه منهم، فجعل مراجعته ربه بعد مهلة مستفادة من قوله: {لَيْلاً ونهاراً} بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورَيْن. ولك أن تجعل جملة {قال رب} الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع يترقب معرفة ماذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى.
وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله: {وقال نوح رب لا تذَرْ على الأرض من الكافرين دياراً} الآيات [نوح: 26].
وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهارُ توكله على الله، وانتصار الله له، والإِتيانُ على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي:
{أن أنذر قومك} الخ [نوح: 1].
{قال يا قوم إني لكم نذير مبين} الخ [نوح: 2].
3 {قال رب إني دعوت قومي} الخ [نوح: 5].
{فقلت استغفروا ربكم} الخ [نوح: 10].
{قال نوح رب إنهم عصوني} الخ [نوح: 21].
{ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} الخ [نوح: 24].
{وقال نوح رب لا تذر على الأرض} الخ [نوح: 26].
{رب اغفر لي} الخ [نوح: 28].
وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوّ وراحة البال وهي أوقات الليل.
ومعنى {لم يَزدهم دعائيَ إلاّ فراراً} أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلاّ بعداً منه، فالفرار مستعار لقوة الإِعْراض، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قرباً مما أدعوهم إليه.
واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع. والتقدير: فلم يزدهم دعائي قرباً من الهدى لكن زادهم فراراً كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام {فما تزيدونني غير تخسير} [هود: 63].
وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سبباً في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم.
وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده، وهو هنا تأكيد إِعراضهم المشبه بالابتعاد بصورةٍ تشبه ضد الإِعراض.
ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتاً لهم من قبل كان قوله: {لم يزدهم دعائي إلاّ فراراً} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وتصدير كلام نوح بالتأكيد لإِرادة الاهتمام بالخبر.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)}
{كلما} مركبة من كلمتين كلمةِ (كل) وهي اسم يدل على استغراق أفراد ما تضاف هي إليه، وكلمة (ما) المصدرية وهي حرف يفيد أن الجملة بعده في تأويل مصدر. وقد يراد بذلك المصدر زمَانُ حصوله فيقولون (مَا) ظرفية مصدرية لأنها نائبة عن اسم الزمان.
والمعنى: أنهم لم يظهروا مخِيلةً من الإِصغاء إلى دعوته ولم يتخلفوا عن الإِعراض والصدود عن دعوته طَرفة عَيْن، فلذلك جاء بكلمة {كلما} الدالة على شمول كلّ دعوة من دعواته مقترنةً بدلائل الصد عنها، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [البقرة: 20].
وحُذف متعلق {دَعَوْتُهم} لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {أن اعبدوا الله} [نوح: 3].
والتقدير: كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به.
واللام في قوله: {لتغفر} لام التعليل، أي دعوتهم بدعوة التوحيد فهو سبب المغفرة، فالدعوة إليه معللة بالغفران.
ويتعلق قوله: {كلما دعوتهم} بفعل {جعلوا أصابعهم} على أنه ظرف زمان.
وجملة {جعلوا أصابعهم} خبر (إن) والرابط ضمير {دعوتهم}.
وجَعْل الأصابع في الآذَان يمنع بلوغ أصوات الكلام إلى المسامع.
وأطلق اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضية فإن الذي يُجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كلّه فعُبر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها، وتقدم في قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} في سورة البقرة (19).
واستغشاء الثياب: جَعْلُها غِشاء، أي غِطاء على أعينهم، تعْضيداً لسد آذانهم بالأصابع لئلا يسمعوا كلامه ولا ينظروا إشاراته. وأكثر ما يطلق الغشاء على غطاء العينين، قال تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7]. والسين والتاء في {استغشوا} للمبالغة.
فيجوز أن يكون جعل الأصابع في الآذان واستغشاءُ الثياب هنا حقيقة بأن يكون ذلك من عادات قوم نوح إذا أراد أحد أن يظهر كراهية لكلام من يتكلم معه أن يجعل أصبعيه في أذنيه ويجعل من ثوبه ساتراً لعينيه.
ويجوز أن يكون تمثيلاً لحالهم في الإِعراض عن قبول كلامه ورؤية مقامه بحال من يَسُكُّ سمعه بأنملتيْه ويحجب عينيه بطرف ثوبه.
وجعلت الدعوة معللة بمغفرة الله لهم لأنها دعوة إلى سبب المغفرة وهو الإِيمان بالله وحده وطاعةُ أمره على لسان رسوله.
وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتعجب من خُلُقهم إذ يعرضون عن الدعوة لما فيه نفعهم فكان مقتضى الرشاد أن يسمعوها ويتدبروها.
والإِصرار: تحقيق العزم على فعللٍ، وهو مشتق من الصَّر وهو الشد على شيء والعقدُ عليه، وتقدم عند قوله تعالى: {ولم يصرّوا على ما فعلوا} في سورة آل عمران (135).
وحذف متعلق أصَروا} لظهوره، أي أصروا على ما هم عليه من الشرك.
{واستكبروا} مبالغة في تكبروا، أي جعلوا أنفسهم أكبر من أن يأتمروا لواحد منهم {ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلِنُا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل} [هود: 27].
وتأكيد {استكبروا} بمفعوله المطلق للدلالة على تمكن الاستكبار. وتنوين {استكباراً} للتعظيم، أي استكباراً شديداً لا يَفله حدُّ الدعوة.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}
ارتقى في شكواه واعتذاره بأنَّ دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار، فعَطْف الكلام ب {ثم} التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها مِن ملابسة زمانه. فذَكَر أنه دعاهم جهاراً، أي علناً.
وجِهار: اسم مصدر جهر، وهو هنا وصف لمصدر {دَعَوْتُهم}، أي دعوةً جهاراً.
وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإِسرار لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما. فقوله: {أعلنت لهم} تأكيد لقوله: {دعوتهم جهاراً} ذكر ليبنى عليه عطف {وأسررت لهم إسراراً.
والمعنى: أنه توخى ما يظنه أوْغَل إلى قلوبهم من صفات الدعوة، فجهر حين يكون الجهر أجدى مثلُ مجامع العامة، وأسَرَّ للذين يظنهم متجنبين لَوْم قومهم عليهم في التصدّي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله دعوتهم}، وقوله: {أعلنت لهم وأسررت لهم} موزعة على مختلففِ الناس.
وانتصب {جهاراً} بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن لنوع الدعوة.
وانتصب {إسراراً} على أنه مفعول مطلق مفيد للتوكيد، أي إسراراً خفياً.
ووجه توكيد الإسرار أن إسرار الدعوة كان في حال دعوته سادتهم وقادتهم لأنهم يمتعضون من إعلان دعوتهم بمسمع من أتباعهم.
وفصَّل دعوته بفاء التفريع فقال {فقلت استغفروا ربكم} فهذا القول هو الذي قاله لهم ليلاً ونهاراً وجهاراً وإسراراً.
ومعنى {استغفروا ربكم}، ءامنوا إيماناً يكون استغفاراً لذنبكم فإنكم إن فعلتم غفر الله لكم.
وعلّل ذلك لهم بأن الله موصوف بالغفران صفة ثابتة تعهد الله بها لعباده المستغفرين، فأفاد التعليل بحرف (إنَّ) وأفاد ثبوت الصفة لله بذكر فعل {كان} وأفاد كمال غفرانه بصيغة المبالغة بقوله {غفّاراً}.
وهذا وعد بخير الآخرة ورتب عليه وعداً بخير الدنيا بطريق جواب الأمر، وهو {يُرسل السماء عليكم} الآية.
وكانوا أهل فلاحة فوعدهم بنزول المطر الذي به السلامة من القحط وبالزيادة في الأموال.
و {السماء}: هنا المطر، ومن أسماء المطر السماء. وفي حديث «الموطأ» و«الصحيحين» عن زيد بن خالد الجهني: أنه قال: " صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحُدَيْبِيَة على إِثْر سَمَاءٍ كانت من الليْل " الحديث. وقال معاوية بن مالك بن جعفر:
إذا نزل السماءُ بأرض قوم *** رَعَيْنَاهُ وإن كانوا غِضابا
والمدرار: الكثيرة الدُّر والدُّرور، وهو السيلان، يُقال: درت السماء بالمطر، وسماء مدرار.
ومعنى ذلك: أن يَتْبع بعض الأمطار بعضاً.
ومِدرار، زنة مبالغة، وهذا الوزن لا تلحقه علامة التأنيث إلاّ نادراً كما في قول سهل بن مالك الفزاري:
أصبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَة ***
فلذلك لم تلحق التاء هنا مع أن اسم السماء مؤنث.
والإِرسال: مستعار للإِيصال والإِعطاء، وتعديته ب {عليكم} لأنه إيصال من علوّ كقوله:
{وأرسل عليهم طيراً أبابيل} [الفيل: 3].
و (أموال): جمع مال وهو يشمل كل مكسب يبذله المرء في اقتناء ما يحتاج إليه.
والمراد بالجنات في قوله: {ويجعل لكم جنات} النخيل والأعناب، لأن الجنات تحتاج إلى السقي.
وإعادة فعل يَجْعل بعد واو العطف في قوله: {ويجعل لكم أنهاراً} للتوكيد اهتماماً بشأن المعطوف لأن الأنهار قوام الجنات وتسقي المزارع والأنعام.
وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش قال تعالى: {مَن عمِل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِيَنَّه حياة طيبة} [النحل: 97] وقال {ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتتٍ من السماء والأرض} [الأعراف: 96] وقال: {وأنْ لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} [الجنّ: 16].
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)}
بَدَّلَ خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ بقوله: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً.
وهو استفهام صورته صورة السؤال عن أمر ثبت لهم في حال انتفاء رجائهم توقيرَ الله.
والمقصود أنه لا شيء يثبت لهم صارف عن توقير الله فلا عذر لكم في عدم توقيره.
وجملة لا تَرجُون} في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وكلمة (مَا لَك) ونحوها تلازمها حال بعدها نحو {فما لهم عن التذكرة معرضين} [المدثر: 49].
وقد اختلف في معنى قوله: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} وفي تعلق معمولاته بعوامله على أقوال: بعضُها يرجع إلى إبقاء معنى الرجاء على معناه المعروف وهو ترقب الأمر، وكذلك معنى الوقار على المتعارف وهو العظمة المقتضية للإِجلال، وبعضها يرجع إلى تأويل معنى الرجاء، وبعضها إلى تأويل معنى الوقار، ويتركب من الحمل على الظاهر ومن التأويل أن يكون التأويل في كليهما، أو أن يكون التأويل في أحدهما مع إبقاء الآخر على ظاهر معناه.
فعلى حمل الرجاء على المعنى المتعارف الظاهر وحمل الوقار كذلك قال ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية وعَطاء ابن أبي رباح وابن كيسان: ما لكم لا ترجون ثواباً من الله ولا تخافون عقاباً، أي فتعبدوه راجين أن يثيبكم على عبادتكم وتوقيرِكم إياه. وهذا التفسير ينحو إلى أن يكون في الكلام اكتفاء، أي ولا تخافون عقاباً، وإن نكتة الاكتفاء بالتعجب من عدم رجاء الثواب: أن ذلك هو الذي ينبغي أن يقصده أهل الرشاد والتقوى. وإلى هذا المعنى قال صاحب «الكشاف»: إذ صدر بقوله: ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب.
وهذا يقتضي أن يكون الكلام كنايةً تلويحية عن حثهم على الإِيمان بالله الذي يستلزم رجاء ثوابه وخوفَ عقابه لأن من رجا تعظيم الله إياه آمن به وعبده وعمل الصالحات.
وعلى تأويل معنى الرجاء قال مجاهد والضحاك: معنى {لا ترجون} لا تبالون لله عظمة، قال قطرب: هذه لغة حجازية لمضر وهُذيل وخزاعة يقولون: لم أرجُ أي لم أُبال، وقال الوالبي والعَوفي عن ابن عباس: معنى {لا ترجون} لا تعلمون، وقال مجاهد أيضاً: لا ترون، وعن ابن عباس أنه سأَله عنها نافعُ بنُ الأزرق، فأجابه أن الرجاء بمعنى الخوف، وأنشد قول أبي ذؤيب:
إذا لسَعَتْه النحلُ لم يرج لَسْعها *** وحَالفها في بيت نُوبٍ عواسل
أي لم يَخَفْ لسعها واستمرّ على اشتيار العسل. قال الفراء: إنما يوضع الرجاء موضع الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف من الناس ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العِلم كقوله تعالى: {فإن خِفتم أن لا يُقيما حدود الله الآية} [البقرة: 229]، والمعنى: لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة.
وعلى تأويل الوقار قال قتادة: الوقار: العاقبة، أي ما لكم لا ترجون لله عاقبة، أي عاقبة الإِيمان، أي أن الكلام كناية عن التوبيخ على تركهم الإِيمان بالله، وجعل أبو مسلم الأصفهاني: الوقار بمعنى الثبات، قال: ومنه قوله تعالى: {وقَرْن في بيوتكن} [الأحزاب: 33] أي اثبُتن، ومعناه ما لكم لا تُثبتون وحدانية الله.
وتتركب من هذين التأويلين معان أخرى من كون الوقار مسنداً في التقدير إلى فاعله أو إلى مفعوله، وهي لا تخفى.
وأما قوله {لله} فالأظهر أنه متعلق ب {ترجون،} ويجوز في بعض التأويلات الماضية أن يكون متعلقاً ب {وقاراً}: إمَّا تعلّق فاعل المصدر بمصدره فتكون اللام في قوله {لله} لشبه الملك، أي الوقارَ الذي هو تصرف الله في خلقه إن شاء أن يوقركم، أي يكرمكم بالنعيم، وإِمّا تعلقَ مفعوللِ المصدر، أي أن توقروا الله وتخشوه ولا تتهاونوا بشأنه تهاون من لا يخافه فتكون اللام لام التقوية.
وجملة {وقد خلقكم أطواراً} حال من ضمير {لكم} أو ضمير {تَرْجُون}، أي في حال تحققكم أنه خلقكم أطواراً.
فأما أنه خلقهم فمُوجِب للاعتراف بعظمته لأنه مكونهم وصانعهم فحق عليهم الاعتراف بجلاله.
وأما كون خلقهم أطواراً فلأن الأطوار التي يعلمونها دالّة على رفقه بهم في ذلك التطور، فهذا تعريض بكفرهم النعمة، ولأن الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته، فإن تطور الخلق من طور النطفة إلى طور الجنين إلى طور خروجه طفلاً إلى طور الصبا إلى طور بلوغ الأشد إلى طور الشيخوخة وطُروّ الموت على الحياة وطروّ البِلى على الأجساد بعد الموت، كل ذلك والذاتُ واحدة، فهو دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار، وهم يدركون ذلك بأدنى التفات الذهن، فكانوا محقوقين بأن يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله وتوقع عقابه لأن الدلالة على ذلك قائمة بأنفسهم وهل التصرف فيهم بالعقاب والإِثابة إلاّ دون التصرف فيهم بالكَون والفساد.
والأطوار: جمع طَور بفتح فسكون، والطور: التارة، وهي المرة من الأفعال أو من الزمان، فأريد من الأطوار هُنا ما يحصل في المرات والأزمان من أحوال مختلفة، لأنه لا يقصد من تعدد المرات والأزمان إلاّ تعدد ما يحصل فيها، فهو تعدد بالنوع لا بالتكرار كقول النابغة:
فإنْ أفاقَ لقَد طالت عَمايته
والمرءُ يُخْلَق طوراً بعدَ أطوار
وانتصب {أطواراً} على الحال من ضمير المخاطبين، أي تطور خلقهم لأن {أطواراً} صار في تأويل أحوالاً في أطوار.
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)}
إن كان هذا من حكاية كلام نوح عليه السلام لقومه كما جرى عليه كلام المفسرين، كان تخلصاً من التوبيخ والتعريض إلى الاستدلال عليهم بآثار وجود الله ووحدانيته وقدرته، مما في أنفسهم من الدلائل، إلى ما في العالم منها، لِما علمتَ من إيذان قوله: {وقد خلقكم أطواراً} [نوح: 14] من تذكير بالنعمة وإقامة للحجة، فتخلص منه لذكر حجة أخرى، فكان قد نبههم على النظر في أنفسهم أولاً لأنها أقرب ما يحسونه ويشعرون به ثم على النظر في العالم وما سُوّي فيه من العجائب الشاهدة على الخالق العليم القدير.
وإن كان من خطاب الله تعالى للأمة وهو ما يسمح به سياق السورة من الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المساوية لأحوال المشركين كان هذا الكلام اعتراضاً للمناسبة.
والهمزة في {ألم تروا} للاستفهام التقريري مكنى به عن الإِنكار عن عدم العلم بدلائل ما يرونه.
والرؤية بصرية. ويجوز أن تكون علمية أي ألم تعلموا فيدخل فيه المرئي من ذلك. وانتصب {كيف} على المفعول به ل {تروا}، ف {كيف} هنا مجردة عن الاستفهام متمحضة للدلالة على الكيفية، أي الحالة.
والمعنى: ألستم ترون هيئة وحالةَ خلققِ الله السماوات.
والسماوات: هنا هي مدارات بمعنى الكواكب فإن لكل كوكب مداراً قد يكون هو سماءَه.
وقوله: {سبع سموات} يجوز أن يكون وصف {سبع} معلوماً للمخاطبين من قوم نوح، أو من أمة الدعوة الإسلامية بأن يكونوا علموا ذلك من قبل؛ فيكون مما شمله فعل {ألم تروا}. ويجوز أن يكون تعليماً للمخاطبين على طريقة الإِدماج، ولعلهم كانوا سلفاً للكلدانيين في ذلك.
و {طباقاً}: بعضها أعلى من بعض، وذلك يقتضي أنها منفصل بعضها عن بعض وأن بعضها أعلى من بعض سواء كانت متماسَّة أو كان بينها ما يسمى بالخلاء.
وقوله: {وجعل القمر فيهن نوراً} صالح لاعتبار القمر من السماوات، أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة، لأن ظرفية (في) تكون لوقوع المحوي في حاويه مثل الوعاء، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته، كما في حديث الشفاعة «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها»، وقول النميري:
تَضوَّعَ مسكاً بطن نَعْمَانَ أنْ مشتْ
به زينب في نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ
و {القمر} كائن في السماء المماسة للأرض وهي المسماة بالسماء الدنيا، والله أعلم بأبعادها.
وقوله: {وجعل الشمس سراجاً} هو بتقدير: وجعل الشمس فيهن سراجاً، والشمس من الكواكب.
والإِخبار عن القمر بأنه نور مبالغة في وصفه بالإِنارة بمنزلة الوصف بالمصدر. والقمر ينير ضوؤُه الأرضَ إنارة مفيدة بخلاف غيره من نجوم الليل فإن إنارتها لا تجدي البشر.
والسراج: المصباح الزاهر نورُه الذي يوقد بفتيلة في الزيت يُضيء التهابُها المعدَّلُ بمقدار بقاء مادة الزيت تغمرها.
والإِخبار به عن الشمس من التشبيه البليغ وهو تشبيه، والقصد منه تقريب المشبه من إدراك السامع، فإن السراج كان أقصى ما يستضاء به في الليل وقلّ من العرب من يتخذه وإنما كانوا يرونه في أديرة الرُهبان أو قصور الملوك وأضرابهم، قال امرؤ القيس
يضي سناه أو مصابيح راهبٍ *** أمال الذُّبَال بالسليط المفتل
ووصفوا قصر غُمْدان بالإِضاءة على الطريق ليلاً.
ولم يخبر عن الشمس بالضياء كما في آية سورة يونس (5) {هو الذي جعل الشمس ضياء}، والمعنى واحد وهو الإضاءة، فلعل إيثار السراج هنا لمقاربة تعبير نوح في لغته، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة، لأن الفواصل التي قبلها جاءت على حروف صحيحة ولو قيل: ضياء لصارت الفاصلة همزة والهمزة قريبة من حروف العلة فيثقل الوقف عليها.
وفي جعل القمر نوراً إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم وإنما يستضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعُّض وتمام هو أثر ظهوره هلالاً ثم اتساع استنارته إلى أن يصير بدراً، ثم ارتجاع ذلك، وفي تلك الأحوال يضيء على الأرض إلى أن يكون المحاق. وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجاً لأنها ملتهبة وأنوارها ذاتية فيها صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر مثل أنوار السراج تملأ البيت وتُلمع أوانيَ الفضة ونحوها مما في البيت من الأشياء المقابلة.
وقد اجتمع في قوله: وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً} استدلال وامتنان.
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)}
أنشأ الاستدلال بخلق السماوات حضورَ الأرض في الخيال فأعقَبَ نوح به دليلَهُ السابقَ، استدلالاً بأعجب ما يرونه من أحوال ما على الأرض وهو حال الموت والإِقبار، ومهَّد لذلك ما يتقدمه من إنشاء الناس.
وأدمج في ذلك تعليمهم بأن الإِنسان مخلوق من عناصر الأرض مثل النبات وإعلامهم بأن بعد الموت حياة أخرى.
وأُطلق على معنى: أنشأكم، فعلُ {أنبتكم} للمشابهة بين إنشاء الإِنسان وإنبات النبات من حيث إن كليهما تكوين كما قال تعالى: {وأنبتها نباتاً حسناً} [آل عمران: 37]، أي أنشأها وكما يقولون: زَرعك الله للخير، ويزيد وجه الشبه هنا قرباً من حيث إن إنشاء الإِنسان مركب من عناصر الأرض، وقيل التقدير: أنبتَ أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى: {كمثل آدم خلقه من تراب} [آل عمران: 59].
و {نباتاً}: اسم من أنبت، عومل معاملة المصدر فوقع مفعولاً مطلقاً ل {أنبتكم} للتوكيد، ولم يجر على قياس فعله فيقال: إنباتاً، لأن نباتاً أخف فلما تسَنى الإِتيان به لأنه مستعمل فصيح لم يُعدل عنه إلى الثقيل كمالاً في الفصاحة، بخلاف قوله بعده {إخراجاً} فإنه لم يعدل عنه إلى: خروجاً، لعدم ملاءمته لألفاظ الفواصل قبلَه المبنية على ألف مثل ألف التأسيس فكما تعدّ مخالفتها في القافية عيباً كذلك تُعدّ المحافظة عليها في الأسجاع والفواصل كمالاً.
وقد أدمج الإِنذار بالبعث في خلال الاستدلال، ولكونه أهم رتبة من الاستدلال عليهم بأصل الإِنشاء عطفت الجملة ب {ثم} الدالة على التراخي الرتبي في قوله: {ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً} لأن المقصود من الجملة هو فعل {يخرجكم}، وأما قوله: {ثم يعيدكم} فهو تمهيد له.
وأكد {يخرجكم} بالمفعول المطلق لردّ إنكارهم البعث.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}
هذا استدلال وامتنان، ولذلك عُلق بفعل {جعل} مجرورٌ بلام التعليل وهو {لكم} أي لأجلكم.
والبساط: ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو زربية فالإِخبار عن الأرض ببساط تشبيه بليغ، أي كالبساط، ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزائه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يُقِضُّ جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كُرَوي، وقد نبه على ذلك بالعلةِ الباعثة في قوله: {لكم}، والعلةِ الغائبة في قوله: {لتسلكوا منها سبلاً} وحصل من مجموع العلتين الإِشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع، وإلى نعمة خاصة وهي السير في الأرض، وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.
والسبُل: جمع سبيل وهو الطريق، أي لتتخذوا لأنفسكم سُبلاً من الأرض تهتدونَ بها في أسفاركم.
والفِجاج: جمع فجٌ، والفَجّ: الطريق الواسع، وأكثر ما يطلق على الطريق بين جبلين لأنه يكون أوسعَ من الطريق المعتاد.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)}
هذه الجملة بدل من جملة {قال رب إني دَعوت قومي} [نوح: 5] بدلَ اشتمال لأن حكاية عصيان قومه إياه مما اشتملت عليه حكاية أنه دعاهم فيحتمل أن تكون المقالتان في وقت واحد جاء فيه نوح إلى مناجاة ربه بالجواب عن أمره له بقوله: {أنْذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} [نوح: 1] فتكون إعادة فعل {قال} من قبيل ذكر عامل المبدل منه في البدل كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} [المائدة: 114]، للربط بين كلاميه لطول الفصل بينهما.
ويحتمل أن تكون المقالتان في وقتين جمعها القرآن حكاية لجوابيه لربه، فتكون إعادة فعل {قال} لما ذكرنا مع الإِشارة إلى تباعد ما بين القولين.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما سبقها من قوله: {قال رب إني دعوت قومي إلى هنا مما يثير عجباً من حال قومه المحكي بحيث يتساءل السامع عن آخر أمرهم، فابتدئ ذكر ذلك بهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: أنصاراً} [نوح: 25]. وتأخير هذا بعد عن قوله {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} [نوح: 5] ارتقاء في التذمر منهم لأن هذا حكاية حصول عصيانهم بعد تقديم الموعظة إليهم بقوله: {يرسل السماء عليكم مدراراً إلى قوله: سُبُلاً فجاجاً} [نوح: 1120]
وإظهار اسم {نوح} مع القول الثاني دون إضمارٍ لبعد معاد الضمير لو تحمَّله الفعل، وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه، كما تقدم في قوله: {قال رب الخ. وتأكيد الخبر ب (إن) للاهتمام بما استعمل فيه من التحسر والاستنصار.
ثم ذكر أنهم أخذوا بقول الذين يصدونهم عن قبول دعوة نوح، أي اتبعوا سادتهم وقادتهم. وعدل عن التعبير عنهم بالكبراء ونحوه إلى الموصول لما تؤذن به الصلة من بطرهم نعمة الله عليهم بالأموال والأولاد، فقلبوا النعمة عندهم موجب خسار وضلال.
وأدمج في الصلة أنهم أهل أموال وأولاد إيماء إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار القوم بأمرهم: فأموالهم إذ أنفقوها لتأليف أتباعهم قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله} [الأنفال: 36]، وأولادُهم أرهبوا بهم من يقاومهم.
والمعنى: واتبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال والأولاد إلاّ خساراً لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خساراً إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكاباً للفساد قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً} [المزمل: 11].
والخسار: مستعار لحصول الشر من وسائلَ شأنُها أن تكون سبب خير كخسارة التاجر من حيث أراد الربح، فإذا كان هؤلاء خاسرين فالذين يتبعونهم يكونون مثلهم في الخسارة وهم يحسبون أنهم أرشدوهم إلى النجاح.
ومَا صْدَق {مَنْ} فريقٌ من القوم أهل مال وأولاد ازدادوا بذلك بطَراً دون الشكر وهم سادتهم، ولذلك أعيد عليه ضمير الجمع في قوله: {ومكَروا،} وقوله: {وقالوا،} وقوله:
{وقد أضلُّوا كثيراً} [نوح: 24].
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {وَولَده} بفتح الواو وفتح اللام، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {وَوُلْدُه} بضم الواو وسكون اللام، فأما الولد بفتح الواو وفتح اللام فاسم يطلق على الواحد من الأولاد وعلى الجمع فيكون اسم جنس، وأما وُلْد بضم فسكون فقيل: هو لغة في وَلَد فيستوي فيه الواحد والجمع مثل الفُلْك. وقيل: هو جمع ولَد مثل أُسُد جمع أَسَد.
والمكر: إخفاء العمل، أو الرأي الذي يراد به ضر الغير، أي مكروا بنوح والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم حتى يقعوا في الضر. قيل: كانوا يدبِّرون الحيلة على قتل نوح وتحْريش الناس على أذاه وأذى أتْبَاعه.
و {كُبَّارا}: مبالغة، أي كبيراً جداً وهو وارد بهذه الصِّيغة في ألفاظ قليلة مثل طُوَّال أي طويل جداً، وعُجَّاب، أي عجيب، وحُسَّان، وجُمَّال، أي جَميل، وقُرَّاء لكثير القراءة، ووُضَّاء، أي وضِيء، قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
{وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم ولا تذرنّ وُداً ولا سواعاً} الخ، أي قال بعضهم لبعض: ودّ، وسُوّاع، ويَغُوث، ويَعُوق، ونَسْر، هذه أصنام قوم نوح، وبهذا تَعْلَم أن أسماءها غيرُ جارية على اشتقاق الكلمات العربية، وفي واو (وُدّ) لغتان للعرب منهم من يضم الواو، وبه قرأ نافع وأبو جعفر. ومنهم من يفتح الواو وكذلك قرأ الباقون.
روى البخاري عن ابن عباس: «ودُّ وسُواع ويغوث ويَعُوق ونَسْرٌ: أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم انصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسَمُّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت»، وعن محمد بن كعب: هي أسماء أبناء خمسة لآدم عليه السلام وكانوا عُبّاداً. وعن الماوردي أن {ودّاً} أول صنم معبود.
والآية تقتضي أن هذه الأنصاب عُبدت قبل الطوفان وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الأصنام أقيمت لبعض الصلحاء من أولاد آدم. وقال بعضهم: كانوا أصناماً بين زمن آدم وزمن نوح.
ولا يلتئم هذا مع حدوث الطوفان إذ لا بد أن يكون جرفها وخلص البشرُ من الإِشراك بعد الطوفان، ومع وجود هذه الأسماء في قبائل العرب إلى زمن البعثة المحمدية، فقد كان في دومة الجندل بلاد كلب صنم اسمه (وُدّ). قيل كان على صورة رجل وكان من صُفر ورصاص وكان على صورة امرأة، وكان لهذيل صنم اسمه (سواع) وكان لمُراد وغُطيففٍ (بغين معجمة وطاء مهملة) بطننٍ من مراد بالجوف عندَ سبأ صنم اسمه {يغوث}، وكان أيضاً لغطفان وأخذته (أنعمُ وأعلَى) وهما من طيء وأهلُ جرش من مذحج فذهبوا به إلى مُراد فعبدوه، ثم إن بني ناجية راموا نزعه من أعلى وأنعُم ففروا به إلى الحُصين أخي بني الحارث من خزاعة.
قال أبو عثمان النهدي: رأيت يَغوث من رَصاص وكانوا يحملونه على جَمَل أحْرَد (بالحاء المهملة، أي يخبط بيديه إذا مشى) ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل فيضربون عليه بناءً ينزلون حوله.
وكان يغوث على صورة أسد.
وكان لهْمدان صنم اسمه {يعوق} وهو على صورة فَرَس، وكان لكهلان من سبأ ثم توارثه بنوه حتى صار إلى همدان.
وكان لِحمير ولذي الكلاع منهم صنم اسمه (نَسْر) على صورة النسر من الطير. وهذا مروي في «صحيح البخاري» عن ابن عباس. وقال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح إلى العرب اه. فيجوز أن تكون انتقلت بأعيانها ويجوز أن يكون العرب سموا عليها ووضعوا لها صوراً.
ولقد اضطَرَّ هذا بعضَ المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير {قالوا} إلى مشركي العرب، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة نوح بقصد التنظير، أي قال العرب بعضهم لبعض: لا تذرنَّ ءالهتكم وُدّاً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كما قال قوم نوح لأتباعهم {لا تَذرُنَّ ءالهتكم،} ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح، وهو تكلف بيّن وتفكيك لأجزاء نظم الكلام. فالأحسن ما رآه بعض المفسرين وما نريده بياناً: أن أصنام قوم نوح قد دثرت وغَمرها الطوفان وأن أسماءها بقيت محفوظة عند الذين نجَوا مع نوح من المؤمنين فكانوا يذكرونها ويعظون ناشئتهم بما حلّ بأسلافهم من جراء عبادة تلك الأصنام، فبقيت تلك الأسماء يتحدث بها العرب الأقدمون في أثارات علمهم وأخبارهم، فجاء عمرو بن لُحَيّ الخزاعي الذي أعاد للعرب عبادةَ الأصنام فسمى لهم الأصنام بتلك الأسماء وغيرها فلا حاجة بالمفسر إلى التطوح إلى صفات الأصنام التي كانت لها هذه الأسماء عند العرب ولا إلى ذكر تعيين القبائل التي عبدت مسميات هذه الأسماء.
ثم يحتمل أن يكون لقوم نوح أصنام كثيرة جمعها قول كبرائهم: {لا تذرُنّ آلهتكم}، ثم خصوا بالذكر أعظمها وهي هذه الخمسة، فيكون ذكرها من عطف الخاص على العام للاهتمام به كقوله تعالى: {مَن كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريلَ وميكائيل} [البقرة: 98]. ويحتمل أن لا يكون لهم غير تلك الأصنام الخمسة فيكون ذكرها مفصلة بعد الإِجمال للاهتمام بها ويكون العطف من قبيل عطف المرادف.
ولقصد التوكيد أعيد فعل النهي {ولا تذرُن} ولم يسلك طريق الإِبدال، والتوكيدُ اللفظي قد يقرن بالعاطف كقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18].
ونقل عن الآلوسي في طرة تفسيره لهذه الآية هذه الفقرة: «قد أخرج الإِفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناماً وتَمَاثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة». وتكرير {لا} النافية في قوله: {ولا سواعاً ولا يغوث} لتأكيد النفي الذي في قوله: {لا تذرُن آلهتكم} وعدم إعادة {لا} مع قوله {ويعوق ونسراً} لأن الاستعمال جارٍ على أن لا يزاد في التأكيد على ثلاث مرات.
وقرأ نافع وأبو جعفر {وُدّاً} بضم الواو. وقرأها غيرهما بفتح الواو، وهو اسم عجمي يَتصرف فيه لسان العرب كيفَ شاؤا.
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}
عطف على {وقالوا لا تذرن ءالهتكم} [نوح: 23]، أي أضلوا بقولهم هذا وبغيره من تقاليد الشرك كثيراً من الأمة بحيث ما آمن مع نوح إلاّ قليل.
{كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ}.
يجوز أن تكون هذه الجملة تتمة كلام نوح متصلةً بحكاية كلامه السابق، فتكون الواو عاطفة جزء جملة مقولةٍ لفعل {قال} [نوح: 21] على جزئها الذي قبلها عطف المفاعيل بعضِها على بعض كما تقول قال امرؤ القيس قفا نبْك. ختم نوح شكواه إلى الله بالدعاء على الضالّين المتحدث عنهم بأن يزيدهم الله ضلالاً.
ولا يريبك عطف الإِنشاء على الخبر لأن منع عطف الإِنشاء على الخبر على الإِطلاق غير وجيه والقرآن طافح به.
ويجوز أن تكون جملة {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} غير متصلة بحكاية كلامه في قوله: {قال نوح رب إنهم عصوني} [نوح: 21] بل هو حكاية كلام آخرَ له صدر في موقف آخر، فتكون الواو عاطفة جملة مقولة قول على جملة مقولة قول آخر، أي نائبةٍ عن فعل قال كما تقول: قال امرؤ القيس:
قِفَا نَبْكِ ***
و:
أَلاَ عمْ صباحاً أيها الطلل البالي ***
وقد نحا هذا المعنى من يأبون عطف الإِنشاء على الخبر.
والمراد ب {الظالمين}: قومه الذين عصوه فكان مقتضى الظاهر التعبير عنهم بالضمير عائداً على {قومي} من قوله: {دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً} [نوح: 5] فعدل عن الإِضمار إلى الإِظهار على خلاف مقتضى الظاهر لما يؤذن به وصف {الظالمين} من استحقاقهم الحرمان من عناية الله بهم لظلمهم، أي إشراكهم بالله، فالظلم هنا الشرك {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
والضلال، مستعار لعدم الاهتداء إلى طرائق المكر الذي خشي نوح غائلته في قوله: {ومكروا مكراً كُباراً} [نوح: 22]، أي حُلْ بيننا وبين مكرهم ولا تزدهم إمهالاً في طغيانهم علينا إلاّ أن تضللهم عن وسائله، فيكون الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أو أراد إبهام طرق النفع عليهم حتى تنكسر شوكتهم وتلين شكيمتهم نظير قول موسى عليه السلام {ربَّنا اطمِسْ على أموالهم واشْدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88].
وليس المراد بالضلال الضلال عن طريق الحق والتوحيد لظهور أنه ينافي دعوة نوح قومه إلى الاستغفار والإِيمان بالبعث فكيف يسأل الله أن يزيدهم منه.
ويجوز أن يكون الضلال أطلق على العذاب المسبب عن الضلال، أي في عذاب يوم القيامة وهو عذاب الإِهانة والآلام.
ويجوز أن تكون جملةً معترضة وهي من كلام الله تعالى لنوح فتكون الواو اعتراضية ويقدر قول محذوف: وقلنا لا تزد الظالمين. والمعنى: ولا تزد في دعائهم فإن ذلك لا يزيدهم إلاّ ضلالاً، فالزيادة منه تزيدهم كفراً وعناداً. وبهذا يبقى الضلال مستعملاً في معناه المشهور في اصطلاح القرآن، فصيغة النهي مستعملة في التأييس من نفع دعوته إياهم. وأعلَمَ الله نوحاً أنه مهلكهم بقوله: {أُغْرقوا فأُدْخلوا ناراً} الآية [نوح: 25] وهذا في معنى قوله: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 36، 37].
ألا ترى أن ختام كلتا الآيتين متحد المعنى من قوله هنا {أغرقوا وقوله في الآية الأخرى إنهم مغرقون.
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)}
جملة معترضة بين مقالات نوح عليه السلام وليست من حكاية قول نوح فهي إخبار من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قدر النصر لنوح والعقابَ لمن عَصوْه من قومه قبل أن يسأله نوح استئصالهم فإغراق قوم نوح معلوم للنبيء صلى الله عليه وسلم وإنما قصد إعلامه بسببه.
والغرض من الاعتراض بها التعجيل بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه مما يماثل ما لاقاه نوح من قومه على نحو قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42].
ويجوز أن تكون متصلة بجملة {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} [نوح: 24] على الوجه الثاني المتقدم فيها من أن تكون من كلام الله تعالى الموجه إلى نوح بتقدير: وقلنا لا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً، وتكون صيغة المضي في قوله: {أغرقوا} مستعملة في تحقق الوَعد لنوح بإغراقهم، وكذلك قوله: {فأُدخلوا ناراً.
وقُدم مما خطيئاتهم} على عامله لإِفادة القصر، أي أغرقوا فأدخلوا ناراً من أجل مجموع خطيئاتهم لا لمجرد استجابة دعوة نوح التي ستذكر عقب هذا ليعلم أن الله لا يُقر عباده على الشرك بعد أن يرسل إليهم رسولاً وإنما تأخر عذابهم إلى ما بعدَ دعوة نوح لإِظهار كرامته عند ربه بين قومه ومسرة له وللمؤمنين معه وتعجيلاً لما يجوز تأخيره.
و (مِن) تعليلية، و(ما) مؤكدة لمعنى التعليل.
وجمع الخطيئات مراد بها الإشراك، وتكذيب الرسول، وأذاه، وأذى المؤمنين معه، والسخرية منه حين توعدهم بالطوفان، وما ينطوي عليه ذلك كله من الجرائم والفواحش.
وقرأ الجمهور {خطيئاتهم} بصيغة جمع خطيئة بالهمز. وقرأه أبو عمرو وحده {خطاياهم} جمع خَطيَّة بالياء المشددة مدغمة فيها الياء المنقلبة عن همزةٍ للتخفيف.
وفي قوله: {أغرقوا فأدخلوا ناراً} محسن الطباق لأن بين النار والغرق المشعر بالماء تضاداً.
وتفريع {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً} تعريض بالمشركين من العرب الذين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الكوارث يعني في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث، أي كما لم تَنصر الأصنام عبدتها من قوم نوح كذلك لا تنصركم أصنامكم.
وضمير {يجدوا} عائد إلى {الظالمين} من قوله: {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} [نوح: 24] وكذلك ضمير {لهم}.
والمعنى: فلم يجدوا لأنفسهم أنصاراً دون عذاب الله.
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}
عطف على {قال نوح رب إنهم عصوني} [نوح: 21] أعقبه بالدعاء عليهم بالإِهلاك والاستئصال بأن لا يبقى منهم أحداً، أي لا تبق منهم أحداً على الأرض.
وأعيد فعل {قال} لوقوع الفصل بين أقوال نوح بجملة {مما خطيئاتهم} [نوح: 25] الخ، أو بها وبجملة {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} [نوح: 24].
وقرنت بواو العطف لتكون مستقلة فلا تتبع جملة {إنهم عصوني للإِشارة إلى أن دَعوة نوح حصلت بعد شكايته بقوله: إنهم عصوني.
وديَّاراً}: اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعمّ كل إنسان، وهو اسم بوزن فَيْعَال مشتق من اسم الدار فعينه واو لأن عين دَار مقدرة واواً، فأصل ديّار: دَيوار فلما اجتمعت الواو والياء واتصلتا وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء الزائدة كما فُعل بسيّد وميّت، ومعنى ديّار: من يحلّ بدار القوم كناية عن إنسان.
ونظير (ديّار) في العموم والوقوع في النفي أسماء كثيرة في كلام العرب أبلغها ابن السكيت في «إصلاح المنطق» إلى خمسةٍ وعشرين، وزاد كُراع النمل سبعة فبلغت اثنين وثلاثين اسماً، وزاد ابن مالك في «التسهيل» ستة فصارت ثمانية وثلاثين.
ومن أشهرها: آحَد، ودَيَّار، وعَريب، وكلها بمعنى الإِنسان، ولفظ (بُدَّ) بضم الموحدة وتشديد الدال المهملة وهو المفارقة.
وجملة {إنك إن تذرهم يُضِلُّوا عبادك} تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحداً من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشأون على كفرهم.
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكُرة الدنيوية، وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطَببِ كما في قوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض يعني أرض مصر} في سورة يوسف (55).
ويحتمل أن يكون البشر يومئذٍ منحصرين في قوم نوح، ويجوز خلافه، وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية، واحتمالُ أن يكون طوفاناً قاصراً على ناحية كبيرة من عموم الأرض، والله أعلم. وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} في سورة الأعراف (64).
وخبر إنك} مجموع الشرط مع جوابه الواقع بعد (إنّ) لأنه إذا اجتمع مبتدأ وشرط رجح الشرط على المبتدأ فأعطي الشرطُ الجوابَ ولم يعط المبتدأ خبراً لدلالة جملة الشرط وجوابه عليه.
وعَلِم نوح أنهم لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً بأن أولادهم ينشأون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحاً عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة.
والمعنى: ولا يلدوا إلاّ من يصير فاجراً كفَّاراً عند بلوغه سن العقل.
والفاجر: المتصف بالفجور، وهو العمل الشديد الفساد.
والكَفَّار: مبالغة في الموصوف بالكفر، أي إلاّ من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد، قال تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 42].
وفي كلام نوح دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإِصلاحي. وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] دليلاً على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فَتَح العراق وجعلها خراجاً لأهلها قصداً لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين.
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
جعل الدعاء لنفسه ووالديه خاتمة مناجاته فابتدأ بنفسه ثم بأقرب الناس به وهما والده، ثم عمّم أهله وذويه المؤمنين فدخل أولاده وبنوهم والمؤمنات من أزواجهم وعبر عنهم بمن دخل بيته كناية عن سكناهم معه، فالمراد بقوله {دخل بيتي} دخول مخصوص وهو الدخول المتكرر الملازم. ومنه سميت بطانة المرء دَخيلته ودُخْلَته، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات، ثم عاد بالدعاء على الكفرة بأن يحرمهم الله النجاح وهو على حد قوله المتقدم {ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} [نوح: 24].
والتبَار: الهلاك والخسار، فهو تخصيص للظالمين من قومه بسؤال استئصالهم بعد أن شملهم وغيرهم بعموم قوله: {لا تَذر على الأرض من الكافرين ديّاراً} [نوح: 26] حرصاً على سلامة المجتمع الإِنساني من شوائب المفاسد وتطهيره من العناصر الخبيثة.
ووالداه: أبوه وأمه، وقد ورد اسم أبيه في التوراة (لَمَك) وأما أمه فقد ذكر الثعلبي أنّ اسمها شَمْخَى بنتُ آنُوش.
وقرأ الجمهور {بيتي} بسكون ياء المتكلم. وقرأه حفص عن عاصم بتحريكها.
واستثناء {إلاّ تباراً} منقطع لأن التبار ليس من الزيادة المدعو بنفيها فإنه أراد لا تزدهم من الأموال والأولاد لأن في زيادة ذلك لهم قوةً لهم على أذى المؤمنين. وهذا كقول موسى عليه السلام: {ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأَه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} [يونس: 88] الآية. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله: {فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً} [نوح: 6].
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire