jeudi 26 juin 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»

سورة الأعلى
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏
{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏‏}‏
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسمَ ربه بالقول، يؤذن بأنه سيُلقي إليه عقبه بشارة وخيراً له وذلك قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال‏.‏
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم
والتسبيح‏:‏ التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله، وكذلك أسماء المصدر منه نحو‏:‏ سبحان الله، وهو من المعاني الدينية، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
وإذْ عُدِّي فعلُ الأمر بالتسبيح هنا إلى اسْم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإِثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني، ولما كان أقوالاً كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها، وذلك آيل إلى تنزيه المسمَّى بتلك الأسماء‏.‏ ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله‏:‏ ‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏ وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير‏.‏
فتسبيح اسم الله النطقُ بتنزيهه في الخُوَيصَّة وبينَ الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد‏.‏ ويشمل ذلك استحضارَ الناطق بألفاظ التسبيح معانيَ تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه‏.‏ وبتظاهُرِ النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى‏.‏
وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمَّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسممِ الله، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحاً لاسمه‏.‏
وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو ‏{‏سبح اسم ربك‏}‏، وبين تعلقه بدون اسم نحو ‏{‏ومن الليل فاسجُد له وسبحه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 26‏]‏ ونحو ‏{‏ويسبحونه وله يسجدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏ فإذا قلنا‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ أو قلنا‏:‏ ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 23‏]‏ إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحاً لاسمه تعالى، وإذا نفينا الإِلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ كان ذلك تسبيحاً لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف‏.‏
فهذا مناط الفرق بين استعمال ‏{‏سبح اسم ربك‏}‏ واستعمال ‏{‏وسبحه‏}‏ ومَآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإِطلاقين مراد به الإِرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص‏.‏
واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجودَ قرينة في الكلام تقتضيه مثللِ التوقيت بالوقت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحوه بكرة وأصيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 42‏]‏ فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحوا بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏ فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولاً مثله‏.‏
وتعريف‏:‏ ‏{‏اسم‏}‏ بطريق الإضافة إلى ‏{‏ربك‏}‏ دون تعريفه بالإضافة إلى عَلَم الجلالة نحو‏:‏ سبح اسمَ الله، لما يُشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر‏.‏ وأما إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح‏.‏
ثم أجري على لفظ ‏{‏ربك‏}‏ صفة ‏{‏الأعلى‏}‏ وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولِصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم، وهدايتهم، ورزقهم، ورزق أنعامهم، للإِيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقاً لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقاً يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه‏.‏
فلفظ ‏{‏الأعلى‏}‏ اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع‏.‏ والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينْسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا‏.‏ ولهذا حكَى عن فرعون أنه قال‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏
والعلوّ المشتقُّ منه وصفه تعالى‏:‏ ‏{‏الأعلى‏}‏ علوّ مجازي، وهو الكمال التام الدائم‏.‏
ولم يعدَّ وصفه تعالى‏:‏ ‏{‏الأعلى‏}‏ في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه ‏{‏العليُّ‏}‏ لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاقَ الأسماء، وهو أوغل من الصفات، قال الغزالي‏:‏ والعلوّ في الرتبة العقلية مثل العلوّ في التدريجات الحسية، ومثال الدرجة العقلية، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اه‏.‏
وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه‏.‏
وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات‏.‏
وقد جُعل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد‏:‏ سبحان ربي الأعلى، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ اشتملت على وصفين‏:‏ وصف الخلق ووصف تسويه الخلق، وحذف مفعول ‏{‏خلق‏}‏ فيجوز أن يقدر عامّاً، وهو ما قدره جمهور المفسرين، وروي عن عطاء، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى‏:‏ ‏{‏ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏
ويجوز أن يقدر خاصاً، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك، أي بقرينة قرن فعل ‏{‏خلق‏}‏ بفعل «سوى» قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سويته ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏
وعطف جملة‏:‏ ‏{‏فسوى‏}‏ بالفاء دون الواو للإِشارة إلى أن مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة‏:‏
يا لهفَ زيَابةً للحارث الصّ *** ابححِ فالغَانِم فالآيب
لأن التلهف يحق إذا صبحهم فغنم أموالَهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه‏.‏
فالفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فسوى‏}‏ للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم في اعتبار المعتبر على التسويه، وإن كان حصول التسويه مقارناً لحصول الخلق‏.‏
والتسويه‏:‏ تسويةُ ما خلقَه فإن حمل على العموم فالتسوية أنْ جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادِلاً، أي مناسباً للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زُبَانَى العقرببِ من تسويه خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة‏.‏
ولكونه مقارناً للخلقة عطف على فعل ‏{‏خلق‏}‏ بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتَّبَ على الخَلق تسويتُه‏.‏
والتقديرُ‏:‏ وضْعُ المقدارِ وإيجادُه في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال‏:‏ قَدَّر بالتضعيف وقدَر بالتخفيف بمعنىً‏.‏
وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف‏.‏
والمقدار‏:‏ أصله كمية الشيء التي تُضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العَدّ، وأطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظّمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القُوى العقلية كالحس والاستطاعة وحِيلَ الصناعة‏.‏
وإعادة اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏والذي قدر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب‏.‏
وعطْفُ قوله‏:‏ ‏{‏فهدى‏}‏ بالفاء مثل عطف ‏{‏فسوى‏}‏، فإن حمل ‏{‏خلق‏}‏ و‏{‏قدّر‏}‏ على عموم المفعول كانت الهداية عامة‏.‏ والقول في وجه عطف ‏{‏فهدى‏}‏ بالفاء مثل القول في عطف ‏{‏فسوى‏}‏‏.‏
وعطف ‏{‏فهدى‏}‏ على ‏{‏قدر‏}‏ عطفُ المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدَّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه‏.‏
والمعنى‏:‏ قَدّر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها، فالله لما قدّر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خُلق له، ولمَّا قَدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل‏.‏
ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع‏.‏ فمفعول «هدى» محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدَّر نظامها ولم يقدِّر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات، فذلك غير مراد من قوله‏:‏ ‏{‏فهدى‏}‏ لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول ‏{‏خلق‏}‏ خاصاً، وهو الإنسان كان مفعول ‏{‏قدر‏}‏ على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإِنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل‏.‏
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خَلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره‏.‏ واقتُصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها‏.‏
والمرادُ‏:‏ إخراجه من الأرض وهو إنباته‏.‏
والمرعى‏:‏ النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله‏:‏ إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المَرْعِيّ من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويُرعَى إطلاقاً مجازياً بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه‏.‏
والقرينة جعله مفعولاً ل ‏{‏أخرج‏}‏، وإيثار كلمة ‏{‏المرعى‏}‏ دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة‏.‏‏.‏‏.‏
والغُثاء‏:‏ بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت‏.‏
والأحوى‏:‏ الموصوف بالحُوَّة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان‏:‏ سُمرة تقرب من السواد‏.‏ وهو صفة ‏{‏غثاء‏}‏ لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حُوّة‏.‏
وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغيُّر لونه بعد أن كان أخضر يانعاً وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء‏.‏ وفي وصف إخراج الله تعالى المرعى وجعله غُثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به المرعَى فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعَى ويبلغ نُضجه حين يصير غثاء أحوى، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى‏.‏
وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقوا وزرعوا» الحديث‏.‏
ويجوز أن يكون المقصود من جملة‏:‏ ‏{‏فجعله غثاء أحوى‏}‏ إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف ‏{‏جعله غثاء‏}‏ الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشئ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏‏.‏
وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له‏:‏ ‏{‏لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16، 17‏]‏، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ يقول‏:‏ إذا أُنزل عليك فاستمع، قال‏:‏ فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها ‏{‏لا تحرك به لسانك‏}‏ نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله‏:‏ سنقرئك فلا تنسى‏}‏ وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه‏.‏
وإنما ابتدئ بقوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك‏}‏ تمهيداً للمقصود الذي هو‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده‏.‏
والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ إقراءً، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد‏.‏
والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر‏.‏
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك‏.‏
والنسيان‏:‏ عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً‏.‏
والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء اللَّه‏}‏ مفرّع من فعل ‏{‏تنسى‏}‏، و‏(‏ما‏)‏ موصولة هي المستثنى‏.‏ والتقدير‏:‏ إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جرياً على غالب استعماله في كلام العرب، وانظر ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏20‏)‏‏.‏
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساه‏.‏ وذلك نوعان‏:‏
أحدهما‏}‏‏:‏ وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءَته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون‏.‏
وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال‏:‏ «كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما» قال عمر‏:‏ لقد قرأنَاها، وأنه كان فيما أنزل‏:‏ «لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم»‏.‏ وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ننسها‏}‏ في قراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏نُنْسِها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏106‏)‏‏.‏
النوع الثاني‏}‏‏:‏ ما يعرض نسيانه للنبيء صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت‏:‏ «سمع النبيءُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال‏:‏ يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ‏؟‏ فقال‏:‏ «نسيتُها»‏.‏
وليس قوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست ‏(‏لا‏)‏ فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏}‏ معترضة وهي تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض‏.‏
ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏
‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏‏}‏
عطف على ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 7‏]‏ معترضة كما علمت‏.‏ وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايراً لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له‏.‏
والتيسير‏:‏ جعل العمل يسيراً على عامله‏.‏
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يُجعل يسيراً، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيءُ المجعول الفعل يسيراً لأجله مجروراً باللام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 26‏]‏‏.‏
واليُسْرى‏:‏ مؤنث الأيسر، وصيغة فُعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفْعَل‏.‏
والموصوف محذوف، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمِه مؤنثاً بأن يَكون مفرداً فيه علامَة تأنيث أو يكون جمعاً إذ المجموع تَعَامَل معاملة المؤنث‏.‏ فكان الوصف المؤنث منادياً على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه، وسياقُ الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدَّر معنَى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعًى فيه وصفه العُنواني وهوَ أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون‏.‏ فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليُسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به، أي نُهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلتَ بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة‏.‏
ومعنى اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ العلةُ، أي لأجل اليسرى، أي لقبولها، ونحوُه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلٌّ مُيَسرٌ لِما خُلق له ‏"‏ وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ في سورة الليل ‏(‏7 10‏)‏‏.‏
ويجوز أن يجعل الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل‏:‏ ونيسر لك اليسرى، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل‏:‏ «نيسرك» على حقيقته، وإنما خولف عَمله في مفعوله والمجرورِ المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرورِ المتعلق به‏.‏
وفي وصفها ب ‏{‏اليسرى‏}‏ إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جُعلت يسرى، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى‏.‏
فاشتمل الكلام على تيسيرين‏:‏ تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود منه، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به‏.‏
ويوجَّه العدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه، بأنَّ فيه تنزيلَ الشيء الميسّر منزلة الشيء الميسَّر له والعكسَ للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبوللِ كقول العرب‏:‏ «عَرضْتُ الناقةَ على الحوض»، وقول العجاج‏:‏
وَمهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأن لونَ أرضِه سماؤُه
وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ ومنه القلب التشبيه المقلوب‏.‏
والمعنى‏:‏ وعْد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطميناً له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقاً أن لا يفي بواجباتها‏.‏ أي أن الله جعله قابلاً لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها‏.‏
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيْسرهما» وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ «إنما بعثتم مُيَسِّرين لا مُعسِّرين»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 13‏]‏
‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏‏}‏
بعد أن ثبَّت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فَرَقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضُعف عن أدائه الرسالةَ على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مراداً لله تعالى‏.‏ ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عهده بالرسالة ‏(‏إذ كانت هذه السورة ثامنة السور‏)‏ لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام‏.‏ أعقب ذلك بأنْ أمَرَه بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه، إرهافاً لعزمه، وشحذاً لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور، فجَمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر‏.‏
فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريعَ النتيجة على المقدمات‏.‏
والأمر‏:‏ مستعمل في طلب الدوام‏.‏
والتذكير‏:‏ تبليغ الذكر وهو القرآن‏.‏
والذكرى‏:‏ اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس‏.‏
ومفعول ‏{‏فذكر‏}‏ محذوف لقصد التعميم، أي فذكر الناس ودلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ الآيتين‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ معترضة بين الجملتين المعلَّلة وعِلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول ‏{‏فذكر‏}‏، أي فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ الآية‏.‏
فالشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ جملة معترضة وليس متعلقاً بالجملة ولا تقييداً لمضمونها إذ ليس المعنى‏:‏ فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تُذَكِّر إذا لم تنفع الذكرى، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى، ولذلك كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏ مؤولاً بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد فذكّر الناس كافة إنْ كانت الذكرى تنفع جميعَهم، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب ‏(‏إنْ‏)‏ أن يكون غير مقطوع بوقوعه، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر اللَّهُ بعلمه، فأبو جهل مدعو للإِيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإِيمان دون غيرهم، والواقعُ يكشف المقدور‏.‏
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجْتلاب حرف ‏(‏إنْ‏)‏ المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، ولذلك جاء بعده بقوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فذكر‏}‏ وما لحقه من الاعتراض بقوله‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكَّرين‏.‏
وهذا معنى قول ابن عباس‏:‏ تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحاً لا غُبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى ‏(‏إن‏)‏، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس‏:‏ إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني‏.‏
ويذّكَّر‏:‏ مُطاوع ذَكَّره‏.‏ وأصله‏:‏ يتذكر، فقلبت التاء ذالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى‏.‏
و ‏{‏من يخشى‏}‏‏:‏ جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يَخْشون‏.‏ والضمير المستتر في ‏{‏يخشى‏}‏ مراعى فيه لفظ ‏(‏من‏)‏ فإنه لفظ مُفرد‏.‏
وقد نُزِّل فعل ‏{‏يخشى‏}‏ منزلة اللازم فلم يقدّر له مفعول، أي يتذكر من الخَشْيَة فكرته وجبلته، أي من يتَوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كللٍ ويتدبر في الدلائل لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به‏.‏
والخشية‏:‏ الخوف، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ في سورة طه ‏(‏44‏)‏‏.‏ والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون‏.‏
والتجنب‏:‏ التباعد، وأصله تفعل لتكلف الكيْنونة بجانببٍ من شيء‏.‏
والجانب‏:‏ المكان الذي هو طَرَف لغيره، وتكلفُ الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه، أي يتباعد عن الذكرى الأشقَى‏.‏
والتعريف في ‏{‏الأشقى‏}‏ تعريف الجنس، أي الأشقَونْ‏.‏
و ‏{‏الأشقى‏}‏‏:‏ هو الشديد الشقوة، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب، وعندنا أن من علِمَ إلى موته مؤمناً فليس بشقي‏.‏
فالأشقى‏:‏ هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار‏.‏
وتعريف ‏{‏الأشقى‏}‏ تعريف الجنس، فيشمل جميع المشركين‏.‏ ومن المفسرين من حمله على العهد فقال‏:‏ أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة‏.‏
ووصْفُ ‏{‏الأشقى‏}‏ ب ‏{‏الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ لأن إطلاق ‏{‏الأشقى‏}‏ في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإِبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية‏.‏
ومقابلة ‏{‏من يخشى‏}‏ ب ‏{‏الأشقى‏}‏ تؤذن بأن ‏{‏الأشقى‏}‏ من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصاً من شقائه‏.‏
ووصفُ النار ب ‏{‏الكبرى‏}‏ للتهويل والإِنذار والمراد بها جهنم‏.‏
وجملة ‏{‏ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلى النار الكبرى‏}‏ فهي صِلة ثانية‏.‏
و ‏(‏ثم‏)‏ للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حالِه بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشدّ ممّا أفاده أنه في عذاب الاحتراق، ضرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة‏.‏
فمعنى ‏{‏لا يموت‏}‏‏:‏ لا يزول عنه الإِحساس، فإن الموت فقدان الإِحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل‏.‏
وتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحيى‏}‏ احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يُهلك المحرَق، فإذا قيل‏:‏ ‏{‏لا يموت‏}‏ توهَّم المنذَرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإِهلاك فيبقى المحرق حياً فيظن أنه إحراق هيّن فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه ‏{‏ولا يحيى‏}‏، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله‏:‏ ‏{‏يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها‏}‏‏.‏
وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالةٍ وسَطٍ بينَ حالتيهما مثل‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ وقول إحدى نساء أم زرع‏:‏ «لا حَرّ ولا قُرّ» لأن ذلك لا طائل تحته‏.‏
ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإِحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك‏.‏
وفي الآية مُحسِّن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين ‏{‏لا يموت‏}‏ و‏{‏لا يحيى‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏
‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏‏}‏
استئناف بياني لأن ذكر ‏{‏من يخشى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏ وذكر ‏{‏الأشقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11‏]‏ يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف ‏{‏الأشقى‏}‏ بأنه ‏{‏يصلى النار الكبرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 12‏]‏ وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديماً للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر‏.‏ فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب‏.‏ فالمراد ب ‏{‏من تزكى‏}‏ هنا عين المراد ب «من يخشى ويذكر» فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وقد جُمعت أنواع الخير في قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏ فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ في البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏
والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح‏}‏ للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف ‏{‏قد‏}‏ لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الإلتحاق بالذين خشوا فأفلحوا‏.‏
ومعنى ‏{‏تزكَّى‏}‏‏:‏ عالج أن يكون زكياً، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9 10‏]‏‏.‏
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها، فيشمل زكاة الأموال‏.‏
أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ قال‏:‏ من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، ‏{‏وذكر اسم ربه فصلى‏}‏ قال‏:‏ هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة‏.‏
وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية‏:‏ الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان‏.‏
وفعل ‏{‏ذكر اسم ربه‏}‏ يجوز أن يكون من الذّكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة ‏{‏اسم ربه‏}‏ مراداً بها ذكر أسماء الله بالتعظم مثل قول لا إله إلا الله، وقول الله أكبر، وسبحان الله، ونحو ذلك على ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏‏.‏
ويجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة ‏{‏اسم‏}‏ مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال‏.‏
وتفريع ‏{‏فصلى‏}‏ على ‏{‏ذكر اسم ربه‏}‏ على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء‏.‏
وقد رتبت هذه الخصال الثلاث على الآية على ترتيب تولدها‏.‏ فأصلها‏:‏ إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏تزكى‏}‏، ثم استحضارُ معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار بقوله‏:‏ ‏{‏وذكر اسم ربه‏}‏ ثم الإِقبالُ على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فصلى‏}‏ والصلاةُ تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللَّه أكبر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏
‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏‏}‏
قرأ الجمهور ‏{‏تؤثرون‏}‏ بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى ‏{‏الأشقى الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏
وحرف ‏{‏بَل‏}‏ معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد ‏{‏بل‏}‏؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه‏:‏ لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم‏.‏ وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ فهو انصراف في الحُكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 62، 63‏]‏‏.‏ فتكون ‏{‏بل‏}‏ بمنزلة قولهم «دع هذا» فهذا انصراف قولي‏.‏ ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق‏.‏
و ‏{‏بل‏}‏ هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة‏.‏
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏ من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح‏.‏
والمعنى‏:‏ أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، فالمعنى‏:‏ بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح «لقد نصحتك وما أظنك تفعل»‏.‏
ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين‏.‏
والإِيثار‏:‏ اختيار شيء من بين متعدد‏.‏
والمعنى‏:‏ تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم‏.‏
ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ‏.‏
واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى‏:‏
‏{‏وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏ عطف على جملة التوبيخ عطفَ الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاءَ التوبيخ توجيهاً وتأييداً بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقَى‏.‏
و ‏{‏أبقى‏}‏‏:‏ اسم تفضيل، أي أطول بقاءً، وفي حديث النهي عن جَرِّ الإزار «وليكن إلى الكعبين فإنه أتقَى وأبْقَى»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏
‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏
تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام، قصد به الإِبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى، ولذلك أكّد هذا الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين‏.‏ 6
والإِشارة بكلمة ‏{‏هذا‏}‏ إلى مجموع قوله ‏{‏قد أفلح من تزكى إلى قوله وأبقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 17‏]‏ فإن ما قَبْل ذلك من أول السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏، ليس مما ثَبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام‏.‏
روى ابن مردويه والآجُري عن أبي ذر قال‏:‏ «قلت يا رسول الله هل أُنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏{‏قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير وأبقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 17‏]‏‏.‏ ولم أقف على مرتبة هذا الحديث‏.‏
ومعنى الظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏لفي الصحف‏}‏ أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ربنا عجل لنا قطنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏، أي ما في قِطِّنا وهو صك الأعمال‏.‏
و ‏{‏الصحف‏}‏‏:‏ جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا‏:‏ سُفُن في جمع سفينة، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كانت له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة‏.‏
وجاء نظم الكلام على أسلوب الإِجمال والتفصيل ليكون لهذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله‏:‏ ‏{‏صحف إبراهيم وموسى‏}‏ بدل من ‏{‏الصحف الأولى‏}‏‏.‏
و ‏{‏الأولى‏}‏‏:‏ وصف لصُحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث‏.‏ و‏{‏الأولى‏}‏ صيغة تفضيل‏.‏ واختلف في الحروف الأصلية للفظ أوّل فقيل‏:‏ حروفه الأصول همزة فواو ‏(‏مكررة‏)‏ فلام ذكره في «اللسان» فيكون وزن أول‏:‏ أَأَوَل، فقلبت الهمزة الثانية واواً وأدغمت في الواو‏.‏ وقيل‏:‏ أُصوله‏:‏ وَاوَان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول‏:‏ أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر‏.‏
وقيل‏:‏ حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فأصل أول أوْ ألْ بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واواً وأدغما‏.‏
و ‏{‏الأولى‏}‏‏:‏ مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول‏:‏ أصلها أُوْلى سكنت الواو سكوناً ميتاً لوقوعها إثر ضمة، أو أصلها‏:‏ وُوْلَى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضاً، أو أصلها‏:‏ وُألَى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب، فقيل‏:‏ أولى فوزنها على هذا عُفْلَى‏.‏
والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليه صحف فهو كوصف ‏{‏عاد بالأولى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا نذير من النذر الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 56‏]‏ وفي حديث البخاري‏:‏ ‏"‏ إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذَا لم تستح فاصنع ما شئت ‏"‏‏.‏
وأخرج عبدُ بن حميد وابن مردويه وابن عساكر وأبو بكر الآجُري عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف‏.‏
سورة الغاشية
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏‏}‏
الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة‏.‏
وكونُ الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ المفيدة معنى ‏(‏قد‏)‏، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلَغ السامع، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نبؤا الخصم‏}‏ في سورة ص ‏(‏21‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث موسى‏}‏ في سورة النازعات ‏(‏15‏)‏‏.‏
وتقدم هنالك إطلاق فعل الإِتيان على فشو الحديث‏.‏
وتعريف ما أضيف إليه حديث‏}‏ بوصفه ‏{‏الغاشية‏}‏ الذي يقتضي موصوفاً لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكُّن‏.‏
والحديث‏:‏ الخبر المتحدَّث به وهو فعيل بمعنى مفعول، أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال‏.‏ وتقدم في سورة النازعات‏.‏
و ‏{‏الغاشية‏}‏‏:‏ مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مَفراً من أهوالها فكأنها غاششٍ يغشى على عقولهم‏.‏ ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يَكون وصف الغاشية مشتقاً منه‏.‏ ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الإسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة‏.‏
و ‏{‏الغاشية‏}‏ هنا‏:‏ علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه ‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ أي يوم الغاشية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 7‏]‏
‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏
‏{‏وجوه‏}‏ مبتدأ و‏{‏خاشعة‏}‏ خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ فإن مَا صدَقَه هو يومُ الغاشية‏.‏ ويكون تنكير ‏{‏وجوه‏}‏ وهو مبتدأ قُصد منه النوع‏.‏
و ‏{‏خاشعة، عاملة، ناصبة‏}‏ أخبار ثلاثة عن ‏{‏وجوه‏}‏، والمعنى‏:‏ أناس خاشعون الخ‏.‏
فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقرينة ذلك هنا قوله بعده‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء‏.‏
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال‏:‏ خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به‏.‏
وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة‏}‏ الآية في سورة عبس ‏(‏38‏)‏‏.‏
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصَب إلى وجوه‏}‏ من قبيل المجاز العقلي، أي أصحاب وجوه‏.‏
ويتعلق ‏{‏يومئذ‏}‏ ب ‏{‏خاشعة‏}‏ قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت ‏(‏إذ‏)‏ من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها ‏(‏إذْ‏)‏ محذوفة عُوّض عنها التنوين، ويدل عليها ما في اسم ‏{‏الغاشية‏}‏ من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية‏.‏
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة‏:‏ يوم إذ تحدث أو تقع‏.‏
و ‏{‏خاشعة‏}‏‏:‏ ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 44‏]‏‏.‏
والعاملة‏:‏ المكلفة العَمَل من المشاق يومئذ‏.‏ و‏{‏ناصبة‏}‏‏:‏ من النصب وهو التعب‏.‏
وأوثر وصف ‏{‏خاشعة‏}‏ و‏{‏عاملة‏}‏ و‏{‏ناصبة‏}‏ تعريضاً بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصبَ في القيام بطاعته، فجزاؤهم خشوع مذلّة، وعمل مشقة، ونصَب إرهاق‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ خبر رابع عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون حالاً، يقال‏:‏ صَلِيَ يصلَى، إذا أصابه حرُّ النار، وعليه فذكر‏:‏ ‏{‏ناراً‏}‏ بعد ‏{‏تصلى‏}‏ لزيادة التهويل والإِرهاب وليُجرَى على ‏{‏ناراً‏}‏ وصف ‏{‏حامية‏}‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تصلى‏}‏ بفتح التاء أي يُصيبُها صِلْيُ النار‏.‏ وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب «تُصْلَى» بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرَّها‏.‏
ووصف النار ب ‏{‏حامية‏}‏ لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت ب ‏{‏حامية‏}‏ كان دالاً على شدة الحمى قال تعالى‏:‏ ‏{‏نار اللَّه الموقدة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
وأخبر عن ‏{‏وجوه‏}‏ خبراً خامساً بجملة ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏ أو هو حال من ضمير ‏{‏تصلى‏}‏ لأن ذكر الاحتراق بالنار يُحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجُعل شرابهم من عين آنية‏.‏
يقال‏:‏ أنَى إذا بلغ شدة الحرارة، ومنه قوله تعالى‏:‏
‏{‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏}‏ في سورة الرحمن ‏(‏44‏)‏‏.‏
وذكر السقي يُخطر في الذهن تطلب معرفة ما يَطْعمونه فجيء به خبراً سادساً أو حالاً من ضمير تسقى‏}‏ بجملة ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألماً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام‏}‏ الخ خبر سادس عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏
وضمير ‏{‏لهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏وجوه‏}‏ باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جئ به ضمير جماعة المذكر‏.‏ والتذكير تغليب للذكور على الإِناث‏.‏
والضريع‏:‏ يابس الشِّبْرِق ‏(‏بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء‏)‏ وهو نبت ذو شَوك إذا كان رطباً فإذا يبس سمي ضَريعاً وحينئذ يصير مسموماً وهو مرعى للإِبل ولحُمُر الوحش إذا كان رطباً، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه وسوء مَغبته‏.‏
وقيل‏:‏ الضريع اسم سَمّى القرآن به شجراً في جهنم وأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغِسلين الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 35، 36‏]‏ وعليه فحرف ‏{‏مِن للابتداء، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين‏.‏
ووصفُ ضريع بأنه لا يُسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيُطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع‏.‏
والسِمن، بكسر السين وفتح الميم‏:‏ وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال‏:‏ أسمنه الطعامُ، إذا عاد عليه بالسمن‏.‏
والإِغناء‏:‏ الإِكفاء ودفع الحاجة‏.‏ ومن جوع‏}‏ متعلق ب ‏{‏يغني‏}‏ وحرف ‏{‏من‏}‏ لمعنى البدلية، أي غناء بدلاً عن الجوع‏.‏
والقصر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طعام إلا من غسلين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 36‏]‏ يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏
‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏
يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة ‏{‏وجوه يومئذٍ خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة‏:‏ ‏{‏ووجوه يومئذ عليها غبرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 40‏]‏ على جملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة‏}‏ في سورة عبس ‏(‏38‏)‏‏.‏ فيتجهُ أن يُسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها، ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في ‏{‏هل أتاك حديث الغاشية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1‏]‏ الإِعلام بحال المعرَّض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما حصل ذلك الإِعلام بجملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ إلى آخرها تم المقصود، فجاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع‏:‏ هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول‏؟‏ أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين‏.‏
ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم، لإظهار الفرق بين حالي الفريقين ولتعقيب النذارة بالبشارة فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض ولا تنافي بين الاستئناف والاعتراض وذلك موجب لفصلها عما قبلها‏.‏ وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب‏.‏
فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معاً بالظرف وهو ‏{‏فإذا جاءت الصاخة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول، والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به‏.‏
والقول في تنكير ‏{‏وجوه‏}‏، والمراد بها، والإِخبار عنها بما بعدها، كالقول في الآيات التي سبقتها‏.‏
و ‏{‏ناعمة‏}‏‏:‏ خبر عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏ يجوز أن يكون مشتقاً من نُعم بضم العين ينعُمُ بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وحسن المنظر‏.‏
ويجوز أن يكون مشتقاً من نَعِم بكسر العين ينعَم مثل حَذِرَ، إذا كان ذا نعمة، أي حسن العيش والترف‏.‏
ويتعلق ‏{‏لسعيها‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏راضية‏}‏، و‏{‏راضية‏}‏ خبر ثاننٍ عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏
والمراد بالسعي‏:‏ العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه‏.‏ وعبّر به هنا مقابل قوله في ضده ‏{‏عاملة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 3‏]‏‏.‏
والرضى‏:‏ ضد السخط، أي هي حامدة ما سعته في الدنيا من العمل الذي هو امتثال ما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏في جنة عالية‏}‏ خبر ثالث عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏
والجنة أريد به مجموع دار الثواب الصادقُ بجنات كثيرة أو أريد به الجنس مثل ‏{‏علمت نفس‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ووصف ‏{‏جنة‏}‏ ب ‏{‏عالية‏}‏ لزيادة الحسن لأن أحسن الجنات ما كان في المرتفعات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل جنة بربوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏ فذلك يزيد حسن باطنها بحسن ما يشاهده الكائنُ فيها من مناظر، وهذا وصف شامل لحسن موقع الجنة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏‏}‏
اللاغية‏:‏ مصدر بمعنى اللّغو مثل الكاذبة للكذب‏.‏ والخائنة والعافية، أي لا يسمع فيها لغو، أو هو وصف لموصوف مقدر التأنيث، أي كلمة لاغية لما دل عليه ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ من أنها كلمات، ووصف الكلمة بذلك مجاز عقلي لأن اللاغي صاحبها‏.‏
ونفي سماع ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ مكنى به عن انتفاء اللغو في الجنة من باب‏:‏
ولا ترى الضب بها ينْجَحِر ***
أي لا ضَبّ بها إذ الضب لا يخلو من الإِنجِحَار‏.‏
واللغو‏:‏ الكلام الذي لا فائدة له، وهذا تنبيه على أن الجنة دار جد وحقيقة فلا كلام فيها إلا لفائدة لأن النفوس فيها تخلصت من النقائص كلها فلا يلذّ لها إلا الحقائق والسمو العقلي والخُلُقي، ولا ينطقون إلا ما يزيد النفوس تزكية‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏جنة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏ تُرك عطفها على الصفة التي قبلها لأن النعوت المتعددة يجوز أن تعطف ويجوز أن تفصل دون عطف قال في «التسهيل»‏:‏ «ويجوز عطف بعض النعوت على بعض وقال المرادي في «شرحه» نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2 4‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ولا يعطف إلا بالواو ما لم يكن ترتيب‏:‏ فبالفاء كقوله‏:‏
يا لهفَ زَيَّابَةَ للحارب ال *** صابِح فالغانم فالآيب
قال السهيلي‏:‏ والعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ جوازه بعيد‏.‏ اه‏.‏ قال الدماميني‏:‏ وكذا في الجمل نحو مررت برجل يحفظ القرآن ويعرف الفقه ويتقي إلى الله، قال‏:‏ ونص الواحدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏‏.‏ أن لا يألونكم وما بعده من الجمل ‏(‏أي الثلاث‏)‏ لا يكون صفات، لعدم العاطف لكن ظاهر سكوت الجمهور عن وجوب العطف يشعر بجوازه فيها ‏(‏أي الجمل‏)‏ كالمفردات اه‏.‏
ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية، وثُني بصفة تنزيهها عمّا يعدّ من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على ‏{‏عالية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏ مراعاة لعدم التناسب بين المفردات والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل‏.‏
وهذا وصف للجنة بحسن سكانها‏.‏
وقرأ نافع ‏{‏لا تسُمع‏}‏ بمثناة فوقية مضمومة و‏{‏لاغيةُ‏}‏ نائب فاعل، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بمثناة تحتية مضمومة وبرفع ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ أيضاً فأُجري الفعل على التذكير لأن ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ ليس حقيقي التأنيث وحسَّنه وقوع الفصل بين الفعل وبين المسند إليه، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروْح عن يعقوب بفتح المثناة الفوقية وبنصب ‏{‏لاغيةٌ‏}‏، والتاء لخطاب غير المعين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏
صفة ثالثة ل ‏{‏جنة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فالمراد جنس العيون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏، أي علمت النفوس، وهذا وصف للجنة باستكمالها محاسن الجنات قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وإنما لم تعطف على الجملة التي قبلهما لاختلافهما بالفعلية في الأولى والإسمية في الثانية، وذلك الاختلاف من محسنات الفصل ولأن جملة‏:‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغيةٌ‏}‏ مقصود منها التنزه عن النقائص وجملة‏:‏ ‏{‏فيها عين جارية‏}‏ مقصود منها إثبات بعض محاسنها‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏
‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏
صفة رابعة لجنة‏.‏
وأعيد قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ دون أن يعطف ‏{‏سرر‏}‏ على ‏{‏عين‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 12‏]‏ عطفَ المفردات لأن عطف السرر على ‏{‏عَيْنٌ‏}‏ يبدو نابياً عن الذوق لعدم الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لولا أن جمعها الكون في الجنة فلذلك كرر ظرف ‏{‏فيها‏}‏ تصريحاً بأن تلك الظرفية هي الجامع، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتاً ولذلك عطف ‏{‏وأكواب‏}‏، ‏{‏ونمارق‏}‏، ‏{‏وزرابي‏}‏، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة‏.‏
وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها فضمير فيها عائد للجنة باعتبار أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة‏.‏
و ‏{‏سُرر‏}‏‏:‏ جمع سرير، وهو ما يُجلس عليه ويضطجع عليه فيسع الإنسان المضطجع، يتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفعاً عن الأرض‏.‏ ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذاً في مفهوم السرر كان وصفها ب ‏{‏مرفوعة‏}‏ لتصوير حُسنها‏.‏
و ‏{‏الأكواب‏}‏‏:‏ جمع كُوب بضم الكاف، وهو إناء للخَمر له ساق ولا عروة له‏.‏
و ‏{‏موضوعةٌ‏}‏‏:‏ أي لا ترفع من بين أيديهم كما تُرفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطاعة من تناول الخمر، وكني ب ‏{‏موضوعة‏}‏ عن عدم انقطاع لذة الشراب طَعماً ونشوة، أي موضوعة بما فيها من أشربة‏.‏
وبَينَ ‏{‏مرفوعة‏}‏ و‏{‏موضوعة‏}‏، إيهَام الطِّباق لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع، ولا تضادَّ بين مجاز الأول وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد‏.‏
والنَّمارق‏:‏ جمع نُمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يَتكئ عليها الجالس والمضطجعُ‏.‏
و ‏{‏مصفوفة‏}‏‏:‏ أي جُعل بعضها قريباً من بعض صفاً، أي أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها‏.‏
و ‏{‏زرابيّ‏}‏‏:‏ جمع زَرْبيَّة بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء، وهي البساط أو الطُنفسة ‏(‏بضم الطاء‏)‏ المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار‏.‏
والزربية نسبة إلى ‏(‏أذربيجان‏)‏ بلدٍ من بلاد فارس وبخَارى، فأصل زربية أذربية، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به، وذَالها مبدَلة عن الزاي في كلام العرب لأن اسم البلد في لسان الفرس أزربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال، وبلد ‏(‏أذرْبيجان‏)‏ مشهور بنعومة صوف أغنامه‏.‏ واشتهر أيضاً بدقة صنع البُسُط والطنافس ورقّة خَمَلها‏.‏
والمبثوثة‏:‏ المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة‏.‏
وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات ‏{‏خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏عاملة‏}‏ ‏{‏ناصبة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 3‏]‏ بصفات ‏{‏ناعمة لسعيها راضية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8، 9‏]‏، وقوبل قوله‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 4‏]‏ بقوله‏:‏ في ‏{‏جنة عالية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقوبل‏:‏ ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 5‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فيها عين جارية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 12‏]‏، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله‏:‏
‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 6، 7‏]‏، بمقاعد أهل الجنة المشعرةِ بترف العيش من شراب ومتاع‏.‏
وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإِجمال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فيكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يُزادون من النعيم «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏
‏{‏أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏‏}‏
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله، فُرع على ذلك إنكارٌ عليهم إعراضَهم عن النظر في دلائل الوحدانية، فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون‏}‏ تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء، لا يُستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإِنسان بعد فنائه عن عدم، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام، فكانَ إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع، وبين المفرع عنه من جملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8‏]‏ كانَ في موقع الاعتراض كما علمت‏.‏
فضمير ‏{‏ينظرون‏}‏ عائد إلى معلوم من سياق الكلام‏.‏
والهمزة للاستفهام الإِنكاري إنكاراً عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته‏.‏
والنظر‏:‏ نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف ‏(‏إلى‏)‏ تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في ‏(‏إلى‏)‏ من معنى الانتهاء حتى كأنَّ النظر انتهى عند المجرور ب ‏(‏إلى‏)‏ انتهاءَ تمكن واستقرارٍ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل ‏{‏ينظرون‏}‏ بالكيفيات المعدودة في قوله‏:‏ ‏{‏كيف خلقت‏}‏، ‏{‏كيف رفعت‏}‏، ‏{‏كيف نصبت‏}‏، ‏{‏كيف سطحت‏}‏ أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏كيف خلقت‏}‏ بدل اشتمال من الإِبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل ‏{‏ينظرون‏}‏ لاَ حرف الجر، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلٌّ على ما يقتضيه معناه وموقعه، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه‏.‏
والمعنى والتقديرُ‏:‏ أفلا ينظرون إلى الإِبللِ هيئةِ خَلْقِها‏.‏
وقد عُدّت أشياءُ أربعة هي من النَّاظرين عن كَثب لا تغيب عن أنظارهم، وعُطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرْآهم جهةً جامعة بينها بالنسبة إليهم، فإنهم المقصودون بهذا الإِنكار والتوبيخ، فالذي حسَّن اقتران الإِبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع‏.‏
فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقاً عجيباً بقوة قوائمها ويُسْر بُروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجَعَل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يَهلك فيما دونه غيرها من الحيوان‏.‏
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها‏.‏ وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير‏.‏
و ‏{‏الإِبل‏}‏‏:‏ اسم جمع للبُعران لا واحد له من لفظه، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏146‏)‏‏.‏
وعن المبرد أنه فسر الإِبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوَّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإِبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه، أي هو على نحو قول عنترة‏:‏
جادت عليه كل بِكر حرّة *** فتركن كل قرارة كالدرهم
ونُقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء، قال زيادة الحارثي ‏(‏على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله، بنو ماء السماء‏)‏‏:‏
ونَحن بنو ماء السماء فلا نَرى *** لأنفسنا من دون مملكة قَصر
وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هَاجَر فقال أبو هريرة في آخرها‏:‏ إنها لأمّكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير‏.‏
وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جَبَلَي أجإ وسلمى لطَي‏.‏ وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة‏.‏
والنصْب‏:‏ الرفع أي كيف رُفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل‏.‏
وثم نُزِل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وقد سَطَحها الله، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع‏.‏ ومعنى سُطحت‏}‏‏:‏ سُويت يقال‏:‏ سَطَح الشيء إذا سوّاه ومنه سَطْح الدار‏.‏
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية‏.‏
وبُنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏
‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
الفاء فصيحةُ تفريع على محصَّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يُبعث مُلجئاً لهم على الإِيمان‏.‏
فالأمر مستعمل في طلب الاستمرارِ والدوام‏.‏
ومفعول «ذَكِّرْ» محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنما أنت مذكر‏}‏ تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن ‏{‏إنما‏}‏ مركبة من ‏(‏أنَّ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ وشأنُ ‏(‏إنَّ‏)‏ إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غَناء فاء التسبب، واتصال ‏(‏ما‏)‏ الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها‏.‏
والقصر المستفاد ب ‏{‏إنما‏}‏ قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلاً على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم وهذا تطمين لنفسه الزكية‏.‏
وجملة ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر‏.‏
والمصيطر‏:‏ المُجْبِر المُكْرِه‏.‏
يقال‏:‏ صيطر بصاد في أوله، ويقال‏:‏ سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد‏.‏ وتقدم في سورة الطور ‏(‏37‏)‏‏:‏ ‏{‏أم هم المصيطرون‏}‏ وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي‏.‏
ونفي كونه مصيطراً عليهم خبر مستعمل في غير الإِخبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإِيمان، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم‏.‏
ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم‏.‏
ومن الجهلة من يضع قوله‏:‏ ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين‏.‏ وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين‏.‏ فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب ثلاثاً فإن لم يتب قتل، وإن لم يُقدَر عليه فَعَلَى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب‏.‏ وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل مقبول ويأبى الانكفاف‏.‏
وتقديم ‏{‏عليهم‏}‏ على متعلقه وهو «مسيطر» للرعاية على الفاصلة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر‏}‏ معترض بين جملة ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إن إلينا إيابهم‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 25‏]‏ والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر‏.‏
فحرف ‏{‏إلا‏}‏ للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك‏.‏
والمعنى‏:‏ لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد‏.‏
ودخلت الفاء في الخبر وهو ‏{‏فيعذبه اللَّه‏}‏ إذ كان الكلام استدراكاً وكان المبتدأ موصولاً فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل اللَّه فلن يضل أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ و‏{‏الأكبر‏}‏‏:‏ مستعار للقوى المتجاوز حدّ أنواعه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏
‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏
تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏، أي لست مكلفاً بجبرهم على التذكر والإِيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء‏.‏ وقد جاء حرف ‏{‏إنَّ‏}‏ على استعماله المشهور، إذا جيء به لمجرد الاهتمام دونَ ردّ إنكار، فإنه يفيد مع ذلك تعليلاً وتسبباً كما تقدم غير مرة، وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏
والإِياب‏:‏ بتخفيف الياء الأوب، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه‏.‏ أطلق على الحضور في حضرة القُدس يوم الحشر تشبيهاً له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه بملاحظة أن الله خالقُ الناس خلْقَهم الأول، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏
وتقديم خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقاً لهذا الرجوع لأنهم ينكرونه، وتنبيهاً على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة‏.‏
ونُقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فيعذبه اللَّه‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 24‏]‏ إلى أسلوب التكلم بقوله‏:‏ ‏{‏إلينا‏}‏ على طريقة الالتفات‏.‏
وقرأ أبو جعفر ‏{‏إيَّابهم‏}‏ بتشديد الياء‏.‏ فعن ابن جني هو مصدر على وزن فِيعَال مصدر‏:‏ ايَّب بوزن فَيْعَل من الأوب مثل حَوْقَل‏.‏ فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل‏:‏ إيَّاب‏.‏
وعطفت جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا حسابهم‏}‏ بحرف ‏{‏ثم‏}‏ لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيَابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي‏.‏
ومعنى ‏(‏على‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏علينا حسابهم‏}‏ أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه‏.‏
وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإِدماج لإِثبات البعث‏.‏ وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبُوه انفلاتاً من العقاب‏.‏
سورة الفجر
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏
القَسَم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعةِ قدرته فيما أوجد من نظام يُظاهر بعضه بعضاً من ذلك وقتَ الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار، ووقت الليل الذي تمحضت فيه الظلمة‏.‏ وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادةِ الله وحده، مثل الليالي العشر، والليالي الشفع، والليالي الوتر‏.‏
والمقصود من هذا القَسَم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المُقسِم ربه على ما تضمنه كلامه‏.‏
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد‏.‏
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏‏.‏
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين‏.‏
والمقصد من تطويل القسم بأشياء، التشويقُ إلى المقسم عليه‏.‏
و ‏{‏الفجر‏}‏‏:‏ اسم لوقتتِ ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإِظلام عن أول خط يلوح للناظرِ مِنَ الخطوط الفرضية المعروفةِ في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع‏.‏
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإِنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتَهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت؛ ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم‏.‏
فالتعريف في ‏{‏الفجر‏}‏ تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏‏.‏
ويجوز أن يراد فجر معين‏:‏ فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة، فيكون تعريف ‏{‏الفجر‏}‏ تعريف العهد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وليال عشر‏}‏‏:‏ هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترْك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السَّنة عشرُ ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقتُ مناسك الحج، ففيها يكون الإِحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر‏.‏ فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر‏.‏ وهو قول ابن عباس وابن الزبير، وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير ‏(‏المكي‏)‏ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن العشر عشر الأضحى» قال ابن العربي‏:‏ ولم يصح وقال ابن عساكر‏:‏ رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة اه‏.‏
ومناسبة عطف ‏{‏ليال عشر‏}‏ على ‏{‏الفجر‏}‏ أن الفجر وقت انتهاء الليل، فبينه وبين الليل جامع المضادة، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ خصت قبل ذكره بالذكرِ ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل‏.‏
وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السَّنة القمرية من النسيء فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام‏.‏ ولا يُعرف متى بدأ ذلك الاضطراب، ولا مقاديرُ ما أدخل عليها من النسيء، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى، ولكننا نوقن بوجودها في خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيئه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة عام حجة الوداع، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنةُ في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏ إن الزمان قد استدار كهيئته يومَ خلق الله السماوات والأرض ‏"‏‏.‏
وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة‏.‏
فأوقات العبادات تعيين لإِيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاقُ اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرّف بالحكم ولا يريدون به نفسَ الحِكمة‏.‏
وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني، ولكن إذا اختلت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها‏.‏
فقسمُ اللَّه تعالى بالليالي العشر في هذه مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه‏.‏
و ‏{‏الشفع‏}‏‏:‏ ما يكون ثانياً لغيره، و‏{‏الوَتْر‏}‏‏:‏ الشيء المفرد، وهما صفتان لمحذوف، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله‏:‏ ‏{‏وليال عشر‏}‏، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفاً، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام، بعد شمول الليالي العشر لهما‏.‏
وفي «جامع الترمذي» عن عِمران بن حُصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الشفع والوتر والصلاةُ منها شفع ومنها وتر ‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وهو حديث غريب وفي «العارضة أن في سنده مجهولاً، قال ابن كثير‏:‏ «وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه»‏.‏
وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين‏.‏
وقيل‏:‏ الشفع يومان بعد يوم منَى، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غيرَ الليالي العشر‏.‏
وتنكير ‏{‏ليال‏}‏ وتعريف ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام، وتعريف ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر‏.‏
وفي تفسير ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ أقوال ثمانيةَ عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي، وأكثرها لا يَحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والوتر‏}‏ بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبَكر بن سَعْد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية، فهما لغتان في الوتر‏.‏ بمعنى الفرد‏.‏
و ‏{‏الليل‏}‏ عطف على ‏{‏ليالي عشر‏}‏ عطف الأعم على الأخص أو عطف على ‏{‏الفجر‏}‏ بجامع التضاد‏.‏ وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته‏.‏
ومعنى يسري‏:‏ يمضي سائراً في الظلام، أي إذا انقضى منه جزء كثير، شُبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السُّرى كما شبه في قوله‏:‏ ‏{‏والليل إذ أدبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 33‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والليل إذا سجى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 2‏]‏، أي تمكن ظلامه واشتد‏.‏
وتقييد ‏{‏الليل‏}‏ بظرف ‏{‏إذا يسر‏}‏ لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن الليل فاسجد له وسبحه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب‏:‏ ‏{‏إذا يسري‏}‏ بياء بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل‏:‏ «الفجر، عشر، والوتر، حجر» ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاعُ تعامل معاملة القوافي، قال أبو علي‏:‏ وليس إثباتُ الياء في الوقف بأحسن من الحذف، وجميع ما لا يحذف وما يُختار فيه أن لا يحذف ‏(‏نحو القاض بالألف واللام‏)‏ يُحذف إذا كان في قافيةٍ أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء‏.‏ وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل‏.‏
وقرأ الباقون بدون ياء وصْلاً ووقفاً، وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سُنَّة أو اعتداداً بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف‏.‏
وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يُوهن رسمُ المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومُراعاةُ الوقف تكثر في كيفيات الرسم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏
جملة معترضة بين القَسم وما بعده من جوابه أو دليل جوابه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 76‏]‏‏.‏
والاستفهام تقريري، وكونه بحرف ‏{‏هل‏}‏ لأن أصل ‏{‏هل‏}‏ أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى ‏(‏قد‏)‏‏.‏
واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به، أي هل في القسم بذلك قَسم‏.‏
وتنكير ‏{‏قسمَ‏}‏ للتعظيم أي قسم كاففٍ ومُقنع للمُقْسم له‏.‏ إذا كان عاقلاً أن يتدبر بعقله‏.‏
فالمعنى‏:‏ هل في ذلك تحقيق لما أُقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حِجر‏.‏
والحِجْر‏:‏ العقل لأنه يَحجرُ صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، كما سمي عقلاً لأنه يعْقِل صاحبه عن التهافت كما يعقِل العِقال البعيرَ عن الضَّلال‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لذي حجر‏}‏ لام التعليل، أي قَسَم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القَسَم صادق فيما أقسم عليه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 14‏]‏
‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏‏}‏
لا يصلح هذا أن يكون جواباً للقسم ولكنه‏:‏ إمَّا دليلُ الجواب إذ يدل على أن المقسَم عليه من جنس ما فُعِل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون‏.‏
وإمّا تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم‏.‏
والمعنى‏:‏ إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏
فالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتاً له ووعداً بالنصر، وتعريضاً للمعاندين بالإِنذار بمثله فإن ما فُعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فَعَلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قُصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله‏.‏ لأن التذكير بالنظائر واستحضَار الأمثال يقرِّب إلى الأذهاننِ الأمر الغريب الوقوع، لأن بُعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناسَ، وإذا نُسي استبعَد الناسُ وقوعه، فالتذكير يزيل الاستبعاد‏.‏
فهذه العِبَر جزئيات من مضمون جواب القسم، فإن كان محذوفاً فذِكْرُها دليلُه، وإن كان الجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه، وإيذاناً بجنس الجواب من قَبْل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرُّره في الأذهان‏.‏
والرؤيَةُ في ‏{‏ألم تر‏}‏ يجوز أن تكون رؤية عِلْمية تشبيهاً للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المُثُل فكأنها مشاهدة‏.‏ فتكون ‏{‏كيف‏}‏ استفهاماً معلِّقاً فعل الرؤية عن العمل في مفعولين‏.‏
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى‏:‏ ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد، وتكون ‏{‏كيف‏}‏ إسْماً مجرّداً عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية‏.‏
وعُدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله‏:‏ ‏{‏فعل ربك‏}‏ لِما في وصف رب من الإِشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه‏.‏
وقد ابتُدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذُكِرَ بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدِّثون العرب عنها‏.‏
وأريد ب«عاد» الأمة لا محالة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏ فوَجْه صرفه أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثللِ هِند ونُوح وإرَم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرَم بن سَامٍ بن نُوح وهو جد عاد لأن عاداً هو ابن عُوص بن إرَم، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يُعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة، فهو عطف بيان ل«عاد» للإِشارة إلى أن المراد ب«عاد» القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم، وهم عاد الموصوفة ب ‏{‏الأولى‏}‏ في قوله تعالى‏:‏
‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ لئلا يتوهم أن المتحدَّثَ عنهم قبيلة أخرى تسمى عاداً أيضاً‏.‏ كانت تنزل مكة مع العَمَاليق يقال‏:‏ إنهم بقية من عاد الأولى فعاد وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى‏.‏
ووُصِفَتْ عادٌ ب ‏{‏ذات العماد‏}‏، و‏{‏ذاتُ‏}‏ وصْف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة‏.‏
والعمادُ‏:‏ عُود غليظ طويلٌ يُقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دَعامةً، وهو هنا مستعار للقوة تشبيهاً للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد‏.‏
وإطلاق العِماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم‏:‏
ونَحن إذا عِمَادُ الحَيِّ خَرَّت *** على الأحْفاض نَمنع من يَلِينا
ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏العماد‏}‏ الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع آية تعبثون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏‏.‏
ووُصفت عاد ب ‏{‏ذات العماد‏}‏ لقوتها وشدتها، أي قد أهلك الله قوماً هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏‏.‏
و ‏{‏التي‏}‏‏:‏ صادق على «عاد» بتأويل القبيلة كما وصفت ب ‏{‏ذات العماد‏}‏ والعرب يقولون‏:‏ تَغلِبُ ابنةُ وائل، بتأويل تغلب بالقبيلة‏.‏
و ‏{‏البلاد‏}‏‏:‏ جمعَ بَلَد وبلْدة وهي مساحة واسعة من الأرض معيَّنة بحدود أو سكان‏.‏
والتعريف في ‏{‏البلاد‏}‏ للجنس والمعنى‏:‏ التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض‏.‏ وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد رُوي أنهم كانوا طِوالاً شداداً أقوياء، وكانوا أهل عقل وتدبير، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة‏.‏
والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العُرفي، أي في بلدان العرب وقبائلهم‏.‏
وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إرم ذات العماد‏}‏ قصةً مكذوبة فزعموا أن ‏{‏إرم ذات العماد‏}‏ مركب جعل اسماً لمدينة باليَمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقوَّلوا أن أعرابياً يقال له‏:‏ عبدُ الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاهَ في ابتغاء إبِللٍ له فاطَّلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجَد فيه المدينة فلم يجدوا شيئاً‏.‏ وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمَها أرم ويتبع بذاتتِ العماد بفتح ‏{‏إرَمَ‏}‏ وكسر ‏{‏ذاتِ‏}‏ فلو كان الاسم مركباً مَزْجياً لكان بناء جزأيْه على الفتح، وإن كان الاسم مفرداً و‏{‏ذات‏}‏ صفة له فلا وجه لكسر ‏{‏ذات‏}‏، على أن موقع هذا الاسم عقب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعاد‏}‏ يناكد ذلك كله‏.‏
ومُنع ‏{‏ثمود‏}‏ من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة، ووصف باسم الموصول لجمع المذكّر في قوله‏:‏ ‏{‏الذين جابوا‏}‏ دون أن يقول التي جابت الصخر بتأويل القوم فلما وُصف عدل عن تأنيثه تفنناً في الأسلوب‏.‏
ومعنى ‏{‏جابوا‏}‏‏:‏ قطعوا، أي نَحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتنحتون من الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149‏]‏ وقد قيل‏:‏ إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام‏.‏
و ‏{‏الصخر‏}‏‏:‏ الحجارة العظيمة‏.‏
والواد‏:‏ اسم لأرض كائنةٍ بين جبلين منخفضة، ومنه سمي مجرى الماء الكثير واداً وفيه لغتان‏:‏ أن يكون آخره دَالاً، وأن يكون آخره ياء ساكنةً بعد الدال‏.‏
وقرأ الجمهور بدون ياء‏.‏ وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفاً، وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل مثل ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ وهو مرسوم في المصحف بدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسَوْه‏.‏
والواد‏:‏ علَم بالغلبة على منازل ثمود، ويقال له‏:‏ وادي القُرى، بإضافته إلى «القرى» التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضاً «الحِجر» بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال لها‏:‏ «حِجر ثمود» وهو واد بين خيبر وتَيْماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلادَ العرب، ونزله من قبائل العرب قُضاعة وجهينة، وعُذرة وبَليٌّ‏.‏
وكان غزاه النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصُولحت اليهود على جِزْيَةٍ‏.‏
والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالواد‏}‏ للظرفية‏.‏
والمراد ب ‏{‏فرعون‏}‏ هو وقومه‏.‏
ووصف ‏{‏ذي الأوتاد‏}‏ لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعاراً للتمكن والثبات، أي ذي القوة على نحو قوله‏:‏ ‏{‏ذات العماد‏}‏، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذُو الأوتاد‏}‏ في ص ‏(‏12‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ الذين طغوا في البلاد‏}‏ يجوز أن يكون شاملاً لجميع المذكورين عاد وثمود وفرعون‏.‏ ويجوز أن يكون نعتاً لفرعون لأن المراد هو وقومه‏.‏
والطغيان شدّة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طَغوا في بلدهم؛ ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل إلى فساد الجميع بسَنِّ سنن السوء، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله‏:‏ ‏{‏فأكثروا فيها الفساد‏}‏ لأن الطغيان يجرِّئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سُوءٍ لأمثاله ومَلئهِ، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه، وذلك فساد عظيم، لأن به اختلال الشرائع الإلاهيّة والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطْغيّ عليه من الرعية فيُضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونُون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكون رجال الدولة متوجّسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحْذَرُونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتّحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم، فلا جرم كان الطغيان سبباً لكثرة الفساد‏.‏
ويجوز أن يكون التعريف في ‏{‏البلاد‏}‏ تعريف العهد، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع، أي طغت كل أمة في بلادها‏.‏
و ‏{‏الفساد‏}‏‏:‏ سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وضد الفساد الصلاح قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ وكان ما أكثروه من الفساد سبباً في غضب الله عليهم، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب‏.‏
والصب حقيقته‏:‏ إفراغ ما في الظرف، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دَفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتَسِل أو يصب المطر على الأرض، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارةُ الإِفراغ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 250‏]‏ ونظير الصب قولهم‏:‏ شن عليهم الغارةَ‏.‏
وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذاباً مفاجئاً قاضياً‏.‏
فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير‏.‏
وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة‏.‏
وأما فرعون فحسبوا البحر منحسراً فما راعهم إلا وقد أحاط بهم‏.‏
والسوط‏:‏ آلة ضرب تتخذ من جلود مضفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحمِلَها على المزيد في الجري‏.‏
وعن الفراء أن كلمة ‏{‏سوط عذاب‏}‏ يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط ‏(‏أي يقع بالسوط‏)‏، يُريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك‏.‏
وإضافة ‏{‏سوط‏}‏ إلى ‏{‏عذاب‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صب عليهم عذاباً سوطاً، أي كالسوط في سرعة الإِصابة فهو تشبيه بليغ‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ تذييل وتعليل لإِصابتهم بسوط عذاب إذا قُدِّر جواب القسم محذوفاً‏.‏ ويجوز أن تكون جواب القَسَم كما تقدم آنفاً‏.‏
فعلى كون الجملة تذييلاً تكون تعليلاً لجملة ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحاً للمعاندين بما عَرَّض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأولين‏.‏ أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد‏.‏
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدوّ ونحوه، وهو المقسم عليه وما قبله اعتراضاً تفنناً في نظم الكلام إذْ قُدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ الخ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذّ يُجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلةِ إذا كان الكلام صالحاً للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدَّم والمبادرة به‏.‏
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى ‏{‏ربك‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ إيماء إلى أن فاعل ذلك رَبه الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مُؤمّل بأن يعذب الذين كذبوه انتصاراً له انتصارَ المولى لوليّه‏.‏
والمرصاد‏:‏ المكان الذي يَترقب فيه الرَّصد، أي الجماعة المراقبون شيئاً، وصيغةُ مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة، فمعنى الآلة هنا غير محتمل، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب‏.‏
وتعريف «المرصاد» تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلِّق، أي بالمرصاد لكل فاعل، فهو تمثيل لعموممِ علم الله تعالى بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم، بحال اطلاع الرصَد على تحركات العدُوّ والمغيرين، وهذا المثلُ كناية عن مجازاة كل عامل بما عمِله وما يعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاءِ على العدوان، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به‏.‏
والباء في قوله ‏{‏بالمرصاد‏}‏ للظرفية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏
‏{‏فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏‏}‏
‏{‏لبالمرصاد * فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا‏}‏ ‏{‏أَهَانَنِ‏}‏‏.‏
دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة‏.‏
ودلت ‏(‏أمّا‏)‏ على معنى‏:‏ مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالِها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبْلَ الفاء المتصلة بها، فَلاح ذلك برقاً وامضاً، وانجلى بلمعة ما كان غامضاً، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفياً، فلنبينه بياناً جليّاً، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثَّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رُسُل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي نُهوا عنها، بطرون بالنعمة، معجَبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العِبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك تَرفاً وطغياناً وبطراً، وتنبيهُهم على خطاهم إذْ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهةٌ توهَّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يَكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا الوهَم مُسوِّلاً لهم التذكيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقَتْر الرزق‏.‏ وقد تكرر في القرآن التعرض لإِبطال ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏
وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها، وهي‏:‏ إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال‏.‏
ففاء التفريع مرتبطة بجملة‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً‏.‏
والمعنى‏:‏ هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته‏.‏
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها‏.‏
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏}‏
‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏‏.‏
فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية‏:‏
مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإله ودينُهم *** قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِب
وَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه *** ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏‏.‏ فمناط الردع والإبطال كِلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكرمه ونعمه‏}‏‏.‏
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلَللِ والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هَرم فيهم وفي ذويهم، قال النابغة‏:‏
تَغْشَى مَتَالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَمَا ***
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية‏.‏
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية، قال طرفة‏:‏
فلو شاءَ ربّي كنتُ قيسَ بنَ عاصم *** ولو شَاء رَبي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وطاف بي *** بَنُون كرامٌ سَادَة لمُسَوَّد
وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبيء صلى الله عليه وسلم وعنده عَمَّار، وبلالٌ، وخبابٌ، وسالمٌ، مولَى أبي حذيفة، وصُبَيح مولى أُسَيْد، وصُهَيْبٌ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبيء أطْرُدهم عنك فَلَعلّك إن طردتهم أن نتبعك‏.‏ وقالوا لأبي طالب‏:‏ لو أن ابن أخيك طَرد هؤلاء الأعْبُدَ والحُلَفَاءَ كان أعظمَ له في صدُورنا وأدلى لاتِّباعنا إياه‏.‏ وفي ذلك نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ الآية كما تقدم في سورة الأنعام ‏(‏52‏)‏‏.‏
فنبه الله على خطإ اعتقادهم بمناسبة ذكر مُماثِلِهِ ممَّا اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجباً صَب العذاب عليهم، وأعْلَمهم أن أحوال الدنيا لا تُتخذ أصلاً في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة‏.‏
والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عُرفي مراد به الناسُ المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4، 5‏]‏ ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏
وقيل‏:‏ إريد إنسان معين، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن الغيرة عن ابن عباس، وقيل‏:‏ أمية بن خَلَف عن مقاتل والكلبي، وقيل‏:‏ أبيّ بن خلف عن الكلبي أيضاً، وإنما هؤلاء المسمَّوْن أعلام التضليل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن حيث كان هذا غالباً على الكفّار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع ‏(‏كذا‏)‏ بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اه‏.‏
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفْته منافع ذلك، تحكيماً للشاهية ومحبةِ النفس ورجْماً بالغيب وافتيَاتاً على الله، وإذا صادف أحدَهم من الحوادث ما جلبَ له ضرّاً تخيّله بأوهامه انتقاماً من الله قصدَه به، تشاؤماً منهم‏.‏
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراماً من الله لهم ليسوا أهلاً لكرامة الله‏.‏
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الزرق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة‏.‏
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرَفَ أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنةً من ذلك لبعض ضعفاء الإِيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد بن الرّاوندي‏.‏ عن تزلزل فهمهم وقلة علمهم بقوله‏:‏
كم عاقللٍ عاقللٍ أعْيَتْ مذاهبُه *** وجَاهِللٍ جاهللٍ تلقاه مرزوقاً
هذا الذي تَرك الأَفْهام حائرةً *** وصيَّر العالِم النحرير زنديقاً
وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما يُنِيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه، وعِلْم الله واسع وتصرفاتُه شتّى وكلها صادرة عن حكمة ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى‏.‏ وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سمة خرق العادة‏.‏ فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ لِلأمَاراتتِ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94، 95‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 126‏]‏‏.‏
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعضها جار على ما قدَّره من نظام العالم وكلٌّ قد قضاه وقدَّره وسبق علمه به ورَبَط مسبباتِه بأسبابه مباشرةً أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومِه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهَمه ولم تنهَضْ دلائله، ويُفوِّض ما أشكل عليه إلى علم الله‏.‏
وليس مثلُ هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية‏.‏ وقد نجد في بعض العوامّ ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإِيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية‏.‏
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِينَّه حياة طيبة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده‏.‏ وقد حكَى عن نوح قولَه لقومه‏:‏ ‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10 12‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ على الأمم العظيمة القاهرة‏.‏ وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه‏.‏
وحرف ‏(‏أمَا‏)‏ يفيد تفصيلاً في الغالب، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذواتتٍ وأحوال‏.‏ ولذلك قد تكرر في الكلام، فليس التفصيلُ المستفاد منها بمعنى تبييننِ مجمللٍ قبلَها، بل هو تفصيل وتقابُل وتوازن، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له ‏(‏أمَّا‏)‏، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على ‏(‏أما‏)‏، وإنما تعلقه بما قبله تعلَّقُ المفرع بمنشئه لا تفصيل بيان على مجمل‏.‏
فالمفصل هنا أحوال الإِنسان الجاهِل فُصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبَّر عنهما بالظرفين في قوله‏:‏ ‏{‏إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه‏}‏ الخ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه‏}‏ الخ‏.‏ وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المُجمل ولكنه تمييز وفصْل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط‏.‏
وقد تقدم ذكر ‏(‏أمّا‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏
والابتلاء‏:‏ الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختباراً لثبات النفس وخُلق الأناة والصبر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوني أأشكر أم أكفر‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ والأشهر أنه الإِختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين‏.‏
والمعنى‏:‏ إذا جَعَلَ ربُّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهراً لحاله في الشكر والكفر، وفي الصبر والجزع، توهَّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا‏.‏
والإِكرام‏:‏ قال الراغب‏:‏ أن يُوصَل إلى الإِنسان كرامة، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة، وأن يُجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي شريفاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏، أي جعلهم كراماً اه يريد أن الإِكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريماً في صنفه فيصدق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ بأن يصيب الإِنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه، أو بأن جُعل كريماً سيداً شريفاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ من المعنى الأول للإِكرام وقوله‏:‏ ‏{‏فيقول ربي أكرمني‏}‏ من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏ونعمه‏}‏ صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظاً لهم ومعاملة بالرحمة، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر مُنعَم عليه في الدنيا، وهو قول الماتريدي والباقِلاني‏.‏ وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخُلف لفظي‏.‏
ومعنى ‏{‏نعّمه‏}‏ جعله في نعمة، أي في طيب عيش‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏فقدر عليه رزقه‏}‏ أعطاه بقَدْر محدود، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضاً عن الدال، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏‏.‏
والهاء في ‏{‏رزقه‏}‏ يجوز أن تعود إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ من إضافة المصدر إلى المفعول، ويجوز أن تعود إلى ‏{‏ربه‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏
والإِهانة‏:‏ المعاملة بالهون وهو الذل‏.‏
وإسناد ‏{‏فأكرمه ونعمه‏.‏‏.‏‏.‏ فقدر عليه رزقه‏}‏ إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإِنسان أو انساق له قَدَر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعضُ الحوادث بعضاً، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فُرصها ومناسباتها‏.‏
والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم، وإنما يتكلم الانسان عن اعتقاد‏.‏ فالمعنى‏:‏ فيقول ربي أكرمني، معتقداً ذلك، ويقول‏:‏ ربيَ أهانني، معتقداً ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة، أو يتذمروا من الضيق والحاجة، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم‏.‏
وتقديم ‏{‏ربي‏}‏ على فعل ‏{‏أكرمني‏}‏ وفعللِ ‏{‏أهانني‏}‏، دون أن يقول‏:‏ أكرمني ربي أو أهانني ربي، لقصد تقوّي الحكم، أي يقول ذلك جازماً به غير متردد‏.‏
وجملتا‏:‏ ‏{‏فيقول‏}‏ في الموضعين جوابان ل ‏(‏إمَّا‏)‏ الأولى والثانية، أي يطرد قول الإِنسان هذه المقالة كلَّما حصلتْ له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق‏.‏
وأوثِر الفعل المضارع في الجوابين لإِفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين‏.‏
وحرف ‏{‏كَلاّ‏}‏ زجر عن قول الإِنسان ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ عند حصول النعمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ربيَ أهانني‏}‏ عندما يناله تقتير، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى‏.‏
وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏103 105‏)‏‏.‏ فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ‏.‏
فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق‏.‏
وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ وبين إبطال ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله‏:‏ ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ أن ما ناله من النعمة علامةٌ على رضى الله عنه‏.‏
فالمعنى‏:‏ أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية، والاستناد لمألوفات عادية، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله‏.‏ وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها‏.‏ وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها‏.‏
وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون‏.‏
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏ربي‏}‏ في الموضعين بفتح الياء‏.‏ وقرأ الباقون بسكونها‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فقدر عليه‏}‏ بتخفيف الدال‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال‏.‏
وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏أكرمن، وأهانن‏}‏ بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف‏.‏ وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف‏.‏ وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف‏.‏ و‏{‏كلاّ‏}‏ ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإِنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسبباً على إرادة الله تكريم الإِنسان ولا على إرادته إهانته‏.‏ وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 13‏]‏‏.‏
‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ‏}‏ ‏{‏للهاليتيم * وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً‏}‏‏.‏
‏{‏بل‏}‏ إضراب انتقالي‏.‏ والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقللِ إليه مناسبةُ المقابَلةِ لمضمون ‏{‏فأكرمه ونعمه‏}‏ من جهة ما توهموه أن نعمة مالِهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يُكرموا عبيده شُحّاً بالنعمة إذ حَرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحْتاجُون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل‏.‏
فجملة‏:‏ ‏{‏لا تكرمون اليتيم‏}‏ استئناف كما يقتضيه الإضراب، فهو إمّا استئناف ابتداء كلام، وإما اعتراض بين ‏{‏كلاّ‏}‏ وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم‏:‏ سَد خَلته، وحسن معاملته، لأنه مظنة الحاجة لفقدِ عائِلِه، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباءُ لأبنائهم الصغار‏.‏ وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات‏.‏
والبِرّ، لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يُدِلّ هو عليه‏.‏
و ‏{‏اليتيم‏}‏‏:‏ الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء، وتعريفه للجنس، أي لا تكرمون اليتامى‏.‏ وكذلك تعريف ‏{‏المسكين‏}‏‏.‏
ونفي الحَض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى، وهي دلالة فحوى الخطاب، أي لقلّة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفْعَ وساطة، بَلْهَ أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم‏.‏
و ‏{‏طعام‏}‏ يجوز أن يكون اسماً بمعنى المطعوم، فالتقدير‏:‏ ولا تحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكينَ فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏
و ‏{‏المسكين‏}‏‏:‏ الفقير وتقدم في سورة براءة‏.‏
وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نُفِي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضُّوا على طعام المسكين، عُلم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم‏.‏
ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإِطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغباً في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏ أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ «لا تُكرمون، ولا تَحضون، وتأكلون، وتُحبون» بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة‏.‏ وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بذلك فضحاً لدخائلهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول أهلكت مالاً لبداً أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تحضُّون‏}‏ بضم الحاء مضارع حضّ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ‏{‏تَحَاضُّون‏}‏ بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاضّ بعضهم بعضاً، وأصله تتحاضّون فحذفت إحدى التاءين اختصاراً للتخفيف أي تتمالؤون على ترك الحض على الإطعام‏.‏
و ‏{‏التراث‏}‏‏:‏ المال الموروث، أي الذي يُخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله‏:‏ وُرَاث بواو في أوله بوزن فُعال من مادة وَرث بمعنى مفعول مثل الدُّقاق، والحُطام، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تُجاه، وتُخَمة، وتُهْمة، وتُقَاةٍ وأشباهها‏.‏
والأكل‏:‏ مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يُبقي منه شيئاً‏.‏ وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب‏.‏
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم‏.‏
وأشعر قوله‏:‏ ‏{‏تأكلون‏}‏ بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التُراث دون أن يقال‏:‏ وتأكلون المال لأن التراث مال ماتَ صاحبه وأكْلُه يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغرٍ أو أنوثة‏.‏
واللَّمُّ‏:‏ الجمع، ووصْفُ الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة، أي أكلاً جامعاً مال الوارثين إلى مال الآكِللِ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏‏.‏
والجم‏:‏ الكثير، يقال‏:‏ جَمَّ الماءُ في الحوض، إذا كثر، وبِئر جموم بفتح الجيم‏:‏ كثيرةُ الماء، أي حباً كثيراً، ووصْف الحُبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس‏.‏
فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد، أي حبّاً مفرطاً، وذلك محل ذم حب المال، لأن إفراد حبه يوقع في الحِرص على اكتسابه بالوسائل غير الحَق كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏
‏{‏كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏
‏{‏جَمّاً‏}‏‏.‏
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين، وأكلُهم التراث الذي هو مالُ غير آكله، وعن حب المال حبّاً جمّاً‏.‏
‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الارض دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى * يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ‏}‏‏.‏
استئناف ابتدائي انْتُقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏ الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة‏.‏ فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قَسْراً فلا ينفعهم التذكر، ويندمون ولات ساعةَ مندم‏.‏
فحاصل الكلام السابق أن الإِنسان الكافر مغرور يَنُوط الحوادث بغير أسبابها، ويتوهمها على غير ما بها ولا يُصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طولَ حياته في عَماية، وقد زجروا عن ذلك زجراً مؤكداً‏.‏
وأَتبع زجرهم إنذاراً بأنهم يحين لهم يوم يُفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإِفاقة‏.‏
والمقصود من هذا الكلام هو قوله‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد‏}‏، وقوله ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏، وأما ما سبق من قوله ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏وجيء يومئذٍ بجهنم‏}‏ فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عُرِّف بإضافة جملة ‏{‏دكت الأرض‏}‏ وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب‏.‏
والدّك‏:‏ الحَطْم والكسر‏.‏
والمراد بالأرض الكُرَة التي عليها الناس، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشئ عن فساد الكون الكائنة عليه الآن، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏
و ‏{‏دكاً دكاً‏}‏ يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله‏.‏ ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دَكُّ الجبال، وإذ قد كان أمراً خارقاً للعادة كان المقام مقتضياً تحقيق وقوعه حقيقةً دون مجاز ولا مبالغة، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏فدكتا دكة واحدة‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏14‏)‏ ف ‏{‏دكّا‏}‏ الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن «دُكّتا» الدك أي هو دَكّ حقيقي، و‏{‏دَكا‏}‏ الثاني منصوباً على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباتُه زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي‏.‏
وعلى هذا درج الرضي قال‏:‏ ويستثنى من منع تأكيد النكرات ‏(‏أي تأكيداً لفظياً‏)‏ شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلى الله عليه وسلم
‏"‏ فنكاحها باطل باطل باطل ‏"‏‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دكت الأرض دكاً دكاً‏}‏ فهو مثل‏:‏ ضَرَبَ ضَرَب زيدٌ ا ه‏.‏
وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 14‏]‏ ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة‏.‏
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع‏.‏ وتأويله‏.‏ أنه دكّ يعقُب بعضه بعضاً كما تقول‏:‏ قرأت الكتاب باباً باباً وبهذا المعنى فسّر صاحب «الكشاف» وجمهور المفسرين من بعده‏.‏ وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي‏:‏ «قال ابن الحاجب‏:‏ لعلّه قالَه في «أماليه على المقدمة الكافية» وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في «إيضاح المفصل» بينت له حسابه باباً باباً، أي مفصلاً‏.‏ والعرب تكرر الشيء مرتين» فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظُ المكرّر، فإذا قلت‏:‏ بَيَّنْت له الكتاب باباً باباً فمعناه بينته له مفصلاً باعتبار أبوابه اه‏.‏
قلت‏:‏ هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول‏.‏
وفي «تفسير الفخر»‏:‏ وقيل‏:‏ فبُسِطَتَا بسطةً واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها أمتاً وتبعه البيضاوي يعني‏:‏ أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء‏.‏
ولك أن تجعل صفة واحدة مجازاً في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم‏:‏ هو وحيد قومه، ووحيد دهره، فلا يعارض قوله‏:‏ ‏{‏دكاً دكاً‏}‏ بهذا التفسير‏.‏ وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغةِ فَاعل فلم يسمع‏:‏ هو واحد قومه‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملك صفّاً صفّاً‏}‏ ف ‏{‏صفّاً‏}‏ الأول حال من ‏{‏الملك‏}‏‏.‏
و ‏{‏صَفّاً‏}‏ الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف، أي صفّاً بعد صفِّ، أو خَلْفَ صفّ، أو صنفاً من الملائكة دون صنف، قيل‏:‏ ملائكة كل سَماء يكونون صفّاً حول الأرض على حدة‏.‏
قال الرضي وأما تكرير المنكَّر في قولك، قرأت الكتاب سورةً سورةً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفاً صفاً‏}‏ فليس في الحقيقة تأكيداً إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى‏.‏ والمعنى‏:‏ جميع السور وصفوفاً مختلفة ا ه‏.‏ وشذّ من المفسرين من سكت عنه‏.‏ ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد‏.‏
وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء‏.‏
وأما إسناده إلى الملَك فإما حقيقةٌ، أو على معنى الحضور وأيًّا مَّا كان فاستعمال ‏(‏جاء‏)‏ من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته، أو في مَجَازَيْه‏.‏
و ‏{‏الملَك‏}‏‏:‏ اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق، أي والملائكة‏.‏
والصف‏:‏ مصدر صَفَّ الأشْياءَ إذا جعل الواحد حذو الآخر، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً‏}‏ في سورة طه ‏(‏64‏)‏‏.‏
واستعمال ‏{‏وجيء يومئذ بجهنم‏}‏ كاستعمال مَجيء الملك، أي أحضرت جهنم وفتحت أبوابها فكأنها ‏(‏جاءَ‏)‏ بها جاء والمعنى‏:‏ أظهرت لهم جهنم قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وبرزت الجحيم لمن يرى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 36‏]‏ وورد في حديث مسلم عن ابن مسعود يرفعه‏:‏ «أن لجهنم سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» وهو تفسير لمعنى ‏{‏وجيء يومئذ بجهنم‏}‏‏.‏ وأمور الآخرة من خوارق العادات‏.‏
وإنما اقتصر على ذكر جهنم لأن المقصود في هذه السورة وعيد الذين لم يتذكروا وإلا فإن الجنة أيضاً مُحضرة يومئذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 90 91‏]‏‏.‏
و ‏{‏يومئذ‏}‏ الأول متعلق بفعل ‏{‏جيء‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وجيء يوم تُدَكّ الأرض دَكّاً دكّاً إلى آخره‏.‏
و ‏{‏يومئذ‏}‏ الثاني بدل من ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ والمعنى‏:‏ يوم تدكّ الأرض دكاً إلى آخره يتذكر الإِنسان‏.‏ والعامل في البدل والمبدل منه معاً فعل ‏{‏يتذكر‏}‏‏.‏ وتقديمه للاهتمام مع ما في الإطناب من التشويق ليحصل الإِجمال ثم التفصيل مع حسن إعادة ما هو بمعنى ‏{‏إذا‏}‏ لزيادة الربط لطول الفصل بالجمل التي أضيف إليها ‏{‏إذا‏}‏‏.‏
و ‏{‏الإِنسان‏}‏‏:‏ هو الإِنسان الكافر، وهو الذي تقدم ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15‏]‏ الآية فهو إظهار في مقام الإِضمار لبعد مَعاد الضمير‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وأنى له الذكرى‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏يقول‏}‏ الخ‏.‏
و ‏{‏أنّى‏}‏ اسم استفهام بمعنى‏:‏ أين له الذكرى، وهو استفهام مستعمل في الإِنكار والنفي، والكلامُ على حذف مضاف، والتقدير‏:‏ وأين له نَفْع الذكرى‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏يقول يا ليتني‏}‏ الخ يجوز أن يكون قولاً باللسان تحسراً وتندماً فتكون الجملة حالاً من ‏{‏الإنسان‏}‏ أو بدل اشتمال من جملة ‏{‏يتذكر‏}‏ فإن تذكره مشتمل على تحسر وندامة‏.‏ ويجوز أن يكون قوله في نفسه فتكون الجملة بياناً لجملة ‏{‏يتذكر‏}‏‏.‏
ومفعول ‏{‏قدمت‏}‏ محذوف للإِيجاز‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لحياتي‏}‏ تحتمل معنى التوقيت، أي قدمت عند أزمان حياتي فيكون المراد الحياة الأولى التي قبل الموت‏.‏ وتحتمل أن يكون اللام للعلة، أي قدمت الأعمال الصالحة لأجل أن أحيا في هذه الدار‏.‏ والمراد‏:‏ الحياة الكاملة السالمة من العذاب لأن حياتهم في العذاب حياةُ غشاوة وغياب قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 13‏]‏‏.‏
وحرف النداء في قوله‏:‏ ‏{‏يا ليتني‏}‏ للتنبيه اهتماماً بهذا التمني في يوم وقوع‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد‏}‏ رابطة لجملة ‏{‏لا يعذب‏}‏ الخ بجملة ‏{‏دكت الأرض‏}‏ لما في ‏{‏إذا‏}‏ من معنى الشرط‏.‏
والعذاب‏:‏ اسم مصدر عذّب‏.‏
والوثاق‏:‏ اسم مصدر أوثق‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏يعذِّب‏}‏ بكسر الذال ‏{‏ويوثق‏}‏ بكسر الثاء على أن ‏{‏أحدٌ‏}‏ في الموضعين فاعل ‏{‏يعذِب، ويوثِق‏}‏‏.‏ وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير ‏{‏عذابه‏}‏ عائد إلى الإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ، أي عذاباً مثل عذابه، وانتفاء المماثلة في الشدة، أي يعذب عذاباً هو أشد عذاب يعذبه العصاة، أي عذاباً لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 115‏]‏ والمراد في شدته‏.‏
وهذا بالنسبة لبني الإنسان، وأما عذاب الشياطين فهو أشدُّ لأنهم أشد كفراً و‏{‏أحد‏}‏ يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحَدٌ في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ للَّه‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 19‏]‏ فانحصر الأحد المعذِّب ‏(‏بكسر الذال‏)‏ في فرد وهو الله تعالى‏.‏
وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال ‏{‏يعذَّب‏}‏ وفتح ثاء ‏{‏يوثق‏}‏ مبنيين للنائب‏.‏ وعن أبي قلابة قال‏:‏ «حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏{‏يعذَّب‏}‏ و‏{‏يوثَق‏}‏ بفتح الذال وفتح الثاء»‏.‏ قال الطبري‏:‏ وإسناده واهٍ وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواترُ القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر‏.‏
والمعنى‏:‏ لا يعذَّب أحدٌ مثلَ عذاب مَا يعذَّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ، ولا يوثَق أحدٌ مثلَ وَثاقه، ف ‏{‏أحد‏}‏ هنا بمنزلة «أحداً» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 115‏]‏‏.‏
والوَثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربْط ويجعل للأسير والمقُود إلى القتل‏.‏ فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71، 72‏]‏ الآية‏.‏
وانتصاب ‏{‏وثاقه‏}‏ كانتصاب ‏{‏عذابه‏}‏ على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏
‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏
لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإِنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتَّبعوا هديه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك مما يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر‏.‏
واتصالُ هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد‏.‏ وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة‏.‏ فيجوز أن يُقَال يومَ الجزاء فهو مقول قوللٍ محذوف هو جواب ‏(‏إذا‏)‏ ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21‏]‏ الآية وما بينهما مستطرد واعتراض‏.‏
فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القُدُس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة‏:‏ فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ إظهاراً في مقام الإِضمار بقرينة تفريع ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ عليه‏.‏ ونكتةُ هذا الإِظهار ما في وصف ‏{‏رب‏}‏ من الولاء والاختصاص‏.‏ وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطَبة من التشريف لها‏.‏
وإن كان من قول الملائكة فلفظ ‏{‏ربك‏}‏ جرى على مقتضى الظاهر وعطفُ ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ عطف تلقين يصدر من كلام الله تعالى تحقيقاً لقول الملائكة ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏‏.‏
والرجوع إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏ بحيث شُبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها‏:‏ ارجعي إليه، وهذا الرجوع خاصٌّ غير مطلق الحلول في الآخرة‏.‏
ويجوز أن تكون الآية استئنافاً ابتدائياً جرى على مناسبة ذكر عذاب الإِنسان المشرك فتكون خطاباً من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة‏.‏
والأمر في ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏ مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما ‏{‏راضية مرضية‏}‏ وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضاً، والإِضمار في قوله‏:‏ ‏{‏في عبادي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جنتي‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏
وقال بعض أهل التأويل‏:‏ نزلت في معيَّن‏.‏ فعن الضحاك‏:‏ أنها نزلت في عثمان بن عفان لما تصدق ببئرِ رومة‏.‏ وعن بريدة‏:‏ أنها نزلت في حمزة حين قُتل‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في خُبَيب بن عديّ لما صلبه أهل مكة‏.‏ وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية، والاتفاقُ على أن السورة مكية إلا ما رواه الدَّاني عن بعض العلماء أنها مدنية، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة‏.‏
وعن ابن عباس وزيدِ بن حارثة وأبيّ بن كعب وابننِ مسعود‏:‏ أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد، وعلى هذا فهي متصلة بقوله‏:‏
‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21‏]‏ الخ كالوجه الذي قبل هذا، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد‏.‏
وعن زيد بن حارثة وأبي صالح‏:‏ يقال هذا للنفس عند الموت‏.‏ وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية‏}‏ فقال أبو بكر‏:‏ ما أحسنَ هذا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمَا إنَّ الملَك سيقولها لك عند الموت»‏.‏ وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة‏.‏
والنفس‏:‏ تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله‏:‏ ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى‏.‏
و ‏{‏المطمئنة‏}‏‏:‏ اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئاً غير مضْطَرِب ولا منزعج، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب باللٍ فيكون ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة‏.‏
وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن أفْعَلَلَّ‏.‏ والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما يُنطَق به وهذا قول أبي عَمرو‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ أصل الفعل‏:‏ طَأْمَنَ فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مُطْأَمِنَّة ومصدره اطئمنان وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏260‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏103‏)‏‏.‏
ووصف النفس‏}‏ ب ‏{‏المطمئنة‏}‏ ليس وصفاً للتعريف ولا للتخصيص، أي لتمييز المخاطَبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يَعْرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإِذن لهم بدخول الجنة، فالوصف مراد به الثناء والإِيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ وتبشير من وُجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون‏.‏ ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاماً في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون‏.‏
والاطمئنان‏:‏ مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء‏.‏
وقد فُسر الاطمئنان‏:‏ بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالإخلاص في العمل، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة، وفسر بتبشيرهم بالجنة، أي قبل ندائهم ثم نُودُوا بأن يدخلوا الجنة‏.‏
والرجوع يحتمل الحقيقة والمجاز كما علمت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية‏.‏
والراضية‏:‏ التي رضت بما أُعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه‏.‏
والمرضية‏:‏ اسم مفعول وأصله‏:‏ مَرضياً عنها، فوقع فيه الحذف والإِيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإِنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو‏.‏
وفرع على هذه البشرى الإِجمالية تفصيل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فادخلي في عبادي وادخلي جنتي‏}‏ فهو تفصيل بعد الإِجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها‏.‏
والمعنى‏:‏ ادخلي في زمرة عبادي‏.‏ والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإِضافة مع قرنه بقوله‏:‏ ‏{‏جنتي‏}‏‏.‏ ومعنى هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لندخلنهم في الصالحين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 9‏]‏‏.‏
فالظرفية حقيقية وتؤول إلى معنى المعية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم اللَّه عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏
وإضافة ‏(‏جنة‏)‏ إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏‏.‏
وهذه الإِضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلُّم حسناً بعد طريقة الغيبة بقوله‏:‏ ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏‏.‏
وتكرير فعل ‏{‏وادخلي‏}‏ فلم يقل‏:‏ فادخلي جنتي في عبادي للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقاً للمسرة لهم‏.‏
سورة البلد
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏
ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق‏.‏
و ‏{‏لا أقسم‏}‏ معناه‏:‏ أقسم‏.‏ وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة‏.‏
وتقدم القول في‏:‏ هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به‏.‏
والإِشارة ب«هذا» مع بيانه بالبلد، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة، ومثله ما في قوله‏:‏ ‏{‏إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به‏.‏
والبلد‏:‏ جانب من متسع من أرض عامرةً كانتْ كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج‏:‏
بلْ بَلَدٍ ملءُ الفجاج قَتمُه ***
وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله‏.‏ ‏"‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية‏.‏ والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى ‏{‏وأنت حل‏}‏ فيجوز أن يكون ‏{‏حل‏}‏ اسم مصدرِ أحَلّ، أي أباح، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف ‏{‏حِلّ‏}‏ يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن‏.‏ والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً‏.‏ والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏حِل‏}‏ اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله‏.‏ قال مجاهد والسدي، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله‏.‏ وقريب منه عن ابن عباس، أي مهما تمكنتَ من ذلك‏.‏ فيصدق بالحال والاستقبال‏.‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ «يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اه‏.‏
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام، ووعد بأنه سيمكنه منهم‏.‏
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة ‏{‏حِل‏}‏ هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال‏:‏ ‏"‏ وإنما أحلت لي ساعة من نهار ‏"‏ الحديث، وفي «الموطإ»‏:‏ «قال مالك‏:‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ‏(‏أي يوم الفتح‏)‏ مُحْرِماً»‏.‏
ويُثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظرُ في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة‏.‏ قال الباجي في «المنتقى» وابنُ العربي في «الأحكام»‏:‏ الداخل مكة غيرَ مريد النسك، لحاجة تتكرر كالحَطّابينَ وأصحاب الفواكهِ والمعاش هؤلاء يجوز دخولهم غيرَ محرمين لأنهم لو كلفوا الإِحرام لَحِقتهم مشقة‏.‏ وإن كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك‏:‏ أنه لا بد من الإِحرام، وروي عنه تركُه والصحيح وجوبه، فإن تركه قال الباجي‏:‏ فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يُفصِّل أهل المذهب بين من كان من أهل داخل الميقاتتِ أو مِن خارجه‏.‏
والخلاف في ذلك أيضاً بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير إحرام إن لم يُرِد نسكاً من حج أو عمرة، وأما من كان مِن أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإِحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج‏.‏ وذهب الشافعي إلى سقوط الإِحرام عن غير قاصد النسك، ومذهب أحمد موافق مذهب مالك‏.‏
وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين‏:‏ أن معنى ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ أنه حَال، أي ساكن بهذا البلد اه‏.‏ وجعله ابن العربي قولاً ولم يَعزُه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة ‏{‏وأنت حلّ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أقسم‏}‏ فيكون القسم بالبلد مقيداً باعتبار كونه بلَد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال ‏{‏حِلّ‏}‏ بمعنى‏:‏ حَالّ، أي مقيم في مكاننٍ فإن هذا لم يرد في كتب اللغة‏:‏ «الصَحاحِ» و«اللسانِ» و«القاموسِ» و«مفرداتتِ الراغب»‏.‏ ولم يعرج عليه صاحب «الكشاف»، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله، وقال الخفاجِي‏:‏ والحِلّ‏:‏ صفة أو مصدر بمعنى الحَال هنا على هذا الوجه ولا عبرة بمن أنكره لِعدم ثبوته في كتب اللغة» اه وكيف يقال‏:‏ لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المَرجع في إثبات اللغة إلاّ كتب أيمتها‏.‏
وتكرير لفظ ‏{‏بهذا البلد‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لقصد تجديد التعجيب‏.‏ ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يَخْرُج عن حوزتهم‏.‏
و ‏{‏والد‏}‏ وقع منكراً فهو تنكيرَ تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم‏.‏ فتعين أن يكون المرادَ والداً عظيماً، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله ‏{‏وما ولد‏}‏‏.‏
والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب ‏{‏والد‏}‏ إبراهيمَ عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجَر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وإبراهيم والد سُكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم
و ‏{‏ما وَلد‏}‏ موصول وصلة والضمير المستتر في ‏{‏ولد‏}‏ عائد إلى ‏{‏والد‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ وما ولده إبراهيم من الأبناء والذرية‏.‏ وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمداً صلى الله عليه وسلم
وفي هذا تعريض بالتنبيه للمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادُوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعِمارَةِ المسجد الحرام قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏
وجيء باسم الموصول ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما ولد‏}‏ دون ‏(‏مَن‏)‏ مع أن ‏(‏مَن‏)‏ أكثرُ استعمالاً في إرادة العاقل وهو مراد هنا، فعُدل عن ‏(‏مَن‏)‏ لأن ‏{‏ما‏}‏ أشدُّ إبهاماً، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإِبهام لإرادة التفخيم، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه أعلم بما وضعت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ يعني مولوداً عجيبَ الشأن‏.‏ ويوضِّح هذا أن ‏{‏ما‏}‏ تستعمل نَكرة تامة باتفاق، و‏(‏مَن‏)‏ لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي‏.‏
ولان قوة الإِبهام في ‏{‏ما‏}‏ أنسب بإرادة الجماعة دون واحِدٍ معين، ألا ترى إلى قول الحَكَم الأصم الفَزاري‏:‏
اللُّؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالدهِ *** واللؤْمُ أكرمُ من وَبْر ومَا ولَدَا
يريد ومِن أولاده لا ولداً معيّناً‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ جواب القسم وهو الغرض من السورة‏.‏
والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين، فالتعريف فيه تعريف الجنس، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين، فالعموم عموم عرفي، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس‏.‏
ويجوز أن يراد به إنسان معيّن، فالتعريف تعريف العهد، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال‏:‏ أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول‏:‏ من أزالني فله كذا‏.‏ فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ وقيل‏:‏ هو الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ هو أبو جهل‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق‏.‏
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق‏.‏
والخلق‏:‏ إيجاد ما لم يكن موجوداً، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فهو جعل يغير ذات الشيء‏.‏
والكَبَد بفتحتين‏:‏ التعب والشدة، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه، ويَحِق وِءَامُه‏.‏
وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل ‏{‏خلقنا‏}‏ على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل ‏{‏خلقنا‏}‏ كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه‏.‏ وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة‏.‏ واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر‏.‏ ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى‏.‏
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4، 5‏]‏ بعد القسم بقوله‏:‏ ‏{‏التين والزيتون‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏ الخ‏.‏
فمعنى‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏‏:‏ أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقاً آخر، فهو في طريقة القسم والمُقسم عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏ أي كما خلقناه أول مرة في نَصَب من أطوار الحياة كذلك نخلقه خلقاً ثانياً في كَبدٍ من العذاب في الآخرة لكفره‏.‏
وبذلك يظهر موقع إدماج قوله ‏{‏في كبد‏}‏ لأن المقصود التنظير بين الخلْقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى‏.‏
والظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏في كبد‏}‏ مستعملة مجازاً في الملازمة فكأنه مظروف في الكَبَد، ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8، 9‏]‏ الآية‏.‏ فالمراد‏:‏ عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاققِ المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية‏.‏
فالمعنى‏:‏ أن الكَبَد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإِشراك وهو حين تقوُّم العقل وكماللِ الإدراك‏.‏
ومن الجائز أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتباراً لطيفاً وهو شدة تلبّس الكَبد بالإِنسان المشرك حتى كأنه خُلِق في الكَبَد‏.‏
والمعنى‏:‏ لقد خلقنا الكَبَد في الإنسان الكافر‏.‏
وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏‏.‏
والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخْطئة‏.‏
وضمير ‏{‏أيَحْسِبُ‏}‏ راجع إلى الإِنسان لا محالة، ومن آثار الحيرة في معنى ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏ أن بعض المفسرين جعل ضمير ‏{‏أَيَحْسِبُ‏}‏ راجعاً إلى بعض مما يعمه لفظ الإِنسان مثل أبي الأشد الجمحي، وهو ضغث على إبّالة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏
‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏
أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح‏.‏ وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لإيذانه بقلة اكتراث صاحبه به، قال عنترة‏:‏
وإذَا سَكِرْتُ فإنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ *** مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وَإذَا صَحَوْتُ فَما أقَصِّر عن نَدى *** وَكَما عَلِمْتَ شمائلي وتكَرُّمِي
وجملة‏:‏ ‏{‏يقول أهلكت مالاً‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وذلك من الكبد‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يقول أهلكت مالاً‏}‏ لأن قوله ‏{‏أهلكت مالاً لبداً‏}‏ يصدر منه وهو يحسب أنه راجَ كذبُه، على جميع الناس وهو لا يخلو من ناس يطلعون على كذبه قال زهير‏:‏
ومهْما تكنْ عند امرئ مِن خليقة
وإنْ خالها تَخفى على الناسسِ تُعْلَمِ
والاستفهام إنكار وتوبيخ وهو كناية عن علم الله تعالى بدخيلته وأن افتخاره بالكرم باطل‏.‏
و ‏{‏لبداً‏}‏ بضم اللام وفتح الموحدة في قراءة الجمهور وهو جمع لُبدة بضم اللام وهي ما تلبد من صوف أو شعر، أي تجمع والتصق بعضه ببعض وقرأه أبو جعفر ‏{‏لبَّداً‏}‏ بضم اللام وتشديد الباء على أنه جمع لاَبِدٍ بمعنى مجتمع بعضُه إلى بعض مثل‏:‏ صُيَّم وقُوَّم، أو على أنه اسم على زنة فُعَّل مثل زُمَّل للجَبان وجُبَّإ للضعيف‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏
‏{‏أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏‏}‏
تعليل للإِنكار والتوبيخ في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ أو قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 7‏]‏ أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خَلَق مشاعر الإِدراك التي منها العينان، وخَلَق آلات الإِبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏
والاستفهام يجوز أن يكون تقريرياً وأن يكون إنكارياً‏.‏
والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلَّل إنكار ظنه إن لم يره أحد‏.‏ وذِكْر الشفتين مع اللسان لأن الإِبانة تحصل بهما معاً فلا ينطق اللسان بدون الشّفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان‏.‏
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون‏:‏ ينطق بلساننٍ فصيح، ويقولون‏:‏ لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة النطق‏.‏
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإِبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكرَ إلى النظر والبحث وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏‏.‏
فاستكمل الكلامُ أصول التعلُّم والتعليم فإن الإِنسان خُلق محباً للمعرفة محباً للتعريف فبمشاعر الإِدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يَعْلَمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها‏.‏
والشفتان هما الجِلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يُمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا‏.‏
وأصل شفة شَفَو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل‏:‏ أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعُوضَ عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشِفاه‏.‏ والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفاً في حالة الوصل فقالوا‏:‏ شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا‏:‏ شفوين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله‏.‏
والهداية‏:‏ الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه‏.‏
والنجد‏:‏ الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل‏.‏ فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان، والطريق قد يكون مُنجداً مصعداً، وقد يكون غوراً منخفضاً‏.‏
وقد استعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز‏.‏
واستعير النجدان للخير والشر، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين، أو لأن كل واحد صعب باعتبار، فطريق الخير صعوبته في سلوكه، وطريق الشر صعوبته في عواقبه، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب
‏{‏العَقَبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك‏.‏
وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم‏.‏
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعَرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلاً على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏
{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ تفريع إدماج بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير‏.‏
ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة ‏{‏يقول أهلكت مالاً لبداً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 6‏]‏ وما بينهما اعتراضاً، وتكون «لا اقتحم العقبة» استفهاماً حذف منه أداته‏.‏ وهو استفهام إنكار، والمعنى‏:‏ أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاققٍ‏.‏
وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر ‏(‏لا‏)‏ فإن شأن ‏(‏لا‏)‏ النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قوله‏:‏ ‏{‏فلاَ صَدَّق ولا صلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ أو كانت ‏(‏لا‏)‏ معطوفة على نفي نحو‏:‏ ما خرجتُ ولا ركبتُ‏.‏ فهو في حكم تكرير ‏(‏لا‏)‏‏.‏ وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو ‏{‏اقتَحَم العقبة‏}‏ يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله‏:‏ ‏{‏فكُّ رقبة أو إطعام‏}‏ فكأنه قال‏:‏ فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً‏.‏ ويجوز أن يكون عدم تكرير ‏(‏لا‏)‏ هنا استغناء بقوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فلا اقتحم العقبة ولا آمن‏.‏ ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاففٍ عن تكرير ‏(‏لا‏)‏ كالاستثناء في قول الحريري في «المقامة الثلاثين»‏:‏ «لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب» الخ وأُطلق ‏{‏العقبةُ‏}‏ على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه‏.‏ ولكل نجد عقبة ينتهي بها‏.‏ وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة‏.‏
والاقتحام‏:‏ الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال‏:‏ اقتحم الصَفَّ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏‏.‏
والاقتحام‏:‏ ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال‏:‏
والمورد العذب كثير الزحام ***
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة‏.‏ وقد تتابعت الاستعارات الثلاث‏:‏ النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏
والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة‏}‏ حال من العقبة في قوله‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم‏.‏
وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ الأولى استفهام‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ الثانية مثلها‏.‏ والتقدير‏:‏ أيُّ شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعْلَمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمراً عزيزاً يحتاج إلى من يُعلمك به‏.‏
والخطاب في ‏{‏ما أدراك‏}‏ لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل‏.‏
وفِعل ‏{‏أدراك‏}‏ معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة‏.‏
وقرأ نافع وابنُ عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخَلف، ‏{‏فك رقبة‏}‏ برفع ‏{‏فكُّ‏}‏ وإضافتِه إلى ‏{‏رقبة‏}‏ ورفععِ ‏{‏إطعام‏}‏ عطفاً على ‏{‏فكّ‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏فك رقبة‏}‏ بيان للعقبة والتقدير‏:‏ هي فكّ رقبة، فحذف المسند إليه حذفاً لمتابعة الاستعمال‏.‏ وتبيين العقبة بأنها‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام‏}‏ مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس‏.‏ وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدَّر مضافاً فقال‏:‏ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة‏.‏
وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو والكسائي ‏{‏فَكَّ‏}‏ بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب ‏{‏رقبةً‏}‏ على المفعول ل ‏{‏فكَّ‏}‏ أو «أطعم» بدون ألف بعد عين ‏{‏إطعام‏}‏ على أنه فعل مضي عطفاً على ‏{‏فَكَّ‏}‏، فتكون جملة‏:‏ ‏{‏فكَّ رقبةً‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ وما بينهما اعتراضاً، أو تكون بدلاً من جملة ‏{‏اقتحم العقبة‏}‏ أي فلا اقتحم العقبة ولا فكَّ رقبةً أو أطعم‏.‏ وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفاً‏.‏
والفك‏:‏ أخذ الشيء من يد من احتاز به‏.‏
والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعيننٍ ووجهٍ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء‏.‏ هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته‏.‏
وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسْرٍ أو مِلْك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع‏.‏
وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإِسلامي وهو تشوُّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»‏.‏
والمسغبة‏:‏ الجوع وهي مصدر على وزن المَفْعَلَة مثل المَحْمَدة والمَرْحَمَة مِن سَغِبَ كفَرِح سَغَباً إذا جاع‏.‏
والمراد ب ‏{‏يوم ذي مسغبة‏}‏ زمانٌ لا النهار المعروف‏.‏
وإضافة ‏{‏ذي‏}‏ إلى ‏{‏مسغبة‏}‏ تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة، وذلك زمن البَرد وزمنُ القَحط‏.‏
ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإِطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتدادِ زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات‏.‏ فالإِطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة‏.‏
وانتصب ‏{‏يتيماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏إطعام‏}‏ الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمالُ المصدر غيرِ المضاف ولا المعرّففِ باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثرَ، ومنع الكوفيون إعمالَ المصدر غير المضاف‏.‏
ومَا ورد بعدَه مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم «يطعم يتيماً»‏.‏
واليتيم‏:‏ الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ‏.‏ ووجه تخصيصه بالإِطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه‏.‏ فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه ‏{‏ذا مقربة‏}‏ أي مقربة من المطعِم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيماً إغاثة له بالإِطعام، وفي كونه ذَا مقربة صلة للرحم‏.‏
والمَقْرَبة‏:‏ قرابة النسب وهو مصدر بوزن مَفْعَلة مثل ما تقدم في ‏{‏مسغبة‏}‏‏.‏
والمسكين‏:‏ الفقير، وتقدم في سورة البقرة ‏(‏184‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين وذا متربة‏}‏ صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف‏.‏
والمَتربة مصدر بوزن مفْعَلة أيضاً وفعِله تَرِب يقال‏:‏ ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العُروِّ من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منه قولهم في الدعاء‏:‏ تَرِبت يمينك‏:‏ وتربَت يداك‏.‏
و ‏{‏أو‏}‏ للتقسيم وهو معنى من معاني ‏(‏أو‏)‏ جاء من إفادة التخيير‏.‏
واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فكّ الرقاب والإِطعام كنايةً عن انتفاء تحلّيهم بشرائع الإِسلام لأن فكّ الرقاب وإطعام الجياع من القُربات التي جاء بها الإِسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الأخلاّء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيماً ولا مسكيناً في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده‏.‏ وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعَمين لأن تلك المطاعم كانوا يدْعُون لها أمثالهم من أهل الجِدّة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة‏.‏
وفي حديث مسلم ‏"‏ شر الطعام طعامُ الوليمة يُمْنَعْها من يأتيها ويُدعى إليها من يأباها ‏"‏ وروى الطبراني‏:‏ ‏"‏ شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى إليه الشَّبْعان ويُحبس عنه الجائع ‏"‏‏.‏
وإن كان المراد من الإِنسان واحداً معيناً جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذَمّاً له باللّؤْم والتفاخرِ الكاذب، وفضحاً له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإِسلام فلم يغرم غرامة في فَكاك أسير أو مأخوذٍ بدم أو مَنّ بحُرية على عبدٍ‏.‏
وأيَّاَ مَّا كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏‏.‏
و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوفة عليه، فيصير تقدير الكلام‏:‏ فلا اقتحم العقبة بفكّ رقبة أو إطعاممٍ بعد كونه مؤمناً‏.‏ وفي فعل ‏{‏كان‏}‏ إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه‏.‏
فعطفُ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإِنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فَرَّط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عملُه شيئاً لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه ‏{‏ثم‏}‏ من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال‏.‏
وعن عائشة‏:‏ أنها قالت‏:‏ «يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله ‏(‏أي يريد التقرب‏)‏ فهل ينفعه ذلك شيئاً قال‏:‏ ‏"‏ لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ‏"‏‏.‏ ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محموداً‏.‏
ومن يجعل ‏{‏ثُم‏}‏ مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى‏:‏ لا اقتحم العقبة واتبعها بالإِيمان‏.‏ أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلمَ لمّا جاء الاسلام‏.‏
وقد جاء ذلك صريحاً في حديث حكيم بن حزام في الصحيح‏:‏ «قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أسلمت على ما سلف من خير ‏"‏ والتحنّث‏:‏ التعبد يعني أن دخوله في الإِسلام أفاده إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإِسلام‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏من الذين آمنوا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ ثم كان مؤمناً، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإِيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعرِ بأنهم عُرفوا بالإِيمان بَيْن الفرق‏.‏
وحُذِف متعلّق آمنوا‏}‏ للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإِسلام‏.‏ فجُعل الفعل كالمستغني عن المتعلق‏.‏
وأيضاً ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة‏}‏ ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة‏.‏
وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر‏.‏
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عَرَف قدرَها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يُوصي بها، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صُرح بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏
‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏
لَمَّا نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتَتحاً باسم الإِشارة لتمييزهم أكمل تمييز لإِحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع، مع ما في اسم الإِشارة من إرادة التنويه والتعظيم‏.‏
و ‏{‏الميمنة‏}‏ جهة اليمين، فهي مَفْعَلة للمكان مأخوذة من فعل يَمَنَه ‏(‏فعلاً ماضياً‏)‏ إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يَمَنَه اللَّهُ يُمْناً، إذا بَاركه، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى، قيل‏:‏ سميت اليد اليمنى يميناً ويُمنى لأنها أعود نفعاً على صاحبها في يسرْ أعماله، ولذلك سمي بلاد اليمن يَمَناً لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلاً الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن‏.‏ وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات فهي ميمونة‏.‏ وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشراً بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك‏:‏
فإذا الأشائِم كالأيا *** مِننِ والأيَامِنُ كالأشائِمْ
ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأماً بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شِمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإِسلام ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم بارك لنا في شأمِنا وفي يَمَنِنَا» وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يساراً إلا لإِبطال ما يُتوهم من الشؤم فيها‏.‏
ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامةً للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك‏.‏ وقد أبطله الاسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس‏.‏
وسمّي أهل الجنة ‏{‏أصحاب الميمنة‏}‏ و‏{‏أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 27‏]‏ وسمي أهل النار ‏{‏أصحاب المشأمة‏}‏ و‏{‏أصحاب الشمال‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏41‏)‏، فقوله‏:‏ أولئك أصحاب الميمنة‏}‏ أي أصحاب الكرامة عند الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ أي هم محقرون‏.‏ وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم‏.‏ ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حَيِّزاً لمن تُنسَب إليه الجهةُ‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة‏}‏ تتميم لِما سيق من ذم الإِنسان المذكور آنفاً إذ لم يعقّبْ ذمُّه هنالك بوعيده عِناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدِهم، فلما قُضي حق ذلك ثُني العنان إلى ذلك الإِنسان فحصل من هذا النظم البديع محسِّن ردّ العجز على الصدر، ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة‏.‏
وقد عرف آنفاً أن المشأمة منزلة الإِهانة والغضب، ولذلك أتبع بقوله‏:‏ ‏{‏عليهم نار مؤصدة‏}‏‏.‏
وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ لتقوية الحكم وليس للقصر، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي ‏{‏أولئك أصحاب الميمنة‏}‏‏.‏
و ‏{‏مؤصدة‏}‏ اسم مفعول من أوصد الباب بالواو‏.‏ ويقال‏:‏ أأصد بالهمز وهما لغتان، قيل‏:‏ الهمز لغة قريش وقيل‏:‏ معناه جعله وصيدة‏.‏ والوصيدة‏:‏ بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل‏.‏ فقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مُوصَدة‏}‏ بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من ءَاصد الباب، بهمزتين بمعنى وصَده‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏عليهم نار موصدة‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ أو استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة‏.‏
و ‏{‏عليهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏مؤصدة‏}‏، وقدم على عامله للاهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلاً للترهيب‏.‏
وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وإسناد المُوصَديَّة إلى النار مجاز عقلي، والموصد هو موضع النار، أي جهنم‏.‏
سورة الشمس
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏
‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏
القسم لتأكيد الخبر، والمقصود بالتأكيد هو ما في سَوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال‏.‏
والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قَسَم‏.‏
وكل من الشمس، والقمر والسماء والأرض، ونفس الإِنسان، من أعظم مخلوقات الله ذاتاً ومعنىً الدالة على بديع حكمته وقويّ قدرته‏.‏
وكذلك كل من الضحى، وتُلو القمر الشمس والنهار، والليل من أدق النظام الذي جعله الله تعالى‏.‏
والضحى‏:‏ وقتُ ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها، وظهور شعاعها، وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رُمح‏.‏
ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح، وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران‏.‏
والتلُوَّ‏:‏ التبع وأريد به خَلف ضوئه في الليل ضوءَ الشمس، أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها، وهذا تلو مجازي‏.‏ والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليال، وهو أيضاً يَتلو الشمس حين يقارب الابتدارَ وحين يصير بدراً فإذا صار بدراً صار تُلوّه الشمسَ حقيقة لأنه يظهر عندما تغرب الشمس، وقريباً من غروبها قبله أو بعده، وهو أيضاً يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضاً عن الشمس في عدة ليال في الإِنارة، ولذلك قُيّد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلوّ للناظرين، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به، فكان بمنزلة قَسَم بوقت تُلوه الشمس، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس‏.‏
وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيّراً بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة‏.‏
وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإِسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكاً، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإِسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي‏.‏
ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل، واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود‏.‏
والضمير المؤنث في قوله‏:‏ ‏{‏جلاها‏}‏ ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار بالشمس وقت ظهور الشمس‏.‏
فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقَسَم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى الأرض، أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر «أرسلت» يعنون أرسلت السماء ماءَها‏.‏
وقُيد القَسَم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجاً للمنة في القسم‏.‏
وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإِيماء إلى أنها مثل لظهور الإِيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تُمثَّل بالظلمة والإِيمانَ والطاعاتتِ تُمثَّل بالضياء قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏‏.‏
وأعقب القسَمُ بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقتَ النهار فهو وقت الإِظلام‏.‏
والغشي‏:‏ التغطية وليس الليل بمغطّ للشمس على الحقيقة ولكنه مسبَّب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي‏.‏ فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زَمنه أو إلى مسببه ‏(‏بفتح الباء‏)‏‏.‏
والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تُجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية، وقيل‏:‏ ضمير المؤنث في ‏{‏يغشاها‏}‏ عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في ‏{‏والنهار إذا جلاها‏}‏‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا تلاها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذا جلاها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذا يغشاها‏}‏ في محل نصب على الظرفية متعلقة بكَون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر، أي مقسماً بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدِها دلالة على عظيم صنع الله تعالى‏.‏
وبناء السماء تشبيهٌ لرفعها فوق الأرض بالبناء‏.‏ والسماء آفاق الكواكب قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏ وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيراً بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور‏.‏
وطَحْوُ الأرض‏:‏ بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع، يقال‏:‏ طحا يَطحو ويطحي طحواً وطَحْياً وهو مرادف «دحَا» في سورة النازعات ‏(‏30‏)‏‏.‏
و«النفس»‏:‏ ذات الإِنسان كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏ وتنكير «نفس» للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموماً بالقرينة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وتسوية النفس‏:‏ خلقها سواء، أي غير متفاوتة الخَلْق، وتقدم في سورة الانفطار ‏(‏7‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسواك‏.‏‏}‏ ومَا‏}‏ في المواضع الثلاثة من قوله‏:‏ ‏{‏وما بناها‏}‏، أو ‏{‏ما طحاها‏}‏، ‏{‏وما سواها‏}‏، إمّا مصدرية يؤوَّلُ الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعةُ السماء وطَحْوُهُ الأرض وتسويته الإِنسان‏.‏ %
وعطف ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ على ‏{‏سواها‏}‏، فهو مقسم به، وفعل «ألهمها» في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة ‏{‏ما‏}‏ المصدرية، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية، فضمير الرفع في «ألهمها» عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من ‏{‏سواها‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ موصولة صادقة على فعل الله تعالى، وجملة ‏{‏بناها‏}‏ صلة الموصول، أي والبناءِ الذي بنَى السماء، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس‏.‏
فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام‏.‏
والإِلهام‏:‏ مصدر ألهم، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجردَ منه مُمات والإِلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب‏.‏
ويطلق الإِلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية‏.‏
وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإِنسان، قال الراغب‏:‏ الإِلهام‏:‏ إيقاع الشيء في الرُوع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وَجهة الملأ الأعلى ا ه‏.‏ ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواجُ أمثال ذلك في اللغة قبل الإِسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب، وهو مشتق من اللّهْم وهو البلْع دَفعةً، يقال‏:‏ لَهِم كفرح، وأما إطلاق الإِلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية‏.‏
والمعنى هنا‏:‏ أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام‏.‏
وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى، والعقابَ والثواب‏.‏
وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ‏.‏
ومجيء فعل‏:‏ «ألهمها» بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ ‏{‏ما‏}‏ إن جعلتَها موصولة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏
‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخَيبة المشركين كما جُعل في سورة الليل ‏(‏4، 5‏)‏ جوابَ القسم قولْه‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى فأما من أعطى‏}‏ الخ‏.‏
ويجوز أن تكون جملةً معترضة بين القَسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإِدراك والإِرشاد الإلهي‏.‏
وهذه الجملة توطئة لجملة‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دَسَّوا أنفسهم بالطغوى‏.‏
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ صادقة على الإِنسان، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها، فالإِنسان والنفس شيء واحد، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإِرادة والاكتساب‏.‏
والتزكية‏:‏ الزيادة من الخير‏.‏
ومعنى‏:‏ ‏{‏دساها‏}‏ حال بينها وبين فعل الخير‏.‏ وأصل فعل دسّى‏:‏ دسّ، إذا أدخل شيئاً تحت شيء فأخفاه، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلباً للتخفيف كما قالوا‏:‏ تقضّى البازي أو تقضض، وقالوا‏:‏ تظنيت، أي من الظن‏.‏
وإن كانت جملة ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ جواب القسم فجملة ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ في موقع الدليل لمضمون جملة ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏ أي خاب كخيبة ثمود‏.‏
والفلاح‏:‏ النجاح بحصول المطلوب، والخيبة ضده، أي أن يُحرم الطالب مما طلبه‏.‏
فالإِنسان يرغب في الملائم النافع، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال الدائمان، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح، والثاني يحصِّل نفعاً عارضاً زائلاً وكمالاً موقتاً ينقلب انحطاطاً فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة‏.‏
والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها‏.‏
وفي هذه الآيات مُحسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما، ومثل النهار والليل، والتجلية والغشي، والسماء والأرض، والبناء والطحو، والفجور والتقوى، والفلاح والخيبة، والتزكية والتدسية‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏
‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏
‏{‏دساها * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أشقاها * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله‏}‏ ‏{‏وسقياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا‏}‏‏.‏
إن كانت جملة ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ الخ معترضة كانت هذه جواباً للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله‏:‏ ‏{‏فدمدم عليهم ربهم بذنبهم‏}‏ أي حقاً لقد كان ذلك لِذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفاً لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء ذات البروج‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏
والمقصود‏:‏ التعريض بتهديد المشركين الذين كذّبوا الرسول طغياناً هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغياناً، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقَسَم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإِنكار لعدم جَرْي أمرهم على موجَب العلم، فكأنه قيل‏:‏ أقسم لَيصيبكم عذابٌ كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادَوْهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى‏.‏
فمفعول ‏{‏كذبت‏}‏ محذوف لدلالة قوله بعده‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ والتقدير‏:‏ كذبوا رسول الله‏.‏
وتقدم ذكْر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف‏.‏
وباء ‏{‏بطغواها‏}‏ للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم‏.‏
والطغوى‏:‏ اسم مصدر يقال‏:‏ طغا طَغْوا وطُغياناً، والطغيان‏:‏ فرط الكِبر، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏15‏)‏، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلاً عليهم‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏
و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف للزمن الماضي يتعلق ب ‏{‏طغواها‏}‏ لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جُعلت لهم آية وذلك منتهى الجُرأة‏.‏
و ‏{‏انبعث‏}‏‏:‏ مطاوع بَعَث، فالمعنى‏:‏ إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك‏.‏ و‏{‏إذ‏}‏ مضاف إلى جملة‏:‏ ‏{‏انبعث أشقاها‏}‏‏.‏
وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله ناقة الله‏}‏ لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جُزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقاً بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضاً من قوله‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏‏.‏
و ‏{‏أشقاها‏}‏‏:‏ أشدها شِقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قُدار ‏(‏بضم القاف وتخفيف الدال المهملة‏)‏ بن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء‏.‏
والفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ عاطفة على ‏{‏كذبت‏}‏ فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها، ويَكون معنى الكلام‏:‏ كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذَّرهم من التعرض لها بسوء ومِن منعهم شربها في نوبتها من السُّقيا، وعطف على ‏{‏فكذبوه‏}‏، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور ثانياً‏.‏ وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود‏.‏
ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏ فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإِخراج لا قبله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، فيكون المعنى‏:‏ كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها‏.‏ ثم فُصل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول اللَّه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو‏:‏ ‏{‏إذ انبعث أشقاها‏}‏ مقدَّماً من تأخير‏.‏
وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعىً فيها أن ثمود اسم قبيلة‏.‏
وانتصب ‏{‏ناقة اللَّه‏}‏ على التحذير، والتقدير‏:‏ احذروا ناقة الله‏.‏ والمراد‏:‏ التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمرادُ‏:‏ أحوالها‏.‏
وإضافة ‏{‏ناقة‏}‏ إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة‏.‏
والسقيا‏:‏ اسم مصدر سَقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غصب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقاً للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات‏.‏ والمراد‏:‏ حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها‏.‏
والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله‏:‏ ‏{‏ناقة اللَّه‏}‏، تكذيب ثاننٍ وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد‏.‏ والإِنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف ‏(‏73‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم‏.‏‏}‏ وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإِنذار بالعذاب‏.‏
والعَقْر‏:‏ جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحَر في لبته، فالعقر كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما‏.‏
فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ‏}‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عقباها‏}‏‏.‏
أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب‏.‏ والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 73‏]‏، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها‏.‏
فوزن دَمْدَم فَعْلَل، وقال أكثر المفسرين‏:‏ دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال‏:‏ دَمَّمَ عليه القبر، إذا أطبقه ودَمْدَم مكرر دَمَّم للمبالغة مثل كَبْكَب، وعليه فوزن دَمْدَم فَعْلَلَ‏.‏
وفرع على «دمدم عليهم» ‏{‏فسواها‏}‏ أي فاستَووا في إصابتها لهم، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من «دمدم عليهم»‏.‏
ومن فسروا «دمدم» بمعنى‏:‏ أطبق عليهم الأرض قالوا معنَى «سوَّاها»‏:‏ جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجَعَلوا ضمير المؤنث عائداً إلى الأرض المفهومة من فعل «دمدم» فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تسوى بهم الأرض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏‏.‏
وبين ‏{‏فسواها‏}‏ هنا وقوله‏:‏ ‏{‏وما سواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏ قبله محسن الجناس التام‏.‏
والعقبى‏:‏ ما يحصل عقِب فعل من الأفعال مِن تبعة لفاعِلِه أو مَثوبة، ولما كان المذكور عقاباً وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدَأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون‏:‏ الثَّأْر المُنِيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذراً من أن يتمكن مغلوبُه من الثأر، أخْبَرَ الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبُه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ تذييل للكلام وإيذان بالختام‏.‏
ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ تمثيلاً لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك مَن يثأر له فيكون المثَل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد‏.‏
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ بفاء العطف تفريعاً على ‏{‏فدمدم عليهم ربهم‏}‏ وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام‏.‏‏.‏‏.‏ ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوَّتهم ليرتدع بهذا العلم أمثالهم من المشركين‏.‏
وقرأ الباقون من العشرة‏:‏ ‏{‏ولا يخاف عقباها‏}‏ بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قُرائها‏.‏ وقال ابن القاسم وابن وهب‏:‏ أخرج لنا مالك مصحفاً لجدِّه وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كَتب المصاحف وفيه ‏{‏ولا يخاف‏}‏ بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم‏.‏
سورة الليل
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏‏}‏
افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه، وغرض ذلك ما تقدم آنفاً‏.‏
ومناسبة المُقْسَممِ به للمُقْسَممِ عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة‏.‏
وفي القسم بالليل وبالنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانِب الذي يغشاه من الأرض‏.‏ ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين، لأن ذلك أقوى أحواله، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك‏.‏
وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها‏}‏ في سورة الشمس ‏(‏3، 4‏)‏‏.‏
واختير القسم بالليل والنهار لمناسبتِه للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة‏.‏
وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكسَ ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيَّامئذٍ كان الكفر مخيماً على الناس إلا نفراً قليلاً، وكان الإِسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بالإِشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إذا تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4 11‏]‏‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5‏]‏ الآية ليتمكن تفصيله في الذهن‏.‏
وحذف مفعول ‏{‏يغشى‏}‏ لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشيانه كلَّ ما تغشاه ظلمته‏.‏
وأسند إلى النهار التَجلي مدحاً له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء‏.‏
والتجلّي‏:‏ الوضوح، وتجلي النهار‏:‏ وضوح ضيائه، فهو بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والضحى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمةُ هي أصل أحوال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طَرأ عليه التاريخ بالأيام‏.‏
والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها في السورة السابقة‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل‏.‏
والذكر والأنثى‏:‏ صنفا أنواع الحيوان‏.‏ والمراد‏:‏ خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطَبون أكثرَ دقائقه لتكرره على أنفسهم ذُكورهم وإناثهم بخلاف تكوّن نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يُحصي كثيراً منها‏.‏
والمعنى‏:‏ وذلك الخلققِ العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد، وتوقف التناسل على تزاوجهما، فالقسم بتعلققٍ مِن تعلققِ صفات الأفعال الإلهية وهي قِسْم من الصفات لا يُختلف في ثبوته وإنما اختلَف علماء أصول الدين في عدّ صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي، أو جَعْلِها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي‏.‏
وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس، أي خلق العقل والمعرفة في الإِنسان، وأما القَسَم هنا فبِخلق جسد الإِنسان واختلاف صنفيه، وجملة‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ جوابُ القسم‏.‏ والمقصود من التأكيد بالقسم قولُه‏:‏ ‏{‏وما يغني عنه مالُهُ إذا تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والسَّعي حقيقته‏:‏ المشي القوي الحثيث، وهو مستعار هنا للعمل والكدّ‏.‏
وشتّى‏:‏ جمع شتيت على وزن فَعْلَى مثل قَتِيل وقَتْلى، مشتق من الشتِّ وهو التفرق الشديد يقال‏:‏ شتَّ جمعُهم، إذا تفرقوا، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرّاً‏:‏
قليل التشكي للملم يصيبه *** كثير الهوى شَتَّى النَّوى والمسالك
وهو استعارة أو كناية عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم‏}‏ لجميع الناس من مؤمن وكافر‏.‏
واعلم أنه قد روي في «الصحيحين» عن علقمة قال‏:‏ «دخلت في نفر من أصحاب عبد الله ‏(‏يعني ابنَ مسعود‏)‏ الشام فسمع بِنا أبو الدرداء فأتانا فقال‏:‏ أيكم يقرأ على قراءة عبد الله‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ كيف سمعتَه يقرأ‏؟‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ قال سمعته يقرأ‏:‏ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى» قال‏:‏ أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا»‏.‏ وسماها في «الكشاف»‏:‏ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي ثَبت أنه قرأ بها، وتأويل ذلك‏:‏ أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخَّصاً فيه أن يُقرأ على بعض اختلاف، ثم نُسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن‏.‏ وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم‏:‏ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏
‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏‏}‏
‏{‏فأما‏}‏ تفريع وتفصيل للإِجمال في قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4‏]‏ فحرف ‏(‏أمَّا‏)‏ يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى‏:‏ مَهما يكن من شيء، والتفصيل‏:‏ التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرَد بعضها عن بعض بحالة هي التي يُعتنَى بتمييزها‏.‏ وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ في سورة الفجر ‏(‏15‏)‏‏.‏
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور، ولكن جعل التفصيلُ ببيان الساعين بقوله‏:‏ فأما من أعطى‏}‏ لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويُلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة‏:‏
وقَد خِفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعللٍ في ذي المَطارة عَاقِل
أي على مخافة وَعِل‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر‏}‏ إلخ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ الآية، أي كإيمان من آمن بالله‏.‏
وانحصر تفصيل «شتى» في فريقين‏:‏ فريق ميسَّر لليسرى وفريق ميسَّر للعسرى، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير، والتحذير من الشر، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ في سورة الزلزلة ‏(‏6 8‏)‏‏.‏ ويجوز أن يجعل تفصيل شتى هم من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى، ومنْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بياناً لشتّى‏.‏
ومَن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أعطى‏}‏ الخ وقوله‏:‏ ‏{‏من بخل‏}‏ الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدِّق بالحسنى‏.‏ وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأعتقه ليُنجيه من تعذيب أمية بن خلف، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوضَ أمية بن خلف، وهم وهَم‏.‏
وقيل‏:‏ نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي‏.‏ وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسببُ النزول لا يخصص العموم‏.‏
وحُذف مفعول ‏{‏أعطى‏}‏ لأن فعل الإِعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض، يُنزَّل منزلَة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ‏(‏ولذلك يسمى المالُ الموهوب عَطاءَ‏)‏، والمقصود إعطاء الزكاة‏.‏
وكذلك حُذف مفعول ‏{‏اتقى‏}‏ لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله‏.‏
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان، فالمعنى‏:‏ فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43 44‏]‏، أي لم نك من أهل الإيمان‏.‏
وكذلك فعل ‏{‏بَخل‏}‏ لم يُذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال‏.‏
و ‏{‏استغنى‏}‏ جُعل مقابلاً ل ‏{‏اتَّقى‏}‏ فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمْرِ الله ودعوته لأن المصرَّ على الكفر المعرِضَ عن الدعوة يَعُد نفسه غنياً عن الله مكتفياً بولاية الأصنام وقومِه، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب‏.‏
وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال، فتكون السين والتاء للطلب، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين‏.‏
والحُسنى‏:‏ تَأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفَة لموصوف مقدر، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث اللفظ ويحتمل أموراً كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة‏.‏
وقد يصير هذا الوصف علماً بالغلبة فقيل‏:‏ الحسنى الجنة، وقيل‏:‏ كلمة الشهادة، وقيل‏:‏ الصلاة، وقيل‏:‏ الزكاة‏.‏ وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها‏.‏
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان‏.‏
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى‏.‏
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله‏:‏ ‏{‏وكذب بالحسنى‏}‏‏.‏
والتيسير‏:‏ جعل شيء يسيرَ الحصول، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيراً، أي غير شديد، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهَّل الشيءُ الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏‏.‏
واليسرى في قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ هي ما لا مشقة فيه، وتأنيثها‏:‏ إما بتأويل الحالة، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة، وهي حالة النعيم، أو على تأويلها بالمكانة‏.‏ وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد‏.‏ ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه، أي الملائم‏.‏
والعسرى‏:‏ إما الحالة وهي حالة العسر والشدة، أي العذاب، وإما مكانته وهي جهنّم، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 9، 10‏]‏، فمعنى‏:‏ «نيسره» ندرّجُهُ في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية، فالأعمال اليسرى هي الصالحة، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال‏.‏
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مراداً منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏
وحرف ‏(‏ال‏)‏ في «اليسرى» وفي «العسرى» لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني‏.‏
وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في «نيسره لليسرى» العائدُ إلى ‏{‏من أعطى واتقى‏}‏ هو الميسرَ، وجعل ضمير الغيبة في «نيسره للعسرى» العائدُ إلى ‏{‏من بخل واستغنى‏}‏ هو الميسرَ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له، وإذ وقع المجروران باللام «اليسرى» و«العسرى»، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين‏:‏
الأولى‏:‏ إيفاء فعل «نيسر» على حقيقته وجَعْلُ الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام‏:‏ فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض‏.‏
والثانية‏:‏ أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ و‏{‏للعسرى‏}‏ لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتتِ النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى، أي سنعجّل به ذلك‏.‏
والمعنى‏:‏ سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك حشر علينا يسير‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 44‏]‏، أي سريع عاجل‏.‏ ويكون على هذا الوجه قوله‏:‏ ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه‏:‏ «العسرى»‏.‏ والذي يدعو إلى هذا أن فعل «نيسر» نصبَ ضمير ‏{‏من أعطى واتقى وصدَّق‏}‏، وضمير ‏{‏من بَخل واستغنى وكذَّب، فهو تيسيرٌ ناشئ عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى اتَّقى‏}‏ أو معنى ‏{‏استغنى‏}‏، فالأعمال سابقة لا محالة‏.‏ والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها‏.‏
ويجوز أن يكون معنى الآية‏:‏ أن يُجعل التيسير على حقيقتِهِ ويجعل اليسرى وصفاً أي الحالة اليسرى، والعسرى أي الحالة غير اليسرى‏.‏
وليس في التركيب قلب، والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي «صحيح البخاري» عن علي قال‏:‏ ‏"‏ كنا مع رسول الله في بقيع الغَرقد في جنازة فقال‏:‏ ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مَقْعَده من الجنة ومَقْعَدَه من النار، فقالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نتكِلُ‏؟‏ فقال‏:‏ اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له‏.‏ أما أهل السعادة فَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ ‏"‏ اه‏.‏
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله‏:‏ ‏"‏ ما من أحد إلا وقد كتبَ مقعده ‏"‏ الخ معناه قد علم الله أن أحداً سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُوافيَ عليه، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يُوافِيَ عليه، فقوله‏:‏ «وقد كتب مقعده» جعلت الكتابة تمثيلاً لعلم الله بالمعلومات علماً موافقاً لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصاً دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط‏.‏
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس، ومعنى جوابه‏:‏ أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة‏.‏ وذُكر مقابله وهو العمل السيئ إتماماً للفائدة ولا علاقة له بالجواب‏.‏
وليس مجازه مماثلاً لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيراً للعمل، أي إعداداً وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها‏.‏
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ الآية لأنه قرأها تبييناً واستدلالاً لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومَحَلّ الاستدلال هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره‏}‏‏.‏
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسراً للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلاً للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر، أم كان للعمل مما يزيد السعادة ويُنقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً لأن ثبوت أحد معنَيَي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلاً لثبوت التيسير مِن أصله‏.‏
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله‏:‏ «اعملوا» لأن الآية ذكرت عملاً وذكرت تيسيراً لليسرى وتيسيراً للعسرى، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنياً بها السعادة والعسرى معنياً بها الشقاوة، وما صدْق السعادة الفوز بالجنة، وما صدْقَ الشقاوة الهُويُّ في النار‏.‏
وإذ كان الوعدُ بتيسير اليُسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإِعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات، أي جزاءٌ عن فعلها‏:‏ فالمتيسر‏:‏ تيسير الدوام عليها، وتكون اليسرى صفة للأعمال، وذلك من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والأصل‏:‏ مستيسر له أعمالَه، وعدل عن الإِضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها مُيسرة من الله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ في سورة الأعلى ‏(‏8‏)‏‏.‏
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها، وبين تعلُّق خطابه إياهم بشرائعه، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم‏.‏
وإنما خص الإِعطاء بالذِكْر في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ مع شمول ‏{‏اتقى‏}‏ لمفاده، وخص البخل بالذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وأما من بخل واستغنى‏}‏ مع شمول ‏{‏استغنى‏}‏ له، لتحريض المسلمين على الإِعطاء، فالإِعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين‏.‏
وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم، ومحسن الطباق، أربع مرات بين ‏{‏أعطى‏}‏ و‏{‏بخل‏}‏، وبين ‏{‏اتقى‏}‏، و‏{‏استغنى‏}‏، وبين و‏{‏صدق‏}‏ و‏{‏كذب‏}‏ وبين «اليسرى» و«العسرى»‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما يغني عنه ماله إذا تردى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ أي سنعجل به إلى جهنم‏.‏ فالتقدير‏:‏ إذا تردّى فيها‏.‏
والتردّي‏:‏ السقوط من علوّ إلى سفل، يعني‏:‏ لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئاً من عذاب النار‏.‏
و ‏{‏مَا‏}‏ يجوز أن تكون نافية‏.‏ والتقدير‏:‏ وسَوْف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ‏.‏ ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف‏.‏ والمعنى‏:‏ وما يغني عنه ماله الذي بخل به‏.‏
رَوى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ «أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمرٌ أكله صبيةٌ لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة، فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله اشترِها مني بنخلة في الجنة فقال‏:‏ نعم والذي نفسي بيده، فأعطاها الرجلَ صاحب الصبية ‏"‏ قال عكرمة قال ابن عباس‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للعسرى‏}‏ وهو حديث غريب، ومن أجل قول ابن عباس‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ قال جماعة‏:‏ السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيراً ما يقع في كلام المتقدمين قولهم‏:‏ فأنزل الله في كذا قوله كذا، أنهم يريدون به أن القصّة ممّا تشمله الآية‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كمْ من عَذْق رَدَاحْ في الجنة لأبي الدحداح ‏"‏ ولمح إليها بشار بن برد في قوله‏:‏
إن النُحيلة إذْ يميل بها الهوى *** كالعَذق مال على أبي الدحداح
تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏
‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏‏}‏
استئناف مقرّر لمضمون الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 10‏]‏، وذلك لإِلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتسابَ السيئات، فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات، والتيْسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات‏.‏ وذلك الميل هو المعبَّرُ عنه بالكسب عند الأشعري، وسماه المعتزلة‏:‏ قدرة العبد، وهو أيضاً الذي اشتبه على الجبرية فسمَّوْه الجبر‏.‏
وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإِنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم مَا دعاهم إليه لألجأهم إلى الإِيمان‏.‏ فقد حكي عنهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وحرف ‏(‏على‏)‏ إذا وقع بين اسم وما يدل على فِعل يُفيد معنى اللزوم، أي لازم لنا هُدَى الناس، وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم، فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلاً للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رُسلاً مبينين لما قد يخفى أمرُه من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما علموه‏.‏
وعطف ‏{‏وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ تتميم وتنبيه على أن تعهّد الله لعباده بالهُدى فضلٌ منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللَّه ملك السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقاً على الله تعالى إلا ما تفضل به‏.‏
وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده‏.‏ وأن نظام أمور الدنيا وترتب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى، فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏
‏{‏فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏
يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذِكري إذا كان فعل‏:‏ «أنذرتكم» مستعملاً في ماضيه حقيقةً وكان المراد الإِنذار الذي اشتمل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 8 11‏]‏‏.‏ وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدلّ على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصَّللٍ على إنذارٍ مجمل‏.‏
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعلُ «أنذرتكم» مراداً به الحال وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في‏:‏ قد قَامت الصلاة، وقولهم‏:‏ عزمت عليك إلاّ ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود‏:‏ كبعتُ، وهو تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏ والمعنى‏:‏ هديكم فأنذرتكم إبلاغاً في الهدى‏.‏
وتنكير ‏{‏ناراً‏}‏ للتهويل، وجملة ‏{‏تلظى‏}‏ نعت‏.‏ وتلظى‏:‏ تلتهب من شدة الاشتعال‏.‏ وهو مشتق من اللّظى مصدر‏:‏ لَظَيَتْ النار كرَضيتْ إذا التهبت، وأصل ‏{‏تلظى‏}‏ تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار‏.‏
وجملة ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ صفة ثانية أو حال من ‏{‏ناراً‏}‏ بعد أن وصفت‏.‏ وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ والقرينة على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ الآية‏.‏
وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال‏:‏ هذه الآية التي من أجلها قال أهلُ الإِرجاء بالإِرجاء فزعموا‏:‏ أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا‏:‏ هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اه‏.‏
والمعنى‏:‏ لا يصلاها إلا أنتم‏.‏
وقد أتبع ‏{‏الأشقى‏}‏ بصفة ‏{‏الذي كذب وتولى‏}‏ لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا، أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين‏:‏ إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإِسلام بشراشرهم، ولذلك عطف ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ الخ تصريحاً بمفهوم القصر وتكميلاً للمقابلة‏.‏
و ‏{‏الأشقى‏}‏ و‏{‏الأتقى‏}‏ مراد بهما‏:‏ الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام‏.‏
وذكر القرطبي‏:‏ أن مالكاً قال‏:‏ صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ فلما بلغ‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظى‏}‏ وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعدّاها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى»‏.‏
ووصف ‏{‏الأشقى‏}‏ بصلة ‏{‏الذي كذب وتولى‏}‏، ووصف ‏{‏الأتقى‏}‏ بصلة ‏{‏الذي يؤتى ماله يتزكى‏}‏ للإِيذان بأن للصلة تسبباً في الحكم‏.‏
وبين ‏{‏الأشقى‏}‏ و‏{‏الأتقى‏}‏ محسن الجناس المضارع‏.‏
وجملة ‏{‏يتزكى‏}‏ حال في ضمير ‏{‏يؤتي‏}‏، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله لقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضاً بالمشركين الذي يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور‏.‏
والتزكي‏:‏ تكلف الزكاء، وهو النماء من الخير‏.‏
والمَال‏:‏ اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها‏.‏
ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل‏.‏
وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى‏}‏ الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمَّا أعتق بلالاً قال المشركون‏:‏ ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده‏.‏ وهو قول من بهتانهم ‏(‏يعللون به أنفسهم كراهية لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين‏)‏، فأنزل الله تكذيبهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى‏}‏ مراداً به بعض من شمله عموم ‏{‏الذي يؤتي ماله يتزكى‏}‏، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص للعموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه ذوي القربى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏‏.‏
و ‏{‏عنده‏}‏ ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازاً في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب، قال الحارث بن حِلِّزَة‏:‏
من لنا عِندَه من الخير آيا *** ت ثلاث في كلهن القضاء
و‏{‏من نعمة‏}‏ اسم ‏{‏ما‏}‏ النافية جر ب ‏{‏من‏}‏ الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي، والاستثناء في ‏{‏إلا ابتغاء وجه ربه‏}‏ مُنقطع، أي لكن ابتغاء لوجه الله‏.‏
والابتغاء‏:‏ الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي‏.‏
والوجه مستعمل مراداً به الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ وعد بالثواب الجزيل الذي يرضى صاحبه‏.‏ وهذا تتميم لقوله‏:‏ ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله‏:‏ ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات‏.‏
وحرف «سَوف» لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏ أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد‏.‏
واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر‏.‏
وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون‏.‏ وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصّل‏.‏
سورة الضحى
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏
{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏‏}‏
القسم لتأكيد الخبر ردّاً على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال‏.‏ فالتأكيد منصبٌ على التعريض المعرض به لإِبطال دعوى المشركين‏.‏ فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه‏.‏
ومناسبة القسم ب ‏{‏الضحى والليل‏}‏ أن الضحى وقتُ انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يَسمع فيه المشركون قراءتَه من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام‏.‏
ولذلك قُيد ‏{‏الليل‏}‏ بظَرف ‏{‏إذا سجى‏}‏‏.‏ فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏
والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وكتب في المصحف ‏{‏والضحى‏}‏ بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها مُنقلبَة الألِف عن الياء، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تُميل الألفَ التي من شأنها أن لا تُمال إذا وقعت مع ألففٍ تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في «شرح كافيته»‏.‏
ويقال‏:‏ سجا الليل سَجْواً بفتح فسكون، وسُجُوا بضمتين وتشديد الواو، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة ‏{‏الضحى‏}‏‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏ما ودعك ربك‏}‏ الخ جواب القسم، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام‏.‏
والتوديع‏:‏ تحيةُ من يريد السفر‏.‏
واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً‏.‏
وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي‏.‏
وقد عطف عليه‏:‏ ‏{‏وما قلى‏}‏ للإِتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم‏:‏ ودَّعه ربه، وقال بعضهم‏:‏ قَلاه ربه، يريدون التهكم‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وما قلى‏}‏ عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها‏.‏
والقليْ ‏(‏بفتح القاف مع سكون اللام‏)‏ والقِلَى ‏(‏بكسر القاف مع فتح اللام‏)‏‏:‏ البغض الشديد، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة‏.‏
والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج‏:‏ «احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً أو نحوها‏.‏ فقال المشركون‏:‏ إن محمداً ودَّعه ربه وقلاه، فنزلت الآية»‏.‏
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين‏:‏
أولاهما‏:‏ قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر، وقد قيل‏:‏ إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلاً‏.‏
وثانيتهما‏:‏ فترة بعد نزول نحو من ثماننِ سور، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور‏.‏
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تسْتَجِمَّ نفسه وتعتاد قوته تحمُّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً ثم كانت الثانية اثني عشر يوماً أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر‏.‏
وحُذف مفعول ‏{‏قلى‏}‏ لدلالة ‏{‏ودعك‏}‏ عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذاكرين اللَّه كثيراً والذاكرات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏ وهو إيجاز لفظيّ لظهور المحذوف ومثله قوله‏:‏ ‏{‏فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏، ف ‏{‏هدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏فأغنى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 8‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏
‏{‏وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏والضحى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1‏]‏ فهو كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نُفي القِلى بشّر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة‏.‏
وما في تعريف «الآخرة» و‏{‏الأولى‏}‏ من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير‏.‏
والآخرة‏:‏ مؤنث الآخرِ، و‏{‏الأولى‏}‏‏:‏ مؤنث الأوَّل، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كِلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيراً له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جارياً على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة‏.‏
ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد‏.‏
فاللام في «الآخرة» و‏{‏الأولى‏}‏ لام الجنس، أي كُلّ آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لك‏}‏ لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دِينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإِسلام وأن يمكِّن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم‏.‏ وقد روى الطبراني والبيهقي في «دلائل النبوءة» عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ ‏"‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏‏}‏
هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏98‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ في سورة الليل ‏(‏21‏)‏‏.‏
وحذف المفعول الثاني ليعطيك‏}‏ ليعمّ كل ما يرجوه صلى الله عليه وسلم من خير لنفسه ولأمته فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة‏.‏
وجيء بفاء التعقيب في ‏{‏فترضى‏}‏ لإفادة كون العطاءِ عاجلَ النفع بحيث يحصل به رضى المعطَى عند العطاء فَلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تَربص‏.‏
وتعريف ‏{‏ربك‏}‏ بالإضافة دون اسم الله العَلَم لما يؤذن به لفظ ‏(‏رب‏)‏ من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإِشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رَب إلى ضميره‏.‏
وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من النصر والظَفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجاً وما فُتح على الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من أقطار الأرض شرقاً وغرباً‏.‏
واعلم أن اللام في ‏{‏وللآخرة خير‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 4‏]‏ وفي ‏{‏ولسوف يعطيك‏}‏ جزَم صاحب «الكشاف» بأنه لام الابتداء وقدر مبتدأ محذوفاً‏.‏ والتقدير‏:‏ ولأنت سوف يعطيك ربك‏.‏ وقال‏:‏ إن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد وحيث تعين أن اللام لام الابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على جملة من مبتدأ وخبر تعين تقدير المبتدأ‏.‏ واختار ابن الحاجب أن اللام في ‏{‏ولسوف يعطيك ربك‏}‏ لام التوكيد ‏(‏يعني لام جواب القسم‏)‏‏.‏ ووافقه ابن هشام في «مغني اللبيب» وأشعر كلامه أن وجود حرف التنفيس مانع من لحاق نون التَوكيد ولذلك تجب اللام في الجملة‏.‏ وأقول في كون وجود حرف التنفيس يوجب كون اللاّم لام جواب قسم محلّ نظر‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏
‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏
استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد، أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى‏.‏
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياساً على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويُسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم‏.‏ ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه‏.‏
والاستفهام تقريري، وفعل ‏{‏يجدك‏}‏ مضارع وجَد بمعنى ألفى وصادف، وهوالذي يتعدى إلى مفعول واحد ومفعوله ضمير المخاطب‏.‏ و‏{‏يتيماً‏}‏ حال، وكذلك ‏{‏ضالاً‏}‏ و‏{‏عائلاً‏}‏‏.‏ والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع لِلذي تعسرت عليه بحالة من وجَد شخصاً في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه‏.‏
واليتيم‏:‏ الصبي الذي مات أبوه وقد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو جنين أو في أول المدة من ولادته‏.‏
والإيواء‏:‏ مصدر أوَى إلى البيت، إذا رجع إليه، فالإيواء‏:‏ الإِرجاع إلى المسكن، فهمزته الأولى همزة التعدية، أي جعله آوياً، وقد أطلق الإِيواء على الكفالة وكفاية الحاجة مجازاً أو استعارة، فالمعنى أنشأك على كمال الإِدراك والاستقامة وكنتَ على تربية كاملة مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائص لأنهم لا يجدون من يُعنى بتهذيبهم وتعهدِ أحوالهم الخُلقية‏.‏ وفي الحديث «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيراً من تربية الأبوين‏.‏
والضّلال‏:‏ عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود سواء سلك السائر طريقاً آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائراً لا يعرف أيَّ طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى‏:‏ أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرَّهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألْهَمَه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى‏.‏
وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإِشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبَيْن الخلوّ عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافياً في قبح الفواحش عَلَى إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل‏.‏
ولم يختلف أصحابنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلاً من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافَهَ القرآن به المشركين بقوله‏:‏ ‏{‏فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 69‏]‏، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا‏.‏
والعائل‏:‏ الذي لا مال له، والفقر يسمى عَيْلَة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللَّه من فضله إن شاء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وقد أغناه الله غناءين‏:‏ أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها‏.‏
وحذفت مفاعيل ‏{‏فآوى‏}‏، ‏{‏فهدى‏}‏، ‏{‏فأغنى‏}‏ للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها، وحدفُها إيجاز، وفيه رعاية على الفواصل‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏
‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏
الفاء الأولى فصيحة‏.‏
و ‏(‏أما‏)‏ تفيد شرطاً مقدراً تقديره‏:‏ مهما يكن من شيء، فكان مفادها مشعراً بشرط آخر مقدر هوالذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك، وبيّن له الشكر بقوله‏:‏ ‏{‏أمّا اليتيم فلا تقهر‏}‏ الخ‏.‏
وقد جُعل الشكر هنا مناسباً للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير‏:‏ إذا أردتَ الشكر، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصُدر الكلام ب ‏(‏أما‏)‏ التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة‏.‏
ولما كانت ‏(‏أمَّا‏)‏ بمعنى‏:‏ ومهما يكن شيء، قرن جوابها بالفاء‏.‏
واليتيم مفعول لفعل ‏{‏فلا تقهر‏}‏‏.‏ وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعاً وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب ‏(‏أما‏)‏ أن يكون مفصولاً عن ‏(‏أما‏)‏ بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط‏.‏ ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين ‏(‏أما‏)‏ وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإِرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع ‏(‏أما‏)‏ لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماماً يرتكز في بعض أجزاء الكلام، فاجتلاب ‏(‏أما‏)‏ في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلِّقات الجملة، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم ‏{‏السائل‏}‏ وتقديم ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ على فعليهما‏.‏
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها‏.‏ فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب‏.‏ وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة ‏{‏السائل‏}‏ بالسائل عن الدين والهدى، فقوله‏:‏ ‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر‏}‏ مقابل لقوله‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ لا محالة، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليُتم، فكن أنت مُكرماً للأيتام رفيقاً بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 28‏]‏‏.‏
والقهر‏:‏ الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا، وتكون هذه المعاني بالفِعل كالدَّعّ والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا لهم قولاً معروفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏، وتكون بالإِشارة مثل عُبوس الوجه، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامَل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأما السائل فلا تنهر‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق، فالضال معتبر من نصف السائلين‏.‏
والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسؤول كما قال كعب‏:‏
وقال كُل خليل كنت آمله‏:‏ *** لا أُلْهِيَنَّك أني عنك مشغول
فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين‏.‏
فلا يختص السائلُ بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عيينة‏.‏ روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستَوْصوا بهم خيراً ‏"‏ قال هارون العبدي‏:‏ كنا إذا أتيْنا أبا سعيد يقول‏:‏ مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتعريف في ‏{‏السائل‏}‏ تعريف الجنس فيعم كل سائل، أي عمّا يُسال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله‏.‏
ويكون النشر على ترتيب اللف‏.‏
فإن فسر ‏{‏السائل‏}‏ بسائل معروف كان مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ووجدك عائلاً فأغنى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 8‏]‏ وكان من النشر المشوش، أي المخالف لترتيب اللف، وهو ما درج عليه «الكشاف»‏.‏
والنهر‏:‏ الزجر بالقول مثل أن يقول‏:‏ إليك عني‏.‏ ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجاً وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإِسلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة ربك فحدث‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ووجدك عائلاً فأغنى‏}‏ ‏[‏الصحى‏:‏ 8‏]‏‏.‏
فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها‏.‏
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموماً في المقام الخطابي، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نِعمة الإِغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلاً جامعاً‏.‏
فإن جعل قوله‏:‏ ‏{‏وأما السائل فلا تنهر‏}‏ مقابل قوله ‏{‏ووجدك عائلاً فأغنى‏}‏ على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة ربك فحدث‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ على طريقة اللف والنشر المشوش أيضاً‏.‏
وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق‏.‏
والتحديث‏:‏ الإِخبار، أي أخْبِر بما أنعم الله عليك اعترافاً بفضله، وذلك من الشكر، والقول في تقديم المجرور وهو ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ على متعلَّقه كالقول في تقديم ‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر‏}‏‏.‏
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به، وأصل الأمر الوجوب، فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه ما أمر به، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدلّ دليل على الخصوصية، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة‏.‏
وأما مساواة الأمة له في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شتّى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر، ونعمة الرب في الآية مُجملة‏.‏
فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يُعلم الناسَ الإِسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏.‏
ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له‏:‏ ‏"‏ اعدل يا رسول الله فقال‏:‏ أيأمنُني الله على وحيه ولا تأمنوني ‏"‏ ومنها ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خالص من عُروض المعارض لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت‏.‏
وأما الأمة فقد يكون التحديث بالنعمة منهم محفوفاً برياء أو تفاخر‏.‏ وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها‏.‏ وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع، وطريقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما‏.‏ وفي «تفسير الفخر»‏:‏ سئل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الصحابة فأثنى عليهم فقالوا له‏:‏ فحدثنا عن نفسك فقال‏:‏ مهلاً فقد نهى الله عن التزكية، فقيل له‏:‏ أليس الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة ربك فحدث‏}‏ فقال‏:‏ فإني أُحدِّث كنتُ إذا سُئلتُ أعطيت‏.‏ وإذا سُكِت ابتديت، وبين الجوانح علم جَم فاسألوني‏.‏ فمن العلماء من خَص النعمة في قوله‏:‏ ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ بنعمة القرآن ونعمة النبوءة وقاله مجاهد‏.‏ ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة‏.‏ رواه الطبري عن أبي نضرة‏.‏
وقال القرطبي‏:‏ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولغيره‏.‏ قال عياض في «الشفاء»‏:‏ «وهذا خاص له عام لأمته»‏.‏
وعن عَمرو بن ميمون‏:‏ إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له رزق الله من الصلاة البارحةَ كذا وكذا، وعن عبد الله بن غالب‏:‏ أنه كان إذا أصبح يقول‏:‏ لقد رزقني الله البارحةَ كَذا، قرأتُ كذا، صليت كذا، ذكرت الله كذا، فقلنا له‏:‏ يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا، قال‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأما بنعمة ربك فحدث‏}‏ وتقولون أنتم‏:‏ لا تحدث بنعمة الله‏.‏ وذكر ابن العربي عن أيوب قال‏:‏ دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال‏:‏ لقد رزق الله البارحة‏:‏ صليت كذا، وسبحت كذا، قال أيوب‏:‏ فاحتملت ذلك لأبي رجاء‏.‏ وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به قال ابن العربي‏:‏ إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وإسَاءة الظن بصاحبه‏.‏ وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي‏:‏ إذا أصبتَ خيراً أوعملتَ خيراً فحدث به الثقة من إخوانك‏.‏ قال الفخر‏:‏ إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire