jeudi 26 juin 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»

سورة الانفطار
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏
‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏
الافتتاح ب ‏{‏إذا‏}‏ افتتاح مشوِّق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في ‏(‏إذا‏)‏ من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللاتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإِطناب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض للإِطناب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولاً كما علمت آنفاً‏.‏
وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإِنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى عن تطويل الإِطناب والتهويل‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط‏.‏
والمعربون يقولون‏:‏ خافض لشرطه منصوب بجوابه، وهي عبارة حسنة جامعة‏.‏
والقول في الجمل التي أضيف إليها ‏{‏إذا‏}‏ من كونها جملاً مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر‏.‏
وكذلك القول في تكرير كلمة ‏(‏إذا‏)‏ بعد حروف العطف كالقول في جمل ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏‏.‏
و ‏{‏انفطرت‏}‏‏:‏ مطاوع فطر، إذا جعل الشيء مفطوراً، أي مشقوقاً ذا فطور، وتقدم في سورة الملك‏.‏
وهذا الانفطار‏:‏ انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسْمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سمتها في النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختلّ ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة عن أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله‏.‏
والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضاً في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور‏.‏
وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير ‏(‏11‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا السماء كشطت‏}‏ فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏‏.‏
والانتثار‏:‏ مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق‏.‏
وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسموتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارّة، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي‏.‏
وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لِفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعمّ الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏بعثرت‏}‏‏:‏ انقلبَ باطنها ظاهِرَها، والبعثرة‏:‏ الانقلاب، يقال‏:‏ بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «بعثر مركب من البعث مع راء ضُمت إليه»‏.‏ وقال البيضاوي قيل‏:‏ إن بعثر مركب من بعث وراء الإِثارة كبسمل اه، ونقل مثله عن السهيلي‏.‏ وأن بعثر منحوت من بعث وإثارة مثل‏:‏ بسمل، وحَوْقل، فيكون في بعثر معنى فعلين بَعَثَ وأثَار، أي أخرج وقلب، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب‏.‏
والذي اقتصر عليه أيمة اللغة أن معنى بعثر‏:‏ قلب بَعض شيء على بعضه‏.‏
وبعثرة القبور‏:‏ حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ جوابٌ لما في ‏{‏إذا‏}‏ من معنى الشرط، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات ‏{‏إذا‏}‏ الأربع‏.‏ وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت‏.‏
وعِلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب ‏{‏إذا‏}‏ إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارناً لحصول شرطه لأنّ الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عِللاً، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير‏.‏
صيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏انفطرت‏}‏ وما عطف عليه مستعملة في المستقبل تشبيهاً لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي‏.‏
وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏14‏)‏‏.‏
ونفس‏}‏ مراد به العموم على نحو ما تقدم في‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏14‏)‏‏.‏
وما قدمت وأخرت‏}‏‏:‏ هو العمل الذي قدمتْه النفس، أي عملته مقدماً وهو ما عملته في أول العمر، والعملُ الذي أخرته، أي عملته مؤخراً أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل‏.‏
والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ في سورة لا أقسم بيوم القيامة ‏(‏13‏)‏‏.‏
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوماً من قبل وبتذكر ما نُسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير‏.‏ وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏، ووعد للمتقين، ومختلط لمن عملوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏
‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإِنذار يهيّئ النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشدّ تغلغلاً في القلب حينئذ لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقّة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك‏.‏
النداء للتنبيه تنبيهاً يشعر بالاهتمام بالكلام والاستدعاء لسماعه فليس النداء مستعملاً في حقيقته إذ ليس مراداً به طلب إقبال ولا هو موجّه لشخص معين أو جماعة معينة بل مثلُه يجعله المتكلم موجّهاً لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد‏.‏
فالتعريف في ‏{‏الإِنسان‏}‏ تعريف الجنس، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين، أي ليس المراد إنساناً معيناً، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عَقِبَه ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9، 10‏]‏ الآية‏.‏
وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإِنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏ فالمعنى‏:‏ يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركاً لأن إنكار البعث والشرك مُتلازمان يومئذ فهو من العامّ المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في ابتداء الدعوة الإِسلامية هم المشركون‏.‏
و ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك‏}‏ استفهامية عن الشيء الذي غرّ المشرك فحمله على الإِشراك بربه وعلى إنكار البعث‏.‏
وعن ابن عباس وعطاء‏:‏ الإِنسان هنا الوليد بن المغيرة، وعن عكرمة المراد أبيّ بن خلف، وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ المراد أبو الأشد بن كَلَدَة الجُمحِي، وعن الكلبي ومقاتل‏:‏ نزلت في الأسود بن شَريق‏.‏
والاستفهام مجاز في الإِنكار والتعجيب من الإِشراك بالله، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غروراً غرّه عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل إلا أن يغره به غار، فيحتمل أن يكون الغرور موجوداً ويحتمل أن لا يكون غروراً‏.‏
والغرور‏:‏ الإِطماع بما يتوهمه المغرور نفعاً وهو ضرّ، وفعلُه قد يسند إلى اسم ذات المُطمع حقيقة مثل‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏ أو مجازاً نحو‏:‏ ‏{‏وغرتكم الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 35‏]‏ فإن الحياة زمان الغرور، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقول امرئ القيس‏:‏
أغرَّك مني أن حبك قاتلي ***
أو مجازاً نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زخرف القول غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏
ويتعدى فعله إلى مفعول واحد، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏، أي لا يغرنكم غروراً متلبساً بشأن الله، أي مصاحباً لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي بَاء السببية كما يقال‏:‏ غره ببذل المال، أو غرّه بالقول‏.‏
وإذ كانت الملابسة لا تتصوّر ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام، فالمعنى هنا‏:‏ ما غرك بالإِشراك بربك كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسواك فعدلك‏}‏ الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلاّ مشركاً‏.‏
وإيثار تعريف الله بوصف «ربك» دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإِنشاء والرفق، ففيه تذكير للإِنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ‏.‏
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة‏.‏
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة‏:‏ ‏{‏فعَدَّلك في أيّ صورة‏}‏ جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره‏.‏
وذكر عن صالح بن مسمار قال‏:‏ بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال‏:‏ «غره جهله»، ولم يذكر سنداً‏.‏
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ ولكن قُصد إظهار مراتب النعمة‏.‏ وهذا من الإِطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عَليها بخصوصها، ومن مقتضيات الإِطناب مقام التوبيخ‏.‏
والخَلق‏:‏ الإِيجاد على مقدار مقصود‏.‏
والتسْوية‏:‏ جعل الشيء سويّاً، أي قويماً سليماً، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإِدراك أو الإِحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم‏.‏
والتعديل‏:‏ التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين، وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها‏.‏ وجعَلَه مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحَلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين‏.‏ وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع‏.‏
وخلق الله جسد الإِنسان مقسمةً أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين‏.‏
وفرع فعل «سواك» على ‏{‏خلقك‏}‏ وفِعل «عدَّلك» على «سوّاك» تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعاً حاصلاً في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى‏:‏
‏{‏الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فعدَّلك‏}‏ بتشديد الدال‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏في أي صورة‏}‏ اعلم أن أصل ‏{‏أي‏}‏ أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ في سورة عبس ‏(‏18‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏‏.‏
والاستفهام بها كثيراً ما يراد به الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه ‏{‏أيّ‏}‏ لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغاً قوياً يُتساءل عنه ويُستفهم عن شأنه، ومن هنا نشأ معنى دلالة ‏{‏أيّ‏}‏ على الكمال، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم، وإنما هي الاستفهامية، و‏{‏أيّ‏}‏ هذه تقع في المعنى وصفاً لنكرة إمّا نعتاً نحو‏:‏ هو رجل أيُّ رجل، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية، فيجوز أن يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏في أي صورة‏}‏ بأفعال خلقَك، فسوَّاك، فعدَّلك» فيكون الوقف على ‏{‏في أي صورة‏}‏‏.‏
ويجوز أن يتعلق بقوله ‏{‏ركبك‏}‏ فيكون الوقف على قوله ‏{‏فعدلك‏}‏ ويكون قوله ‏{‏ما شاء‏}‏ معترضاً بين ‏{‏في أي صورة‏}‏ وبين ‏{‏ركَبَّك‏}‏‏.‏
والمعنى على الوجهين‏:‏ في صورة أيّ صورة، أي في صورة كاملة بديعة‏.‏
وجملة ‏{‏ما شاء ركبك‏}‏ بيان لجملة ‏{‏عدَّلك‏}‏ باعتبار كون جملة ‏{‏عدّلك‏}‏ مفرعة عن جملة ‏{‏فسوَّاك‏}‏ المفرغة عن جملة ‏{‏خلقك‏}‏ فبيانها بيان لهما‏.‏
و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي خلقك فسوّاك فعدلك ملابساً صورة عجيبة فمحل ‏{‏في أي صورة‏}‏ محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال ‏{‏عدّلك‏}‏، أو ‏{‏ركّبك‏}‏، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصوّر بها للدلالة على تمكنها من موصوفها‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ يجوز أن تكون موصولة مَا صدقُها تركيب، وهي في موضع نصب على المفعولية المطلقة و‏{‏شاء‏}‏ صلة ‏{‏ما‏}‏ والعائد محذوف تقديره‏:‏ شاءه‏.‏ والمعنى‏:‏ ركّبك التركيب الذي شاءه قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وعُدل عن التصريح بمصدر ‏{‏ركّبك‏}‏ إلى إبهامه ب ‏{‏ما‏}‏ الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها‏.‏
ويجوز أن تكون جملة ‏{‏شاء‏}‏ صفة ل ‏{‏صورة‏}‏، والرابط محذوف و‏{‏ما‏}‏ مزيدة للتأكيد، والتقدير‏:‏ في صورة عظيمة شاءها مشيئةً معينة، أي عن تدبير وتقدير‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏
‏{‏كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏‏}‏
‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ من حصور ما يغرّ الإِنسان بالشرك ومن إغْراضه عن نعم الله تعالى بالكفر، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإِنكار المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك الكريم‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إشراكك بخالقك باطل وهو غُرور، أو كالغرور‏.‏
ويكون قوله بعده‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ إضراباً انتقالياً من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وجزر لأن ‏{‏بل‏}‏ لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم‏.‏ ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون‏:‏ إنها تُتْبَع في اللفظ لا في الحكم، أي هو اتباعُ مناسبة في الغرض لا اتباعٌ في النسبة‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏كلاّ‏}‏ إبطالاً لوجود ما يغرّ الإِنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإِنسان في الإِشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به‏.‏
ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بل تكذبون‏}‏ إضراباً إبطالياً، وما بعد ‏{‏بل‏}‏ بياناً لِما جرَّأهم على الإِشراك وأنه ليس غروراً إذ لا شبهة لهم في الإِشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإِشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صُراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضِها بطلانُ كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا‏.‏
وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جُماع الإِجرام، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ في سورة الانشقاق ‏(‏20، 22‏)‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ تكذبون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات‏.‏
وفي صيغة المضارع من قوله‏:‏ ‏{‏تكذبون بالدين‏}‏ إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا يقلعون عنه، وهو سبب استمرار كفرهم‏.‏
وفي المضارع أيضاً استحضار حالة هذا التكذيب استحضاراً يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء‏.‏
والدين‏:‏ الجزاء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏
‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏ تأكيداً لثبوت الجزاء على الأعمال‏.‏
وأكد الكلام بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء، لأنهم ينكرون ذلك إنكاراً قويّاً‏.‏
و ‏{‏لحافظين‏}‏ صفة لمحذوف تقديره‏:‏ لملائكة حافظين، أي مُحْصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم‏.‏
وجمع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس‏:‏ وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17، 18‏]‏، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله» وهذا بصريح معناه يفيد أيضاً كفاية عن وقوع الجزاء إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثاً‏.‏
وأجري على الملائكة الموكّلين بإحصاء أعمالهم أربعةُ أوصاف هي‏:‏ الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس‏.‏
وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإِحصاء وفيها تنويهٌ بشأن الملائكة الحافظين‏.‏
فأما الحفظ‏:‏ فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر، وهو ‏(‏على‏)‏ لتضمنه معنى المراقبة‏.‏ والحفيظ‏:‏ الرقيب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه حفيظ عليهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وهذا الاستعمال هو غير استعمال الحفظ المعدّى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله‏:‏ ‏{‏يحفظونه من أمر اللَّه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالحفظ بهذا الإِطلاق يجمع معنى الرعاية والقيام على ما يوكل إلى الحفيظ، والأمانة على ما يوكل إليه‏.‏
وحرف ‏(‏على‏)‏ فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة‏.‏
وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏
فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكّلوا على حفظه ضبطاً لا يتعرض للنسيان ولا للإِجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب‏.‏
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإِحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهَم‏.‏
وما تفعلون‏}‏ يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك‏.‏
ودخل في ‏{‏ما تفعلون‏}‏‏:‏ الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإِنسان يُعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية‏.‏
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإِسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط‏.‏
فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة، أي طهارة النفس‏.‏
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوباً، أو كالمكتوب مضبوطاً لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الأعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشُّهود، والخِطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحْكام والأحباس وعقود النكاح‏.‏
ومن إحاطة العلم بما يَتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المخالطين لوظيفه أن يموّه عليه شيئاً، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلاً، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصاً على حفظ مصالح الأمة، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإِتقان أعمالها وأشدّ اضطلاعاً بممارستها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏
‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جوابٌ عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9، 10‏]‏ الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإِحصاء الأعمال ما هي، فبُين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الأبرار لفي نعيم‏}‏ الآية‏.‏
وأيضاً تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة ‏{‏يعلمون ما تفعلون‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 12‏]‏ وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها‏.‏
وجيء بالكلام مؤكداً ب ‏{‏إن‏}‏ ولا الابتداء ليساوي البيانُ مبيّنهُ في التحقيق ودفع الإنكار‏.‏
وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته‏.‏
و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ جمعُ برّ بفتح الباء وهو التقيّ، وهو فَعْل بمعنى فاعل مشتق من بَرَّ يبر، ولفعل برّ اسم مصدر هو برّ بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسيّ بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبَرّ وهو التقيّ‏.‏ وإنما سمي التقيّ بَرّاً لأنه بَرَّ ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتقوى‏.‏
و ‏{‏الفُجَّار‏}‏‏:‏ جمع فاجر، وصيغة فُعَّال تطّرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام‏.‏
والفاجر‏:‏ المتصف بالفجور وهو ضد البرور‏.‏
والمراد ب ‏{‏الفجّار‏}‏ هنا‏:‏ المشركون، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر‏.‏ فأما عصاة المؤمنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإِيمان‏.‏
والنعيم‏:‏ اسم ما يَنْعم به الإِنسان‏.‏
والظرفية من قوله‏:‏ «في نعيم» مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفاً حقيقة، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه‏.‏
وأما ظرفية قوله‏:‏ ‏{‏لفي جحيم‏}‏ فهي حقيقية‏.‏
والجحيم صار علماً بالغلبة على جهنم، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات‏.‏
وجملة ‏{‏يصلونها‏}‏ صفة ل ‏{‏جحيم‏}‏، أو حال من ‏{‏الفجار‏}‏، أو حال من الجحيم، وصَلْيُ النار‏:‏ مَسُّ حرّها للجسم، يقال‏:‏ صلي النارَ، إذا أحس بحرّها، وحقيقته‏:‏ الإِحساس بحرّ النار المؤلم، فإذا أريد التدفّي قيل‏:‏ اصطلى‏.‏
و ‏{‏يوم الدين‏}‏ ظرف ل ‏{‏يصلونها‏}‏ وذُكر لبيان‏:‏ أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة‏.‏
وجملة ‏{‏وما هم عنها بغائبين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلونها‏}‏، أي يَصْلون حرّها ولا يفارقونها، أي وهم خالدون فيها‏.‏
وجيء بقوله ‏{‏وما هم عنها بغائبين‏}‏ جملة اسمية دون أن يقال‏:‏ وما يغيبون عنها، أو وما يفارقونها، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي، فالثّبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى ‏{‏وما هم بخارجين من النار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏167‏)‏‏.‏
وزيادة الباء لتأكيد النفي‏.‏
وتقديم عنها‏}‏ على متعلقه للاهتمام بالمجرور، وللرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون حالية، والواو واو الحال، ويجوز أن تكون معترضة إذا جُعل ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 19‏]‏ بدلاً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب على الظرفية كما سيأتي‏.‏
و ‏{‏ما أدراك ما يوم الدين‏}‏‏:‏ تركيب مركب من ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية وفعل الدراية المعدّى بالهمزة فصار فاعله مفعولاً زائداً على مفعولي دَرى، وهو من قبيل‏:‏ أعلم وأرَى، فالكاف مفعوله الأول، وقد علق على المفعولين الآخرين ب ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية الثانية‏.‏
والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يَسْأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصِّل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دارٍ‏.‏
والاستفهام الثاني حقيقي، أي سئال سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول‏:‏ علمت هل زيد قائم، أي علمت جواب هذا السؤال‏.‏
ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏‏}‏
تكرير للتهويل تكريراً يؤذن بزيادته، أي تجاوزه حدّ الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي، وقرن هذا بحرف ‏{‏ثمّ‏}‏ الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل، فالتراخي فيها هو الزيادة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏
‏{‏الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً‏}‏‏.‏
في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17، 18‏]‏ إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهوَّل لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين‏.‏
وقرأه الجمهور بفتح ‏{‏يوم‏}‏ فيجوز أن يجعل بدلاً مطابقاً، أو عطف بيان من ‏{‏يومُ الدين‏}‏ المرفوع ب ‏{‏ما أدراك‏}‏ وتجعل فتحتُه فتحةَ بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى جملة فعلية وكان فعلها معرباً جاز في اسم الزمان أن يبنى على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل‏.‏
ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً مطابقاً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب على الظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏يَصلونها يومَ الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 15‏]‏، ولا يفوت بيان الإِبهام الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17‏]‏ لأن ‏{‏يومُ الدين‏}‏ المرفوع المذكور ثانياً هو عين ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب أولاً، فإذا وقع بيان للمذكور أولاً حصل بيان المذكور ثانياً إذ مدلولهما يوم متّحد‏.‏
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعاً، فيتعين أن يكون بدلاً أو بياناً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏‏:‏ لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى، أي لنَفعها، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفِع بالفعل عكسَ ‏(‏على‏)‏، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أملك لك من اللَّه من شيء‏}‏ في سورة الممتحنة ‏(‏4‏)‏‏.‏
وعموم نفس‏}‏ الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس‏.‏
و ‏{‏شيئاً‏}‏ اسم يدل على جنس الموجود، وهو متوغل في الإِبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما، أو من السياق، ويبينه هنا ما دلّ عليه فعل ‏{‏لا تملك‏}‏ ولام العلة، أي شيئاً يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من اللَّه من شيء‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏67‏)‏، فانتصب شيئاً‏}‏ على المفعول به لفعل ‏{‏لا تملك‏}‏، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفساً أخرى‏.‏
وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏
‏{‏شَيْئاً والامر يَوْمَئِذٍ‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏والأمر يومئذ للَّه‏}‏ تذييل، والتعريف في ‏{‏الأمر‏}‏ للاستغراق‏.‏ والأمر هنا بمعنى‏:‏ التصرف والإِذن وهو واحد الأوامِر، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفاً للشيء فتغيير التعبير للتفنن‏.‏
والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإِرادة الاستغراق، فيعم كل الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلاً‏.‏
وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّه‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله‏.‏
سورة المطففين
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏
‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏
افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد فلفظ ‏{‏ويل‏}‏ من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود‏:‏
بُشرى فقد أنجز الإِقبال ما وعدا ***
والتطفيف‏:‏ النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطُفافة‏.‏ والطُفافَ ‏(‏بضم الطاء وتخفيف الفاء‏)‏ مَا قصر عن ملء الإِناء من شراب أو طعام، ويقال‏:‏ الطَفّ بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حَرف المِكيال مما يُملأ به وإنما يكون شيئاً قليلاً زائداً على ما ملأ الإِناء، فمن ثَمّ سميت طفافة، أي قليل زيادة‏.‏
ولا نعرف له فعلاً مجرداً إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفعله‏:‏ طفّف، كأنهم راعَوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المُطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المُكتال، ويقابله الوفاء‏.‏
و ‏{‏ويل‏}‏ كلمة دعاء بسوء الحال، وهو في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل‏:‏ اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجاراً، وكان في يثرب تجار أيضاً وفيهم اليهود مثلُ أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجريْ أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب‏.‏ وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل‏.‏
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشياً في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يُسبب ذلك‏.‏
واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلاً فقال جماعة من المفسرين‏:‏ إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك‏.‏ رواه ابن ماجه عن ابن عباس‏.‏
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جُهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر‏.‏
فجملة الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‏}‏ إدماج، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة‏:‏ ‏{‏وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏}‏ فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين‏.‏
والاكتيال‏:‏ افتعال من الكيل، وهو يستعمل في تسلم ما يُكال على طريقة استعمال أفعال‏:‏ ابتاع، وارتهن، واشتَرى، في معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى‏:‏
‏{‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 63‏]‏ أي نأخذ طعاماً مكيلاً، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة‏.‏
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل، فيقال‏:‏ اكتال فلان طعاماً مثل ابتاع، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل ‏(‏من‏)‏ الابتدائية فيقال‏:‏ اكتال طعاماً من فلان، وإنما عدي في الآية بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمين ‏{‏اكتالوا‏}‏ معنى التحامل، أي إلقاء المشقة على الغير وظِلمه، ذلك أن شأن التاجر وخُلقه أن يتطلب توفير الربح وأنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة، وعن الفراء ‏(‏مِن‏)‏ و‏(‏على‏)‏ يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال‏:‏ اكتلت عليك، فكأنه قال‏:‏ أخذت ما عليك، وإذا قال‏:‏ اكتلت منك فكقوله‏:‏ استوفيت منك‏.‏
فمعنى‏:‏ ‏{‏اكتالوا على الناس‏}‏ اشتروا من الناس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل ‏{‏اكتالوا‏}‏ أي اكتالوا مكيلاً، ومعنى كَالُوهم باعوا للناس مكيلاً فحذف المفعول لأنه معلوم‏.‏
فالواوان من ‏{‏كالوهم أو وزنوهم‏}‏ عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس‏.‏
وتعدية «كالوا»، و«وزنوا» إلى الضميرين على حذف لام الجر‏.‏ وأصله كَالُوا لهم ووزنوا لهم، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏233‏)‏ ‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏}‏ أي تسترضعوا لأولادكم، وقولهم في المثل الحريصُ يصيدك لا الجوادُ أي الحريص يصيد لك‏.‏ وهو حذف كثير مثل قولهم‏:‏ نصحتك وشكرتك، أصلهما نصحت لك وشكرت لك، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال‏:‏ كال له طعاماً ووزن له فضة، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا‏:‏ كاله ووزنه طعاماً على الحذف والإِيصال‏.‏
قال الفراء‏:‏ هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون‏:‏ يكيلنا، يعني ويقولون أيضاً‏:‏ كالَ له ووزن له‏.‏ وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون‏:‏ كال له ووزن له، ولا يقولون إلاّ‏:‏ كاله ووزنه، فيكون فعل كال عندهم مثل باع‏.‏
والاقتصار على قوله‏:‏ إذا اكتالوا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وإذا اتَّزنوا كما قال‏:‏ ‏{‏وإذا كالوهم أو وزنوهم‏}‏ اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنباً لفعل‏:‏ «اتزنوا» لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل‏.‏ ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عيناً بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غيرَ مسكوكين، فلذلك اقتُصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظراً إلى الغالب، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلاً ويقبضون الأثمان وزناً‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم‏.‏
و ‏{‏يستوفون‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ والاستيفاء أخذ الشيء وافياً، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل‏:‏ استجاب‏.‏
ومعنى ‏{‏يخسرون‏}‏ يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة، والخسارة النقص من المال من التبايع‏.‏
وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشياً في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة‏.‏
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلماً واختلاساً ولؤماً، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرّقة ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفناً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏
‏{‏أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏
استئناف ناشئ عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين‏.‏
والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يَسأل السائل عن علمهم بالبعث، وهذا يرجح أن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ موجه إلى المسلمين‏.‏ ويرجع الإِنكار والتعجيب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف‏.‏ فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين‏.‏
والظن‏:‏ مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع الشيء اعتقاداً راجحاً على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏‏.‏
وفي العدول عن الإِضمار إلى اسم الإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك‏}‏ لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم، ولأنّ الإِشارة إليهم بعد وصفهم ب«المطففين» تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإِشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإِنكار‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليوم عظيم‏}‏ لام التوقيت مثل ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏
وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبُعثت أمواتُ القرون الغابرة، فأومأ قوله ‏{‏ليوم‏}‏ أن للبعث وقتاً معيناً يقع عنده لا قبله‏.‏
ووصف يوم ب ‏{‏عظيم‏}‏ باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال، فهو وصف مجازي عقلي‏.‏
و ‏{‏يوم يقوم الناس لرب العالمين‏}‏ بدل من «يوم عظيم» بدلاً مطابقاً وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏19‏)‏ على قراءة الجمهور ذلك بالفتح‏.‏
ومعنى يقوم الناس‏}‏ أنهم يكونون قياماً، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة‏.‏
واللام في ‏{‏لرب العالمين‏}‏ للأجل، أي لأجل ربوبيته وتلقي حكمه‏.‏
والتعبير عن الله تعالى بوصف «رب العالمين» لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات‏.‏
واللام في ‏{‏العالمين‏}‏ للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏
قال في «الكشاف» «وفي هذا الإِنكار، والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته ب«رب العالمين» بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإِثم في التطفيف وفيما كان مثل حالهِ من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية» اه‏.‏
ولما كان الحامل لهم على التطفيف احتقارهم أهل الجَلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة، كان التطفيف لذلك منبئاً عن إثم احتقار الحقوق، وذلك قد صار خلقاً لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 7 9‏]‏ وقولُه حكاية عن شعيب‏:‏ ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 182، 183‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏
‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏
‏{‏العالمين‏}‏‏.‏
إبطال وردع لما تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 4‏]‏ من التعجيب من فعلهم التطفيف، والمعنى‏:‏ كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم‏.‏
‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كتاب‏}‏‏.‏
استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة‏.‏ وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجِباً كتْبه في كتاب الفجار‏.‏
و ‏{‏الفجار‏}‏ غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبساً بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية‏.‏
والتعريف في ‏{‏الفجار‏}‏ للجنس مراد به الاستغراق، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يُعنى به أن المطففين منهم المقصود الأول من هذا العموم، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجّه إليهم‏.‏
و«الكتابُ» المكتوبُ، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئاً تحصى فيه الأعمال، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها، وكذلك يَجري على الوجهين قولُه‏:‏ ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏ وتقدمت نظائره غير مرة‏.‏
و ‏{‏سجين‏}‏ حروف مادته من حروف العربية، وصيغته من الصيغ العربية، فهو لفظ عربي، ومن زعم أنه معرّب فقد أغرب‏.‏ روي عن الأصمعي‏:‏ أن العرب استعملوا سجين عوضاً عن سلْتِين، وسلتين كلمة غير عربية‏.‏
ونون ‏{‏سجين‏}‏ أصلية وليست مبدلة عن اللام، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه عَلَم لواد في جهنم، صيغ بزنة فِعِّيل من مادة السجن للمبالغة مثل‏:‏ الملك الضِّليل، ورجل سِكّير، وطعام حِرّيف ‏(‏شديد الحرافة وهي لذع اللسان‏)‏ سمي ذلك المكان سجيناً لأنه أشدّ الحَبْس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكن مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعاً نوعياً‏.‏ وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته‏.‏
ومحمل قوله‏:‏ ‏{‏لفي سجين‏}‏ إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه ‏{‏سجين‏}‏ أو وصفه ‏{‏سجين‏}‏ وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين، وروى الطبري بسنده حديثاً مرفوعاً يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل‏.‏
وإن حُملت الظرفيةُ في قوله‏:‏ ‏{‏لفي سجين‏}‏ على غير ظاهرها، فجَعْل كتاب الفجّار مظروفاً في ‏{‏سجين‏}‏ مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجّين، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجّين‏.‏
وجملة ‏{‏وما أدراك ما سجين‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ وجملة ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏ وهو تهويل لأمر السجّين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم ‏{‏ما أدراك‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏17‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ كتاب مرقوم‏}‏ خبر عن ضمير محذوف يعود إلى ‏{‏كتاب الفجار‏}‏ والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، وهذا من حذف المسند إليه الذي اتُّبع في حذفه استعمالُ العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخبر جديد‏.‏
والمرقوم‏:‏ المكتوب كتابةً بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج‏.‏
وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ ‏{‏كتاب‏}‏ سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏
{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
جملة‏:‏ ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ يجوز أن تكون مبينة لمضموم جملة‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 4، 5‏]‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ يفيد تنوينُه جملةً محذوفة جعل التنوين عوضاً عنها تقديرها‏:‏ يومَ إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين‏.‏
ويجوز أن تكون ابتدائيّة وبَيْن المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين، فتكون هذه الجملة إدماجاً لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين‏.‏
وقد ذُكر المكذبون مجملاً في قوله‏:‏ ‏{‏للمكذبين‏}‏ ثم أعيد مفصلاً ببيان متعلق التكذيب، وهو ‏{‏بيوم الدين‏}‏ لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه‏.‏
ومعنى التكذيب ب«يوم الدين» التكذيب بوقوعه‏.‏
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم‏.‏ فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد‏.‏ ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة‏.‏ كل على حسب عمله‏:‏ فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى اللَّه الملك الحق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115، 116‏]‏‏.‏
وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي‏:‏ معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين‏.‏
والاعتداء‏:‏ الظلم، والمعتدي‏:‏ المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها‏.‏
والأثيم‏:‏ مبالغة في الآثِم، أي كثير الإثم‏.‏
وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين‏.‏
فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط‏.‏
فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطيرَ الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه أو يَؤُول إليه، لأن من لم يعرض عليهم القرآنُ منهم لو عرض عليه القرآن لكذَّب به تكذيباً يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله‏.‏
ولك أن تجعل القصر ادعائياً ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن‏.‏ ومعنى الادعاء أن من لم يُؤثَر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كَلا تكذيببٍ مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ صفة لمعتد أو حال منه‏.‏
والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنّها التي تُتْلَى وتُقرأ‏.‏
والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي القصة، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون يُنَظِّرون قِصص القرآن بقصة رُستم، وإسفنديار، عند الفرس، ولعل الكلمة معربة عن الرومية، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏
والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقتْه أجيال، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لِمَا سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار، فحسبوها من قصص الأسمار‏.‏ واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة، بهتاناً منهم‏.‏
وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحِيرَة فكان يحدث بها في مكة ويقول‏:‏ أنا أحسن حديثاً من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين‏.‏
وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة كل معتد‏}‏ ظاهر في عدم التخصيص‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏
‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏
‏{‏الاولين * كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏
اعتراض بالردع وبيان له، لأن ‏{‏كلاّ‏}‏ ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل‏.‏ وحرف ‏{‏بل‏}‏ للإِبطال تأكيداً لمضمون ‏{‏كلاّ‏}‏ وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن‏.‏
والرّين‏:‏ الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب، والذيْم والذام‏.‏
وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن، فيقال‏:‏ ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الريْن، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا‏:‏ ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ران على قلوبهم‏}‏ هو من باب رَان الرينُ على السيف، وليس من باب رانَ السيفُ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون‏:‏ رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه‏.‏
والمعنى‏:‏ غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبوننِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين‏.‏
وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها‏.‏
وقرأه عاصم بالوقف على لام ‏(‏بل‏)‏ والابتداء بكلمة ران تجنباً للإدغام‏.‏
وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام ‏{‏بل‏}‏ ليبين أنها لام‏.‏ قال في «اللسان»‏:‏ إظهار اللام لغة لأهل الحجاز‏.‏ قال سيبويه‏:‏ هما حسنان، وقال الزجاج‏:‏ الإِدغام أرجح‏.‏
والقلوب‏:‏ العقول ومَحالُّ الإِدراك‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم اللَّه على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏‏.‏
ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً‏.‏
وما كانوا يكسبون‏}‏ ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها‏.‏
روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‏}‏ ‏"‏ قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح‏.‏
ومجيء ‏{‏يكسبون‏}‏ بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي‏.‏
وفي ذكر فعل ‏{‏كانوا‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد‏:‏ ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ‏.‏
فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة‏.‏
و ‏{‏كلاّ‏}‏ الثانية تأكيد ل ‏{‏كلا‏}‏ الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً‏.‏
‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ‏}‏ ‏{‏لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم * ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ‏}‏‏.‏
جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون‏}‏ وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب‏.‏
فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد «الكشاف»‏:‏
إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجِبوا *** والناسُ من بين مَرجوب ومَحْجوب
وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان‏.‏
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار‏:‏ ‏{‏على الأرائك ينظرون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 23‏]‏ وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل‏:‏ «عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال‏:‏ عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران ‏(‏77‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا ينظر إليهم يوم القيامة‏.‏‏}‏ وأما العذاب فهو ما في قوله‏:‏ ثم إنهم لصالوا الجحيم‏}‏‏.‏
وقد عطفت جملته بحرف ‏{‏ثم‏}‏ الدالة في عطفها الجُملَ على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة‏.‏
و«صالوا» جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم سيصلون عذاب جهنم‏.‏
وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ فعطف الجملة بحرف ‏{‏ثم‏}‏ اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بُعد درجته في الغرض المسوق له الكلام‏.‏
واقتضى اسم الإِشارة أنهم صاروا إلى العذاب، والإِخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذّبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها‏.‏
أو يكون قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون‏}‏
‏[‏الزخرف‏:‏ 77، 78‏]‏ فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماداً على قرينة عطف جملة هذا المقال ب ‏{‏ثم‏}‏ الدالة على التراخي‏.‏
وبني فعل ‏{‏يقال‏}‏ للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول‏.‏
وجيء باسم الموصول ليُذَكَّروا تكذيبهم به في الدنيا تنديماً لهم وتحزيناً‏.‏
وتقديم ‏{‏به‏}‏ على ‏{‏تكذبون‏}‏ للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل ‏{‏تكذبون‏}‏ إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدّى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذَّب فيعدّى بالباء‏.‏ ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين‏:‏ هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏
‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
‏{‏تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏
ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فيجوز أن تكون كلمة ‏{‏كلا‏}‏ مما قيل لهم مع جملة ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ردعاً لهم فهي من المحكى بالقول‏.‏
ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن إبطالاً لتكذيبهم المذكور‏.‏
‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ‏}‏‏.‏
يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله‏:‏ ‏{‏يشهده المقربون‏}‏ من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال‏}‏ الخ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏ الخ أسلوباً ومقابلةً‏.‏ فالوجه أن يكون مضمونها قسيماً لمضمون شبيهها فتحصلُ مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرضُ لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار‏.‏
ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحداً وجَّه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون، وأعقبه بتوجيه كلام للأبرار الذين هم بضد ذلك، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه‏.‏
ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ على وجه التوبيخ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديماً للذين أنكروه وتحسيراً لهم على ما أفاتوه من الخير‏.‏
و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ جمع بر بفتح الباء، وهو الذي يعمل البِر، وتقدم في السورة التي قبل هذه‏.‏
والقول في الكتاب ومظروفيته في عِلِّيين، كالقول في ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وعليون‏:‏ جمع عِلِّيِّ، وَعِلِّيٌّ على وزن فعِّيل من العلو، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس‏.‏
وعن الفراء أن ‏{‏عليين‏}‏ لا وَاحد له‏.‏ يريد‏:‏ أن عليين ليس جمع ‏(‏علِيٌ‏)‏ ولكنّه عَلَم على مكان الأبرار في الجنّة إذ لم يسمع عن العرب ‏(‏عِلّيّ‏)‏ وإنّما قالوا‏:‏ عِلِّيَّة للغرفة، وعليون عَلَم بالغلبة لمحلة الأبرار‏.‏
واشتق هذا الاسم من العلوّ، وهو علوّ اعتباري، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم، فاستُكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماماً لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير‏.‏
والقول في ‏{‏وما أدراك ما عليون‏}‏ كالقول في ‏{‏وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 8، 9‏]‏ المتقدم‏.‏
و ‏{‏يشهده‏}‏ يطلعون عليه، أي يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يُعلن بأسماء النابغين في التعليم، وأسماء الأبطال في الكتائب‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏
‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏
مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ إلى آخرها‏.‏ ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحاً وتوصيفاً وفصلاً، وهي مبيِّنة لجملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم، وهو المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فيكون قولُ ذلك لهم، تحسيراً وتنديماً على تفريطهم في الإِيمان‏.‏
وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قُرر للجملة من الخصوصيات‏.‏
وذُكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم‏.‏ خلافاً لما جاء في جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ تنويهاً بوصف الأبرار‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏على الأرائك‏}‏ خبر ثان عن الأبرار، أي هم على الأرائك، أي متكئون عليها‏.‏
والأرائك‏:‏ جمع أريكة بوزن سفينة، والأريكة‏:‏ اسم لمجموع سَرير ووسادتِه وحَجلةٍ منصوبة عليهما، فلا يقال‏:‏ أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة، وقيل‏:‏ إنها حبشيَّة وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏متكئين فيها على الأرائك‏}‏ في سورة الإنسان ‏(‏13‏)‏‏.‏
و ‏{‏ينظرون‏}‏ في موضع الحال من الأبرار‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ينظرون‏}‏ إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ والتقدير‏:‏ ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقام الوعد والتكريم‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تَعرف‏}‏ بصيغة الخطاب ونصب ‏{‏نضرة‏}‏ وهو خطاب لغير معين‏.‏ أي تعرف يا من يراهم‏.‏ وقرأه أبو جعفر ويعقوب «تُعْرَف» بصيغة البناء للمجهول ورفع «نضرةُ»‏.‏
ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله‏.‏ وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به‏.‏
والخطابُ بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة، وهذه الجملة خبر ثالث عن ‏{‏الأبرارَ‏}‏ أو حال ثانية له‏.‏
والنضْرة‏:‏ البهجة والحُسن، وإضافة ‏{‏نضرة‏}‏ إلى ‏{‏النعيم‏}‏ من إضافة المسبب إلى السبب، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ تبدو على وجهه ملامح السرور‏.‏
وجملة ‏{‏يسقون من رحيق‏}‏ خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه‏.‏ وعبر ب ‏{‏يسقون‏}‏ دون‏:‏ يشربون، للدلالة على أنهم مخدُومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة‏.‏ وذلك من تمام الترفه ولذة الراحة‏.‏
والرحيق‏:‏ اسم للخمر الصافية الطيبة‏.‏
والمختوم‏:‏ المسدود إناؤه، أي بَاطيَتُه، وهو اسم مفعول من خَتمه إذا شدّ بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه، تطبع فيه وهو رَطْب فإذا يبس تعذر فسخها، ويسمى ما تُطبع به خاتَماً بفتح الفوقية، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم، قال جرير‏:‏
إن الخليفة أن الله سربله *** سِرْبَال مُلك به تُزجَى الخواتيم
والختام بوزن كتاب‏:‏ اسم للطين الذي يُختم به كانوا يجعلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادةِ صفائها وحفظ رائحتها‏.‏ وجُعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضاً عن طين الخَتم‏.‏
والمِسك مادة حيوانية ذاتُ عَرْف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة، وهذه المادة تتكون في غُدّة مملوءة دَماً تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها‏.‏ وهي جِلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون‏:‏ فَأرة المسك‏.‏
وفُسر ‏{‏ختامه مسك‏}‏ بأن المعنى ختام شُربه، أي آخر شربه مسك، أي طعم المسك بمعنى نكهته، وأنشد ابن عطية قول ابن مُقْبِل‏:‏
مما يُعتِّق في الحانوت قَاطفُها *** بالفُلفل الجَوْن والرُّماننِ مَخْتومُ
أي ينتهي بلذع الفلفل وطَعْم الرمان‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ختامه مسك‏}‏ نعت ل ‏{‏رحيق‏}‏‏.‏ أو بدل مفصل من مجمل، أو استئناف بياني ناشئ عن وصف الرحيق بأنه ‏{‏مختوم‏}‏ أنْ يسأل سائل عن ختامها أي شَيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ختامه مسك‏}‏ وجملة ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏‏.‏
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله‏:‏ ‏{‏وفي ذلك‏}‏ هو مبدأ الجملة‏.‏ وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيققِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال‏.‏ ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها‏.‏ والفاءُ إما أن تكون فصيحة، والتقدير‏:‏ إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون، أو التقدير‏:‏ وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط، كما روي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كما تكونوا يُوَلّ عليكم ‏"‏ بجزم «تكونوا» و«يُوَلّ»، فالتقدير‏:‏ إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون‏.‏ وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير، والتقدير‏:‏ وتنافسوا صيغة أمر في ذلك، فليتنافس المتنافسون فيه، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏يسقون من رحيق‏}‏ الخ وجملة‏:‏ ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏‏.‏
والتنافس‏:‏ تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس‏.‏ فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد‏.‏
ولام الأمر في ‏{‏فليتنافس‏}‏ مستعملة في التحريض والحث‏.‏
و ‏{‏مِزاجه‏}‏‏:‏ ما يمزج به‏.‏ وأصله مصدر مازج بمعنى مزَج، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سَوْرتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغُتّه غتّاً فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تُشرب ممزوجة بالماء‏.‏ قال كعب بن زهير‏:‏
شُجَّت بذي شبم من ماء محقبة *** صَاف بأبْطَحَ أضحى وهَو مَشمول
وقال حسان‏:‏
يَسقون مَن وَرَدَ البريضَ عليهمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ
وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم‏.‏ كقول لبيد‏:‏
أغلي السِّباء بكل أدكن عاتق *** أو جونة قُدحت وفُض ختامها
و‏{‏تسنيم‏}‏ علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام‏.‏ ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام‏.‏ وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفاً عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه‏:‏ «هذا مما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به‏.‏ ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله‏:‏ ‏{‏عيناً يشرب بها المقربون‏}‏، أي حال كون التسنيم عيناً يشرب منها المقرّبون‏.‏
و ‏{‏المقرَّبون‏}‏‏:‏ هم الأبرار، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون‏.‏
وباء ‏{‏يشرب بها‏}‏ إما سببية، وعُدي فعل ‏{‏يشرب‏}‏ إلى ضمير العين بتضمين ‏{‏يشرب‏}‏ معنى‏:‏ يمزج، لقوله‏:‏ ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏ أي يمزجون الرحيق بالتسنيم‏.‏ وإمَّا باء الملابسة وفعل ‏{‏يشرب‏}‏ معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسين حولها‏.‏ أو الباء بمعنى ‏(‏مِن‏)‏ التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء، وينسب إلى الكوفيين‏.‏ واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ‏(‏مِن‏)‏، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب‏:‏
شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت *** متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ
تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏
هذه من جملة القول الذي يقال يوم القيامة للفجار المحكيّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ لأنه مرتبط بقوله في آخره‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ إذ يتعين أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فَاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ حكاية كلام يصدر في يوم القيامة، إذ تعريف «اليوم» باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقّت به الفعل المتعلق هو به، ومعلوم أن اليوم الذي يَضحَك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله‏:‏ ‏{‏كانوا من الذين آمنوا يضحكون‏}‏ ظاهر في أنه حكاية كوننٍ مضى، وكذلك معطوفاته من قوله‏:‏ «وإذا مَرّوا، وإذا انقلبوا، وإذا رَأوهم» فدل السياق على أن هذا الكلام حكاية قول ينادي به يوم القيامة مِن حضرة القدس على رؤوس الأشهاد‏.‏
فإذا جريتَ على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جُمل ‏{‏كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ الآيات، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ إلى هنا فهذه متصلة بها‏.‏ والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإِضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم‏:‏ إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضاً، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ثم إنهم لصَالوا الجحيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 16‏]‏ واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏إنهم لصالوا الجحيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 16‏]‏ باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ فالتعبير بالذين أجرموا إذَن جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات‏.‏
وقد اتّضح بما قرَّرناه تناسب نظم هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ إلى هنا مزِيدَ اتضاح، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه، سوى أن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال‏:‏ «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ على حكاية ما يقال اه‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏
والمقصود من ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حِدة، وذكر حال المسلمين على حِدة، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معاً‏.‏
وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏
والافتتاح ب ‏{‏إن الذين أجرموا‏}‏ بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإِشعار بأنه خبر مهم‏.‏ والمراد ب ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم‏.‏
وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، والنضْر بن الحارث، كانوا يضحكون من عمار بن ياسر، وخباب بن الأرَتّ، وبلال، وصهيب، ويستهزئون بهم‏.‏
وعبر بالموصول وهذه الصلة‏:‏ ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام، وليظهر موقع قوله‏:‏ ‏{‏هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 36‏]‏‏.‏
والإِجرام‏:‏ ارتكاب الجُرم وهو الإثم العظيم، وأعظم بالإِجرام الكُفر ويؤذن تركيب «كانوا يضحكون» بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي، وصوغ ‏{‏يضحكون‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم‏.‏
وتعدية فعل ‏{‏يضحكون‏}‏ إلى الباعث على الضحك بحرف ‏{‏مِن‏}‏ هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن ‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية تشبَّه الحالةُ التي تبعث على الضحك بمكان يَصدر عنه الضحك، ومثله أفعال‏:‏ سخر منه، وعجب منه‏.‏
ومعنى يضحكون منهم‏:‏ يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزأوون بالمؤمنين ومعظمهم ضعاف أهل مكة فيضحكون منهم، والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مرّوا بهم يتغامزون‏}‏‏.‏
واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم تلك الحالة نحو‏:‏ ‏{‏فتبسم ضاحكاً مِن قولها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏ وإذا كان مجموعَ هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو‏:‏ ‏{‏وكنتم منهم تضحكون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقول عبد يغوث الحارث‏:‏
وتَضحك منّي شَيْخَةٌ عبشميّة *** كأنْ لَم تَرى قبلي أسيراً يمانياً
والتغامز‏:‏ تفاعل من الغمز ويُطلق على جسّ الشيء باليد جسّاً مكيناً، ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالةِ كعوبها‏.‏ وفي حديث عائشة‏:‏ «لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمزَ رِجْلَيَّ فقبضتُهما»‏.‏
ويطلق الغمز على تحريك الطَّرْف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإِطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه‏.‏
وضمير ‏{‏مروا‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ فيكون ضمير ‏{‏بهم‏}‏ عائداً إلى ‏{‏الذين آمنوا‏}‏، ويجوز العكس، وأما ضمير ‏{‏يتغامزون‏}‏ فمتمحّض للعود إلى ‏{‏الذين أجرموا‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ وإذا مرّ المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أوْ وإذا مرّ الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم، وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنين عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيراً بمكة حين نزول هذه السورة، فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يُقرَّعُون به يوم القيامة‏.‏
والإِنقلاب‏:‏ الرجوع إلى الموضع الذي جيء منه‏.‏ يقال‏:‏ انقلب المسافر إلى أهله وفي دعاء السفر‏:‏ «أعوذُ بك من كآبة المنقلب»‏.‏ وأصله مستعار من قَلَب الثوب، إذا صرفه من وجه إلى وجه آخر، يقال‏:‏ قلب الشيء، إذا أرجعه‏.‏
وأهل الرجل‏:‏ زوجه وأبناؤه، وذكر الأهل هنا لأنهم ينبسط إليهم بالحديث فلذلك قيل‏:‏ ‏{‏إلى أهلهم‏}‏ دون‏:‏ إلى بيوتهم‏.‏
والمعنى‏:‏ وإذا رجع الذين أجرموا إلى بيوتهم وخلَصوا مع أهلهم تحدثوا أحاديث الفكاهة معهم بذكر المؤمنين وذمهم‏.‏
وتكرير فعل‏:‏ ‏{‏انقلبوا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏انقلبوا فاكهين‏}‏ من النسج الجزل في الكلام كان يكفي أن يقول‏:‏ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فَكِهوا، أو إذا انقلبوا إلى أهلهم كانوا فاكهين‏.‏ وذلك لما في إعادة الفعل من زيادة تقرير معناه في ذهن السامع لأنه مما ينبغي الاعتناء به، ولزيادة تقرير ما في الفعل من إفادة التجدد حتى يكون فيه استحضار الحالة‏.‏ قال ابن جنّي في كتاب «التنبيه على إعراب الحماسة» عند قول الأحوص‏:‏
فإذَا تَزولُ تزولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادِرُه على الأقران
محال أن تقول إذا قمتُ قمتُ وإذا أقعدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول، أي فلا يستقيم جعل الثاني جواباً للأول‏.‏ وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة ومثله قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏ ولو قال‏:‏ هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفدِ القول شيئاً لأنه كقولك الذي ضربتُه ضربتُه والتي أكرمتُها أكرمتُها ولكن لما اتصل ب ‏{‏أغويناهم‏}‏ الثانية قولُه‏:‏ ‏{‏كما غوينا‏}‏ أفاد الكلام كقولك الذي ضربتُه ضربتُه لأنه جاهل‏.‏ وقد كان أبو عَلي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك اه‏.‏
وقد مضى ذلك في سورة القصص وفي سورة الفرقان‏.‏
و ‏{‏فاكهين‏}‏ اسم فاعل فاكه، وهو من فَكِه من باب فرح إذا مزَح وتحدَّث فأضحَكَ، والمعنى‏:‏ فاكهين بالتحدث عن المؤمنين، فحذف متعلق ‏{‏فاكهين‏}‏ للعلم بأنه من قبيل متعلقات الأفعال المذكورة معه‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاكهين‏}‏ بصيغة الفاعل‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم وأبو جعفر «فكهين» بدون ألف بعد الفاء على أنه جمع فَكِه، وهو صفة مشبهة وهما بمعنى واحد مثل فارح وفرح‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هما لغتان‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏}‏ حكت ما يقوله الذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم أي يجمعون بين الأذى بالإِشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلاناً به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإِسلام إلى الكفر، أم كان قولاً يقوله بعضهم لبعض إذا رأوا المؤمنين كما يفكهون بالحديث عن المؤمنين في خلواتهم، وبذلك أيضاً فارق مضمون هذه الجملة مضمون الجمل التي قبلها مع ما في هذه الجملة من عموم أحوال رؤيتهم سواء كانت في حال المرور بهم أو مشاهدة في مقرهم‏.‏
ومرادهم بالضلال‏:‏ فساد الرأي‏.‏ لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي، أي هؤلاء سيئوا الرأي إذِ اتبعوا الإِسلام وانسلخوا عن قومهم، وفرطوا في نعيم الحياة طمعاً في نعيم بعد الموت وأقبلوا على الصلاة والتخلّق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاماً وعنتاً لأنهم بمعزل عن مقدرة قَدْر الكمال النفساني وما همهم إلا التلذذ الجثماني‏.‏
وكلمة ‏{‏إذا‏}‏ في كل جملة من الجمل الثلاث ظرف متعلّق بالفعل الموالي له في كل جملة‏.‏
ولم يعرج أحد من المفسّرين على بيان مفاد جملة‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏}‏ مع ما قبلها‏.‏ وقال المهايمي في «تبصرة الرحمان»‏:‏ «وإذا رأوهم يُؤْثِرون الكمالاتتِ الحقيقية على الحسية» فقدَّر مفعولاً محذوفاً لفعل ‏{‏رأوهم‏}‏ لإِبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجُمل التي قبلها وقد علمت عدم الاحتياج إليه ولقد أحسن في التنبيه عليه‏.‏
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد تحقيق الخبر‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما أرسلوا عليهم حافظين‏}‏ في موضع الحال أي يلمزوهم بالضلال في حال أنهم لم يرسلهم مرسل ليكونوا موكلين بأعمالهم فدل على أن حالهم كحال المرسَل ولذلك نُفي أن يكونوا أرسلوا حافظين عليهم فإن شدة الحرص على أن يقولوا‏:‏ إن هؤلاء لضالون، كلما رأوهم يشبه حال المرسَل ليتتبع أحوال أحد ومن شأن الرسول الحرص على التبليغ‏.‏
والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين، أي لم يكونوا مقَيَّضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم‏.‏
فمعنى الحِفظ هنا الرَّقابة ولذلك عدّي بحرف ‏(‏على‏)‏ ليتسلط النفي على الإِرسال والحِفظ ومعنَى الاستعلاء المجازي الذي أفاده حرف ‏(‏على‏)‏ فينتفي حالُهم الممثَّلُ‏.‏
وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بمفاد حرف الاستعلاء وبمجروره معَ الرعاية على الفاصلة‏.‏
وأفادت فاء السّببيّة في قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سبباً في جزائهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقاً‏.‏
وتقديم «اليوم» على ‏{‏يضحكون‏}‏ للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ في اتصال نظمه بما قبله غموض‏.‏ وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية‏.‏ ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفاً منصوباً يقتضي أن اليوم مراد به يومٌ حاضر في وقت نزول الآية نظير وقتتِ كلام المتكلم إذا قال‏:‏ اليوم يكون كذا، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر، فليس ضَحِك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجَزاء، ولا يستقيم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ بمعنى‏:‏ فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏.‏
وابن عطية استشعر إشكالها فقال‏:‏ «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون اه‏.‏
وهو انقداح زناد يحتاج في تَنَوُّرِهِ إلى أعواد‏.‏
فإمّا أن نجعل ما قبله متصلاً بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ إلى هنا كما تقدم‏.‏
وإمّا أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا‏}‏ الخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ يقال لهم اليومَ الذين آمنوا يضحكون منكم‏.‏
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ فاليوم يضحك الذين آمنوا، لإِفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏كانوا من الذين آمنوا يضحكون‏}‏ أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليومَ المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس‏.‏
وتقديم ‏{‏من الكفار‏}‏ على متعلَّقه وهو ‏{‏يضحكون‏}‏ للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلاً لإِساءتهم عند سماع هذا التقريع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏من الكفار‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار، عُدل عن أن يقال‏:‏ منهم يضحكون، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار‏.‏
ومفعول ‏{‏ينظرون‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏من الكفار يضحكون‏}‏ تقديره‏:‏ ينظرونهم، أي يشاهدون المشركين في العذاب والإِهانة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏
‏{‏هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏
فذلكة لِما حُكي من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة، فالمعنى فقَد جوزي الكفار بما كانوا يفعلون وهذا من تمام النداء الذي يعلق به يوم القيامة‏.‏
والاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ تقريري وتعجيب من عدم إِفلاتهم منه بعد دهور‏.‏
والاستفهام من قبيل الطلب فهو من أنواع الخطاب‏.‏
والخطاب بهذا الاستفهام موجه إلى غير معيّن بل إلى كل من يسمع ذلك النداء يوم القيامة‏.‏ وهذا من مقول القول المحذوف‏.‏
و ‏{‏ثُوِّب‏}‏ أعطِيَ الثوابَ، يقال‏:‏ ثَوَّبَهُ كما يقال‏:‏ أثابه، إذا أعطاه ثواباً‏.‏
والثواب‏:‏ هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في «الصحاح»، وهو ظاهر «الأساس» ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية‏.‏ وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال‏:‏ إنه يستعمل في جزاء الخير والشر‏.‏ أراد أنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله‏:‏ ‏{‏الكفار‏}‏ ما كانوا يفعلون كقول عمرو بن كلثوم‏:‏
نزلتم منزل الأضياف منا *** فعجَّلنا القِرى أن تَشْتُمونا
قَرَيْناكم فعَجَّلْنا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِرْداة طحونا
ومن قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏‏.‏
و ‏{‏ما كانوا يفعلون‏}‏ موصول وهو مفعول ثان لفعل ‏{‏ثوب‏}‏ إذ هو من باب أعطى‏.‏ وليس الجزاء هو ما كانوا يفعلونه بل عبر عنه بهذه الصلة لمعادلته شدَّةَ جرمهم على طريقة التشبيه البليغ، أو على حذف مضاف تقديره‏:‏ مثلَ، ويجوز أن يكون على نزع الخافض وهو باء السببية، أي بما كانوا يفعلون‏.‏
وفي هذه الجملة محسن براعة المقطع لأنها جامع لما اشتملت عليه السورة‏.‏
سورة الانشقاق
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏
‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏‏}‏
قدم الظرف ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ على عامله وهو ‏{‏كادح‏}‏ للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار‏:‏ يا أيها الإِنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ‏.‏
ولكن لما تعلق ‏{‏إذا‏}‏ بجزء من جملة ‏{‏إنك كادح‏}‏ وكانت ‏{‏إذا‏}‏ ظرفاً متضمناً معنى الشرط صار‏:‏ يا أيها الإنسان إنك كادح جواباً لشرط ‏{‏إذا‏}‏ ولذلك يقولون ‏{‏إذا‏}‏ ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوباً بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف للزمان المستقبل، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه ‏{‏إذا‏}‏ مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضيّ للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل ‏{‏إذا‏}‏ القطع بوقوع الشرط‏.‏
وانشقت مطاوع شَقَّها، أي حين يشقُّ السماءَ شَاق فتنشق، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها‏}‏‏.‏
والانشقاق هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انفطرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 1‏]‏ وهو انشقاق يلوح للناس في جوّ السماء من جرَّاء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم‏.‏
وقدّم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ دون أن يقال‏:‏ إذا انشقت السماء لإفادة تقوّي الحكم وهو التعليق الشرطي، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه ‏{‏إذا‏}‏ في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف ‏(‏إنْ‏)‏‏.‏
‏{‏وأذنت‏}‏، أي استمعت، وفِعل أذِن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأُذْن بضم الهمزة آلة السمع في الإِنسان يقال أَذِن له كما يقال‏:‏ استمع له، أي أصغى إليه أُذنَهُ‏.‏
وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق‏.‏ وليس هو باستعارة تبعية ولا تمثيلية‏.‏
والتعبير ب «ربها» دون غير ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه، لِمَا يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وحقت‏}‏ معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليه‏.‏
والمعنى‏:‏ وهي محقوقة بأن تَأْذِن لربّها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتدّ خَلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها، فهو الذي إذا شاء أزالها‏.‏
فمتعلّق ‏{‏حقّت‏}‏ محذوف دل عليه فعل‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها‏}‏، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال‏:‏ حُقَّ فلان بكذا، أي توجه عليه حقّ‏.‏ ولما كان فاعل توجيه الحَق غيرَ واضح تعيينُه غالباً، كان فهل حُقّ بكذا، مبنياً للمجهول في الاستعمال، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول، فيقال‏:‏ حقيق عليه كذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق على أن لا أقول على اللَّه إلا الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ وهو محقوق بكذا، قال الأعشى‏:‏
لمحقُوقه أن تستجيبي لصوته *** وأن تعلمي أن المُعان مُوفقُ
والقول في جملة‏:‏ ‏{‏وإذا الأرض مدت‏}‏ مثل القول في جملة ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي‏.‏
ومَدّ الأرض‏:‏ بسطها، وظاهر هذا أنها يُزال ما عليها من جبال كما يُمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105 107‏]‏‏.‏
ومن معاني المدّ أن يكون ناشئاً عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلازل وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها‏.‏
ومن معاني المدّ أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير‏.‏ وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما يحيط بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوالُ هذا العالم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وألقت ما فيها‏}‏ صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مدّ الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثلُ البراكين واندفاعُ الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان‏.‏
‏{‏وتخلت‏}‏ أي أخرجت ما في باطنها فلما يبق منه شيء لأن فعل تخلّى يدل على قوة الخلوّ عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإِكرام‏.‏
والمعنى‏:‏ إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏‏.‏
وتقدم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها وحقت‏}‏ آنفاً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ إلى آخره جواب ‏{‏إذا‏}‏ باعتبار ما فُرع عليه من قوله‏:‏ ‏{‏فملاقيه‏}‏ ونسب هذا إلى المبرد، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه‏.‏
فالمعنى‏:‏ إذا السماء انشقت وإذا الأرض مُدّت لاقيتَ ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله‏:‏ ‏{‏إنك كادح إدماجاً بمنزلة الاعتراض أمام المقصود‏.‏
وجوز المبرد أن يكون جواب إذا‏}‏ محذوفاً دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فملاقيه‏}‏ والتقدير‏:‏ إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيتَ أيها الإنسان ربك‏.‏
وجوز الفرّاء أن يكون جواب ‏{‏إذا‏}‏ قوله ‏{‏وأذنت لربها‏}‏ وإن الواو زائدة في الجواب‏.‏ ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت ‏{‏إذا‏}‏ بعد ‏(‏حتى‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ أو بعد ‏(‏لما‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏ الآية‏.‏
وقيل‏:‏ الجواب‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 7‏]‏، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس‏.‏
والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ لتعريف الجنس وهو للاستغراق كما دل عليه التفصيل في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله‏:‏ كان به بصيراً‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 15‏]‏‏.‏
والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث‏.‏ فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير‏.‏
وقيل‏:‏ أريد إنسان معين فقيل‏:‏ هو الأسود بن عبد الأسد ‏(‏بالسين المهملة في «الاستيعاب» و«الإِصابة» ووقع في «الكشاف» بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في «جامع الأصول» بالمهملة‏)‏، وقيل‏:‏ أُبيّ بن خلف، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء‏.‏
والكدحُ‏:‏ يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في «الأساس» فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي‏.‏ وظاهر كلام الراغب أن حقيقته‏:‏ إتعاب النفس في العمل والكد‏.‏ وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف ‏(‏إلى‏)‏ تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن ‏{‏كادح‏}‏ معنى ساععٍ لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف ‏(‏إنَّ‏)‏، ويجوز أن يضمن ‏{‏كادح‏}‏ معنى ماش فيكون المجرور ظرفاً لغواً‏.‏
و ‏{‏كدحاً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد ‏{‏كادح‏}‏ المضمن معنى ساع إلى ربك، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر‏.‏
وضمير النصب في «ملاقيه» عائد إلى الرب، أي فملاق ربك، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 15‏]‏
‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏‏}‏
هذا تفصيل الإِجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏ أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏، وبين منتهاهما مراتب‏.‏ وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين‏.‏
والكِتاب‏:‏ صحيفة الأعمال، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعاراً للسعادة لِما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سَموا البركة والسعادة يُمناً، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 41‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ بيمينه‏}‏ للملابسة أو المصاحبة، أو هي بمعنى ‏(‏في‏)‏، وهي متعلقة ب ‏{‏أوتي‏}‏‏.‏
وحرف ‏(‏سوف‏)‏ أصله لحصول الفعل في المستقبل، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏، وهو هنا مفيد للتحقق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرارِ وهو ينقلب إلى أهله مسروراً وهو المقصود من هذا الوعد‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف نصليه ناراً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والحساب اليسير‏:‏ هو عَرْض أعماله عليه دون مناقشة فلا يَطول زمنه فيعجَّلُ به إلى الجنة، وذلك إذا كانت أعماله صالحة، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة‏.‏
ومن أوتي كتابه وراء ظهره‏}‏ هو الكافر‏.‏ والمعنى‏:‏ إنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب ‏{‏من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ وذلك أيضاً في سورة الحاقة قوله‏:‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه‏}‏، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيراً له ويناول له من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه بحيث لا ينظر مُناوِلُه كتابَه إلى وجهه‏.‏
وظرف ‏{‏وراء ظهره‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏كتابه‏}‏‏.‏
و ‏{‏ينقلب إلى أهله‏}‏ أي يرجع‏.‏ والانقلاب‏:‏ الرجوع إلى المكان الذي جيء منه، وقد تقدم قريباً في سورة المطففين‏.‏
والأهل‏:‏ العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة‏.‏
وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسَب حساباً يسيراً في المسرّة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالماً رابحاً لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة، فذلك وجه الشبه بين الهيْأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية‏.‏
وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب، ولأنه قد لا يكون له أهل‏.‏ وهو أيضاً كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان‏.‏
والمراد بالدعاء في قوله‏:‏ ‏{‏يدعو ثبوراً‏}‏ النداء، أي ينادي الثبور بأن يقول‏:‏ يا ثبوري، أو يا ثبورا، كما يقال‏:‏ يا ويلي ويا ويلتنا‏.‏
والثبور‏:‏ الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس‏.‏
والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء‏.‏
‏{‏ويصلى‏}‏ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاهُ إذا أحرقَه‏.‏ وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف ‏{‏ويصلى‏}‏ بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صَلِي اللازم إذا مسته النار كقوله‏:‏ ‏{‏يصْلَوْنَها يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وانتصب ‏{‏سعيراً‏}‏ على نزع الخافض بتقدير يُصلَّى بسعير، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوباً بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيصلون سعيراً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ فانظره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان في أهله مسروراً‏}‏ مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله‏:‏ ‏{‏أولي النعمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 31‏]‏ فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دَعوا بالثبور‏.‏
وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان‏:‏ «إنَّك عَلَيه لجريء» ‏(‏أي على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه الجملة معترضة‏.‏
وموقع جملة‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏ موقع التعليل لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه وراء ظهره‏}‏ إلى آخرها‏.‏
وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ فيها مُغْننٍ عن فاء التعليل، فالمعنى‏:‏ يصلى سعيراً لأنه ظن أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، أي لأنه يُكَذِّبُ بالبعث، يقال‏:‏ حار يحور، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه، ثم أطلق على الرجوع إلى حالة كان فيها بعدَ أن فارقها، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع مثل إطلاق الرجوع عليه في قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلينا مرجعكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه على رجعه لقادر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 8‏]‏ وسُمي يومُ البعث يومَ المعاد‏.‏
وجيء بحرف ‏{‏لن‏}‏ الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه‏.‏
وحرف ‏{‏بلى‏}‏ يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو‏:‏ ‏{‏ألست بربكم قالوا بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ويقع بعد غير الاستفهام أيضاً نحو قوله تعالى‏:‏
‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وموقع ‏{‏بلى‏}‏ الاستئناف كأحرف الجواب‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربه كان به بصيراً‏}‏ مبينة للإِبطال الذي أفاده حرف ‏{‏بلى‏}‏ على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث‏.‏
والمعنى‏:‏ إن ربه عليم بمآله‏.‏ وتأكيد ذلك بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإِبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى‏:‏ أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله‏:‏ ‏{‏واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏
وتعدية ‏{‏بصيراً‏}‏ بالباء لأنه من بَصُر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإِلصاق‏.‏
وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحَقَهُ بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح، فجَعَل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدّم صاحبها في حياته الأولى‏.‏
وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء‏.‏
وعلق وصف ‏(‏بصير‏)‏ بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور، والمراد‏:‏ العِلم بأحواله لا بذاته‏.‏
وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏
‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع القسم وجوابه، على التفصيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أوتى كتابه بيمينه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 7‏]‏ إلى هنا‏:‏ فإنه اقتضى أن ثمة حساباً وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضاً جمعاً إجمالياً لما يعترض في ذلك من الأهوال‏.‏
وتقدم أن‏:‏ «لا أقسم» يراد منه أُقسم، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال والمخلوقات عند قوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بالخنس‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏15‏)‏‏.‏
ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسَم عليه لأنّ الشفق والليل والقمر تخالط أحوالاً بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ من تفاوت الأحوال التي يختبط فيها الناس يومَ القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير من خلال أحوال شَرّ أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي‏.‏
ولعل ذِكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مِثْل حالة الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين‏.‏
والشفق‏:‏ اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس أثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعضُ جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقاً‏.‏
و ‏{‏ما وَسَق‏}‏ ‏(‏مَا‏)‏ فيه مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب‏.‏
والوسْق‏:‏ جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشراً في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقْسم به قسماً أدمجت فيه منّة‏.‏ وقيل‏:‏ ما وسقه الليل‏:‏ النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسِق أشياء متفرقة‏.‏ وهذا أنسب بعطف القمر عليه‏.‏
واتساق القمر‏:‏ اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوَسْق بمعنى الجمع كما تقدم آنفاً وذلك في ليلة البدر، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه‏.‏
وأصل فعل اتّسق‏:‏ اوِتَسَق قلبت الواو تاء فوقية طلباً لإِدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها‏.‏
فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني‏.‏
فأما فعل ‏{‏لتركبن‏}‏ فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ، منها الغلَب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة‏.‏
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال‏:‏ رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ‏.‏
وأما كلمة ‏{‏طبق‏}‏ فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام «الأساس» و«الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس، وظاهر «الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال، يقال‏:‏ طابَق النعل النعل‏.‏
وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق‏.‏ وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة‏.‏
ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل‏:‏ «وافَقَ شنّ طبَقه» أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه‏.‏ ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه‏.‏
ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء‏.‏
ويطلق اسمَ جمععٍ لطبقة‏:‏ وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه‏.‏ وهذا من المجاز يقال‏:‏ أتانا طَبق من الناس، أي جماعة‏.‏
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى ‏{‏عن‏}‏ من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفةِ كلمة ‏(‏بعد‏)‏ وهو معنى مجازي‏.‏
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏ الآيات‏.‏ ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل‏.‏ فتتركب من هذه المحامل معاننٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية‏.‏
فقيل المعنى‏:‏ لتركُبن حالاً بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين «طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و‏{‏عن‏}‏ بمعنى ‏(‏بعد‏)‏ والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها‏.‏
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء، وحشر، وسعادة أو شقاوة، ونعيم أو جحيم، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال‏.‏
وقيل‏:‏ ‏{‏لتركبن‏}‏ منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيهما للتنويع‏.‏
وقيل‏:‏ من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون ‏{‏عن‏}‏ على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم‏.‏
ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏ وهذا تهديد لمنكريه، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة، أي لتَتَّبِعُنَّ‏.‏ وحذف مفعول‏:‏ «تركبن» بتقدير‏:‏ ليَتبعن بعضُكم بعضاً، أي في تصميمكم على إنكار البعث‏.‏ ودليل المحذوف هو قوله‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ ويَكون ‏{‏طبقاً‏}‏ مفعولاً به وانتصاب ‏{‏طبقاً‏}‏ إما على الحال من ضمير ‏{‏تركبُنّ‏}‏‏.‏ وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية‏.‏
وموقع ‏{‏عن طبق‏}‏ موقع النعت ل ‏{‏طبقاً‏}‏‏.‏
ومعنى ‏{‏عن‏}‏ إما المجاوزة، وإما مرادفة معنى ‏(‏بعد‏)‏ وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم‏:‏ «ورثوا المجد كابراً عن كابر» غيَّر حرف ‏(‏عن‏)‏ إلى كلمة ‏(‏بعد‏)‏ فقال‏:‏
لآللِ الجُلاَححِ كَابِراً بعدَ كابِر ***
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ‏{‏لتركبن‏}‏ بضم الموحدة على خطاب الناس‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل‏.‏ وقيل‏:‏ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية‏:‏ قيل‏:‏ هي عِدة بالنَّصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك ‏(‏أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين‏)‏ فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 14‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فما لهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏
‏{‏فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال مَن أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب ‏(‏من‏)‏ الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول ‏(‏مَن‏)‏ وهو الجماعة‏.‏ والمعنى‏:‏ فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا‏.‏
ويجوز أن يكون مفرعاً على قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه‏.‏ وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإِنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات‏.‏
ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏ فيكون مخصوصاً بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ‏.‏ والضمير أيضاً التفات‏.‏
ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القَسَم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية‏.‏ والالتفات هو هو‏.‏
وتركيب «ما لهم لا يؤمنون» يشتمل على ‏(‏مَا‏)‏ الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور‏.‏ والجملةُ بعد ‏{‏لهم‏}‏ حال من ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية‏.‏
وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإِنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسمٌ لَكان منصوباً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏246‏)‏‏.‏
ومتعلق يؤمنون‏}‏ محذوف يدل عليه السّياق، أي بالبعث والجزاء‏.‏
ويجوز تنزيل فعل ‏{‏يؤمنون‏}‏ منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإِيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإِشراك به‏.‏
والمعنى‏:‏ التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به‏.‏
و ‏{‏لا يسجدون‏}‏ عطف على ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ ‏{‏وإذا قرئ عليهم القرآن‏}‏ ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن‏.‏
وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءةَ تبليغ ودعوة‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفراداً وقد قال له عبد الله بن أبيّ بن سلول‏:‏ «لا تَغْشَنا به في مجالسنا» وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس‏.‏
والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى‏:‏
‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً للَّه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏، أي إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وليس في هذه الآية ما يقتضي أنَّ عند هذه الآية سجدةً من سجود القرآن والأصحّ من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافاً لابن وَهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هي سُنة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ واجبة‏.‏ والأرجح أن عزائم السجود المسنونة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصّحابة‏.‏ وإن ثلاث آيات غير الإِحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي‏:‏ إمّا قد تُرك سجودها، وإمّا لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون‏}‏‏.‏ وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك ا ه‏.‏
قلت‏:‏ وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإِحدى عشرة وقد قال مالك في «الموطأ» بعد أن رَوى حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء ‏"‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق‏.‏ وقال أحمد‏:‏ هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحجّ ففيها سجدتان عنده‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏
يجوز إنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم وإنكاره عليهم إلى الإِخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإِنكار‏.‏
فالإِخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإِنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏بل‏}‏ إضراباً إبطالياً، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإِيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون، أي يستمرون على التكذيب عناداً وكبرياء ويومئ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه أعلم بما يوعون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 23‏]‏‏.‏
وهذان المعنيان نظيرُ الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار ‏(‏9 10‏)‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏.‏‏}‏ وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده، أي بل هم مستمرون على التكذيب عناداً وليس ذلك اعتقاداً فكما نُفي عنهم تجدُّد الإِيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أُثبت لهم تجدد التكذيب‏.‏
وقوله‏:‏ الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ بل هم يكذبون، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن به الصلة من ذمهم بالكفر للإِيماء إلى علة الخبر، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏، وجملة‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏ وهو كناية عن الإِنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم‏.‏
ومعنى ‏{‏بما يوعون‏}‏ بما يُضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأنَّ ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التّكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولاً عند أتباعهم وبين مجاوريهم‏.‏
وأصل معنى الإِيعاء‏:‏ جعل الشيء وعاء والوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يُجمع فيه، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت فصار مشعراً بالتقتير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَمَع فأوعى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 18‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «لا تُوعي فيُوعي الله عليكِ» واستعمل في هذه الآية في الإِخفاء لأنّ الإِيعاء يستلزم الإِخفاء فهو هنا مجاز مرسل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وفعل «بشِّرهم» مستعار للإِنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير‏:‏ الإِخبار بما يَسرّ وينفع‏.‏ فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنَار على عَلم‏.‏ وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم‏:‏
قَرَيْنَاكُم فعجَّلْنا قِراكُم *** قُبَيْل الصبح مرْدَاةً طَحُونا
تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏
‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً‏:‏ إمَّا على أنه استثناء من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏ جرياً على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد‏.‏
وإمّا على أنه استثناء من ضمير الجمع في ‏{‏فبشرهم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏ والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ وقوله في سورة البروج ‏(‏10‏)‏‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا الآية وفعل آمنوا‏}‏ على هذا الوجه مراد به المستقبل، وعبّر عنه بالماضي للتنبيه على معنى‏:‏ مَن تحقق إيمانهم، وما بينهما من قوله‏:‏ ‏{‏فما لهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 20‏]‏ إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خصّ به الأَهمَّ ممن شملهم عموم ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ هو استثناء منقطع من ضمير ‏{‏فبشرهم‏}‏ فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم‏.‏ فحرف ‏{‏إلاّ‏}‏ بمنزلة ‏(‏لكن‏)‏ والاستدراك فيه لمجرد المضادة لا لِدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوته أو نفيُه، فهو تعريف تقريبي‏.‏
وجملة ‏{‏لهم أجر غير ممنون‏}‏ استئناف بياني كأنَّ سائلاً سأل‏:‏ كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم‏؟‏
والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبُه مع كرامة بحيث لا يعرَّض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 14‏]‏ ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببُه، والمعنى‏:‏ أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المنّ ينغّص الإِنعام قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ وقال النابغة‏:‏
عليَّ لِعَمْرو نِعمةٌ بعدَ نعمة *** لوالده ليستْ بذات عقارب
ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري‏:‏ طعم الآلاءِ أحْلَى من المَنّ‏.‏ وهو أمرّ من الآلاء مَعَ المَنّ‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏غير ممنون‏}‏ بمعنى غير مقطوع يُقال‏:‏ مننت الحبل، إذا قطعته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 32، 33‏]‏‏.‏
سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبدَ اللَّه بن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏غير ممنون‏}‏ فقال‏:‏ غير مقطوع، فقال‏:‏ هل تعرف العرب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قد عرفه أخو يَشكر ‏(‏يعني الحارث بن حلزة‏)‏ حيث يقول‏:‏
فتَرى خَلفَهُنّ من سرعة الرَّجْ *** ع منيناً كأنه أهْباء
المنين‏:‏ الغبار لأنها تقطعه وراءها‏.‏
سورة البروج
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏
‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏
في افتتاح السورة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده وإشعار بأهمية المقسم عليه، وهو مع ذلك يَلفت ألبابَ السّامعين إلى الأمور المقسم بها، لأن بعضها من دلائل عظيم القدرة الإلهية المقتضية تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطالَ الشريك، وبعضها مذكِّر بيوم البعث الموعود، ورمز إلى تحقيق وقوعه، إذ القسم لا يكون إلا بشيء ثابت الوقوع وبعضها بما فيه من الإِبهام يوجِّه أنفُس السامعين إلى تطلب بيانه‏.‏
ومناسبةُ القسم لما أقسم عليه أن المقسم عليه تضمن العبرة بقصة أصحاب الأخدود ولما كانت الأخاديد خُطوطاً مجعولة في الأرض مستَعِرَة بالنار أقسم على ما تضمنها بالسماء بقيد صفة من صفاتها التي يلوح فيها للناظرين في نجومها ما سماه العرب بروجاً وهي تشبه دارات متلألئة بأنوار النجوم اللامعة الشبيهة بتلهب النار‏.‏
والقسم بالسماء بوصف ذات البروج يتضمن قسماً بالأمرين معاً لتلتفت أفكارُ المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات وهذه الأحوال من دلالة على عظيم القدرة وسعة العلم الإلهي إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها الناس في مواقيت الأشهر والفصل‏.‏ كما قال تعالى في نحو هذا‏:‏ ‏{‏ذلك لتعلموا أن اللَّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن اللَّه بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏
وأما مناسبة القسم باليوم الموعود فلأنه يوم القيامة باتفاق أهل التأويل لأن الله وعد بوقوعه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 44‏]‏ مع ما في القَسم به من إدماج الإِيماء إلى وعيد أصحاب القصة المقسَم على مضمونها، ووعيد أمثالهم المعرَّض بهم‏.‏
ومناسبة القسم ب ‏{‏شاهد ومشهود‏}‏ على اختلاف تأويلاته، ستُذكر عند ذكر التأويلات وهي قريبة من مناسبة القَسم باليوم الموعود، ويقابله في المقسم عليه قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏
والبروج‏:‏ تطلق على علامات من قبة الجَو يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية، فالبرج‏:‏ اسم منقول من اسم البُرج بمعنى القصر لأن الشمس تنزله أو منقول من البرج بمعنى الحصن‏.‏
والبرج السماوي يتألف من مجمُوعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبداً، وإنما سُمِّي بُرجاً لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تحلّ فيه مُدّة فهو كالبرج، أي القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يُخَال منها شكلٌ لو أحيط بإطار لخط مفروض لأشبَهَ محيطُها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات، ميّزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريباً فقالوا‏:‏ برج الثَّور، برج الدلو، برج السنبلة مثلاً‏.‏
وهذه البروج هي في التّحقيق‏:‏ سُموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهُر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهاراً في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلاً، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏تبارك الذي جعل في السماء بروجاً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏61‏)‏‏.‏
وشاهد ومشهود‏}‏ مراد بهما النوع‏.‏ فالشاهد‏:‏ الرائي، أو المخبر بحق لإِلزام منكره‏.‏ والمشهود‏:‏ المَرئي أو المشهود عليه بحق‏.‏ وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضرَ ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه على كل شيء شهيد‏}‏ أو الرسل والملائكة‏.‏
والمشهود‏:‏ الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرَّضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها‏:‏ هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطَّلعون على ما يجري في المجمع، وأن المشهود‏:‏ هو الذي يطَّلعُ الناسُ على ما يجري عليه‏.‏
ويجوز أن يكون الشاهد‏:‏ الشاهدين من الملائكة، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال‏.‏ والمشهود‏:‏ أصحاب الأعمال‏.‏ وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حين يقول الكفار‏:‏ ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين ‏{‏شاهد ومشهود‏}‏ وبين ما في المقسم عليه من قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ أي حضور‏.‏
وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ‏"‏‏.‏ أي فالتقدير‏:‏ ويوممٍ شاهد ويوممٍ مشهود‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قِبَل حفظه اه‏.‏
ووصف «يوم» بأنه «شاهد» مجاز عقلي، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف ‏{‏شاهد‏}‏ ووصف ‏{‏مشهود‏}‏ فهو من حَمْل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة‏.‏
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره‏:‏ أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال‏:‏ أو لتبعثن‏.‏
وقيل‏:‏ الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج‏:‏ هو ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ ‏(‏أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير‏)‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الجواب‏:‏ ‏{‏قُتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏(‏أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ‏(‏قد‏)‏ في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ‏(‏قد‏)‏ تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة‏)‏‏.‏
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب‏.‏
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما نقموا‏}‏ يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين‏.‏
وقيل‏:‏ الجواب هو جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتل الخرّاصون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقولهم قاتله الله، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله‏.‏
وقيل‏:‏ هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال‏:‏ أهلكه الله، أي أوقعه في أشد العناء، وأيَّاً مَّا كان فجملة ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ على هذا معترضة بين القسم وما بعده‏.‏
ومَن جَعل ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه‏.‏
ولفظ ‏{‏أصحاب‏}‏ يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه‏.‏
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية‏.‏
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه‏.‏ وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج‏.‏
وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران، وبالشام، وبفارس، أما الذي بالشام ف ‏(‏انطانيوس‏)‏ الرومي وأما الذي بفارس فهو ‏(‏بختنصر‏)‏ والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من «سيرة ابن إسحاق» على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر‏.‏ وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ‏(‏فَيْمِيُون‏)‏ بفاء، فتحتية، فميم، فتحتية ‏(‏وضبط في الطبعة الأوروبية من «سيرة ابن إسحاق» التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح، بفتح فسكون فكسر فضم‏)‏ قال السهيلي‏:‏ ووقع للطبري بقاف عوض الفاء‏.‏
وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات‏.‏ وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار‏.‏
فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهللِ دين المسيحية في بلاد العرب‏.‏ وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة، ومنها‏:‏ نار إبراهيم عليه السلام‏.‏ وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً‏.‏
و ‏{‏الأخدود‏}‏‏:‏ بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة، ومنها قولهم‏:‏ أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة، ولسطر النّخل، وأقنوم اسم لأصل الشيء‏.‏ وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة، وأعجوبة، وأُطروحة وأضحوكة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ بدل من الأخدود بدلَ اشتمال أو بعضضٍ من كل لأن المراد بالأخدود الحفير بما فيه‏.‏
و ‏{‏الوقود‏}‏‏:‏ بفتح الواو اسم ما تُوقد به النار من حطب ونفط ونحوه‏.‏
ومعنى ‏{‏ذات الوقود‏}‏‏:‏ أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقوداً يُلقى فيها كلّما خبت‏.‏
ويتعلق‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ بفعل قُتل، أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود‏.‏
وضمير ‏{‏هم‏}‏ عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه، أو أريد بهم المأمورون من الملك‏.‏ فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقُعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها، و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها‏.‏ وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى‏:‏
وبات على النار الندى والمحلق ***
ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عليه أمة من الناس يسقون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏، أي عنده‏.‏
وعلى احتمال أن يكون المراد ب ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏ المؤمنين المعذَّبين فيه، فالقُعود حقيقة و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء الحقيقي، أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيباً وتمثيلاً، أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيباً‏.‏
وأعيد ضمير ‏{‏هم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون‏}‏ ليتعيّن أن يكون عائداً إلى بعض أصحاب الأخدود‏.‏
وضمير ‏{‏يفعلون‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏، فمعنى كونهم شهوداً على ما يفعلونه‏:‏ أن بعضهم يشهد لبعض عند الملك بأن أحداً لم يفرط فيما وكّل به من تحريق المؤمنين، فضمائر الجمع وصيغته موزعة‏.‏
ويجوز أن يعود الضمير إلى ما تقتضيه دلالة الاقتضاء من تقسيم أصحاب الأخدود إلى أمراء ومأمورين شأن الأعمال العظيمة، فلمّا أخبر عن أصحاب الأخدود بأنهم قعود على النار عُلم أنهم الموكلون بمراقبة العمال‏.‏ فعُلم أن لهم أتباعاً من سَعَّارين ووزَعَة فهم معاد ضمير يفعلون‏.‏
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون شهود جمع شاهد بمعنى مخبر بحق، وأن يكون بمعنى حاضر ومراقب لظهور أن أحداً لا يشهد على فعل نفسه‏.‏
وجملة ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ كأنه قيل‏:‏ قعود شاهدين على فِعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدّمين في معاد ضمير ‏{‏يفعلون‏}‏، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيمُ جُرمه إذ كانوا يشاهدون تعذيب المؤمنين لا يرأفون في ذلك ولا يشمئزون، وبذلك فارقَ مضمون هذه الجملة مضمون جملة‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ باعتبار تعلق قوله‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏
وفي الإِتيان بالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما يفعلون بالمؤمنين‏}‏ من الإِبْهام ما يفيد أن لِمُوقِدِي النارِ من الوزَعَة والعملة ومن يباشرون إلقاء المؤمنين فيها غلظةً وقسوة في تعذيب المؤمنين وإهانتهم والتمثيل بهم، وذلك زائد على الإِحراق‏.‏
وجملة ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللَّه‏}‏ في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها‏.‏
والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم من شأنه أن يُنقَم من فاعله فإن كان الذين خددواً الأخدود يهوداً كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيئاً ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم‏.‏ ومحل التعجيب أن المَلك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذِّبون قوماً آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏ وإن كان الذين خدّدوا الأخدود مشركين ‏(‏فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس‏)‏ فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنّ شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإِيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركاً‏.‏
وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي‏:‏ ‏{‏العزيز‏.‏ الحميد‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يُمدحُوا به لأنهم آمنوا بربّ حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذَ ما عداه لأنه ينصُر مواليه ويثيبهم ولأنه يَمْلِكهم، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا يَملك منهم شيئاً فيقوى التعجيب منهم بهذا‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏واللَّه على كل شيء شهيد‏}‏ تذييل بوعيد للذين اتخذوا الأخدود وبوعد الذين عُذبوا في جنب الله، ووعيد لأمثال أولئك من كفار قريش وغيرهم من كل من تصدَّوْا لأذى المؤمنين ووعد المسلمين الذين عذبهم المشركون مثل بلاللٍ وعمار وصُهيب وسُمَيَّةَ‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏‏}‏
إن كان هذا جواباً للقسم على قول بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاماً معترضاً يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعّد به نظيرهم، وإن كان الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 4‏]‏ كان قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسمَ عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعةً من فتن المؤمنين‏.‏
والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏:‏ هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلهم عذاب جهنم‏}‏ كما سيأتي‏.‏
وقد عُدّ من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأسُ الفتنة ومِسْعَرها، وأميةُ بن خلف وصفوانُ بن أمية، والأسودُ بن عبد يغوث، والوليدُ بن المغيرة، وأمُّ أنْمار، ورجل من بني تَيْم‏.‏
والمفتونون‏:‏ عد منهم بلالُ بن رباح كان عبداً لأمية بن خلف فكان يعذبه، وأبو فُكيهة كان عبداً لصفوان بن أمية، وخَبَّابُ بن الأرتِّ كان عبداً لأمّ أنمار، وعَمّار بن ياسر، وأبوه ياسِر، وأخوه عبد الله كانوا عبيداً لأبي حذيفة بن المغيرة فوكَل بهم أبا جهل، وعامرُ بن فُهيرة كان عبداً لرجل من بني تَيْم‏.‏
والمؤمنات المفتونات منهنّ‏:‏ حَمَامَةُ أمُّ بلال أمَةُ أمية بن خلف‏.‏ وزِنِّيرَة، وأمُّ عنَيْس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث والنهدية‏.‏ وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفةُ، ولبينةُ بنت فهيرة كانت لعُمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يَضربها، وسُمية أمُّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل‏.‏
وفُتِن ورجَع إلى الشرك الحارثُ بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعليُّ بن أمية بن خلف، والعاصي بن المنبه بن الحجاج‏.‏
وعَطفُ ‏{‏المؤمنات‏}‏ للتنويه بشأنهن لئلا يظنّ أن هذه المزية خاصة بالرجال، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدَوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ معترضة‏.‏ و‏{‏ثُمّ‏}‏ فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين‏.‏
وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلِمُوا من عذاب جهنم‏.‏
والفَتْن‏:‏ المعاملة بالشدة والإِيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصاً إلا بعناء أو ضرّ أخف أو حيلة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏
ودخول الفاء في خبر ‏(‏إنّ‏)‏ من قوله‏:‏ فلهم عذاب جهنم‏}‏ لأنّ اسم ‏(‏إن‏)‏ وقعَ مَوصولاً والموصول يضمَّن معنى الشرط في الاستعمال كثيراً‏:‏ فتقدير‏:‏ إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إنْ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم، لأن عطف قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏ عطف في معنى التوكيد اللفظي لجملة‏:‏ ‏{‏لهم عذاب جهنم‏}‏‏.‏ واقترانُها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يُوجد أعظم من الوعيد الأول‏.‏ مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدلول وإن كان مآل المدلولين واحداً‏.‏ وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد‏.‏
على أن الزج بهم في عذاب جهنم قبل أن يذوقوا حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعون إلى نار جهنم دعّاً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13‏]‏ فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين‏.‏
ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللَّه زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏
ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة ‏"‏ رواه البيهقي في «سننه» عن ابن عمر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ المقتضي أنهم إن تابوا لم يكن لهم عذاب جهنم فيتشوف السامعُ إلى معرفة حالهم أمقصورة على السلامة من عذاب جهنم أو هي فوق ذلك، فأخبر بأن لهم جنات فإن التوبة الإِيمان، فلذلك جيء بصلة ‏{‏آمنوا‏}‏ دون‏:‏ تابوا‏:‏ ليدل على أن الإِيمان والعمل الصالح هو التوبة من الشرك الباعث على فتن المؤمنين، وهذا الاستئناف وقع معترضاً‏.‏
ويجوز أن يكون اعتراضاً بين جملة ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ اعتراضاً بالبشارة في خلال الإِنذار لترغيب المنذرين في الإِيمان، ولتثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من أذى المشركين على عادة القرآن في إرداف الإِرهاب بالترغيب‏.‏
والتأكيد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ للاهتمام بالخبر‏.‏
والإِشارة في ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من اختصاصهم بالجنات والأنهار‏.‏
و ‏{‏الكبير‏}‏‏:‏ مستعار للشديد في بابه، والفوز‏:‏ مصدر‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏
جملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ علة لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏، أي لأن بطش الله شديد على الذين فتنوا الذين آمنوا به‏.‏ فموقع ‏{‏إنَّ‏}‏ في التعليل يغني عن فاء التسبب‏.‏
وبطش الله يشمل تعذيبه إياهم في جهنم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع في الدنيا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ ووجه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن بطش الله بالذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبيء صلى الله عليه وسلم وتثبيت له‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏‏}‏
تصلح لأن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به من وعيدهم بعذاب الآخرة إلى توعدهم بعذاب في الدنيا يكون من بطش الله، أردف به وعيد عذاب الآخرة لأنه أوقع في قلوب المشركين إذ هم يحسبون أنهم في أمن من العقاب إذ هم لا يصدقون بالبعث فحسبوا أنهم فازوا بطيب الحياة الدنيا‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الله يبطش بهم في البَدْء والعَوْد، أي في الدنيا والآخرة‏.‏
وتَصلح لأن تكون تعليلاً لجملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ لأن الذي يُبدِئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإِبداء، وفي الآخرة وهو إعادة البطش‏.‏
وتصلح لأن تكون إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يُبدِئ الخلقَ ثم يعيده فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏
والبطش‏:‏ الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا‏.‏
و ‏{‏يبُدئ‏}‏‏:‏ مرادف يَبْدَأ، يقال‏:‏ بَدَأ وأبْدَأ‏.‏ فليست همزة أبدأ للتعدية‏.‏
وحُذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداءً، ويعادُ بعد ذلك فشمل بَدأ الخلق وإعادتَه وهو البعث، وشمَل البطشَ الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وأخلافها بعد هلاك أوائلها‏.‏ وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة‏.‏
وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هو يبدئ‏}‏ للتقوِّي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا‏.‏ إذ ليس في المقام ردّ على من يدّعي أن غير الله يبدئ ويعيد‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏ أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع على قول المازني، وهو التحقيق‏.‏ ودليلُه قوله‏:‏ ‏{‏ومكر أولئك هو يبور‏}‏ وقد تقدم في سورة فاطر ‏(‏10‏)‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏
‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏
جملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ومضمونها قسيم لمضمون ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ لأنه لما أفيد تعليل مضمون جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ إلى آخره، ناسب أن يقابَل بتعليل مضمون جملة ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 11‏]‏ إلى آخره، فعلِّل بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الودود‏}‏، فهو يغفر للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ما فَرَط منهم وهو يحب التّوابين ويَوَدُّهم‏.‏
و ‏{‏الودود‏}‏‏:‏ فَعول بمعنى فاعل مشتق من الودّ وهو المحبة فمعنى الودود‏:‏ المحبّ وهو من أسمائه تعالى، أي إنه يحب مخلوقاته ما لم يحيدوا عن وصايته‏.‏ والمحبة التي يوصف الله بها مستعملة في لازم المحبة في اللغة تقريباً للمعنى المتعالي عن الكيف وهو من معنى الرحمة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربي رحيم ودود‏}‏ في آخر سورة هود ‏(‏90‏)‏‏.‏
ولما ذَكَر الله من صفاته ما تعلُّقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلونه من جزاءٍ أعْقب ذلك بصفاته الذاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله‏:‏ ذو العرش المجيد‏}‏ تنبيهاً للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله‏.‏
و ‏{‏العرش‏}‏‏:‏ اسم لعالَم يحيط بجميع السماوات، سمي عرشاً لأنه دال على عظمة الله تعالى كما يدل العَرش على أن صاحبه من الملوك‏.‏
و ‏{‏المجيد‏}‏‏:‏ العظيم القويُّ في نوعه، ومن أمثالهم‏:‏ «في كل شجر نارٌ، واستَمْجَد المرْخُ والعَفَار» وهما شجران يكثر قدح النار من زندهما‏.‏
وقرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر رابع عن ضمير الجلالة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخَلف بالجر نعتاً للعرش فوصف العرش بالمجد كناية عن مجد صاحب العرش‏.‏
ثم ذَيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذاتية وعظمة نعمه بقوله‏:‏ ‏{‏فعال لما يريد‏}‏ أي إذا تعلقت إرادته بفعل، فَعَله على أكمل ما تعلقت به إرادته لا ينقصه شيءٌ ولا يُبطئ به ما أراد تعجيله‏.‏ فصيغة المبالغة في قوله‏:‏ ‏{‏فعال‏}‏ للدلالة على الكثرة في الكمية والكيفية‏.‏
والإِرادة هنا هي المعرَّفة عندنا بأنها صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه وهي غير الإِرادة بمعنى المحبة مثل ‏{‏يريد اللَّه بكم اليسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏
‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏‏}‏
متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم للاستدلال على كون بطشه تعالى شديداً ببطشَيْننِ بَطَشَهُما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو يبدئ ويعيد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 13‏]‏ فذلك تعليل، وهذا تمثيل ودليل‏.‏
والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل حديث الجنود بأنه يسأل عن علمه، وفيه تعريض للمشركين بأنهم قد يحلّ بهم ما حَلّ بأولئك‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى وثمودا فما أبقى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فبأي ءآلاء ربك تتمارى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50 55‏]‏‏.‏
والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد، كحال من لا يعلم خبرهم فيُسْأل هل بلغه خبرهم أوْ لا، أو خطاباً لغير معيّن تعجيباً من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملاً في التعجيب‏.‏
والإِتيان‏:‏ مستعار لبلوغ الخبر، والحديث‏:‏ الخبرُ‏.‏ وتقدم في سورة النازعات‏.‏
و ‏{‏الجنود‏}‏‏:‏ جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال‏.‏ وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ واستعير الجند للملأ لقوله‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ منهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب‏.‏
وأُبدل فرعونَ وثمودَ من الجنود بدلاً مطابقاً لأنه أريد العبرة بهؤلاء‏.‏
و ‏{‏فرعون‏}‏‏:‏ اسم لملك مصر من القِبط وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏103‏)‏‏.‏
والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه‏.‏ فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الإبدال من الجنود‏.‏
وضُرب المثل بفرعون لأبي جهل وقد كان يلقّب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة، وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم‏.‏
وتخصيص ثمودَ بالذكر من بقية الأمم التي كذَّبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبّع، ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب‏.‏ لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثارُه‏.‏
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏73‏)‏‏.‏ وهو اسم عربي ولكن يُطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏
‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏
إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماسَ المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف‏.‏
وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكاً لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق‏.‏
وحُذف متعلّق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير‏:‏ أنهم في تكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالوحي المُنْزل إليه وبالبعث‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏الذين كفروا في تكذيب‏}‏، أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقاباً لا يفلتون منه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدوّ من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإِفلات وجد العدوّ محيطاً به، وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جَدوى‏.‏
وقد قُوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقاً فقوله‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ خبر مستعمل في الوعيد والتهديد‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏
‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏
إضرابُ إبطاللٍ لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بيِّنة فاستمرارهم على التكذيب ناشئ عن سوء اعتقادهم صدقَ القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم‏:‏ أساطير الأولين، إفْك مفترىً، قول كاهن، قول شاعر، فكان التنويه به جامعاً لإِبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإِيجاز‏.‏
و ‏{‏قرآن‏}‏‏:‏ مصدر قرأ على وزن فُعلان الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان‏.‏ وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه سواء كان مكتوباً في صحيفة أم كان ملقَّناً لتاليه بحيث لا يخالف أصله ولو كان أصله كلام تاليه ولذلك لا يقال لنقل كلام أنه قراءة إلا إذا كان كلاماً مكتوباً أو محفوظاً‏.‏
وكلما جاء ‏{‏قرآن‏}‏ منكراً فهو مصدر وأما اسم كتاب الإِسلام فهو بالتعريف باللام لأنه عَلَم بالغلبة‏.‏
فالإِخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون‏:‏ أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك‏.‏
ووُصف ‏{‏قرآن‏}‏ صفة أخرى بأنه مُودع في لوح‏.‏
واللوح‏:‏ قطعة من خشب مستوية تتخذ ليُكتب فيها‏.‏
وسَوْق وصف ‏{‏في لوح‏}‏ مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعيِّن أن اللوح كائن قُدُسي من كائنات العالم العلوي المغيَّبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوباً في لوح علويّ كما جعَل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وألقى الألواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏، وأما لوح القرآن فجعله محفوظاً في العالم العلوي‏.‏
وبعض علماء الكلام فسّروا اللَّوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا ظهورها في الوجود بالقدَر، وعلى ذلك درج الأصفهاني في «شرحه على الطوالع» حسبما نقله المنجور في «شرح نظم ابن زكري» مسوقاً في قسم العقائد السمعية وفيه نظر‏.‏ وورد في آثار مختلفةِ القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش‏.‏ واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه‏.‏
وجاء في آية سورة الواقعة‏:‏ ‏{‏إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 77، 78‏]‏ وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء واحد‏.‏
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهيّ في الوقوع، فالمحفوظ‏:‏ المصون عن كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له‏.‏ والمكنون‏:‏ الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوّة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عَزوها‏.‏
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له‏:‏ أكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، وفيه عن ابن عباس اه‏.‏
وخَلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره‏.‏
والمجيد‏:‏ العظيم في نوعه كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ذو العرش المجيد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 15‏]‏ ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهدياً ووعظاً، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته‏.‏
ووقع في «التعريفات» للسيد الجرجاني‏:‏ أن الألواح أربعة‏:‏
أولها‏:‏ لَوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول‏.‏
الثاني‏:‏ لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ‏.‏
الثالث‏:‏ لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا‏.‏
الرابع‏:‏ لَوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اه‏.‏
وهذا اصطلاح مخلوط بين التصوف والفلسفة‏.‏ ولعله مما استقراه السيّد من كلام عدة علماء‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏محفوظ‏}‏ بالجر على أنه صفة ‏{‏لوح‏}‏‏.‏ وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن‏.‏
وقرأه نافع وحده برفع ‏{‏محفوظ‏}‏ على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏في لوح‏}‏ ب ‏{‏محفوظ‏}‏‏.‏ وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضاً، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن وللوح‏.‏ فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه‏.‏ أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏
سورة الطارق
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏
افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق إليه كما تقدم في سوابقها‏.‏ ووقع القسم بمخلوقَين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما‏:‏ السماء، والنجوم، أو نجم منها عظيم منها معروف، أو ما يبدو انقضاضه من الشهب كما سيأتي‏.‏
و ‏{‏الطارق‏}‏‏:‏ وصف مشتق من الطروق، وهو المجيء ليلاً لأن عادة العرب أن النازل بالحي ليلاً يطرق شيئاً من حجر أو وتد إشعاراً لرب البيت أن نزيلاً نزل به لأن نزوله يقضي بأن يضيفوه، فأطلق الطروق على النزول ليلاً مجازاً مرسلاً فغلب الطروق على القدوم ليلاً‏.‏
وأبهم الموصوف بالطارق ابتداء، ثم زيد إبهاماً مشوباً بتعظيم أمره بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق‏}‏ ثم بُين بأنه‏:‏ ‏{‏النجم الثاقب‏}‏ ليحصل من ذلك مزيد تقرر للمراد بالمقسم به وهو أنه من جنس النجوم، شُبه طلوع النجم ليلاً بطروق المسافر الطارق بيتاً بجامع كونه ظهوراً في الليل‏.‏
و ‏{‏ما أدراك‏}‏ استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعل الساعة قريب‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏17‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏ وتقدم الفرق بين‏:‏ ما يدريك، وما أدراك‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏النجم‏}‏ خبر عن ضمير محذوف تقديره‏:‏ هو، أي الطارق النجم الثاقب‏.‏
والثقب‏:‏ خرق شيء ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النور في خلال ظلمة الليل‏.‏ شبه النجم بمسمار أو نحوه، وظهورُ ضوئه بظهور ما يبدو من المسمار من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لَوح أو ثَوب‏.‏
وأحسب أن استعارة الثقب لبروز شعاع النجم في ظلمة الليل من مبتكرات القرآن ولم يرد في كلام العرب قبل القرآن‏.‏ وقد سبق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏10‏)‏، ووقع في تفسير القرطبي‏}‏‏:‏ والعرب تقول اثقُب نارك، أي أضئها، وساق بيتاً شاهداً على ذلك ولم يعزه إلى قائل‏.‏
والتعريف في ‏{‏النجم‏}‏ يجوز أن يكون تعريف الجنس كقول النابغة‏:‏
أقول والنجمُ قد مَالت أواخِره ***
البيت‏.‏
فيستغرق جميع النجوم استغراقاً حقيقياً وكلها ثاقب فكأنه قِيلَ، والنجوم، إلا أن صيغة الإفراد في قوله‏:‏ ‏{‏الثاقب‏}‏ ظاهر في إرادة فرد معيّن من النجوم، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إشارة إلى نجم معروف يطلق عليه اسم النجم غالباً، أي والنجم الذي هو طارق‏.‏
ويناسب أن يكون نجماً يَطلع في أوائل ظلمة الليل وهي الوقت المعهود لِطروق الطارقين من السائرين‏.‏ ولعل الطارق هو النجم الذي يسمى الشاهد، وهو نجم يظهر عقب غروب الشمس، وبه سميت صلاة المغرب «صلاةَ الشاهد»‏.‏
روى النسائي‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن هذه الصلاة ‏(‏أي العصر‏)‏ فرضت على من كان قبلكم فضيعوها ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ولا صلاة بعدَها حتى يطلع الشاهد ‏"‏‏.‏
وقيل‏:‏ أريد ب ‏{‏الطارق‏}‏ نوع الشهب، روي عن جابر بن زيد‏:‏ أن النجم الطارق هو كوكب زُحل ‏(‏لأنه مبرز على الكواكب بقوة شعاعه‏)‏‏.‏ وعنه‏:‏ أنه الثريا ‏(‏لأن العرب تطلق عليها النجم علماً بالغَلبة‏)‏، وعن ابن عباس‏:‏ أنه نجوم برج الجَدي، ولعل ذلك النجم كان معهوداً عند العرب واشتهر في ذلك في نجم الثريا‏.‏
وقيل‏:‏ أريد بالطارق نوع الشهب ‏(‏أي لأن الشهاب ينقضّ فيلوح كأنه يَجري في السماء كما يسير السائر إذا أدركه الليل‏)‏‏.‏ فالتعريف في لفظ ‏{‏النجم‏}‏ للاستغراق، وخص عمومه بوقوعه خبراً عن ضمير ‏{‏الطارق‏}‏ أي أن الشهاب عند انقضاضه يرى سائراً بسرعة ثم يغيب عن النظر فيلوح كأنه استقر فأشبه إسراع السائر ليلاً ليبلغ إلى الأحياء المعمورة فإذا بلغها وقف سيره‏.‏
وجواب القسم هو قوله‏:‏ ‏{‏إنْ كل نفس لمَا عليها حافظ‏}‏ جُعل كناية تلويحية رمزية عن المقصود‏.‏ وهو إثبات البعث فهو كالدليل على إثباته، فإن إقامة الحافظ تستلزم شيئاً يحفظه وهو الأعمال خيرُها وشرُّها، وذلك يستلزم إرادة المحاسبة عليها والجزاء بما تقتضيه جزاء مُؤخراً بعد الحياة الدنيا لئلا تذهب أعمال العاملين سدى وذلك يستلزم أن الجزاء مؤخر إلى ما بعد هذه الحياة إذ المُشَاهَدُ تخلُّف الجزاء في هذه الحياة بكثرة، فلو أهمل الجزاء لكان إهماله منافياً لحكمة الإله الحكيم مبدع هذا الكون كما قال‏:‏ ‏{‏أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ وهذا الجزاء المؤخر يستلزم إعادة حياة للذوات الصادرة منها الأعمالُ‏.‏
فهذه لوازم أربعة بها كانت الكناية تلويحية رمزية‏.‏
وقد حصل مع هذا الاستدلال إفادةُ أن على الأنفس حفظةً فهو إدماج‏.‏
والحافظ‏:‏ هو الذي يحفظ أمراً ولا يهمله ليترتب عليه غرض مقصود‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لَمَا‏}‏ بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو جعفر وخلَف بتشديد الميم‏.‏
فعلى قراءة تخفيف الميم تكون ‏(‏إنْ‏)‏ مخففة من الثقيلة و‏{‏لَمَا‏}‏ مركبة من اللام الفارقة بين ‏(‏إنْ‏)‏ النافية و‏(‏إنْ‏)‏ المخففةِ من الثقيلة ومعها ‏(‏مَا‏)‏ الزائدة بعد اللام للتأكيد وأصل الكلام‏:‏ إن كل نفس لَعَليْها حافظ‏.‏
وعلى قراءة تشديد الميم تكون ‏(‏إنْ‏)‏ نافية و‏{‏لمَّا‏}‏ حرف بمعنى ‏(‏إلاّ‏)‏ فإن ‏(‏لَمَّا‏)‏ ترد بمعنى ‏(‏إلاّ‏)‏ في النفي وفي القَسم، تقول‏:‏ سألتُك لَمَّا فعلت كذا أي إلاّ فعلت، على تقدير‏:‏ ما أسألك إلاّ فعل كذا فآلت إلى النفي وكلٌ من ‏(‏إنْ‏)‏ المخففة و‏(‏إنْ‏)‏ النافية يُتلقَّى بها القسم‏.‏
وقد تضمن هذا الجواب زيادةً على إفادته تحقيق الجزاء إنذاراً للمشركين بأن الله يعلم اعتقادهم وأفعالهم وأنه سيجازيهم على ذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏
‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قوله‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفاً، فالتقدير‏:‏ فإن رأيتم البعثَ محالاً فلينظر الإِنسان مِمّ خُلق ليعلَمَ أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول‏.‏
فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة‏.‏
والنظر‏:‏ نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المُنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏‏.‏
و ‏(‏مِنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏مم خلق‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏خلق‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فليتفكر الإِنسان في جواب‏:‏ مَا شيء خلق منه‏؟‏ فقدّم المتعلِّق على عامله تبعاً لتقديم ما اتصلت به من ‏(‏من‏)‏ اسم الاستفهام‏.‏
و ‏(‏ما‏)‏ استفهامية عَلّقت فعل النَّظر العقلي عن العمل‏.‏
والاستفهام مستعمل في الإِيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏ فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب‏.‏
وحذف ألف ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة‏.‏
ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏عم يتساءلون عن النبأ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
و ‏{‏الإِنسان‏}‏ مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفاً من مقتضى التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فلينظر‏}‏ إلخ‏.‏
ومعنى ‏{‏دافق‏}‏ خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل‏.‏
وصيغة ‏{‏دافق‏}‏ اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ لا يستعمل دفَق قاصراً‏.‏ وجعلوا دافقاً بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر‏.‏
وعن الفراء‏:‏ أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً، إذا كان في طريقة النعت‏.‏ وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم‏:‏ لاَبن وتَامِر، ففسر دافق‏:‏ بذي دَفْق‏.‏
والأحسن أن يكون اسم فاعل ويَكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جَبَر بمعنى انْجبر في قوله‏:‏
قد جبر الدينَ الإله فجبر ***
وأنه سماعي‏.‏
وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً‏.‏
ووُصف أنه يخرج من ‏{‏بين الصلب والترائب‏}‏ لأن الناس لا يتفطنون لذلك‏.‏
والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب‏.‏
و ‏{‏الصلب‏}‏‏:‏ العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات‏.‏
و ‏{‏الترائب‏}‏‏:‏ جمع تريبة، ويقال‏:‏ تَريب‏.‏ ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة‏.‏
والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يخرج من بين الصلب والترائب‏}‏ الضمير عائد إلى ‏{‏ماء دافق‏}‏ وهو المتبادر فتكون جملة ‏{‏يخرج‏}‏ حالاً من ‏{‏ماء دافق‏}‏ أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه‏.‏
وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن‏.‏
فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه‏.‏
وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة‏.‏
ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذَنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة‏.‏
ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حُويصلة من حويصلات يشتمل عليها مَبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مَبيض يشتمل على عدد من الحُويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين‏.‏ وخروج البيضة من الحُويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرتْ فخرجت البَيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النموَّ وخروجُها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها‏.‏
وأصل مادة كِلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحَبْل المَنَوي مؤلف من شرايين وأوْرِدَةٍ وأعصاببٍ وينتهي إلى الأنثيين وهما الغدتان اللتان تُفرزاننِ المني فيتكون هنالك بكيفية دُهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنْثيان مادةً دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولَذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة‏.‏
وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحاملُ للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فَوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطُّهر‏.‏ والرحم يأتيها عصب من الدماغ‏.‏
وهذا من الإِعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علمٌ به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال‏:‏ تغتسل إذا أبصرت الماء فقيل له‏:‏ أترى المرأة ذلك فقال‏:‏ وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه أعمامه»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏
‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏
استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان مم خلق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏ لأن السامع يتساءل عن المقصد من هذا الأمر بالنظر في أصل الخلقة، وإذ قد كان ذلك النظر نظر استدلال فهذا الاستئناف البياني له يتنزل منزلة نتيجة الدليل، فصار المعنى‏:‏ أن الذي خلق الإنسان من ماء دافق قادر على إعادة خلقه بأسباب أخرى وبذلك يتقرر إمكان إعادة الخلق ويزول ما زعمه المشركون من استحالة تلك الإِعادة‏.‏
وضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر لمعاد ولكنّ بناءَ الفعل للمجهول في قوله‏:‏ ‏{‏خلق من ماء دافق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ يؤذن بأن الخالق معروف لا يُحتاج إلى ذكر اسمه، وأسند الرَّجع إلى ضميره دون سلوك طريقة البناء للمجهول كما في قوله‏:‏ ‏{‏خلق‏}‏ لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك‏.‏
وضمير ‏{‏رجعه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والرجع‏:‏ مصدر رَجَعَه المتعدّي‏.‏ ولا يقال في مصدر رجَع القاصر إلا الرجوع‏.‏
و ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ متعلق ب ‏{‏رجعه‏}‏ أي يَرْجعه يومَ القيامة‏.‏
و ‏{‏السرائر‏}‏‏:‏ جمع سريرة وهي ما يُسِره الإِنسان ويُخفيه من نواياه وعقائده‏.‏
وبَلْو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلوُ الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر‏.‏
ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فما له من قوة ولا ناصر‏}‏، فالضمير عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإِنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏
‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالاً لما مُوِّه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية‏.‏
فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة‏.‏
وافتتح الكلام بالقَسم تحقيقاً لصدق القرآن في الإِخبار بالبعث وفي غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى‏.‏ ولذلك أعيد القَسَم ب ‏{‏السماء‏}‏ كما أقسم بها في أول السورة، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه، وهو الغيث الذي به صلاح الناس، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغَيث الكثير أصاب أرضاً ‏"‏‏.‏ الحديث‏.‏
وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله‏:‏ ‏{‏إنه على رجعه لقادر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 8‏]‏ وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة‏.‏
وعطف ‏{‏الأرض‏}‏ في القسم لأن بذكر الأرض إتمام المناسبة بين المقسم والمقسم عليه كما علمت من المثل الذي في الحديث‏.‏
و ‏{‏الصدع‏}‏‏:‏ الشق، وهو مصدر بمعنى المفعول، أي المصدوع عنه، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 25 29‏]‏‏.‏
ولأن في هذين الحالين إيماء إلى دليل آخر من دلائل إحياء الناس للبعث فكان في هذا القسم دليلان‏.‏
والضمير الواقع اسماً ل ‏(‏إنّ‏)‏ عائد إلى القرآن وهو معلوم من المقام‏.‏
والفصل مصدر بمعنى التفرقة، والمراد أنه يفصل بين الحق والباطل، أي يبين الحق ويبطل الباطل، والإِخبار بالمصدر للمبالغة، أي إنه لقول فاصل‏.‏
وعطف ‏{‏وما هو بالهزل‏}‏ بعد الثناء على القرآن بأنه «قول فصل» يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته، والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن رداً على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحْيَوْن، يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ فالهزل على هذا الوجه هو ضدّ الجدّ أعني المزح واللعب، ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيراً في المدح لا سيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة‏.‏
ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بالهزل‏}‏ أي بالهذيان‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏
‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏‏}‏
استئناف بياني ينبئ عن سؤال سائل يَعْجَب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعْجَب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم‏:‏ هو هزل أو هذيان أو سحر، فبُين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود‏.‏ فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهم إنما يصرفهم عن الإِيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعلات الملفقة‏.‏
والتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه‏.‏
ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏إنهم يكيدون كيداً‏}‏ موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن‏.‏ أي إنما يدَّعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذباً على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏
والضمير الواقع اسماً ل ‏(‏إنّ‏)‏ عائد إلى ما فهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل وما هو بالهزل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13، 14‏]‏ من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك، أي أن المشركين المكذبين يكيدون‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر‏.‏
و ‏{‏كيداً‏}‏ في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم‏.‏
والكيد‏:‏ إخفاء قَصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته، وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإِمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية، شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسَّنها محسن المشاكلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع الأمر بالإِمهال على مجموع الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ بما فيه من تصريح وتعريض وتبْيين ووعدٍ بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة‏.‏
والتمهيل‏:‏ مصدر مَهَّل بمعنى أمهل، وهو الإِنظار إلى وقت معيّن أو غير معين، فالجمع بين «مَهِّل» و‏{‏أمهلهم‏}‏ تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير‏.‏
والمراد ب ‏{‏الكافرين‏}‏ ما عاد عليه ضمير ‏{‏إنهم يكيدون‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15‏]‏ فهو إظهار في مقام الإِضمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون‏.‏
و ‏{‏رويداً‏}‏ تصغير رُود بضم الراء بعدها واو، ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رَود بفتح الراء وسكون الواو، وهو المَهْل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل ‏{‏أمهلهم‏}‏ فقد أكد قوله‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين‏}‏ مرتين‏.‏
والمعنى‏:‏ انتظر ما سيحلّ بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتّياد فيكون ‏{‏رويداً‏}‏ كناية عن تحقق ما يحلّ بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به‏.‏
وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مُهلة غير طويلة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏رويداً‏}‏ هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم‏:‏ رُويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شَرطاً، ويكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏الكافرين‏}‏ و‏{‏رويداً‏}‏ كلاماً مستقلاً، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر وَلا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire