

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً} [الجن: 7] حسبما يأتي.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحَى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريماً لنبيئه وتنويهاً بالقرآن وهو أن سخر بعضاً من النوع المسمى جنّاً لاستماع القرآن وألهمهم أو علَّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدُو أحدُهم في مدة الدنيا جِبلتَه فيكون على معيارها مصيرُه الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يَبعث إليهم بشرائع.
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه.
هذا العالَم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحَسَنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساماً ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرَادة وإدراك خاص بها لا يُدرى مَداه. وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلاّ إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقاً للعادة لأمر قضاه الله وأراده.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسَّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإِسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معيّنة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية، بخلاف حال من يقول: إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد عِلْمِه بآيات ذكره.
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية.
وإنا لم نلق أحداً من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول: إنه رأى أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلاّ على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات.
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري:
ومثلُككِ من تخيل ثم خالا ***
فظهور الجن للنبيء صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته هو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.
وقد مضى ذكر الجن عند قوله: {وجعلوا لله شركاء الجن} في سورة الأنعام (100)، وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} في سورة الأعراف (179).
والذين أمر الرسول بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإِخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلاّ بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع، فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف (29) {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في صحيح مسلم} في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.
وقوله: {أنه استمع نفر من الجن} في موضع نائب فاعل {أوحي} أي أوحي إلي استماع نفر. وتأكيد الخبر الموحَى بحرف (أن) للاهتمام به لغرابته.
وضمير {أنه} ضمير الشأن وخبره جملة {استمع نفر من الجن} وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.
ومفعول {استمع} محذوف دل عليه {إنَّا سمعنا قرآنا}، أي استمع القرآن نفر من الجن.
والنفَر: الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله: {يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] على شخوص الجن. وقولهم: {إنا سمعنا قرآنا عجباً} قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف (29، 30) {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً} الآيات.
ومعنى القَول هنا: إبلاغُ مرادهم إلى من يريدون أن يبلِّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى:
{قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18] فيكون ذلك تكريماً لهذا الدِّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولاً نفسياً، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادةِ صاحب الإِدراك به إبلاغَ مدركاته لغيره، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد:
قالتْ له النفسُ إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يَسلم ولم يَصِد
ومنه قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} [المجادلة: 8].
وتأكيد الخبر ب (أنَّ) لأنهم أخبروا به فريقاً منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف (إن).
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى، أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري في «شرح صحيح مسلم» «لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإِعجاز وشروط المعجزة، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو عَلِموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به» اه. وأنا أقول: حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإِلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن.
والإِيمان بالقرآن يقتضي الإِيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا {ولن نشرك بربنا أحداً.
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصِدق رسوله وصدق القرآن وما احتوى عليه مَا سَمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات، وأُكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذَرْأَ الله لجهنم من الجن والإِنس.
ومتعلق استمع} محذوف دل عليه قوله بعده {فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً.
والرشْد}: بضم الراء وسكون الشين (أو يقال بفتح الراء وفتح الشين) هو الخير والصواب والهدى. واتفقت القراءات العشر على قراءته بضم فسكون.
وقولهم: {ولن نشرك بربنا أحداً،} أي ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإِشراك بحرف التأبيد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه ب (إن) أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإِشراك ب {لن}.
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}
هذا محكي عن كلام الجن، قرأه الجمهور بكسر همزة {إنه} على اعتباره معطوفاً على قولهم: {إنَّا سمعنا قرآنا عجباً} [الجن: 1] إذ يجب كسر همزة (إنَّ) إذا حكيت بالقول.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله: {فآمنَّا به} [الجن: 2] أي وآمنا بأنه تعالى جَد ربنا. وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل، وجوزه الكوفيون، على أن حرف الجر كثير حذفه مع (أنّ) فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على هذا التأويل.
قال في «الكشاف»: {أنه استمع} [الجن: 1] بالفتح لأنه فاعل أوحي (أي نائب الفاعل) {وإنَّا سَمِعنا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليهما البواقي فما كان من الوحي فُتح وما كان من قول الجن كُسر، وكُلّهن من قولهم، إلاّ الثنتين الأخريين: {وأن المساجد لله} [الجن: 18]، {وأنه لما قام عبد الله} [الجن: 19] ومن فتح كُلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في {ءامنا به} [الجن: 2] كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جَدّ ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي اه.
والتعالي: شدة العلوّ، جعل شديد العلوّ كالمتكلف العلوّ لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلُف.
والجَدّ: بفتح الجيم العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: {ما اتخذ صاحبة ولا ولَداً}، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالِي جَدّه بغناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.
وضمير {إنه} ضمير شأن وخبره جملة {تعالى جد ربنا.
وجملة ما اتخذ صاحبة} إلى آخرها بَدل اشتمال من جملة {تعالى جد ربنا.
وتأكيد الخبر ب (إن) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.
والاقتصار في بيان تَعالِي جدِ الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبئ بأنه كان شائعاً في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلاّ ناشئ عن تلقين الشيطان وهو من الجن، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى: {سبحانه أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101).
وإعادة لا} النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع.
وضمير الجماعة في قوله: {ربنا} عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)}
قرأه الجمهور بكسرة همزة {وإنه}. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة كما تقدم في قوله: {وأنه تعالى جدّ ربنا} [الجن: 3] فقد يكون إيمانهم بتعالي الله عن أن يتخذ صاحبة وولداً ناشئاً على ما سمعوه من القرآن وقد يكون ناشئاً على إدراكهم ذلك بأدلة نظرية.
والسفيه: هنا جنس، وقيل: أرادوا به إبليس، أي كان يلقنهم صفات الله بما لا يليق بجلاله، أي كانوا يقولون على الله شططاً قبل نزول القرآن بتسفيههم في ذلك.
والشطط: مجاوزة الحد وما يخرج عن العدل والصواب، وتقدم في قوله تعالى: {ولا تشطط} في سورة ص (22). والمراد بالشطط إثبات ما نفاه قوله: {ولن نشرك بربنا أحداً} [الجن: 2] وقوله: {ما اتخذ صاحبة ولا ولداً} [الجن: 3] وضمير {وإنه} ضمير الشأن.
والقول فيه وفي التأكيد ب (إن) مكسورةً أو مفتوحة كالقول في قوله: {وإنه تعالى جد ربنا} [الجن: 3] الخ.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}
قرأ همزة {أن} بالكسر الجمهور وأبو جعفر، وقرأها بالفتح ابن عامر وحفص وحمزة وَالكسائي وخلف.
فعلى قراءة كسر (إِن) هو من المحكي بالقول، ومعناه الاعتذار عما اقتضاه قولهم: {فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً} [الجن: 2] من كونهم كانوا مشركين لجهلهم وأخذهم قول سفهائهم يحسبونهم لا يكذبون على الله.
والتأكيد ب {إِن} لقصد تحقيق عذرهم فيما سلف من الإِشراك، وتأكيد المظنون ب {لن} المفيدة لتأييد النفي يفيد أنهم كانوا متوغلين في حسن ظنهم بمن ضللوهم ويدل على أن الظن هنا بمعنى اليقين وهو يقين مخطئ.
وعلى قراءة الفتح هو عطف على المجرور بالباء في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2] فالمعنى: وآمنا فإنما ظننا ذلك فأخطأنا في ظننا.
وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلّد بفتح اللام بل يتعين النظر واتهام رأي المقلَّد حتى ينهض دليله.
وقرأ الجمهور {تَقُول} بضم القاف وسكون الواو. وقرأه يعقوب بفتح القاف والواو مشددة، من التقوّل وهو نسبة كلام إلى من لم يقله وهو في معنى الكذب وأصله تتقول بتاءين فعلى هذه القراءة يكون {كذباً} مصدراً مؤكداً لفعل {تَقَوَّلَ} لأنه مرادفه.
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}
قرأ الجمهور همزة {وإنه} بالكسر. وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة عطفاً على المجرور بالباء، والمقصود منه هو قوله: {فزادوهم رهقاً} وأما قوله: {كان رجال من الإِنس} الخ، فهو تمهيد لما بعده.
وإطلاق الرجال على الجن على طريق التشبيه والمشاكلة لوقوعه مع رجال من الإِنس فإن الرجل اسم للذكر البالغ من بني آدم.
والتأكيد ب (إن) مكسورة أو مفتوحة راجع إلى ما تفرع على خبرها من قولهم {فزادوهم رَهَقاً.
والعوذ: الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر، قال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [المؤمنون: 97]، فإذا حمل العوذ على حقيقته كان المعنى أنه كان رجال يلتجئون إلى الجن ليدفع الجن عنهم بعض الأضرار فوقع تفسير ذلك بما كان يفعله المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان قفر ووحش أو تعَزب في الرعي كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثَها بهم في الليل فكان الخائف يصيح بأعلى صوته: يا عَزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه، قالوا: وأول من سن ذلك لهم قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب وهي أوهام وتخيلات.
وزعم أهل هذا التفسير أن معنى {فزادوهم رهقاً} أن الجن كانوا يحتقرون الإِنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة.
والرهق: الذل.
والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفاف حوله. وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها. ومعنى {فزادوهم رهقاً} فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالاً. والرهق: يطلق على الإثم.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة {وإنهم}. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى: {وإنه تعالى جدّ ربنا} [الجن: 3].
والمعنى: أن رجالاً من الإِنس ظنّوا أن الله لا يبعث أحداً، أو وأنا آمنا بأنهم ظنّوا كما ظننتم الخ، أي آمنا بأنهم أخطأوا في ظنهم.
والتأكيد ب (إن) المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته. والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار الحشر ومن إنكار إرسال الرسل.
والإِخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإِنس إلى عالم الجن.
وجملة {كما ظننتم} معترضة بين {ظنوا} ومعموله، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يُشبّهون كفارهم بكفار الإِنس.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى: {فقالوا إنا سمعنا} [الجن: 1] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك.
و {أنْ} من قوله: {أن لن يبعث} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
وجملة {لن يبعث الله أحداً} خبره. والتعبير بحرف تأبيد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفاً على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله: {فمن يستمع الآن يجدْ له شهاباً رصداً
والتأكيد ب (إنَّ) في قولهم: وإنّا لمسنا السماء} لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله: {وإنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} الخ.
واللمس: حقيقته الجس باليد، ويطلق مجازاً على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختيار على طريق الاستعارة كما أطلق مُرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي:
مَسسنا من الآباءِ شَيئاً فكلُّنا *** إلى نَسب في قَومه غير واضع
أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعاً كرامَ الآباء.
و {ملئت}: مستعمل في معنى كثُر فيها. وحقيقة الملء عَمْر فراغ المكان أو الإِناء بما يحل فيه، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحُراس على وجه الاستعارة.
والحَرس: اسم جمع للحُرَّاس ولا واحد له من لفظه مثل خدَم، وإنما يعرف الواحد منه بالحَرَسِيِّ. ووصف بشديد وهو مفرد نظراً إلى لفظ حرس كما يقال: السلف الصالح، ولو نُظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال: شِداد. والطوائف من الحَرس أحراس.
والشهب: جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مُضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نَيْزَكاً باسم الرمح القصير، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.
والمعنى: إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرَّجم، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية. كما قال في «الكشاف» وذكر شواهده من الشعر الجاهلي.
نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظاً للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} وسيأتي بيان ذلك.
وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} إلى آخره، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب، وأما نفس الحراسة وكثرة الشهب فإن المخبرين (بفتح الباء) يشاهدونه.
وقوله: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} الخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرأوا بالكسر قوله: {وإنّا لمسنا السماء} وبفتح الهمزة الذين قرأوا بالفتح وهذا من تمام قولهم: {وإنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً}.
وإنما أعيد معه كلمة {وإنا} للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله كالتوطئة له فإعادة {وإنا} توكيد لفظي.
وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام، أي هو جعل النصف الأسفل مباشراً للْارض مستقراً عليها وانتصاب النصف الأعلى. وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمناً طويلاً لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى: {واقْعدوا لهم كل مرصد} [التوبة: 5].
والمقاعد: جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ***
واللام في قوله: {للسمع} لام العلة أي لأجل السمع، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة، وضمير {منها} للسماء.
و (من) تبعيضية، أي من ساحاتها وهو متعلق ب {نقعد}، وليس المجرور حالاً من {مَقاعَد} مقدَّماً على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماء فالعناية بمتعلق فعل القعود أولى، ونظيره قول كعب:
يمشي القراد عليها ثم يزلقه *** مِنْها لبان وأقرب زهاليل
فقوله (منها) متعلق بفعل (يُزلقه) وليس حالاً من (لَبان).
وأعلم أنه قد جرى على قوله تعالى: {مقاعد للسمع} مبحث في مَباحِث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في «المثل السائر» إلى ابن سنان الخفاجي فقال: إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينُهُ فأوجبَ قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي:
أعزِزْ عليَّ بأن أراك وقد خَلا *** عن جانبيْكَ مَقَاعِدُ العُوَّاد
فإن إيراد هذه اللفظة (أي مقاعد) في هذا الموضع صحيح إلاّ أنه يوافق ما يُكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من يُحتمل إضافته (أي ما يكره) إليه وهم العُواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلاً. قال ابن الأثير: هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى: {تُبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال} [آل عمران: 121] وقوله: {وأنَّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلاً من مقاعد العُواد مقاعد الزيارة لزالت تلك الهجنة اه. وأقول: إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثراً في وقع الكلمات عند الأفهام.
والفاء التي فرعت {من يستمع الآن يَجِدْ له شهاباً رصداً} تفريع على محذوف دل عليه فعل {كنا} وترتب الشرط وجزائه عليه وتقديرُه: كنا نقعد منها (أي من السماء) مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمعْ الآن لا يتمكَّن من السماع.
وكلمة {الآن} مقابل كلمة {كنا}، أي كان ذلك ثم انقضى.
وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.
والجنُّ لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق، شأنَ انسياق المخلوقات إلى ما خُلقت له مثل تهافت الفَراش على النار، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعاً للهوى مثل مغامرات الهُواة في البحار والجبال والثلوج.
ووقع {شهاباً} في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.
والرصدَ: اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف ل {شهاباً}، أي شهباً راصدة، ووصفها بالرصْد استعارة شبهت بالحراس الراصدين. وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجنيّ من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصاً فيكمله الكاهن بحدْسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده. وفي الحديث «فيزيد على تلك الكلمة مائة كَذْبة».
وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسببٍ بين النفوس، ومعظمُه أوهام. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: «ليسوا بشيء».
أخرج البخاري عن ابن عباس قال «كان الجن يستمعون الوحي» (أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور) فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنعوا، فقالوا: ما هذا إلاّ لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائماً يصلي بمكة قالوا: هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم: {إنا سمعنا قرآنا عجباً} [الجن: 1] الآية وأنزل على نبيئه {قُل أوحي إليه أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن اه.
ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجارٍ تمُرّ على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوَّة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المستَرِق حتى يبلغ إلى المَلك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلاّ أحرقَها وبَخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}
قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى: وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض، أي الناس، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك. هذا توجيه القراءة بفتح همزة {أنا} ومحاولة غير هذا تكلف.
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} [الجن: 9] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه.
فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.
وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله: {وإنا منا الصالحون} [الجن: 11] ثم قولهم: {وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} [الجن: 12] ثم قولهم: {وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به} إلى قوله: {فكانوا لجهنم حَطباً} [الجن: 13 15].
ومفعول {ندري} هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله: {أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} وهو الذي علَّق فعل {ندري} عن العمل، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولاً يستخلص من الاستفهام تقديره: لا ندري جواب هذا الاستفهام، وذلك تقديرُ معنًى لا تقديرُ إعراب. هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9].
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به} [الجن: 1، 2] وقولهم: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} [الجن: 9] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيراً بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع.
وتكرير (إنّ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضاً لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.
والرشَد: إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير، فلهذا الاعتبار جعل مقابلاً للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله: {أم أراد بهم ربهم رشداً،} جرياً على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.
وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء، أي آمنا بأنا منّا الصالحون، أي أيقنَّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.
ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإِفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون، ثم تلطفوا فقالوا: ومنا دون ذلك، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يُعنَى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإِرشاد إلى الخير.
و {دونَ}: اسم بمعنى (تحت)، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية المكانية، أي في مكان منحط عن الصالحين.
والتقدير: ومنا فريق في مرتبة دونهم.
وظرفية {دون} مجازية. ووقع الظرف هنا ظرفاً مستقراً في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره: فريق، كقوله تعالى: {وما منا إلاّ له مقام معلوم} [الصافات: 164] ويطَّرد حذف الموصوف إذا كان بعضَ اسم مجرور بحرف (مِن) مقدممٍ عليه وكانت الصفة ظرفاً كما هنا، أو جملة كقول العرب: مِنَّا ظَعَن ومِنَّا أقام.
وقوله: {كنا طرائق قِدَداً} تشبيه بليغ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى.
و {طرائق}: جمع طريقة، والطريقة هي الطريق، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودَارة، ومثل مَقام ومقَامة، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17] ووصفت بالمثلى في قوله: {ويَذْهبَا بطريقتكم المُثلى} [طه: 63].
ووصف {طرائق} ب {قِدداً،} وهو اسم جمع قِدَّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة: القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولاً كالسير، شبهت الطرائق في كثرتها بالقِدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القِدّ كانوا يقيدون بها الأسرى.
والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإِسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.
وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد ب (إنّ) متوجه إلى المعنى التعريضي.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة {وإنا}. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2]. والتقدير: وءامنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل {ظننا} تأكيد لفظي لفعل «آمنا» المقدر بحرف العطف، لأن الإِيمان يقين وأُطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير.
لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضياً عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] أعقبوا لتعريض الإِقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقاباً فأيقنوا أن عقاب الله لا يُفْلِت منه أحدٌ استحقه. وقدموه على الأمر بالإِيمان الذي في قوله: {وإنّا لمّا سمعنا الهُدى} [الجن: 13] الآية، لأن دَرْءَ المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحْلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقادَ الشرك ووصفَ الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإِدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيراً لإِخوانهم ومرشداً إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإِسلام.
وأما قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإِشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.
والإِعجاز: جعل الغير عاجزاً أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإِفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة *** فهل تُعْجِزَنِّي بُقعة من بِقاعها
أي لا تفوتني ولا تخرج عن مُكْنتي.
وذِكْر {في الأرض} يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله: {ولن نعجزه هرباً} الهربُ من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإِنذار من عذاب الدنيا استنزالاً لقومهم.
ويجوز أن يكون {نعجز} الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى: {فما هم بمعجزين} [النحل: 46] أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون {في الأرض} مقصوداً به تعميم الأمكنة كقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض} [الشورى: 31]، أي في مكان كنتم. والمراد: أنا لا نَغلب الله بالقوة. ويكون {نعجز} الثاني، بمعنى الإِفلات ولذلك بُيّن ب {هرباً}، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.
والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المظنون بحرف {لن} الدال على تأبيد النفي وتأكيده.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2].
والمقصود بالعطف قوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}، وأما جملة {لما سمعنا الهدى ءامنَّا به} فتوطئة لذلك.
بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكُّر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإِيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.
ومعنى {يؤمن بربه،} أي بوجوده وانفراده بالإِلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد.
وجملة {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن. ويجوز أن تكون كلاماً من الله موجهاً للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والبخس: الغبن في الأجر ونحوه.
والرهَق: الإِهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان. وفهم منه أن من لا يؤمن يُهان بالعذاب. والخلاف في كسر همزة {إنا} وفتحها كالخلاف في التي قبلها.
وجملة {فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} جواب لِشرط (مَن) جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلاّ إذا كان غيرَ صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيراً إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط، فكان التقدير هنا: فهو لا يخاف ليكون دَالاً على تحقيق سلامته من خوف البخس والرهق، وليدل عل اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]. واجتمعا هنا كما أشار إليه في «الكشاف» بقوله: فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وكلام «الكشاف» اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك.
وقد نقول: إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون {لا} ناهية، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي.
وفي «شرح الدماميني على التسهيل»: أن جواب الشرط إذا كان فعلاً منفياً ب (لا) يجوز الاقتران بالفاء وتركه. ولم أره لغيره وكلام «الكشاف» يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلاّ إذا قصدت مزية أخرى.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء. والمقصود بالعطف قوله: {فمن أسلم فأولئك تحَرَّوْا رشداً} وما قبله توطئة له، أي أصبحنا بعد سماع القرآن منا المسلمون، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإِسلام مما يليق بحالهم ومنا القاسطون، أي الكفارون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم: {وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} [الجن: 11] لأن فيه تصريحاً بأن دون ذلك هو ضد الصلاح.
والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدرَكات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه.
الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن، وأنه كلام من جانب الله تعالى لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل. وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستخلاص العبرة منها، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله.
والتحري: طلب الحَرَا بفتحتين مقصوراً واويّاً، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، يقال: بالحرّي أن تفعل كذا، وأحْرى أن تفعل.
والرشَد: الهدى والصواب، وتنوينه للتعظيم.
والمعنى: أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك.
والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضَرب قَسْطاً بفتح القاف وقسوطاً بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإِشراك. وفي «الكشاف»: أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول فيَّ؟ قال: قَاسط عَادِل، فقال القومُ: مَا أحسَنَ ما قالَ حسبوا أنه وصفه بالقِسط (بكسر القاف) والعدل، فقال الحجاج: يا جَهلة إنه سمّاني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} وقولَه تعالى: {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1] اه.
وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24].
وإقحام فعل (كانوا) لتحقيق مصيرهم إلى النّار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.
{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}
اتفق القراء العشرة على فتح همزة: {أن لو استقاموا}، فجملة {أن لوِ استقاموا} معطوفة على جملة {أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثاننٍ مما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس. والتقدير: وأوحي إليّ أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.
و {أن} مخففة من الثقيلة، وجيء ب {أن} المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل {أوحي} [الجن: 1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره {لو استقاموا} إلى آخر الجملة. وسبك الكلام: أوحي إليَّ إسقاءُ الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.
وضمير {استقاموا} يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجرداً عن مَا صْدَقِه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر.
ويجوز أن يكون عائداً إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير {استقاموا} عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإِشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.
والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق.
و {الطريقة}: الطريق: ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفاً في قوله {كُنَّا طرائق قِدداً} [الجن: 11].
والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيراً مستقيماً على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطريقة} للجنس لا للعهد.
وقوله: {لأسقيناهم ماء غدقاً:} وعد بجزاء على الاستقامة في الدّين جزاءً حسناً في الدنيا يكون عنواناً على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كَسِنِي يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوحة من العيش وفي نخيل وجنات فكان جَعْل ترتُّببِ الإِسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف {لو} مشيراً إلى أن المراد: لأدَمْنا عليهم الإِسقاء بالماء الغَذَق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يُمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء.
وبذلك يتناسب التعليل بالإِفتان في قوله: {لنفتنهم فيه} مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلاً لما تضمنَه معنى إدامة الإِسقاء فإنه تعليل للإِسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلاً للإِسقاء المفروض في جواب {لو} لأن جواب {لو} منتففٍ فلا يصلح لأن يُعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله: {لنفتنهم فيه} ظرف مستقر في موضع الحال من {ماء غدقاً} وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة.
وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.
والغدَق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.
وجملة {لِنَفْتِنَهم فيه} إدماج فهي معترضة بين جملة {وأن لو استقاموا على الطريقة} الخ وبين جملة {ومن يعرض عن ذكر ربّه} الخ.
ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم} الآية، بصريح الإِنذار بقوله: {ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذاباً صعداً،} أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.
والسَّلك: حقيقته الإِدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى:
كما سَلكَ السِّكيَّ في الباب فَيْتق *** أي أدخل المِسمار في الباب نَجَّارٌ.
وتقدم عند قوله تعالى: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر (12).
واستعمل السَلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى: نعذبه عذاباً لا مصرف عنه.
وانتصب عذاباً} على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.
والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله: {عن ذكر ربّه} دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإِيماءَ إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذاباً صعداً.
والصّعَد: الشاق الغالِبُ، وكأنه جاءٍ من مصدر صَعد، كفرح إذا علا وارتفع، أي صَعِد على مفعوله وغلبه، كما يقال: عَلاَه بمعنى تمكن منه، {وأن لا تعلوا على الله} [الدخان: 19].
وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)}
اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في {وأن المساجد لله} فهي معطوفة على مرفوع {أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأُمر بأن يقوله. والمعنى: قل أوحي إلي أن المساجد لله، فالمصدر المنسبك مع {أنَّ} واسمها وخبرها نائب فاعل {أُوحي} [الجن: 1].
والتقدير: أوحي إلي اختصاص المساجد بالله، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها، وهي معالم التوحيد.
وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في «الحُجة».
وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل {أنّ}، فالمجرور مقدم على متعلَّقه للاهتمام. والتقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً.
واللام في قوله {لله} للاستحقاق، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله.
والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام والأنصاب وجعلوا الصنم (هُبَل) على سطح الكعبة، قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} [البقرة: 114] يعني بذلك المشركين من قريش.
وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى: {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} [الأنفال: 34]، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} [البقرة: 114] بلفظ {مساجد} ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيّروا المساجد، أو لتعظيم المسجد الحرام، كما جُمع {رسلي} في قوله: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ: 45]، على تقدير أن يكون ضمير {كذبوا عائداً إلى الذين كفروا في قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلاّ سحر مبين} [سبأ: 43] أي كذبوا رسولي.
ومنه قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذَّبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] يريد نوحاً، وهو أول رسول فهو المقصود بالجمع.
وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحداً، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجَب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية لزعمهم ذلك.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)}
قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجاً عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.
فكَسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة {أُوحي إليَّ} [الجن: 1]، والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إِنَّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقَل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: {وأن المساجد لله} [الجن: 18].
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفاً على جملة {أنه استمع نفر} [الجن: 1]، أيْ وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إليَّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبَداً على عبد الله لما قام يدعو ربَّه.
وضمير {إنه} ضمير الشأن وجملة {لما قام عبد الله} إلى آخرها خبره.
وضمير {كادوا يكونون} عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطاباً ابتداء من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] إلى قوله: {فلا تدعوا مع الله أحداً} [الجن: 18].
و {عبد الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمتَ تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمتُ أدعو الله، كادوا يكونون عليَّ. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {عبد الله} لما في هذه الإِضافة من التشريف مع وصف {عبدِ} كما تقدم غير مرة منها عند قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].
{ولِبَداً} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لِبْدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض، ومنه لِبْدَة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللَبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيظ وغضب وهممٍ بالأذى كما يقال: تأَلبوا عليه.
ومعنى {قام}: اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: {إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السماوات والأرض} في سورة الكهف (14)، وقال النابغة:
بأن حِصنا وحيّاً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حمانا غير مقروب
وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في أول سورة البقرة (3).
ومعنى قيام النبي إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جَزْءٌ بنُ كليب الفقعسي:
فلا تبغينها يا بنَ كُوز فإنه *** غذَا الناسُ مُذ قام النبي الجواريا
أي قام يعبدُ الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده: قال إنما أدعو ربّي ولا أشرك به أحداً}، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم لله تعالى.
وجملة {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً} بيان لجملة {يدعوه}.
وقرأ الجمهور {قال} بصيغة الماضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر {قل} بدون ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافاً. والتقدير: أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه.
و {إنما أدعو ربي}، يفيد قصراً، أي لا أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه.
وعطف عليه {ولا أشرك به أحداً} تأكيداً لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإِبلاغ.
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}
هذا استئناف ابتدائي. وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتِّباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يُرد على الذين أظهروا له العناد والتورك.
ويجوز أن يكون {قل إني لا أملك} الخ، تكريراً لجملة {قل إنما أدعو ربي} [الجن: 20] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر.
والضر: إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم به من النصر عليهم.
وقوله: {ولا رشداً} تتميم.
وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير: لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا ضلالاً ولا رشداً.
والرَّشَد بفتحتين: مصدر رشد، والرُّشْد، بضم فسكون: الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريباً في قوله: {يهدي إلى الرشد} [الجن: 2].
وتركيب {لا أملك لكم} معناه لا أقدر قدرة لأجلكم على ضرّ ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما أملك لك من الله من شيء} في سورة الممتحنة (4) وتقدم أيضاً في سورة الأعراف.
وجملتا قل إني لن يجيرني} إلى {ملتحداً} معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى، وهو اعتراضُ ردَ لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآنُ إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتتِ بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15].
والملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى: لَن أجد مكاناً يعصمني.
و {من دونه} حال من {ملتحداً}، أي ملتحداً كائناً من دون الله أي بعيداً عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف {لن} الدال على تأييد النفي.
و {مِن} في قوله: {مِن دونه} مزيدة جارة للظرف وهو (دون).
وقوله: {إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته} استثناء منقطع من {ضرَّاً} و{رشداً}، وليس متصلاً لأن الضر والرشد المنفيين في قوله: {لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء.
ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من {ملتحداً}، أي بتأويل {ملتحداً} بمعنى مخلص أو مأمن.
وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
والبلاغ: اسم مصدر بلغ، أي أوصل الحديث أو الكلام، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
و {مِن} ابتدائية صفة (بلاغ)، أي بلاغاً كائناً من جانب الله، أي إلاّ كلاماً أبلغه من القرآن الموحى من الله.
و {رسالاته}: جمع رسالة، وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ خاص بألفاظ مخصوصة، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن.
لما كان قوله: {قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً} [الجن: 20] إلى هنا كلاماً متضمناً أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم حينَ دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزاً له من ضروب الاقتراح، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم.
و {مَن} شرطية وجواب الشرط قوله: {فإن له نار جهنم.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}
كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا: {وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35]، ويقولون: {متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} [السجدة: 28]، ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، وقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]، فهم مغرورون بالاستدراج والإِمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من {حَتى}، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العَدد والعُدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم.
و {حتى} هنا ابتدائية وكلما دخلت {حتى} في جملة مفتتحة ب {إذا} ف {حتى} للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية. وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن {حتى} في مثله جارة وأن {إذا} في محل جرّ وليس ببعيد.
واعلم أن {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل {حتى}.
و {إذَا} اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو {فسيعلمون}.
وعلى رأي الأخفش وابن مالك {إذا} محل جر ب {حتى}. واقتران جملة {سيعلمون} بالفاء دليل على أن {إذا} ضُمّن معنى الشرط، واقتران الجواب بسين الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد {إذا} إلى زمن الاستقبال. وجيء بالجملة المضاف إليها {إذا} فعلاً ماضياً للتنبيه على تحقيق وقوعه.
وفعل {سيعلمون} معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه.
وضعفُ الناصر وهَن لهم من جهة وهَن أنصارهم، وقلة العدد وهَنٌ لهم من جانب أنفسهم، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون: {نحن جميع منتصر} [القمر: 44]. وقالوا: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} [سبأ: 35].
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {متى هذا الوعد} [النمل: 71]، و{عن الساعة أيان مرساها} [الأعراف: 187]، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن، فلما قال الله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً} [الجن: 24] الآية علِم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت حلول الوعيد فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه.
فجملة {قل إن أدري أقريب ما توعدون} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر.
والأمد: الغاية وأصله في الأمكنة. ومنه قول ابن عمر في حديث «الصحيحين»: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقَ بين الخيل التي لم تُضَمَّر وجعل أمدَها ثنيةَ الوداع " (أي غاية المسابقة). ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى: {فطال عليهم الأمد} [الحديد: 16] وهو كذلك هنا. ومقابلته ب«قريب» يفيد أن المعنى أم يجعل له أمداً بعيداً.
وجملة {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً} في موضع العلة لجملة {إن أدري أقريب ما توعدون} الآية.
و {عالم الغيب}: خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله {ربي}. وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفاً اتُّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في «المفتاح».
و {الغيب}: مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس.
وإضافة صفة {عالم} إلى {الغيب} تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراداً فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن. ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإِحاطة علم الله بجميع ذلك.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في سورة البقرة (3).
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر، أي هو عالم الغيب لا أنا.
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة فلا يُظْهر على غيبه أحداً}، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه.
ومعنى {لا يظهر على غيبه أحداً}: لا يُطلع ولا ينبئ به، وهو أقوى من يطلع لأن {يظهر} جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى: يطلع، عدي بحرف {على}.
ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم.
وحرف {على} مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى {وأظهره الله عليه}
[التحريم: 3] فهو استعلاء مجازي.
واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إِخبار بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس.
فقوله: {ارتضى} مستثنى من عموم {أحداً}. والتقدير: إلاّ أحداً ارتضاه، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى.
والإِتيان بالموصول والصلة في قوله: {إلاّ مَن ارتضَى مِن رسول} لقصد ما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى تعليل الخبر، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس، فيُعْلم من هذا الإِيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة، أو أمور الدنيا، وما يؤيد به الرسل عن الإِخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى: {غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 24].
والمراد بهذا الإِطلاعُ المحقق المفيد علماً كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة، ففي الحديث: «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة، أو بالإِلهام» قال النبي صلى الله عليه وسلم «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون فإن يَكُنْ في أمتِي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» رواه مسلم. قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهِمون.
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: أنها تسرُّ ولا تغرُّ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها.
و {مِن رسول} بيان لإِبهام {مَنْ} الموصولة، فدل على أن مَا صْدَقَ {مَن} جماعةٌ من الرسل، أي إلاّ الرسل الذين ارتضاهم، أي اصطفاهم.
وشمل {رسول} كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام. وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم.
وهنا أربعة ضمائر غيبة:
الأول ضمير {فإنه} وهو عائد إلى الله تعالى.
والثاني الضمير المستتِر في {يسلك} وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير {فإنه}.
والثالث والرابع ضميرَا {من بين يديه ومن خلفه}، وهما عائدان إلى {رسول} أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصَداً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه.
والسّلْك حقيقته: الإِدخال كما في قوله تعالى: {كذلك نسْلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر (12).
وأطلق السَّلك على الإِيصال المباشر تشبيهاً له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفاً في قوله: {ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاباً صعَدَاً} [الجن: 17] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يَبْلُغَ إليه ما أُوحي إليه من الغيب، كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم. وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله: {إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
والمراد ب {مِن بين يديه ومن خلفه} الكناية عن جميع الجهات، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف.
والرصد: اسم جمع كما تقدم آنفاً في قوله: {يجد له شهاباً رصداً} [الجن: 9]. وانتصب {رصداً} على أنه مفعول به لفعل {يسلك.
ويتعلق ليعلم} بقوله: {يسلك،} أي يفعل الله ذلك ليبلّغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسُل أبلغوا ما أوحي إليه كما بعثَه دون تغيير، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعاً ومسبباً عن تبليغ الوحي كما أنزل الله، جعل المُسَبب علّة وأقيم مقام السَّبب إيجازاً في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلاّ على وفق ما وقع، وهذا كقول إياس بن قبيصة:
وأقبلتُ والخطّيُّ يخطِر بيننَا *** لأعلَمَ مَنْ جَبَانُها مِن شجاعها
أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلمَ ذلك. وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها.
وجيء بضمير الإِفراد في قوله: {من بين يديه ومن خلفه} مراعاة للفظ {رَسول،} ثم جيء له بضمير الجمع في قوله: {أن قد أبلغُوا} مراعاة لمعنى رسول وهو الجنس، أي الرسل على طريقة قوله تعالى السابق آنفاً {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [الجن: 23].
والمراد: ليَعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله وأدوا الأمانة علماً يترتب عليه جزاؤهم الجزيل.
وفهم من قوله: {أن قد أبلغوا رسالات ربهم} أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعثثِ والجزاء، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث.
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلاً لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييداً لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإِصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب.
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثَنى منه، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص، فليس قوله تعالى: {إلاّ من ارتضى من رسول} بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله: {ليَعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم.
وقرأ رويس عن يعقوب ليُعلم} بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول على أنّ {أنْ قد أبلغوا} نائب عن الفاعل، والفاعل المحذوف حذف للعلم به، أي ليعلَم الله أن قد أبلغوا.
الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم،} أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك، فقوله: {وأحاط بما لديهم} تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمِه بتبليغهم ما أرسل إليهم، وقوله: {وأحصى كل شيء عدداً} تعميم أشمل بعد تعميممٍ مَّا.
وعبر عن العلم بالإِحصاء على طريق الاستعارة تشبيهاً لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد لأن معرفة الأعداد أقوى، وقوله: {عدداً} ترشيح للاستعارة.
والعدد: بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عَدّ، فالمعنى هنا: وأحصى كل شيء معدوداً، وهو نصب على الحال، بخلاف قوله تعالى: {وعدَّهم عَدَّا} [مريم: 94]. وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإِدغام لأن الأصل في الإِدغام للأفعال.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)}
افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحداً ولم يكن بعيداً يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام.
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادَى العلم إذا كان معروفاً عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلاّ لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يا أيها النبي} [الأنفال: 65]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بُنيِّ ويا أبتتِ، أو قصد تهكم نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعاً في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه «قُم أَبا تراب» وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق «قم يا نَوْمانُ»، وقولِه لعَبْد الرحمان بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملاً هِرّة صَغيرةً في كمه «يا أبا هُريرة».
فنداء النبي ب {يا أيها المزمل} نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1].
و {المزمل}: اسم فاعل من تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم وهو مثل التدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من معنى التلفف، والتدثُر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ. وأصل التزمل مشتق من الزَّمْل بفتح فسكون وهو الإِخفاء ولا يعرف ل (تزمَّل) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، فمنه التزمل ومنه التعَمّم والتأزّر والتقمّص، وربما صَاغوا له صيغة الافتعال مثل: ارتَدى وائتزر.
وأصل {المزمل}: المتزمل، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زاياً لتقاربهما.
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم «زَمِّلُوني زَمِّلُوني» حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذٍ، وعليه فهو حقيقة.
وقيل: هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال: «لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سَمُّوا هذا الرجل اسماً تصدر الناس عنه (أي صِفوه وصفاً تتفق عليه الناس) فقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، فصدر المشركون على وصفه ب (ساحر) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر، فأتاه جبريل فقال: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} [المدثر: 1].
وسيأتي في سورة المدثر أن سبب نزولها رؤيتُه المَلكَ جالساً على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: «دثروني»، فيتعين أن سبب ندائه ب {يا أيها المزمل} كان عند قوله: «زَمِّلِوني»، فذلك عندما اغتمّ من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب {يا أيها المدثر في سورة المدثر.
وقيل: هو تزمُّل للاستعداد للصلاة فنودي يا أيها المزمل قم اللّيل إلاّ قليلاً} وهذا مروي عن قتادة. وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة.
ومحملها على أن التزمُّل حقيقة، وقال عكرمة: معناه زُمِّلْتَ هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبوءة فيكون قوله: {الليل إلاّ قليلاً} مع قوله: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} [المزمل: 7] تحريضاً على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلاّ قليلاً من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز.
فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالاً على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون.
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى المَلَكَ الذي أرسل إليه بحِراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يا أيها المدثر.
فنداء النبي بوصف المزمل} باعتبار حالته وقت ندائه وَليس المزمل معدوداً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه.
وفعل {قم} مُنزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله {قم فأنذر} [المدثر: 2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك.
و {الليل}: زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وانتصب {الليل} على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإِنسان.
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما.
وأمْر الرسول بقيام الليل أمْر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزولَ هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم إلى قوله: وطائفة من الذين معك} [المزمل: 20] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري:
" فغطني حتى بلغ مني الجَهد " ثم قال: {اقرأ باسم ربّك} [العلق: 1] الحديث، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة.
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيماً لشأنه بكثرة الإِقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى: {ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، أي زيادة قرب لك} وقد تقدم في سورة [الإسراء: 79]. فكان هذا حكماً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجباً على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرّهم على ذلك فكانوا يرونه لِزاماً عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تتجافى جنوبُهم عن المضاجع} [السجدة: 16]، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} [المزمل: 20] الآية، قالت عائشة: «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه»، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين. وتقرر أنه مندوب فيه. واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه.
وقوله: {إلاّ قليلاً} استثناء من {الليل} أي إلاّ قليلاً منه، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها.
و {نصفه} بدل من {قليلاً} بدلاً مطابقاً وهو تبيين لإِجمال {قليلاً} فجعل القليل هنا النصفَ أو أقلَّ منه بقليل.
وفائدة هذا الإِجمال الإِيماء إلى أن الأوْلى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل وأن جعله نصف الليل رحمة ورخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ويدل لذلك تعقيبُه بقوله: {أو انقص منه قليلاً} أي انقص من النصف قليلاً، فيكون زمن قيام الليل أقلّ من نصفه، وهو حينئذٍ قليل فهو رخصة في الرخصة.
وقال {أو زد عليه} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد {أو زد عليه} بمثل ما قيد به {أو انقص منه} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك: «إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» فقال: «أفَلا أكونُ عبداً شكوراً».
والتخيير المستفاد من حرف {أو} منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن لذلك ارتباطاً بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم.
وبعد فذلك توسيع على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب.
وجعل ابن عطية {الليل} اسم جنس يصدق على جميع الليالي، وأن المعنى: إلاّ قليلاً من الليالي، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزئياتها لا باعتبار الأجزاء، ثم قال: {نصفه} إلى آخره.
وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقتُ النوم عادة فأُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإِقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات واشتغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعداداً لتلقي الفيض الرباني.
يجوز أن يكون متعلقاً بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام.
ويجوز أن يكون أمراً مستقلاً بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاثَ سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السورة مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] أي سنوحي إليك قرآناً.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.
والترتيل: جعل الشيء مرتَّلاً، أي مفرقاً، وأصله من قولهم: ثَغْر مرتَّل، وهو المفلج الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفرقاً قليلاً بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحةً مع إشباع الحركات التي تستحق الإِشباع. ووصَفَتْ عائشة الترتيل فقالت: «لو أراد السامع أن يعُد حروفه لعدها لا كسَرْدِكم هذا».
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلَقُ بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيَه كي لا يسبق لفظُ اللسان عملَ الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله: «هَذًّا كهَذًّ الشعر» لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر مِيزان بَحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذُّ إسراع القطع.
وأكد هذا الأمر بالمفعول المطلق لإِفادة تحقيق صفة الترتيل. وقرأ الجمهور {أو انقص} بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل، حركوا الواو بضمّة لمناسبة ضمة قاف {انقص} بعدها. وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
ووقع في قوله تعالى: {أو زِدْ عليه ورتل القرآن} إذا (شبعت) فتحة نون القرآن محسِّن الاتِّزان بأن يكون مصراعاً من بحر الكامل أحَذَّ دخَله الإِضمار مرتين.
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}
تعليل للأَمر بقيام الليل وقع اعتراضاً بين جملة {قم الليل} [المزمل: 2] وجملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطْأً} [المزمل: 6]، وهو جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئةُ نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يَسَّر عليه ذلك كما قال تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {قم الليل إلاّ قليلاً} [المزمل: 2] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن فلما قال له: {ورتل القرءان ترتيلا} [المزمل: 4] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.
والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملَك.
وحقيقة الإِلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيء لَقى، أي مطروح، استعير الإِلقاء للإِبلاغ دفعة على غير ترقب.
والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيراً على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه.
وأشعر قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله: {إنا سنلقي عليك} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده " (أي تغير بمثل القشعريرة) وقالت عائشة: «رأتُهُ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفَضُّ عرقاً».
ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. قال الفراء: «ثقيلاً ليس بالكلام السفساف». وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإِحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.
وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجئ.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قم الليل} [المزمل: 2]، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطْأً وأقوم قيلا.
والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.
و {ناشئة} وصف من النشء وهو الحدوث. وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى (في) مثل «مَكَر الليل»، وجعل من أقوم القيل، فعُلم أن فيه قولاً وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة، أي الصلاة الناشئة في الليل، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام.
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعدَ هدأة الليل فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشْء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم، وفسر ابن عباس {ناشئة الليل} بصلاة الليل كلها. واختاره مالك. وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء. وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا معرب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في «منظومته» في معربات القرآن.
وإيثار لفظ {ناشئة} في هذه الآية دون غيره من نحو: قيامَ أو تَهَجُدَ، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد.
وقرأ جمهور العشرة {وَطأً} بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة، والوطء: أصله وضع الرجل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأناً للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي وَاطِئاً أنتَ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى: أشد وقعاً، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء.
ويجوز أن يكون الوطء مستعاراً لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيراً وثواباً، وبهذا فسره قتادة.
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده {وِطاءً} بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر وَاطَأ من مادة الفعال. والوِطاء: الوفاق والملاءمة، قال تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} [التوبة: 37]. والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد.
وضمير {هي} ضمير فصل، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً} [المزمل: 20] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل. وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر.
والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع.
و {قيلاً}: القَول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]. فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس: {وأقوم قيلاً}: أدنى من أن يفقهوا القرآن. وقال قتادة: أحفظ للقراءة، وقال ابن زيد: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
وانتصب {وطْأً} و{قيلاً} نسبة تمييزي ل {أشد} ول {أقوم}.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل.
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} [المزمل: 6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.
ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه {أو انقص منه قليلاً} [المزمل: 3]، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً} [الفرقان: 62].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى} [العلق: 9، 10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سبحاً طويلاً} وهي من بليغ الإِيجاز.
والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض.
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل بالسابحات في قوله في مَدح فرسه:
مُسحَ إذا ما السابحات على الوَنى *** أثْرْنَ الغُبار في الكَديد المركَّل
فعبر عن الجاريات بالسابحات.
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ، أي لينام في النهار، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال: فراغاً طويلاً لحوائجك فافرغ لدينك بالليل.
والطويل: وصف من الطول، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله. فالطول من صفات الذوات، وشاع وصف الزمان به يقال: ليل طويل وفي الحديث «الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه»
وأما وصف السَّبح ب (طويل) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعدَ هذا ففي قوله {طويلاً} ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}
عطف على {قم الليل} [المزمل: 2] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله: {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً} [الإنسان: 25].
وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} [الأعراف: 205].
والتبتل: شدة البتل، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بَتَّله ف {تبتل} وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فَطاوعه، والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
منارة مُمْسى راهب متَبَتِّل ***
والتبتيل: مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع.
وجيء بهذا المصدر عوضاً عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع. ولما كان التبتيل قائماً بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين {تبتل} و{تبتيلاً} مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل {وتبتل إليه} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب».
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سعْد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذِن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإِعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإِشراك، وهو معنى الحنيفيّة، ولذلك عقب قوله: {وتبتل إليه تبتيلاً} بقوله: {ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو}.
وخلاصة المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم من قبلُ غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة.
فالأمر في قوله: {واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم (51) (وقد نزلت قبل المزمل) {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} على أن القرآن الذي أنزل أولاً أكثره إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في هذه السورِ الأوللِ منه مقتصراً على سَن التكاليف الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم
ووصف الله بأنه {ربّ المشرق والمغرب} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكرِه في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب، فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب، أي مبدأ ذينك الوقتين ومُنتهاهما، كما يقال: سبحوا لله كلَّ مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع {ربُّ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفاً جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديث عنه. ثم أريد الإِخبار عنه بخبر جامع لصفاته، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض {ربِّ} على البدل من {ربِّك}.
وعُقِّب وصفُ الله ب {رب المشرق والمغرب،} بالإِخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلاّ هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربُوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إله إلاّ هو} تعريضاً بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فرع عليه قوله: {فاتخذه وكيلاً،} وإذ كان الأمر باتخاذ وكيلاً مسبباً عن كونه لا إله إلاّ هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلاً.
والوكيل: الذي يُوكَل إليه الأمور، أي يُفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من مَوْجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلاّ عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}
عطف على قوله: {فاتخذه وكيلاً} [المزمل: 9]، والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله.
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استُغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16] الآيات من سورة {قل أوحى إليّ} [الجن: 1]، ولأنه سيأتي عقبه قوله {وذَرْني والمكذبين} [المزمل: 11] فيبين المراد من الضمير.
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق (9، 10) {أرأيت الذي ينهَى عبداً إذا صلى} قيل هو أبو جهل تهدّد رسول الله لئن صلى في المسجد الحرام ليَفْعَلَنّ ويفعلَنّ. وفيها: {إِن الإِنسان ليطغى أن رءاه استغنى} [العلق: 6، 7]. قيل هو الأخنس بن شريق «تنكَّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه»، وفي سورة القلم (2 15) {ما أنت بنِعْمة ربّك بمجنون} إلى قوله: {فستبصر ويُبصرون بأيكم المفتون}، وقوله: {ولا تطِع كلّ حلاّف مهين} إلى قوله: {قال أساطير الأولين} [القلم: 15] ردّاً لمقالاتهم. وفي سورة المدثر (11 25) إن كانت نزلت قبل سورة المزمل {ذرني ومن خلقت وحيداً} إلى قوله: {إِنْ هذا إلاَّ قول البشر}، قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة. فلذلك أمر الله رسوله بالصبر على ما يقولون.
والهجر الجميل: هو الحسَن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال: كَريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويَعْرِض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جُردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصاً، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدّراً قبيحاً، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} [البقرة: 264]، وتقدم عند قوله تعالى: {إنيَ أُلقِيَ إليَّ كتاب كريم} في سورة النمل (29)، ومن هذا المعنى قوله: {فصبر جميل} في سورة يوسف (18)، وقوله فاصبر صبراً جميلاً في سورة المعارج (5).
فالهجر الجميل هو الذي يَقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرَّضاً لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجراً جميلاً، أي أن يهجرهم ولا يزيدَ على هجرهم سَبّاً أو انتقاماً.
وهذا الهجر: هو إمساك النبي عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: واصبر على ما يقولون.
وليس منسحباً على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي.
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعاً خُلُقياً بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإِنسان في مخالطَة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطاً فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يَرضْ نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}
القول فيه كالقول في {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث} في سورة القلم (44)، أي دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.
وانتصب المكذبين} على المفعول معه، والواو واو المعية.
والمكذبون هم من عناهم بضمير {يقولون} و{اهجرهم} [المزمل: 10]، وهم المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإِضمار لإِفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
ووصَفَهم ب {أولي النَّعمة} توبيخاً لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديداً لهم بأن الذي قال {ذرني والمكذبين} سيزيل عنهم ذلك التنعم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالاً، وكانوا يعيّرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزُون الآيات} [المطففين: 29، 30]، وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12].
و {النَّعمة}: هنا بفتح النون باتفاق القراء. وهي اسم للترفه، وجمعها أنعُم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النِّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإِنسان من عافية، وأمن ورزق، ونحو ذلك من الرغائب. وجمعها: نِعَم بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نِعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب. وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كَسْرَة إِتباع.
والنُّعمة بضم النون اسم للمسرّة فيجوز أن تجمع على نُعْم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نُعَم بضم ففتح مثل: غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن.
وجعلهم ذوي النَّعمة المفتوحة النون للإِشارة إلى أن قُصارى حظهم في هذه الحياة هي النَعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإِقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44] وتعريف {النَّعمة} للعهد.
والتمهيل: الإِمهال الشديد، والإِمهال: التأجيل وتأخير العقوبة، وهو مترتب في المعنى على قوله: {وذرني والمكذبين}، أي وانتظر أن ننتصِرْ لك كقوله تعالى: {ولا تستعجل لهم} [الأحقاف: 35].
و {قليلاً} وصف لمصدر محذوف، أي تمهيلاً قليلاً. وانتصب على المفعول المطلق.
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}
وهذا تعليل لجملة {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11]، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردِّك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفراً، فأعد الله لهم ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضداً لأصول النَّعمة التي خُوِّلوها، فبطِروا بها وقابلوا المنعِم بالكفران.
فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود. والجحيم: وهو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد. والطعام: ذو الغُصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد. والأنكال: جمع نِكْل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف. وهو القيد الثقيل.
والغُصَّة بضم الغين: اسم لأثر الغصّ في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعَبرة.
وإضافة الطعام إلى الغُصة إضافة مجازية وهي من الإِضافة لأدنى ملابسة، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبَشاعةٍ أو يبوسة.
والعذاب الأليم: مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة. وقد عرّف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.
وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النَّعمة (بالفتح).
وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها، و(لدى) يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة. والتقدير: لدى خزائننا، أي خزائن العذاب، ويجوز أن يكون مجازاً في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله.
ويتعلق {يوم ترجف} بالاستقرار الذي يتضمنه خبر {إن} في قوله {إن لدينا أنكالاً.
والرجف: الزلزلة والاضطراب، والمراد: الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.
والكثيب: الرمل المجتمع كالربوة، أي تصير حجارةُ الجبال دُقاقاً.
ومهيل: اسم فعول من هال الشيءَ هيلاً، إذا نثره وصبّه، وأصله مهيول، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو، لأنها زائدة ويدُلُّ عليها الضمة.
وجيء بفعل كانت} في قوله: {وكانت الجبال كثيباً}، للإِشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي. ووجه مخالفته لأسلوب {ترجف} أن صيرورة الجبال كثباً أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف، إلاّ أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم
والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له {وذرني والمكذبين} إلى قوله: {وعذاباً أليماً} [المزمل: 1113].
فالكلام استئناف ابتدائي، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله.
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين: مذهب الجمهور ومذهب السكاكي.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47] وقد قال أهل مكة {لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً} [الفرقان: 21]. وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفراً.
وأُكد الخبر ب (إنَّ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً.
ونكر {رسولاً} لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال.
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم.
والمراد بالشهادة هنا: الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف {شاهداً} موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ.
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم، وذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة (143).
{وتنكير رسولاً} المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله: {كما أرسلنا إلى فرعون} إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً.
وتفريع {فعصى فرعون الرسول} إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحلّ بالمخاطبين لمَّا عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مِثلُ ما حلّ بفرعون.
وفي إظهار اسم فرعون في قوله: {فعصى فرعون} دون أن يؤتَى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أوّل مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفاً بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفاً فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عينَ الأولى.
والأخذ مستعمل في الإِهلاك مجازاً لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئاً من موضعه وجعله عنده.
والوبيل: فعيل صفة مشبهة من وبُل المكان، إذا وَخِم هواؤه أو مَرعَى كَلَئِه، وقال زهير:
إلى كَلإٍ مُسْتَوبِللٍ مُتَوَخِّم ***
وهو هنا مستعار لسَيّئ العاقبة شديدَ السوء، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)}
الاستفهام ب (كيف) مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلاّ المؤاخذة بما شهد به، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتِّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنُه أن يثير فيهم تفكيراً من النجاة من الوقوع فيما هُدِّدوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.
فالمعنى: هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة، ففعل الشرط من قوله: {إِنْ كفرتم} مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدّوام من فعل {كفرتم} وإلاّ فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.
و {يوماً} منصوب على المفعول به ل {تتقون}. واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر.
ووصف اليوم بأنه {يجعل الولدان شيباً} وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو:
إذن والله نَرميهم بحرب *** تُشيب الطفل من قبل المشيب
فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت. وقال العيني: لم أجده في ديوانه. وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله:
دَعانيَ من نجدٍ فإن سنينه *** لَعِبْنَ بنا شِيباً وشيبننا مردا
وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد {يجعل الولدان شيباً} إلى اليوم مجاز عقلي بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمَن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفاً.
والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله: {يجعل الولدان شيباً.
وجملة السماء منفطر به} صفة ثانية.
والبَاء بمعنى (في) وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولاً ورعباً مما كني عنه بجملة {يجعل الولدان شيباً.} أي السماء عَلى عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} في سورة المعارج (4).
وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعباً وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا لَه أثر في زيادة نكالهم.
ويجوز أن تجعل جملة السماء منفطر به} مستأنفة معترضة بين جملة {فكيف تتقون} الخ، وجملة {كان وعده مفعولاً} والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائداً إلى الكفر المأخوذ من فعل {كفرتم.
ويجوز أن يكون الإِخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمان ولداً لقد جئتم شيئاً إدَّاً يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً} [مريم: 88 90].
ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع. قال الفراء: السماء تذكَّر على التأويل بالسقف لأن أصل تسميتها سماءً على التشبيه بالسقف، أي والسقف مُذكر والسماء مؤنث. وتبعه الجوهري وابن برّي. وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر:
فلو رَفع السماءُ إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السحاب
وأنشد ابن برّي أيضاً في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر:
وقالت سماءُ البيت فوقَك مُخْلَقٌ *** ولمَّا تَيَسَّر اجْتِلاَءُ الركَائب
ولا ندري مقدار صحة هاذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر. وقيل: إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياساً على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه.
ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث، إلى التذكير إيثاراً لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحرفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنَّبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] إذ ليس في الفعل إلاّ حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل، فجاءت بعدها تاء التأنيث.
وجملة {كان وعده مفعولاً} صفة أخرى ل {يوماً،} وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإِنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم.
وضمير {وعده} عائد إلى {يوماً} الموصوف، وإضافة (وعد) إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمناً استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلاً.
والإِشارة ب {هذه} إلى الآيات المتقدمة من قوله: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} [المزمل: 15].
وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجَهين به ابتداءً هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدًى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
والتذكِرة: اسم لمصدر الذُكر بضم الذال، الذي هو خطور الشيء في البال، فالتذكرة: الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.
وفرع على هذا التحريض التعريضيَّ تحريضٌ صريح بقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تَبق للمتغافل معذرة.
والإِتيان بموصول {من شاء} من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلاّ مشيئته، لأن قوله: {إن هذه تذكرة} قرينة على ذلك. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وقل الحقُ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. فليس ذلك إباحةً للإِيمان والكفر ولكنه تحريض على الإِيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط. ولذلك قال ابن عطية: ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد.
وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلاً ما من السُبل قال: وهو حسن، فيبقى ظاهر الآية على حاله من التّخيير اه.
وقد علمت ممّا قرّرناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير. وفي قوله: {إلى ربّه} تمثيل لحال طالب الفوز والهُدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أريَ السبيلَ الذي يبلِّغه إلى مقصده فلم يبق له ما يعوقه عن سلوكه.
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
من هنا يبتدئ ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة.
وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملاً بالأمر الذي في أول السورة من قوله: {قم الليل إلاّ قليلاً} الآية [المزمل: 2]، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعاً لقوله فيها: {فتاب عليكم} فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة.
واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسْبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها. والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة.
ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمان عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة. ومثلُه ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة.
ولا ينبغي أن يطال القول في أنَّ القيام الذي شُرع في صدر السورة كان قياماً واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسياً به وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسَخ وجوب قيام الليل، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضاً على المسلمين، وهو تأويل، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على الأمة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجَرى ذكر تعويضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج، وأن جوب الخمس على النبي صلى الله عليه وسلم مثل وجوبها على المسلمين. وهذا قول ابن عباس لأنه قال: إن قيام الليل لم ينسخه إلاّ آية: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} الآية، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى الله عليه وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}.
وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلةَ بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعدَه بقليل استيقظ رسول الله» ثم وصف وُضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح. وابن عباس يومئذٍ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة.
ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلاّ حين احتجز موضعاً من المسجد لقيامه في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا يَنْسِلون إلى المسجد ليصلّوا بصلاة نبيئهم صلى الله عليه وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم:
" لقد خشيت أن تفرض عليكم " وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة.
وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضاً عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلاّ لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قُدر أن بعض قيام الليل كان مفروضاً لكان قيامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أداء لذلك المفروض، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحفصة وقد قصَّت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم في الليل».
وافتتاح الكلام ب {إن ربك يعلم أنك تقوم} يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أُمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدرِ المعين فيه النصففِ أو أنقصَ منه قليلاً أو زائدٍ عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثُلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} [القصص: 29] أنه قضى أقصَى الأجلين وهو العشر السنون.
وقد جاء في الحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه "
وتأكيد الخبر ب {إِنَّ} للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربّه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله: {فتاب عليكم} ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد.
ولم تزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيامَ مقامه بمكة، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم من قيام الليل الواجِب منه والرغيبةِ.
وفي حديث علي بن أبي طالب " أنه سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى منزله فقال: كان إذا أوَى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جُزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزَّأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئاً فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمةَ من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم "
وإيثار المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده وذلك إيذان بأنه بمحل الرضى منه.
وفي ضده قوله: {قد يعلم الله المعوقين منكم} [الأحزاب: 18] لأنه في معرض التوبيخ، أي لم يزل عالماً بذلك حيناً فحيناً لا يخفى عليه منه حصة.
و {أدْنى} أصله أقرب، من الدنُوّ، استعير للأَقَلّ لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر.
وهو منصوب على الظرفيّة لفعل {تقوم}، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى: {أو زد عليه} [المزمل: 4].
وقرأ الجمهور: {ثُلثي} بضم اللام على الأصل. وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {ونصفَه وثلثَه} بخفضهما عطفاً على {ثلثي الليل}، أي أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب {ونصفه وثلثه} على أنهما منصوبان على المفعول ل {تقومُ}، أي تقوم ثلثي الليل، وتقوم نصف الليل، وتقوم ثلثَ الليل، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث. وهذه أحوال مختلفة في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله {قم الليل إلاّ قليلاً} [المزمل: 2] إلى قوله: {أو زد عليه} [المزمل: 4].
وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة، وهي جملة {والله يقدر الليل والنهار} أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها. فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات. فمن العجاب قول الفرّاء أن النصب أشبه بالصواب.
و {طائفة} عطف على اسم {إنَّ} بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعدَ ذكرِ خبرِ {إنّ} لأنه يقدر رفعه حينئذٍ على الاستئناف كما في قوله تعالى: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]. وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفاً فإن بين قيام النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتاً في الحكم والمقدار، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن ويعاملهم، وأما الله فغاضب عليهم ولاَعنُهم. وهذا وجه العدول عن أن يقول: إنَّ الله يعلم أنكم تقومون. إلى قوله: {أنك تقوم} ثم قوله: {وطائفة} الخ.
ووُصف {طائفة} بأنهم (من الذين معه)، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية، أي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام. أي المصاحبين لك في قيام الليل، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم، ففي حديث عائشة في «صحيح البخاري» «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشِيت أن تُفرض عليكم، وذلك في رمضان».
وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عَدَدْنا منهم: عبدَ الله بن مسعود، وعبد الله بن عَمْرو، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء، وزينبَ بنتَ جحش، وعبدَ الله بن عُمَرَ، والحَولاء بنتَ تُوَيْت الأسدية، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقاً في أحاديث التهجد من «صحيح البخاري».
واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك.
فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنهم فيما فعلوا.
والمقصود: التمهيد لقوله: {علم أن لن تحصوه} إلى آخر الآية.
ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل {عَلِم} في جملة {علم أن سيكون منكم مرضى} الخ ولم يقل: وأن سيكون منكم مرضى بالعطف.
وجملة {والله يقدر الليل والنهار} معترضة بين جملتي {إن ربّك يعلم أنك تقوم} وجملة {علم أن لن تحصوه} وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفاً.
وجملة {علم أن لن تحصوه} يجوز أن تكون خبراً ثانياً عن {إنَّ} بعد الخبر في قوله: {يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} الخ.
ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً لما ينشأ عن جملة {إن ربّك يعلم أنك تقوم} من ترقب السامع لمعرفة ما مُهّد له بتلك الجملة، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه.
والضمير المنصوب في {تحصوه} عائد إلى القيام المستفاد من {أنك تقوم.
والإِحصاء حقيقته: معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدّوا شيئاً كثيراً جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإِطاقة. شُبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل، بالأشياء المعدودة، وبهذا فسر الحسن وسفيان، ومنه قوله في الحديث استقيموا ولن تُحصوا أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة، أي فخذوا منها بقدر الطاقة.
وأنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة، وقد وقع الفصل بين {أنْ} وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلاً غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح.
و {أنْ} وجملتها سادة مسد مفعولي {علم} إذ تقديره علم عَدَم إحصائِكُمُوه واقعاً.
وفرع على ذلك {فتاب عليكم} وفعل {تاب} مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه، بفعل {تاب} المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله.
والوجه أن يكون الخطاب في قوله: {تحصوه} وما بعده موجهاً إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل: إِما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله: {وطائفة من الذين معك،} وإِما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُظن تعذر الإِحصاء عليه، وبقرينة قوله: {أن سيكونُ منكم مرضى} الخ.
ومعنى {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} فصلُّوا ما تيسر لكم، ولما كانت الصلاة لا تخلو عن قراءة القرآن أُتبع ذلك بقوله هنا: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن}، أي صلوا كقوله تعالى:
{وقرآنَ الفجر} [الإسراء: 78] أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإِيجاز.
والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنيّة وهو شيء كثير من القرآن المكيُّ كله وشيء من المدني، وليس مثل قوله في صدر السورة {ورتل القرءان ترتيلاً} [المزمل: 4] كما علمت هنالك.
وقوله: {ما تيسر من القرءان} أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزئ من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع، ولئن سلمنا، فإن ما تيسر مجمل وقد بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صَلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يرو عنه أنه قرأ في الصلاة أقلَّ من سورة، وهو الواجب عند جمهور الفقهاء، فيكره أن يَقرأ المصلي بعضَ سورة في الفريضة. ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان، وعند الضرورة، ففي «الصحيح» «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فأخذته بُحَّة فركع»، أي في أثناء السّورة.
وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه: تجزئ قراءة آية من القرآن ولو كانت قصيرة ومثَّله الحنفية بقوله تعالى: {مُدْهامَّتَان} [الرحمن: 64] ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين.
وتعيين من تجب عليه القراءة من منفرد وإمام ومأموم مُبين في كتب الفقه.
وفعلُ (تاب) إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف (على) لتضمينه معنى مَنَّ وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والندم منه عدي بما يناسب.
وقد نسخت هذه الآية تحديدَ مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل من ثلثه، وأصحاب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {عَلِمَ أنْ لَنْ تُحصوه،} وهذا تخفيف آخر لأجل أحوال أخرى اقتضت التخفيف.
وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإِسلامية. وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار:
الضرب الأول: أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله: {أن سيكون منكم مرضى.
الضرب الثاني}: الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش من تجارة وصناعة وحراثة وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} وفضل الله هو الرزق.
الضرب الثالث: أعمال لمصالح الأمة وأشار إليها قوله: {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} ودخل في ذلك حراسة الثغور والرِباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإِسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء.
وهذا كله من شؤون الأمة على الإِجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم كما في القتال في سبيل الله، والمرض ففي الحديث: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين.
وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات.
وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلاّ تنويهاً بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر.
روي عن ابن مسعود أنه قال «أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}.
وعن ابن عمر: «ما خلق الله موتة بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شُعْبَتَي رَحْلي أبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض».
فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم.
ومعنى {يضربون في الأرض} يسيرون في الأرض.
وحقيقة الضرب: قرع جسم بجسم آخر، وسُمّي السير في الأرض ضرباً في الأرض لتضمين فعل {يضربون} معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف {في} لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى: {فسيروا في الأرض} [آل عمران: 137] وقد تقدم عند قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} في سورة النساء (101).
والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم} [البقرة: 198] أي التجارة في مدة الحج، فقوله تعالى: {يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثيراً ويكون في النهار فيحتاج المسافر للنوم في النهار.
وفُرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال: {فاقرأوا ما تيسر منه} أي من القرآن.
وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار.
وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين، أو بيانَ لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير لازم لهم.
وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجباً عليهم أو رفَع وجوبه. ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقِيَ حكمُ القيام ورُخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي بالمظنة والحكم هنا عدمي، أي عدم الإِيجاب فهو نظير قصر الصلاة في السفر على قول عائشة أم المؤمنين: «إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر»، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر.
وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركناً من أركان الإِسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه.
وأما حكم القيام فهو ما دلّ عليه قوله: {قم الليل إلاّ قليلاً} [المزمل: 2] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة. وقد مضى ذلك كله. فهذه الآية صالحة لأن تكون أصلاً للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلاً تقاس عليه الرخص العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الْأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية.
وقوله: {وأقيموا الصلاة} تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء: 103].
وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن في الصلوات الخمس ما يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة.
وعطف {وءاتوا الزكاة} تتميم لأن الغالب أنه لم يَخلُ ذكر الصلاة من قرن الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر رضي الله عنه «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة».
وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يُقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حالُ معطي الصدقة مستجيباً رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضاً في أنه حقيق بأن يُرجع إليه ما أقرضه، وذلك في الثواب الذي يُعطاه يوم الجزاء.
ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المنّ والأذى، والحُسن متفاوت.
والحَسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وقد تقدم في سورة البقرة (245) قوله: {من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ضعافاً كثيرة} وفي سورة التغابن (17) {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفْه لكم}
وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}.
تذييل لما سبق من الأمر في قوله: {فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً}، فإن قوله: {من خير} يعم جميع فعل الخير.
وفي الكلام إيجازُ حَذْف. تقدير المحذوف: وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير.
و {ما} شرطية. ومعنى تقديم الخير: فعله في الحياة، شُبِّه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثَقَلَه وأدوَاتِه وبعضَ أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت وصوله.
و {من خير} بيان لإِبهام {ما} الشرطية.
والخير: هو ما وصفه الدين بالحُسْن ووعد على فعله بالثواب.
ومعنى {تجدوه} تجدوا جزاءه وثوابه، وهو الذي قصده فاعله، فكأنه وجد نفس الذي قدَّمه، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائِه باسم المعوض عنه والمجازَى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يَكنز المال ولا يؤدي حقه «مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ يأخذ بلِهْزِمَتَيْه يقول: أنا مالك أنا كنزك».
وضمير الغائب في {تجدوه} هو المفعول الأول ل (تجدوا) ومفعوله الثاني {خيراً}.
والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافاً للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأنَّ أفْعَلَ مِن كَذا، أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه.
و {خيراً}: اسم تفضيل، أي خيراً مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير، بل المراد مضاعفة الجزاء، لما دل عليه قوله تعالى: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم} [التغابن: 17] وغير ذلك من كثير من الآيات.
وأفاد ضمير الفصل هنا مجرد التأكيد لتحقيقه.
وعُطف {وأعظمَ أجراً} على {خيراً} أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل.
وانتصب {أجراً} على أنه تمييز نسبة ل {أعظمَ} لأنه في معنى الفعل. فالتقدير: وأعظم أجره، كما تقول: وجدته مُنبسطاً كفاً، والمعنى: أن أجره خيرٌ وأعظمُ ممّا قدمتوه.
يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفاً على جملة {وما تقدموا لأنفسكم} الخ، فيكون لها حكم التذييل إرشاداً لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبةً منه.
ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشاداً من الله لما يسُدّ مسدّ قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربّه إذا انتبه من أجزاء الليل، وهو مشمول لقوله تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ينزل ربّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعْطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له». وقال: «من تَعَارَّ من الليل فقال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ثم قال اللهم اغفر لي أوْ دعا استجيب له».
وجملة {إن الله غفور رحيم} تعليل للأمر بالاستغفار، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة. والمقصود من هذا التعليل الترغيبُ والتحريض على الاستغفار بأنه مرجوّ الإِجابة. وفي الإِتيان بالوصفين الدّالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإِجابة.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}
نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة. وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: دثروني دثروني، أو قال: زملوني، أو قال: زملوني فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت: {يا أيها المدثر.
وقد مضى عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف.
و {المدثر}: اسم فاعل من تدثّر، إذا لبس الدِّثَار، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى.
والدِّثار: بكسر الدال: الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً. وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار "
فالوصف ب {المدثر} حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى: المدثر بالنبوءة، كما يقال: ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى: {يا أيها المزمل، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها.
والقيام المأمور به ليس مستعملاً في حقيقته لأن النبي لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائماً ولا مضطجعاً ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإِقبال والتهمُّم بالإِنذار مجازاً أو كناية.
وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساوياً للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعدّ ابن مالك في التسهيل} فعل قام من أفعال الشروع، فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يَكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في «الكشاف»: قُم قيام عزم وتصميم.
وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مُرَّة بن مَحْكَانَ التميمي من شعراء الحماسة:
يا ربَّةَ البيتتِ قُومِي غيرَ صاغرة *** ضُمّي إليككِ رجال الحي والغُربا
فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملةٌ حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر:
على مَا قام يشتمني لئيم *** كخنزِير تمرَّغ في رماد
وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو وَلم يعرف قائله:
فقام يذود الناس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيللٍ إلى هند
وأفادت فاء {فأنذر} تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإِنذار.
ففعل {قم} منزَّل منزلة اللازم، وتفريع {فأنذر} عليه يبين المراد من الأمر بالقيام.
والمعنى: يا أيها المدثر من الرعب لرؤية مَلَك الوحي لا تخف وأقبل على الإِنذار.
والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمراً بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه {إِنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} [المزمل: 15]، وقوله: {وذَرني والمكذبين} [المزمل: 11]. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير.
ومفعول {أنذر} محذوف لإِفادة العُموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذٍ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}
انتصب {ربّك} على المفعولية لفعل (كَبِّر) قُذم على عامله لإِفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام.
والواو عطَفت جملة {ربَّك فكبر} على جملة {قم فأنذر} [المدثر: 2].
ودخلت الفاء على (كَبّر) إيذاناً بشرطٍ محذوف يكون (كَبِّر) جوابه، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهُيِّئ لِتقدير الشرط بتقديم المفعول. لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم " ففيهما فجاهد " (يعني الأبوين).
فالتقدير: مهمْا يكن شيء فكبّرْ ربّك.
والمعنى: أن لا يفتر عن الإِعلان بتعظيم الله وتوحيده في كُل زمان وكل حال وهذا من الإِيجاز. وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال: هو كقولك زيداً فاضرب، تُريد: زيداً اضرب.
وتكبير الرب تعظيمه ففعل (كبّر) يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فَعَّل، أي أخبر عنه بخبر التعظيم، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظَّم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله.
فمعنى {وربَّك فكبِّر:} صِف ربّك بصفات التعظيم، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها.
ومعنى (كبِّر): كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحاً وتعليماً. ويشمل هذا المعنى أن يقول: «الله أكبر» لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجلّ وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحاً للصلاة.
وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة. ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال: وذلك قبل أن تفرض الصلاة. فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}
هو في النظم مثل نظم {وربّك فكبر} [المدثر: 3] أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة:
فشكَكْت بالرمح الأصم ثيابه *** كناية عن طعنه بالرمح.
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً} [الأحزاب: 33].
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب.
والطهارة لجسده بالأولى.
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على {وربَّك فكبر} لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه. وفي كلام العرب: فلان نقي الثياب. وقال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإِنِّي بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنّع
وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس:
ثيابُ عوف طَهارَى نقية *** وأوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان
ودخول الفاء على فعل {فطهر} كما تقدم عند قوله: {وربّك فكبّر} [المدثر: 3].
وتقديم {ثيابك} على فعل (طهِّرْ) للاهتمام به في الأمر بالتطهير.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}
{الرجز}: يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرّجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن. ويحمل الرجز هنا على ما يشمل الأوثان وغيرها من أكل الميتة والدم.
وتقديم {الرجز} على فعل (اهجر) للاهتمام في مهيع الأمر بتركه.
والقول في {والرجز فاهجر} كالقول في {وربّك فكبّر.
والهجر: ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء. والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس.
والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية.
{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}
مناسبة عطف {ولا تمنن تستكثر} على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خُلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهياً يقتضي الأمر بالصدقة والإِكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: وتصدق وأُكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيراً فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.
والسين والتاء في قوله: {تستكثر} للعدّ، أي بعد ما أعطيته كثيراً.
وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم». ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة.
والمنّ: تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه.
والاستكثار: عدّ الشيء كثيراً، أي لا تستعظم ما تعطيه.
وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة. وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى {ولا تمنن تستكثر} ليس شيء منها بمناسب، وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر.
و {تستكثر} جملة في موضع الحال من ضمير {تمنن} وهي حال مقدرة.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}
تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة.
والصبر: ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها.
ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ.
ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف (على)، يقال: صبر على الأذى. ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام. ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال: اصبر على الله، ويقال: اصبر على حكم الله، أو لحكم الله. فيجوز أن تكون اللام في قوله {لربّك} لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال: {واصبر لحكم ربّك فإنك بأعيننا} في سورة الطور (48) وقوله: {فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} في سورة الإِنسان (24) فيناسب نداءه ب {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية المَلك، وتركُ ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب.
ويجوز أن تكون اللام للتعليل، وحذف متعلق فعل الصبر، أي اصبر لأجل ربّك على كل ما يشق عليك.
وتقديم {لربّك} على «(اصبر) للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجَعل بعضهم اللام في {لربّك} لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى: إنه يصبر توكلاً على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.
والصبر تقدم عند قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة في} [البقرة: 45].
وفي التعبير عن الله بوصف (ربّك) إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له.
فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.
{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإِنذار في قوله {فأنذر} [المدثر: 2]، أي فأنذر المنذَرين وأنذرهم وقتَ النقر في الناقور وما يقع يومئذٍ بالذين أُنذروا فأعرضوا عن التذكرة، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها.
ويجوز أن يكون معطوفاً على {فاصبر} [المدثر: 7] بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين.
و {الناقور}: البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصُّور وهو قرن كبير، أو شبهُه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه، قال خُفاف بن نَدْبَةَ:
إذا نَاقورُهم يوماً تَبَدَّى *** أجاب الناسُ من غرب وشَرق
ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقْر وهو صوت اللسان مثل الصفير فقوله نُقر، أي صُوِّت، أي صوَّت مُصَوِّتٌ. وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة.
و (إذا) اسم زمان أضيف إلى جملة {نقر في الناقور} وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله: {فَذلك يومئذٍ يوم عسير} لأنه في قوة فِعْل، أي عَسُر الأمرُ على الكافرين.
وفاء {فذلك} لجزاء (إذا) لأن (إذا) يتضمن معنى شرط.
والإِشارة إلى مدلول (إذا نُقر)، أي فذلك الوقت يوم عسير.
و {يومئذٍ} بدل من اسم الإِشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعرف ب«أل» في نحو {ذلك الكتابُ لا ريب فيه} [البقرة: 2].
ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه، فهو وصف مجازي عقلي. وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث.
و {على الكافرين} متعلق ب {عسير}.
ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثِه مشهور في كلامهم، قال السَمَوْأل، أوْ الحارثي:
وأيَّامُنا مشهورةٌ في عدوّنا *** لها غُرر معلومة وحُجول
وإنما الغُرر والحجول مستعارة لصفات لقائهم العدوّ في أيامهم، وفي المقامة الثلاثين «لا عَقَدَ هذا العقدَ المبجَّل، في هذا اليوم الأغَر المُحْجَل، إلاّ الذي جال وجَاب، وشب في الكُدْيَة وشَاب» وقال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات} في سورة فصلت (16).
و {غير يسير} تأكيد لمعنى {عسير} بمرادفه. وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال: عاجلاً غير آجل، قال طالب بن أبي طالب:
فلْيكُن المغلوبَ غيرَ الغَالِبْ *** وليكن المسلوبَ غَيْر السَّالِبْ
وعليه من غير التأكيد قوله تعالى: {قد ضلّوا وما كانوا مهتدين} [الأنعام: 140] {قد ضلَلْتُ إذن وما أنا من المهتدين} [الأنعام: 56]. وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد ما يشعر به لفظ {غير} من المغايرة فيكون تعريضاً بأن له حالة أخرى، وهي اليسر، أي على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم، وبشارة المؤمنين.
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16)}
لما جرى ذكر الكافرين في قوله: {فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين} [المدثر: 9، 10]، وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقوله: {ولربّك فاصبر} [المدثر: 7] انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
وقوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} الخ. استئناف يؤذن بأن حدثاً كان سبباً لنزول هذه الآية عقبَ الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أُمر بالإِنذار ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتمع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليدُ بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميةُ بن خلف، والعاصي بنُ وائل، والمُطْعِم بن عَدِي. فقالوا: إن وفود العرب ستقدِم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الأخبار عنه. فمن قائل يقول: مجنون وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسَمُّوا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال: شاعر، فقال الوليد بن المغيرة: سمعتُ كلام ابننِ الأبرص (يعني عَبيد بن الأبرص) وأميّة بن أبي الصلت، وعرفتُ الشعر كله، وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا: كاهن، فقال الوليد: ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. والكاهن يصدُق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يُخْنَق فما هو بخنقه ولا تَخالُجِه ولا وسوسته، فقالوا: ساحر، قال الوليد: لقد رأينا السُّحَّار وسِحْرهم فما هو بنفثه ولا عَقْده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لكَ يَا با عَبدِ شمس أصَبَأْتَ؟ فقال الوليد: فكَّرت في أمر محمد وإِن أقربَ القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فقال ابن إسحاق: فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} الآيات.
وعن أبي نصر القشيري أنه قال: قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة: أنتَ ساحر فوجد من ذلك غمّاً وحُمَّ فتدثر بثيابه فقال الله تعالى: {قم فأنذر} [المدثر: 2].
وأيّاما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعنِيُّ بقوله تعالى: {ومن خلقت وحيداً} فإن كان قول الوليد صدَر منه بعد نزول صدْر هذه السورة فجملة {ذرني ومن خلقت وحيداً} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً والمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلاً بقوله:
{ولربّك فاصبر} [المدثر: 7] على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل، وما بينهما اعتراض، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رَمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوماً على الأصح سواء نزل وحي بين بدء الوحي وفترته مدةَ أيام، أوْ لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعتْ فترته، فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فأخذ المشركون في الاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم
وتصدير الجملة بفعل {ذرني} إيماء إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتماً ومغتماً مما اختلقه الوليد بن المغيرة، فاتصاله بقوله: {ولربّك فاصبر يزداد وضوحاً.
وتقدم ما في نحو ذَرني} وكَذا، من التهديد والوعيد للمذكور بعد واو المعية، في تفسير قوله تعالى: {فذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث} في سورة القلم (44).
وجيء بالموصول وصلته في قوله: ومن خلقت وحيداً} لإِدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد.
وانتصب {وحيداً} على الحال من {مَن} الموصولة.
والوحيد: المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام، أو شهرة أو قصة، وهو فعيل من وحُد من باب كَرُم وعَلِم، إذا انفرد.
وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهي كثْرةُ الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه مِن قبله، وكان مرجعَ قريش في أمورهم لأنه كان أسنّ من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به. وجاء هذا الوصف بعد فعل {خلَقْت،} ليصرف هذا الوصف عما كان مراداً به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل {خلقتُ} أي أوجدتُه وحيداً عن المال والبنين والبسطة، فيغيَّر عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حالُ كل مخلوق فتكون من قبيل قوله: {والله أخرجكم من بطون أمهاتِكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78] الآية.
وعطف على ذلك {وجعلتُ له مالاً} عطفَ الخاص على العام.
والممدود: اسم مفعول من مَدَّ الذي بمعنى: أطال، بأن شُبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم، أو من مدّ الذي بمعنى: زَاد في الشْيءِ من مثله، كما يقال: مَد الوادي النهرَ، أي مالاً مزيداً في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب. وكان الوليد من أوسع قريش ثراءً. وعن ابن عباس: كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإِبل والغنم والعبيد والجواري والجِنان وكانت غلة ماله ألف دينار (أي في السنة).
وامتنّ الله عليه بنعمة البنين ووصَفهم بشهود جمع شاهد، أي حاضر، أي لا يفارقونه فهو مستأنس بهم لا يشتغل بالُه بمغيبهم وخوففِ معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخراً له، قيل: كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابناً، والمذكور منهم سبعة، وهم: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وقيس أو أبو قيس، وعبد شمس (وبه يكنى).
ولم يذكر ابن حزم في «جمهرة الأنساب»: العاصي. واقتصر على ستة.
والتمهيدُ: مصدر مهّد بتشديد الهاء الدال على قوة المَهْد. والمَهْد: تسوية الأرض وإزالة ما يُقِضُّ جنب المضطجع عليها، ومَهْدُ الصبي تسمية بالمصدر.
والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.
وأُكد {مهَّدْتُ} بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإِفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز.
ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة، فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاّف مهين} [القلم: 10] الخ بناء على قول من قال: إن المراد به الوليد بن المغيرة (وقد علمت أنه احتمال) لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره.
و {ثم} في قوله: {ثم يطمع} للتراخي الرتبي، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يُسر أموره. وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به في قوله: {كلا.
والطمع: طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طَمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام، أو لأنّه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أنها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجاً بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة.
ولهذه النكتة عُدِل عن أن يقال: يطمع في الزيادة، أو يطمع أن يُزاد.
وكلاّ} ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النّعم وقطع لرجائه.
والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه السلام: {ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88].
وفي هذا الإِبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7]، ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله: «من لم يشكر النعم فقد تعرَّض لزوالها، ومن شكرها فقد قَيَّدها بعِقَالها».
يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلاً للردع والإِبطال، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفراناً للنعمة فكانت سبباً لقطعها عنه إذ قد تجاوز حدّ الكفر إلى المناواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعماً عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافاً للأشعري، واختار المحقّقون أنه خلاف لفظي.
ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى: {كلاّ}.
والعنيد: الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فَعيل من: عَنَدَ يعنِد كضرب، إذا نازع وجادل الحق البين.
وعناده: هو محاولته الطعن في القرآن وتحيله للتمويه بأنه سحر، أو شعر، أو كلام كهانة، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش، قبل أن يلومَه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة، وهو أن يقول: هو سحر، تشبثاً بأن فيه خصائص السحر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}
جملة {سأُرهقه صعوداً} معترضة بين {إنه كان لآياتنا عنيداً} [المدثر: 16] وبين {إنه فكر وقدَّر}، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مسَاءَة له وتعجيلُ المسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم
وجملة {إنه فكَّر وقدَّر} مبيِّنة لجملة {إنه كان لآياتنا عنيداً فهي تكملة وتبيين لها.
والإرهاق: الإِتعاب وتحميل ما لا يطاق، وفعله رهِق كفرِح، قال تعالى: {ولا ترهقني من أمري عسراً} في سورة الكهف (73).
والصَّعود: العقبة الشديدة التَّصعد الشاقة على الماشي وهي فَعول مبالغة من صَعِد، فإن العقبة صَعْدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعداً من العقبات المعتادة قيل لها: صَعُود.
وكأنَّ أصل هذا الوصف أن العقبة وُصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسمَ جنس لها.
وقوله: {سأرهقه صعوداً} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {ومَهَّدت له تمهيداً} [المدثر: 14]، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سُوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له.
قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.
وقد وُزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذُكر عناده وهو من مقاصِدهِ السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقّب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء. ولما ذُكر طعنه في القرآن بقوله: {إنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} وأنكر أنه وحي من الله بقوله: {إن هذا إلاّ قول البشر} أُردف بذكر عذاب الآخرة بقوله: {سأُصليه سَقر} [المدثر: 26].
وعن النبي صلى الله عليه وسلم رأن صَعوداً جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً»، رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هو حديث غريب. فجعل الله صفة صعود علَماً على ذلك الجبل في جهنم. وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً.
وجملة إنه فكر وقدر} إلى آخرها بدل من جملة {إنه كان لآياتنا عنيداً} [المدثر: 16] بدل اشتمال.
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.
ومعنى {فكّر} أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذراً يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم
و {قَدَّر} جعل قَدْراً لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآنَ من أنواع كلام البشر أو ما يَسِم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفةِ أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يُخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك،، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفتُ الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر.
فهذا معنى {قَدَّر}.
وقوله: {فقُتل كيف قدّر} كلام معترض بين {فكّر وقدّر} وبين {ثم نظر} وهو إنشاء شتم مفرع على الإِخبار عنه بأنه فكر وقدّر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه.
فالفاء لتفريع ذمه عن سيّئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} [النحل: 43، 44].
والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه. والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها. ومن زعموا أن الاعتراض لا يكون بالفاء فقد توهموا.
و {قُتِل}: دعاء عليه بأن يقتله قَاتل، أي دعاء عليه بتعجيل مَوته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاءِ له كقوله: {قاتلهم الله} [التوبة: 30] وقولهم: عَدِمْتُك، وثَكلتْه أُمُّه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه. وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغاً يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت. وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال. والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قَدره ليس مما يَغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعَقْدِ السحرة ولا نفثهم وبَعد أن فكّر قال: {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} فناقض نفسه.
وقولُه: {ثم قُتل كيف قدّر} تأكيد لنظيره المفرّع بالفاء. والعطف ب {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها فِي الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذُو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله: {كَلاَّ سيعلمون ثم كلا سيعلمون} [النبأ: 4، 5].
و {كَيف قدّر} في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلِّق {كيف}.
والاستفهام موجه إلى سامع غير معيّن يستفهم المتكلم سامعه استفهاماً عن حالة تقديره، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإِنكار على وجه المجاز المرسل.
و {كيف} في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها {قَدَّر}.
وقوله: {ثم نظر ثم عبَس وبَسَر ثم أدبر واستكبر} عطف على {وقدّر} وهي ارتقاء متواللٍ فيما اقتضى التعجيب من حاله والإِنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمننٍ لأن نظره وعُبُوسه وبَسَره وإِدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.
والنظر هنا: نظر العين ليكون زائداً على ما أفاده {فكَّر وقدَّر}. والمعنى: نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آراءهم في انتحال ما يصفون به القرآن.
و {عبس}: قطَّب وجهه لمَّا استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمَزاً مقبولاً.
و {بسَر}: معناه كلَح وجهُه وتغيَّر لونه خوفاً وكمداً حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول، قال تعالى: {ووجوه يومئذٍ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة} في سورة [القيامة: 24، 25].
والإِدبار: هنا يجوز أن يكون مستعاراً لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدّره يَأساً من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى.
ويجوز أن يكون مستعاراً لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {ثم أدبر يسعى حكاية عن فرعون} في سورة النازعات (22).
وصفت أشكاله التي تشكَّل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن، وذلك تهكم بالوليد.
وصيغة الحصر في قوله: إِنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السَبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال: ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون، كما تقدم في خبره.
ووصَف هذا السحر بأنه مأثُور، أي مروي عن الأقدمين، يقول هذا ليدفع به اعتراضاً يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.
وجملة {إنْ هذا إلاّ قول البشر} بدل اشتمال من جملة {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} بأن السحر يكون أقوالاً وأفعالاً فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أنّ القرآن ليس وحياً من الله.
وعطف قوله: {فقال} بالفاء لأنّ هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقاً بأن يعطف بحرف التعقيب.
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}
جملة {سأُصليه سقر} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {إنه فكّر وقدّر} [المدثر: 18] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.
ويجوز أن تكون بدلاً من جملة {سأرهق صعوراً}. والإِصلاء: جعل الشيء صالياً، أي مباشراً حرَّ النار. وفعل صَلِيَ يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدَفّئ كقول الحارث بن حِلزة:
فتنورتَ نارها من بعيد *** بخزازَى أيَّانَ منكَ الصلاء
أي أنت بعيد من التدفئ بها وكما قال حُمَيد بن ثَوْر:
لا تصطلي النارَ إلاّ مِجْمَرا أرِجَا *** قد كَسَّرت من يَلْنَجُوجٍ له وَقَصَا
ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: {سَيصلَى ناراً ذات لهب} في سورة أبي لهب (3) وقال: {فأنذرتكم ناراً تلظَّى لا يصلاَها إلاّ الأشقى} في سورة الليل (14، 15)، وقال: وسيَصلون سعيراً في سورة النساء (10)، والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإِحراق كقوله تعالى: {فسوف نُصليه ناراً} في سورة النساءِ (30). ومنه قوله هنا سأُصليه سقر.
وسقر: علَم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السّادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي ا ه. واقتصر عليه ابنُ عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسّرون سقر بما يرادف جهنم.
وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بُقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: لا تُبقي} إلى قوله: {عليها تسعة عشر.} وقيل سقر معرَّب نقله في «الإِتقان» عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعرّبة ولا من أية لغة هو.
و {ما أدراك ما سقر} جملة حالية من {سقر}، أي سقر التي حالها لا ينبئك به مُنبئ وهذا تهويل لحالها.
و {ما سقر} في محل مبتدإ وأصله سقر مَّا، أي ما هي، فقدّم {ما} لأنه اسم استفهام وله الصدارة.
فإن {ما} الأولى استفهامية. والمعنى: أيُّ شيء يدريك، أي يعلمك.
و {ما} الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن {سقر}.
وجملة {لا تبقي} بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة {وما أدراك ما سَقر،} فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر.
وحذف مفعول {تبقي} لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحداً أو لا تبقي من أجزائهم شيئاً.
وجملة {ولا تذر} عطف على {لا تبقي} فهي في معنى الحال، ومعنى {لا تذر،} أي لا تترك من يلقَى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: {كلما نَضِجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56].
و {لوّاحة}: خبر ثالث عن {سقر}. و{لوّاحة} فعَّالة، من اللّوح وهو تغيير الذات من ألممٍ ونحوه، وقال الشاعر، وهو من شواهد «الكشاف» ولم أقف على قائله:
تقول ما لاحكَ يا مُسافِرْ *** يا ابنة عمي لاحني الهَواجِرْ
والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإِنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداً، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.
وقوله: {عليها تسعة عشر} خبر رابع عن {سَقر} من قوله: {وما أدراك ما سقر.
ومعنى عليها} على حراستها، ف (على) للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر مَلَكاً.
وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هُم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.
وقيل: تسعة عشر صِنفاً من الملائكة وقيل تسعة عشر صفّاً. وفي «تفسير الفخر»: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً: أحدها قول أهل الحكمة: إن سبب فساد النفس هو القُوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولِّدة، فهذه سبعة، فتلك تسعَ عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اه.
والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزَّعون على دركات سقر أو جهنمَ لكل دَرك مَلك فلعل هذه الدركات معيَّن كل درك منها لأهل شعبة من شُعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} في سورة النساء (145) فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الإله، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشيطان والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإِباحيةُ ولو مع إثبات الإله الواحد.
وفي ذكر هذا العدد تحدَ لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} [المدثر: 31].
وقرأ الجمهور {تسعة عَشر} بفتح العين من {عَشر.} وقرأ أبو جعفر {تسعة عشر} بسكون العين من {عشْر} تخفيفاً لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}
{عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب}.
روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد: «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهْم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}، أي ما جعلناهم رجالاً فيأخذ كل رجل رجلاً، فمن ذا يغلب الملائكة اه.
وفي «تفسير القرطبي» عن السدي: أن أبا الأشَدَّ بنَ كَلَدَة الجمحِي قال مستهزئاً: لا يَهُولَنَّكم التسعةَ عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمننِ عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة، وقيل: قال الحارث بن كَلَدة: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه.
فالمراد مِن {أصحاب النار} خزنتها، وهم المتقدم ذكرهم بقوله: {عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30].
والاستثناء من عموم الأنواع، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلاّ من نوع الملائكة.
وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره مَا توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلاً فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشدِّ بن أُسَيد الجُمحِي: لا يَبلغون ثوبي حتى أُجْهضَهم عن جهنم، أي أنحِّيهم.
وقوله تعالى: {وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا} تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلاً عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعةَ عشر وهلاّ كانوا آلافاً ليكون مرآهم أشد هولاً على أهل النار، أو هلاَّ كانوا ملكاً واحداً فإن قُوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له، فكان جواب هذا السؤال: أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فَهم الكفار للقرآن. وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة. فقوله: {وما جعلنا عدتهم} تقديره: وما جعلنا ذكر عدتهم إلاّ فتنة، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب، وازدياد الذين آمنوا إيماناً، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين. فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله.
والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل {جعلنا} تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير، ولما كانت الفتنة حالاً من أحوال الذين كفروا لم تكن مراداً منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالاً لهم.
والتقدير: ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلاّ لغرض فتنة الذين كفروا؛ فانتصب {فتنة} على أنه مفعول ثان لفعل {جعلنا} على الاستثناء المفرغ، وهو قصر قلب للردّ على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هيّن.
وقوله: {ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب} الخ. علة ثانية لفعل {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة}. ولولا أن كلمة {فتنة} منصوبة على المفعول به لِفعل {جعلنا}. لكان حق {ليستيقن} أن يعطف على {فتنة} ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقاً بفعل: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة.
ويجوز أن يكون للذين كفروا} متعلقاً بفعل {جعلنا وب فتنة}، على وجه التنازع فيه، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلاّ فتنةً لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلاّ فساد التأويل، وتلك العِدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد.
والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقاً لما في كتبهم.
والمراد ب {الذين أُوتوا الكتاب} اليهود حين يبلغهم ما في القرآن من مثل ما في كتبهم أو أخبارهم. وكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضاً عما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم ويودّ المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن.
والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإِيمان إذا صادف عقلاً بريئاً من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سَلاَم وقد لا يعقبه الإِيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذي قال الله فيهم {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم.
روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار؟، قالوا: لا ندري حتى نسأل نبيئنا. فجاء رجل إلى النبي فقال: يا محمد غُلب أصحابكم اليوم، قال: وبم غلبوا قال: سألهم يهودُ: هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار، قال: فما قالوا؟ قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبيئنا، قال: أفغُلب قوم سُئلوا عما لا يعلمون؟ فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبيئنا إلى أن قال جابر: فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال. هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع (بإشارة الأصابع) قالوا: نعم الخ. وليس في هذا ما يُلجئ إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.
قال أبوبكر ابن العربي في «العارضة»: حديث جابر صحيح والآية التي فيها
{عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30] مكية بإجماع، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة، فيحتمل أن الصحابة قالوا: لا نعلم، لأنهم لم يكونوا قرأوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم (أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة وكان الذين يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار. قال: ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم أن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعيِّنهم الله حتى صرح به النبي صلى الله عليه وسلم اه. فقد ظهر مصداق قوله تعالى: {ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب} بعد سنين من وقت نزوله.
ومعنى {ويزداد الذين ءامنوا إيماناً} أنهم يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جُزئيّ في جزئيات حقيقة إيمانهم بالغيب، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإِيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإِيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
وقوله: {ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون} عطف على {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب،} أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتورهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين، فالمؤمنون علموا وعَملوا، والذين أُوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم.
والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العِدة تمهيداً بالتعريض قبل التصريح، لأنه إذا قيل {ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون} شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولاً وأسد قولاً، ولذلك عطف عليه {وليقولَ الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً}، أي ليقولوا هذا القول إعراباً عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب.
واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8].
والمرض في القلوب: هو سوء النية في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شَرِيق والوليد بن المغيرة، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلاّ في المدينة بعد الهجرة والآية مكية.
و {ماذا أراد الله} استفهام إنكاري فإن (ما) استفهامية، و(ذا) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد (ما) أو (مَن) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي، فيكون تقديره: ما الأَمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل، والمعنى: لم يرد الله هذا العدد الممثل به، وقد كُنّي بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك، والمعنى: لم يرد الله العدد الممثل به فكنَّوا بنفي إرادة الله وصفَ هذا العددِ عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقاً للواقع لأنهم ينفون فائدته، وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحياً من عند الله.
والإِشارة بهذا إلى قوله: {عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30].
و {مثلاً} منصوب على الحال من هذا، والمثل: الوصف، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين.
والمثل: وصف الحالة العجيبة، أي ما وصَفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى: {مثل الجنّة التي وعد المتقون} [محمد: 15] الآية.
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} في سورة [البقرة: 26].
اسم الإِشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} إلى قوله: {مثلاً} بتأويل ما تضمنه الكلام، بالمذكور، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يُضل الله من يشاء أن يضله من عباده، ومثل ذلك الهُدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيماناً مع إيمانهم يَهدي الله من يشاء.
والغرض من هذا التشبيهِ تقريبُ المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال، تعليماً للمسلمين وتنبيهاً للنّظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم.
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضَلال من يَضِل، في أن كُلاًّ من المشبَّه والمشبه به جعله الله سبباً وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوتَ الناسُ في مدى إفهامهم فيه بين مهتدٍ ومرتاببٍ مُختلف المرتبةِ في ريبه، ومكابرٍ كافر وسَيّئ فهممٍ كافر.
وهذه كلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله، أو من تردد واضطراب إلى مثله، أو من حَنق وعناد إلى مثله، فانطوى التشبيه من قوله: {كذلك} على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج.
وإسناد الإِضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجِد الأسباب الأصلية في الجبلات، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات. تلك الأسباب التي أدت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم. وكلٌّ من خلق الله. فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلاّ التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286].
ومشيئة الله ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالّين.
ومحل {كذلك} نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلّت عليه الصفة، والتقدير: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالاً وهدياً كذلك الإِضلال والهدي.
وليس هذا من قبيل قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143].
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه، وحصل من تقديمه محسّن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله {يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
كلمة جامعة لإِبطال التخرصَات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو: ما هَذَا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل.
والجنودُ: جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد.
وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصرُ النبي صلى الله عليه وسلم ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك.
فيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله: {وما جعلنا عدتهم إلاّ فتنة للذين كفروا} على أن يكون جارياً على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عوناً على زيادة استحضار الموصوف، فغرض القرآن الذكرى، وقد اتخذه الضالّون ومرضى القلوب لهواً وسخرية ومِراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولِمَ لم يكونوا عشرين أو مئات أو آلافاً.
وضمير {هي} على هذا الوجه إلى {عدتهم.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصّة أو الصفة أو الآيات القرآنية.
والمعنى: نظير المعنى على الاحتمال الأول.
ويحتمل أن يرجع إلى {سَقَر} [المدثر: 26] وإنما تكون {ذِكْرى} باعتبار الوعيد بها وذكرِ أهوالها.
والقصرُ متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره: وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك.
ويحتمل أن يرجع ضمير {هي} إلى {جنود ربّك} والمعنَى المعنى، والتقديرُ التقديرُ، أي وما ذكرها أو عِدة بعضها.
وجوّز الزجاج أن يكون الضمير راجعاً إلى نار الدنيا، أي أنها تذكر للناس بنار الآخرة، يريد أنه من قبيل قوله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تَذْكرة} [الواقعة: 71 73]. وفيه محسن الاستخدام.
وقيل: المعنى: وما عدتهم إلاّ ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار.
وإنما حَمَلَت الآية هذه المعانيَ بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن. ولو وقعت إثر قوله: {لواحة للبشر} [المدثر: 29] لتمحض ضمير {وما هي إلاّ ذكرى} للعود إلى سقر، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشَر المتقدم في قوله: {لوّاحة للبشر} التّجنيس التام.
{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}
{كلاّ}.
{لِلْبَشَرِ} حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أوْ من متكلم وسامععٍ مثل قوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمُدْرَكون قال كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 61، 62] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى: {كلا سنكتب ما يقول} في سورة مريم (79)، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيلُ بالردع والتشويقُ إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالاً لما قبله من قولهم: فإذا أراد الله بهذا مثلاً، فيكون ما بينهما اعتراضاً ويكون قوله والقمرِ} ابتداء كلام فيحسن الوقف على {كلاّ}. ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدماً على الكلام الذي بعده من قوله: {إنها لإِحدى الكبر نذيراً للبشر} تقديم اهتمام لإِبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله: {نذيراً للبشر،} أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله: {وأنَّى له الذكرى} [الفجر: 23] فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها.
الواو المفتتح بها هذه الجملة واو القسم، وهذا القسم يجوز أن يكون تذييلاً لما قبله مؤكِّداً لما أفادته {كَلاّ} من الإِنكار والإِبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار، فتكون جملة {إِنها لإِحدى الكبر} تعليلاً للإِنكار الذي أفادته {كَلاّ} ويكون ضمير {إنها} عائداً إلى {سقَر} [المدثر: 26]، أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقاً بالإِنكار عليه وردعه.
وجملة القسم على هذا الوجه معترضة بين الجملة وتعليلها، ويحتمل أن يكون القسم صدراً للكلام الذي بعده وجملة {إنها لإِحدى الكبر} جواب القسم والضمير راجع إلى {سقَر، أي أن سقر لأعظم الأهوال، فلا تجزي في معاد ضمير إنها} جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير {وما هي إلاّ ذكرى} [المدثر: 31].
وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالباً، أقسم بمخلوق عظيم، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى.
ومناسبة القَسَم ب {القمر والليل إذ أدبر والصبحُ إذا أسفر} أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام فناسبت حالي الهدى والضلال من قوله: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} [المدثر: 31] ومن قوله: {وما هي إلاّ ذكرى للبشر} [المدثر: 31] ففي هذا القسَم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة.
وإدبار الليل: اقتراب تقضيه عند الفجر، وإسفار الصبح: ابتداء ظهور ضوء الفجر.
وكل من {إذْ} و{إذَا} واقعان اسمي زمان منتصبان على الحال من الليل ومن الصبح، أي أُقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإِسلام قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1].
وقد أجريت جملة {إنها لإِحدى الكبر} مجرى المثل.
ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظيرة لها كما يقال: هو أحدَ الرجال لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر، كما تقدم في قوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11]، وفي المثل «هذه إحدى حُظَيَّات لقمان».
وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف {إذْ أدبر} بسكون ذال {إذ} وبفتح همزة {أدبر} وإسكان داله، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تَمضي وتَحْضُر وتُستْقبل، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يُقسم بكونها فيه، ولذلك أقسم بالصبح إذَا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائيّ وأبو جعفر {إِذَا دَبَر} بفتح الذال المعجمة من {إذا} بعدها ألف، وبفتح الدّال المهملة من دَبَر على أنه فعل مضي مجرد، يقال: دَبَر، بمعنى: أدبر، ومنه وصفه بالدّابر في قولهم: أمسسِ الدّابرِ، كما يقال: قبل بمعنَى أقبل، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية، على وزان {إذَا أسفر} في قراءة الجميع، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم.
و {الكُبَر}: جمع الكبرى في نوعها، جمعوه هذا الجمع على غير قياسسِ بابه لأن فُعْلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات، وأما بنية فُعل فإنها جمع تكسير لفُعْلة كغُرفة وغُرف، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكِبر، أي أُنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في إخواته مثل عظمى.
وانتصب {نذيراً} على الحال من ضمير {إِنها}، أي إنها لعُظمَى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيراً.
والنذير: المُنذر، وأصله وصف بالمصدر لأن {نذيراً} جاء في المصادر كما جاء النكير، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإِفرادَ والتذكيرَ، وقد كثر الوصف ب (النذير) حتى صار بمنزلة الاسم للمُنذر.
وقوله: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} بدل مفصل من مجمل من قوله {للبشر}، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} [الأعراف: 75]، وقوله: {إن هو إلاّ ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 27، 28] وقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخِرِنا} [المائدة: 114]. والمعنى: إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإِيمان والخير لينتذر بها، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدّم مشي إلى جهة الإمام فكأنَّ المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإِيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو إليه، وبعكسه التأخر، فحذف متعلق {يتقدم ويتأخّر} لظهوره من السياق.
ويجوز أن يقدر: لمن شاء أن يتقدم إليها، أي إلى سَقَر بالإِقدام على الأعمال التي تُقدمه إليها، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها.
وتعليق {نذيراً} بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعتُه عليه لتفريطه على نحو قول المثل «يَداك أوكَتا وفُوك نفخ»، وقد تقدم في سورة المزمل (19) قوله: {إنَّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً وفي ضمير منكم} التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لمن شاء منهم، أي من البشر.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}
استئناف بياني يبين للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37] أي كل إنسان رَهْن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم.
و {رهينة}: خبر عن {كل نفس} وهو بمعنى مرهونة.
والرهن: الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدَيْن، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه: فَرَسا رِهَاننٍ، وكِلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحْقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضماناً لئلا يخيس القومُ بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.
وبهذا يكون قوله: {كل نفس} مراداً به خصوص أنفس المنذَرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة، أي قرينة ما تعطيه مادة رَهينة من معنى الحَبس والأسر.
والباء للمصاحبة لا للسببية.
وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديدِ أهل الشر.
و {رهينة}: مصدر بوزن فَعِيلة كالشَّتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفُعولة والفعالة، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثيل قتيلة، إذ لو قصد الوصف لقيل رعين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا، والإِخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مِسْوَر بن زيادة الحارثي:
أبَعْدَ الذي بالنَّعْففِ نَعْففِ كُوَيكِبٍ *** رهينةِ رَمْس ذي تراب وجندل
ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلاّ لما كان موجب للتأنيث.
والاستثناء في قوله: {إلاّ أصحابَ اليمين} استثناء منقطع.
و {أصحاب اليمين}: هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مَكان القُدُس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.
وقوله: {في جنّات} يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: {يتساءلون} قدّم للاهتمام، و{يتساءلون} حال من {أصحاب اليمين} وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع.
ويجوز أن يكون {في جنات} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم في جنات. والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويَكون {يتساءَلون} حالاً من الضمير المحذوف.
ومعنى {يتساءلون} يجوز أن يكون على ظاهر صيغة التفاعل للدلالة على صدور الفعل من جانبين، أي يسأل أصحاب اليمين بعضُهم بعضاً عن شأن المجرمين، وتكون جملة {ما سلككم في سقر} بياناً لجملة {يتساءلون.} وضمير الخطاب في قوله: {سلككم} يؤذن بمحذوف والتقدير: فيسألون المجرمين ما سلككم في سقر، وليس التفاتاً، أو يقول بعض المسؤولين لأصحابهم جواباً لسائليهم قلنا لهم: ما سلككم في سقر.
ويجوز أن يكون صيغة التفاعل مستعملة في معنى تكرير الفعل أي يكثر سؤال كل أحد منهم سؤالاً متكرراً أو هو من تعدد السؤال لأجل تعدد السائلين.
قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تسَّاءَلون به} في أول سورة النساء (1) هو كقولك تَداعينا. ونقل عنه أيضاً أنه قال هنا: إذا كان المتكلم مفرداً يقال: دعوت، وإذا كان المتكلم متعدّداً يقال: تداعينا، ونظيره، رميتُه وتراميناه ورأيت الهلال وتَراءيناه ولا يكون هذا تفاعلاً من الجانبين اه. ذكره صاحب الكشّاف} في سورة النساء، أي هو فعل من جانب واحد ذي عدد كثير، وعلى هذا يكون مفعول {يتساءَلون} محذوفاً يدلّ عليه قوله {عن المجومين}.
والتقدير: يتساءلون المجرمين عنهم، أي عن سبب حصولهم في سقر، ويدل عليه بيان جملة {يتساءلون} بجملة {ما سلككم في سقر،} فإن {ما سلككم} في بيان للتساؤل.
وأصل معنى سلكه أدخله بين أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سِلْك العِقد، واستعير هنا للزج بهم، وتقدم في سورة الحجر (12) قوله تعالى: {كذلك نَسْلُكْهُ في قلوب المجرمين} وفي قوله: {نُسْلِكْه عذاباً صعداً} في سورة الجن (17). والمعنى: ما زجَّ بكم في سقر.
فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملاً في أصل معناه كان الباعث على السؤال:
إِمَّا نسيان الذي كانوا عَلِموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم يتساءلون} الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنّة على ما أخذوا به من أسباب نجاتهم ممّا أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.
وإما أن يكون سؤالاً موجهاً من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يَظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم، فيكون المراد بأصحابه اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم وهذا مثل ما في قوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} الآيات في سورة الصافات (27، 28) وقوله فيها: {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين} إلى قوله {في سواء الجحيم} [الصافات: 51 55].
وإن كان السؤال ليس على حقيقته وكان الاستفهام مستعملاً في التنديم، أو التوبيخ فعموم أصحاب اليمين وعموم المجرمين على حقيقته.
وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلاّ ظاهر الاستفهام، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي: أنهم لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله.
وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.
وأنهم كانوا يخوضون خوضهم المعهود الذي لا يعدُو عن تأييد الشرك وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإِطناب المناسبَ لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا: لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإِيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة (2 4) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}
وأصل الخوض الدخول في الماء، ويستعار كثيراً للمحادثة المتكررة، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91] وغيرَ ذلك، وقد جمع الإِطلاقين قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68].
وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلاً عن معنى الكناية، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
ويوم الدين: يوم الجزاء والجزاء.
و {اليقين}: اسم مصدر يَقِن كفَرِح، إذا علم علماً لا شك معه ولا تردد.
وإتيانه مستعار لحصوله بعد أن لم يكن حاصلاً، شبه الحُصول بعد الانتفاء بالمجيء بعد المغيب.
والمعنى: حتى حصل لنا العلم بأن ما كنا نكذب به ثابت، فقوله: {حتى أتانا اليقين} على هذا الوجه غاية لجملة {نكذب بيوم الدين.
ويطلق اليقين أيضاً على الموت لأنه معلوم حصوله لكل حيّ فيجوز أن يكون مراداً هنا كما في قوله تعالى: {واعبد رَبّك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]. فتكون جملة {حتى أتانا اليقين} غاية للجمل الأربع التي قبلها من قوله: {لم نَكْ من المصلين} إلى {بيوم الدين.
والمعنى: كنا نفعل ذلك مدة حياتنا كلها.
وفي الأفعال المضارعة في قوله: لم نك، ونخوض، ونكذب} إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم.
وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظّاً من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته، وظواهره وسرائره، وقبل الشفاعة وبعدها.
وقد حَرَم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعةُ المؤمنين على أقدارهم.
وفي قوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} إيماء إلى ثبوت الشفاعة لغيرهم يوم القيامة على الجملة وتفصيلها في صحاح الأخبار.
وفاء {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} تفريع على قوله: {كلّ نفس بما كسبت رهينة،} أي فهم دائمون في الارتهان في سقر.
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}
تفريع للتعجيب من إصرارهم على الإِعراض عن ما فيه تذكرة على قوله: {وما هي إلاّ ذِكْرى للبشر} [المدثر: 31].
وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضمير نحو: أن يقال: عنها معرضين، لئلا يختص الإِنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإِنذار بسقَر، بل المقصود التعميم لإِعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإِعراض قال تعالى: {إنْ هو إلاّ ذِكْر للعالمين} [التكوير: 27].
و {ما لهم} استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفْهِم عنها المستفهِمُون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة، و{لهم} خبر عن (ما) الاستفهامية. والتقدير: ما ثبت لهم، و{معرضين} حال من ضمير {لهم}، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة.
وتركيب: ما لَكَ ونحوهُ، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردةٍ أو جملة نحو {ما لك لاَ تأمنّا على يوسف} في سورة يوسف (11). وقوله تعالى: {فما لهم لا يؤمنون} في سورة الانشقاق (20). وقوله: {ما لكم كيف تحكمون} في سورة الصافات (154) وسورة القلم (36). و{عن التذكرة} متعلق ب {معرضين.
وشُبهتْ حالة إعراضهم المتخيَّلة بحالة فرار حُمُر نافرة مما ينفرها.
والحُمر: جمع حمار، وهو الحمار الوحشي، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهَرب بالوحش من حُمرٍ أو بقرِ وحش إذا أحسسنَ بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد:
فتوجَّسَت رِزّ الأنيس فراعَها *** عَنْ ظَهْرِ غَيْببٍ والأنيسُ سَقَامها
وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإِسلام كما في معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، ومعلقة الحارث، وفي أراجيز الحجَّاج ورؤيَة ابنهِ وفي شعر ذي الرمة.
والسين والتاء في مستنفرة} للمبالغة في الوصف مثل: استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستخرج واستنبط، أي نافرة نفاراً قوياً فهي تعدو بأقصى سرعة العدو.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {مستنفَرة} بفتح الفاء، أي استنفرها مستنفر، أي أنفرها، فهو من استنفره المتعدي بمعنى أنفره. وبناء الفعل للنائب يفيد الإِجمال ثم التفصيل بقوله: {فَرَّت من قَسْوَرة.
وقرأها الجمهور بكسر الفاء، أي استنفرت هي مثل: استجاب، فيكون جملة فرّت من قسورة} بياناً لسبب نفورها.
وفي «تفسير الفخر» عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام: سألت أبا سوار الغَنَوِي وكان أعرابياً فصيحاً فقلت: كأنهم حُمُر مَاذا فقال: مستنفَرة: بفتح الفاء فقلت له: إنما هو فَرَّت من قسورة. فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم، قال: فمستنفِرة إِذَنْ فكسَرَ الفاء.
و {قسورة} قيل هو اسم جمع قسْوَر وهو الرامي، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فَعْلَل أن يجمع على فَعْلَلة. وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جارياً على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب.
وقيل: القسورة مُفرد، وهو الأسد، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس: إنه الأسد بالحبشية، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافاً لفظياً، وعنه: أنه أنكر أن يكون قَسْور اسمَ الأسد، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية. وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك، قال ابن سيده: القسور الأسد والقسورة كذلك، أنثوه كما قالوا: أُسامة، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إِعراض مخلوط برُعْب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان.
وإيثار لفظ {قسورة} هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)}
إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية وغيرهما من كفار قريش للنبيء صلى الله عليه وسلم لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلاننٍ بن فلان، وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله.
وجُمِع (صُحُف) إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحدَ منهم في شأنه صحيفةٌ، وإِمّا لأنهم لما سألوا أن تأتي كل واحد منهم صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأنّ الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم.
والمنشَّرة: المفتوحة المقرؤة، أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و{منشَّرة} مبالَغَة في مَنْشُورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل (نَشَر) المجرد من كون الكتاب مفتوحاً واضحاً من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم فنشروا التوراة.
{كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53)}
{كَلاَّ} إبطال لظاهر كلامهم ومرادِهم منه وردع عن ذلك، أي لا يكون لهم ذلك.
ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإِضراب فقال: {بل لا يخافون الآخرة} أي ليس ما قالوه إلاّ تنصلاً فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لا يخافون الآخرة، أي لا يؤمنون بها فكُني عن عدم الإِيمان بالآخرة بعدم الخوف منها، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يُخاف عذابها إذ كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلاً لتكذيبهم بالقرآن.
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
{كلا} ردع ثان مؤكِّد للردع الذي قبله، أي لا يُؤتون صحفاً منشورة ولا يُوزَعون إلاّ بالقرآن.
وجملة {إنه تذكرة} تعليل للردع عن سؤالهم أنْ تنزل عليهم صحف منشَّرة، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنَّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 50، 51]. فضمير {إنه} للقرآن، وهو معلوم من المقام، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير {تذكرة} للتعظيم.
وقوله: {فمن شاء ذكره} تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى: {إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} في سورة المزمل (19).
وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوعُ مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا.
والضمير الظاهر في ذكره} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {إِنه} وهو القرآن فيكون على الحذف والإِيصال وأصله: ذَكَر به.
ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضَر من المقام على نحو قوله: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} [المزمل: 19].
وضمير {شاء} راجع إلى (مَنْ)، أي من أراد أن يتذكر ذَكَر بالقرآن وهو مثل قوله آنفاً {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37] وقوله في سورة المزمل (19) {فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً}
وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصلُ إذا شاؤوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك، وقد تقدم في سورة المزمل.
وجملة {وما تذْكُرون إلاّ أن يشاء الله} معترضة في آخر الكلام لإِفادة تعلمهم بهذه الحقيقة، والواو اعتراضية.
والمعنى: أن تذكُّر من شَاءوا أن يتذكروا لا يقع إلاّ مشروطاً بمشيئة الله أن يتذكروا، وقد تكرر هذا في القرآن تكرراً ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: {وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقال هنا {كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره} فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاءِ في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخِذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوْبَقَتْهُ فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإِعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوْحَال الضلال وبإنارَة سبيل الخير لبصيرته سميت لُطفاً مثل تعلقها بإيمان عُمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى:
{فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء} [الأنعام: 125].
هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلةِ التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلُها الأكبرُ في قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 78، 79] وَلله في خلقه سرّ جَعل بينهم وبين كنهه حجاباً، ورَمَزَ إليه بالوعد والوعيد ثواباً وعقاباً.
وقرأ نافع ويعقوب {وما تذكُرون} بمثناة فوقية على الالتفات، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة، فالمعنى أنهم يغلب عليهم الاستمرار على عدم الذكرى بهذه التذكرة إلاّ أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلاباً في سجيّة من يشاء توفيقه واللطفَ به. وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومَن آمنوا بعد نزولها.
جملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {فمن شاء ذكره} تقويةً للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى.
فالمعنى: فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل للتقوى.
وتعريف جزأي الجملة في قوله: {هو أهل التقوى} يفيد قصر مستحق اتقاء العِبادِ إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يُتَّقى. ويتجنب غضبه كما قال: {والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37].
فإما أن يكون القصر قصراً إضافياً للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصراً ادعائياً لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلاّ فإن بعض التقوَى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تسَّاءَلون به والأرحامَ} [النساء: 1] وقد يقال: إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله، وهذا من متممات القصر الادعائي.
وأهل الشيء: مستحقه.
وأصله: أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجُه ومنه {فأسرِ بأهلك} [هود: 81].
ومعنى {أهل المغفرة}: أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يَغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسامه ومنه بيت «الكشاف» في سورة المؤمنين:
أَلا يَا ارْحَمُونِي يَا إله مُحَمَّد
فإن لم أكُنْ أهْلاً فأنت له أهل
وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنَطُوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53].
روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: قال الله تعالى: «أنا أهل أن أُتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» قال الترمذي: حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت.
وأعيدت كلمة {أهل} في الجملة المعطوفة دون أن يقال: والمغفرة، للإِشارة إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى: {يا أيّها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [النساء: 59].
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire