jeudi 26 juin 2014

كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد

سورة الملك
تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏
{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحاً يؤذن بأن ما حَوتْه يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده‏.‏ ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان‏.‏
وفعل ‏{‏تَبَاركَ‏}‏ يدل على المبالغة في وفرة الخير، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى‏.‏
وصيغة تفاعَل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تَطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل‏:‏ تواصل الحبل‏.‏
وهو مشتق من البَركة، وهي زيادة الخير ووفرته، وتقدمت البركة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبركات عليك في‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وتقدم ‏{‏تَبَارَكَ‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الله رب العالمين في أول‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏
وهذا الكلام يجوز أن يكون مراداً به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليماً للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في ‏{‏الحمد لله ربَ العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏:‏ إمّا على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء، وإمّا باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هاذين المعنيين، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وجُعل المسندُ إليه اسمَ موصول للإِيذان بأن معنى الصلة، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلاّ لله‏.‏
وذكر ‏{‏الذي بيده الملك‏}‏ هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده إلى قوله‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1 2‏]‏‏.‏
والباء في ‏{‏بِيَدِهِ‏}‏ يجوز أن تكون بمعنى ‏(‏في‏)‏ مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏ وقول امرء القيس‏:‏
بسقط اللوى *** فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة المُلك، والمُلك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها مَلِكاً‏.‏
والتعريف في ‏{‏المُلك‏}‏ على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلاّ وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه‏.‏
واليَد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأيد‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ وقول العرب‏:‏ مَا لي بهذا الأمر يَدَان‏.‏
ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون ‏{‏المُلكُ‏}‏ اسماً فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم‏.‏
وتقديم المسند وهو ‏{‏بِيَدِهِ‏}‏ على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا بيد غيره‏.‏
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بمُلك غيره، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك مُلك غير تام لأنه لا يعمّ المملوكات كلها، ولأنه معرض للزوال، ومُلك الله هو الملك الحقيقي، قال‏:‏ ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏
فالناس يتوهمون أمثال ذلك مُلكاً وليس كما يتوهمون‏.‏
واليد‏:‏ تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات‏.‏
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء في‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏
و ‏{‏المُلك‏}‏ بضم الميم‏:‏ اسم لأكمل أحوال المِلك بكسر الميم، والمِلك بالكسر جنس للمُلك بالضم، وفسر المُلك المضموم بضبط الشيء المتصرَّف فيه بالحُكم، وهو تفسير قاصر، وأرى أن يُفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفاً كاملاً بتدبير ورعاية، فكل مُلك ‏(‏بالضم‏)‏ مِلك ‏(‏بالكسر‏)‏ وليس كل مِلك مُلكاً‏.‏
وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏مَلِك يوم الدين في‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏أنّى يكون له الملك علينا في‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 247‏]‏، وجملة‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏بِيده المُلك‏}‏ التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ مفيداً معنى آخر غير ما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏بيده الملك‏}‏ تفادياً من أن يكون معناه تأكيداً لمعنى ‏{‏بيده الملك‏}‏ وتكون هذه الجملة تتميماً للصلة‏.‏ وفي معنى صلة ثانية ثمّ عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق سبع سموات‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏‏.‏
و ‏{‏شيء‏}‏ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة‏.‏ وقد يطلق ‏(‏الشيء‏)‏ على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات‏.‏ وأما التزام الأشاعرة‏:‏ أن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود، فتفرعت عليه مسألة‏:‏ أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها، والخلاف فيها لفظي، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة‏.‏
وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏على كل شيء قدير‏}‏ للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السموات والأرض ولا على الإحياء والإماتة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏
‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏
صفة ل ‏{‏الذي بيده الملك‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏ فلما شمل قوله‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏ تعلق القدرة بالموجود والمعدوم أتبع بوصفه تعالى بالتصرف الذي منه خلق المخلوقات وأعراضِها لأن الخلق أعظم تعلق القدرةِ بالمقدور لدلالته على صفة القدرة وعلى صفة العلم‏.‏
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموتُ والحياة لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه‏.‏
فليس ذكر خلق الموت والحياة تفصيلاً لمعنى المُلك بل هو وصف مستقل‏.‏
والاقتصار على خلق الموت والحياة لأنهما حالتان هما مظهرا تعلق القدرة بالمقدور في الذاتتِ والعرض لأن الموت والحياة عرضان والإنسان معروض لهما‏.‏
والعَرَض لا يقوم بنفسه فلما ذُكر خلق العَرَض علم من ذكره خَلْق معروضه بدلالة الاقتضاء‏.‏
وأوثر ذكر الموت والحياة لِما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضاديْن على معروض واحد، وللدلالة على كمال صنع الصانع، فالموت والحياة عرضان يعرضان للموجود من الحيوان، والموتُ يُعِد الموجود للفناء والحياة تُعِد الموجود للعمل للبقاء مدة‏.‏ وهما عند المتكلمين من الأعراض المختصة بالحي، وعند الحكماء من مقولة الكيف ومن قسم الكيفيات النفسانية منه‏.‏
فالحياة‏:‏ قوة تَتْبَع اعتدالَ المزاج النوعي لتَفيضَ منها سائر القوى‏.‏
و ‏{‏الموت‏}‏‏:‏ كيفية عدمية هو عدم الحياة عما شأنه أن يوصف بالحياة أو الموت، أي زوال الحياة عن الحي، فبين الحياة والموت تقابُلُ العَدَم والمَلَكة‏.‏
ومعنى خلق الحياة‏:‏ خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة، ففي خَلقه خلقُ ما به قوامه، وأما معنى ‏{‏خلق الموت‏}‏ فإيجاد أسبابه وإلاّ فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي، ولكنه لما كان عرضاً للمخلوق عبّر عن حصوله بالخَلق تبعاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تَعْمَلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏‏.‏
وأيضاً لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه‏.‏ والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهراً عظيماً من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصْف القاهِر‏.‏
فأما الإِحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم‏.‏
فمعنى القدرة في الإِماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة‏.‏
ومعنى القدرة في الإِحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم، وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإِنعام‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وفي ذكرهما تخلص إلى ما يترتب عليهما من الآثار التي أعظمها العملُ في الحياة والجزاءُ عليه بعد الموت، وذلك ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له وهو الجزاء على العمل للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين في الحيوان لتظهر حكمة خلق الإنسان ويُفضِيا به إلى الوجود الخالد، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏
‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عَبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏
وهذا التعليل من قبيل الإِدماج‏.‏
وفيه استدلال على الوحدانية بدلالة في أنفسهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏‏.‏
والمعنى‏:‏ أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات، ثم أمواتاً يَخلُصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها‏.‏
فالتعريف في ‏{‏الموتَ‏}‏ و‏{‏والحياة‏}‏ تعريف الجنس‏.‏ وفي الكلام تقديرُ‏:‏ هو الذي خلق الموت والحياة لتحيَوا فيبلوكم أيكم أحسن عملاً، وتموتوا فتُجزوا على حسب تلك البلوى، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة‏.‏
وجملة ‏{‏ليبلوكم‏}‏ إلى آخرها معترضة بين الموصولين‏.‏
واللام في ‏{‏ليبلوكم‏}‏ لام التعليل، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم‏.‏ الخ‏.‏
وتعليل فعل بعلةٍ لا يقتضي انحصار علله في العلة المذكورة فإن الفعل الواحد تكون له علل متعددة فيذكر منها ما يستدعيه المقامَ، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ تعليلٌ لفعل ‏{‏خَلَقَ‏}‏ باعتبار المعطوف على مفعوله، وهو ‏{‏والحياة‏}‏ لأن حياة الإِنسان حياة خاصة تصحح للموصوف بمن قامت به الإدراك الخاص الذي يندفع به إلى العمل باختياره، وذلك العمل هو الذي يوصف بالحسن والقبح، وهو ما دل عليه بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ أي وأيكم أقبح عملاً‏.‏
ولذلك فذكر خلق الموت إتمام للاستدلال على دقيق الصنع الإلهي وهو المسوق له الكلام، وذكِر خلق الحياة إدماج للتذكير، وهو من أغراض السورة‏.‏
ولا أشك في أن بناء هذا العالم على ناموس الموت والحياة له حكمة عظيمة يعسر على الأفهام الاطلاع عليها‏.‏
والبلوى‏:‏ الاختبار وهي هنا مستعارة للعلم، أي ليعلم علم ظَهورٍ أو مستعارةٌ لإظهار الأمر الخفي، فجعل إظهار الشيء الخفي شبيهاً بالاختبار‏.‏
وجملة ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ مرتبطة ب ‏{‏يبلوكم‏}‏‏.‏
و ‏(‏أيُّ‏)‏ اسم استفهام ورفعه يعيّن أنه مبتدأ وأنه غير معمول للفظٍ قبله فوجب بيان موقع هذه الجملة، وفيه وجهان‏:‏
أحدهما قول الفراء والزجاج والزمخشري في تفسير أول سورة هود أن جملة الاستفهام سادة مَسدَّ المفعول الثاني، وأن فعل ‏{‏يبلوكم‏}‏ المضمن معنى ‏(‏يَعْلَمكم‏)‏ معلق عن العمل في المفعول الثاني، وليس وجود المفعول الأول مانعاً من تعليق الفعل عن العمل في المفعول الثاني وإن لم يكن كثيراً في الكلام‏.‏
الوجه الثاني أن تكون الجملة واقعة في محل المفعول الثاني ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أي تؤول الجملة بمعنى مفردٍ تقديره‏:‏ ليعلمكم أهذا الفريق أحسنُ عملاً أم الفريقُ الآخر‏.‏
وهذا مختار صاحب «الكشاف» في تفسير هذه الآية‏.‏ ومبناه على أن تعليق أفعال العلم عن العمل لا يستقيم إلاّ إذا لم يذكر للفعل مفعول فإذا ذكر مفعول لم يصح تعليق الفعل عن المفعول الثاني، وحاصله‏:‏ أن التقدير ليَعلم الذين يقال في حقهم ‏{‏أيهم أحسن عملاً‏}‏ على نحو قوله تعالى‏:‏
‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشدُّ على الرحمان عتياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 69‏]‏ أي‏:‏ لنَنْزِعَنّ الذين يقال فيهم‏:‏ أيهم أشد‏.‏
وجوز صاحب «التقريب» أن يكون التقدير‏:‏ ليعلم جواب سؤال سائلٍ‏:‏ أيكُم أحسنُ عملاً‏.‏
قلت‏:‏ ولك أن تجعل جملة‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ مستأنفة وتجعلَ الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏ ويكون الاستفهام مستعملاً في التحْضيض على حُسن العمل كما هو في قول طرفة‏:‏
إذا القوم قالوا مَن فتًى خلتُ أنني *** عُنيت فلم أكسل ولَم أتبلَّد
فجعل الاستفهام تحضيضاً‏.‏
و ‏{‏أحسن‏}‏ تفضيل، أي أحسن عملاً من غيره، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأوْلى لأن إحصاءها والإِحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع، ومن الفساد في النفس، وفي نظام العالم، وذلك أولى بالعقاب عليه ففي قوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ إيجاز‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏وهو العزيز الغفور‏}‏ تذييل لجملة‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ إشارة إلى أن صفاته تعالى تقتضي تعلقاً بمتعلقاتها لئلا تكون معطلة في بعض الأحوال والأزمان فيفضي ذلك إلى نقائضها، فأما ‏{‏العزيز‏}‏ فهو الغالب الذي لا يعجز عن شيء، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ كما تقدم آنفاً، أي ليجزيكم جزاء العزيز، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة‏.‏ وهذا حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله ‏{‏ليبلوكم‏}‏‏.‏
وأما ‏{‏الغفور‏}‏ فهو الذي يكرم أولياءه ويصفح عن فلتاتهم فهو مناسب للجزاء على الطاعات وكناية عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏ فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏
‏{‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏
صفة ثانية للذي بيده الملك، أعقب التذكيرُ بتصرف الله بخلق الإِنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإِنسان وهي السماوات، ومفيدةٌ وصفاً من عظيم صفات الأفعال الإلهية، ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجُملُ الثلاث جارية على طريقة واحدة‏.‏
والسماوات تكرر ذكرها في القرآن، والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 29‏]‏ فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس‏.‏
والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وُصفت به السماوات للمبالغة، أي شديدة المطابقة، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام‏.‏
ويجوز أن تكون ‏{‏طِباقاً‏}‏ جمع طَبَق، والطبَق المساوي في حالةٍ ما، ومنه قولهم في المثَل‏:‏ «وافَقَ شَنٌّ طبَقَه»‏.‏
والمعنى‏:‏ أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق، أو المعنى‏:‏ أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرّك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا تَرْتَطِمُ ولا يتداخل سيرها‏.‏
وليس في قوله‏:‏ ‏{‏طباقاً‏}‏ ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق ‏(‏فلا تَكُن طَبَاقاء‏)‏‏.‏
وجاءت جملة ‏{‏ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت‏}‏ تقريراً لقوله‏:‏ ‏{‏خلق سبع سموات طباقاً‏}‏‏.‏
فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق، أي التماثل‏.‏ والمعنى‏:‏ ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتاً‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمان من تفاوت فعبر بخلق الرحمان لتكون الجملة تذييلاً لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏خلق سبع سماوات طباقاً‏}‏، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها، أي كانت السماوات طباقاً لأنها من خلق الرحمان، وليس فيما خلق الرحمان من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات‏.‏
والتفاوت بوزن التفاعل‏:‏ شدة الفَوت، والفوت‏:‏ البعد، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة‏.‏
ويقال‏:‏ تفوَّت الأمر أيضاً، وقيل‏:‏ إن تفوَّت، بمعنى حصل فيه عيب‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏من تفاوت‏}‏‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏من تفوُّت‏}‏ بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة‏.‏
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس‏.‏
والخطاب لغير معين، أي لا تَرى أيها الرائي تفاوتاً‏.‏
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك مُمكن لكل من يبصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ فكأنه قال‏:‏ ما تَرون في خلق الرحمان من تفاوت، فيجوز أن يكون ‏{‏خلق الرحمان‏}‏ بمعنى المفعول كما في قوله تعالى‏:‏
‏{‏هذا خَلْق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏، ويراد منه السماوات، والمعنى‏:‏ ما ترى في السماوات من تفاوت، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه ‏{‏الرحمان‏}‏ المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏خلق‏}‏ مصدراً فيشمل خلق السماوات وخلقَ غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهاراً في مقام الإِضمار‏.‏
والتعبير بوصف ‏{‏الرحمان‏}‏ دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سبباً لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وأيضاً في ذلك الوصف تورك على المشركين إذْ أنكروا اسمه تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمان‏}‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏.‏
وفرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فارجع البصر‏}‏ الخ‏.‏ والتفريع للتسبب، أي انتفاء رؤية التفاوت، جعل سبباً للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوماً عن يقين دون تقليد للمخبِر‏.‏
ورَجْع البصر‏:‏ تكريره والرجْع‏:‏ العود إلى الموضع الذي يجاء منه، وفِعل‏:‏ رَجع يكون قاصراً ومتعدياً إلى مفعول بمعنى‏:‏ أرْجَعَ، فأرجع هنا فعل أمر من رجع المتعدي‏.‏
والرَّجع يقتضي سبق حلول بالموضع، فالمعنى‏:‏ أعِد النظر، وهو النظر الذي دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ما تَرى في خلق الرحمان من تفاوت‏}‏ أي أعد رؤية السماوات وأنها لا تفاوت فيها إعادة تحقيق وتبصر، كما يقال‏:‏ أعِدْ نَظَراً‏.‏
والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فارجع البصر‏}‏ الخ‏.‏ خطاب لغير معين‏.‏
وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال‏.‏ والبصر مستعمل في حقيقته‏.‏ والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها‏.‏
وهذا يتصل بمسألة إيمان المقلد وما اختلف فيه من الرواية عن الشيخ أبي الحسن الأشعري‏.‏
والاستفهام في ‏{‏هل ترى من فطور‏}‏ تقريري ووقع ب ‏{‏هل‏}‏ لأن ‏{‏هل‏}‏ تفيد تأكيد الاستفهام إذ هي بمعنى ‏(‏قد‏)‏ في الاستفهام، وفي ذلك تأكيد وحث على التبصر والتأمل، أي لا تقتنع بنظرة ونظرتين، فتقول‏:‏ لم أجد فُطوراً، بل كَرّر النظر وعاوده باحثاً عن مصادفة فطور لعلك تجده‏.‏
والفطور‏:‏ جمع فَطْر بفتح الفاء وسكون الطاء، وهو الشَق والصدع، أي لا يسعك إلاّ أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقاً، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامِه الشمسي، قال تعالى‏:‏
‏{‏وفُتحت السماء فكانت أبواباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏إذا السماء انفطرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وعطْف ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ دال على التراخي الرتبي كما هو شأن ‏{‏ثم‏}‏ في عطف الجمل، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب ‏{‏ثم‏}‏ هنا أهمّ وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخَلق رسوخاً ويقيناً‏.‏
و ‏{‏كرتين‏}‏ تثنية كرَّة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكَرَّة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عَود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككَرة المقاتل يحمِل على العدوّ بعد أن يفر فراراً مصنوعاً‏.‏ وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضياً تثنية مرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ لأنه أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولاً‏.‏
وتثنية ‏{‏كرتين‏}‏ ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم‏:‏ «لَبَّيك وسَعديك» يريدون تلبيات كثيرة وإسعاداً كثيراً، وقولهم‏:‏ دَواليك، ومنه المثل «دُهْدُرَّيْن، سَعْدُ القَين» ‏(‏الدُّهْدُرُّ الباطل، أي باطلاً على باطل، أي أتيتَ يا سعدُ القَيْن دهدرين وهو تثنية دُهْدرّ الدال المهملة في أوله مضمومة فهاء ساكنة فدال مهملة مضمومة فراء مشددة‏)‏ وأصله كلمة فارسية نقلها العرب وجعلوها بمعنى الباطل‏.‏ وسبب النقل مختلف فيه وتثنيته مكنّى بها عن مضاعفة الباطل، وكانوا يقولون هذا المثل عند تكذيب الرجل صاحبَه وأما سعد القين فهو اسم رجل كان قيناً وكان يمرّ على الأحياء لصقل سيوفهم وإصلاححِ أسلحتهم فكان يُشيع أنه راحل غَداً ليُسرع أهل الحي بجلب ما يحتاج للإِصلاح فإذا أتوه بها أقام ولم يرحل فضُرب به المثل في الكذب فكان هذا المثل جامعاً لمثلين؛ وقد ذكره الزمخشري في «المستقصى»، والميداني في «مجمع الأمثال» وأطال‏.‏
وأصل استعمال التثنية في معنى التكرير أنهم اختصروا بالتثنية تعداد ذكر الاسم تعداداً مشيراً إلى التكثير‏.‏
وقريب من هذا القبيل قولهم‏:‏ وقَع كذَا غيرَ مرة، أي مرات عديدة‏.‏
فمعنى ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ عاوِد التأمّلَ في خلق السماوات وغيرها غير مرة والانقلاب‏:‏ الرجوع يقال‏:‏ انقلب إلى أهله، أي رجع إلى منزله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 31‏]‏ وإيثار فعل‏:‏ ‏{‏ينقلب‏}‏ هنا دون‏:‏ يرجع، لئلا يلتبس بفعل ‏{‏ارجع‏}‏ المذكور قبله‏.‏ وهذا من خصائص الإِعجاز نظير إيثار كلمة ‏{‏كرتين‏}‏ كما ذكرناه آنفاً‏.‏
والخاسئ‏:‏ الخائب، أي الذي لم يجد ما يطلبه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اخسأوا فيها‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنين‏:‏ 108‏]‏‏.‏
والحَسير‏:‏ الكليل‏.‏ وهو كلل ناشئ عن قوة التأمل والتحديق مع التكرير، أي يرجع البصر غير واجد ما أُغْري بالحرص على رؤيته بعد أن أدام التأمل والفحص حتى عيي وكلّ، أي لا تجدْ بعد الَّلأْي فطوراً في خلق الله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالةً على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏قد‏)‏ لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب ‏(‏هل‏)‏ أختتِ ‏(‏قد‏)‏ في الاستفهام‏.‏
والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات‏.‏
وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ‏.‏
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيَّنَاها لكم مثل الامتنان في قوله‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جَمال‏}‏ في سورة النحل ‏(‏6‏)‏‏.‏
والمقصد‏:‏ التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم‏.‏
وعدل عن تعريف ‏(‏مصابيح‏)‏ باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم‏.‏
والرجوم‏:‏ جمع رَجْم وهو اسْم لما يُرجم به، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسميةً للمفعول بالمصدر مثل الخَلْق بمعنى المخلوق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خَلق الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏‏.‏
والذي جُعل رُجوماً للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقَضَّة، وتسمى الشُهُب ومضى القول عليها في سورة الصافات‏.‏
وضمير الغائبة في ‏{‏جعلناها‏}‏ المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي أن المصابيح رجوم للشياطين‏.‏
ومعنى جعل المصابيح رجوماً جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ وقول العرب‏:‏ قتلت هُذيل رضيع بني ليث تمَّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في ‏{‏جعلناها‏}‏ عائد إلى ‏{‏السماء الدنيا‏}‏ على تقدير‏:‏ وجعلنا منها رجوماً إما على حذف حرف الجر‏.‏ وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏66‏)‏ ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعاً إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف ‏(‏163‏)‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏}‏ وقصتها هي المشار إليها بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ فالتقدير‏:‏ فجعلنا منها، أي من القرية نكالاً، وهم القوم الذين قيل لهم ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏‏.‏
والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات‏.‏
وأصل ‏{‏أعتدنا‏}‏ أعدَدْنا أي هيّأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإِدغَام طلباً للخفة‏.‏
و ‏{‏السعير‏}‏‏:‏ اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من‏:‏ سَعَرَ النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقداً فإن جهنم طبَقَات‏.‏
وكان السعير عذاباً لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأنّ نار جهنم أشد من نار طبعهم، فإذا أصابتهم صارت لهم عذاباً‏.‏
وتسمية عذابهم ‏{‏السعير‏}‏ دون النار، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن ‏{‏ومن يَزغ منهم عن أمرنا نُذقه من عذاب السعير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏ وقال ‏{‏إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏ يعني الشيطان‏.‏
ومعنى الإِعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏
‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏‏}‏
هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أُعد للشياطين خاصة، والمعنى‏:‏ ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملةَ التي قبلها فلذلك عطفت عليها‏.‏
وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به‏.‏
وجملة ‏{‏وبئس المصير‏}‏ حال أو معترضة لإِنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل ‏{‏بئس‏}‏ عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ وبئس المصير عذابُ جهنم‏.‏
والمعنى‏:‏ بئست جهنم مصيراً للذين كفروا‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏‏}‏
‏{‏المصير * إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ‏}‏ ‏{‏تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ‏}‏‏.‏
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان ذمَ مصيرهم في جهنم، أي من جملة مذام مصيرهم مذمة ما يسمعونه فيها من أصوات مؤلمة مخيفة‏.‏
و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏سمعوا‏}‏ يدل على الاقتران بين زمن الإِلقاء وزمن سماع الشهيق‏.‏
والشهيق‏:‏ تردد الأنفاس في الصدر لا تستطيع الصعود لبُكاء ونحوه أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق تفظيعاً له لأن قوله‏:‏ ‏{‏سمعوا لها‏}‏ يقتضي أن الشهيق شهيقها لأن أصل اللام أن تكون لشبه الملك‏.‏
وجملة ‏{‏وهي تفور‏}‏ حال من ضمير ‏{‏فيها‏}‏ وتفور‏:‏ تغلي وترتفع ألسنَة لهيبها‏.‏
و ‏{‏الغيظ‏}‏ أشد الغضب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تكاد تميز من الغيظ‏}‏ خبر ثان عن ضمير ‏{‏وهي‏}‏، مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يُلقون إليها، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئاً مما غاظه إلاّ سلط عليه ما يستطيع من الإِضرار‏.‏
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم‏:‏ يكاد فلان يتميز غيظاً ويتقصف غَضَباً، أي يكاد تتفرق أجزاؤه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏77‏)‏ إذ مثل الجدار بشخص له إرادة‏.‏
وتميَّز‏}‏ أصله تتميز، أي تنفصل، أي تتجزأ أجزاءً تخييلاً لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع، وهذا كقولهم‏:‏ غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏
‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏
أُتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار‏.‏
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يَتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به‏.‏
و ‏{‏كلمالغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا‏}‏ مركب من ‏(‏كل‏)‏ اسم دال على الشمول ومن ‏(‏ما‏)‏ الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوَّل مع الفعل الذي بعده بمصدره‏.‏
والتقدير‏:‏ في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتُها الفوجَ‏.‏
وباتصال ‏(‏كل‏)‏ بحرف ‏(‏ما‏)‏ المصدرية الظرفية اكتسبَ التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مُرتبة إحداهما على الأخرى‏.‏
وجيء بفعلى ‏{‏أُلقي‏}‏ و‏{‏سألهم‏}‏ ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد ‏{‏كلما‏}‏ أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف‏.‏
والفوج‏:‏ الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشر من كل أمة فوجاً‏}‏ في سورة النمل ‏(‏83‏)‏‏.‏
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله‏:‏ سألهم‏}‏ الخ‏.‏ لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وخزنة النار‏:‏ الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن‏:‏ الذي يخزن شيئاً، أي يحفظه في مكان حصين، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل‏.‏
وجملة ‏{‏ألم يأتكم نذير‏}‏ بيان لجملة ‏{‏سألهم‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا ءادم هل أدلك على شجرة الخلد‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏‏.‏
والاستفهام في ‏{‏ألم يأتكم نذير‏}‏ للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة‏.‏
والنذير‏:‏ المنذر، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب‏:‏
أمن رياحنة الداعي السميع *** والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة‏:‏ ‏{‏كلما أُلقي فيها فوج‏}‏ الخ بمعنى التذييل‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا بلى قد جاءنا نذير‏}‏ معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضاً يشير إلى أن الفوج قاطَعَ كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبّخوهم عليه وذلك من شدة الخوف‏.‏
وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض، ولوقوعها في سياق المحَاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏ وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف بلى‏}‏ المفيد نقيض النفي في الاستفهام، فهو مفيد معنى‏:‏ جاءنا نذير‏.‏
ولذلك كان قولهم‏:‏ ‏{‏قد جاءنا نذير‏}‏ موكداً لما دلت عليه ‏{‏بلى‏}‏، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق ب ‏{‏قد‏}‏، وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطأ‏.‏
وجملة‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلاَّ في ضلال كبير‏}‏ الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراضُ جواببِ الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفاً، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَالوا لو كنا نسمع‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏ الخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته‏.‏
ويجوز أن تكون جملة ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏ من تمام كلام كل فوج لنذيرهم‏.‏ وأتي بضمير جمع المخاطبين مع أن لكل قوم رسولاً واحداً في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس؛ إما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جُمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج، أي قال جميع الأفواج‏:‏ ‏{‏بلى قد جاءنا نذير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏، على طريقة المثال المشهور‏:‏ «ركِب القوم دوابهم»، وإما على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعِه الذين يؤمنون بما جاء به‏.‏
وعموم ‏{‏شيء‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما نزَّل الله من شيء‏}‏ المرادِ منه شيء من التنزيل، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن يُنزل الله وحياً على بشر، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ وقد تقدم في آخر ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏
ووصف الضلال ب ‏{‏كبير‏}‏ معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير‏.‏
ومعنى القصر المستفادِ من النفي والاستثناء في ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏ قصرُ قلب، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلاّ الضلال، وليس الوحَي الإِلهي والهدى كما تزعمون‏.‏
والظرفية مجازية لتشبيههم تَمَحُّضَهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏‏}‏
أعيد فعل القول للإِشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جواباً عن سؤال خزنة جهنم وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسراً وتندماً، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ الخ‏.‏ لتأكيد الإِخبار على حسب الوجهين المتقدمين في موقع جملة ‏{‏إن أنتم إلاّ في ضلال كبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وذكروا ما يدل على انتفاء السمع والعقل عنهم في الدنيا، وهم يريدون سمعاً خاصاً وعقلاً خاصاً، فانتفاء السمع بإعراضهم عن تلقي دعوة الرسل مثل ما حكى الله عن المشركين ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وانتفاء العقل بترك التدبر في آيات الرسل ودلائل صدقهم فيما يدْعون إليه‏.‏
ولا شك في أن أقل الناس عقلاً المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال، فكان حكم العقل قاضياً بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإِنذار بالامتثال إذ لا معارض له في دينهم لولا الإلف والتكبر بخلاف حال أهل الأديان أتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئاً فكانوا إلى المعذرة أقرب لولا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض‏.‏
وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تأمرهم أحلامهم بهذا‏}‏ ‏[‏سورة الطور‏:‏ 32‏]‏ عن كتاب الحكيم الترمذي أنه أخرج حديثاً ‏"‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله ما أعقلَ فلاناً النصراني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مَهْ، إن الكافر لا عقل له أما سمعتَ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏}‏ ‏"‏ قال وفي حديث ابن عمر فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ مَهْ إن العاقل من يعمل بطاعة الله ‏"‏ ولم أقف عليه فيما رأيت من كتب التفسير ولم يذكره السيوطي في التفسير بالمأثور في سورة الطور ولا في سورة الملك‏.‏
ويؤخذ من هذه الآية أن قوام الصلاح في حسن التلقي وحسن النظر وأن الأثر والنظر، أي القياس هما أصلا الهدى، ومن العجيب ما ذكره صاحب «الكشاف»‏:‏ أن من المفسرين من قال‏:‏ إن المراد من الآية‏:‏ لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي‏.‏ ولم أقف على تعيين من فسر الآية بهذا ولا أحسبه إلاّ من قبيل الاسترواح‏.‏
و ‏{‏أو‏}‏ للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد، وحسنَ التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها، أو من دواعي أنفسها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1718‏]‏‏.‏
ووجه تقديم السمع على العقل أن العقل بمنزلة الكليّ والسمع بمنزلة الجُزئي ورعياً للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذَرون، ثم يُعمِلون عقولهم في التدبر فيها‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏‏}‏
الفاء الأولى فصيحة، والتقدير‏:‏ إذ قالوا بذلك فقد تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب‏.‏
والسُحق‏:‏ اسم مصدر معناه البعد، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإِبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله، أي أسحقهم الله إسحاقاً، ويجوز أن يراد من هذا الدعاء التعجيب من حالهم كما يقال‏:‏ قاتله الله، وويل له، في مقام التعجب‏.‏
والفاء الثانية للتسبب، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجيب من بُعدهم عن الحق، أو عن رحمة الله تعالى‏.‏ ويحتمل أيضاً أن يقال لهم يومَ الحساب عقبَ اعترافهم، تنديماً يزيدهم ألماً في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم‏.‏
واللام الداخلة على ‏(‏سحقاً‏)‏ لام التقوية إن جعل ‏(‏سحقاً‏)‏ دعاء عليهم بالإِبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم‏:‏ شكراً لك، فكل من ‏(‏سحقاً‏)‏ واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه‏.‏
و ‏{‏لأصحاب السعير‏}‏ يعمّ المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعاً للجمل التي قبله‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فسحقاً‏}‏ بسكون الحاء‏.‏ وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لإتباع ضمة السين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏
اعتراض يفيد استئنافاً بيانياً جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين‏.‏
وقدم المغفرة تطميناً لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم، فكان الكلام جارياً على قانون تقديم التخلية على التحْلية، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلاّ في ضلال كبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏
وتنكير ‏{‏مغفرة‏}‏ للتعظيم بقرينة مقارنته ب ‏{‏أجر كبير‏}‏ وبقرينة التقديم‏.‏
وتقديم المسند على المسند إليه في جملة ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ ليتأتى تنكير المبتدأ، ولإِفادة الاهتمام، وللرعاية على الفاصلة وهي نُكت كثيرة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏
‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏‏}‏
عطف على الجمل السابقة عطف غرض على غرض، وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد فأنزل الله ‏{‏وأسروا قولكم أو اجهروا به‏}‏ كذا روي عن ابن عباس‏.‏
وصيغة الأمر في ‏{‏وأسروا‏}‏ و‏{‏اجهروا‏}‏ مستعملة في التسوية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبروا أو لا تصبروا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها ‏{‏أو‏}‏ عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول، أي فسواء في علم الله الإِسرار والإِجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بَلْهَ ما يسرون به من الكلام، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القويّ علمُه‏.‏
وضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير، لأن الاسم الذي في جملة ‏{‏إن الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 12‏]‏ لا يكون معاداً لكلام آخر‏.‏
و ‏(‏ذات الصدور‏)‏ مَا يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال‏.‏ وهو مركب من ‏(‏ذات‏)‏ التي هي مؤنث ‏(‏ذُو‏)‏ بمعنى صاحب، و‏{‏الصدور‏}‏ بمعنى العقول وشأن ‏(‏ذُو‏)‏ أن يضاف إلى ما فيه رفعة‏.‏
وجملة ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ بأن يسأل سائل منهم‏:‏ كيف يعلم ذات الصدور، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه‏؟‏ فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالاً لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خَلدها، فالإِتيان ب ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة لإِفادة التعليل بالصلة‏.‏
فيجوز أن يكون ‏{‏مَن خَلَق‏}‏ مفعول ‏{‏يعلم‏}‏ فيكون ‏{‏يعلم‏}‏ و‏{‏خلَق‏}‏ رافعين ضميرين عائديْن إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏، فيكون ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة صادقة على المخلوقين وحُذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه‏.‏ والتقدير‏:‏ من خلقهم‏.‏
ويجوز أن يكون ‏{‏من خلق‏}‏ فاعل ‏{‏يعلم‏}‏ والمراد الله تعالى، وحُذف مفعول ‏{‏يعلم‏}‏ لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏وأسروا قولَكم أو اجهروا به‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير‏.‏
والعلم يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دالٌ على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة‏.‏
وجملة ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ الأحسن أن تجعل عطفاً على جملة ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ لتفيد تعليماً للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإِسرار من الأحوال‏.‏
و ‏{‏اللطيف‏}‏‏:‏ العالم خبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة‏.‏
و ‏{‏الخبير‏}‏‏:‏ العليم الذي لا تعزب عنه الحوادثُ الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضاً بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏}‏ في الأنعام ‏(‏103‏)‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ في سورة لقمان ‏(‏16‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏
‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏‏}‏
استئناف فيه عود إلى الاستدلال، وإدماج للامتنان، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإِنسان إذ ما الإِنسان إلاّ جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى‏:‏ ‏{‏منها خلقناكم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، فلما ضَرب لهم بخلق أنفسهم دليلاً على علمه الدال على وحدانيته شفَّعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها، مع المنة بأنه خلقها هيّنة لهم صالحة للسير فيها مخرِجة لأرزاقهم، وذُيّل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره‏.‏
والذَّلول من الدواب المنقادة المطاوعة، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد، فَعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها بقرة لا ذلول‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏71‏)‏، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقتها تشبيهاً بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة‏.‏
والمناكب‏:‏ تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها‏.‏
وفُرع على هذه الاستعارة الأمر في فامشوا في مناكبها‏}‏ فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإِدامة تذكيراً بما سخّر الله لهم من المشي في الأرض امتناناً بذلك‏.‏
ومناسبة ‏{‏وكلوا من رزقه‏}‏ أن الرزق من الأرض‏.‏ والأمر مستعمل في الإِدامة أيضاً للامتنان، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها‏.‏ فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول، والأكلُ مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك‏.‏ وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة‏.‏
وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإِنعام ليتدبروا فيتركوا العناد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏
وأما عطف ‏{‏وإليه النشور‏}‏ فهو تتميم وزيادة عبر استطرون لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت‏.‏
والمعنى‏:‏ إليه النشور منها، وذلك يقتضي حذفاً، أي وفيها تعودون‏.‏
وتعريف ‏{‏النشور‏}‏ تعريف الجنس فيعم أي كل نشور، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله‏:‏ ‏{‏وإليه النشور‏}‏ بمنزلة التذييل‏.‏
والقصر المستفاد من تعريف جزأي ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض‏}‏ قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه‏.‏
وتقديم المجرور في جملة ‏{‏وإليه النشور‏}‏ للاهتمام‏.‏
ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏‏}‏
انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يُصيّر مشيهم في مناكب الأرض إلى تَجَلْجل في طبقات الأرض‏.‏ فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ اسم موصول وصلته صادِق على موجود ذي إدراك كائن في السماء‏.‏ وظاهر وقوع هذا الموصول عقب جُمل ‏{‏هو الذي جَعل لكم الأرض ذلولاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإليه النشور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ أن الإتيان بالموصول من قبيل الإِظهار في مقام الإِضمار، وأن مقتضى الظاهر أن يقال أأمنتموه أن يخسف بكم الأرض؛ فيتأتى أن الإِتيان بالموصول لِما تأذن به الصلة من عظيم تصرفه في العالم العلوي الذي هو مصدر القُوى والعناصر وعجائب الكائنات فيصير قوله‏:‏ ‏{‏من في السماء‏}‏ في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان وذلك لا يليق بالله، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلَف رحمهم الله أجمعين‏.‏
وقد أوَّلوه بمعنى‏:‏ من في السماء عذابُه أو قدرتُه أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ وأمثاله، وخُص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم‏.‏
ولكن هذا الموصول غير مَكين في باب المتشابه لأنه مجمل قابل للتأويل بما يَحتمله ‏{‏من‏}‏ أن يَكون مَا صْدَقُه مخلوقات ذات إدراك مقرها السماء وهي الملائكة فيصح أن تصدق ‏{‏مَن‏}‏ على طوائف من الملائكة الموكلين بالأمر التكويني في السماء والأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏يتنزل الأمر بينهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏، ويصح أن يراد باسم الموصل ملك واحد معيَّن وظيفته فعل هذا الخسف، فقد قيل‏:‏ إن جبريل هو الملَك الموكّل بالعذاب‏.‏
وإسناد فعل ‏{‏يخسف‏}‏ إلى «الملائكة» أو إلى واحد منهم حقيقة لأنه فاعل الخسف قال تعالى حكاية عن الملائكة ‏{‏قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية‏.‏‏.‏‏.‏ إنا مُنجوك وأهلك‏.‏‏.‏‏.‏ إنَّا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31 34‏]‏‏.‏
وإفراد ضمير ‏{‏يخسف‏}‏ مراعاة للفظ ‏{‏مَن‏}‏ إذا أريد طائفة من الملائكة أو مراعاة للفظ والمعنى إذا كان ما صْدق ‏{‏مَن‏}‏ ملكاً واحداً‏.‏
والمعنى‏:‏ توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يَأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين‏.‏
والخسف‏:‏ انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطناً وباطنه ظاهراً وهو شدة الزلزال‏.‏
وفعل خسف يستعمل قاصراً ومتعدياً وهو من باب ضرب، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض‏}‏ سورة النحل ‏(‏45‏)‏‏.‏
والباء في قوله‏:‏ بكم‏}‏ للمصاحبة، أي يخسف الأرض مصاحبة لذواتكم‏.‏ وفي الجمع بين السماء والأرض محسّن الطباق‏.‏
والمصدر المُنسبك من ‏{‏أن يخسف‏}‏ يجوز أن يكون بدل اشتمال من اسم الموصول لأن الخسف من شأن مَن في السماء، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض وهو مطّرد مع ‏{‏أنْ‏}‏، والخافض المحذوف حرف ‏(‏مِن‏)‏‏.‏
وفُرع على الخسف المتوقع المهدد به أن تمور الأرضُ تفريعَ الأثر على المؤثر لأن الخسف يحدث المَور، فإذا خسفت الأرض فاجأها المَور لا محالة، لكن نظم الكلام جرى على مَا يناسبُ جعل التهديد بمنزلة حادث وقع فلذلك جيء بعده بالحرف الدال على المفاجأة لأن حق المفاجأة أن تكون حاصلة زمن الحال لا الاستقبال كما في «مغني اللبيب» فإذا أريد تحقيق حصول الفعل المستقبل نُزل منزلة الواقع في الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏، وإذا أريد استحضار حالة فعل حصل فيما مضى نُزل كذلك منزلة المشاهد في الحال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 21‏]‏، فكان قوله‏:‏ ‏{‏فإذا هي تمور‏}‏ مؤذناً بتشبيه حالة الخسف المتوقع المهدد به بحالة خسف حصل بجامع التحقق كما قالوا في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، وحُذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ورمز إليه بما هو من آثاره ويتفرع عنه فكان في الكلام تمثيلية مَكْنيّة‏.‏
والمور‏:‏ الارتجاج والاضطراب وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تمور السماء موراً‏}‏ في سورة الطور ‏(‏9‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏
‏{‏أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ لإِضراب الانتقال من غرض إلى غرض، وهو انتقال من الاستفهام الإِنكاري التعجيبي إلى آخر مثله باعتبار اختلاف الأثرين الصادرين عن مفعول الفعل المستفهَم عنه اختلافاً يوجب تفاوتاً بين كنهي الفعلين وإن كانا متحدين في الغاية، فالاستفهام الأول إنكار على أمنهم الذي في السماء من أن يفعل فعلاً أرضياً‏.‏
والاستفهام الواقع مع ‏{‏أم‏}‏ إنكار عليهم أن يأمنوا من أن يرسل عليهم من السماء حاصب وذلك أمكن لمن في السماء وأشد وقعاً على أهل الأرض‏.‏ والكلام على قوله‏:‏ ‏{‏من في السماء‏}‏ تقدم في الآية قبلها ما يغني عنه‏.‏
وتفريع جملة ‏{‏فستعلمون كيف نذير‏}‏ على الاستفهام الإِنكاري كتفريع ملة ‏{‏فإذا هي تمور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ أي فحين يُخسف بكم أو يرسل عليهم حَاصب تعلمون كيف نذيري، وحرف التنفيس حقه الدخول على الأخبار التي ستقع في المستقبل، وإرسال الحاصب غير مخبر بحصوله وإلاّ لَمَا تخلف لأن خبر الله لا يتخلف، وإنما هو تهديد وتحذير فإنهم ربما آمنوا وأقلعوا فسلموا من إرسال الحاصب عليهم ولكن لما أريد تحقيق هذا التهديد شبه بالأمر الذي وقع فكان تفريع صيغة الإِخبار على هذا مؤذناً بتشبيه المهدد به بالأمر الواقع على طريقة التمثيلية المكنية، وجملة ‏{‏فستعلمون‏}‏ قرينتها لأنها من روادف المشبه به كما تقدم‏.‏
و ‏{‏كيف نذير‏}‏، استفهام مُعلِّق فعل ‏(‏تعلمون‏)‏ عن العمل، وهو استفهام للتهديد والتهويل، والجملة مستأنفة‏.‏
وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏نذيري‏}‏ تخفيفاً وللرعي على الفاصلة‏.‏
والنذير مصدر بمعنى الإِنذار مثل النكير بمعنى الإِنكار‏.‏
وقدم التهديد بالخسف على التهديد بالحاصب لأن الخسف من أحوال الأرض، والكلام على أحوالها أقرب هنا فسُلك شبه طريق النشر المعكوس، ولأن إرسال الحاصب عليهم جزاء على كفرهم بنعمة الله التي منها رزقهم في الأرض المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وكلوا من رزقه‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ فإن منشأ الأرزاق الأرضية من غيوث السماء قال تعالى ‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏
‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏‏}‏
بعد أن وَجه الله إليهم الخطاب تذكيراً واستدلالاً وامتناناً وتهديداً وتهويلاً ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وأسروا قولكم أو اجهروا به‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13‏]‏ التفتَ عن خطابهم إلى الإِخبار عنهم بحالة الغيبة، تعريضاً بالغضب عليهم بما أتوه من كل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا جديرين بإبعادهم عِزّ الحضور للخطاب، فلذلك لم يقل ‏(‏ولقد كذب الذين من قبلكم‏)‏ ولم يقطع توجيه التذكير إليهم والوعيد لعلهم يتدبرون في أن الله لم يدخرهم نصحاً‏.‏
فالجملة عطف على جملة ‏{‏أم أمنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 17‏]‏ لمناسبة أن مما عوقب به بعض الأمم المكذبين من خسف أو إرسال حجارة من السماء وهم قوم لوط، ومنهم من خُسف بهم مثل أصحاب الرس‏.‏
ولك أن تجعل الواو للحال، أي كيف تأمنون ذلك عندما تكذبون الرسول في حال أنه قد كذب الذين من قبلكم فهل علمتم ما أصابهم على تكذيبهم الرسل‏.‏
ضرب الله لهم مثلاً بأمم من قبلهم كذبوا الرسل فأصابهم من الاستئصال ما قد علموا أخباره لعلّهم أن يتّعظوا بقياس التمثيل إن كانت عقولهم لم تبلغ درجة الانتفاع بأقيسة الاستنتاج، فإن المشركين من العرب عرفوا آثار عاد وثمود وتناقلوا أخبار قوم نوح وقوم لوط وأصحاب الرسّ وفرع ‏{‏فكيف كان نكيرِ‏}‏ استفهاماً تقريرياً وتنكيرياً وهو كناية عن تحقيق وقوعه وأنه وقع في حال فظاعة‏.‏
وقد أكد الخبر باللام و‏(‏قد‏)‏ لتنزيل المعرّض بهم منزلة من يظن أن الله عاقب الذين من قبلهم لغير جرم أو لجرم غير التكذيب‏.‏ فهو مفرع على المؤكد، فالمعنى‏:‏ لقد كذب الذين من قبلهم ولقد كان نكيري عليهم بتلك الكيفية‏.‏
و ‏{‏نكير‏}‏؛ أصله نكيري بالإضافة إلى ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فستعلمون كيف نذير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 17‏]‏، والمعنى‏:‏ كيف رأيتم أثر نكيري عليهم فاعلموا أن نكيري عليكم صائر بكم إلى مثل ما صار بهم نكيري عليهم‏.‏
والمراد بالنكير المنظر بنكير الله على الذين مِن قبلهم، ما أفاده استفهام الإِنكار في قوله‏:‏ ‏{‏أأمنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم أمنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 17‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏
‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏
عطف على جملة‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ استرسالاً في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطيرِ في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفردِ به‏.‏
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإِطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله‏:‏ ‏{‏فوقهم صافات ويقبضن‏}‏ تُصَوِّر صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتُهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصِّبا، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلاً إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفِيلَة وهو مكتمل العقل دَقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفِيلة، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها مَا يَمْلأ وصفُه الصحف قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيفَ رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1720‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏‏.‏
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير، ولم يكن شاهده من قبل، كيفَ امتلكه من العجب ما ليس لأحدٍ ممن ألفوه معشاره‏.‏
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل ‏(‏79‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يَروا إلى الطير مسخرات في جَوّ السماء ما يمسكهن إلاّ الله‏}‏ وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسُلك في هذه السورة مسلك الإِطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة‏:‏
فالوصف الأول‏:‏ ما أفاده قوله‏:‏ فوقهم‏}‏ فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجوّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏ولا طائر في‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 38‏]‏ لقصد تصوير تلك الحالة‏.‏
الوصف الثاني‏:‏ ‏{‏صافات‏}‏ وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصَّف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، وهو قاصر ومتعد، يقال‏:‏ صَفّوا، بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن الصَّافُّون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 165‏]‏ وقال تعالى في البُدْن ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها صَوافَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز «مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ» إلى قوله‏:‏ «فصفَّنا خلفه وكبَّر»‏.‏
والمراد هنا أن الطير صافّة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلاّ ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصفّ ريش الجناح فإذا تمدد الجناحُ ظهر ريشه مصطّفاً فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏ في سورة النور ‏(‏41‏)‏‏.‏ وبسط الجناحين يُمكّن الطائرَ من الطيران فهو كمدّ اليدين للسابح في الماء‏.‏
الوصف الثالث‏:‏ ويقبضن‏}‏ وهو عطف على ‏{‏صافات‏}‏ من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادةِ الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل‏.‏
والقَبض‏:‏ ضد البسط‏.‏ والمراد به هنا ضد الصّف المذكور قبله، إذ كان ذلك الصف صادقاً على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جُنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران‏.‏
وأوثر الفعل المضارع في ‏{‏يَقْبضن‏}‏ لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان‏.‏
وجيء في وصف الطير ب ‏{‏صافات‏}‏ بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد، أي ويجددن قبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض الأجنحة على زيادة التحرك عندما يَحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران، ونظيره قوله تعالى في الجِبال والطيرِ ‏{‏يسبحن بالعشيّ والإِشراق والطيرَ محشورة‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18 19‏]‏ لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دَوْماً‏.‏
وانتصَب ‏{‏فوقهم‏}‏ على الحال من ‏{‏الطير‏}‏ وكذلك انتصب ‏{‏صافات‏}‏‏.‏
وجملة ‏{‏ويقبضن‏}‏ في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر، ولذلك عُديت إلى المرئي ب ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أو لم يَروا‏}‏ إنكاري، ونزلوا منزلة من لم يرَ هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإِلهية‏.‏
وجملة ‏{‏ما يمسكهن إلاّ الرحمان‏}‏ مبينة لجملة ‏{‏أو لم يروا إلى الطير‏}‏ وما فيها من استفهام إنكار، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يُمسكُهن إلاّ الرحمان إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏
وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهُوِيّ المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبللِ هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطيْر من الهُوِيّ‏.‏
ومعنى إمساك الله إياها‏:‏ حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح، ومن الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعاً لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين‏.‏
وإيثار اسم ‏{‏الرحمان‏}‏ هنا دون الاسم العلَم بخلاف ما في سورة النحل ‏(‏79‏)‏ ‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلاّ الله‏}‏ لعله للوجه الذي ذكرناه آنفاً في خطابهم بطريقة الإِطناب من قوله‏:‏ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات‏}‏ الآية‏.‏
فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم ‏{‏الرحمان‏}‏ فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف ‏{‏الرحمان‏}‏ في هذه السورة أربع مرات‏.‏
وجملة ‏{‏إنه بكل شيء بصير‏}‏ تعليل لمضمون ‏{‏ما يمسكهُنّ إلاّ الرحمان‏}‏ أي أمسكهن الرحمان لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمهم أو انتفائه‏.‏
والبصير‏:‏ العليم، مشتق من البصيرة، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو‏:‏ السميع البصير، وإنما هو هنا من باب قولهم‏:‏ فلان بصير بالأمور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بصير بالعباد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 44‏]‏، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم‏.‏ وتقديم ‏{‏بكل شيء‏}‏ على متعلقه لإفادة القصر الإِضافي وهو قصر قلب ردّاً على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم ‏{‏وأسروا قولكم أو اجهروا به‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏
‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏
‏(‏أم‏)‏ منقطعة وهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوُجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلاّ إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره‏.‏
وهذا الكلام ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال‏.‏
و ‏(‏أم‏)‏ المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام، والأكثر أن يكون مقدراً فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين‏.‏
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم ‏{‏جند‏}‏ مفروض في الأذهان استُحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا‏:‏ بنو فلان‏.‏ ولما كان الاستفهام مستعملاً في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن‏.‏
وقريب من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ونحوه‏.‏
و ‏(‏مَن‏)‏ في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ‏.‏
وكتب في المصحف ‏{‏أمَّن‏}‏ بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم ‏(‏أم‏)‏ وميم ‏(‏مَن‏)‏ المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب ‏{‏عمّ يتساءَلون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏ بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلاّ بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته‏.‏
و ‏{‏الذي هو جند‏}‏ صفة لاسم الإِشارة و‏{‏لكم‏}‏ صفة ل ‏{‏جند‏}‏ و‏{‏ينصركم‏}‏ جملة في موضع الحال من ‏{‏جُندٌ‏}‏ أو صفة ثانية ل ‏{‏جند‏}‏‏.‏
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشاراً به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولَها الذي اتخذتموه جنداً فمَن هو حتى ينصرَكم من دون الله‏.‏
فتكون ‏(‏مَنْ‏)‏ استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله‏:‏ ‏{‏من فرعون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 31‏]‏ في قراءة فتح ميم ‏(‏مَن‏)‏ ورفع فرعون، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف، واسم الإِشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له، و‏{‏الذي هو جند لكم‏}‏ صفة لاسم الإِشارة وجملة ‏{‏ينصركم‏}‏ خبر عن اسم الاستفهام، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان‏.‏ وجيء بالجملة الإسمية ‏{‏الذي هو جند لكم‏}‏ لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكون على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيُّؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها»
أي هيعة جهاد‏.‏
فالمعنى‏:‏ ينصركم عند احتياجكم إلى نصره، فهذا وجه الجمع بين جملة ‏{‏هو جند لكم‏}‏ وجملة ‏{‏ينصركم‏}‏ ولم يُستغن بالثانية عن الأولى‏.‏
و ‏{‏دون‏}‏ أصله ظرف للمكان الأسفل ضِد ‏(‏فَوق‏)‏، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏مِن دون الرحمان‏}‏ يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الضمير المستتر في ‏{‏ينصركم‏}‏‏.‏ أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله، أي مَن مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم ءالهة تمنعهم من دوننا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 43‏]‏ فتكون ‏{‏مِن‏}‏ زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة، ولا تجر تلك الظروف بغير ‏{‏مِن‏}‏، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين‏:‏ ومَا منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف‏.‏ وفسره بظرف ‏(‏عند‏)‏ ولا خصوصية ل ‏(‏عند‏)‏ بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة‏.‏
وتكرير وصف ‏{‏الرحمان‏}‏ عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة‏.‏
وذيل هذا بالاعتراض بقوله‏:‏ ‏{‏إن الكافرون إلا في غرور‏}‏، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام فكما غَر الأمم السالفة دينُهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللكافرين أمثالها‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏ وقال ‏{‏أكفّاركُم خير من أولئكم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏ فتعريف ‏{‏الكافرون‏}‏ للاستغراق‏.‏ وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير‏.‏
والغرور‏:‏ ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ في آخر آل عمران ‏(‏196‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا‏}‏ في الأنعام ‏(‏112‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تغرنكم الحياة الدنيا‏}‏ في سورة فاطر ‏(‏5‏)‏‏.‏
والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأنَّ الغرور محيط بهم إحاطة الظرف‏.‏
والمعنى‏:‏ ما الكافرون في حال من الأحوال إلاّ في حال الغرور، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]
‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏
انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله‏:‏ ‏{‏أم مَن هذا الذين هو جند لكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏، وهذا الكلام ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكُلوا من رزقه‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ على طريقة اللف والنشر المعكوس‏.‏
والرزق‏:‏ ما يَنتفِع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏
وضمير ‏{‏أمسَكَ‏}‏ وضمير ‏{‏رزقه‏}‏ عائدان إلى لفظ ‏{‏الرحمان الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏مِن دون الرحمان‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏‏.‏
وجيء بالصلة فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة‏.‏ وكتب ‏{‏أمَّن‏}‏ في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتبت نظيرتها المتقدمة آنفاً‏.‏
استئناف بَياني وقع جواباً عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول‏:‏ لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعِبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لَجُّوا في عُتُوّ ونفور‏.‏
و ‏{‏بل‏}‏ للإضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإِخبار عن عنادهم‏.‏
يقال‏:‏ لجّ في الخصومة من باب سمع، أي اشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العُتّو والنفور، أي لا يترك مخلصاً للحق إليهم، فالظرفية مجازية، والعتوّ‏:‏ التكبر والطغيان‏.‏
والنفور‏:‏ هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه‏.‏
والمعنى‏:‏ اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصاً على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏
‏{‏أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏
هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين‏:‏ كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعاً على قوله‏:‏ ‏{‏إن الكافرون إلاّ في غرور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل لَجُّوا في عتوّ ونفور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 21‏]‏ وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 21‏]‏، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَللِ السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء‏.‏ ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏ بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال‏.‏
والذي انقدح لي‏:‏ أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏على صراط مستقيم‏}‏ فلا بد من اعتبار مَشي المكبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ، وتعين أن يكون في قوله‏:‏ ‏{‏مكباً على وجهه‏}‏ استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏سَوِيّاً‏}‏ المشعر بأن ‏{‏مُكباً‏}‏ أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود‏.‏
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله‏:‏ ‏{‏أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله‏:‏
‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله ‏{‏يمشي مكبّاً على وجهه‏}‏ تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة‏.‏
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله‏:‏ ‏{‏مكباً على وجهه‏}‏ بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض‏.‏
0 وقوله‏:‏ ‏{‏أمَّن يمشي سويّاً‏}‏ تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره‏.‏
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني‏.‏
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري‏.‏
والمُكِب‏:‏ اسم فاعل من أكَب، إذا صار ذا كَبّ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة‏:‏ أقشع السحابُ، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم‏:‏ أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعدياً والمهموز قاصراً‏.‏
و ‏{‏أهدى‏}‏ مشتق من الهُدَى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكباً على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ في قول كثير من الأيمة‏.‏ ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام‏.‏
والسويّ‏:‏ الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى‏:‏ ‏{‏أهْدِك صراطاً سوياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 43‏]‏‏.‏ و‏(‏أم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أمن يمشي سوياً‏}‏ حرف عطف وهي ‏(‏أم‏)‏ المعادلة لهمزة الاستفهام‏.‏ و‏(‏مَن‏)‏ الأولى والثانية في قوله‏:‏ ‏{‏أفمن يمشي مكباً‏}‏ أو قوله‏:‏ ‏{‏أمن يمشي سوياً‏}‏ موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين، وقيل‏:‏ أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏
‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقُول لهم ما سيُذكر تفنناً في البيان وتنشيطاً للأذهان حتى كأنَّ الكلامَ صدَر من قائلين وترفيعاً لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظاً من التذكير معه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 58‏]‏‏.‏
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماماً بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار‏}‏، الخ‏.‏
والضمير ‏{‏هو‏}‏ إلى ‏{‏الرحمان‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏من دون الرحمان‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏‏.‏
والإِنشاء‏:‏ الإيجاد‏.‏
وإفراد ‏{‏السمع‏}‏ لأن أصله مصدر، أي جعل لكم حاسة السمع، وأما ‏{‏الأبصار‏}‏ فهو جمع البصر بمعنى العَين، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏ والأفئدة‏}‏ القلوب، والمراد بها العقول، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب‏.‏
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسندِ في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنشأكم‏}‏ إلى آخره قصرُ إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلةَ من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإِنشاء وإعطاء الإِحساس والإِدراك‏.‏
و ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ حال من ضمير المخاطبين، أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها‏.‏
و ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل ‏{‏قليلاً‏}‏ لاعتماد ‏{‏قليلاً‏}‏ على صاحب حال‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة مشبَّهة‏.‏
وقد استعمل ‏{‏قليلاً‏}‏ في معنى النفي والعدم، وهذا الإِطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنون إلاّ قليلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏155‏)‏، وتقول العرب‏:‏ هذه أرض قلما تنبت‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏
‏{‏قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏
إعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال‏.‏
والذرْء‏:‏ الإِكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنشأكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏ أي هو الذي كثَّركم على الأرض كقوله‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ أي أعمركم إياها‏.‏
والقول في صيغة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي ذرأكم في الأرض‏}‏‏.‏ مثل القول في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنشأكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أُنذروا به لا يكون إلاّ بعد البعث والبعث بعد الموت، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لا بد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر‏.‏
فتقديم المعمول في ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ للاهتمام والرعاية على الفاصلة، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلاً فضلاً عن أن يدعوه لغير الله‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏
‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏
لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنشأكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏ إلى ‏{‏هو الذي ذرأكم في الأرض‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 24‏]‏ انحصر عنادهم في مضمون قوله‏:‏ ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 24‏]‏ فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض ‏{‏هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جِنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 78‏]‏ وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29‏]‏ واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير‏.‏
و ‏{‏الوعد‏}‏ مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 24‏]‏ فالإشارة إليه بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ ظاهرة، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه‏.‏
والاستفهام بقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏
وأتوا بلفظ ‏{‏الوعد‏}‏ استنجازاً له لأن شأن الوعد الوفاء‏.‏
وضمير الخطاب في‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر، وتقدم نظيره في سورة سبأ‏.‏
وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجملة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلاّ الله، فقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف بجريان المقول في سياق المحاورة، ولم يعطف فعل ‏{‏قل‏}‏ بالفاء جرياً على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
ولام التعريف في العلم‏}‏ للعهد، أي العلم بوقت هذا الوعد‏.‏ وهذه هي اللام التي تسمى عوضاً عن المضاف إليه، وهذا قصر حقيقي‏.‏
‏{‏وإنما أنا نذير مبين‏}‏ قصر إضافي، أي ما أنا إلاّ نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالماً بوقته‏.‏
والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مبين لما أمرت بتبليغه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏
‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏
‏(‏لما‏)‏ حرف توقيت، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد‏.‏
والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها‏:‏ فحل بهم الوعد فلما رأوهُ الخ، أي رأوا الموعود به‏.‏
وفعل ‏{‏رأوه‏}‏ مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏ فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب ‏{‏متى‏}‏‏.‏
ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏41‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ في سورة النحل ‏(‏89‏)‏ إذ جمع في الآيتين بين فعل نبعث‏}‏ مضارعاً وفعل ‏{‏جئنا‏}‏ ماضياً‏.‏
وأصل المعنى‏:‏ فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية‏.‏
وضمير ‏{‏رأوه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الوعد‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏ بمعنى‏:‏ رأوا الموعود به‏.‏
والزُلفة بضم الزاي‏:‏ اسم مصدر زَلف إذا قرب وهو من باب تعب‏.‏ وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم، أي أخذ ينالهم‏.‏
و ‏{‏سيئت‏}‏ بني للنائب، أي ساء وجوهَهم ذلك الوعد بمعنى الموعود‏.‏ وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كَلَحَتْ، أي لأنه سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى‏:‏
وأقدِم إذا ما أعيُن الناس تَفْرَقُ *** ‏{‏وقيل‏}‏ أي لهم‏.‏
و ‏{‏تدَّعون‏}‏ بتشديد الدال مضارع ادَّعى‏.‏ وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏، أي تدَّعون أنه لا يكون‏.‏
و ‏{‏به‏}‏ متعلق ب ‏{‏تدعون‏}‏ لأنه ضمّن معنى «تكذّبون» فإنه إذا ضمّن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف‏.‏ وذلك ضرب من الإيجاز‏.‏
وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة‏.‏ والقائل لهم ‏{‏هذا الذي كنتم به تدَّعون‏}‏ ملائكة المحشر أو خَزنَة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل فحذْف القائل من الإِيجاز‏.‏
والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريضٌ بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئاً آخر على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏سِيئت‏}‏ بكسرة السين خالصة، وقرأه ابن عامر والكسائي بإشمام الكسرة ضمة، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بُني للمجهول‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏تَدَّعون‏}‏ بفتح الدال المشددة وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكماً وعناداً كما قالوا ‏{‏فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏‏}‏
هذا تكرير ثان لفعل ‏{‏قل هو الذي أنشأكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏‏.‏
كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وحكى عن بعضهم ‏{‏ويَتربص بكم الدوائر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 98‏]‏، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَه إليه عمله، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 41، 42‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنك مَيت وإنهم ميتون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏ أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن، وينسب إلى الشافعي‏:‏
تمنَّى رجال أن أموت فإنْ أمت *** فتلكَ سبيل لستُ فيها بأوْحَدِ
فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏]‏ بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا‏:‏ أبَعْدَ هلاكك يأتي الوَعْد‏.‏
والإهلاك‏:‏ الإِماتة، ومقابلةُ ‏{‏أهلكني‏}‏ ب ‏{‏رحِمنا‏}‏ يدل على أن المراد‏:‏ أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيئه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكَم أرادها كما دلّ عليه قوله‏:‏ «حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم»، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله من قوله‏:‏ ‏{‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ولله درَ عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله‏:‏
رأيت لمنايا لم يدعْنَ محمداً *** ولا باقياً إلاَّ لَهْ الموتُ مُرْصَداً
وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يَرُدُّ عليه روحَه الزكية كلَّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح‏.‏
وإنما سمَّى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدراً حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة‏.‏
والاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعاً ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد‏.‏
والرؤية علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بَعْدَه مفعولاه، وهو معلق بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام‏:‏ أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكتُ وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المُعدّ للكافرين‏.‏
وأُقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه‏.‏
والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمن يأتيكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصلُه المبتدأ والخبرُ وهو المفعولان المقدّران رُجّح جانب الشرط‏.‏
والمعية في قوله‏:‏ ‏{‏ومن معي‏}‏ معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة‏:‏ «أنا مع ابن أخي»، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعتْ حملها قبل مضي عدة الوفاة‏.‏
والاستفهام بقوله‏:‏ ‏{‏فمن يجير الكافرين‏}‏ الخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيراً لكم إذا هَلَكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا‏.‏
والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها‏.‏
وتنكير ‏{‏عذاب‏}‏ للتهويل‏.‏
والمراد ب ‏{‏الكافرين‏}‏ جميع الكافرين فيشمل المخاطبين‏.‏
والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره‏:‏ من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين‏.‏
وذُكر وصف ‏{‏الكافرين‏}‏ لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف‏.‏
وقرأ الجمهور بفتحة على ياء ‏{‏أهلكنيَ‏}‏، وقرأها حمزة بإسكان الياء‏.‏
وقرأ الجمهور ياء ‏{‏معيَ‏}‏ بفتحة‏.‏ وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏
‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏
هذا تكرير ثالث لفعل ‏{‏قل‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏قل هو الذي أنشأكم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏
وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏أو رحمنا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 28‏]‏ فإنه بعد أن سوَّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فُرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمان، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة‏.‏
وضميرُ ‏{‏هو‏}‏ عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وَصْفُه ‏{‏الرحمان‏}‏ فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تُحرَموا آثار رحمته‏.‏ ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم‏.‏
وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله‏:‏ ‏{‏فستعلمون من هو في ضلال مبين‏}‏ لأنه يظهر بداءً تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف ‏{‏الرحمان‏}‏ وتوكلوا على الأوثان‏.‏
و ‏{‏مَن‏}‏ موصولة، وما صْدَقُ ‏{‏مَن‏}‏ فريق مُبهم متردد بين فريقين تضمنهما قوله‏:‏ ‏{‏إن أهلكني الله ومَن معي‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فمن يجير الكافرين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 28‏]‏، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين‏.‏
وتقديم معمول ‏{‏توكلنا‏}‏ عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضاً بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله، أو نَسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الْاصنام‏.‏
وإنما لم يقدم معمول ‏{‏آمنَّا‏}‏ عليه فلم يقل‏:‏ به آمنا لمُجرد الاهتمام إلى الإِخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله‏:‏ ‏{‏فمن يجير الكافرين من عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 28‏]‏ فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سُلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكْفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإِشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإِهلاك والإنجاء المعبّر عنه ب ‏{‏رَحِمنَا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 28‏]‏ فجيء بجملة ‏{‏ءامنا‏}‏ على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وعليه توكلنا‏}‏ لأن التوكل يقتضي منجياً وناصراً، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل‏:‏ نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمان وحده توكلنا‏.‏
وفعل ‏{‏فستعلمون‏}‏ معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏فستعلمون‏}‏ بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخباراً من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏
‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏
إيماءٌ إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة مِن ‏(‏جُرْهم‏)‏ التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجَر بابنه إسماعيل ففجَّر الله لها زمزم ولمحتْ القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا‏:‏ ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفَر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئراً تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قُبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجَفْر ‏(‏بالجيم‏)‏ لبني تيم بن مُرة، وبئر تسمى الجَم ذكرها ابن عطية وأهملها «القاموس» و«تاجه»، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فماء هذه الآبار هو الماء الذي أُنذروا بأنه يصبح غوراً، وهذا الإِنذار نظير الواقع في سورة القلم ‏(‏17 33‏)‏ ‏{‏إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة‏}‏ إلى قوله‏:‏ لو كانوا يعلمون‏.‏ ‏!‏
والغور‏:‏ مصدر غارتْ البئر، إذا نَزح ماؤها فلم تنله الدلاء‏.‏
والمراد‏:‏ مَاء البئر كما في قوله‏:‏ ‏{‏أو يصبح ماؤها غوراً‏}‏ في ذكر جنة سورة الكهف ‏(‏41‏)‏‏.‏
وأصل الغور‏:‏ ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض، والإِخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل‏:‏ عَدل ورِضَى‏.‏ والمعين‏:‏ الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة‏:‏ القريبة الماء على وجه التشبه‏.‏
والاستفهام في قوله‏:‏ فمن يأتيكم بماء‏}‏ استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء مَعِين‏:‏ أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله ‏{‏أمَّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20‏]‏ الآيتين‏.‏
وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان‏.‏ ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تَر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشَّقّق فيخرج منه الماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في «الكشاف» مع ما نقل عنه في «بيانه»، قال‏:‏ وعن بعض الشُطَّار ‏(‏هو محمد بن زكرياء الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه‏)‏ أنها ‏(‏أي هذه الآية‏)‏ تُليت عنده فقال‏:‏ تجيء به ‏(‏أي الماء‏)‏ الفُؤوس والمَعاول، فذهب ماء عينيه‏.‏ نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته‏.‏ والله أعلم‏.‏
سورة القلم
تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏
‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏
افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء‏.‏
ورَسمُوا حرف ‏{‏ن‏}‏ بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو ‏{‏نُون‏}‏ ‏(‏بنوننٍ بعدها واو ثم نون‏)‏ وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف‏.‏
وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة‏.‏
ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏
‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏‏}‏
الفاء للتفريع على قوله‏:‏ ‏{‏مَا أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ باعتبار ما اقتضاه قوله ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين، ابتدأ بإبطال بهتانهم، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أَهُم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا‏.‏
والمقصود هو ما في قوله‏:‏ ‏{‏ويبصرون‏}‏ ولكن أدمج فيه قوله‏:‏ ‏{‏فستبصر‏}‏ ليتأتى بذكر الجانبين إيقاعُ كلام منصف ‏(‏أي داع إلى الإِنصاف‏)‏ على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لَعَلَى هُدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏ لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم‏.‏
وفعْلا ‏(‏تبصر ويبصرون‏)‏، بمعنى البصر الحسي‏.‏ وروي عن ابن عباس، أن معناه فستعلم ويعلمون، فجعله مثل استعمال فعل الرؤية في معنى الظن، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من ‏(‏أبصر‏)‏ لا يستعمل بمعنى الظن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافاً لهشام كذا في «التسهيل» فالمعنى‏:‏ ستَرى ويَرَون رأيَ العين أيكم المفتون فإن كان بمعنى العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله‏:‏ ‏{‏فستبصر‏}‏ للتأكيد، وأما المشركون فسيرون ذلك، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح‏.‏
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال‏.‏
وضمير ‏{‏يُبصرون‏}‏ عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون‏:‏ هو مجنون‏.‏
و ‏(‏أي‏)‏ اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، ويظهر أن مدلول ‏(‏أي‏)‏ فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جَعْلي، فهذا مدلول ‏(‏أيّ‏)‏ في جميع مواقعه، وله مواقع كثيرة في الكلام، فقد يشرب ‏(‏أيّ‏)‏ معنى الموصول، ومعنى الشرط، ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل، ومعنى المعرّف ب ‏(‏ال‏)‏ إذا وُصل بندائه‏.‏ وهو في جميع ذلك يفيد شيئاً متميزاً عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأيكم المفتون‏}‏ معناه‏:‏ أيُّ رجل، أو أيُّ فريق منكم المفتون، ف ‏(‏أي‏)‏ في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل ‏(‏تُبصر ويبصرون‏)‏ أو متعلق به تعلقَ المجرور‏.‏
وقد تقدم استعمال ‏(‏أيّ‏)‏ في الاستفهام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ في سورة ‏{‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏‏.‏
والمفتون‏}‏‏:‏ اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة ‏(‏يقولون للمجنون‏:‏ فَتَنَتْهُ الجن‏)‏ ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلاً، بإيثار هذا اللفظ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجَّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين‏.‏
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة‏.‏
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله، والأصل‏:‏ أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى‏:‏ في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضاً بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلاً معروفاً بين العقلاء مذكوراً برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل ‏{‏المفتون‏}‏ في الآية وصفاً ادعائياً على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله‏:‏
إذا تَرحَّلْت عن قوم وقد قدروا *** أن لا تفارقهم فالرَّاحلون هُمُو
ويجوز أن يكون ‏{‏المفتون‏}‏ مصدراً على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجَلْد؛ والميْسور لليسر، والمعسورِ لضده، وفي المثل «خُذ من ميْسوره ودَعْ معسوره»‏.‏
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على ‏{‏المفتون‏}‏ وهو مبتدأ‏.‏
يُضمن فعل ‏(‏تُبصر ويبصرون‏)‏ معنى‏:‏ توقن ويوقنون، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين‏.‏ والمعنى‏:‏ فستعلم يقيناً ويعلمون يقيناً بأيّكم المفتون، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ‏(‏يبصر ويُبصرون‏)‏‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏
‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏
تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 56‏]‏ باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له ‏{‏إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنّى عنه قوله‏:‏ ‏{‏فستبصر ويبصرون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 5‏]‏ من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون المردودُ عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ إذ هم الضالون عن سبيل ربّ النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسَة مساواةٍ مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة المفتون‏.‏ ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتُنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مُساوِيَ المساوي لشيء مساوٍ لذلك الشيء‏.‏
وهذا الانتقال تضمن وعداً ووعيداً، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلةِ من ضل عنه بالمهتدين‏.‏
وعمومُ من ضل عن سبيله وعمومُ المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضاً من التذييل‏.‏
وهو بعدَ هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله‏:‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 8‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏
‏{‏فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏
تفريع على جملة ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 7‏]‏ إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتَصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لِيناً ولكن يستأهلون إغلاظاً‏.‏
رُوي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانعَ بعضُهم بعضاً فنهاه الله عن إجابتهم لما وَدُّوا‏.‏
ومعنى ‏{‏ودُّوا‏}‏‏:‏ أحبوا‏.‏
وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلَع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله‏:‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبيء صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة‏.‏
فينتظم من هذا أن قوله ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله‏:‏ ‏{‏فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون إلى قوله‏:‏ بالمهتدين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 5 7‏]‏ فلعلهم تحدثوا أو أوعَزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه ‏{‏إنه لمجنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 51‏]‏ فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحاً بينهم ويترك كلّ فريق فريقاً وما عبده‏.‏
والطاعة‏:‏ قبول ما يُبتغَى عمله، ووقوع فعل ‏{‏تطع‏}‏ في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تطع الكافرين وجَاهدهم به جهاداً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏، أي لا تلن لهم‏.‏
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته‏.‏
ومن هنا يتضح أن جملة ‏{‏ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون‏}‏ بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف‏.‏
وفعل ‏{‏تدهن‏}‏ مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها‏.‏
والفاء في ‏{‏فيدهنون‏}‏ للعطف، والتسبب عن جملة ‏{‏لو تدهن‏}‏ جواباً لمعنى التمني المدلول عليه بفعل ‏{‏ودُّوا‏}‏ بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار ‏(‏أنْ‏)‏ لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ فهم يدهنون‏.‏
وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدماً على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإِدهان منهم لا منك، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 13‏]‏، أي فهو لا يخاف بخساً ولا رهقاً‏.‏
وحرف ‏{‏لو‏}‏ يحتمل أن يكون شرطياً ويكونَ فعل ‏{‏تدهن‏}‏ شرطاً، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفاً ويكون التقدير‏:‏ لو تدهن لحصل لهم ما يودون‏.‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏لو‏}‏ حرفاً مصدرياً على رأي طائفة من علماء العربية أن ‏{‏لو‏}‏ يأتي حرفاً مصدرياً مثل ‏(‏أنْ‏)‏ فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير‏:‏ ودوا إدهانك‏.‏
ومفعول ‏{‏وَدُّوا‏}‏ محذوف دل عليه ‏{‏لو تدهن‏}‏، أو هو المصدر بناء على أن ‏{‏لو‏}‏ تقع حرفاً مصدرياً، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوَدُّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏96‏)‏‏.‏ وقد يفيد موقع الفاء تعليلاً لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏
‏{‏وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏
إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يُكتفَ بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال‏:‏ ولا كلَّ خلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى‏.‏
وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ على الخرطوم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 16‏]‏ على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين‏.‏
وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني‏:‏
أيا ابنَ زيَّابَةَ إِنْ تلْقَنِي *** لاَ تلْقَنِي في النعَم العازب
وتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بي أجرد *** مُستقدِمُ البِرْكة كالراكب
فلم يكتف بعطفٍ‏:‏ ب ‏(‏بل‏)‏ أو ‏(‏لكنْ‏)‏ بأن يقول‏:‏ بل تلقني يشتد بي أجرد، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد، وعَدَل عن ذلك فأعاد فعل ‏(‏تلقني‏)‏‏.‏
وكلمة ‏{‏كلَّ‏}‏ موضوعة لإفادة الشمول والإِحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها ‏{‏كلّ‏}‏ بالمباشرة وبالنعوت‏.‏
وقد وقعت كلمة ‏{‏كلَّ‏}‏ معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفاً للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بَلْهَ من اجتمع له عِدَّةٌ منها‏.‏
وفي هذا ما يبطل ما أصَّلَه الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإِعجاز» من الفرق بين أن تقع ‏{‏كلَّ‏}‏ في حيز النفي، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيفت إليه ‏{‏كلَّ‏}‏ إن كانت ‏{‏كلَّ‏}‏ مسنداً إليها، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيفت إليه ‏{‏كل‏}‏ إن كانت معمولة للمنفيِّ أو المنهيّ عنه، وبين أن تقع ‏{‏كلّ‏}‏ في غَير حَيّزِ النفي، وجعَلَ رفْع لفظ ‏(‏كلُّه‏)‏ في قول أبي النجم‏:‏
قد أَصْبَحَتْ أُم الخيار تدّعي *** عليّ ذنباً كلُّه لم أصْنَع
متعيناً، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرحَ بإبطاله العلامةُ التفتزاني في «المطول»، واستشهد للإِبطال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يُحب كلّ كفار أثيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏}‏‏.‏
وأجريت على المنهي عن الإِطاعة بهذه الصفات الذميمة، لأن أصحابها ليسوا أهلاً لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلاّ بسوء‏.‏
قال جمع من المفسرين المراد بالحَلاّف المَهين‏:‏ الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم‏:‏ الأخنس بن شَريق، وقال آخرون‏:‏ الأسودُ بن عبد يغوث، ومن المفسرين من قال المراد‏:‏ أبو جهل، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء، وإلاّ فإن لفظ ‏{‏كلّ‏}‏ المفيدَ للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين، أما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم‏.‏
وليس المراد مَن جَمَع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن التي خُتم بها قوله‏:‏ ‏{‏إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 15‏]‏، لكن الذي قال في القرآن إنه ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 15‏]‏ هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخَرون منه هذا البهتان وأُعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وذُكرت عشر خلال من مذامّهم التي تخلقوا بها‏:‏
الأولى‏:‏ ‏{‏حَلاَّف‏}‏، والحَلاف‏:‏ المكثر من الأيْمَان على وُعودِه وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث، وإلاَّ لم يكن ذمه بهذه المثابة، ومن المفسرين من جعل ‏{‏مَهين‏}‏ قيداً ل ‏{‏حلافٍ‏}‏ على جَعْل النهي عن طاعة صاحب الوصفين مجتمعين‏.‏
هذه خصلة ثانية وليست قيداً لصفة ‏{‏حَلاّف‏}‏‏.‏
والمهين‏:‏ بفتح الميم فَعيل من مَهُن بمعنى حَقُرَ وذَلّ، فهو صفة مشبهة، وفعله مَهُنَ بضم الهاء، وميمه أصلية وياؤه زائدة، وهو فعيل بمعنى فاعل، أي لا تطع الفاجر الحقير‏.‏ وقد يكون ‏{‏مهين‏}‏ هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز، وكل ذلك من المهانة‏.‏
و ‏{‏مهين‏}‏‏:‏ نعت ل ‏{‏حَلاف‏}‏، وكذلك بقية الصفات إلى ‏{‏زنيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏ فهو نعت مستقل، وبعضهم جعله قيداً ل ‏{‏حَلاّف‏}‏ وفَسر المهين بالكذاب أي في حلفه‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏
‏{‏هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏
الهمّاز كثير الهمزة‏.‏ وأصل الهمز‏:‏ الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل ‏{‏ويل لكلّ هُمَزَة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏‏.‏
وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديداً فصاحبه ‏{‏همّاز‏}‏ وإذا تكرر الأذى فصاحبه ‏{‏همّاز‏}‏‏.‏
المشَاء بالنميم‏:‏ الذي يَنِمّ بين الناس، ووصفه بالمشّاء للمبالغة‏.‏ والقول في هذه المبالغة مثل القول في ‏{‏هَمَّازهَمَّازٍ مَّشَّآءِ‏}‏ وهذه رَابعَة المذامّ‏.‏
والمشي‏:‏ استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذِكر السعي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسعَوْن في الأرض فساداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشدّ وقعاً في تصوّر السامع من أسماء المعقولات، فذِكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمّام، ألا ترى أن قولك‏:‏ قُطِع رأسُه أوقعُ في النفس من قولك‏:‏ قُتِل، ويدل لذلك أنه وقع مثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم «وأمَّا الآخَرُ فكان يمشي بالنميمة»
والنميم‏:‏ اسم مرادف للنميمة، وقيل‏:‏ النميم جمع نميمة، أي اسمُ جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتُها اسماً‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏
‏{‏مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏
هذه مذمة خامسة‏.‏
‏{‏منّاع‏}‏‏:‏ شديد المنع‏.‏ والخير‏:‏ المال، أي شحيح، والخير من أسماء المال قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنه لحُب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنْ تَرَكَ خَيْراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏، وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي ‏{‏حَلاّففٍ، هَمّازٍ، مشَّاءٍ، منَّاعٍ‏}‏ وهو ضرب من محسن الموازنة‏.‏
والمراد بمنع الخير‏:‏ منعه عمن أسلَمَ من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه‏:‏ من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شأن المنافقين ‏{‏هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضّوا‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وأيضاً فمِن منععِ الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَحُضّون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ كان الوليد بن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفاً يطعم أهلَ مِنى، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً‏.‏
هما مذمتان سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم‏.‏
والاعتداء‏:‏ مبالغة في العُدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة‏.‏
والأثيم‏:‏ كثير الإِثم، وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4344‏]‏‏.‏ والمراد بالإِثم هنا ما يعد خطيئة وفساداً عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة‏.‏
قال أبو حيان‏:‏ وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء ‏{‏حَلاّف‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ وبعده ‏{‏مَهين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ لأن النون فيها تواخخِ مع الميم، أي ميم ‏{‏أثيم‏}‏، ثم جاء ‏{‏همَّاز مشّاء‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 11‏]‏ بصفتي المبالغة، ثم جاء ‏{‏منّاع للخَير معتد أثيم‏}‏ صفات مبالغة ا ه‏.‏ يريد أن الافتعال في ‏{‏معتدِ‏}‏ للمبالغة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏
‏{‏عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏
ثامنة وتاسعة‏.‏
والعُتُل‏:‏ بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفةٍ لأنه مشتق من العَتْل بفتح فسكون، وهو الدفع بقوة قال تعالى‏:‏ ‏{‏خذوه فاعْتلُوه إلى سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 47‏]‏ ولم يسمع ‏(‏عاتل‏)‏‏.‏ ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين‏.‏
وفسر العُتل بالشديد الخِلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللّحم المختال، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غَنْم، يزيدُ بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي، وهو على هذا التفسير إتْباع لصفة ‏{‏منّاع للخير‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 12‏]‏ أي يمنع السائل ويدفعه ويُغلظ له على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذلك الذي يَدعُّ اليتيم‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 2‏]‏‏.‏
ومعنى ‏{‏بعد ذلك‏}‏ علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّئ الخِلقة سيِّئ المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏ على أحد الوجهين فيه‏.‏
وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه‏.‏
وموقع ‏{‏بعد ذلك‏}‏ موقعَ الجملة المعترضة، والظرفُ خبر لمحذوف تقديره‏:‏ هو بعد ذلك‏.‏
ويجوز اتصال ‏{‏بعد ذلك‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏زنيم‏}‏ على أنه حال من ‏{‏زنيم‏}‏‏.‏
والزنيم‏:‏ اللصيق وهو من يكون دعياً في قومه ليس من صريح نسبهم‏:‏ إِما بمغمز في نسبه، وإِما بكونه حليفاً في قوم أو مولى، مأخوذ من الزَنَمة بالتحريك وهي قطعة من أذن البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير‏.‏ والزنمتان بضعتان في رقاب المعز‏.‏
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده‏.‏ وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشاً وحلّ بينهم، وأيَّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه ‏{‏كل‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال‏:‏ ما بال أقوام يعملون كذا، ويُراد واحد معين‏.‏ قال الخطيم التميمي جاهلي، أو حسان بن ثابت‏:‏
زنيم تداعاه الرجال زيادةً *** كما زيد في عَرض الأديم الأكارع
ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قِبَل الأمهات، ومن ذلك قول حَسان في هجاء أبي سفيان بن حَرب، قبل إسلام أبي سفيان، وكانت أمه مولاةً خلافاً لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن‏:‏
وأنتَ زنيم نيطَ في آل هاشم *** كما نِيطَ خلْفَ الراكب القَدَحُ الفَرْدُ
وإنَّ سَنام المجد من آل هاشم *** بنُو بنت مخزوم ووالدُكَ العَبْد
يريد جدّه أبا أمه وهو مَوهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سُمية بنت موهب هذا‏.‏
والقول في هذا الإِطلاق والمرادِ به مماثل للقول في الإِطلاق الذي قبله‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏
‏{‏أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏
يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين‏}‏ بفعل ‏{‏قَال‏}‏ بتقدير لام التعليل محذوفة قبل ‏{‏أنْ‏}‏، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو ‏{‏إذا تتلى‏}‏ ومجرور هو ‏{‏أن كان ذا مال‏}‏، ولا بدع في ذلك وليست ‏{‏إذا‏}‏ بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم‏:‏ إن ‏(‏مَا‏)‏ بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة‏.‏
والمراد‏:‏ كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذَرْني والمكذبين أولِي النعمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي اختلق أن يقول في القرآن ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطِعْ كلّ حلاّف مهين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة في المال كثير الأبناء وهو المعنيُّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقتُ وحيداً وجعلتُ له مالاً ممدوداً وبنينَ شهوداً إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا إلاّ قول البشر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1125‏]‏‏.‏ والوجه أن لا يختص هذا الوصف به‏.‏ وأن يكون تعريضاً به‏.‏
والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي القصة، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين‏}‏ في الأنعام ‏(‏25‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ في سورة النحل ‏(‏24‏)‏‏.‏
وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليُرجع إلى صفة التكذيب التي انتُقل الأسلوب منها من قوله‏:‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 8‏]‏‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أنْ كان ذا مال‏}‏ بهمزة واحدة على أنه خبر‏.‏ وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري‏.‏ وقرأه ابن عامر بهمزة ومَدَّة بجعل الهمزة الثانية ألفاً للتخفيف‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏
‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏‏}‏
استئناف بياني جواباً لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع‏:‏ ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربِّهم‏.‏
وضمير المفرد الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏سنسمه‏}‏ عائد إلى كُل حلاّف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه ‏{‏كلَّ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ من الصفات التي جاءت بحالة الإِفراد‏.‏
والمعنى‏:‏ سنسم كل هؤلاء على الخراطيم، وقد علمت آنفاً أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 15‏]‏ وبأنه ذو مال وبنين‏.‏
و ‏{‏الخرطوم‏}‏‏:‏ أريد به الأنف‏.‏ والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل‏.‏ وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطاً لم تتبين منه حقيقته من مجازه‏.‏
وذكر الزمخشري في «الأساس» معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي، وانبهم كلامه في «الكشاف» إلاّ أن قوله فيه‏:‏ وفي لفظ ‏{‏الخُرطوم‏}‏ استخفاف وإهانة، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإِنسان مجاز مرسل، وجزم ابن عطية‏:‏ أن حقيقة الخرطوم مَخْطَممِ السَبع أي أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإِنسان هنا استعارة كإِطلاق المِشفر وهو شفة البعير على شفة الإِنسان في قول الفرزدق‏:‏
فلو كنتَ ضبيّاً عرفتَ قرابتي *** ولكنَّ زنجيّ غَليظُ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإِنسان ‏(‏وهي للخيل والبغال والحمير‏)‏ في قول النابغة يهجو لبيد بنَ ربيعة‏:‏
ألا مَن مبلغٌ عني لبيداً *** أبا الوَرداء جَحْفَلةَ الأَتان
والوسم للإبل ونحوها، جعل سِمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيَّن‏.‏
فالمعنى‏:‏ سنعامله معاملةً يُعرف بها أنه عبدُنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئاً‏.‏
فالوسم‏:‏ تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه‏.‏
وأصل ‏(‏نسمه‏)‏ نَوْسِمه مثل‏:‏ يَعِد ويَصِل‏.‏
وذِكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإِهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونَه في الوجه إذلالاً وإهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالاً، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفَس، ولذلك غلَب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم‏:‏ شمخ بأنفه، وهُو أشمّ الأنف، وهُم شمّ العرانين، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف، وجَدْعِه، ووقوعه في التراب في قولهم‏:‏ رَغِم أنفه، وعلَى رغْم أنفه، قال جرير‏:‏
لما وَضَعْت على الفرزدق ميسَمي *** وعلى البعيث جَدَعْتُ أنفَ الأخطل
ومُعظم المفسرين على أن المعنيَّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة‏.‏ وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏ هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار‏.‏ يريد‏:‏ ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة‏.‏
وعن ابن عباس معنى ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏ سنخطمه بالسيف قال‏:‏ وقد خُطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوماً إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو‏.‏
وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيتُ العباس لألجمنَّه السيفَ، فقال رسول الله‏:‏ «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف‏؟‏»‏.‏
وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏ وجعل تشويهه يومئذٍ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء، وقد كان الأنف مظهر الكِبر ولذلك سمي الكِبر أنفة اشتقاقاً من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 25‏]‏
‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏
ضمير الغائيبن في قوله‏:‏ ‏{‏بلوناهم‏}‏ يعود إلى المكذبين في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 8‏]‏‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً دَعت إليه مناسبة قوله‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1415‏]‏ فإن الازدهاء والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقعا من قديم الزمان أصحابهما في بَطَر النعمة وإهمال الشكر فجَرَّ ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلاً بحال أصحاب هذه الجَنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم‏.‏ كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف، وضرب مثلاً بقارون في سورة القصص‏.‏
والبلْوى حقيقتها‏:‏ الاختبار وهي هنا تمثيل بحال المبتلَى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمدّ أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإِيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطَغوا ولم يتوجهوا إلى النظر في النعم السالفة ولا في النعمة الكاملة التي أكمَلَتْ لهم النعم‏.‏
ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنّة المذكورة هنا هو الإِعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته‏.‏
وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه‏.‏ وقد حصل ذلك بعد سنين إذْ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏
وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له‏:‏ ضَرَوان ‏(‏بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون‏)‏ من بلاد اليمن بقرب صنعاء‏.‏ وقيل‏:‏ ضروان اسم هذه الجنة، وكانت جنّة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس‏.‏ ولم يبين من أي أهل الكتاب هو‏:‏ أمِن اليهود أم من النصارى‏؟‏ فقيل‏:‏ كان يهودياً، أي لأن أهل اليمن كانوا تديّنوا باليهودية من عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بِهجرة بعض جنود سليمان، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإِصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين‏.‏
وقال بعض المفسرين‏:‏ كان أصحابُ هذه الجنة بعد عيسى بقليل، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلاّ بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القَليس وكان ذلك زمان عام الفيل‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقاً للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمارها فكان يعيش منها اليتامى والأَرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحاً وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأَرامل وقالوا‏:‏ لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين‏.‏
فبيتوا ذلك وأقسموا أيماناً على ذلك، ولعلهم أقسموا ليُلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعَوا إليه‏.‏ وهذا يقتضي أن بعضهم كان متردداً في موافقتهم على ما عَزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 28‏]‏، قيل كان يقول لهم‏:‏ اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين، وذكرهم انتقام الله من المجرمين، أي فغلبوه ومضَوا لما عزموا عليه، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة‏.‏
فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودّة قد أصَابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيراً منها‏.‏
قيل‏:‏ كانت هذه الجنة من أعناب‏.‏
والصرم‏:‏ قطع الثمرة وجذاذها‏.‏
ومعنى ‏{‏مُصبحين‏}‏ داخلين في الصباح أي في أوَائل الفجر‏.‏
ومعنى ‏{‏لا يستثنون‏}‏‏:‏ أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئاً للمساكين، أي أقسموا ليَصْرِمُنّ جميع الثمر ولا يتركون منه شيئاً‏.‏ وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلاّ فإن الصرم لا ينافي إعطاءَ شيء من المجذوذ لمن يريدون‏.‏ وأُجمل ذلك اعتماداً على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها‏.‏
وقيل معناه‏:‏ ‏{‏لا يستثنون‏}‏ لإِيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2324‏]‏‏.‏ ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو ‏(‏إلاّ‏)‏، فإذا اقتصر أحد على «إن شاء الله» دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناءٌ لأنه على تقدير‏:‏ إلا أن يشاء الله‏.‏ على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظراً إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء‏.‏
وعلى هذا التفسير يكون قوله‏:‏ ‏{‏ولا يستثنون‏}‏ من قبيل الإِدماج، أي لِمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقاً، والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بُخلِهم على الفقراء والأيتام‏.‏
وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفاراً، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فطاف عليها طائف من ربّك،‏}‏ الطواف‏:‏ المشي حول شيء من كل جوانبه يُقال‏:‏ طاف بالكعبة، وأريد به هنا تمثيل حالة الإِصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا مسهم طائف من الشيطان‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏
وعُدّي ‏(‏طاف‏)‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ لتضمينه معنى‏:‏ تسلط أو نزل‏.‏
ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به، فإسناد فعل ‏(‏طاف‏)‏ إلى ‏{‏طائف‏}‏ بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل‏:‏ فطِيف عليها وهم نائمون‏.‏
وعن الفراء‏:‏ أن الطائف لا يكون إلاّ بالليل، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طَيفاً‏.‏ قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل، وفي هذا نظر‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{‏وهم نائمون‏}‏ تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى ‏{‏طائف‏}‏ على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة‏.‏
وتنوين ‏{‏طائف‏}‏ للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله‏:‏ ‏{‏فأصبحت كالصريم‏}‏ فهو طائف سوء، قيل‏:‏ أصابها عنق من نار فاحترقت‏.‏
و ‏{‏من ربّك‏}‏ أي جائياً من قِبَل ربّك، ف ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء يعني‏:‏ أنه عذاب أرسل إليهم عقاباً لهم على عدم شكر النعمة‏.‏
وعُجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين‏.‏ ويؤخذ من الآية موعظة للذين لا يواسون بأموالهم‏.‏
وإذْ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيوياً لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة‏.‏
والصريم قيل‏:‏ هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار مَلْواً فيقال‏:‏ المَلوَاننِ، وعلى هذا ففي الجمع بين ‏(‏أصبحتْ‏)‏ و‏(‏الصريم‏)‏ محسن الطباق‏.‏
وقيل الصريم‏:‏ الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة‏.‏
وقيل الصريم‏:‏ اسم رملة معروفة باليمن لا تُنبت شيئاً‏.‏
وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية‏.‏
وبين ‏(‏يصرِمُنَّها‏)‏ و‏(‏الصريم‏)‏ الجناس‏.‏
وفاء ‏{‏فتنادوا‏}‏ للتفريع على ‏{‏أقسموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحين،‏}‏ أي فلما أصبحوا تنادوا لإنجاز ما بيّتوا عليه أمرهم‏.‏
والتنادي‏:‏ أي ينادي بعضُهم بعضاً وهو مشعر بالتحريض على الغدوّ إلى جنتهم مبكرين‏.‏
والغدوّ‏:‏ الخروج ومغادرة المكان في غُدوة النهار، أي أوله‏.‏
وليس قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صارمين‏}‏ بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغُدوِّ قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم‏.‏ ومنه قول عبد الله بن عُمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواحَ إن كنت تُريد السنة‏.‏ ونظير ذلك كثير في الكلام‏.‏
و ‏{‏على‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏على حرثكم‏}‏ مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل‏:‏ اغدوا تكونوا على حرثكم، أي مستقرين عليه‏.‏
ويجوز أن يضمن فعل الغدوّ معنى الإِقبال كما يقال‏:‏ يُغدى عليه بالجَفْنة ويُراح‏.‏ قال الطيبي‏:‏ «ومثله قيل في حق المطلب تَغدُو دِرَّتُه ‏(‏التي يضرب بها‏)‏ على السفهاء، وجَفنته على الحُلماء»‏.‏
والحرث‏:‏ شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب‏.‏
ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإِصلاح شجرها، وهو المارد هنا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرثٌ حِجْر‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏138‏)‏، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏والأَنعاممِ والحرثِ‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏14‏)‏‏.‏
والتخافت‏:‏ تفاعل من خَفَتَ إذا أسرّ الكَلام‏.‏
وأن لا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين‏}‏ تفسير لفعل ‏{‏يتخافتون‏}‏ و‏{‏أن‏}‏ تفسيرية لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه‏.‏
وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه‏.‏
وأسند إلى ‏{‏مسكين‏}‏ فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضاً عن دخول المسكين إلى جنتهم، أي لا يترك أحد مسكيناً يدخلها‏.‏ وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في استعمال النهي كقولهم‏:‏ لا أعرفنَّك تَفْعَلُ كذا‏.‏
وجملة ‏{‏وغَدوا على حَردٍ قادرين‏}‏ في موضع الحال بتقدير ‏(‏قد‏)‏، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حَرد‏.‏
وذُكِر فعل ‏{‏غَدَوا‏}‏ في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدوِّ النحس كقول امرئ القيس‏:‏
وباتَ وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد
بعد قوله‏:‏
تَطاول ليلك بالأثمُد *** وباتَ الخَلي ولم تَرْقُد
يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان‏.‏
والحرد‏:‏ يطلق على المنع وعلى القصد القوي، أي السرعة وعلى الغضب‏.‏
وفي إيثار كلمة ‏{‏حَرْد‏}‏ في الآية نكتة من نكت الإِعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق ‏{‏على حرد‏}‏ ب ‏{‏قادرين‏}‏، أو بقوله ‏{‏غَدوا،‏}‏ فإذا علق ب ‏{‏قادرين،‏}‏ فتقديم المتعلِّق يفيد تخصيصاً، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع‏.‏
والتعبير بقادرين على حرد دون أن يقول‏:‏ وغدوا حاردين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَقدرون على شيء مما كسبوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏بلى قادرين على أن نسوي بنانه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏على حرد قادرين‏}‏ على هذا الاحتمال من باب قولهم‏:‏ فلان لا يملك إلاّ الحِرمان أو لا يقدر إلاّ على الخيبة‏.‏
وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان ‏{‏على حرد‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏غَدَوا‏}‏ مبيناً لنوع الغُدو، أي غدوا غدُوَّ سرعة واعتناء، فتكون ‏{‏على‏}‏ بمعنى باء المصاحبة، والمعنى‏:‏ غدوا بسرعة ونشاط، ويكون ‏{‏قادرين‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏غدوا‏}‏ حالاً مقدَّرة، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا‏.‏
وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا، دل عليه قوله بعده ‏{‏فلما رأوها قالوا إنا لضالون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 26‏]‏، وقولُه قبله ‏{‏فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون‏}‏‏.‏
وإذا أريد بالحرد الغضب والحَنق فإنه يقال‏:‏ حَرَدٌ بالتحريك وحَرْدٌ بسكون الراء ويتعلق المجرور ب ‏{‏قادرين‏}‏ وتقديمه للحصر، أي غدوا لا قدرة لهم إلاّ على الحَنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلاّ على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة‏.‏
وعن السدي‏:‏ أن ‏{‏حَرد‏}‏ اسم قريتهم، أي جنتهم‏.‏ وأحسب أنه تفسير ملفق وكأنَّ صاحبه تصيده من فعلي ‏{‏اغْدُوا وغَدوا‏}‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 32‏]‏
{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏
أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا على أنفسهم باللائمَة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم، وعلموا أنهم أُخذوا بسبب ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏‏.‏ ومن حِكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري «مَن لَم يشكر النعم فقد تَعَرَّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيَّدها بعِقالها»‏.‏
وأفادت ‏(‏لَمَّا‏)‏ اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة‏.‏ والمقصود من هذا التعريضُ للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير‏.‏
وإسناد هذه المقالة إلى ضمير ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏ يقتضي أنهم قالوه جميعاً، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم‏.‏
ومعنى ‏{‏إنا لضالون‏}‏ أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقاباً على إهمال الشكر، فالضلال مجاز‏.‏
وأكَّدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم‏.‏
و ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبييتهم إذ بيَتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم‏.‏
والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أُتي به ضميراً بارزاً مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميراً مستتراً في اسم المفعول مقدَّراً مؤخراً عنه لأنه لا يتصور إلاّ بعد سماع متحمِّله‏.‏ فلما أبرز الضمير وقُدم كان تقديمه مؤذناً بمعنى الاختصاص، أي القصر، وهو قصر إضافي، وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن‏.‏
ويحتمل أن يكون الضلال حقيقياً، أي ضلال طريق الجنة، أي قالوا‏:‏ إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها، قالوا ذلك تحيراً في أمرهم‏.‏
ويكون الإِضراب إبطالياً، أي أبطلوا أن يكونوا ضَلّوا طريق جنتهم، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله‏.‏
و ‏{‏أوسطهم‏}‏ أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإِخوة الثلاثة‏.‏ والوسط‏:‏ يطلق على الأخْيَر الأفضللِ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسَطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوُسطى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ ويقال هو من سِطَة قومه، وأعطني من سِطَة مالِك‏.‏
وحكي هذا القول بدون عاطف لأنه قول في مَجرى المحاورة جواباً عن قولهم ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخَطل رأيهم‏.‏
والاستفهام تقريري و‏{‏لولا‏}‏ حرف تحضيض‏.‏ والمراد ب ‏{‏تسبحون‏}‏ تنزيه الله عن أن يُعصى أمره في شأن إعطاء زكاة ثمارهم‏.‏
وكان جوابهم يتضمن إقراراً بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمِهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا‏:‏ ‏{‏سبحان ربّنا إنا كنا ظالمين‏}‏ أرادوا إجابة تقريره بإقرار بتسبيح الله عن أن يُعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى‏:‏
‏{‏فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان تواباً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنا كنا ظالمين‏}‏ إقرار بالذنب، والتأكيد لتحقيق الإِقرار والاهتمام به‏.‏ ويفيد حرفُ ‏(‏إنّ‏)‏ مع ذلك تعليلاً للتسبيح الذي قبله‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ظالمين‏}‏ ليعم ظلمهم أنفسهم بما جرَّوه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنَعهم من حقهم فى المال‏.‏
وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبّهنا عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏
ولما استقرّ حالهم على المشاركة في منع المساكين حقَّهم أخذَ بعضهم يلوم بعضاً على ما فرط من فعلهم‏:‏ كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقاً لهم من حياة الأب، ومن الممالاة على ذلك، ومن الاقتناع بتصميم البقية، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم، فصوَّر قولُه‏:‏ فأقبلَ بعضهم على بعض يتلاومون‏}‏ هذه الحالة والتقاذفَ الواقع بينهم بهذا الإِجمال البالغ غاية الإِيجاز، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصوّر في ذهن السامع صوراً من لوم بعضهم على بعض‏.‏
وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم‏:‏ ‏{‏يا ويلنا إنّا كنّا طاغين‏}‏ إلى آخره، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك‏.‏
فجملة ‏{‏قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين‏}‏ إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة ‏{‏يتلاومون،‏}‏ أي يلوم بعضهم بعضاً بهذا الكلام فتكون خبراً مستعملاً في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإِقرار على نفسه، مع التحسر والتندم بما أفاده ‏{‏يا ويلنا‏.‏‏}‏ وذلك كلام جامع للملامة كلها ولَم تعطف الجملة لأنها مبينة‏.‏
ويجوز أن تكون جوابَ بعضهم بعضاً عن لومه غيره، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضاً كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضاً عن ذلك الملام فقال كل مَلُوم للائِمِه ‏{‏يا ويلنا إنا كنّا طاغين‏}‏ الخ جواباً بتقرير ملامه والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضِهم عن جنتهم خيراً منها إذا قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة‏.‏
والإِقبال‏:‏ حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القُبُل وهو ما يبدو من الإِنسان من جهة وجهه ضد الإِدبار، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللَّوم‏.‏
واللوم‏:‏ إنكار متوسط على فعل أو قوللٍ وهو دون التوبيخ وفوق العتاب، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏
‏{‏فإنهم غير مَلومين‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏6‏)‏‏.‏
والطغيان‏:‏ تجاوز الحدّ المتعارف في الكِبْر والتعاظم والمعنى‏:‏ إنا كنا طاغين على حدود الله‏.‏
ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءَهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدّنيا فيمحوَ عقابه في الدنيا محواً كاملاً بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيراً منها‏.‏
وجملة إنا إلى ربّنا راغبون‏}‏ بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة‏.‏
والتأكيد في ‏{‏إنا إلى ربّنا راغبون‏}‏ للاهتمام بهذا التوجه‏.‏
والمقصود من الإِطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإِنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه‏.‏
روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدقَ فأبدلهم جنة يقال لها‏:‏ الحَيَوان، ذات عنب يُحمَل العنقودُ الواحد منه على بغل‏.‏
وعن أبي خالد اليماني أنه قال‏:‏ دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم‏.‏
وقرأ الجمهور ‏{‏أن يبْدِلنا‏}‏ بسكون الموحدة وتخفيف الدال‏.‏ وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ‏{‏يُبَدِّلَنا‏}‏ بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد‏.‏
قال ابن الفرس في «أحكام القرآن»‏:‏ استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصداً للفرار من الزكاة أو خالط غيره، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافاً للشافعي‏.‏
ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏
‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله‏:‏ ‏{‏إنا بلوناهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏، فالكلام فذلكة وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي‏.‏
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يَكون العذاب في الدنيا، فقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مسند مقدم و‏{‏العذاب‏}‏ مسند إليه، وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع‏.‏
والتعريف في ‏{‏العذاب‏}‏ تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات‏.‏
وليس التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك العذاب‏}‏ مثل التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف لوجود ما يصلح لأن يكون مشبهاً به العذابُ وهو كون المشبه به غير المشبه، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أخْذُ ربّك إذا أخَذَ القرى وهي ظالمة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏ بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث إذا أريد تشبيهه لا يلجأ إلاّ إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه‏.‏
والمماثلةُ بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلاّ فإن ما تُوعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطولُ‏.‏
وقوله ‏{‏ولعذاب الآخرة أكبر‏}‏ دال على أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك العذاب‏}‏ عذاب الدنيا‏.‏
وضمير ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏بلوناهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏ لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏
‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏‏}‏
استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع يقول‏:‏ فما جزاء المتقين‏؟‏ وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك العذاب‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده‏:‏ ‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35‏]‏ كما سيأتي‏.‏
وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكرُ صفتهم العظيمة ذكْرَ جزائها‏.‏
واللام للاستحقاق‏.‏ و‏{‏عند‏}‏ ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قُدم متعلَّقُه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام‏.‏ وقد حصل من تقديم المسند بما معه طولٌ يثير تشويق السامع إلى المسند إليه‏.‏ والعِندية هنا عندية كرامةٍ واعتناء‏.‏
وإضافة ‏{‏جنات‏}‏ إلى ‏{‏النعيم‏}‏ تفيد أنها عُرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها لأن أصل الإِضافة أنها بتقدير لام الاستحقاق ف ‏{‏جنات النعيم‏}‏ مفيد أنها استحَقها النعيم لأنها ليس في أحوالها إلاّ حال نعيم أهلها، فلا يكون فيها ما يكون في جنات الدّنيا من المتاعب مثل الحَرّ في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنانير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏
‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏
فاء التفريع تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدّنيا والآخرة، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب أن يتفرع عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعيَّن تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع، وهو ما أشرنا إليه آنفاً من توقع أو وقوعَ سؤال‏.‏
والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة، والتهكم على إدلالهم الكاذب، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسُفهوا على اعتقاده كان حديثاً قد جرى في نواديهم أو استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بَعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه‏.‏
وعن مقاتل لما نزلت آية ‏{‏إن للمتقين عند ربّهم جنات النعيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 34‏]‏ قالت قريش‏:‏ إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدّنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا‏:‏ إنا نعطى يومئذٍ خيراً مما تُعطون فنزل قوله‏:‏ ‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏}‏ الآية‏.‏
والهمزة للاستفهام الإِنكاري، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإِنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحاً قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن لكم لما تحكمون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 39‏]‏‏.‏
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 20‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏ وقال السموأل أو الحارثي‏:‏
سَلي إن جَهِلْتتِ الناسَ عنّا وعنهمُ *** فليس سواءً عالم وجهول
وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظاً في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏}‏ كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب ‏{‏المجرمين،‏}‏ عُبر عنهم بطريق الإِظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف ‏{‏المجرمين‏}‏ من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين‏.‏
فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ التفاتاً عن ضمائر الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏ودُّوا لو تدهن فيدهنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 9‏]‏ وقوله ‏{‏إنا بلوناهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعاً لتغير توجيه الكلام، لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد‏.‏
و ‏{‏ما لكم‏}‏ استفهام إنكاري لحالة حكمهم، ف ‏{‏ما لكم‏}‏ مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏246‏)‏‏.‏
وكيف تحكمون‏}‏ استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير ‏{‏لكم،‏}‏ أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم، أي فإن ثبت لهم كان منكراً باعتبار حالة حكمهم‏.‏
والمعنى‏:‏ لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏
‏{‏أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏
إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم‏.‏
والاستفهام المقدر مع ‏{‏أم‏}‏ إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكاراً مبنياً على الفرض وإن كانوا لم يدّعوه‏.‏
وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي ‏{‏أم لكم أيمان علينا‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 39‏]‏ الخ، ‏{‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏أم لهم شركاء‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 41‏]‏ الخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتاباً سماوياً نزل من لدنا، وإما أن يكون سنده عَهْداً منا بأنا نعطيكم ما تقترحون، وإما أن يكون لكم كفيل علينا، وأما أن يكون تعويلاً على نصر شركائكم‏.‏
وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على المبتدأ وهو ‏{‏كِتاب‏}‏ لأن المبتدأ نكرة وتنكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازماً‏.‏
وضمير ‏{‏فيه‏}‏ عائد إلى الحكم المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏كيف تحكمون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 36‏]‏، أي كتاب في الحكم‏.‏
و ‏(‏في‏)‏ للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بكذا أو في النهي عن كذا فيكون ‏{‏فيه‏}‏ ظرفاً مستقراً صفة ل ‏{‏كتاب‏.‏‏}‏ ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى ‏{‏كتاب‏}‏ ويتعلق المجرور بفعل ‏{‏تدرسون‏}‏ جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول‏:‏ لنا درس في كتاب سيبويه‏.‏
وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أمِّيُّون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءَهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 10‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أو تقولوا لَوْ أنا أُنزل علينا الكتاب لكُنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربّكم وهدى ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏إنّ لكم فيه لما تخيَّرون‏}‏ في موضع مفعول ‏{‏تدرسون‏}‏ على أنها محكي لفظها، أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على نوح في العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78، 79‏]‏ أي تدرسون جملة ‏{‏إِنَّ لكم فيه لَما تَخيَّرون‏.‏
ويكون فيه‏}‏ توكيداً لفظياً لنظيرها من قوله‏:‏ ‏{‏فيه تدرسون،‏}‏ قصد من إعادتها مزيد ربط الجملة بالتي قبلها كما أعيدت كلمة ‏(‏من‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكَراً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏ وأصله‏:‏ تتخذون سَكَراً‏.‏
و ‏{‏تخيرون‏}‏ أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفاً‏.‏ والتخير‏:‏ تكلف الخَير، أي تطلب ما هو في أخير‏.‏ والمعنى‏:‏ إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏
‏{‏أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد ‏{‏أم‏}‏ إنكاري و‏{‏بالغة‏}‏ مؤكَّدة‏.‏ وأصل البالغة‏:‏ الواصلة إلى ما يُطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فللَّه الحجة البالغة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏علينا‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏أيمان‏}‏ أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا‏.‏
و ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ صفة ثالثة ل ‏{‏أيمان،‏}‏ أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة‏}‏ في سورة الأحقاف ‏(‏5‏)‏‏.‏
ويتعلق إلى يوم القيامة‏}‏ بالاستقرار الذي في الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏لكم أيمان‏}‏ ولا يحسن تعلقه ب ‏{‏بالغة‏}‏ تعلق الظرف اللغو لأنه يصير ‏{‏بالغة‏}‏ مستعملاً في معنى مشهور قريب من الحقيقة، ومحملُ ‏{‏بالغة‏}‏ على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة ‏{‏إن لكم لَما تحكمون‏}‏ بيان ل ‏{‏أيمان،‏}‏ أي أيمان بهذا اللفظ‏.‏
ومعنى ‏(‏ما تحكمون‏)‏ تأمرون به دون مراجَعة، يقال‏:‏ نزلوا على حكم فلان، أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان، قال خَطاب أو حطان بن المُعلَّى‏:‏
أنزلني الدّهر على حكمه *** من شامخخٍ عاللٍ إلى خفض
أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيَّ كما شاء‏.‏
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال «حُكْمُكَ مُسَمَّطاً» ‏(‏بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة‏)‏ أي لك حكمك نافذاً لا اعتراض عليك فيه‏.‏ وقال ابن عَثمة‏:‏
لك المِرباع منها والصفايا *** وحكْمُك والنشيطةُ والفُضول
تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏
‏{‏سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏
استئناف بياني عن جملة ‏{‏أم لكم أيمان علينا بالغة‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 39‏]‏، لأن الأيمان وهي العهود تقتضي الكفلاء عادة قال الحارث بن حِلِّزة‏:‏
واذكُروا حِلف ذِي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العهودُ والكفلاء
فلما ذُكر إنكار أن يكون لهم عهود، كُمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان‏.‏
فالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏}‏ مستعمل في التهكم زيادة على الإِنكار عليهم‏.‏
والزعيم‏:‏ الكفيل وقد جعل الزعيم أحداً منهم زيادة في التهكم وهو أن جعل الزعيم لهم واحداً منهم لعزتهم ومناغاتهم لكبرياء الله تعالى‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏
‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏
‏{‏أم‏}‏ إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم‏:‏ إِنا نعْطَى مثل ما يُعطَى المسلمون أو خيراً مما يُعطونه، وهو أن يُفرض أن أصنامهم تنصرهم وتجعل لهم حَظاً من جزاء الخير في الآخرة‏.‏
والمعنى‏:‏ بل أثبتت لهم، أي لأجلهم ونفعهم شركاءُ، أي شركاء لنا في الإلهية في زعمهم، فحذف متعلق ‏{‏شركاء‏}‏ لشهرته عندهم فصار شركاء بمنزلة اللقب، أي أم آلهتهم لهم فليأتوا بهم لينفعوهم يوم القيامة‏.‏
واللام في ‏{‏لهم‏}‏ لام الأجل، أي لأجلهم بتقدير مضاف، أي لأجل نصرهم، فاللام كاللام في قول أبي سفيان يوم أحد «لنا العزى ولا عزى لكم»‏.‏
وتنكير ‏{‏شركاء‏}‏ في حيز الاستفهام المستعمل في الإِنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، أي لنفعهم فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصةَ ببعض القبائل‏.‏
وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد ‏{‏سلْهُم أيهم بذلك زعيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 40‏]‏، لأن أخص الناس بمعرفة أحقّية هذا الإِبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستتبع توجيهَ هذا الإِبطال إليهم بطريقة التعريض‏.‏
والتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بشركائهم‏}‏ تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر ‏{‏فليأتوا‏}‏ أمر تعجيز‏.‏
وإضافة ‏{‏شركاء‏}‏ إلى ضميرهم في قوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بشركائهم‏}‏ لإِبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم، أي ليسوا شركاء في الإلهية إلاّ عند هؤلاء فإن الإلهية الحق لا تكون نسبية بالنسبة إلى فريق أو قبيلة‏.‏
ومثل هذا الإِطلاق كثير في القرآن ومنه قوله‏:‏ ‏{‏قل ادعوا شركاءكم ثم كِيدُون فلا تُنظرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195‏]‏‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏
‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏
يجوز أن يكون ‏{‏يوم يُكشف‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بشركائهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 41‏]‏، أي فليأتوا بالمزعومين يومَ القيامة، وهذا من حُسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم‏.‏
ويجوز أن يكون استئنافاً متعلقاً بمحذوف تقديره‏:‏ اذكُرْ يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم‏.‏
وعلى كلا الوجهين في تعلق ‏{‏يوم‏}‏ فالمراد باليوم يوم القيامة‏.‏
والكشف عن ساق‏:‏ مثَل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال‏:‏ شمر عن ساعد الجد، وأيضاً كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادةً، فيقال‏:‏ كشفت عن ساقها أو شَمَّرت عن ساقها، أو أبْدت عن ساقها، قال عبد الله بن قيس الرقيات‏:‏
كيف نوْمي على الفراش ولما *** تشملْ الشامَ غارةٌ شَعْواء
تُذهل الشيخ عن بنيه وتبدي *** عن خِدَام العقيلة العذراء
وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك‏:‏ «انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وأنهما لمشمّرتان أرى خَدَم سوقهمَا تنقلان القِرَب على متُونهما ثم تُفْرِغَانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها» الخ، فإذا قالوا‏:‏ كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساقه‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ كشف الأمر عن ساق، فقد مثلوه بالمرأة المروعة، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم‏:‏
فتى الحرب عضّت به لحرب الحرب عضها *** وإن شمرت عن سَاقها الحرب شمَّرا
وقال جد طرفة من الحماسة‏:‏
كشفتْ لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البَواح
وقرأ ابن عباس ‏{‏يوم تَكشف‏}‏ بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة، وقريب من هذا قولهم‏:‏ قامت الحرب على ساق‏.‏
والمعنى‏:‏ يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروْع، قال ابن عباس‏:‏ يكشف عن ساق‏:‏ عن كرب وشدة، وهي أشد ساعة في يوم القيامة‏.‏
وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا، فقال‏:‏ «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب»، أما سمعتم قول الشاعر‏:‏
صبراً عَنَاقُ إنه لشِرْباقْ *** فقد سنّ لي قومُككِ ضربَ الأعناقْ
وقامت الحرب بنا على ساق *** وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يكشف عن ساق‏}‏‏:‏ شدّة الأمر‏.‏
وجملة ‏{‏ويُدْعون‏}‏ ليس عائداً إلى المشركين مثل ضمير ‏{‏إِنا بلوناهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17‏]‏ إذ لا يساعد قوله‏:‏ ‏{‏وقد كانوا يدعون إلى السجود‏}‏ فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يُدْعَون إلى السجود‏.‏ فالوجه أن يكون عائداً إلى غير مذكور، أي ويُدعَى مدعوون فيكون تعريضاً بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخُلص عن غيرهم تَميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم، قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود‏:‏ فمن كان يعبد الله مخلصاً يخِرُّ ساجداً له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنَّ في ظهورهم السفافيد اه‏.‏
فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدعون إلى السجود‏}‏ إدماجاً لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم‏.‏
وفي «صحيح مسلم» من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلاّ جعل الله ظهره طبقَة واحدة كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ‏"‏ الحديث، فيصلح ذلك تفسيراً لهذه الآية‏.‏
وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا‏:‏ يكشِف الله عن ساقه، أي عن مثل الرِجْل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن ساقِ‏}‏ قال يكشف عن نور عظيم يَخرون له سجداً‏.‏
ورُويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها‏.‏
و ‏{‏السجود‏}‏ الذي يُدعون إليه‏:‏ سجودُ الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف‏.‏
وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة‏.‏
والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوم يدعو الداعي إلى شيء نكر إلى قوله‏:‏ ‏{‏مهطعين إلى الداعي‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 68‏]‏، أو يدعو بعضهم بعضاً بإلهام من الله تعالى، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي «فيقول بعضهم لبعض‏:‏ لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يريحنا من موقفنا هذا»‏.‏
وخشوع الأبصار‏:‏ هيئة النظر بالعين بذلة وخَوف، استعير له وصف ‏{‏خاشعة‏}‏ لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفياً‏.‏
و ‏{‏ترهقهم‏}‏‏:‏ تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، رَهِقَ من باب فَرِح قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَرْهَقُها قَتَرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وجملة ‏{‏ترهقهم ذلة‏}‏ حال ثانية من ضمير ‏{‏يستطيعون‏.‏
وجملة وقد كانوا يُدْعَوْن إلى السجود وهم سالمون‏}‏ معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها، أي كانوا في الدّنيا يُدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر‏.‏ والواو للحال وللاعتراض‏.‏
وجملة ‏{‏وهم سالمون‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يُدعون‏}‏ أي وهم قادرون لا علة تعوقهم عنه في أجسادهم‏.‏ والسلامة‏:‏ انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم مُلْجَأُون لعدم السجود‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏
‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏
الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سبباً في ذكر ما بعده، فبعد أن استُوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصْره عليهم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب‏}‏ ونحوه يفيد تمثيلاً لحال مفعول ‏(‏ذر‏)‏ في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانةٍ بصاحببِ المؤونةِ بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول ‏(‏ذَرْ‏)‏ لأنه أقدر من المعتدَى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعوللٍ معه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏ذَرني ومن خلقتُ وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ وقال السهيلي في «الروض الأنف» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ فيه تهديد ووعيد، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر‏.‏
والواو واو المعية وما بعدها مفعول معه، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود‏:‏ اتركني معهم‏.‏
و ‏{‏الحديث‏}‏ يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثاً لما فيه من الإِخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏185‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمِن هذا الحديث تعجبون وتضحكون‏}‏ الآية في‏}‏ ‏[‏سورة النجم‏:‏ 5960‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أفبهذا الحديث أنتم مدهنون‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏81‏)‏‏.‏
واسم الإِشارة على هذا للإِشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن‏.‏
ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإِخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يكشف عن ساق الآية‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏‏.‏
ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى‏:‏ حسبك إيقاعاً بهم أن تكل أمرهم إليّ فأنَا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بهم وتوكل عليَّ‏.‏
ويتضمن هذا تعريضاً بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام‏.‏
وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول‏.‏
وجملة ‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون،‏}‏ بيان لمضمون ‏{‏ذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث‏}‏ باعتبار أن الاستدراج والإِملاء يعقبهما الانتقام فكأنه قال‏:‏ سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطئ الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره‏.‏
والاستدراج‏:‏ استنزال الشيء من دَرَجة إلى أخرى في مثل السُّلم، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج، أي التنقل في الدَّرج، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرَج يكون صعوداً ونزولاً، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمُسيءٍ إلى إبَّان مقدرٍ عند حلوله عقابُه ومعنى ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حلول المصائب بهم، ف ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، و‏{‏حيث‏}‏ للمكان المجازي، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر، ومفعول ‏{‏لا يعلمون‏}‏ ضمير محذوف عائد إلى ‏{‏حيث‏.‏
وأُملي‏}‏‏:‏ مضارع أمَلى، مقصوراً بمعنى أمْهَل وأخَّر وهو مشتق من المَلاَ مقصوراً، وهو الحِين والزمن، ومنه قيل لليللِ والنهار‏:‏ المَلَوَان، فيكون أملى بمعنى طَوَّل في الزمان، ومصدره إملاء‏.‏
ولام ‏{‏لهم‏}‏ هي اللام المسماة لام التبيين، وهي التي تُبين اتصال مدخولها بعامله لخفاءٍ فيه فإن اشتقاق فعل أمَلى من الملْوِ، وهو الزمان اشتقاق غيرُ بيّن لخفاء معنى الحَدَث فيه‏.‏
ونون ‏{‏سنستدرجهم‏}‏ نون المتكلم المشارك، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله فلذلك جيء بنون المتكلم المشارك فالاستدراج تعلق تنجيزي لقدرةِ الله فيحصل بواسطة الملائكة الموكلين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتُوا الذين ءامنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏‏.‏
وأما الإِملاء فهو علم الله بتأجيل أخْذِهم‏.‏ وتعلُق العلم ينفرد به الله فلذلك جيء معه بضمير المفرد‏.‏ وحصل في هذا الاختلاف تفنن في الضميرين‏.‏
ونظير هذه الآية قوله في الأعراف ‏(‏182 183‏)‏‏:‏ ‏{‏والذين كذبُوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأُملي لهم إن كيدي متين‏}‏ باعتبار أنهما وعد للنبيء بالنصر وتثبيت له بأن استمرار الكافرين في نعمة إنما هو استدراج وإملاء وضرب يشبه الكيد وأن الله بالغ أمره فيهم، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196 197‏]‏‏.‏
وموقع ‏{‏إنَّ‏}‏ موقع التسبب والتعليل كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏‏.‏
وإطلاق الكيد على إحسان الله لقوم مع إرادة إلحاق السوء بهم إطلاق على وجه الاستعارة لمشابهته فعل الكائد من حيث تعجيل الإِحسان وتعقيبه بالإِساءة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏
‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏
إضراب آخر للانتقال إلى إبطال آخر من إبطال معاذيرهم في إعراضهم عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المبتدئ من قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 3637‏]‏ ‏{‏أم لكم أيمان‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 39‏]‏ ‏{‏أم لهم شركاء‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 41‏]‏ فإنه بعد أن نفى أن تكون لهم حجة تؤيد صلاح حالهم، أو وعد لهم بإعطاء ما يرغبون، أو أولياء ينصرونهم، عطف الكلام إلى نفي أن يكون عليهم ضر في إجابة دعوة الإسلام، استقصاء لقطع ما يُحتمل من المعاذير بافتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم أجراً على هديه إياهم، فصدهم عن إجابته ثقل عزم المال على نفوسهم‏.‏
فالاستفهام الذي تؤذن به ‏{‏أم‏}‏ استفهامٌ إنكار لفرض أن يكون ذلك مما يخامر نفوسهم فرضاً اقتضاه استقراء نواياهم من مواقع الإِقبال على دعوة الخير والرشد‏.‏
والمَغْرَمُ‏:‏ ما يفرض على المرء أداؤه من ماله لغيرِ عِوض ولا جناية‏.‏
والمُثْقَل‏:‏ الذي حُمل عليه شيء ثقيل، وهو هنا مجاز في الإِشفاق‏.‏
والفاء للتفريع والتسبب، أي فيتسبب على ذلك أنك شققت عليهم فيكون ذلك اعتذاراً منهم عن عدم قبول ما تدعوهم إليه‏.‏
و ‏{‏مِن مغرم‏}‏ متعلق ب ‏{‏مثقلون،‏}‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية، وهو ابتداء مجازي بمعنى التعليل، وتقديم المعمول على عامله للاهتمام بموجب المشقة قبل ذكرها مع الرعاية على الفاصلة‏.‏
تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏
‏{‏أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏
إضراب آخر انتقل به من مدارج إبطال مَعاذيرَ مفروضةٍ لهم أن يتمسكوا ببعضها تعلةً لإِعراضهم عن قبول دعوة القرآن، قطعاً لما عسى أن ينتحلوه من المعاذير على طريقة الاستقراء ومنع الخلو‏.‏
وقد جاءَت الإِبطالات السالفة متعلقة بما يفرض لهم من المعاذير التي هي من قبيل مستندات من المشاهدات، وانتُقل الآن إلى إبطال من نوع آخر، وهو إبطال حجة مفروضة يستندون فيها إلى علم شيء من المعلومات المغيبات عن الناس‏.‏ وهي مما استأثر الله بعلمه وهو المعبر عنه بالغَيْب، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏ وقد استقر عند الناس كلهم أن أمور الغيب لا يعلمها إلاّ الله أو من أطْلَع من عباده على بعضها‏.‏
والكلام هنا على حذف مضاف، أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏}‏ في سورة النجم ‏(‏35‏)‏‏.‏
فالمراد بقوله عندهم الغيب‏}‏ أنه حصل في علمهم ومكنتهم، أي بإطلاع جميعهم عليه أو بإبلاغ كبرائهم إليهم وتلقيهم ذلك منهم‏.‏
وتقديم ‏{‏عندهم‏}‏ على المبتدأ وهو معرفة لإِفادة الاختصاص، أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله‏.‏
ومعنى ‏{‏يكتبون‏}‏‏:‏ يَفرضون ويعينون كقوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القصاص في القَتلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، أي فهم يفرضون لأنفسهم أن السعادة في النفور من دعوة الإِسلام ويفرضون ذلك على الدهماء من أتباعهم‏.‏
ومجيء جملة ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ متفرعة عن جملة ‏{‏أم عندهم الغيب،‏}‏ بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهداً على حكمهم لأنفسهم المشارِ إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 36‏]‏ كما علمته آنفاً‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏
‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏
تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يَأْساً من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهَدْي، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكَّره بمثَل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيراً مراداً به التحذير‏.‏
والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة‏.‏ وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها ‏{‏يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولربك فاصبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 17‏]‏ فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً‏.‏ ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله‏.‏
وصاحب الحوت‏:‏ هو يونس بن متَّى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{‏ويونس‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏84 86‏)‏‏.‏
والصاحب‏:‏ الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار ‏(‏صاحبُ الحوت‏)‏‏}‏ لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية‏.‏
وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات‏.‏
و ‏{‏إذْ‏}‏ طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه‏.‏
والمكظوم‏:‏ المحبوس المسدود عليه يقال‏:‏ كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده، والمعنى‏:‏ نادى في حال حبسه في بطن الحوت‏.‏
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏لولا أن تداركه نعمة من ربّه لَنُبذ بالعراء‏}‏ إلخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى‏}‏ إلخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه‏.‏
و ‏{‏أنْ‏}‏ يجوز أن تكون مخففة من ‏(‏أنَّ‏)‏، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة ‏{‏تداركه نعمة من ربّه‏}‏ خبرها‏.‏ ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربّه‏.‏
والتدارك‏:‏ تفاعل من الدرَك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعضُ السائرين بعضاً وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه‏.‏
والنبذ‏:‏ الطرح والترك‏.‏ والعراء ممدوداً‏:‏ الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء‏.‏
والمعنى‏:‏ لنبذهُ الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يُرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأَطراف خوفاً على نفسه وفراخه‏.‏
والمعنى‏:‏ أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات‏.‏
وأُدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعدَ نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتاً فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مُثْلة للناظرين أو حيّاً منبوذاً بالعراء لا يجد إسْعافاً، أو لَنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه‏.‏ وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذاً خارقاً للعادة‏.‏
وهذا المعنى طوي طياً بديعاً وأشير إليه إشارة بليغة بجملة ‏{‏لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم‏.‏
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة وهو مذموم‏}‏ في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب ‏{‏لَولا‏}‏، فتقدير الكلام‏:‏ لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء نبذاً ذميماً، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غيرَ مذموم‏.‏
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جواباً للشرط لأن ‏{‏لولا‏}‏ تقتضي امتناعاً لوُجودٍ، فلا يكون جوابها واقعاً فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء‏.‏
ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب ‏{‏لولا‏}‏ محذوفاً دل عليه قوله ‏{‏وهو مكظوم‏}‏ مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفاً، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط ب ‏{‏لولا‏}‏ لاحقاً لجملة ‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏، أي لبقي مكظوماً، أي محبوساً في بطن الحوت أبداً، وهو معنى قوله في سورة الصافات ‏(‏143 144‏)‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏، وتجعل جملة ‏{‏لَنُبِذ بالعراء وهو مذموم‏}‏ استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإِجمال الحاصل من موقع ‏{‏لَولا‏}‏‏.‏
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد نبذ بالعراء وهو مذموم‏.‏ والمذموم‏:‏ إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمَّ في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله في آية الصافات ‏(‏142‏)‏ ‏{‏فالتقمه الحوت وهو مُليم‏}‏ وإِمّا بمعنى العيب وهو كونه عارياً جائعاً فيكون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 145‏]‏ فإن السقم عيب أيضاً‏.‏
وتنكير ‏{‏نعمة‏}‏ للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة‏.‏
وفرع على هذا النفي الإِخبار بأن الله اجتباه وجعله من الصالحين‏.‏
والمراد ب ‏{‏الصالحين‏}‏ المفضلون من الأَنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام ‏{‏ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 83‏]‏ وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات، وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين‏}‏ في سورة التحريم ‏(‏10‏)‏‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه‏.‏
تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏
‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏
عطف على جملة ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 44‏]‏، عرَّف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن‏.‏
والزلَق‏:‏ بفتحتين زَلل الرجل من مَلاَسَةِ الأرض من طين عليها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتُصْبِحَ صعيداً زلَقاً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏40‏)‏‏.‏
ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالباً أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا ليَزْلقونك،‏}‏ أي يسقطونك ويصرعونك‏.‏
وعن مجاهد‏:‏ أيْ ينفذونك بنظرهم‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس‏:‏ لم يسمع الزلق والإِزلاق إلاّ في القرآن اه‏.‏
قلت‏:‏ وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإِزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل ‏(‏يزلقونك‏)‏ وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏‏.‏
وقرأ نافع وأبو جعفر ‏(‏يزلقونك‏)‏ بفتح المثناة مضارع زلَق بفتح اللام يزلق متعدياً، إذا نحاه عن مكانه‏.‏
وجاء ‏{‏يكاد‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل، وجاء فعل ‏{‏سمعوا‏}‏ ماضياً لوقوعه مع ‏{‏لَمَّا‏}‏ وللإِشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض‏.‏
واللام في ‏{‏ليزلقونك‏}‏ لام الابتداء التي تدخل كثيراً في خبر ‏{‏إن‏}‏ المكسورة وهي أيضاً تفرق بين ‏{‏إنْ‏}‏ المخففة وبين ‏(‏إنّ‏)‏ النافية‏.‏
وضمير ‏{‏إنه لمجنون‏}‏ عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليسَ للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم‏.‏
والمعنى‏:‏ يقولون ذلك اعتلالاً لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلاً للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم‏:‏ ‏{‏إنه لمجنون‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وما هو إلاّ ذكر للعالمين،‏}‏ أي ما القرآن إلاّ ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء‏.‏
والذكر‏:‏ التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس‏.‏
فضمير ‏{‏هو‏}‏ عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينةُ السياق تُرجع كلَّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس‏:‏
عُدْنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرَزوا ما جمَّعوا
أي لأحْرز الكفار ما جمَّعه المسلمون‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون إنه لمجنون‏}‏ مع قوله في أول السورة ‏{‏ما أنت بنعمة ربّك بمجنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ محسن ردّ العجز على الصدر‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وما هو إلاّ ذكر للعالمين‏}‏ إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏إنه لمجنون‏}‏ لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكْر بطَلَ أن يكون مبلّغه مجنوناً‏.‏ وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير‏:‏ ويقولون إنه لمجنون وإِن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلاّ ذكر وما أنت إلاّ مُذكر‏.‏