jeudi 26 juin 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»

سورة القيامة
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏‏}‏
افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن‏.‏
وكونُ القَسَم بيوم القيامة براعةُ استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة‏.‏
وفيه أيضاً كون المقسَم به هو المقسَم على أحواله تنبيهاً على زيادة مكانته عند المُقسِم كقول أبي تمام‏:‏
وثَنايَاك إِنَّها اِغرِيضُ *** ولَآَللٍ تُؤْمٌ وبَرْقٌ ومِيضُ
كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً‏}‏ في سورة الزخرف ‏(‏1 3‏)‏‏.‏
وصيغة لا أقسم‏}‏ صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل ‏{‏أقسم‏}‏ لقصد المبالغة في تحقيق حُرْمة المقسَم به بحيث يُوهِم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول‏:‏ لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعزَّ منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القَسم وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏75‏)‏‏.‏
وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏ وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد‏.‏
والقسم بيوم القيامة‏}‏ باعتباره ظرفاً لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة‏.‏
وتقدم الكلام على ‏{‏يوم القيامة‏}‏ غير مرة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏‏.‏
وجواب القسم يؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ لأنه دليل الجواب إذ التقدير‏:‏ لنجمعن عظام الإِنسان أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏.‏
وفي «الكشاف» «قالوا إنه ‏(‏أي لا أقسم‏)‏ في الإِمام بغير ألف» وتبرأ منه بلفظ ‏(‏قالوا‏)‏ لأنه مخالف للموجود في المصاحف‏.‏ وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ ‏{‏لأقسم‏}‏ الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في «غيث النفع» ولم يذكرها الشاطبي‏.‏ واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد، فتكون اللام لامَ قسم‏.‏ والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله‏:‏ ‏{‏ولا أقسم‏}‏ تأكيداً للجملة المعطوف عليها، وتعريف ‏{‏النفس‏}‏ تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة‏.‏ والمراد نفوس المؤمنين‏.‏ ووصفُ ‏{‏اللوامة‏}‏ مبالغة لأنها تُكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة‏.‏ وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومُها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي‏.‏ قال الحسن «ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه على ما فات ويندم، يلوم نفسه على الشر لِم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه» فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقَسَم بها وما كان يوم القيامة إلاّ لكرامتها‏.‏
والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذ ‏{‏يقول يا ليتني قدمت لحياتي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 24‏]‏‏.‏
ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم‏.‏
وعن بعض المفسرين أن ‏{‏لا أقسم‏}‏ مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تَلوم على فعل الخير‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ الخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب‏.‏
وتعريف ‏{‏الإِنسان‏}‏ تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإِنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلى غالب الناس يومئذٍ إذ كان المؤمنون قليلاً‏.‏ فالمعنى‏:‏ أيحسب الإِنسان الكافر‏.‏
وجملة ‏{‏أن لن نجمع عظامه‏}‏ مركبة من حرف ‏{‏أن‏}‏ المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت ‏(‏إنّ‏)‏ المكسورة‏.‏
واسم ‏{‏أن‏}‏ ضمير شأن محذوف‏.‏
والجملة الواقعة بعد ‏{‏أنْ‏}‏ خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل ‏{‏أن‏}‏ مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي فعل الظن‏.‏ والأخفش يَجعل ‏{‏أن‏}‏ مع جزئيها في مقام المفعول الأول ‏(‏أي لأنه مصدر‏)‏ ويقدِّر مفعولاً ثانياً‏.‏ وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة بعدها فيستغني الفعل ب ‏(‏أن‏)‏ واسمها وخبرها عن مفعوليه‏.‏
وجيء بحرف ‏{‏لن‏}‏ الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها‏.‏
قال القرطبي‏:‏ نزلت في عدي بن ربيعة ‏(‏الصواب ابن أبي ربيعة‏)‏ قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يا محمد حدِّثْني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي‏:‏ لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقْك أوَ يجمع الله العظام‏.‏ فنزلت هذه الآية، ألا قلت‏:‏ إن سبب النزول لا يخصص الإِنسان بهذا السائل‏.‏
والعظام‏:‏ كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقوالهم ‏{‏من يُحيي العظام وهي رميم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏ ‏{‏أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏أإذَا كنا عظاماً نخرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 11‏]‏ فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإِعادة بعد البِلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى‏.‏ فإثبات إعادة العظام اقتضى أن إعادة بقية الجسم مساوٍ لإِعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإِيجاز‏.‏
ثم إن كانت إعادة الخلق بجَمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذراتتٍ الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل ‏{‏نجمع‏}‏ محمول على حقيقته‏.‏ وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على صور الأجسام الفانية سواء كان خلقاً مستأنفاً أو مبتدأ من أعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا‏.‏ ففعل ‏{‏نجمع‏}‏ مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلِيَ‏.‏ ومناسبة استعارته مشاكلةُ أقوال المشركين التي أريد إبطالُها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلاّ إجمالها ومِن ثَم اختلف علماء الإِسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث‏.‏ واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين‏.‏
و ‏{‏بَلَى‏}‏ حرف إبطال للنفي الذي دل عليه ‏{‏لن نجمع عظامه‏}‏ فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع‏.‏
و ‏{‏قادرين‏}‏ حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد ‏{‏بَلَى‏}‏ الذي يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أن لن نجمع،‏}‏ أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نُسوي بَنانه‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏بلى‏}‏ إبطالاً للنفيين‏:‏ النفي الذي أفاده الاستفهام الإِنكاري من قوله ‏{‏أيحسب الإِنسان‏}‏ والنفي الذي في مفعول ‏{‏يحسب‏}‏، وهو إبطال بزجر، أي بَل لِيحسِبْنا قادرين، لأن مفاد ‏{‏أن لَنْ نجمع عظامه‏}‏ أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون ‏{‏قادرين‏}‏ مفعولاً ثانياً لِيَحْسِبْنَا المقدر، وعدل في متعلق ‏{‏قادرين‏}‏ عن أن يقال‏:‏ قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإِعادة‏.‏
ولمراعاة هذه المعاني عُدل عن رفع‏:‏ قادرون، بتقدير‏:‏ نحن قادرون، فلم يقرأ بالرفع‏.‏
والتسوية‏:‏ تقويم الشيء وإتقان الخلْق قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونفسسٍ وما سَواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏ وقال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏فخَلَق فسوى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوَّمة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سُوِّيَ إلاّ وقد أُعيد خلقه قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏‏.‏
والبَنان‏:‏ أصابع اليدين والرجلين أو أطرافُ تلك الأصابع‏.‏ وهو اسم جمع بَنانَةٍ‏.‏
وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسْوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول‏:‏ قَلعتْ الريح أوتادَ الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلَّها فإنه قد يكنَّى بأطراف الشيء عن جميعه‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبْل الذي يشد به، كناية عن جميع الشيء‏.‏ وكذلك قولهم‏:‏ هوَ لك برُمته، أي بحبله الذي يشد به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏‏}‏
‏{‏بل‏}‏ إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم، فموقع الجملة بعد ‏{‏بل‏}‏ بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين، أي لمَّا دُعُوا إلى الإقلاع عن الإِشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر‏.‏
والفُجورُ‏:‏ فعل السوء الشديد ويطلق على الكَذِب، ومنه وُصفت اليمين الكاذبة بالفاجرة، فيكون فجَر بمعنى كذب وزْناً ومعنًى، فيكون قاصراً ومتعدياً مثل فعل كَذَب مُخفف الذال‏.‏ روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يعني الكافر يكذِّب بما أمامه‏.‏ وعن ابن قتيبة‏:‏ أن أعرابياً سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبَر راحلته فاتَّهمه عمر فقال الأَعرابي‏:‏
مَا مَسَّها من نَقَببٍ ولا دَبَر *** أقْسَمَ بالله أبو حفص عمرْ
فاغفِرْ له اللهم إنْ كانَ فَجَرْ ***
قال‏:‏ يعني إن كان نسبني إلى الكذب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏يريد الإِنسان‏}‏ يجوز أن يكون إخباراً عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور‏.‏
ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً موافقاً لسياق ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسانُ أنْ لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وأعيد لفظ ‏{‏الإِنسان‏}‏ إظهاراً في مقام الإِضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب من ضلاله‏.‏
وكرر لفظ ‏{‏الإِنسان‏}‏ في هذه السورة خمسَ مرات لذلك، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين الرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليفجر‏}‏ هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإِرادة نحو ‏{‏وأمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏يُريد الله ليُبيِّنَ لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏ وقول كُثيِّر‏:‏
أريد لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما *** تَمَثَّلُ لي ليلى بكُل مكان
وينتصب الفعل بعدها ب ‏(‏أنْ‏)‏ مضمرة، لأنه أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل‏:‏ هي لام التعليل وقيل‏:‏ زائدة‏.‏ وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره، أي إرادتهم للفجور‏.‏ واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها، ولهذا الاستعمال الخاص بها‏.‏ قال النحاس سماها بعضُ القُراء ‏(‏لاَمَ أنْ‏)‏‏.‏ وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُريد الله ليُبَيِّنَ لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26‏)‏‏.‏
وأمَام‏:‏ أصله اسم للمكان الذي هو قُبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلْف، ويطلق مجازاً على الزمان المستقبل، قال ابن عباس‏:‏ يكذب بيوم الحساب، وقال عبد الرحمان ابن زيد‏:‏ يكذب بما أمامه سَفَط‏.‏
وضمير أمامه‏}‏ يجوز أن يعود إلى الإِنسان، أي في مستقبله، أي من عمره فيمضي قُدُماً راكباً رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يَزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور‏.‏ وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏أمامه‏}‏ أُطلق على اليوم المستقبل مجازاً وإلى هذا نحا ابن عَباس في رواية عنه وعبدُ الرحمان بن زيد، ويكون ‏{‏يفجر‏}‏ بمعنى يكذب، أي يَكذِب باليوم المستقبل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير ‏{‏ليفجر أمَامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 5‏]‏ بالتكذيب بيوم البعث‏.‏
ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالَة وقوعه‏.‏
و ‏{‏أيان‏}‏ اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها‏:‏ أن آن كذا، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضموم النون وإنما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفاً فصارت ‏{‏أيان‏}‏ بمعنى ‏(‏متَى‏)‏‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها‏}‏ في الأعراف ‏(‏187‏)‏‏.‏ فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعدِّ السِنين ونحوها، أو بما يتعين به عند السائلين من حدَث يحل معه هذا اليوم‏.‏ فهو طلب تعيين أمد لحلول يوم يَقُوم فيه الناس‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏
‏{‏فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏‏}‏
عُدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدَّدوا بأهواله، لأنهم لم يَكونوا جادِّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن يُنذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدْي ما يترك فُرصَة للهدي والإِرشاد إلاّ انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاماً بالجواب عن سؤالهم كأنه حملٌ لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم‏.‏ وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته‏.‏ وقريب منه ما روي أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم «متى الساعة‏؟‏ فقال له‏:‏ مَاذا أعددت لها»‏.‏
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئاً من تعيين وقته بتعيين أشراطه‏.‏
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال‏.‏
و ‏{‏بَرِق‏}‏ قرأه الجمهور بكسر الراء، ومعناه‏:‏ دُهِش وبُهت، يقال‏:‏ برِق يَبرَق فهو بَرِق من باب فرح فهو من أحوال الإِنسان‏.‏
وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلاً له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره‏.‏ كما أسند الأعشى البَرَق إلى الأعين في قوله‏:‏
كذلك فافْعَلْ ما حييت إِذَا شتوا
وأقدِمْ إذا ما أعينُ الناس تفرَق
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لَمَع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرُق بضم الراء‏.‏ وإسناده إلى البصر حقيقة‏.‏
ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 97‏]‏، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير‏.‏
والتعريف في ‏{‏البصر‏}‏ للجنس المرادِ به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائققِ منازلهم‏.‏
وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماساً مستمراً بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيِّراً، وهو ما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وجُمع الشمس والقمر،‏}‏ فهذا خسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحُولُ الأرضُ بين القمر وبين مُسامتته الشمسَ‏.‏
ومعنى جَمْع الشمس والقمر‏:‏ التصاقُ القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي‏.‏
و ‏{‏إذا برق البصر‏}‏ ظَرف متعلق ب ‏{‏يقول الإِنسان‏}‏، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله‏:‏
‏{‏يسأل أيّان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وطُوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم ‏{‏أين المَفر‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ حَلَّ يومُ القيامة وحضرت أهوالُه يقول الإنسان يومئذٍ ثم تأكَّدَ بقوله ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المستقر‏}‏‏.‏
و ‏{‏يومئذٍ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏يقول‏}‏ أيضاً، أي يومَ إذْ يبرق البصر ويخسف القمر ويُجمع الشمس والقمر، فتنوين ‏(‏إذ‏)‏ تنوين عِوض عن الجملة المحذوفة التي دَلت عليها الجملة التي أضيف إليها ‏(‏إذ‏)‏‏.‏
وذُكر ‏{‏يومئذٍ‏}‏ مع أن قوله‏:‏ ‏{‏إذا بَرَقَ البصر‏}‏ الخ مُغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد‏.‏
و ‏{‏الإِنسان‏}‏‏:‏ هو المتحدَّث عنه من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏، أي يقول الإِنسان الكافر يومئذٍ‏:‏ أي المفر‏.‏
و ‏{‏المَفَر‏}‏‏:‏ بفتح الميم وفتح الفاء مصدر، والاستفهام مستعمل في التمني، أي ليت لي فراراً في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه‏.‏
و ‏{‏أين‏}‏ ظرف مكان‏.‏
و ‏{‏كلا‏}‏ ردع وإبطال لما تضمنه ‏{‏أين المفر‏}‏ من الطمع في أن يجد للفرار سبيلاً‏.‏
و ‏{‏الوَزر‏}‏‏:‏ المكان الذي يُلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون‏.‏
فيجوز أن يكون ‏{‏كلاّ لا وَزَر‏}‏ كلاماً مستأنفاً من جانب الله تعالى جواباً لمقالة الإِنسان، أي لا وزر لكَ، فينبغي الوقفُ على ‏{‏المفر‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإِنسان، أي يقول‏:‏ أين المفر‏؟‏ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول ‏{‏كَلاّ لا وزَر‏}‏ أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلاّ النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يُوصل ‏{‏أين المفر‏}‏ بجملة ‏{‏كلا لا وَزَر‏}‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المستقرّ‏}‏ فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ‏}‏، فهو اعتراض وإدْماج للتذكير بمُلك ذلك اليوم‏.‏
وفي إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذٍ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته‏.‏
و ‏{‏المستقَرّ‏}‏‏:‏ مصدر ميمي من استقَرّ، إذا قَرّ في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف‏.‏
وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر‏.‏ والمعنى‏:‏ لا ملجأ يومئذٍ للإِنسان إلاّ منتهياً إلى ربك، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏يُنَبَّأ الإِنسانُ يومئذٍ بما قدّم وأخَّر‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً أثارهُ قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المستقر‏}‏، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم يُنبأون بما قدموا وما أخروا‏.‏
وينبغي أن يكون المراد ب ‏{‏الإِنسان‏}‏ الكافر جرياً على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذٍ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى‏:‏
‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏‏.‏ واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنوناً من التذكير لا تلزم طريقة واحدة‏.‏ وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة‏.‏
وتنبئةُ الإِنسان بما قدّم وأخرّ كناية عن مجازاته على ما فعله‏:‏ إن خيراً فخيرٌ وإن سُوءاً فسوءٌ، إذ يقال له‏:‏ هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلَته ويلقَى جزاءها، فكانَ الإِنباء من لوازم الجزاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل بلى وربي لَتُبْعَثُنّ ثم لَتُنَبَّؤنَّ بما عَمِلتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏ ويحصل في ذلك الإِنباء تقريع وفضح لحاله‏.‏
والمراد ب ‏{‏ما قدم‏}‏‏:‏ ما فَعَله وب ‏{‏ما أخرّ‏}‏‏:‏ ما تركه مما أُمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كُلف به ومما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء‏:‏ «فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏
‏{‏بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏‏}‏
إضراب انتقالي، وهو للترقي من مضمون ‏{‏يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ إلى الإِخبار بأن الكافر يَعلَم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال‏:‏ ‏{‏يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ ولم أدر ما حِسَابيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25، 26‏]‏، ‏{‏ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ونظم قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ صالح لإِفادة معنيين‏:‏
أولهما أن يكون ‏{‏بصيرة‏}‏ بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون ‏{‏بصيرة‏}‏ خبراً عن ‏{‏الإنسان‏}‏‏.‏ و‏{‏على نفسه‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏بصيرة‏}‏، أي الإِنسان بصيرٌ بنفسه‏.‏ وعُدّي بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏‏.‏ وهاء ‏{‏بصيرة‏}‏ تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسَّابة، أي الإِنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ‏.‏
والمعنى الثاني‏:‏ أن يكونَ ‏{‏بصيرة‏}‏ مبتدأ ثانياً، والمراد به قرين الإِنسان من الحفظة وعلى نفسه خبرَ المبتدأ الثاني مقدماً عليه، ومجموعُ الجملة خبراً عن ‏{‏الإنسان‏}‏، و‏{‏بصيرة‏}‏ حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير، أي مبصر والهاء للمبالغة، كما تقدم في المعنى الأول، وتكون تعدية ‏{‏بصيرة‏}‏ ب ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول‏.‏
ويحتمل أن تكون ‏{‏بصيرة‏}‏ صفة لموصوف محذوف، تقديرة‏:‏ حجة بصيرة، وتكون ‏{‏بصيرة‏}‏ مجازاً في كونها بينة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمودَ الناقة مبصرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ والتأنيثُ لتأنيث المَوصوف‏.‏
وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإِيجازها ووفرة معانيها‏.‏
وجملة ‏{‏ولو ألقَى معاذيرَه‏}‏ في موضع الحال من المبتدأ وهو الإِنسان، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها‏.‏
‏{‏لو‏}‏ هذه وَصْلِيَّةٌ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره‏.‏
والإِلقاء‏:‏ مراد به الإِخبار الصريح على وجه الاستعارة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ في سورة النحل ‏(‏86‏)‏‏.‏
والمعاذير‏:‏ اسم جمع مَعذرة، وليس جمعاً لأن معذرة حقه أن يُجمع على معَاذر، ومثل المعاذير قولهم‏:‏ المناكير، اسم جمع مُنْكَر‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ أن معاذير هُنا جمع مِعْذار بكسر الميم وهو السِتر بلغة اليمن يكون الإِلقاء مستعملاً في المعنى الحقيقي، أي الإِرخاء، وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذباً بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره‏.‏
ومعاذيره‏}‏‏:‏ جمع معرف بالإِضافة يدل على العموم‏.‏ فمن هذه المعاذير قولهم‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعليَ أعْمَلُ صالحاً فيما تركتُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ ومنها قولهم‏:‏ ‏{‏ما جاءَنا من بشير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء أضَلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏
‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏
هذه الآية وقعت هنا معترضة‏.‏ وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يُحرك به لسانه يُريد أن يحفَظَه مخافةَ أن يتَفَلَّتَ منه، أو من شدة رغبته في حِفْظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنَزَل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ به لسانك لتَعْجَل بِه إِنَّ علينا جمعَه وقرآنه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ جَمْعَه في صدرك ثم تَقْرَأُه فإذا قرأنَاه فاتّبعْ قُرْآنه قال فاستَمِعْ له وأنْصِتْ، ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك، أي أن تقرأه» اه‏.‏ فلما نزل هذا الوحي في أثناء نزول السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يَكن سورةً مستقلة كان ملحقاً بالسورة وواقعاً بين الآي التي نَزَل بينها‏.‏
فضمير ‏{‏به‏}‏ عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏، أي إذا قَرأه جبريل عنا، فأُسْنِدَتْ القراءةُ إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي، والقرينة واضحة‏.‏
ومعنى ‏{‏فاتَّبع قرآنه‏}‏، أي أنْصِتْ إلى قِرَاءتِنَا‏.‏
فضمير ‏{‏قَرأناه‏}‏ راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في ‏{‏لا تُحرك به‏}‏ وهو القرآن بالمعنى الأسمي، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع ‏{‏ومَا نتنزّل إلاّ بأمر ربك‏}‏ في سورة مريم ‏(‏64‏)‏، ووقوع ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوسطى في أثناء أحكام الزوجات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏238‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة‏:‏ هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير‏.‏ وذكر الفخر عن القفال أنه قال‏:‏ إن قوله‏:‏ لا تُحرك به لسانك‏}‏ ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإِنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏ينبَّأ الإِنسان‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ فكان ذلك للإِنسان حا لَما يُنَبَّأُ بقبائح أفعاله فيقال له‏:‏ اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له‏:‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإِقرار، ثمّ إن علينا بيان مراتب عقوبته، قال القفال‏:‏ فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه‏.‏
وأقول‏:‏ إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه‏.‏
والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة‏:‏ أن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلّت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عَده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطاً لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه، فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لمَا كان يلاقيه في ذلك من الشدة‏.‏
و ‏(‏قرآن‏)‏ في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغُفران والفُرقان، قال حسان في رثاء عثمان بن عفان‏:‏
يقَطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا ***
ولفظ ‏{‏علينا‏}‏ في الموضعين للتكفل والتعهّد‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ في ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏ للتراخي في الرتبة، أي التفاوتتِ بين رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قولُه ‏{‏إنَّ علينا جَمْعه وقرآنه‏}‏، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي ‏{‏إِن علينا بيانه‏}‏‏.‏ ومعنى الجملتين‏:‏ أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظاً في الصدور بيّناً لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قُرب أو بُعد‏.‏
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه‏.‏
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبيّن متمسكين بأن ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي وهو متمسَّك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته ‏{‏ثم‏}‏ إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن، ولأن ‏{‏ثم‏}‏ قد عَطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ ‏{‏بيانه‏}‏ خاصة، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقاً لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏
‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏‏}‏
رجوع إلى مَهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجِع المتكلم إلى وَصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل، فكلمة ‏{‏كلاّ‏}‏ ردع وإبطال‏.‏ يجوز أن يكون إبطالاً لما سبق من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه إلى قوله‏:‏ ولو ألقى معاذيره‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3 15‏]‏، فأعيد ‏{‏كَلاّ‏}‏ تأكيداً لنظيره ووصلاً للكلام بإعادة آخر كلمة منه‏.‏
والمعنى‏:‏ أن مَزَاعِمَهُم باطلة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بل تحبون العاجلة‏}‏ إضراب إبطالي يُفصِّل ما أجمله الردع ب ‏{‏كّلا‏}‏ من إبطال ما قبلها وتكذيبِه، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة ‏(‏فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة، أي جرى على الأمر والنهي الشرعيين لم يكن مذموماً‏.‏ قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون ‏{‏وابتغ فِيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون إبطالاً لما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ولو ألقى معاذيره‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 15‏]‏ فهو استئناف ابتدائي‏.‏ والمعنى‏:‏ أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، أي آثروا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حساباً‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تحبون‏}‏ و‏{‏تذرون‏}‏ بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مُواجَهة بالتفريع لأن ذلك أبلغ فيه‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة، والضمير عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 14‏]‏ جاء ضمير جمع لأن الإِنسان مراد به الناس المشركون، وفي قوله‏:‏ ‏{‏بل تحبون‏}‏ ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وُفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏
‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏
المراد ب ‏{‏يومئذٍ‏}‏ يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏يقول الإِنسان يومئذٍ أين المفر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 10‏]‏، وأعيد مرتين‏.‏
والجملة المقدرة المضاف إليها ‏(‏إذْ‏)‏، والمعوَّضُ عنها التنوين تقديرها‏:‏ يوم إذ بَرَق البصر‏.‏
وقد حصل من هذا تخلص إلى إجمال حال الناس يوم القيامة بين أهل سعادة وأهل شقاوة‏.‏
فالوجوه الناضرة وجوه أهل السعادة والوجوه الباسرة وجوه أهل الشقاء، وذلك بين من كلتا الجملتين‏.‏
وقد علم الناس المعنيَّ بالفريقين مما سبق نزوله من القرآن كقوله في سورة عبس ‏(‏40 42‏)‏‏:‏ ‏{‏وَوُجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ فعُلم أن أصل أسباب السعادة الإِيمان بالله وحده وتصديق رسُوله والإِيمان بما جاء به الرسول، وأن أصل أسباب الشقاء الإشراك بالله وتكذيب الرسول ونبذ ما جاء به‏.‏ وقد تضمن صدر هذه السورة ما ينبئ بذلك كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وتنكير ‏{‏وجوه‏}‏ للتنويع والتقسيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريقٌ في الجنة وفريق في السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ وقول الشاعر وهو من أبيات «كتاب الآداب» ولم يعزُه ولا عَزَاهُ صاحبُ «العُباب» في شرحه‏:‏
فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نُسَر
وقول أبي الطيب‏:‏
فيوماً بخيل تَطْرُد الروم عنهم *** وَيْومٌ بِجُود تَطرد الفَقر والجَدْبا
فالوجوه الناضرة الموصوفةُ بالنضْرة ‏(‏بفتح النون وسكون الضاد‏)‏ وهي حسن الوجه من أثر النعمة والفرح، وفعله كنصَر وكرُم وفرِح، ولذلك يقال‏:‏ ناضر ونَضير ونَضِر، وكُني بنضرة الوجوه عن فرح أصحابها ونعيمهم، قال تعالى في أهل السعادة ‏{‏تعرف في وجوههم نضرة النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ لأن ما يحصل في النفس من الانفعالات يظهر أثره‏.‏
وأخبر عنها خبراً ثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ وظاهر لفظ ‏{‏ناظرة‏}‏ أنه من نظَر بمعنى‏:‏ عايَن ببصره إعلاناً بتشريف تلك الوجوه أنها تنظر إلى جانب الله تعالى نظراً خاصاً لا يشاركها فيه من يكون دون رتبهم، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة «أن أناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ هَل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنكم لا تُضَارُّون في رؤية ربكم يومئذٍ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما»‏.‏
وفي رواية «فإنكم ترونه كذلك» وساق الحديث في الشفاعة‏.‏
وروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال‏:‏ «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال‏:‏ إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامُون في رؤيته» وربما قال‏:‏ «سترون ربكم عياناً»‏.‏
وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏
«إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يقول الله تعالى‏:‏ تُريدون شيئاً أزيدكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ألَم تبيّض وجوهنا ألم تُدْخِلْنا الجنة وتنجِّنا من النار، قال‏:‏ فيَكْشِف الحجابَ فما يُعطَوْن شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم»
فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإِجمال دلالة ظنية لاحتِمَالها تأويلات تأوَّلَها المعتزلةُ بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخوِّل رؤيتها لغير أهل السعادة‏.‏
ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها لأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات، ومقدارٍ يُحَاطُ بجميعه أو ببعضِه، إذا كانت الرؤية بصرية، فلا جرم أن يُعد الوعد برؤية أهل الجنة ربَّهم تعالى من قبيل المتشابه‏.‏
ولعلماء الإِسلام في ذلك أفهام مختلفة، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جَروا على طريقتهم التي تخلقوا بها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من الإِيمان بما ورد من هذا القبيل على إِجماله، وصرف أنظارهم عن التعمّق في تشخيص حقيقته وإدراجه تحت أحد أقسام الحكم العقلي، فقد سمعوا هذا ونظائره كلَّها أو بعضَها أو قليلاً منها، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله، ولكنهم انصرفوا إلى ما هو أحق بالعناية وهو التهمّم بإقامة الشريعة وبثّها وتقرير سلطانها، مع الجزم بتنزيه الله تعالى عن اللوازم العارضة لظواهر تلك الصفات، جاعلين إِمامهم المرجوع إليه في كل هذا قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏ليسَ كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشوى‏:‏ 11‏]‏، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ بالنسبة إلى مقامنا هذا، مع اتفاقهم على أنّ عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإِيمان، فلما نبعَ في علماء الإِسلام تطلّب معرفة حقائق الأشياء وألْجأهُم البحثُ العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأَفهام أهل العلم من الخَلف لأن طريقتهم في العلم طريقةُ تمحيص وهي اللائقة بعصرهم، وقارِن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإِسلامية من النِحل الاعتقادية، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم، وحَدَا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإِقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرارِ كلِّ حقيقة في نصابها، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل‏.‏
فسلكت جماعات مسالك التأويل الإِجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا التنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصِّلون صَرفها عن ظواهرها بل يُجملون التأويل، وهذه الطائفة تُدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتاً جعلها فرقاً‏:‏ فمنهم الحنابلة، والظاهرية، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة‏.‏
ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع التقييد بأنها مؤوَّلة عن ظواهرها بوجه الإِجمال‏.‏ وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكَرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول‏.‏
ومنهم فِرق النُّظَّارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية‏.‏
فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربَّهم ناسجة على هذا المنوال‏:‏
فالسلف أثبتوها دون بحث، والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوْه قطعياً وألْغَوْها‏.‏
والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب‏.‏
وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالماً من اتجاه نقوض ومُنُوع ومعارضات، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصاً من اتجاه مُنُوع مجردة أو مع المستندات، فطال الْأخذ والرد‏.‏ ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد‏.‏
ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى‏.‏
وهذا معنى قول سلفنا‏:‏ إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة، وإن اشمأزّ منها المعتزلة‏.‏
هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم، وأمّا ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لن تراني‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏143‏)‏‏.‏
وتقديم المجرور من قوله‏:‏ إلى ربها‏}‏ على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة‏.‏
وبين ‏{‏ناضرة‏}‏ و‏{‏ناظرة‏}‏ جناس محرف قريب من التامّ‏.‏
وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله‏:‏ ‏{‏وجوهٌ يومئذٍ ناضرة‏}‏ أنها أُرِيدَ بها التفصيل والتقسيم لمقابلتِه بقوله‏:‏ ‏{‏ووجوهٌ يومئذٍ باسرة‏}‏، على حد قول الشاعر‏:‏
فيوم علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نسر
وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذٍ هي وجوه أهل الشقاء‏.‏ وأعيد لفظ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ تأكيداً للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم‏.‏
و ‏{‏باسرة‏}‏‏:‏ كالحة مِن تيقن العذاب، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عبس وبسر‏}‏ في سورة المدثر ‏(‏22‏)‏‏.‏
فجملة تَظُنّ أن يُفْعَل بها فاقرة‏}‏ استئناف بياني لبيان سبب بسورها‏.‏
و ‏{‏فاقرة‏}‏‏:‏ داهية عظيمة، وهو نائب فاعل ‏{‏يُفعل بها‏}‏ ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعهُ ليس مؤنثاً حقيقياً، مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه، وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث‏.‏ وإِفراد ‏{‏فاقرة‏}‏ إفراد الجنس، أي نوعاً عظيماً من الداهية‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يُكتنه كنهها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏
‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏‏}‏
ردع ثان على قول الإِنسان ‏{‏أيَّانَ يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏، مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بل تحبّون العاجلة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المَساق‏}‏ أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى‏.‏
وعن المغيرة بن شعبة يقولون‏:‏ القيامة القيامةُ، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال‏:‏ «أمَّا هذا فقد قامت قيامته»، فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يَعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرةً‏.‏
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل‏:‏ ارتدعوا وتنبهوا على ما بَيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعاً على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكداً للردع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كلا بل تحبون العاجلة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20‏]‏ بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة‏.‏
و ‏{‏إذا بلغت التراقي‏}‏ متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي‏.‏
وجملة ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏ بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيّان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعني قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏‏.‏
وتقديم ‏{‏إلى ربك‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏المساق‏}‏ للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم‏.‏
وضمير ‏{‏بلغت‏}‏ راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل ‏{‏بلغَتْ‏}‏ ومن ذكر ‏{‏التراقي‏}‏ فإن فعل ‏{‏بلغت التراقي‏}‏ يدل أنها روح الإنسان‏.‏ والتقدير‏:‏ إذا بلغت الروحُ أو النفس‏.‏ وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي‏:‏
أمَاوِيَّ ما يغني الثَّراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بهَا الصدر
أي إذا حشرجت النفس‏.‏ ومن هذا الباب قول العرب «أرْسَلَتْ» يريدون‏:‏ أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع‏.‏
والأنفاسُ‏:‏ جمع نفَس، بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق‏.‏
و ‏{‏التراقي‏}‏‏:‏ جمع تَرْقُوة ‏(‏بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث‏)‏ وهي ثُغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله‏.‏
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس، لأن في تثنية ترقوة شيئاً من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ في سورة ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏
ومعنى بلغتْ التراقي‏}‏‏:‏ أن الروح بلغت الحُنْجُرة حَيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى‏:‏
‏{‏فلولا إذا بلغت الحُلقوم الآية‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83‏]‏‏.‏
واللام في ‏{‏التراقي‏}‏ مثل اللام في المساق فيقال‏:‏ هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تَرَاقِيَه، أي الإِنساننِ‏.‏
ومعنى ‏{‏وقيل مَنْ رَاقٍ‏}‏ وقال قائل‏:‏ من يَرْقِي هذا رُقْيَات لشفائه‏؟‏ أي سأل أهلُ المريض عن وِجْدَاننِ أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به والبحث عن عارف برقية المريض عادة عَربية ورد ذكرها في حديث السَرِيَّة الذين أَتَوْا على حيّ من أحياء العرب إذْ لُدغ سيد ذلك الحي فعَرض لهم رجل من أهل الحي، فقال‏:‏ هل فيكم مِن راق‏؟‏ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً‏.‏ رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب‏.‏
والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث‏:‏ هي كلام خاص معتقَد نفعه يقوله قائل عند المريض واضعاً يده في وقت القراءة على موضع الوَجَع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي مِن صَرَع الجنون ومن ضُر السموم ومن الحُمَّى‏.‏
ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سَمَّوا الراقي ونحوه عَرَّافاً، قال رؤبة بن العجاج
‏:‏ *** بَذَلْتُ لعَرَّاف اليَمامة حُكْمَهُ
وعَرَّاففِ نجدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي *** فما تركَا من عُوذَة يعرفانها
ولا رُقْيَةٍ بهَا رَقَيَاني ***
وقال النابغة يذكر حالةَ من لدغته أفعى‏:‏
تناذرها الراقُون من سُوء سمعها *** تُطلقه طَوْراً وطَوراً تُراجع
وكانَ الراقي ينفث على المَرْقِيّ ويتفُل، وأشار إليه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله‏:‏ «ثم إنه طَمَس المكتوب على غَفلة، وتَفَلَ عليه مِائَةَ تَفْلَة»‏.‏
وأصل الرقية‏:‏ ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقواللٍ ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياءَ كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة، وقد جاء في الإِسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء‏.‏
والضمير المستتر في ‏{‏ظَنَّ‏}‏ عائد إلى الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏بل يريد الإِنسان‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 5‏]‏ أي الإِنسان الفاجر‏.‏
والظن‏:‏ العلم المقارب لليقين، وضمير ‏{‏أنه‏}‏ ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراقُ، أي فراق الحياة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والتفَّت الساقُ بالساق‏}‏ إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفافُ ساقَي المحْتضر بعد موته إذ تُلَفُّ الأَكفان على ساقيْه ويُقرن بينهما في ثوب الكفن فكُلُّ ساق منهما ملتفة صحبةَ الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيَّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة‏.‏
ويجوز أن يَكون ذلك تمثيلاً فإن العرب يستعملون الساق مثلاً في الشدة وجِدّ الأمر تمثيلاً بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون‏:‏ قامت الحرب على ساق‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏
‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
فالضمير عائد إلى الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ أي لجهله البعث لم يستعد له‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏كذّب‏}‏ ليشمل كلَّ ما كذب به المشركون، والتقدير‏:‏ كذب الرسولَ والقرآنَ وبالبعث، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإِسلام‏.‏
ويجوز أن يكون الفاء تفريعاً وعطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خالياً من العُدّة لذلك اللقاء‏.‏
وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره‏:‏ فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم‏.‏
وقد ورد ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا دُكّت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملَك صفاً صفاً وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإِنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21 24‏]‏‏.‏
وفعل ‏{‏صَدَّق‏}‏ مشتق من التصديق، أي تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذّب‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ فلا ءامن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبَعض المفسرين فَسَّر ‏{‏صدَّق‏}‏ بمعنى أعطى الصَّدَقة، وهو غير جار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال‏:‏ تَصَدق، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذب‏}‏‏.‏
وعُطف ‏{‏ولا صلّى‏}‏ على نفس التصديق تشويهاً له بأن حاله مبائن لأحْوَال أهل الإِسلام‏.‏ والمعنى‏:‏ فلم يؤمن ولم يسلم‏.‏
و ‏{‏لا‏}‏ نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير‏:‏
فَلا هو أخفاها ولم يتقدم ***
وهذا معنى قول الكسائي «‏(‏لا‏)‏ بمعنى ‏(‏لَم‏)‏ ولكنه يقرن بغيره يقول العرب‏:‏ لا عبدُ الله خارج ولا فلان، ولا يقولون‏:‏ مررت برجل لاَ محسن حتى يقال‏:‏ ولا مجمل» اه فإذا لم يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مُضِيَ إلاّ في إرادة الدعاء نحو‏:‏ «لا فُضَّ فُوك» وشذ ما خالف ذلك‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ اقْتَحَمَ العقَبَةَ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ فإنّه على تأويل تكرير النّفي لأنّ مفعول الفعل المنفي بحرف ‏{‏لا‏}‏ وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بيَّنها قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الذين ءامنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏‏.‏ فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل‏:‏ فَكَّ رقبة ولا أطعَم يتيماً ولا أطعم مسكيناً ولا آمن‏.‏
وجملة ‏{‏ولكن كذب‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فلا صدّق‏}‏‏.‏
وحرف ‏{‏لكن‏}‏ المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مُخفَّفَ النون المشددة أختَ ‏(‏إنّ‏)‏ هو حرف استدراك، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إِما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى‏:‏
‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، وإما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو ‏{‏ما كان محمدٌ أبَاً أحد من رجالكم ولكن رسولَ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏
وحرف ‏{‏لكن‏}‏ المخفف لا يعمل إعراباً فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجُملة ‏{‏ولكن كذب وتولى‏}‏ أفادت معنيين‏:‏ أحدهما توكيد قوله ‏{‏فلا صدَّق‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏كَذب‏}‏، وثانيهما زيادة بيان معنى ‏{‏فَلا صدق‏}‏ بأنه تولَّى عمداً لأنّ عدم التصديق له أحوال، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ إبليس أبى واستكبر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏
والتكذيب‏:‏ تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم
والتولي‏:‏ الإِعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن‏.‏
وفاعل ‏{‏صَدق‏}‏ والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإِنسان المتقدم ذكره‏.‏
و ‏{‏يتمطّى‏}‏‏:‏ يمشي المُطَيْطَاءَ ‏(‏بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة‏)‏ وهي التبختر‏.‏
وأصل ‏{‏يتمطى‏}‏‏:‏ يتمطط، أي يتمدد لأن المتبختر يمُدّ خطاه وهي مشية المعجب بنفسه‏.‏ وهنا انتهى وصف الإِنسان المكذب‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهياً بنفسه غير مفكر في مصيره‏.‏
قال ابن عطية‏:‏ قال جمهور المتأولين‏:‏ هذه الآية كلها من قوله‏:‏ ‏{‏فَلا صدّق ولا صلّى‏}‏ نزلت في أبي جهل بن هشام، قال‏:‏ ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتمطى‏}‏ فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اه‏.‏ وفيه نظر سيأتي قريباً‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏أولَى لك‏}‏ وعيد، وهي كلمة تَوعُّد تجري مَجرى المَثَل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم، والمراد به ما يراد بقولهم‏:‏ ويل لك، من دعاء على المجرور باللام بعدها، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه‏.‏
‏{‏فأوْلى‏}‏‏:‏ اسم تفضيل من وَلي، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه، قال الأصمعي‏:‏ معناه‏:‏ قاربكَ ما تَكره، قالت الخنساء‏:‏
همَمْتُ بنفسيَ كُلَّ الهموم *** فأولى لنفسيَ أولى لها
وكان القانص إذا أفلتَه الصيدُ يخاطب الصيد بقوله‏:‏ ‏{‏أولى لك‏}‏ وقد قيل‏:‏ إن منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى لهم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فأولى لهم طاعة وقول معروف‏}‏ في سورة القتال ‏(‏20، 21‏)‏ على أحد تأويلين يجعل طاعة وقول معروف‏}‏ مستأنفاً وليس فاعلاً لاسم التفضيل، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن ‏{‏أولى‏}‏ عَلم لمعنى الوَيل وأن وزنه أفْعل من الويل وهو الهلاك، فأصل تصريفه أوْيَل لك، أي أشدُّ هلاكاً لك فوقع فيه القلب ‏(‏لطلب التخفيف‏)‏ بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أوْلَى بوزن أفلَحَ، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً فقالوا‏:‏ أولى في صورة وزن فَعْلى‏.‏
والكاف خطاب للإِنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهاراً وإضماراً، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإِنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ أولَى له‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فأولى‏}‏ تأكيد ل ‏{‏أَوْلى لك‏}‏ جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعي عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر‏.‏
قال قتادة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبَّبَ أبا جهل بثيابه وقال له ‏{‏أولى لك فأولى ثم أولَى لك فأولى‏}‏ قال أبو جهل‏:‏ يتهددني محمد ‏(‏أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد‏)‏ فوالله إني لأَعَزُّ أهللِ الوادي‏.‏ وأنزل الله تعالى ‏{‏أولى لك فأولى‏}‏ كما قَال لأبي جهل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أولى لك فأولى‏}‏ تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق‏.‏
وجيء بحرف ‏{‏ثم‏}‏ لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد، وتهديد بأشدَّ مما أفاده التهديد الأول وتأكيدُه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
وأحسب أن المراد‏:‏ كُلُّ إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3 14‏]‏، وما أبو جهل إلاّ مِن أولهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديداً لأمثاله‏.‏
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏
‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتُدئ به فارتبط بقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسبُ أن نتركه في حالة العدم‏.‏
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعُه بقوله‏:‏ ‏{‏أن يُترك سُدى‏}‏ كما ستعلمه‏.‏
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وأصل معنى الترك‏:‏ مفارقة شيء شيئاً اختياراً من التَّارك، ويطلق مجازاً على إهمال أحد شيئاً وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي‏.‏
والمراد بما يترك عليه الإِنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حالَ العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏‏.‏
وعُدل عن بناء فعل يَترك للفاعل فبني للنائب إيجازاً لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق‏:‏ ‏{‏أن لن نجمع عظامه فكأنه قال‏:‏ أيحسب الإِنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى‏.‏
فجاء ذِكر سُدى‏}‏ هنا على طريقة الإِدماج فيما سيق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإِنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازِيه على ما عَمِله في حياته الأولى‏.‏
وفي إعادة ‏{‏أيحسب الإنسان‏}‏ تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله‏:‏ ‏{‏ألم يك نطفة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 37‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يترك سدى‏}‏ تكرير وتعداد للإِنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإِنسان وأخّر‏.‏
ومعنى هذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏
و ‏{‏سُدى‏}‏ بضم السين وبالقصر‏:‏ اسم بمعنى المهمل ويقال‏:‏ سَدى بفتح السِّين والضمُّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال‏:‏ إبل سُدًى، وجمل سُدًى ويشتق منه فعل فيقال‏:‏ أسْدى إبله وأسديت إِبلي، وألفه منقلبة عن الواو‏.‏
ولم يفسر صاحب «الكشاف» هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع ‏{‏سُدى‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُترك‏}‏‏.‏
فإن الذي خلق الإِنسان في أحسن تقويم وأبدَعَ تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافعَ لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأَنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يَهِيمُون في كل وادي، وتركُهم مَضرباً لقوللِ المثل «فإنّ الريح للعادِي»‏.‏
ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏، أي لا نعيد خلقه ونبعثَه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يُترك سُدى‏}‏ مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة ‏{‏أن يترك سدى‏}‏، أي لا يحسب أنه يترك غير مَرعِيّ بالتكليف كما تُترك الإِبل، وذلك يقتضي المجازاةَ‏.‏ وعن الشافعي‏:‏ لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أن السُّدَى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه‏.‏ وقد تبين من هذا أن قوله‏:‏ ‏{‏أن يترك سدى‏}‏ كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏
‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏
استئناف هو علة وبيان للإِنكار المسوق للاستدلال بقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يُترك‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏ الذي جعل تكريراً وتأييداً لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه الآية، أي أنَّ خلق الإِنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانِهِ دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانياً بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا‏:‏ أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه ويُعد ذلك متعذراً‏.‏ ألم نَبْدَأ خلقه إذْ كوَّنَّاه نطفة ثم تطوَّر خلقُه أطوَاراً فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانياً كذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏
وهذه الجمل تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏‏.‏
وهذا البيان خاص بأحد معنيي التَّرك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيَّده قوله‏:‏ ‏{‏سُدَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏ أي تركه بدون جَزاء على أعماله لأن فائدة الإِحياء أن يجازى على عمله‏.‏ والمعنى‏:‏ أيحسب أن يترك فانياً ولا تجدد حياته‏.‏
ووقع وصف ‏{‏سدى‏}‏ في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة، وانتُقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة، فكان وقوعه إدماجاً‏.‏
فالإِنسان خُلق من ماء وطُوِّر أطواراً حتى صار جسداً حيّاً تامّ الخلقة والإِحساسسِ فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإِناث، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلاّ هو‏.‏
والنُطفة‏:‏ القليل من الماء سمي بها ماء التناسل، وتقدم في سورة فاطر‏.‏
واختلف في تفسير معنى ‏{‏تُمنَى‏}‏ فقال كثير من المفسرين معناه‏:‏ تراق‏.‏ ولم يُذكر في كتب اللغة أن فعل‏:‏ مَنَى أو أمْنَى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية ‏(‏مِنًى‏)‏ التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تُراق بها دماء الهدي، ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية‏.‏
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح، فاسم ‏(‏مِنى‏)‏ عَلَم مرتجل، وقال ثعلب‏:‏ سميت بذلك من قولهم‏:‏ منَى الله عليه الموت، أي قدَّره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن ابن شميل وعن ابن عيينة‏.‏ وفسر بعضهم ‏{‏تُمنى‏}‏ بمعنى تخلق من قولهم منَى الله الخلق، أي خلقهم‏.‏ والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تُمْنُون‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏58‏)‏‏.‏
والعلقة‏:‏ القطعة الصغيرة من الدم المتعقد‏.‏
وعطف فعل كان علقة‏}‏ بحرف ‏{‏ثم‏}‏ للدلالة على التراخي الرتبي فإنّ كَوْنه علقة أعجب من كونه نطفةً لأنه صار علقة بعد أن كان ماءً فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من مجموعهما عَلقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم ‏(‏46‏)‏
‏{‏من نطفة إذا تمنى‏}‏
ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله‏:‏ فخلق‏}‏ بالفاء، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح‏.‏
وضمير ‏{‏خلق‏}‏ عائد إلى ‏{‏ربك‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وكذلك عطف ‏{‏فسَوّى‏}‏ بالفاء‏.‏
والتسوية‏:‏ جعل الشيء سواء، أي معدلاً مقوماً قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، أي فجعله جسداً من عظم ولحم‏.‏ ومفعول ‏(‏خلق‏)‏ ومفعول ‏(‏سوى‏)‏ محذوفان لدلالة الكلام عليهما، أي فخلقه فسوّاه‏.‏ وعُقب ذلك بخلقه ذكراً أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضاً‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تُمنى‏}‏ بالفوقية على أنه وصف ل ‏{‏نطفة‏}‏‏.‏ وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف ‏{‏مَنِيّ‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإِنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضُه أو معظمه فهو إلى بَثثِ الحياة فيه وإعادةِ ما فنِيَ من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم‏.‏
والاستفهام إنكار للمنفي إنكارَ تقرير بالإِثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن يقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرَّر إن أراد إنكاراً كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإِنكار‏.‏
وقد جاء في هذا الختام بمحسّن ردّ العجز على الصدر، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث، وتسلسلَ الكلام في ذلك بأفانين من الإِثبات والتهديد والتشريط والاستدلال، إلى أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحييَ الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بَنَانه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
وتعميم الموتى في قوله‏:‏ ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ بعدَ جريان أسلوببِ الكلام على خصوص الإِنسان الكافر أو خصوص كافر معيّن، يجعل جملة ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ تذييلاً‏.‏
سورة الإنسان
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏‏}‏
استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجَّه إلى غير معين ومُسْتعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم، والتقرير يقتضي حصول العلم بما قرر به وذلك إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإِنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالاً لإِشْراك المشركين‏.‏
وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام‏.‏
فجملة ‏{‏هل أتى على الإِنسان‏}‏ تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي ‏{‏إنا خلقنا الإِنسان من نطفة أمشاج‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ الخ‏.‏
و ‏{‏هل‏}‏ حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق، وقال جمعٌ أصل ‏{‏هل‏}‏ إنها في الاستفهام مثل ‏(‏قَدْ‏)‏ في الخبر، وبملازمة ‏{‏هل‏}‏ الاستفهامَ كثير في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى ‏(‏قد‏)‏، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر، ويَتطرق إلى الاستفهام بها ما يَتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلاّ أن يَأتيهم الله في ظلل من الغمام‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏
وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصِّل هذا المعنى‏.‏
والمعنى‏:‏ هل يقر كل إنسان موجودٍ أنه كان معدوماً زماناً طويلاً، فلم يكن شيئاً يذكر، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته ‏(‏وإن كان قد يذكر بوجه العُموم في نحو قول الناس‏:‏ المعدوم مُتوقف وجوده على فاعل‏.‏ وقول الواقف‏:‏ حبست على ذريتي، ونحوه فإن ذلك ليس ذِكراً لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدَّر وجودُه‏)‏‏.‏ وهم لا يسَعهم إلاّ الإقرار بذلك، فلذلك اكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع‏.‏
وتعريف الإِنسان‏}‏ للاستغراق مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِن الإِنسان لفي خسر إلاّ الذين ءامنوا‏}‏ الآية ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏، أي هل أتى على كل إنسان حينُ كان فيه معدوماً‏.‏
و ‏{‏الدهر‏}‏‏:‏ الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي‏.‏
والحين‏:‏ مقدار مُجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه‏.‏
وجملة ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ يجوز أن تكون نعتاً ل ‏{‏حين‏}‏ بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ ‏{‏حين‏}‏ على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ إذ التقدير‏:‏ لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، فالتقدير هنا‏:‏ لم يكن فيه الإِنسان شيئاً مذكوراً، أي كان معدوماً في زمن سبق‏.‏
ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ‏{‏الإنسان‏}‏، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت‏.‏
والشيء‏:‏ اسم للموجود‏.‏
والمذكورُ‏:‏ المعيّن الذي هو بحيث يُذكر، أي يعبّرُ عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال‏.‏ ويعلَّق لفظه الدال عليه بالأفعال‏.‏
فأمّا المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعيّن له فلا يذكر إلاّ بعنوانه العام كما تقدّم آنفاً، وليس هذا هو المراد بالذّكر هنا‏.‏
ولهذا نجعل ‏{‏مذكوراً‏}‏ وصفاً ل ‏{‏شيئاً‏}‏، أريد به تقييد ‏{‏شيئاً‏}‏، أي شيئاً خاصاً وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعيِّن له‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه ‏{‏هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ لما فيه من التشويق‏.‏
والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له‏:‏ إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً، فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه‏.‏
وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم‏.‏
والمراد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ مثل ما أريد به في قوله‏:‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ أي كل نوع الإِنسان‏.‏
وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإِنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة‏.‏
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة‏.‏
و ‏{‏أمشاج‏}‏‏:‏ مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة قال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا‏.‏
وصيغة ‏{‏أمشاج‏}‏ ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد، فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذِبح، وهذا ما اقتصر عليه في «اللسان» و«القاموس»، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب، أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف‏.‏
والوجه ما ذهب إليه صاحب «الكشاف»‏:‏ أن ‏{‏أمشاج‏}‏ مفرد كقولهم‏:‏ بُرمة أعشار وبُرد أكياش ‏(‏بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين‏)‏‏.‏ قال‏:‏ «ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما ‏(‏أي مَشج وأمشاج‏)‏ مِثلان في الإِفراد اه‏.‏ وقال بعض الكاتبين‏:‏ إنه خالف كلام سيبويه‏.‏ وأشار البيضاوي إلى ذلك، وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون ‏{‏أمشاج‏}‏ مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه‏.‏
فإذا كان ‏{‏أمشاج‏}‏ في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في «الكشاف»‏.‏ فوصف ‏{‏نطفة‏}‏ به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، ‏(‏فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً‏)‏ فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة، أي شديدة الاختلاط‏.‏
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة‏.‏
وجملة ‏{‏نبتليه‏}‏ في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم‏:‏ مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً‏.‏
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة ‏{‏خلقنا‏}‏ وبين ‏{‏فجعلناه سَميعاً بصيراً‏}‏ لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع ‏{‏نبتليه‏}‏ بعد جملة ‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة‏.‏
وجيء بجملة ‏{‏إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه‏}‏ تفنناً في نظم الكلام‏.‏
وحقيقة الابتلاء‏:‏ الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته‏.‏
وفُرع على خلقه ‏{‏من نطفة‏}‏ أنه جعله ‏{‏سميعاً بصيراً‏}‏، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه‏:‏ سامعاً مبصراً، لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه‏.‏
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل الآيات‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏
‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة ‏{‏نبتليه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ ولتفصيل جملة ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏، وتخلُّصّ إلى الوعيد على الكفر والوَعد على الشكر‏.‏
وهداية السبيل‏:‏ تمثيل لحال المرشدِ‏.‏ و‏{‏السبيل‏}‏‏:‏ الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرُسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سَيْره‏.‏
وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهاتتِ أجزاءِ الحالة المركَّبَة المشبَّهة بأجزاء الحالة المشبَّه بها، فالله تعالى كالهادي، والإِنسان يشبه السائر المتحير في الطريق، وأعمال الدين تشبه الطريق، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكان المطلوب‏.‏
وفي هذا نداء على أن الله أرشد الإِنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلالَ الاعتقاد ومفاسدَ الأعمال، فمن بَرَّأَ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة، ثم ظهر من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القرآن باطل‏.‏
و ‏{‏إِما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ حالان من ضمير الغيبة في ‏{‏هديناه‏}‏، وهو ضمير ‏{‏الإِنسان‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏‏.‏
و ‏{‏إما‏}‏ حرف تفصيل، وهو حرفٌ بسيط عند الجمهور‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ هو مركب من حرف ‏(‏إِنْ‏)‏ الشرطية و‏(‏مَا‏)‏ النافية‏.‏ وقد تجردت ‏(‏إنْ‏)‏ بالتركيب على الشرطية كما تجردت ‏(‏مَا‏)‏ عن النفي، فصار مجموع ‏{‏إِما‏}‏ حرف تفصيل، ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل ‏(‏اَلْ‏)‏ حرففِ التعريف‏.‏ وقدر بعض النحاة ‏{‏إما‏}‏ الثانية حرفَ عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى، وإنما العاطف الواو و‏{‏إِما‏}‏ مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شراً‏:‏
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ *** وإِمَّا دَممٍ والموتُ بالحُر أجْدَرُ
فإن الاسمين بعد ‏(‏إما‏)‏ في الموضعين من البيت مجرورَان بالإِضافة ولذلك حذفت النون من قوله‏:‏ هما خطتَا، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية‏.‏
قال ابن جنيّ‏:‏ «أما من جرَّ ‏(‏إِسار‏)‏ فإنه حذف النون للإِضافة ولم يَعتد ‏(‏إِمَّا‏)‏ فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه، وعلى هذا تقول‏:‏ هما إِما غلاما زيدٍ وإما عمرو، وأجودُ من هذا أن تقول‏:‏ هما خطتَا إِسارٍ ومنةٍ وإِما خطتا دم ثم قال‏:‏ وأما الرفع فطريق المذهب، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإِضافة فقد حُكي ذلك» الخ‏.‏
ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين‏:‏ الجرِ والرفع وقريب منه كلام المرزوقي وزاد فقال «وحَذف النون إذا رفعتَ ‏(‏إسارُ‏)‏ استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدَلِه وهو قوله‏:‏ إِما إسار» الخ‏.‏
والمعنى‏:‏ إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصففِ شاكر ووصففِ كفور، فأحدُ الوصفين على الترديد مقارنٌ لحال إرشاده إلى السبيل، وهي مقارنةٌ عرفية، أي عَقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكراً وإن أعرض كان كفوراً كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقى به السباع أو اللصوصَ، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إِنا هديناه السبيل‏}‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏
أريد التخلص إلى جزاء الفريقين الشاكر والكفور‏.‏
والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله‏:‏ ‏{‏إمّا شاكراً وإمّا كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ يثير تطلع السامعين إلى معرفة آثار هذين الحالين المترددِ حالُه بينَهما، فابتدئ بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب‏.‏
وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإِدخال الروْع عليهم لأن المتوعِّد إذا أكَّد كلامه بمؤكِّد فقد آذن بأنه لا هوادة له في وعيده‏.‏
وأصل ‏{‏أعتَدْنا‏}‏ أعدَدنا، بدالين، أي هيأنا للكافرين، يقال‏:‏ اعتدّ كما يقال‏:‏ أعَدَّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأعَتدتْ لهن متّكَأً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وقد تردد أيمة اللغة في أن أصل الفعل بدالين أو بتاء ودال فلم يجزموا بأيهما الأصل لكثرة ورود فعل‏:‏ أعدّ، وفعل اعْتَدَّ في الكلام والأظهر أنهما فعلان نشآ من لغتين غير أن الاستعمال خصّ الفعل ذا التاء بعُدة الحرب فقالوا‏:‏ عَتَاد الحرب ولم يقولوا عدَاد‏.‏
وأما العُدة بضم العين فتقع على كل ما يعد ويهيأ، يقال‏:‏ أعد لكل حال عُدة‏.‏ ويطلق العَتاد على ما يُعدّ من الأمور‏.‏
والأكثر أنه إذا أريد الإِدغام جيء بالفعل الذي عينه دال وإذا وجد مقتضى فك الإِدغام لموجب مثل ضمير المتكلم جيء بالفعل الذي عينه تاء‏.‏
والسلاسل‏:‏ القيود المصنوعة من حَلق الحديد يقيد بها الجناة والأسرى‏.‏
والأغلال‏:‏ جمع غُلّ بضم الغين، وهو حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيَّد، وتناط بها السلسلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سَوْقهم إلى جهنم‏.‏
والسعير‏:‏ النار المسعرة، أي التي سعَّرها الموقِدون بزيادة الوَقود ليشتد التهابها فهو في الأصل وصف بمعنى اسم المفعول جعل علماً على جهنم‏.‏ وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏كلَّما خبَتْ زدناهم سعيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏‏.‏
وكتب سلاسلا‏}‏ في المصحف الإِماممِ في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءته، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا ‏{‏سَلاسلاً‏}‏ منوناً في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذيْن بعده وهما ‏{‏أغلالاً‏}‏ و‏{‏سعيراً‏}‏، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساءٍ ‏"‏ ارجِعْنَ مَأزورات غير مأجورات ‏"‏ فجعل «مأزورات» مهموزاً وحقه أن يكون بالواو لكنه هُمز لمزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر «فيقال له‏:‏ لاَ درَيْت ولا تلَيْت»، وكان الأصل أن يقال‏:‏ ولا تَلوت‏.‏ ومنه قول ابن مُقْبِل أو القَلاَّحُ‏:‏
هتَّاكُ أخْبيَةٍ وَلاَّجُ أبْوِبَةٍ *** يُخَالطُ البِرُّ منه الجِدَّ واللِّينا
فقوله ‏(‏أبوبة‏)‏ جمع باب وحقه أن يَقول أبواب‏.‏
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة‏.‏
وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل‏.‏
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول ‏{‏سلاسلْ‏}‏ في الوقف‏.‏ وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منوناً في الوصل‏.‏
قرأه البَزي عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وحفصٌ عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها‏.‏
فأما الذين لم ينونوا ‏{‏سلاسلا‏}‏ في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية‏.‏ وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيراً ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع‏.‏
وبعدُ فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سُنة مَخصوصة به وذكر الطيبي‏:‏ أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله‏:‏ ‏{‏سَلاسلا‏}‏ بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمَدّ والإِمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏
‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏
هذا استئناف بياني ناشئ عن الاستئناف الذي قبله من قوله‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 4‏]‏ الخ‏.‏ فإن من عرف ما أعد للكَفُور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب‏.‏
وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن ‏{‏شاكراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ مذكور قبل ‏{‏كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإِطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريباً للموصوف من المشاهدة المحسوسة‏.‏
وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنون خيراً منهم في عالم الخلود، ولإِفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين‏.‏
و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ هم الشاكرون، عُبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم‏.‏
و ‏{‏الأَبرار‏}‏‏:‏ جمع بَر بفتح الباء، وجمعُ بَار أيضاً مثل شاهد وأشهاد، والبار أو البَرّ المكثر من البِرّ بكسر الباء وهو فعل الخير، ولذلك كان البَرّ من أوصاف الله تعالى قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البَر الرحيم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 28‏]‏‏.‏
ووصف بَرَ أقوى من بارّ في الاتصاف بالبرِ، ولذلك يقال‏:‏ الله بَر، ولم يُقل‏:‏ الله بَار‏.‏
ويجمع برّ على بَرَرة‏.‏ ووقع في «مفردات الراغب»‏:‏ أن بررة أبلغ من أبرار‏.‏
وابتدئ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها‏.‏
والكأس‏:‏ بالهمزة الإِناء المجعول للخمر فلا يسمى كأساً إلاّ إذا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأساً على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريباً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسقون فيها كأساً كان مزاجُها زنجبيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 17‏]‏ فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء وإفراد ‏{‏كأس‏}‏ للنوعية، ويجوز أن تراد الخمر فتكون ‏{‏مِن‏}‏ للتبعيض‏.‏
وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه‏.‏
والمزاج‏:‏ بكسر الميم ما يمزج به غيرُه، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيراً‏.‏
وضمير ‏{‏مزاجها‏}‏ عائد إلى ‏{‏كأس‏}‏‏.‏
فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإِضافة لأدنى ملابسة، أي مزاج ما فيها، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏
والكافور‏:‏ «زيت يستخرج من شجرة تشبه الدِفْلَى تنبت في بلاد الصين وجَاوة يتكون فيها إذا طالت مدتُها نحواً من مائتي سنة فيُغلَّى حَطَبها ويستخرج منه زيت يسمى الكَافور‏.‏ وهو ثخِن قد يتصلب فيصير كالزُبْد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذاً يتخمر فيصير مسكراً‏.‏
والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش‏.‏
فقيل إن المزاج هنا مراد به الماء والإِخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا أن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة‏:‏
وتسقى إذا ما شئت غير مُصرَّد *** بزوراء في حافاتها المسك كارع
ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة‏:‏ ‏{‏يُسْقَوْن من رحيق مختوم ختامه مسك‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان، كما قال امرؤ القيس‏:‏
صُبِّحْنَ سلافاً من رحيق مُفلفل ***
ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أو بزيته فيكون المزاج في الآية على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور‏.‏
ومن المفسرين من قال‏:‏ إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه ‏{‏عيناً يشرب بها عباد الله‏}‏ وستعلم حق المراد منه‏.‏
وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ في جملة الصفة بقوله‏:‏ ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏ لإِفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه‏.‏
وانتصب ‏{‏عيناً‏}‏ على البدل من ‏{‏كافوراً‏}‏ أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله‏:‏ ‏{‏وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وعدي فعل ‏{‏يشرب‏}‏ بالباء وهي باء الإِلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم‏.‏ فالتقدير‏:‏ عيْناً يشرب عباد الله خمرهم بها، أي مصحوباً بمائها، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشرب بها عباد الله‏}‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك، وعَدّ في كتبه ذلك من معاني الباء ونُسب إلى الكوفيين‏.‏
و ‏{‏عبادُ الله‏}‏ مراد بهم‏:‏ الأبرار‏.‏ وهو إظهار في مقام الإِضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافةَ تشريف‏.‏
والتفجير‏:‏ فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حدّ ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعاً وهذا من الاستعارة‏.‏
وأكد فعل ‏{‏يفجرونها تفجيراً‏}‏ ترشيحاً للاستعارة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏
اعتراض بين جملة ‏{‏يَشْربون من كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ الخ وبين جملة ‏{‏ويطاف عليهم بآنية من فضة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 15‏]‏ الخ‏.‏ وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفسه السامع المغتبِط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة‏.‏ فيهتم بأن يفعل مثل ما فعلوا، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإِيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا‏.‏
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات، بعضُه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة، فلا حاجة إلى قول الفراء‏:‏ إن في الكلام إضماراً وتقديره‏:‏ كانوا يُوفُون بالنذر‏.‏
وليست الجملة حالاً من ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالاً لكانت قيداً ل ‏{‏يشربون‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا‏.‏
والوفاء‏:‏ أداء ما وجب على المؤدي وافياً دون نقص ولا تقصير فيه‏.‏
والنذر‏:‏ ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نِيته، قال عنترة‏:‏
والنَّاذِرَيْننِ إذا لم ألْقهما دَمي ***
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإِيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏‏.‏
ويجوز أن يراد ‏{‏بالنذر‏}‏ ما ينذرونه من فعل الخير المتقرَّب به إلى الله، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم‏.‏
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإِيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجباً الثناء عليهم‏.‏
والتعريف في ‏(‏النذر‏)‏ تعريف الجنس فهو يعم كل نذر‏.‏
وعطف على ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً‏}‏ لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال‏.‏
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوْف بزمان الأشياء المخوفة‏.‏
وانتصب ‏{‏يوماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏يخافون‏}‏ ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم، وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون‏.‏
ووُصِف اليومُ بأن له شرّاً مستطيراً وصفاً مشعراً بعلة خوفهم إياه‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يُفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب‏.‏
والشر‏:‏ العذاب والجزاء بالسوء‏.‏
والمستطير‏:‏ هو اسم فاعل من استطار القاصر، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر‏.‏ والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيهاً له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم‏:‏ الفجر المستطير، وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه في الأفق ويقال‏:‏ استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق‏.‏
وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلاّ فإن شر ذلك اليوم ليس واقعاً في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه‏.‏
وصيغة ‏{‏يخافون‏}‏ دالة على تجدد خوفهم شّر ذلك اليوم على نحو قوله‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏
‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏
خصص الإِطَعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله ‏{‏على حبه‏}‏‏.‏
والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل ‏{‏يطعمون‏}‏ توطئةٌ ليبنى عليه الحال وهو ‏{‏على حبه‏}‏ فإنه لو قيل‏:‏ ويطعمون مسكيناً ويتيماً وأسيراً لفات ما في قوله ‏{‏على حبه‏}‏ من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد ‏{‏يطعمون‏}‏ يفيد تأكيداً مع استحضار هيئة الإِطعام حتى كأنَّ السامع يشاهد الهيئة‏.‏
و ‏{‏على حبه‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يطعمون‏}‏‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏، وضمير ‏{‏حبه‏}‏ راجع للطعام، أي يطعمون الطعام مصحوباً بحبه، أي مصاحباً لحبهم إياه وحب الطعام هو اشتهاؤه‏.‏
فالمعنى‏:‏ أنهم يطعمون طعاماً هم محتاجون إليه‏.‏
ومجيء ‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ ناشئ عن تمَجز في الاستعلاء، وصورته أن مجرور حرف ‏{‏على‏}‏ في مثله أفضل من معمول متعلقها فنزل منزلة المعتلي عليه‏.‏
والمسكين‏:‏ المحتاج‏.‏ واليتيم‏:‏ فاقد الأب وهو مظنة الحاجة لأن أحوال العرب كانت قائمة على اكتساب الأب للعائلة بكدحه فإذا فُقد الأب تعرضت العائلة للخصاصة‏.‏
وأما الأسير فإذ قد كانت السورة كلها مكية قبل عِزّة المسلمين، فالمراد بالأسير العبد من المسلمين إذ كان المشركون قد أجاعوا عبيدهم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيَّبوا بعضهم إذا أضجرهُم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة‏.‏
والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير ولذلك يقال له العاني أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فُكّوا العاني ‏"‏ وقال عن النساء «إنهن عَواننٍ عندكم» على طريقة التشبيه وقال سحيم عبد بني الحسحاس‏:‏
رأتْ قَتَباً رَثّاً وسَحْق عِمامةٍ *** وأسْودَ هِمّاً يُنكِرُ الناسُ عَانِيا
يريد عبداً‏.‏ وذكر القرطبي عن الثعلبي‏:‏ قال أبو سعيد الخدري «قرأ رسول الله‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطعام على حُبّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً‏}‏ فقال‏:‏ المسكينُ الفقير، واليتيم‏:‏ الذي لا أب له، والأسير‏:‏ المملوك والمسجون»‏.‏ ولم أقف على سند هذا الحديث‏.‏
وبهذا تعلم أن لا شاهد في هذه الآية لجعل السورة نزلت بالمدينة وفي الأسارى الذين كانوا في أسر المسلمين في غزوة بدر‏.‏
وجُملة ‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏ إلى آخرها مقول قول محذوف تقديره‏:‏ يقولون لهم، أي للذين يُطعمونهم فهو في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُطعمون‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏}‏ مبيِّنة لمضمون جملة ‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنا نخاف من ربنا‏}‏ إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة ‏{‏لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏}‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله‏.‏
فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم‏.‏ وعن مجاهد أنه قال‏:‏ ما تكلموا به ولكن عَلِمه الله فأثَنى به عليهم‏.‏
فالقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ قصر قلب مبني على تنزيل المطعَمين منزلة من يظن أن من أطعمهم يمنّ عليهم ويريد منهم الجزاء والشكر بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية‏.‏ والمراد بالجزاء‏:‏ ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة، وبالشكور‏:‏ ذكرهم بالمزية‏.‏
والشُكور‏:‏ مصدر بوزن الفُعول كالقُعود والجلوس، وإنما اعتبر بوزن الفُعول الذي هو مصدر فعَل اللازم لأن فعل الشكر لا يتعدى للمشكور بنفسه غالباً بل باللام يقال‏:‏ شكرت لك قال تعالى‏:‏ ‏{‏واشكروا لي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً‏}‏ فهو مقول لقول يقولونه في نفوسهم أو ينطق به بعضهم مع بعض وهو حال من ضمير ‏{‏يخافون‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 7‏]‏ أي يخافون ذلك اليوم في نفوسهم قائلين‏:‏ ‏{‏إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا‏}‏، فحكي وقولهم‏:‏ ‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إنا نخاف‏}‏ الخ‏.‏ على طريقة اللف والنشر المعكوس والداعي إلى عكس النشر مراعاة حسن تنسيق النظم ليكون الانتقال من ذكر الإِطعام إلى ما يقولونه للمطعمين، والانتقال من ذكر خوف يوم الحساب إلى بشارتهم بوقاية الله إياهم من شر ذلك اليوم وما يلقونه فيه من النضرة والسرور والنعيم‏.‏
فيجوز أن يكون ‏{‏من ربنا‏}‏ ظرفاً مستقراً وحرف ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية وهو حال من ‏{‏يوماً‏}‏ قُدم عليه، أي نخاف يوماً عبوساً قمطريراً حال كونه من أيّام ربنا، أي من أيام تصاريفه‏.‏
ويجوز أن تكون ‏{‏مِن‏}‏ تجريدية كقولك‏:‏ لي من فلان صديق حميم‏.‏ ويكون ‏{‏يوماً‏}‏ منصوباً على الظرفية وتنوينه للتعظيم، أي نخافه في يوم شديد‏.‏
و ‏{‏عَبوساً‏}‏‏:‏ منصوباً على المفعول لفعل ‏{‏نخاف‏}‏، أي نخاف غضبان شديدَ الغضب هُو ربنا، فيكون في التجريد تقوية للخوف إذ هو كخوف من شيْئيننِ ‏(‏وتلك نكتة التجريد‏)‏، أو يكون ‏{‏عبوساً‏}‏ حالاً ‏{‏من ربنا‏}‏‏.‏
ويجوز أن تجعل ‏{‏مِن‏}‏ لتعدية فعل ‏{‏نخاف‏}‏ كما عدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف مِن موصصٍ جَنفَاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏‏.‏ وينتصب ‏{‏يوماً‏}‏ على المفعول به لفعل ‏{‏نخاف‏}‏ فصار لفعل ‏{‏نخاف‏}‏ معمولاننِ‏.‏ و‏{‏عبوساً‏}‏ صفة ل ‏{‏يوماً‏}‏، والمعنى‏:‏ نخاف عذاب يوم هذه صفته، ففيه تأكيد الخوف بتكرير متعلِّقه ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه‏.‏
والعبوس‏:‏ صفة مشبهة لمن هو شديد العبس، أي كُلُوحُ الوجه وعدم انطلاقه، ووصف اليوم بالعبوس على معنى الاستعارة‏.‏ شُبه اليوم الذي تحدث فيه حوادث تَسُوءهم برجل يخالطهم يكون شرس الأخلاق عبوساً في معاملته‏.‏
والقمطرير‏:‏ الشديد الصعب من كل شيء‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ القمطرير المقبض بين عينيه مشتق من قمطر القاصر إذا اجتمع، أو قمطر المتعدي إذا شد القربة بوكاء ونحوه، ومنه سمي السفط الذي توضع فيه الكتب قمطرا وهو كالمحفظة‏.‏ وميم قمطرير أصلية فوزنه فعلليل مثل خَنْدَرِيس وزَنْجبيل، يقال‏:‏ قمطر للشر، إذا تهيأ له وجمع نفسه‏.‏
والجمهور جعلوا ‏{‏قمطريراً‏}‏ وصف ‏{‏يوماً‏}‏ ومنهم من جعلوه وصف ‏{‏عبوساً‏}‏ أي شديد العبوس‏.‏
وهذه الآية تعمّ جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها، وقد تلقفها القصاصون والدعاة فوضعوا لها قصصاً مختلفة وجاؤوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها‏.‏ وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في «نوادر الأصول»‏:‏ هذا حديث مروّق مزيف وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون‏.‏
وقيل نزلت في مُطعم بن ورقاء الأنصاري، وقيل في رجل غيره من الأنصار، وقد استوفى ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أهل لأن ينزل القرآن فيهم إلاّ أن هذه الأخبار ضعيفة أو موضوعة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏
‏{‏فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏‏}‏
تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏يُوفُون بالنذر إلى قمطريراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 7 10‏]‏‏.‏
وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشُكور، وهذا برزخ للتخلص إلى عَود الكلام على حسن جزائهم أن الله وقاهم شرّ ذلك اليوم وهو الشر المستطير المذكور آنفاً، وقاهم إياه جزاءً على خوفهم إياه وأنه لقاهم نضرة وسروراً جزاء على ما فعلوا من خير‏.‏
وأُدمج في ذلك قوله‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏ الجامع لأحوال التقوى والعمل الصالح كله لأن جميعه لا يخلو عن تحمل النفس لترك محبوب أو فعل ما فيه كلفة، ومن ذلك إطعام الطعام على حبه‏.‏
و ‏{‏لقَّاهم‏}‏ معناه‏:‏ جعلهم يَلْقَون نضرة وسروراً، أي جعل لهم نضرة وهي حسن البشَرة، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ ناضرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22‏]‏ فمُثل إلقاء النضرة على وجوههم بزجّ أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل‏.‏
وضمير الغائبةِ و‏{‏نضرة‏}‏ مفعولا ‏(‏لَقى‏)‏ من باب كَسَا‏.‏
وبين ‏(‏وَقَاهم‏)‏ و‏{‏لَقَّاهم‏}‏ الجناس المحرَّف‏.‏
وجملة ‏{‏وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً‏}‏، عطف على جملة ‏{‏فوقاهم‏}‏ وجملة ‏{‏ولقاهم‏}‏ لتماثل الجمل الثلاث في الفعلية والمُضيّ وهما محسنان من محسنات الوصل‏.‏
والحرير‏:‏ اسم لخيوط من مفرزات دودة مخصوصة، وتقدم الكلام عليه في سورة فاطر‏.‏
وكان الجزاء برفاهية العيش إذ جعلهم في أحسن المساكن وهو الجنة، وكساهم أحسن الملابس وهو الحرير الذي لا يلبسه إلاّ أهل فرط اليسار، فجمع لهم حسن الظرف الخارج وحسن الظرف المباشر وهو اللباس‏.‏
والمراد بالحرير هنا‏:‏ ما ينسج منه‏.‏
و ‏{‏متكئين‏}‏‏:‏ حال من ضمير الجمع في ‏{‏جزاهم‏}‏، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك‏.‏
والاتكاء‏:‏ جَلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أمَّا أنا فلا آكل متكئاً ‏"‏ وتقدم ذلك في سورة يوسف ‏(‏31‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعْتَدَتْ لَهُن مُتَّكَئاً‏}‏
والأرائك‏}‏‏:‏ جمع أريكة بوزن سفينة‏.‏ والأريكة‏:‏ سرير عليه وسادة معها ستر وهو حَجَلتُه، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم‏:‏ كِلَّة تنصب فوق السرير لتقي الحر والشمس، ولا يسمى السرير أريكة إلاّ إذا كان معه حَجَلة‏.‏
وقيل‏:‏ كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حَجَلة، وفي «الإِتقان» عن ابن الجوزي‏:‏ أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في «جمع المعرب في القرآن»‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً‏}‏ حال ثانية من ضمير الغائب في ‏{‏جزاهم‏}‏ أو صفة ‏{‏جنة‏}‏‏.‏
والمراد بالشمس‏:‏ حرّ أشعتها، فنفي رؤية الشمس في قوله‏:‏ ‏{‏لا يرون فيها شمساً‏}‏ فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حرّ شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله‏:‏
ولا تَرى الضب بها ينجَحِرْ ***
أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره‏.‏
والزمهرير‏:‏ اسم للبرْد القوي في لغة الحجاز، والزمهرير‏:‏ اسم البرد‏.‏
والمعنى‏:‏ أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال‏.‏ وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع «زوجي كلَيْللِ تِهامهْ، لا حرَّ ولا قُرّ ولا مخافةَ ولا سآمهْ»‏.‏
وقال ثعلب‏:‏ الزمهرير اسم القمر في لغة طيء، وأنشد‏:‏
وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهريرُ ما زَهَر
والمعنى على هذا‏:‏ أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها‏.‏ وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد‏.‏
ومن الناس من يقول‏:‏ المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وإن في الكلام احتباكاً، والتقديرُ‏:‏ لا يرون فيها شمساً ولا قَمراً ولا حَرّاً ولا زمهريراً وجعلوه مثالاً للاحتباك في المحسنات البديعية، ولعل مراده‏:‏ أن المعنى أن نورها معتدل وهواءَها معتدل‏.‏
‏{‏ودانية عليهم ظلالها‏}‏ انتصب ‏{‏دانية‏}‏ عطفاً على ‏{‏متكئين‏}‏ لأن هذا حال سببي من أحوال المتكئين، أي ظلال شجر الجنة قريبَة منهم‏.‏ و‏{‏ظلالها‏}‏ فاعل ‏{‏دانية‏}‏ وضمير ‏{‏ظلالها‏}‏ عائد إلى ‏{‏جنة‏}‏‏.‏
ودنو الظلال‏:‏ قربها منهم وإذ لم يعهد وصف الظل بالقرب يظهر أن دنوّ الظلال كناية عن تدلّي الأدواح التي من شأنها أن تظلل الجنات في معتاد الدنيا ولكن الجنة لا شمس فيها فيستظلَّ من حرّها، فتعين أن تركيب ‏{‏دانيةً عليهم ظلالُها‏}‏ مثَل يطلق على تدلِّي أفنان الجنة لأن الظل المظلل للشخص لا يتفاوت بدنوّ ولا بعد، وقد يكون ‏{‏ظلالها‏}‏ مجازاً مرسلاً عن الأفنان بعلاقة اللزوم‏.‏
والمعنى‏:‏ أن أدواح الجنة قريبة من مجالسهم وذلك مما يزيدها بهجة وحسناً وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُطُوفها دانية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
ولذلك عطف عليه جملة ‏{‏وذُلّلت قطوفها تذليلاً‏}‏‏.‏ أي سخرت لهم قطوف تلك الأدواح وسهلت لهم بحيث لا التواء فيها ولا صلابة تتعب قاطفها ولا يتمطَّون إليها بل يجتنونها بأسهللِ تناول‏.‏
فاستعير التذليل للتيسير كما يقال‏:‏ فرس ذَلول‏:‏ أي مِطواع لراكبه، وبقرة ذَلول، أي ممرنة على العمل، وتقدم في سورة البقرة‏.‏
والقُطوف‏:‏ جمع قِطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو العنقود من التمر أو العنب، سمّي قِطفاً بصيغة من صيغ المفعول مثل ذِبح، لأنه يقصد قَطفه فإطلاق القطف عليه مجاز باعتبار المآل شاع في الكلام‏.‏ وضمير ‏{‏قطوفها‏}‏ عائد إلى ‏{‏جنة‏}‏ أو إلى ‏{‏ظلالها‏}‏ باعتبار الظلال كناية عن الأشجار‏.‏
و ‏{‏تذليلاً‏}‏ مصدر مؤكّد لذلك، أي تذليلاً شديداً منتهياً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏
‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏يَشربون من كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ الخ كما اقتضاه التناسب بين جملة ‏{‏يشربون‏}‏ وجملة ‏{‏يطاف عليهم‏}‏ في الفعلية والمضارعية، وذلك من أحسن أحوال الوصل، عاد الكلام إلى صفة مجالس شرابهم‏.‏
وهذه الجملة بيان لما أجمل في جملة ‏{‏إن الأبرار يشربون من كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏، وإنما عطفت عليها لما فيها من مغايرة مع الجملة المعطوف عليها من صفة آنية الشراب، فلهذه المناسبة أعقب ذكر مجالس أهل الجنة ومُتكآتِهم، بذكر ما يستتبعه مما تعارفه أهل الدنيا من أحوال أهل البذخ والترف واللذات بشرب الخمر إذ يُدير عليهم آنية الخمر سقاةٌ‏.‏ وإذ قد كان ذلك معروفاً لم تكن حاجة إلى ذكر فاعل الطواف فبُني للنائب‏.‏
وهذا وعد لهم بإعطاء متمناهم في الدنيا مع مَزيد عليه من نعيم الجنة «ما لا عيْن رأت ولا خَطَر على قلب بَشَر»‏.‏
والطواف‏:‏ مشي مكرر حولَ شيءٍ أو بين أشياء، فلما كان أهل المتكأ جماعة كان دوران السقاء بهم طوافاً‏.‏ وقد سمَّوا سقي الخمر‏:‏ إدَارةَ الخمرِ، أو إدارة الكأس‏.‏ والسَّاقي‏:‏ مدير الكأس، أو مدير الجام أو نحو ذلك‏.‏
والآنية‏:‏ جمع إِناء ممدوداً بوزن أفْعِلة مثل كساء وأكسية ووِعاء وأوعية اجتمع في أول الجمع همزتان مزيدة وأصلية فخففت ثانيتهمَا ألفاً‏.‏
والإِناء‏:‏ اسم لكل وعاء يرتفق له، وقال الراغب‏:‏ ما يوضع فيه الشيء اه فيظهر أنه يطلق على كل وعاء يقصد للاستعمال والمداولة للأطعمة والأشربة ونحوهما سواء كان من خشب أو معدن أو فَخار أو أديم أو زجاج، يوضع فيه ما يُشرب أو ما يؤكل، أو يُطبخ فيه، والظاهر أنه لا يطلق على ما يجعل للخزن فليست القِربة بإناء ولا الباطيةُ بإناء، والكأسُ إناء والكوزُ إناء والإِبريق إناء والصحفة إناء‏.‏
والمراد هنا‏:‏ آنية مجالس شرابهم كما يدل عليه ذكر الأكواب وذلك في عموم الآنية وما يوضع معه من نُقْل أو شِواء أو نحو ذلك كما قال تعالى في آية الزخرف ‏(‏71‏)‏ ‏{‏يطاف عليهم بصِحاف من ذهب وأكواب‏}‏
وتشمل الآنية الكؤوسَ‏.‏ وذكر الآنِية بعد كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إن الأبرار يشربون من كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ من ذكر العام بعد الخاص إلاّ إذا أريد بالكأس الخمر‏.‏
والأكواب‏:‏ جمع كوب بضم الكاف بعده واو ساكنة‏.‏ والكوب‏:‏ كوز لا عروة له ولا خرطوم له، وتقدم في سورة الزخرف‏.‏
وعطف ‏{‏أكواب‏}‏ على ‏(‏آنية‏)‏ من عطف الخاص على العام لأن الأكواب تحمل فيها الخمر لإِعادة ملءِ الكؤوس‏.‏ ووصفت هنا بأنها من فضة، أي تأتيهم آنيتهم من فضة في بعض الأوقات ومن ذهب في أوقات أخرى كما دلّ عليه قوله في سورة الزخرف ‏(‏71‏)‏ ‏{‏يطاف عليهم بصحاف من ذَهب وأكواب‏}‏ لأن للذهب حسناً وللفضة حسناً فجعلت آنيتهم من المعدنين النفيسين لئلا يفوتهم ما في كل من الحسن والجمال، أو يطاف عليهم بآنية من فضة وآنية من ذهب متنوعة متزاوجة لأن ذلك أبهج منظراً مثل ما قال مرة
‏{‏وحلّوا أساور من فضة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏، ومرة ‏{‏يُحَلّون فيها من أساور من ذهب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏، وذلك لإِدخال المسرَّة على أنفسهم بحسن المناظر فإنهم كانوا يتمنونها في الدنيا لِعزة وجودها أو وجود الكثير منها، وأوثر ذكر آنية الفضة هنا لمناسبة تشبيهها بالقوارير في البياض‏.‏
والقوارير‏:‏ جمع قارورة، وأصل القارورة إناء شبه كوز، قيل‏:‏ لا تسمى قارورة إلاّ إذا كانت من زجاج، وقيل مطلقاً وهو الذي ابتدأ به صاحب «القاموس»‏.‏
وسميت قارورة اشتقاقاً من القَرار وهو المكث في المكان وهذا وزن غريب‏.‏
والغالب أن اسم القارورة للإِناء من الزجاج، وقد يطلق على ما كان من زجاج وإن لم يكن إناء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَال إنه صرح ممرّد من قوارير‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ وقد فسر قوله‏:‏ ‏{‏قواريراً‏}‏ في هذه الآية بأنها شبيهة بالقوارير في صفاء اللون والرقة حتى كأنها تشفّ عما فيها‏.‏
والتنافس في رقة آنية الخمر معروف عند شاربيها قال الأعشى‏:‏
تريك القذى من دونها وهي دونه *** إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
وفعل ‏{‏كانت‏}‏ هنا تشبيه بليغ، والمعنى‏:‏ إنها مثل القوارير في شفيفها، وقرينة ذلك قوله‏:‏ ‏{‏من فضة‏}‏، أي هي من جنس الفضة في لون القوارير لأن قوله ‏{‏من فضة‏}‏ حقيقة فإنه قال قبله ‏{‏بآنية من فضة‏}‏‏.‏
ولفظ ‏{‏قواريرا‏}‏ الثاني، يجوز أن يكون تأكيداً لفظياً لنظيره لزيادة تحقيق أن لها رقة الزجاح فيكون الوقف على ‏{‏قواريرا‏}‏ الأول‏.‏
ويجوز أن يكون تكريراً لإِفادة التصنيف فإن حسن التنسيق في آنية الشراب من مكملات رونق مجلسه، فيكون التكرير مثل ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمَلكُ صَفّاً صفّاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ وقول الناس‏:‏ قرأت الكتاب باباً باباً فيكون الوقف على ‏{‏قواريراً‏}‏ الثاني‏.‏
وكتب في المصحف ‏{‏قواريرا قواريرا‏}‏ بألف في آخر كلتا الكلمتين التي هي علامة تنوين‏.‏
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ‏{‏قواريرا‏}‏ الأول والثاني منونين وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقةِ من قوله ‏{‏كافوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ إلى قوله ‏{‏تقديرا‏}‏ وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلاسلا وأغلالاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب ‏{‏قوايراً‏}‏ الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي‏.‏ وقرآ ‏{‏قواريرا‏}‏ الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون‏.‏
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة‏.‏
والقراءات روايةٌ متواترة لا يناكدها رسم المصحف فلعلّ الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلاّ قراءة أهل المدينة‏.‏
وحدّث خلف عن يحيى بن آدم عن ابن إدريس قال‏:‏ في المصاحف الأول ثبتَ ‏{‏قواريرا‏}‏ الأول بالألف والثاني بغير ألف، يعني المصاحف التي في الكوفة فإن عبد الله ابن إدريس كوفي‏.‏
وقال أبو عبيد‏:‏ لرأيتُ في مصحف عثمان ‏{‏قواريرا‏}‏ الأول بالألف وكان الثاني مكتوباً بالألف فحُكَّت فرأيتُ أثرها هناك بيناً اه‏.‏ وهذا كلام لا يفيد إذ لو صحّ لما كان يُعرف من الذي كتَبه بالألف، ولا مَن الذي مَحا الألف ولا متى كان ذلك فيما بين زمن كتابة المصاحف وزمن أبي عبيد، ولا يُدرى ماذا عنى بمصحف عثمان أهو مصحفه الذي اختص به أم هو مصحف من المصاحف التي نسخت في خلافته ووزعها على الأمصار‏؟‏‏.‏
وقرأ يعقوب بغير تنوين فيهما في الوصل‏.‏
وأما في الوقف فحمزة وقف عليهما بدون ألف‏.‏ وهشام عن ابن عامر وقفا عليهما بالألف على أنه صلة للفتحة، أي إشباع للفتحة ووقف أبو عمرو وحفص وابن ذكوان عن ابن عامر ورويس عن يعقوب على الأول بالألف وعلى الثاني بدون ألف ووجهه ما وجهت به قراءة ابن كثير وخلف‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏قدّروها تقديراً‏}‏ يجوز أن يكون ضمير الجمع عائداً إلى ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ أو ‏{‏عباد الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏ الذي عادت إليه الضمائر المتقدمة من قوله ‏{‏يفجرونها‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏ و‏{‏يوفون‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 7‏]‏ إلى آخر الضمائر فيكون معنى التقدير رغبتَهم أن تجيء على وفق ما يشتهون‏.‏
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى نائب الفاعل المحذوف المفهوم من بناء ‏{‏يطاف‏}‏ للنائب، أي الطائفون عليهم بها قدَّروا الآنية والأكوابَ، أي قدروا ما فيها من الشراب على حسب ما يطلبه كل شارب منهم ومآله إلى معنى الاحتمال الأول‏.‏ وكان مما يعد في العادة من حِذق الساقي أن يعطِيَ كلَّ أحد من الشَّرْب ما يناسب رغبته‏.‏
و ‏{‏تقديراً‏}‏ مفعول مطلق مؤكد لعامله للدلالة على وفاء التقدير وعدم تجاوزه المطلوب ولا تقصيره عنه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏
‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏‏}‏
أتبع وصف الآنية ومحاسنها بوصف الشراب الذي يحويه وطِيبه، فالكأس كأس الخمر وهي من جملة عموم الآنية المذكورة فيما تقدم ولا تسمى آنية الخمر كأساً إلاّ إذا كان فيها خمر فكون الخمر فيها هو مصحح تسميتها كأساً، ولذلك حسن تعدية فعل السقْي إلى الكأس لأن مفهوم الكأس يتقوم بما في الإِناء من الخمر، ومثل هذا قول الأعشى‏:‏
وكأسسٍ شربتُ على لذة *** وأُخرى تداويتُ منها بها
يريد‏:‏ وخمر شربتُ‏.‏
والقول في إطلاق الكأس على الإِناء أو على ما فيه كالقول في نظيره المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏‏.‏
ومعنى الآية أن هذه سقْية أخرى، أي مرة يشربون من كأس مزاجها الكافور ومرة يسقون كأساً مزاجها الزنجبيل‏.‏
وضمير ‏{‏فيها‏}‏ للجنة من قوله‏:‏ ‏{‏جنة وحريراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وزنجبيل‏:‏ كلمة معربة وأصلها بالكاف الأعجمية عوض الجيم‏.‏ قال الجواليقي والثعالبي‏:‏ هي فارسية، وهو اسم لجذور مثل جذور السُّعْد بضم السين وسكون العين تكون في الأرض كالجَزَر الدقيق واللفت الدقيق لونها إلى البياض لها نبات له زهر، وهي ذات رائحة عِطرية طيبة وطعمها شبيه بطعم الفُلفل، وهو ينبت ببلاد الصين والسند وعُمان والشحر، وهو أصناف أحسنها ما ينبت ببلاد الصين، ويدخل في الأدوية والطبخ كالأفاويه ورائحته بهارية وطعمه حريف‏.‏ وهو منبه ويستعمل منقوعاً في الماء ومربى بالسّكر‏.‏
وقد عرفه العرب وذكره شعراء العرب في طيب الرائحة‏.‏
أي يمزجون الخمر بالماء المنقوع فيه الزنجبيل لطيب رائحته وحسن طعمه‏.‏
وانتصب ‏{‏عيناً‏}‏ على البدل من ‏{‏زنجبيلاً‏}‏ كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏
ومعنى كون الزنجبيل عيناً‏:‏ أن منقوعه أو الشراب المستخرج منه كثير كالعين على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنهار من لبن لم يتغير طعمه‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏، أي هو كثير جداً وكان يعرف في الدنيا بالعزة‏.‏
و ‏(‏سلسبيل‏)‏‏:‏ وصف قيل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين فيقال‏:‏ ماء سلسل، أي عذب بارد‏.‏ قيل‏:‏ زيدت فيه الباء والياء ‏(‏أي زيدتا في أصل الوضع على غير قياس‏)‏‏.‏
قال التبريزي في «شرح الحماسة» في قول البعيث بن حُرَيْث‏:‏
خَيالٌ لأمِّ السَّلْسبيل ودُونَها *** مسيرة شهر للبريد المذبذب
قال أبو العلاء‏:‏ السلسبيل الماء السهل المَساغ‏.‏ وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسة والسَّبَالة، يقال‏:‏ سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، رُكب من كلمتي السلاسة والسبيل لإِرادة سهولة شربه ووفرة جريه‏.‏ وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس باشتقاق تصريفي‏.‏
فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ لم أسمع هذه اللفظة إلاّ في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي، وفي «حاشية الهمذاني على الكشاف» نسبة بيت البعث المذكور آنفاً مع بيتين بعده إلى أمية بن أبي الصلت وهو عزو غريب لم يقله غيره‏.‏
ومعنى ‏{‏تسمى‏}‏ على هذا الوجه، أنها توصف بهذا الوصف حتى صار كالعلم لها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيُسَمُّونَ الملائكة تسميةَ الأنثى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 27‏]‏ أي يصفونهم بأنهم إناث، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سَمِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ أي لا مثيل له‏.‏ فليس المراد أنه علَم‏.‏
ومن المفسرين من جعل التسمية على ظاهرها وجعل ‏{‏سلسبيلاً‏}‏ علماً على هذه العين، وهو أنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسمَّى‏.‏‏}‏ وعلى قول ابن الأعرابي والجمهور‏:‏ لا إشكال في تنوين ‏{‏سلسبيلاً‏}‏‏.‏ وأما الجواليقي‏:‏ إنه أعجمي سمّي به، يكون تنوينه للمزاوجة مثل تنوين ‏{‏سلاسلا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وهذا الوصف ينحلّ في السمع إلى كلمتين‏:‏ سَل، سَبيلا، أي اطلُب طريقاً‏.‏ وقد فسره بذلك بعض المفسرين وذكر أنه جُعل عَلَماً لهذه العين من قبيل العلَم المنقول عن جملة مثل‏:‏ تَأبط شراً، وذَرَّى حَبّاً‏.‏ وفي «الكشاف» أن هذا تكلف وابتداع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏
هذا طواف آخر غير طواف السُقاة المذكورِ آنفاً بقوله‏:‏ ‏{‏ويطاف عليهم بآنية من فضة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 15‏]‏ الخ فهذا طواف لأداء الخِدمة فيشمل طواف السقاة وغيرهم‏.‏
و ‏{‏وِلْدَان‏}‏‏:‏ جمع وليد وأصل وليد فعيل بمعنى مفعول ويطلق الوليد على الصبي مجازاً مشهوراً بعلاقة ما كان، لقصد تقريب عهده بالولادة، وأحسن من يتخذ للخدمة الوِلدان لأنهم أخف حركةً وأسرع مشياً ولأن المخدوم لا يتحرج إذا أمرهم أو نهاهم‏.‏
ووصفوا بأنهم ‏{‏مخلَّدون‏}‏ للاحتراس مما قد يوهمه اشتقاق ‏{‏وِلدان‏}‏ من أنهم يشبون ويكتهلون، أي لا تتغير صفاتهم فهم وِلدان دَوْماً وإلاّ فإن خلود الذوات في الجنة معلوم فما كان ذكره إلاّ لأنه تخليد خاص‏.‏
وقال أبو عبيدة ‏{‏مخلَّدون‏}‏‏:‏ محلَّون بالخِلدَة بوزن قِرَدَة‏.‏ واحدها خُلْد كقُفل وهو اسم للقُرط في لغة حِمير‏.‏
وشُبهوا باللؤلؤ المنثور تشبيهاً مقيّداً فيه المشبه بحال خاص لأنهم شبهوا به في حسن المنظر مع التفرق‏.‏
وتركيب ‏{‏إذا رأيتهم حسبتهم‏}‏ مفيد للتشبيه المرادِ به التشابُهُ والخطاب في ‏{‏رأيتَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏ خطاب لغَير معين، أي إذا رآه الرائِي‏.‏
والقول في معنى الطواف تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُطاف عليهم بآنية من فضة‏}‏ الآية ‏[‏الإنسان‏:‏ 15‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏
الخطاب لغير معين‏.‏ و‏{‏ثَمّ‏}‏ إشارة إلى المكان ولا يكون إلاّ ظرفاً والمشار إليه هنا ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏وجزاهم بما صبروا جَنة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وفعل ‏{‏رأيتَ‏}‏ الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلُّقِها بمرئي، أي إذا وجهت نظرك، و‏{‏رأيتَ‏}‏ الثاني جواب ‏{‏إذا‏}‏، أي إذا فتحت عينك ترى نعيماً‏.‏
والتقييد ب ‏{‏إذا‏}‏ أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى‏:‏ لا ترى إلاّ نعيماً، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏ومُلْكاً كبيراً‏}‏ تشبيه بليغ، أي مثل أحوال المُلك الكبير المتنعِّم ربه‏.‏
وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لِمدارك العقول‏.‏
والكبير مستعار للعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏
‏{‏عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏‏}‏
هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ، فهذا مرتبط بقوله ‏{‏ومُلكاً كبيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر ‏{‏عَاليهم‏}‏ بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة ‏{‏رأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏، ف ‏{‏عاليهم‏}‏ مبتدأ و‏{‏ثياب سندس‏}‏ فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة‏:‏ ‏{‏رأيت نعيماً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وقرأ بقية العشرة ‏{‏عَاليَهم‏}‏ بفتح التحتية على أنه حال مفرد ل ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏، أي تلك حالة أهل الملك الكبير‏.‏
وإضافة ‏{‏ثياب‏}‏ إلى ‏{‏سندس‏}‏ بيانية مثل‏:‏ خَاتَم ذَهَببِ، وثَوْببِ خَزَ، أي منه‏.‏
والسندس‏:‏ الديباج الرقيق‏.‏
والإستبرق‏:‏ الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏31‏)‏ وهما معرَّبان‏.‏
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله ‏(‏سندون‏)‏ بنون في آخره، قيل‏:‏ إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر، وقيل له‏:‏ إن اسمه ‏(‏سندون‏)‏ فصيره للغة اليونان سندوس ‏(‏لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين‏)‏ وصيّره العرب سُندساً‏.‏ وفي اللسان‏}‏‏:‏ أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى ‏(‏كذا ضبطه مصححه‏)‏ والمعروف المِرْعِز كما في «التذكرة» و«شفاء الغليل»‏.‏ وفي «التذكرة» المِرْعز‏:‏ ما نَعُم وطال من الصوف اه‏.‏ فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه‏:‏
وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً *** كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً
أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي‏.‏ وفي «اللسان»‏:‏ السدوس الطيلسان الأخضر‏.‏ ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي‏:‏
تَرَدَّى ثيَابَ الموتتِ حُمْراً فما أتَى *** لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ
وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية‏:‏ استقره‏.‏
والمعنى‏:‏ أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة‏.‏
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك، قال النابغة يمدح ملوك غسان‏:‏
يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها *** بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب
والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون‏.‏
وقرأ نافع وحفص ‏{‏خضرٌ‏}‏ بالرفع على الصفة ل ‏{‏ثياب‏}‏‏.‏ و‏{‏إستبرقٌ بالرفع أيضاً على أنه معطوف على ثياب‏}‏ بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق‏:‏ أن الإِستبرق لباسُهم‏.‏
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ‏{‏خُضْرٍ‏}‏ بالجر نعتاً ل ‏{‏سندس،‏}‏ و‏{‏إستبرق‏}‏ بالرفع عطفاً على ‏{‏ثياب‏.‏
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب خُضْرٌ‏}‏ بالرفع و‏{‏إستبرقٍ‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏سندس‏}‏ بتقدير‏:‏ وثياب إستبرق‏.‏
وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏خُضرٍ‏}‏ بالجر نعتاً ل ‏{‏سندسٍ‏}‏ باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع‏.‏ وقرأ و‏{‏إستبرقٍ‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏سندس‏.‏
والأساور‏:‏ جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى‏.‏
والمعنى‏:‏ أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي‏.‏
ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة‏.‏‏}‏ وفي سورة الكهف ‏(‏31‏)‏ بأنها ‏{‏من ذهب‏}‏ في قوله‏:‏ يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبْهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏كانت قواريرا قواريرا من فضة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏
هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن الغَوْل وسوءِ القول والهذيان، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد‏.‏
وأسند سقيه إلى ربهم إظهاراً لكرامتهم، أي أمر هو بسقيهم كما يقال‏:‏ أطعَمهم ربُّ الدار وسقاهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏‏}‏
هذا الكلام مقول قول محذوف قرينته الخطاب إذ ليس يصلح لهذا الخطاب مما تقدم من الكلام إلاّ أن يكون المخاطَبون هم الأبرارَ الموصوفَ نعيمهم‏.‏
والقول المحذوف يقدر فعلاً في موضع الحال من ضمير الغائب في ‏{‏سقاهم‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏، نحو‏:‏ يُقال لهم، أو يَقول لهم ربهم، أو يقدر اسماً هو حال من ذلك الضمير نحو‏:‏ مَقولاً لهم هذا اللفظ، أو قائلاً لهم هذا اللفظ‏.‏
والإِشارة إلى ما يكون حاضراً لديهم من ألوان النعيم الموصوف فيما مضى من الآيات‏.‏
والمقصود من ذلك الثناء عليهم بما أسلفوا من تقوى الله وتكرمتهم بذلك وتنشيط أنفسهم بأن ما أنعم به عليهم هو حق لهم جزاء على عملهم‏.‏
وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على تحقيق كونه جزاء لا منًّا عليهم بما لم يستحقوا، فإن من تمام الإِكرام عند الكرام أن يُتبعوا كرامتهم بقول ينشط له المكرَم ويزيل عنه ما يعرض من خجل ونحوه، أي هو جزاء حقاً لا مبالغة في ذلك‏.‏
وعطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكان سعيكم مشكوراً‏}‏ علاوة على إيناسهم بأن ما أغدق عليهم كان جزاء لهم على ما فعلوا بأن سعيهم الذي كان النعيمُ جزاء عليه، هو سعي مشكور، أي مشكور ساعِيه، فأسند المشكور إلى السعي على طريقة المجاز العقلي مثل قولهم‏:‏ سَيْل مُفْعَم‏.‏
ولك أن تجعل ‏{‏مشكوراً‏}‏ مفعولاً حقيقة عقلية لكن على طريقة الحذف والإِيصال، أي مشكوراً عليه‏.‏
وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ كإقحام نظيره آنفاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏
‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏‏}‏
من هنا يبتدئ ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة‏.‏
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي، ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجّة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبّات ومرغّبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث، فلمّا استوفى ذلك ثُنِي عِنانُ الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربطِ على قلبه لِدفاع أن تلحقه آثارُ الغمّ على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أُنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية، فذكَّره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم‏.‏
وفي إيراد هذا بعد طُول الكلام في أحوال الآخرة، قضاء لحق الاعتناء بأحوال الناس في الدنيا فابتدئ بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من ‏{‏يحبون العاجلة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 27‏]‏ ومن ‏{‏اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏ فأدخلهم في رحمته‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام به‏.‏
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن‏}‏ لتقرير مدلول الضمير تأكيداً لفظياً للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي به إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فِعْلُ من ذلك الضميرَاننِ له لأنه لا يفعل إلا فعلاً منوطاً بحكمة وأقصى الصواب‏.‏
وهذا من الكناية الرمزية، وبعدُ فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعُه كناية ومزية‏.‏
وإيثار فعل ‏{‏نزّلنا‏}‏ الدال على تنزيله منجماً آياتتٍ وسُوراً تنزيلاً مفرقاً إدماجٌ للإِيماء إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ وتأكيدُ الضمير المتصل بالضمير المنفصل، فاجتمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مُفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيصُ إلاّ تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي، فالمعنى‏:‏ ما نزَّل عليك القرآن إلاّ أنا‏.‏
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ فجعلوا تنزيله مفرقاً شبهة في أنه ليس من عند الله‏.‏
والمعنى‏:‏ ما أنزله منجّماً إلاّ أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجّماً‏.‏
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين، وشدُّ عزيمته أن لا تخور‏.‏
وسمى ذلك حكماً لأن الرسالة عن الله لا خيرة للمرسَل في قبولها والاضطلاععِ بأمورها، ولأن ما يحفّ بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملِها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتمّ ما أمر الله به، كالحكم على الرسول بقبوللِ ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجللٍ معين عند الله‏.‏
وعدي فعل ‏(‏اصبر‏)‏ باللام لتضمن الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق، وقد يعدّى بحرف ‏(‏على‏)‏ كما قال تعالى‏:‏
‏{‏واصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ومناسبة مقام الكلام ترجح إحدى التعديتين كما تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولربك فاصبر‏}‏ في سورة المدثر ‏(‏7‏)‏‏.‏
ولما كان من ضروب إِعراضهم عن قبول دعوته ضربٌ فيه رغبات منهم مثل أن يَترك قرعهم بقوارع التنزيل من تأفين رأيهم وتحقير دينهم وأصنامهم، وربما عرضوا عليه الصِهْر معهم، أو بذْلَ المال منهم، أُعقب أمره بالصبر على ما هو من ضروب الإِعراض في صلابة وشدة، بأن نهاه عن أن يطيعهم في الضرب الآخر من ضروب الإِعراض الواقع في قالَب اللين والرغبة‏.‏
وفي هذا النهي تأكيد للأمر بالصبر لأن النهي عنه يشمل كل ما يرفع موجبات الصبر المراد هنا‏.‏
والمقصود من هذا النهي تأييسهم من استجابته لهم حين يقرأ عليهم هذه الآية لأنهم يحسبون أن ما عرضوه عليه سيكون صارفاً له عما هو قائم به من الدعوة إِذْ هم بُعَداء عن إدراك ماهية الرسالة ونزاهة الرسول‏.‏
والطاعة‏:‏ امتثال الطلب بفعل المطلوب وبالكف عن المنهي عنه فقد كان المشركون يعمدون إلى الطلب من النبي أن يفعل ما يرغبون، مثل طرد ضعفاء المؤمنين من المجلس، والإِتيان بقرآن غير هذا أو تبديله بما يشايع أحوالهم، وأن يكف عما لا يريدون وقوعه من تحقير آلهتهم، والجهرِ بصلاته، فحذره الله من الاستماع لقولهم وإياسهم من حصول مرغوبهم‏.‏
ومقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ ولا تطعهم، أو ولا تطع منهم أحداً، فعدل عنه إلى آثماً أو كفوراً‏}‏ للإِشارة بالوصفين إلى أن طاعتهم تفضي إلى ارتكاب إثم أو كفر، لأنهم في ذلك يأمرونه وينهونه غالباً فهم لا يأمرون إلاّ بما يلائم صفاتهم‏.‏
فالمراد بالآثم والكفور‏:‏ الصنفان من الموصوفين وتعليق الطاعة المنهي عنها بهذين النوعين مُشعر بأن الوصفين علة في النهى‏.‏
والآثِم والكفُور مُتَلازِمَاننِ فكان ذكر أحد الوصفين مغنياً عن الآخر ولكن جُمع بينهما لتشويه حال المتصف بهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يحب كل كفّار أثيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏‏.‏
وفي ذكر هذين الوصفين إشارة أيضًا إلى زعيمين من زعماء الكفر والعناد وهما عُتبة ابن ربيعة، والوليد بن المغيرة، لأن عتبة اشتهر بارتكاب المآثم والفسوق، والوليد اشتهر بشدة الشكيمة في الكفر والعتوّ‏.‏ وقد كانا كافرَيْن فأشير إلى كل واحد منهما بما هو علَم فيه بين بقية المشركين من كثرة المآثم لأولهما‏.‏ والمبالغةُ في الكفر لثانيهما، فلذلك صيغت له صيغة المبالغة ‏(‏كَفور‏)‏‏.‏
قيل عرض عتبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوة الناس إلى الإسلام ويزوجه ابنته وكانت من أجمل نساء قريش‏.‏ وعرض الوليد عليه أن يعطيه من المال ما يرضيه ويرجع عن الدعوة، وكان الوليد من أكثر قريش مالاً وهو الذي قال الله في شأنه‏:‏
‏{‏وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 12‏]‏‏.‏ فيكون في إيثار هذين الوصفين بالذكر إدماج لذمهما وتلميح لقصتهما‏.‏
وأيَّامَّا كان فحرف ‏{‏أو‏}‏ لم يعْدُ أصل معناه من عطف تشريك أحد شيئين أو أشياء في خبر أو طَلب، وهذا التشريك يفيد تخييراً، أو إباحةً، أو تقسيماً، أو شكاً، أو تشكيكاً بحسب المواقع وبحسب عوامل الإِعراب، لتدخل ‏{‏أو‏}‏ التي تُضمر بعدها ‏(‏أنْ‏)‏ فتنصبُ المضارع‏.‏ وكون المشرَّك بها واحداً من متعدد مُلازم لمواقعها كلها‏.‏
فمعنى الآية نهي عن طاعة أحد هذين الموصوفين ويعلم أن طاعة كليهما منهي عنها بدلالة الفحوى لأنه إذا أطاعهما معاً فقد تحقق منه طاعة أحدهما وزيادة‏.‏
وموقع ‏{‏منهم‏}‏ موقعُ الحال من ‏{‏آثماً‏}‏ فإنه صفة ‏{‏آثماً‏}‏ فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً‏.‏
و ‏(‏مِنْ‏)‏ للتبعيض‏.‏ والضمير المجرور بها عائد للمشركين، ولم يتقدم لهم ذكر لأنهم معلومون من سياق الدعوة أو لأنهم المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً‏}‏ أي لا كما يزعم المشركون أنك جئت به من تلقاء نفسك، ومن قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك،‏}‏ أي على أذى المشركين‏.‏
ويؤول المعنى‏:‏ ولا تطع أحداً من المشركين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏
‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏‏}‏
أي أقْبِلْ على شأنك من الدعوة إلى الله وذِكر الله بأنواع الذكر‏.‏ وهذا إرشاد إلى ما فيه عون له على الصبر على ما يقولون‏.‏
والمراد بالبُكرة والأصيل استغراق أوقات النهار، أي لا يصدك إعراضهم عن معاودة الدعوة وتكريرها طرفي النهار‏.‏ ويدخل في ذكر الله الصلوات مثل قوله ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلَفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114، 115‏]‏‏.‏ وكذلك النوافل التي هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين مفروض منها وغير مفروض‏.‏ فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ مستعمل في مطلق الطلب من وجوب ونفل‏.‏
وذِكر اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بكرة وأصيلا‏}‏ يشمل أوقاتَ النهار كلها المحدودَ منها كأوقات الصلوات وغيرَ المحدود كأوقات النوافل، والدعاء والاستغفارِ‏.‏
و ‏{‏بكرة هي أول النهار، وأصيلاً عشياً‏.‏
وقوله‏:‏ ومن الليل فاسجد له‏}‏ إشارة إلى أن الليل وقت تفرغ من بث الدعوة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قم الليل إلاّ قليلاً‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{‏علم أن لن تحصوه فتاب عليكم‏}‏ الآية ‏[‏المزمل‏:‏ 2 20‏]‏ وهذا خاص بصلاة الليل فرضاً ونفلاً‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وسبّحْه‏}‏ جملة معطوفة على جملة ‏{‏من الليل فاسجد له‏}‏ فتعين أن التسبيح التنفل‏.‏
والتسبيح‏:‏ التنزيه بالقول وبالاعتقاد، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك حين تقوم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، أي من الليل‏.‏ وعن عبد الملك بن حبيب‏:‏ و‏{‏سبحه‏}‏ هنا صلاة التطوع في الليل، وقوله ‏{‏طويلاً‏}‏ صفة ‏{‏ليلاً‏}‏ وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه، عُلم أن ‏{‏ليلاً‏}‏ أريد به أزمان الليل لأنه مجموعُ الوقت المقابل للنهار، لأنه لو أريد ذلك المقدارُ كلُّه لم يكن في وصفه بالطول جدوى، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح، أي سبحه أكثرَ الليل، فهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قم الليل إلاّ قليلاً إلى أو زد عليه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2، 4‏]‏ أو يتنازعه كل من ‏(‏اسجد‏)‏ و‏{‏سبحه‏}‏‏.‏
وانتصب ‏{‏ليلاً‏}‏ على الظرفية ل ‏{‏سبحه‏}‏‏.‏
وعن ابن عباس وابن زيد‏:‏ أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها بناء على أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وسبّحْه‏}‏ إشارة إلى قيام الليل‏.‏
وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97، 98‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر اسم ربك وتبتَّل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمّل‏:‏ 8 10‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏‏}‏
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فموقع ‏{‏إنّ‏}‏ موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر‏.‏
و ‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق ‏{‏هؤلاء‏}‏ دون سبْققِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏89‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ في سورة هود ‏(‏109‏)‏‏.‏
وقد تنزه رسول الله عن محبة الدنيا فقال‏:‏ ما لي وللدنيا فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال‏:‏ حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب‏.‏
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏‏.‏
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية‏.‏
وصيغة المضارع في ‏{‏يحبّون‏}‏ تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة‏.‏
و ‏{‏العاجلة‏}‏‏:‏ صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره‏:‏ الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة‏.‏ والمراد بها مدة الحياة الدنيا‏.‏
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله‏:‏ ‏{‏كلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20، 21‏]‏ فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة‏.‏
ومتعلق ‏{‏يحبّون‏}‏ مضافٌ محذوف، تقديره‏:‏ نعيمَ أو منافعَ لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا‏.‏
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة‏.‏ وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله‏:‏ ‏{‏ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً‏}‏ واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون‏:‏ ‏{‏وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة‏.‏
ومُثلوا بحال من يترك شيئاً وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه‏.‏
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه‏.‏
وصيغة المضارع في ‏{‏يذرون‏}‏ تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يَخلُون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى‏.‏
واليومُ الثقيل‏:‏ هو يوم القيامة، وُصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله‏.‏
والثقل‏:‏ يستعار للشدة والعسر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثقُلت في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏‏}‏
لما كان الإِخبار عنهم بأنهم ‏{‏يذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 27‏]‏ يتضمن أنهم ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهةُ استحالة إعادة الأجسادِ بعد بِلاها وفنائها، وكان الكلام السابق مسوقاً مساق الذم لهم والإِنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإِنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يُعيده الذي خلقهم أول مرّة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يُعيدنا قُللِ الذي فطركم أول مرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ وغيرِ ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى‏.‏
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفِعلي دون أن تفتتح ب ‏{‏خلقناهم‏}‏ أو نحن خالقون، لإِفادة تقوّي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنِيِّينَ بهذا الكلام وإن لم يكن خطاباً لهم ولكنهم هم المقصود منه‏.‏
وتقويةُ الحكم بناءٌ على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجْرُؤوا على موجِب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البِلَى، فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره‏.‏ وتقوِّي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدَّل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يُحتج إلى تأكيد جملة‏:‏ ‏{‏وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم‏}‏، استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر‏.‏ وهذا التقوّي هنا مشعر بأن كلاماً يعقبه هو مصب التقوِّي، ونظيره في التقوِّي والتفريع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تُمْنُون إلى قوله‏:‏ وما نحن بمسبوقين على أن نبدِّل أمثالكم فإن المفرع هو أفرأيتم ما تمنون وما اتصل به‏.‏ وجملة ‏{‏فلولا تُصَدِّقون‏}‏ معترضة وقد مضى في سورة الواقعة ‏(‏57- 61‏)‏‏.‏
فأمثالهم‏}‏‏:‏ هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودةِ حين التنزيل‏.‏
والشدّ‏:‏ الإِحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقلّ الجسم‏.‏
والأسر‏:‏ الربط، وأطلق هنا على الإِحكام والإِتقان على وجه الاستعارة‏.‏
والمعنى‏:‏ أحْكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدوداً بعضها إلى بعض‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا شئنا بَدَّلْنا أمثالهم‏}‏ إخبار بأن الله قادر على أن يُبدلهم بناس آخرين‏.‏
فحذف مفعول ‏{‏شئنا‏}‏ لدلالة وجواب ‏{‏إذَا‏}‏ عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالباً‏.‏
واجتلاب ‏{‏إذا‏}‏ في هذا التعليق لأن شأن ‏{‏إذا‏}‏ أن تفيد اليقين بوقوع ما قُيد بها بخلاف حرف ‏(‏إنْ‏)‏ فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع‏.‏
فيجوز أن يَكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله‏:‏ ‏{‏نحن خلقناهم‏}‏ الخ، ويُحمل الشرط على التحقق قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الدين لَوَاقع‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 6‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وإذا شئنا بدلنا أمثالهم‏}‏ تهديداً لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقاً آخر مثلهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ يشأ يُذْهِبْكُم ويَأتتِ بخَلْق جديد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 19‏]‏‏.‏
ويكون ‏{‏إذا‏}‏ مراداً به تحقق التلازم بين شرط ‏{‏إذا‏}‏ وجوابها، أي الجملةِ المضاففِ إليها، والجملةِ المتعلَّق بها‏.‏
وفعل التبديل يقتضي مبدَّلاً ومبدَّلاً به وأيُّهما اعتبرتَه في موضع الآخر صح لأن كل مُبَدَّل بشيء هو أيضاً مُبدَّلٌ به ذلك الشيءُ، ولا سيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتِنَائه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدَلين، فحُذف من الكلام هنا متعلِّق ‏{‏بدَّلنا‏}‏ وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحذف، وأُبقي المفعول‏.‏
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة ‏(‏61‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على أنْ نُبَدل أمثالكم‏}‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا لقادرون على أن نبدّلَ خيراً منهم‏}‏ في سورة المعارج ‏(‏40، 41‏)‏ فالتقدير‏:‏ بَدَّلْنا منهم‏.‏
والأمثال‏:‏ جمع مِثْل وهو المماثل في ذاتتٍ أو صفة، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد‏.‏
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أُمم، وعلى الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مِثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها‏.‏
وانتصب تبديلاً‏}‏ على المفعول المطلق المؤكِّد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏‏}‏
استئناف ابتدائي للانتقال من بسط التذكير والاستدلال إلى فذلكة الغرض وحوصلته، إشعاراً بانتهاء المقصود وتنبيهاً إلى فائدته، ووجه الانتفاع به، والحث على التدبر فيه، واستثمار ثمرته، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ‏}‏ الخ يقوَى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف ‏{‏إن‏}‏ لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة‏.‏
والإِشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أُتي باسم الإِشارة المؤنث‏.‏
والتذكرة‏:‏ مصدر ذَكَّره ‏(‏مثل التزكية‏)‏، أي أكلمه كلاماً يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإِقلاع عن عمل سيِّئ والإِقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يُفرِّط فيه إلاّ من كان ناسياً لما فيه من نفع له‏.‏
وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏، أي ليس بعد هذه التذكرة إلاّ العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها‏.‏
ففي قوله‏:‏ ‏{‏مَن شاء‏}‏ حثّ على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلاّ سوء تدبيره‏.‏
وهذا حثّ وتحريض فيه تعريض بالمشركين بأنهم أبَوا أن يتذكروا عناداً وحسداً‏.‏
واتخاذ السبيل‏:‏ سلوكه، عُبّر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزُّلفى‏.‏
ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربه‏}‏ ب ‏{‏سبيلاً‏}‏، أي سبيلاً مُبلغة إلى الله، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب، أي إلى إكرامه لأن ذلك قَرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافاً إلى ضمير ‏{‏من شاء‏}‏ إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه‏.‏
وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مِثل الذي كان ضالاً، أو آبقاً فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده، أو سلك الطريق إلى مولاه‏.‏
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏‏}‏
لما ناط اختيارهم سبيلَ مرضاة الله بمشيئتهم أعقبه بالتنبيه إلى الإِقبال على طلب مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبل الخير لهم لأنهم إذا كانوا منه بمحل الرضى والعناية لطف بهم ويسَّر لهم ما يعسُر على النفوس من المصابرة على ترك الشهوات المُهلكة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسَنُيَسِّره لليسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 7‏]‏ فإذا لم يسعوا إلى مرضاة ربهم وَكَلَهم إلى أحوالهم التي تعوّدوها فاقتحمت بهم مهامه العماية إذ هم محفوفون بأسباب الضلال بما استقرت عليه جِبلاّتهم من إيثار الشهوات والاندفاع مع عصائب الضلالات، وهو الذي أفاده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسّره للعُسْرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 10‏]‏، أي نتركه وشأنَه فتتيسر عليه العسرى، أي تلحق به بلا تكلف ومجاهدة‏.‏
فجملة ‏{‏وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله‏}‏ يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏ أو حالاً من ‏{‏مَن يشاء‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 31‏]‏ وهي على كلا الوجهين تتميم واحتراس‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏تشاءون‏}‏ لإِفادة العموم، والتقدير‏:‏ وما تشاءون شيئاً أو مشيئاً وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة، أي ما تشاءون شيئاً في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال‏.‏
وقد عُلل ارتباط حصول مشيئتهم بمشيئة الله، بأن الله عليم حكيم، أي عليم بوسائل إيجاد مشيئتهم الخير، حكيم بدقائق ذلك مما لا تبلغ إلى معرفة دقائقه بالكُنْهِ عقول الناس، لأن هنالك تصرفات عُلوية لا يبلغ الناس مبلغ الاطلاع على تفصيلها ولكن حَسبهم الاهتداء بآثارها وتزكية أنفسهم للصد عن الإِعراض عن التدبر فيها‏.‏
و ‏{‏مَا‏}‏ نافية، والاستثناء من عموم الأشياء المشيئة وأحوالها وأزمانها، ولما كان ما بعد أدَاة الاستثناء حرف مصدر تعين أن المستثنى يقدر مصدراً، أي إلاَّ شَيْءَ الله ‏(‏بمعنى مشيئته‏)‏، وهو صالح لاعتبار المعنى المصدري ولاعتبار الحالة، ولاعتبار الزمان، لأن المصدر صالح لإِرادة الثلاثة باختلاف التأويل فإن قدر مضاف كان المعنى‏:‏ إلاّ حالَ مشيئة الله، أو إلاّ زمن مشيئته، وإن لم يقدر مضاف كان المعنى‏:‏ لا مشيئة لكم في الحقيقة إلاّ تبعاً لمشيئة الله‏.‏
وإيثار اجتلاب ‏{‏أن‏}‏ المصدرية من إعجاز القرآن‏.‏
ويجوز أن يكون فعلا ‏{‏تشاءون‏}‏ و‏{‏يشاء الله‏}‏ منزلين منزلة اللازم فلا يقدر لهما مفعولان على طريقة قول البحْتري‏:‏
أنْ يَرَى مُبْصِر وَيَسْمَع وَاعٍ ***
ويكون الاستثناء من أحوال، أي وما تحصل مشيئتكم في حال من الأحوال إلاّ في حال حصول مشيئة الله‏.‏ وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمعَ الأشعريُّ التعبيرَ عنه بالكسب، فقيل فيه «أدق من كسب الأشعري»‏.‏ ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ فهو تذييل أو تعليل لجملة
‏{‏يدخل من يشاء في رحمته‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 31‏]‏، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها‏.‏
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس ‏(‏11، 12‏)‏‏:‏ ‏{‏كلاّ إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره‏}‏ لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن، من العمل بها المعبِر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صُرفت العناية والاهتمامُ إلى ما يُلَوِّح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل‏.‏
وفعل كان‏}‏ يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له‏.‏
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين‏:‏ إحداهما مشيئة العباد، والأخرى مشيئة الله، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلاً للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضُها بانفرادِه نَوْطَ التكاليف بمشيئة العباد وثوابَهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم، والمقتضي بعضُها الآخر مشيئةً لله في أفعال عباده‏.‏
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرةً بانفعال النفوس لفاعليَّة الترغيب والترهيب، وأما مشيئة الله انفعالَ النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلتْ فحصلت مشيئة العبد عَلِمْنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد‏.‏
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشرِ من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك، مِما في ذلك كله من إصابة أو خطأ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتَلاءَم بعضُها مع بعض أو رجَح خَيْرها على شرها عَرَفْنا مشيئة الله لأن تلك آثار مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستتب لفلان، فعلمُه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته، وإذا تعاكست وتنافر بعضُها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حفّ بذلك الفرد، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يَشاء الشر، ولا مخلص للعبد من هذه الرِبقة إلاّ إذا توجهت إليه عنايةُ من الله ولطف فكَوَّن كائنات إذا دخلت تلك الكائناتُ فيما هو حاف بالعبد من الأسباب والأحوال غَيَّرَتْ أحوالَها وقلَبت آثارهما رأساً على عَقب، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغموراً بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافاً به، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهُدى وتوغله فيه في حين كان متلبساً بسابغ الضلالة والعناد‏.‏
فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة‏:‏ إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهمّ أعز الإِسلام بأحدِ العُمرين ‏"‏ وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عُمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة ودخل في الإِسلام عقب قول النبي صلى الله عليه وسلم له‏:‏ ‏"‏ أما آن لك يا ابن الخطاب أن تُسلم ‏"‏ ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمّد صلى الله عليه وسلم كانت أثراً من دعوة إبراهيم عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا وابْعَثْ فيهم رسولاً منهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏ الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنا دَعْوَةُ إِبراهيم ‏"‏
فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة «إنها سلامة الأسباب والآلات»‏.‏
وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطاً فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط، فللإنسان مشيئته لا محالة‏.‏
وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلاّ في العبارة بالخَلْق أو بالكسب، وعبارة الأشعري أرشَق وأعلق بالأدب مع الله الخالِق، وإلاّ في تحقيق معنى مشيئة الله، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام‏.‏
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب ‏{‏وما تشاءون‏}‏ بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وخلف بياء الغائب عائداً إلى ‏{‏فمَن شاء‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏
‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة ‏{‏وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ إذْ يتساءل السامع على أثر مشيئة الله في حال من اتخذ إلى ربه سبيلاً ومن لم يتخذ إليه سبيلاً، فيجاب بأنه يُدخل في رحمته من شاء أن يتخذ إليه سبيلاً وأنه أعد لمن لم يتخذ إليه سبيلاً عذاباً أليماً وأولئك هم الظالمون‏.‏
ويجوز أن تكون الجملة خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ وتكون جملة ‏{‏كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ معترضة بين اسم ‏{‏إن‏}‏ وخبرها أو حالاً، وهي على التقديرين منبئة بأن إجراء وصفي العليم الحكيم على اسم الجلالة مراد به التنبيه على أن فعله كله من جزاء برحمةٍ أو بعذاب جارٍ على حسب علمه وحكمته‏.‏
وانتصب ‏{‏الظالمين‏}‏ على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه المذكور على طريقة الاشتغال والتقدير‏:‏ أوْعد الظالمين، أو كَافأ، أو نحوَ ذلك مما يقدره السامع مناسباً للفعل المذكور بعده‏.‏
سورة المرسلات
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏
‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏
قسَم بِمخلوقات عظيمة دالّةٍ على عظيم علم الله تعالى وقدرته‏.‏
والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القَسَم تشويقُ السامع لتلقي المقسم عليه‏.‏
فيجوز أن يَكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعاً واحداً، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة‏.‏ ومشى صاحب «الكشاف» على أن المقسم بها كلهم ملائكة‏.‏
ولم يختلف أهل التأويل أن ‏{‏المُلْقِيات ذِكراً‏}‏ للملائكة‏.‏
وقال الجمهور‏:‏ العاصفات‏:‏ الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفاً‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ قيل العاصفات‏:‏ الملائكة‏.‏
و ‏{‏الفارقات‏}‏ لم يحك الطبري إلاّ أنهم الملائكةُ أو الرسلُ‏.‏ وحكى القرطبي عن مجاهد‏:‏ أنها الرياح‏.‏
وفيما عدا هذه من الصفات اختَلَف المتأوّلون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح‏.‏
ف ‏{‏المرسَلات‏}‏ قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق‏:‏ هي الملائكة‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء‏.‏
و ‏{‏الناشرات‏}‏ قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح‏:‏ الملائكة‏.‏ وقال ابن مسعود ومجاهد‏:‏ الرياح وهو عن أبي صالح أيضاً‏.‏
ويتحصل من هذا أن الله أقسَم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله‏:‏ ‏{‏والسماءِ ذات البروج واليوم الموعود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1، 2‏]‏، ومثله تكَرَّر في القرآن‏.‏
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس مَا عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفاتُ جنس آخر‏.‏
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قَسَم‏.‏ ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتاً غير المعطوف عليه‏.‏ وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء‏.‏
إلى الملك القِرْم وابننِ الهُمام *** وليثثِ الكتيبةِ في المزْدَحَم
أراد صفات ممدوح واحد‏.‏
ولنتكلم على هذه الصفات‏:‏
فأما ‏{‏المرسلات‏}‏ فإذا جعل وصفاً للملائكة كان المعنيُّ بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي، وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء‏:‏ ‏{‏فنادَتْه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، أو ‏{‏المرسلات‏}‏ بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط، و‏{‏عُرْفاً‏}‏ حال مفيدة معنى التشبيه البليغ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض، يقال‏:‏ هم كعرف الضبع، إذا تألبوا، ويقال‏:‏ جاءوا عرفاً واحداً‏.‏ وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح‏.‏
وفسر ‏{‏عُرفاً‏}‏ بأنه اسمٌ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معرُوف ‏(‏ضد المنكَر‏)‏، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإِرشاد والصلاح‏.‏
‏{‏فالعاصفات‏}‏ تفريع على ‏{‏المرسلات‏}‏، أي ترسل فتعصف، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة، وإن أريد بالمرسلات وصفُ الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به‏.‏
و ‏{‏عَصْفاً‏}‏ مؤكد للوصف تأكيداً لتحقيق الوصف، إذ لا داعي لإِرادة رفع احتمال المجاز‏.‏
والنشر‏:‏ حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازاً في الإِظهار والإِيضاح وفي الإِخراج‏.‏
ف ‏{‏الناشرات‏}‏ إذا جعل وصفاً للملائكة جاز أن يكون نشرَهم الوحي، أي تكرير نزولهم لذلك، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح، أي بالشرائع البينة‏.‏
وإذا جعل وصفاً للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء لتنبيه على أنه معطوف على ‏{‏المرسلات‏}‏ لا على ‏{‏العاصفات‏}‏ لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع‏.‏
والقول في تأكيد ‏{‏نشراً‏}‏ وتنوينه كالقوللِ في ‏{‏عَصْفاً‏}‏‏.‏
والفَرْق‏:‏ التمييز بين الأشياء، فإذا كان وصفاً للملائكة فهو صالح للفرق الحقيقي مثل تمييز أهللِ الجنة عن أهل النار يوم الحساب، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب، مثل قوم نوح عن نوح، وعادٍ عن هود، وقوممِ لوط عن لوط وأهله عدا امرأته، وصالح للفرق المجازي، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، وبين الإِيمان والكفر‏.‏
وإنْ جُعل وصفاً للرياح فهو من آثار النشر، أي فَرقُها جماعات السحب على البلاد‏.‏
ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعانيه عطف ‏{‏الفارقات‏}‏ على ‏{‏الناشرات‏}‏ بالفاء‏.‏
وأكد بالمفعول المطلق كما أكد مَا قبله بقوله‏:‏ ‏{‏عصفاً‏}‏ و‏{‏نشراً‏}‏، وتنوينه كذلك‏.‏
والملقيات‏:‏ الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذِكْر‏.‏
والإِلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض‏.‏
وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإِلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصّون كل ذكر بمن هو محتاج إليه، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم‏.‏
وهذا معنى ‏{‏عُذْراً أوْ نُذُراً‏}‏‏.‏ فالعُذر‏:‏ الإِعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر، وتوبةِ التائبين بعد الذنب‏.‏
والنّذُر‏:‏ اسم مصدر أنذر، إذا حَذر‏.‏
و ‏{‏عُذراً‏}‏ قرأه الجمهور بسكون الذال، وقرأه رَوْح عن يعقوب بضمها على الإِتباع لحركة العين‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏نُذُراً‏}‏ بضم الذال وهو الغالب فيه‏.‏
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ بإسكان الذال على الوجهين المذكورين في ‏{‏عُذراً‏}‏، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإِنذار‏.‏
وانتصب ‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ على بدل الاشتمال من ‏{‏ذِكْراً‏}‏ و‏{‏أو‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أو نذراً‏}‏ للتقسيم‏.‏
وجملة ‏{‏إن ما توعدون لواقع‏}‏ جواب القسم وزيدت تأكيداً ب ‏{‏أنَّ‏}‏ لتقوية تحقيق وقوع الجواب‏.‏
و ‏{‏إنَّما‏}‏ كلمتان هما ‏(‏إنَّ‏)‏ التي هي حرف تأكيد و‏(‏ما‏)‏ الموصولة وليست هي ‏(‏إِنَّما‏)‏ التي هي أداة حصر، والتي ‏(‏ما‏)‏ فيها زائدة‏.‏ وقد كتبت هذه متصلة ‏(‏إِنَّ‏)‏ ب ‏(‏ما‏)‏ لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين، والرسم اصطلاح، ورسم المصحف سُنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره‏.‏
و ‏{‏ما توعدون‏}‏‏:‏ هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية‏.‏
والخطاب للمشركين، أي ما تَوعَّدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه‏.‏
والواقع‏:‏ الثابتُ‏.‏ وأصل الواقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيهاً بالمستقر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 14‏]‏
‏{‏فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع على قوله‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لواقع‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 7‏]‏ لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان الخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه، بُيّن لهم ما يحصل قبله زيادة في تهويله عليهم‏.‏ والإِنذار بأنه مؤخّر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة، وفيه كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الأخبار عن أمارات حلول ما يوعدون يستلزم التحذير من التهاون به، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 19‏]‏‏.‏
وكررت كلمة ‏{‏إذَا‏}‏ في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة ‏{‏إذا‏}‏ كما في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا برق البصر وخَسَف القمر وجُمع الشمس والقمر يقول الإِنسان‏}‏ الآية ‏[‏القيامة‏:‏ 7 10‏]‏، لإِفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلاً في جعله علامة على وقوع ما يوعدون‏.‏
وطَمْسُ النجوم‏:‏ زوال نورها، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المُظلم من الأرض، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس، أي زوَال التهابها بأن تبرد حرارتها، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها، أو بأن تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قِطعاً فيزول التهابها‏.‏
ومعنى ‏{‏فرجت‏}‏ تفرّق ما كان ملتحماً من هيكلها، يقال‏:‏ فرج الباب إذا فتحه‏.‏ والفرجة‏:‏ الفتحة في الجدار ونحوه‏.‏ فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فَرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة على طمس نورها‏.‏
وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء، فمعنى ‏{‏فرجت‏}‏‏:‏ فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1‏]‏ وكل ذلك مفض إلى انقراض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه‏.‏
والنسف‏:‏ قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم‏.‏
ونسف الجبال‏:‏ دكها ومصيرها تراباً مفرقاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكانت الجبال كثيباً مهيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره‏.‏
وجُملة ‏{‏وإذا الرسل أقتت‏}‏ عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جُعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة‏.‏ فَأمّا ‏{‏أُقتت‏}‏ فأصله وُقتت بالواو في أوله، يقال‏:‏ وَقَّت وَقْتاً، إذا عين وقتاً لعمل ما، مشتقاً من الوقت وهو الزمان، فلما بني للمجهول ضمّت الواو وَهو ضم لازم احترازاً من ضمة
‏{‏ولا تَنْسَوُا الفضل بينكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ لأن ضمة الواو ضمة عارضة، فجاز إبَدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة‏.‏ وقرأه الجمهور ‏{‏أقتت‏}‏ بهمزة وتشديد القاف‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف، وقرأه أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف‏.‏
وشأن ‏{‏إذا‏}‏ أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل، وهو علامَة على أن ما يُوعدون يحصل مع العلامات الأخرى‏.‏
ولا خلاف في أن ‏{‏أُقِّتَت‏}‏ مشتقّ من الوقت كما علمت آنفاً، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه‏:‏ جُعِلت وقتاً، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه، وقد يكون بمعنى‏:‏ وُقِّتَ لها وقتٌ على طريقة الحذف والإِيصال‏.‏
وإذ كان ‏{‏إذا‏}‏ ظرفاً للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية، تعيّن تأويل ‏{‏أُقِّتَت‏}‏ على معنى‏:‏ حَانَ وقتها، أي الوقت المعيَّن للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأنْ يُنْذِرُوا أممهم بأنَّهُ يحلّ في المستقبل غيرِ المعين، وذلك عليه قوله‏:‏ ‏{‏لأيّ يوم أُجّلت لِيوم الفصل‏}‏ فإن التأجيل يفسر التوقيت‏.‏
وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في مَحْمَل معنى هذه الآية فعن ابن عباس ‏{‏أُقِّتت‏}‏‏:‏ جُمعت أي ليوم القيامة قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمع الله الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏، وعن مجاهد والنخعي ‏{‏أقتت‏}‏ أُجِّلَت‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً‏.‏
قال في «الكشاف»‏:‏ «والوجه أن يكونَ معنى «وقتت» بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة» اه‏.‏ وهذا صريح في أنه يقال‏:‏ وُقت بمعنى أُحْضر في الوقت المعيَّن، وسلمه شراح «الكشاف» وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها‏.‏
ويجيء على القولين أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لأي يوم أجّلت‏}‏ استئنافاً، وتُجعَل ‏(‏أيُّ‏)‏ اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرّحوا ولم يُجْمِلُوا، والذي يظهر لي أن تكون ‏(‏أيٌّ‏)‏ موصولة دالّة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدّال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه ‏(‏أيٌّ‏)‏ وتقديره‏:‏ ليوممِ أيِّ يوممٍ، أي ليوممٍ عظيم‏.‏ ويكون معنى ‏{‏أقتت‏}‏ حضر ميقاتها الذي وُقِّت لها، وهو قول ابن عباس جُمعت، وفي «اللسان» على الفراء‏:‏ ‏{‏أُقتت‏}‏ جُمعت لوقتها، وذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يومَ يجمع الله الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جِئْنَا من كل أمة بشهيد وجِئْنَا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏
ويكون اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لأي يوم أُجّلت‏}‏ لامَ التعليل، أي جمعت لأجل اليوم الذي أُجّلت إليه‏.‏ وجملة ‏{‏أُجّلت‏}‏ صفة ليوم، وحذف العائد لظهوره، أي أجّلت إليه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ليوم الفصل‏}‏ بدل من ‏{‏لأي يوم أُجِّلت‏}‏ بإعادة الحرف الذي جُرَّ بهِ المبدل منه كقوله تعالى‏:‏
‏{‏تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏ أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل‏.‏
والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلان على جواب ‏(‏إذا‏)‏ من قوله ‏{‏فإذا النجوم طمست‏}‏ الخ، إذ يُعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذُكر فذلك وقوع ما تُوعدون‏.‏
وجملة ‏{‏لأي يوم أجِّلت ليوم الفصل‏}‏ قد علمت آنفاً الوجه الوجيه في معناها‏.‏ ومن المفسرين من جعلها مقول قول محذوف‏:‏ يقال يومَ القيامة، ولا داعي إليه‏.‏
و ‏{‏الفصل‏}‏‏:‏ تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاءِ إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضحُ الحقائق على ما هي عليه في الواقع‏.‏
وجملة ‏{‏وما أدراك ما يوم الفصل‏}‏ في موضع الحال من يوم الفصل، والواو واو الحال والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضاً عن ضميره، مثلُ ‏{‏القارعةُ ما القارعةُ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ والأصل‏:‏ وما أدراك ما هو، وإنما أُظهر في مقام الإِضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصداً لتهويله‏.‏
و ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية مبتدأ و‏{‏أدراك‏}‏ خبرٌ، أي أعلمك‏.‏ و‏{‏ما يوم الفصل‏}‏ استفهام عُلق به فعل ‏{‏أدْرَاك‏}‏ عن العمل في مفعولين، و‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية مبتدأ أيضاً و‏{‏يوم الفصل‏}‏ خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
حَمْل هذه الجملة عن نظائرها الآتية في هذه السورة يقتضي أن تُجعل استئنافاً لقصد تهديد المشركين الذين يسمعون القرآن، وتهويل يوم الفصل في نفوسهم ليحذروه، وهو متصل في المعنى بجملة ‏{‏إِن ما تُوعَدُون لواقع‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 7‏]‏ اتصال أجزاء النظم، فموقع جملة ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ ابتداءُ الكلام، وموقع جملة ‏{‏إذا النجوم طمست‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 8‏]‏ التأخرُ، وإنما قُدمت لتؤذن بمعنى الشرط‏.‏ وقد حصل من تغيير النظم على هذا الوجه أن صارت جملة ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ بمنزلة التذييل، فحصل في هذا النظم أسلوب رائع، ومعان بدائع‏.‏ وبعض المفسرين جعل هذه الجملة جواب ‏(‏إذَا‏)‏ أي يتعلق ‏(‏إذَا‏)‏ بالاستقرار الذي في الخبر وهو ‏{‏للمكذبين‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إذا حصل كذا وكذا حلّ الويل للمكذبين وهو كالبيان لقوله‏:‏ ‏{‏إن ما تُوعَدُون لواقع، فيحصل تأكيد الوعيد، ولا يَرِد على هذا عُرُوّ الجواب عن الفاء الرابطة للجواب لأن جواب ‏(‏إذا‏)‏ جوابٌ صوري، وإنما هو متعلَّق ‏(‏إذا‏)‏ عومل معاملة الجواب في المعنى‏.‏
ثم إن هذه الجملة صالحة لمعنى الخبرية ولمعنى الإِنشاء لأن تركيب ‏(‏وَيْل له‏)‏ يستعمل إنشاء بكثرة‏.‏
والويل‏:‏ أشد السوء والشرِّ‏.‏
وعَلى الوجه الأول يكون المُراد بالمكذبين كذبوا بالقرآن، وعلى الوجه الثاني في معنى الجملة جميعُ الذين كذبوا الرسل وما جَاءُوهُم به، وبذلك العموم أفادت الجملة مُفاد التذييل، ويشمل ذلك المشركين الذين كذبوا بالقرآن والبعثثِ إذ هم المقصود من هذه المواعظ وهم الموجه إليهم هذا الكلام، فخوطبوا بقوله‏:‏ إنما توعدون لواقع‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏
استئناف بخطاب موجه إلى المشركين الموجودين الذين أنكروا البعث معترض بين أجزاء الكلام المخاطببِ به أهل الشرك في المحشر‏.‏
ويتضمن استدلالاً على المشركين الذين في الدنيا، بأن الله انتقم من الذين كفروا بيوم البعث من الأمم سابقهم ولاحِقهم ليحذروا أن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك الأولين والآخِرين‏.‏
والاستفهام للتقرير استدلالاً على إمكان البعث بطريقة قياس التمثيل‏.‏
والمراد بالأولين الموصوفون بالأولية أي السبق في الزمان، وهذا يقِرُّ به كل جيل منهم مسبوق بجيل كفروا‏.‏
فالتعريف في ‏{‏الأولين‏}‏ تعريف العهد، والمراد بالأولين جميع أمم الشرك الذين كانوا قبل مشركي عصر النبوة‏.‏
والإِهلاك‏:‏ الإِعدام والإِماتة‏.‏ وإهلاك الأولين له حالتان‏:‏ حالة غير اعتيادية تنشأ عن غضب الله تعالى، وهو إهلاك الاستئصال مثل إهلاك عاد وثمود، وحالة اعتيادية وهي ما سَن الله عليه نظام هذا العالم من حياة وموت‏.‏
وكلتا الحالتين يصح أن تكون مراداً هنا، فأما الحالة غير الاعتيادية فهي تذكير بالنظر الدال على أن الله لا يرضى عن الذين كذبوا بالبعث‏.‏
وأما الحالة الاعتيادية فدليل على أن الذي أحيا الناس يميتهم فلا يتعذر أن يعيد إحياءهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏
‏{‏ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏
حرف ‏(‏ثمّ‏)‏ للتراخي الرُتبي لأن التهديد أهم من الإِخبار عن أهل المحشر، لأنه الغرض من سوق هذا كله، ولأن إهلاك الآخرين أشدّ من إهلاك الأولين لأنه مسبوق بإهلاك آخر‏.‏
ووقعت جملة ‏{‏كذلك نفعل بالمجرمين‏}‏ موقَع البيان لجملة ‏{‏ألم نُهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 16، 17‏]‏، وهو كالتذييل يبين سبب وقوع إهلاك الأولين وأنه سبب لإِيقاع الإِهلاك بكل مجرم، أي تلك سنة الله في معاملة المجرمين فلا محيص لكم عنها‏.‏
وذكر وصف ‏{‏المجرمين‏}‏ إيماء إلى أن سبب عقابهم بالإِهلاك هو إجرامهم‏.‏
والإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ إلى الفعل المأخوذ من ‏{‏نفعل،‏}‏ أي مثل ذلك الفعل نفعل‏.‏
و ‏(‏المجرمون‏)‏ من ألقاب المشركين في اصطلاح القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين أجرموا كانوا من الذي ءامنوا يضحكون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 29‏]‏ وسيأتي في هذه السورة ‏{‏كُلُوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 46‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏
تقرير لنظيره المتقدم تأكيداً للتهديد وإعادة لمعناه‏.‏
التهديد‏:‏ من مقامات التكرير كقول الحارث بن عياد‏:‏
قَرِّبَا مربَط النَعامة مني ***
الذي كرّره مراراً متوالية في قصيدته اللامية التي أثارت حرب البسوس‏.‏
فعلى الوجه الأول في موقع جملة ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ يقدر الكلام المعوض عنه تنوين ‏{‏يومئذٍ‏}‏ يومَ إذ يقال لهم ‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 16‏]‏‏.‏
والمراد بالمكذبين‏:‏ المخاطبون فهو إظهار في مقام الإِضمار لتسجيل أنهم مكذبون، والمعنى‏:‏ ويل يومئذٍ لكم‏.‏
وعلى الوجه الثاني في موقع الجملة يقدر المحذوف المعرض عنه التنوينُ‏:‏ يومَ إذ ‏{‏النجوم طمست‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 8‏]‏ الخ، فتكون الجملة تأكيداً لفظياً لنظيرتها التي تقدمت‏.‏ والمراد بالمكذبين جميع المكذبين الشامل للسامعين‏.‏
وعلى الاعتبارين فتقرير معنى الجملتين حاصل لأن اليوم يوم واحد ولأن المكذبين يَصدُق بالأحياء وبأهل المحشر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏
‏{‏أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
تقرير أيضاً يجري فيه ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نهلك الأولين، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع‏.‏
وكل من التقرير والتقريع من مقتضيات ترك العطف لشَبَهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه‏.‏
وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإِيجاد بعد العدم إيجاداً متقناً دالاً على كمال الحكمة والقدرة ليفضَى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإِعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بُدئ أول مرة وكفى بذلك مرجحاً لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإِرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه‏.‏
والماء‏:‏ هو ماء الرجُل‏.‏ والمَهين‏:‏ الضعيف فعيل من مَهُنَ، إذا ضعُف، وميمه أصلية وليس هو من مادة هَان‏.‏
وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنساناً شديد القوة عقلاً وجسماً‏.‏
وحرف مِن‏}‏ للابتداء لأن تكوين الإِنسان نشأ من ذلك الماء، كما تقول‏:‏ هذه النخلة مِن نواة تَوْزَرِيَّة‏.‏
وجعل خلق الإِنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلاّ بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم تكوينَ الجنين من ماء المرأة وماء الرجل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فجعلناه في قرار مكين‏}‏ تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإِدماج مع مناسبته لأن له دخلاً في تبيين إمكان الإِعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء، ولذلك ذيله بقوله ‏{‏فنعم القادرون‏}‏ على التفسيرين الآتيين‏.‏
والقرار‏:‏ محل القرور والمكث‏.‏
و ‏{‏مَكين‏}‏‏:‏ صفة ل ‏{‏قرار‏}‏، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكُن مَكانة، إذا ثبت ورسخ‏.‏
ووُصف القرارُ بالمكين على طريقة المجاز العقلي، أي مكين الحالُّ والمستقرّ فيه‏.‏ فالتقدير‏:‏ مكين فيه‏.‏ والمراد بالقرار المكين‏:‏ الرحم‏.‏
والقدَر‏:‏ بفتح الدال المقدار المعيّن المضبوط، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل‏.‏
وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر ‏{‏فقدَّرنا‏}‏ بتشديد الدال‏.‏ وقرأه الباقون بتخفيف الدال من قَدر المتعدي وهما بمعنى واحد، يقال‏:‏ قَدَّر بالتشديد تقديراً فهو مُقدِّر، وقدَر بالتخفيف قَدْراً فهو قادر، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جُعل له‏.‏
والمعنى‏:‏ فقدرنا الخلق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من نطفة خلقه فقدَّره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وخلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقدّرنا‏}‏ للتفريع على قوله‏:‏ ‏{‏فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم‏}‏، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالاً‏.‏
والفاء في ‏{‏فنعم القادرون‏}‏ للتفريع على ‏(‏قدّرنا‏)‏ أي تفريع إنشاء ثناء، أي فدل تقديرُنا على أننا نعم القادرون، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة‏.‏
و ‏{‏القادرون‏}‏‏:‏ اسم فاعل من قدَر اللازم إذا كان ذا قُدرة وبذلك يكون الكلام تأسيساً لا تأكيداً، أي فنعم القادرون على الأشياء‏.‏
وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون ‏(‏قَدّرنا‏)‏ فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
هو نحو ما تقدم في نظيره الموالي هو له‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏
‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏‏}‏
جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض لهم بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَتاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 33‏]‏‏.‏
ومحلّ الامتنان هو قوله‏:‏ ‏{‏أحياءً‏}‏ وأمَّا قوله‏:‏ ‏{‏وأمواتاً‏}‏ فتتميم وإدماج‏.‏
وكِفَات‏:‏ اسم للشيء الذي يُكْفَت فيه، أي يُجمع ويُضَمّ فيه، فهو اسم جاء على صيغة الفِعال من كَفَت، إذا جَمَع، ومنه سُمي الوعاء‏:‏ كفاتاً، كما سمي ما يعي الشيء وِعَاء، وما يَضُم الشيء‏:‏ الضِمام‏.‏
و ‏{‏أحياء‏}‏ مفعول ‏{‏كِفاتاً‏}‏ لأن ‏{‏كفاتاً‏}‏ فيه معنى الفِعل كأنه قيل كافتةً أحياءً‏.‏ وقد يقولون منصوب بفعل مقدر دلّ عليه ‏{‏كِفاتاً‏}‏ وكل ذلك متقارب‏.‏
و ‏{‏أمواتاً‏}‏ عطف عليه وهو إدماج وتتميم لأن فيه مشاهدة الملازمة بين الأحياء والأموات تدلّ على أن الحياة هي المقصود من الخلقة‏.‏
وهذا تقرير لهم بالاعتراف بالأحوال المشاهدة في الأرض الدالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية‏.‏
وتنوين ‏{‏أحياء وأمواتاً‏}‏ للتعظيم مراداً به التكثيرُ ولذلك لم يؤت بهما معرَّفين باللام، وفائدة ذكر هذين الجَمْعين ما في معنييهما من التذكير بالحياة والموت‏.‏
وقد تصدى الكلام لإِثبات البعث بشواهد ثلاثة‏:‏
أحدها‏:‏ بحال الأمم البائدة في انقراضها‏.‏
الثاني‏:‏ بحال تكوين الإِنسان‏.‏
الثالث‏:‏ مصير الكل إلى الأرض وفي كل ذلك إبطال لإِحالتهم وقوع البعث لأنهم زعموا استحالته فأبطلت دعواهم بإثبات إمكان البعث فإنه إذ ثبت الإِمكان بطلت الاستحالة فلم يبق إلاّ النظر في أدلة ترجيح وقوع ذلك الممكن‏.‏
وفي الآية امتنان يجعل الأرض صالحة لدفن الأموات، وقد ألهم الله لذلك ابنَ آدم حين قتَل أخاه كما تقدم ذكره في سورة المائدة، فيؤخذ من الآية وجوب الدفن في الأرض إلاّ إذا تعذر ذلك كالذي يموت في سفينة بعيدة عن مراسي الأرض أو لا تستطيع الإِرساء، أو كان الإِرساء يضر بالراكبين أو يُخاف تعفن الجثة فإنها يُرمى بها في البحر وتثقَّل بشيء لترسُب إلى غريق الماء‏.‏ وعليه فلا يجوز إحراق الميت كما يفعل مَجُوس الهند، وكان يفعله بعض الرومان، ولا وضعُه لكواسر الطير كما كان يفعل مَجُوس الفرس، وكان أهل الجاهلية يتمدحون بالميت الذي تأكله السباع أو الضباع وهو الذي يموت قتيلاً في فلاة، قال تأبط‏:‏
لا تدْفِنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّم *** عليكُم ولكنْ خَامري أُمَّ عامر
وهذا من جهالة الجاهلية وكُفران النعمة‏.‏
واحتج ابن القاسم من أصحاب مالك بهذه الآية لكون القبر حرزاً فأوجب القطع على من سرق من القبر كفناً أو ما يبلغ ربع دينار، وقال مالك‏:‏ القبر حِوَز للميت كما أن البيت حِوَز الحي‏.‏
وفي «مفاتيح الغيب» عن تفسير القفال‏:‏ أن ربيعة استدل بها على ذلك‏.‏
والرواسي‏:‏ جمع راس، أي جبالاً رواسي، أي ثوابت فى الأرض قال السموأل‏:‏
رسا أصله تحت الثرى وسَمَا به *** إلى النجم فرع لا يُنَال طويل
وجمع على فواعل لوقوعه صفة لمذكر غير عاقِل وهذا امتنان بخلق الجبال لأنهم كانوا يأوُون إليها وينتفعون بما فيها من كَلأ وشجر قال تعالى‏:‏ ‏{‏والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 32، 33‏]‏‏.‏
والشامخات‏:‏ المرتفعات‏.‏
وعُطف ‏{‏وأسقيناكم ماء فراتاً‏}‏ لمناسبة ذكر الجبال لأنها تنحدر منها المياه تجري في أسافلها وهي الأدوية وتقر في قرارات وحياض وبُحيرات‏.‏
والفُرات‏:‏ العذب وهو ماء المطر‏.‏
وتنوين ‏{‏شامخات‏}‏ و‏{‏ماءً فراتاً‏}‏ للتعظيم لِدلالة ذلك على عظيم القدرة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏
تكرير للتوبيخ والتقريع مثل نظيره الواقع ثانياً في هذه السورة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏
‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏‏}‏
هذا خطاب للمكذبين في يوم الحشر فهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب بالانطلاق دون وجود مخاطب يؤمر به الآن‏.‏
والضمير المقدَّر مع القول المحذوف عائد إلى المكذبين، أي يقال للمكذبين‏.‏
والأمر بانطلاقهم مستعمل في التسخير لأنهم تنطلق بهم ملائكة العذاب قسراً‏.‏
وما كانوا به يكذبون هو جهنم‏.‏ وعبر عنه بالموصول وصلته لما تتضمنه الصلة من النداء على خطئهم وضلالهم على طريقة قول عَبْدَة بن الطَّبيب‏:‏
إِنَّ الذين ترَوْنَهم إِخْوَانَكم *** يشْفِي غَلِيلَ صُدورهم أنْ تُصْرَعُوا
وجملة ‏{‏انطلقوا إلى ظل‏}‏ إلى آخرها، بدل اشتمال أو مطابقٌ من جملة ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏‏.‏
وأعيد فعل ‏{‏انطلقوا‏}‏ على طريقة التكرير لقصد التوبيخ أو الإِهانة والدَّفْع، ولأجله أُعيد فعل ‏{‏انطلقوا‏}‏ وحرفُ ‏{‏إلى‏}‏‏.‏
ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ انطلقوا إلى ما كنتُم به تكذبون ظِللٍ ذي ثلاث شعب، فإعادة العامل في البدل للتأكيد في مقام التقريع‏.‏
وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته، فعبر عنه بالظل تهكماً بهم لأنهم يتشوقون ظلاً يأوون إلى برده‏.‏
وأفرد ‏{‏ظل‏}‏ هنا لأنه جعل لهم ذلك الدخان في مكان واحد ليكونوا متراصين تحته لأن ذلك التراص يزيدهم ألماً‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏انطلقوا‏}‏ الثاني بكسر اللام مثل ‏{‏انطلقوا‏}‏ الأول، وقرأه رُوَيس عن يعقوب بفتح اللام على صيغة الفعل الماضي على معنى أنهم أُمروا بالانطلاق إلى النار فانطلقوا إلى دخانها، وإنما لم يعطف بالفاء لقصد الاستئناف ليكون خبراً آخرَ عن حالهم‏.‏
والشُّعَب‏:‏ اسم جمع شُعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه، أي ذي ثلاث طوائف وَأريد بها طوائف من الدخان فإن النار إذا عظم اشتعالها تصاعد دخانها من طرفيها ووسطها لشدة انضغاطه في خروجه منها‏.‏
فوُصف الدخان بأنه ذو ثلاث شعب لأنه يكون كذلك يوم القيامة‏.‏ وقد قيل في سبب ذلك‏:‏ إن شعبة منه عن اليمين وشعبة عن اليسار وشعبة من فوق، قال الفخر‏:‏ «وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإِنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلاّ هذه الثلاثة، ويمكن أن يقال ها هنا ثلاث درجات وهي‏:‏ الحِس، والخيال، والوهَم‏.‏ وهي مانعة للروح من الاستنارة بأنوار عالم القدس» اه‏.‏
والظليل‏:‏ القوي في ظِلاله، اشتق له وصف من اسمه لإفادة كماله فيما يراد منه مثل‏:‏ لَيْلٌ ألْيَلُ، وشِعْرٌ شَاعِرٌ، أي ليس هو مثل ظل المؤمنين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونُدخلهم ظِلاًّ ظليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وفي هذا تحسير لهم وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظِلَ من يَحموم لا بَارِد ولا كريم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 43، 44‏]‏‏.‏
وجُرّ ‏{‏ظليل‏}‏ على النعت ل ‏{‏ظل‏}‏، وأقحمت ‏{‏لا‏}‏ فصارت من جملة الوصف ولا يظهر فيها إعراب كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها بقرةٌ لاَ فَارض ولا بِكْر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ وشأن ‏{‏لا‏}‏ إذا أدخلت في الوصف أن تكرر فلذلك أعيدت في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يغني من اللهب‏}‏‏.‏
والإِغناء‏:‏ جعل الغير غنياً، أي غير محتاج في ذلك الغرض، وتعديته ب ‏(‏مِن‏)‏ على معنى البدلية أو لتضمينه معنى‏:‏ يُبعد، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُغني عنكم من الله مِنْ شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وبذلك سلب عن هذا الظل خَصائص الظلال لأن شأن الظل أن ينفس عن الذي يأوي إليه أَلَم الحر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏
‏{‏إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون هذا من تمام ما يقال للمكذبين الذين قيل لهم‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏، فإنهم بعد أن حصل لهم اليأس مما ينفِّس عنهم ما يَلقون من العذاب، وقيل لهم‏:‏ انطلقوا إلى دخان جهنم ربما شاهدوا ساعتئذٍ جهنم تقذف بشررها فيروعهم المنظر، أو يشاهدونها عن بعد لا تتضح منه الأشياء وتظهر عليهم مخائل توقعهم أنهم بالغون إليه فيزدادون روعاً وتهويلاً، فيقال لهم‏:‏ إن جهنم ‏{‏ترمي بشرر كالقصر كأنه جِمَالات صفر‏}‏‏.‏
ويجوز أن يكون اعتراضاً في أثناء حكاية حالهم، أو في ختام حكاية حالهم‏.‏
فضمير ‏{‏إنها‏}‏ عائد إلى جهنم التي دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏ما كنتم به تكذبون كما يقال للذي يساق إلى القتل وقد رأى رجلاً بيده سيف فاضطَرب لرؤيته فيقال له‏:‏ إنه الجَلاّد‏.‏
وإجراء تلك الأوصاف في الإِخبار عنها لزيادة الترويع والتهويل، فإن كانوا يرون ذلك الشرر لقربهم منه فوصفه لهم لتأكيد الترويع والتهويل بتظاهر السمع مع الرؤية‏.‏ وإن كانوا على بعد منه فالوصف للكشف عن حاله الفظيعة‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام به لأنهم حِينئذٍ لا يشكون في ذلك سواء رأوه أو أخبروا به‏.‏
والشرر‏:‏ اسم جمع شَرَرَة‏:‏ وهي القطعة المشتعلة من دقيق الحطب يدفعها لهب النار في الهواء من شدة التهاب النار‏.‏
والقَصر‏:‏ البناء العالي‏.‏ والتعريف فيه للجنس، أي كالقصور لأنه شبه به جمع، وهذا التعريف مثل تعريف الكتاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، أي الكُتب‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الكِتاب أكثرُ من الكُتُب، أي كل شررة كقصر، وهذا تشبيه في عظم حجمه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏كأنه جِمالات صفر‏}‏ تشبيه له في حجمه ولونه وحركته في تطايره بجمالات صفر‏.‏ وضمير ‏{‏كأنه‏}‏ عائد إلى شرر‏.‏
والجِمالات‏:‏ بكسر الجيم جمع جِمالة، وهي اسم جمع طائفة من الجمال، أي تُشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقاً، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته‏.‏ والصُفرة‏:‏ لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏جِمالات‏}‏ بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ ‏{‏جِمالة‏}‏ بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة‏.‏
وقرأه رُويس عن يعقوب ‏{‏جُمالات‏}‏ بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جُمالة بالضم وهي حبل تشدّ به السفينة، ويُسمى القَلْس ‏(‏بقاف مفتوحة ولام ساكنة‏)‏ والتقدير‏:‏ كأنّ الواحدة منها جُمالة، و‏{‏صفر‏}‏ على هذه القراءة نعت ل ‏{‏جمالات‏}‏ أو ل ‏(‏شرر‏)‏‏.‏
قال صاحب «الكشاف»‏:‏ وقال أبو العلاء ‏(‏يعني المعري‏)‏ في صفة نار قوم مدحهم بالكرم‏:‏
حَمْرَاءَ ساطعةَ الذوائب في الدُّجَى *** ترمي بكُل شَرارة كطِرَاف
شبه الشرارة بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة وكأنّه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبَجحه بما سُوِّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله‏:‏ «حَمْراء» توطئةً لها ومناداة عليها وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عَمِي جمع الله له عَمَى الدارين عن قوله عز وعلا‏:‏ ‏{‏كأنَّه جمالات صفر‏}‏ فإنه بمنزلة قوله كبيتتٍ أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً من جهتين من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء فأبْعَدَ الله إغرابه في طِرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه اه‏.‏
وأقول‏:‏ هذا الكلام ظن سوء بالمعري لم يُشمَّ من كلامه، ولا نسبه إليه أحد من أهل نبزه وملامه، زاد به الزمخشري في طنبور أصحاب النقمة، لنبز المعري ولمزه نغمة‏.‏
قال الفخر‏:‏ كانَ الأولى لصاحب «الكشاف» أن لا يذكر ذلك ‏(‏أي لأنه ظن سوءاً بلا دلِيل‏)‏‏.‏
وقال الطيبي‏:‏ وليس كذلك لأنه لا يخفى على مثل المعري‏:‏ أن الكلام بآخره لأن الله شبّه الشرارة‏:‏ أولاً حين تنفصل عن النار بالقصر في العظم، وثانياً حين تأخذ في الارتفاع والانبساط فتنشقّ عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات في التفرق واللون والعِظَم والثقل، ونُظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية وكل ذلك مفقود في بيته‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏
تكرير لقصد تهديد المشركين الأحياء والقول فيه كالقول في نظيره الواقع ثانياً في هذه السورة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏
‏{‏هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏
إن كانت الإِشارة على ظاهرها كان المشار إليه هو اليوم الحاضر وهو يوم الفصل فتكون الجملة من تمام ما يقال لهم في ذلك اليوم بعد قوله‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏ فيكون في الانتقال من خطابهم بقوله‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى إِجراء ضمائر الغيبة عليهم، التفات يزيده حسناً أنهم قد استحقوا الإِعراض عنهم بعد إهانتهم بخطاب انطلقوا‏}‏‏.‏
وهذا الوجه أنسب بقوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 38‏]‏، وموقع الجملة على هذا التأويل موقع تكرير التوبيخ الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو من جملة ما يقال لهم في ذلك اليوم، واسم الإِشارة مستعمل في حقيقته للقريب‏.‏
وإن كانت الإِشارة إلى المذكور في اللفظ وهو يوم الفصل المتحدث عنه بأنَّ فيه الويل للمكذبين، كان هذا الكلام موجهاً إلى الذين خوطبوا بالقرآن كلهم إنذاراً للمشركين منهم وإنعاماً على المؤمنين، فكانت ضمائر الغيبة جارية على أصلها وكانت عائدة على المكذبين من قوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 34‏]‏ وتكون الجملة معترضة بين جملة ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، وجملة هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 38‏]‏‏.‏ واسم الإِشارة الذي هو إشارة إلى القريب مستعمل في مشار إليه بعيد باعتبار قرب الحديث عنه على ضرب من المجاز أو التسامح‏.‏
واسم الإِشارة مبتدأ ‏{‏ويومُ لا ينطقون‏}‏ خبر عنه‏.‏
وجملة ‏{‏لا ينطقون‏}‏ مضاف إليها ‏{‏يوم‏}‏، أي هو يومٌ يُعرَّف بمدلول هذه الجملة، وعدم تنوين ‏{‏يوم‏}‏ لأجل إضافته إلى الجملة كما يضاف ‏(‏حين‏)‏ والأفصح في هذه الأزمان ونحوه إذا أضيف إلى جملة مفتتحة ب ‏{‏لا‏}‏ النافية أن يكون معرباً، وهو لغة مُضر العُليا، وأما مضر السفلى فهم يبنونه على الفتح دائماً‏.‏
وعطف ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ على جملة ‏{‏لا ينطقون‏}‏، أي لا يؤذن إذناً يتفرع عليه اعتذارهم، أي لا يؤذن لهم في الاعتذار‏.‏ فالاعتذار هو المقصود بالنفي، وجعل نفي الإِذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم، ولذلك جاء ‏{‏فيعتذرون‏}‏ مرفوعاً ولم يجئ منصوباً على جواب النفي إذ ليس المقصود نفي الإِذن وترتّب نفي اعتذارهم على نفي الإِذن لهم إذ لا محصول لذلك، فلذلك لم يكن نصب ‏{‏فيعتذرون‏}‏ مساوياً للرفع بل ولا جائزاً بخلاف نحو ‏{‏لا يُقضى عليهم فيموتوا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏ فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قُضي عليهم لماتوا، أي فقَدوا الإِحساس، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد‏.‏ ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن ‏{‏فيعتذرون‏}‏ استئناف تقديره‏:‏ فهم يعتذرون، ولا إلى ما قاله ابن عطية تبعاً للطبري‏:‏ إنه ينصب لأجل تشابه رؤوس الآيات، وبعد فإن مناط النصب في جواب النفي قصدُ المتكلم جعْلَ الفعل جواباً للنفي لا مجرد وجود فعل مضارع بعد فعل منفي‏.‏
واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل‏.‏
وأما نطقهم المحكي في قوله‏:‏ ‏{‏ربنا أمتنا اثنتين فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بنَ الأزرق حين قال نافع‏:‏ إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال الله‏:‏ ‏{‏ولا يتساءلون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ فقال ابن عباس‏:‏ لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذٍ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏ والذي يجمع الجواب عنْ تلك الآيات وعن أمثالها هو أنه يجب التنبه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏
تكرير لتهديد المشركين متصل بقوله‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35‏]‏ الآية على أول الوجهين في موقع ذلك، أو هو وارد لمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون على ثاني الوجهين المذكورين فيه فيكون تكريراً لنظيره الواقع بعد قوله‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏صُفْر‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 33‏]‏ اقتضى تكريره عَقِبَه أنَّ جملة ‏{‏هذا يوم لا ينطقون الخ تتضمن حالة من أحوالهم يوم الحشر لم يسبق ذكرها فكان تكرير ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ بعدَها لوجود مقتضي تكرير الوعيد للسامعين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏
‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏
تكرير لتوبيخهم بعد جملة ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏ شُيع به القول الصادر بطردهم وتحقيرهم، فإن المطرود يشيّع بالتوبيخ، فهو مما يقال لهم يومئذٍ، ولم تعطف بالواو لأنها وقعت موقع التذييل للطرد، وذلك من مقتضيات الفصل سواء كان التكرير بإعادة اللفظ والمعنى، أم كان بإعادة المعنى والغرض‏.‏
والإشارة إلى المشهد الذي يشاهدونه من حضور الناس ومُعَدات العرض والحساب لفصل القضاء بالجزاء‏.‏
والإِخبار عن اسم الإِشارة بأنه ‏{‏يوم الفصل‏}‏ باعتبار أنهم يتصورون ما كانوا يسمعون في الدنيا من محاجّة عليهم لإِثبات يوم يكون فيه الفصل وكانوا ينكرون ذلك اليومَ وما يتعذرون بما يقع فيه، فصارت صورة ذلك اليوم حاضرة في تصورهم دون إيمانهم به، فكانوا الآن متهيئين لأن يوقنوا بأن هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بحلوله، وقد عُرِف ذلك اليوم من قبل بأنه يوم الفصل ‏[‏المرسلات‏:‏ 13‏]‏، أي القضاء وقد رأوا أهبة القضاء‏.‏
وجملة ‏{‏جمعناكم والأولين‏}‏ بيان للفصل بأنه الفصل في الناس كلهم لجزاء المحسنين والمسيئين كلهم، فلا جرم جُمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 49، 50‏]‏‏.‏
والمخاطبون بضمير ‏{‏جمعناكم‏}‏‏:‏ المشركون الذين سبق الكلام لتهديدهم وهم المكذبون بالقرآن، لأن عطف ‏{‏والأولين‏}‏ على الضمير يمنع من أن يكون الضمير لجميع المكذبين مثل الضمائر التي قبله، لأن الأولين من جملة المكذبين فلا يقال لهم‏:‏ ‏{‏جمعناكم والأولين‏}‏، فتعين أن يختص بالمكذبين بالقرآن‏.‏
والمعنى‏:‏ جمعناكم والسابقين قبلكم من المكذبين‏.‏
وقد أنذروا بما حلّ بالأولين أمثالهم من عذاب الدنيا في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فأريد توقيفهم يومئذٍ على صدق ما كانوا يُنذرون به في الحياة الدنيا من مصيرهم إلى ما صار إليه أمثالهم، فلذلك لم يتعلق الغرض يومئذٍ بذكر الأمم التي جاءت من بعدهم‏.‏
وباعتبار هذا الضمير فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن كان لكم كيْد فكيدون‏}‏ فكان تخلّصاً إلى توبيخ الحاضرين على ما يكيدون به للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15 17‏]‏ وأن كيدهم زائل وأن سوء العقبى عليهم‏.‏
وفرع على ذلك ‏{‏فإن كان لكم كيد فكيدون‏}‏، أي فإن كان لكم كيد اليوم كما كان لكم في الدنيا، أي كيد بديني ورسولي فافعلوه‏.‏
والأمر للتعجيز، والشرط للتوبيخ والتذكير بسوء صنيعهم في الدنيا، والتسجيل عليهم بالعجز عن الكيد يومئذٍ حيث مُكِّنوا من البحث عما عسى أن يكون لهم من الكيد فإذا لم يستطيعوه بعد ذلك فقد سُجل عليهم العجز‏.‏ وهذا من العذاب الذي يعذَّبونه إذ هو من نوع العذاب النفساني وهو أوقع على العاقل من العذاب الجسماني‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏
تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله كاتصال نظيره المذكور آنفاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏
‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكى لهم يومئذٍ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديماً لهم على ما فرطوا فيه مِمَا بَادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا، فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله‏:‏ ‏{‏انطلقوا‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏ الخ‏.‏
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويهاً بشأنهم وتعريضاً بترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين‏.‏
و ‏{‏ظِلال‏}‏‏:‏ جمع ظِلّ، وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة وكثرة المستظلّين بظلها، ولأن لكل واحد منهم ظلاً يتمتع فيه هو ومَن إليه، وذلك أوقع في النعيم‏.‏
والتعريف في ‏{‏المتقين‏}‏ للاستغراق فلكل واحد من المتقين كون في ظلال‏.‏
و ‏{‏في‏}‏ للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفاً في الظل، وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيهاً لكثرة مَا حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف، وقوله‏:‏ ‏{‏مما يشتهون‏}‏ صفة ‏{‏فواكه‏}‏‏.‏ وجمع ‏{‏فواكه‏}‏ الفواكه وغيرها، فالتبعيض الذي دلّ عليه حرف ‏(‏من‏)‏ تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى ممّا اشتهوه‏.‏
وجملة ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ مقول قول محذوف، وذلك المحذوف في موقع الحال من ‏{‏المتقين‏}‏، والتقدير‏:‏ مقولاً لهم كلوا واشربوا‏.‏
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف لضيوفه فالأمر في ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ مستعمل في العَرض‏.‏
و ‏{‏هنيئاً‏}‏ دُعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا‏:‏ هَنيئاً مريئاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏4‏)‏‏.‏
وهنيئاً‏}‏ وصف لموصوف غيرِ مذكور دل عليه فعل ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ وذلك الموصوف مفعول مطلق من ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ مُبيّن للنوع لقصد الدعاء مثل‏:‏ سَقْياً ورَعياً، في الدعاء بالخير، وتَبّاً وسُحْقاً في ضده‏.‏
والباء في ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ للسببية، أي لإِفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلَّقه، أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأنْ جعل ذلك الإِنعام حقاً لهم‏.‏
وجملة ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ يجوز أن تكون مما يقال للمتقين بعد أن قيل لهم ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ الخ مسوقة إليهم مساق زيادة الكرامة بالثناء عليهم، أي هذا النعيم الذي أنعمتُ به عليكم هو سُنتنا في جزاء المُحسنين فإذْ قد كنتم من المحسنين فذلك جزاء لكم نِلتموه بأنكم من أصحاب الحق في مثله، ففي هذا هَزٌّ من أعطاف المنعم عليهم‏.‏
والمعنى عليه‏:‏ أن هذه الجملة تقال لكل متّق منهم، أو لكل جماعة منهم مجتمعة على نعيم الجنة، وليعلموا أيضاً أن أمثالهم في الجنات الأخرى لهم من الجزاء مثل ما هم ينعمون به‏.‏
ويجوز أن تكون الجملة موجهة إلى المكذبين الموجودين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون إثر قوله ‏{‏إن المتقين في ظلال وعيون‏}‏ الخ، قصد منها التعريض بأنّ حرمانهم من مثل ذلك النعيم هم الذين قضوا به على أنفسهم إذ أبوا أنْ يكونوا من المحسنين تكملة لتنديمهم وتحسيرهم الذي بودئوا به من قوله‏:‏ ‏{‏إنّ المتقين في ظلال وعيون‏}‏ إلى آخره، أي إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم المسيئين‏.‏
وموقع الجملة على كلا الاعتبارين موقع التعليل لما قبلها على كلا التقديرين فيما قبلها، ومن أجْل الإِشعار بهذا التعليل افتُتحت ب ‏{‏إنَّ‏}‏ مع خلو المقام عن التردد في الخبر إذ الموقف يومئذٍ موقف الصدق والحقيقة، فلذلك كانت ‏{‏إنَّ‏}‏ متمحضة لإِفادة الاهتمام بالخبر وحينئذٍ تصير مُغنية غناء فَاء التسبب وتفيد مُفاد التعليل والربط كما تقدمت الإِشارة إليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن البَقر تشابه علينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ وتفصيلَه عند قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ أول بيت وُضِع للنَّاس للذي ببكة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏‏.‏
والإِشارة بقوله‏:‏ كذلك‏}‏ إلى النعيم المشاهد إن كانت الجملة التي فيها إشارة موجهة إلى ‏{‏المتقين‏}‏، أو الإِشارة إلى النعيم الموصوف في قوله‏:‏ ‏{‏في ظِلال وعيون‏}‏ إن كانت الجملة المشتملة على اسم الإِشارة موجهة إلى المكذبين‏.‏
والجملة على كل تقدير تفيد معنى التذييل بما اشتملت عليه من شبه عموم كذلك، ومن عموم المحسنين، فاجتمع فيها التعليل والتذييل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏
هي على الوجه الأول في جملة ‏{‏إنَّ المتقين في ظِلال وعيون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 41‏]‏ تكرير لنظائرها واليوم المضاف إلى ‏(‏إذْ‏)‏ ذاتتِ تنوين العوض هو يوم صدور تلك المقالة‏.‏
وأما على الوجه الثاني في جملة ‏{‏إن المتقين في ظِلال وعيون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 41‏]‏ الخ فهي متصلة بتلك الجملة لمقابلة ذكر نعيم المؤمنين المُطْنَب في وصفه بذكر ضده للمشركين بإيجاز حاصل من كلمة ‏{‏ويل‏}‏ لتحصل مقابلة الشيء بضده ولتكون هذه الجملة تأكيداً لنظائرها، واليوم المضاف إلى ‏(‏إذ‏)‏ يومٌ غير مذكور ولكنه مما يقتضيه كون المتقين في ظِلال وعيون وفواكه ليعلم بأن ذلك يكون لهم في يوم القيامة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏
‏{‏كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏
خطاب للمشركين الموجودين الذين خوطبوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لواقع‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 7‏]‏، وهو استئناف ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 44‏]‏ إذ يثير في نفوس المكذبين المخاطبين بهذه القوارع ما يكثر خطوره في نفوسهم من أنهم في هذه الدنيا في نعمة محققة وأن ما يُوعدون به غير واقع فقيل لهم‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتّعوا قليلاً‏}‏‏.‏
فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏كلُوا وتمتَّعوا‏}‏ مستعمل في الإِمهال والإِنذار، أي ليس أكلكم وتمتعكم بلذات الدنيا بشيء لأنه تمتع قليل ثم مأواكم العذاب الأبدي قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبيس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنكم مجرمون‏}‏ خبر مستعمل في التهديد والوعيد بالسوءِ، أي إن إجرامكم مُهْوٍ بكم إلى العذاب، وذلك مستفاد من مقابلة وصفهم بالإِجرام بوصف ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 41‏]‏ بالإِحسان إذ الجزاء من جنس العمل، فالجملة واقعة موقع التعليل‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لرد إنكارهم كونَهم مجرمين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏
هو مثل نظيره المذكور ثانياً في هذه السورة‏.‏
ويزيد على ذلك بأن له ارتباطاً خاصاً بجملة ‏{‏كُلوا وتمتعوا قليلاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 46‏]‏ لما في ‏{‏تمتّعوا قليلاً من الكناية عن ترقب سوء عاقبة لهم فيقع قوله‏:‏ ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ موقع البيان لتلك الكناية، أي كلوا وتمتعوا قليلاً الآن وويل لكم يوم القيامة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏
‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏للمكذبين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 47‏]‏، والتقدير‏:‏ والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فإن ‏(‏آل‏)‏ الداخلة على الأوصاف المشتقة بمنزلة اسم الموصول غالباً، ولذلك جعلها النحاة في عداد أسماء الموصول وجعلوا الوصف الداخلة عليه صلةً لها‏.‏
ويجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏كُلوا وتمتعوا قليلاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 46‏]‏ والانتقال من الخطاب إلى الغيبة التفات‏.‏
وعلى كلا الوجهين فهو من الإِدماج لينعى عليهم مخالفتهم المسلمين في الأعمال الدالة على الإِيمان الباطننِ فهو كناية عن عدم إيمانهم لأن الصلاة عماد الدين ولذلك عُبر عن المشركين ب ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 5‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ إذا قيل لهم آمنوا واركعوا لا يؤمنون ولا يَركعون كما كني عن عدم الإِيمان لما حكي عنهم في الآخرة ‏{‏ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين ولم نك نطعم المسكين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42 44‏]‏ إلى آخره‏.‏
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إنكم مجرمون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 46‏]‏‏.‏
وعلى الوجوه كلها يفيد تهديدهم لأنه معطوف على التكذيب أو على الإِجرام، وكلاهما سبب للتهديد بجزاء السوء في يوم الفصل‏.‏
وليس في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لعدم تعيُّن معنى المصلين للذين يقيمون الصلاة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏
‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏
هذه الجملة مثل نظيرها المواليةِ هي له، إذ يجوز أن تكون متصلة بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 48‏]‏ ويكون التعبير ب ‏(‏المكذبين‏)‏ إظهاراً في مقام الإِضمار لقصد وصفهم بالتكذيب‏.‏ والتقدير‏:‏ ويل يومئذٍ لهم أو لكم فهي تهديد ناشئ عن جملة ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، ويكون اليوم المشار إليه بيومئذٍ‏}‏ الزمان الذي يفيده ‏{‏إذا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا الذي يُجازى فيه بالويل للمجرمين الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، أي لا يؤمنون، وتفيد مع ذلك تقريراً وتأكيداً لنظيرها المذكور ثانياً في هذه السورة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏
‏{‏فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏
الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدر تقديره‏:‏ إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده يؤمنون، وقد دل على تعيين هذا المقدَّر ما تكرر في آيات ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 49‏]‏ فإن تكذيبهم بالقرآن وما جاء فيه من وقوع البعث‏.‏
والاستفهام مستعمل في الإِنكار التعجيبي من حالهم، أي إذا لم يصدقوا بالقرآن مع وضوح حجته فلا يؤمنون بحديث غيره‏.‏
والمقصود أن القرآن بالغ الغاية في وضوح الدلالة ونهوض الحجة فالذين لا يؤمنون به لا يؤمنون بكلام يسمعونه عقب ذلك‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏بعده يجوز أن يجعل صفةَ حديث فهو ظرف مستقِرّ، والمراد بالبعدية‏:‏ تأخر الزمان، ويقدر معنى بالغ أو مسموع بعد بلوغ القرآن أو سماعه سواء كان حديثاً موجوداً قبل نزول القرآن، أو حديثاً يوجد بعد القرآن، فليس المعنى إنهم يؤمنون بحديث جاء قبلَ القرآن مثل التوراة والإِنجيل وغيرهما من المواعظ والأخبار، بل المراد أنهم لا يؤمنون بحديث غيره بعدَ أن لم يؤمنوا بالقرآن لأنه لا يقع إليهم كلام أوضح دلالة وحجة من القرآن‏.‏
ويجوز أن يكون بعده‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏يؤمنون‏}‏ فهو ظرف لغو ويبقى لفظ ‏{‏حديث‏}‏ منفياً بلا قيد وصففِ أنه بعد القرآن، والمعنى‏:‏ لا يؤمنون بعد القرآن بكل حديث‏.‏
وضمير ‏{‏بعده‏}‏ عائد إلى القرآن ولم يتقدم ما يدل عليه في هذه السورة ليكون معاداً للضمير ولكنه اعتبر كالمذكور لأنه ملحوظ لأذهانهم كل يوم من أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم به‏.‏
وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة الأعراف فضمه إلى ما هنا‏.‏
ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏بعده‏}‏ عائداً إلى القول المأخوذ من ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 48‏]‏ فإن أمرهم بالركوع الذي هو كناية عن الإِيمان كان بأقوال القرآن‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire